المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[رأي الشيخ محمد الغزالي في مسألة القومية العربية] - نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع

[ابن باز]

الفصل: ‌[رأي الشيخ محمد الغزالي في مسألة القومية العربية]

والآيات في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يعرفنا بذنوبنا، ويمن علينا بالتوبة منها، وأن يهدينا وسائر إخواننا سواء السبيل إنه على كل شيء قدير.

[رأي الشيخ محمد الغزالي في مسألة القومية العربية]

ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ: محمد الغزالي تتعلق بالقومية، قد أجاد فيها وأفاد، حيث قال في كتابه:(مع الله) صفحة 254 ما نصه:

لا مكان للإلحاد بيننا: ما هؤلاء الناس؟ إنهم ليسوا عربا ولا عجما ولا روس ولا أمريكان!! إنهم مسخ غريب الأطوار صفيق الصياح، بليت به هذه البلاد إثر ما وضعه الاستعمار بها وترك بذوره في مشاعرها وأفكارها، فهم - كما جاء في الحديث - «من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» ، بيد أنهم عدو لتاريخنا وحضارتنا