الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلو كان دعاة القومية يقصدون بدعوتهم إليها تعظيم الإسلام وخدمته ورفع شأنه لما اقتصروا على الدعوة للخادم دون المخدوم، وكرسوا لهذا الخادم جهودهم، وغضبوا من صوت دعاة الإسلام إذا دعوا إليه وحذروا مما يخالفه أو يقف حجرا في طريقه.
لو كان دعاة القومية يريدون بدعوتهم إعلاء كلمة الإسلام واجتماع العرب عليه، لنصحوا العرب ودعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام وتنفيذ أحكامه، ولشجعوهم على نصره ودعوة الناس إليه، فإن العرب أولى الناس بأن ينصروا الإسلام، ويحموه من مكايد الأعداء ويحكموه فيما شجر بينهم، كما فعل أسلافهم لأنه عزهم وذكرهم ومجدهم، كما قال الله تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] وقال {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43 - 44]
[أوجه بطلان الدعوة إلى القومية العربية]
[الوجه الأول الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين]
وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم، فاعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من
الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان. ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإسلام وأهله، وذلك لوجوه.
1 -
الأول: أن الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه؛ وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام، والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى كما يدل على ذلك قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 - 63] وقال تعالى:
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق والاختلاف، ويدعو إلى الاجتماع والوئام والتمسك بحبل الحق والوفاة عليه، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام، وأن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام، ويدل على ذلك أيضا أن هذه الفكرة - أعني الدعوة إلى القومية العربية - وردت إلينا من أعدائنا الغربيين، وكادوا بها المسلمين، ويقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم، وتفريق شملهم، على قاعدتهم المشئومة "فرق تسد" وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة، مما يحزن القلوب ويدمي العيون.
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية، ومنهم مؤلف الموسوعة العربية: أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو حتى عقد لها أول مؤتمر في باريس من نحو ستين سنة وذلك عام
1910 -
م، وكثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية، وتعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سورية في ذلك الوقت إلي آخر ما ذكروا، فهل تظن أيها القارئ أن خصومنا وأعداءنا يسعون في مصالحنا بابتداعهم الدعوة إلى القومية العربية وعقد المؤتمرات لها وابتعاث المبشرين بها، لا والله، إنهم لا يريدون بنا خيرا ولا يعملون لمصالحنا، وإنما يعملون ويسعون لتحطيمنا وتمزيق شملنا، والقضاء على ما بقي من ديننا، وكفى بذلك دليلا لكل ذي لب، على ما يراد من وراء الدعوة إلى القومية العربية، وأنها معول غربي استعماري يراد به تفريقنا وإبعادنا عن ديننا كما سلف.
ومن العجب الذي لا ينقضي، أن كثيرا من شبابنا وكتابنا - ألهمهم الله رشدهم - خفيت عليهم هذه الحقيقة حتى ظنوا أن التكتل والتجمع حول القومية العربية والمناصرة لها أنفع للعرب وأضر للعدو من التجمع والتكتل حول الإسلام ومناصرته، وهذا بلا شك ظن خاطئ واعتقاد غير مطابق للحقيقة. نعم لا شك أنه يحزن المستعمر ويقلق راحته كل تجمع وتكتل ضد مصلحته، ولكن خوفه من التجمع والتكتل حول الإسلام أعظم
وأكبر، ولذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية، وحفز العرب إليها ليشغلهم عن الإسلام، وليقطع بها صلتهم بالله سبحانه؛ لأنهم إذا فقدوا الإسلام حرموا ما ضمنه الله لهم من النصر الذي وعدهم به في الآيتين السابقتين. وفي قوله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41]
ومعلوم عند جميع العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد ضررين، فارتكاب الأدنى منهما أولى، حذرا من الضرر الأكبر، وقد دل الشرع والقدر على هذه القاعدة، وقد عرفها المستعمر وسلكها في هذا الباب وغيره. فتنبه يا أخي واحذر مكايد الشيطان والاستعمار وأوليائهما، تنج من ضرر عظيم، وخطر كبير، وعواقب سيئة عافاني الله وإياك والمسلمين من ذلك.
ومما تقدم يعلم القارئ اليقظ أن الدعوة إلى القومية العربية - كما أنها إساءة إلى الإسلام ومحاربة له في بلاده - فهي أيضا إساءة إلى العرب أنفسهم، وجناية عليهم عظيمة، لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر، وشرفهم الأعظم، ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها وهذه
غايتها؟! ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة "اسمعوها مني صريحة: أيها العرب" حيث يقول في صفحة 27، 28 ما نصه.
"فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة والرسالة، وإلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان وعن أقوى شخصية ظهرت في العالم، وعن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم والأفراد والأشتات. إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية التي سجلها تاريخ هذه الأمة، وإنها حركة هدم وتخريب تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، وإنها خطوة حاسمة مشئومة في سبيل الدمار القومي والانتحار الاجتماعي" انتهى.
فتأمل أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي الحسني الكبير (1) الذي قد سبر أحوال العالم وعرف نتائج الدعوة إلى القوميات وسوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب المسلمون اليوم من فتنة كبرى ومصيبة عظمى بهذه الدعوة المشئومة، وقى الله المسلمين شرها ووفق العرب وجميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب.
(1) هو أبو الحسن علي الندوي الحسني سليل بيت النبوة.