الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم لا يخفاك أيها القارئ الكريم غربة الإسلام اليوم وقلة أنصاره والمتحمسين لدعوته وكثرة المحاربين له والمتنكرين لأحكامه وتعاليمه، فالواجب على أبناء الإسلام بدلا من التحمس للقومية والمناصرة لدعوتها أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام وتعظيمه في قلوب الناس، وأن يجتهدوا في نشر محاسنه وإعلان أحكامه العادلة، وتعاليمه السمحة صافية نقية من شوائب الشرك والخرافات والبدع والأهواء، حتى يعيدوا بذلك ما درس من مجد أسلافهم وحماستهم للإسلام وتكريس قواهم لنصرته وحمايته والرد على خصومه بشتى الأساليب الناجعة وأنواع الحجج والبراهين الساطعة ولا شك أن هذا واجب متحتم وفرض لازم على جميع أبناء الإسلام، كل منهم بحسب ما أعطاه الله من المقدرة والإمكانيات التي يستطيع بها القيام بما أوجب الله عليه من النصر لدينه والدعوة إليه، فنسأل الله أن يمن على الجميع بذلك وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأن يقر أعين المسلمين جميعا بنصر الإسلام الصافي من الشوائب وظهوره على جميع خصومه في القريب العاجل، إنه سبحانه خير مسئول وأقرب مجيب.
[الوجه الثاني أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها]
2 -
الوجه الثاني: أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة بل قد
جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام ومناصرة لغير الحق، وكم جرت دعوى الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة، وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب والتفريق بين القبائل والشعوب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا» . انتهى.
ومما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 33] وقال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] وفي سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية،
وليس منا من مات على عصبية» وفي " صحيح مسلم " أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد» ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية، ولا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر لأن القومية ليست دينا سماويا يمنع أهله من البغي والفخر، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم، فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق.
ومن النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى» وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوبا وقبائل للتعارف لا للتفاخر والتعاظم، وجعل
أكرمهم عنده سبحانه هو أتقاهم، وهكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى ويرشد إلى أن سنة الجاهلية التكبر والتفاخر بالأسلاف والأحساب، والإسلام بخلاف ذلك يدعو إلى التواضع والتقوى والتحاب في الله، وأن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم جسدا واحدا، وبناء واحدا يشد بعضهم بعضا، ويألم بعضهم لبعض، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا- وشبك بين أصابعه -» وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» فأنشدك بالله أيها القومي: هل قوميتك تدعو إلى هذه الأخلاق الفاضلة من الرحمة للمسلمين من العرب والعجم والعطف عليهم والتألم لآلامهم؟ لا والله، وإنما تدعو إلى موالاة من انخرط في سلكها، وتنصب العداوة لمن تنكر لها، فتنبه أيها المسلم الراغب في النجاة، وانظر إلى حقائق الأمور بمرآة العدالة والتجرد من التعصب والهوى، حتى ترى الحقائق على ما هي عليه، أرشدني الله وإياك إلى أسباب النجاة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن غلاما من
المهاجرين وغلاما من الأنصار تنازعا فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» فإذا كان من انتسب إلى المهاجرين واستنصر بهم على، أو إلى الأنصار واستنصر بهم يكون قد دعا بدعوى الجاهلية مع كونهما اسمين محبوبين لله سبحانه، وقد أثنى الله على أهلهما ثناء عظيما في قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] الآية، فكيف تكون حال من انتسب إلى القومية واستنصر بها وغضب لها؟ أفلا يكون أولى ثم أولي بأن يكون قد دعا بدعوى الجاهلية؟ لا شك أن هذا من أوضح الإيضاحات.
ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثَى جهنم قيل يا رسول الله
وإن صلى وصام؟ قال " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» وهذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، واعتبارها دعوة جاهلية يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون، فيا له من وعيد شديد وتحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك.
وهنا شبهة يذكرها بعض دعاة القومية أحب أن أكشفها للقارئ، وهي أن بعض دعاة القومية زعم أن النهي عن الدعوة إلى القومية العربية والتحذير منها يتضمن تنقص العرب وإنكار فضلهم.
والجواب أن يقال: لا شك أن هذا زعم خاطئ واعتقاد غير صحيح، فإن الاعتراف بفضل العرب، وما سبق لهم في صدر الإسلام من أعمال مجيدة لا يشك فيه مسلم عرف التاريخ كما أسلفنا، وقد ذكر غير واحد من أهل
العلم، ومنهم أبو العباس ابن تيمية في كتابه:"اقتضاء الصراط المستقيم" أن مذهب أهل السنة تفضيل جنس العرب على غيرهم، وأورد في ذلك أحاديث تدل على ذلك، ولكن لا يلزم من الاعتراف بفضلهم أن يجعلوا عمادا يتكتل حوله ويوالى عليه ويعادى عليه، وإنما ذلك من حق الإسلام الذي أعزهم الله به وأحيا فكرهم ورفع شأنهم، فهذا لون وهذا لون، ثم هذا الفضل الذي امتازوا به على غيرهم، وما من الله به عليهم من فصاحة اللسان ونزول القرآن الكريم بلغتهم وإرسال الرسول العام بلسانهم ليس مما يقدمهم عند الله في الآخرة، ولا يوجب لهم النجاة إذا لم يؤمنوا ويتقوا، وليس ذلك أيضا بموجب تفضيلهم على غيرهم من جهة الدين، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم كما تقدم في الآية الكريمة والحديث الشريف، بل هذا الفضل عند أهل التحقيق يوجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه أكثر من غيرهم، وأن يضاعفوا الجهود في نصر دينه الذي رفعهم الله به، وأن يوالوا عليه ويعادوا عليه دون أن يلتفتوا إلى قومية أو غيرها من الأفكار المسمومة والدعوات المشئومة، ولو كانت أنسابهم وحدها تنفعهم شيئا لم يكن أبو لهب وأضرابه من أصحاب النار، ولو كانت تنفعهم بدون الإيمان لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا» وبذلك يعلم القارئ السليم من الهوى أن الشبهة المذكورة شبهة واهية لا أساس لها من الشرع المطهر، ولا من المنطق السليم البعيد من الهوى.
وهنا شبهة أخرى وهي قول بعضهم: أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ذل العرب ذل الإسلام» ورواه بعضهم بلفظ: «إذا عز العرب عز الإسلام» قالوا: وهذا يدل علي أن انتصار القومية العربية والدعوة إليها انتصار للإسلام ودعوة إليه، والجواب أن يقال: يعلم كل ذي لب سليم وبصيرة بالإسلام، أن هذه سفسطة في السمعيات، ومغالطة في الحقائق، وتأويل للحديث على غير تأويله، سواء صح أم لم يصح، فإن الواقع يشهد بخلاف ما ذكره القائل، فقد ذل العرب يوم بدر ويوم الأحزاب، وصار في ذلهم عز الإسلام وظهوره، وانتصر العرب يوم أحد وصار في انتصارهم ذل المسلمين والمضرة عليهم، ولكن الله سبحانه لطف بأوليائه وأحسن لهم العاقبة، فهل يستطيع هذا القائل أن يدعي خلاف هذا الواقع؟ وهل يمكن أن يقول: إن انتصار العرب الكافرين بالله، المحاربين لدينه، انتصار للإسلام، من قال هذا فقد قال خلاف الحق، وهو إما جاهل أو متجاهل، يريد أن
يلبس الحق بالباطل ويخدع ضعفاء البصائر، سبحان الله ما أعظم شأنه.
ثم أعود فأوضح للقارئ أن الحديث المذكور ضعيف الإسناد، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في:"مجمع الزوائد" لما ذكر هذا الحديث بلفظ: «إذا ذلت العرب ذل الإسلام» رواه أبو يعلى، وفي إسناده محمد بن الخطاب ضعفه الأزدي وغيره، ووثقه ابن حبان. انتهى.
وقال الحافظ الذهبي في "الميزان" في ترجمة محمد المذكور - قال أبو حاتم: لا أعرفه، وقال الأزدي: منكر الحديث، انتهى. قلت: وفي إسناده أيضا علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف عند جمهور من المحدثين لا يحتج بحديثه لو سلم الإسناد من غيره، فكيف وفي الإسناد من هو أضعف منه وهو محمد بن الخطاب المذكور. وأما توثيق ابن حبان له فلا يعتمد عليه لأنه معروف بالتساهل وقد خالفه غيره.
ولو صح الحديث لكان معناه: إذا ذل العرب الحاملون راية الإسلام والدعوة إليه، لا العرب المتنكرون له الداعون إلى غيره. ولا يجوز أن يرد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أبدا، فإن كلام الله لا يتناقض، وكلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم كذلك، والسنة لا تخالف القرآن بل تصدقه وتوافقه وتدل على معناه وتوضح ما أجمل فيه (1) .
وقد علق الله سبحانه في القرآن النصر على الإيمان بالله والنصر لدينه، فلا يجوز أن يرد في السنة ما يناقض ذلك، فتنبه أيها المؤمن، واحذر من الشبهات المضللة، والأحاديث المكذوبة، والآراء الفاسدة والأفكار المسمومة، فإن الخطر عظيم، والمعصوم من عصمه الله سبحانه، فاعتصم به وتوكل عليه وتفقه في دينه واستقم عليه تفز بالنجاة والعاقبة الحميدة.
وهذه الشبه وأمثالها تفسر لنا ما صح به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة: أنه قال: «كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد
(1)(1) - بل الحديث موضوع كما حقق ذلك المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " رقم 163 في بحث طويل مفيد وضمنه بما ذهب إليه الشيخ ابن باز حيث قال الألباني: جملة القول: إن فضل العرب إنما هو لمزايا تحققت فيهم، فإذا ذهبت بسبب إهمالهم لإسلامهم ذهب فضلهم، ومن أخذ بها من الأعاجم كان خيرا منهم " لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى " ومن هنا يظهر ضلال من يدعو إلى العروبة وهو لا يتصف بشيء من خصائصها المفضلة.
هذا الخير من شر؟ قال " نعم ". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: " نعم وفيه دخن " قلت: ما دخنه؟ قال: " قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر " قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال:" هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " قلت: فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ".» رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، فهذا الحديث العظيم الجليل يرشدك أيها المسلم إلى أن هؤلاء الدعاة اليوم، الذين يدعون إلى أنواع من الباطل كالقومية العربية، والاشتراكية والرأسمالية الغاشمة. وإلى الخلاعة والحرية المطلقة وأنواع الفساد كلهم دعاة على أبواب جهنم، سواء علموا أم لم يعلموا، من أجابهم إلى باطلهم قذفوه في جهنم، ولا شك أن هذا الحديث الجليل من أعلام النبوة، ودلائل صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالواقع قبل وقوعه، فوقع كما أخبر.
فنسأل الله لنا ولسائر المسلمين العافية من مضلات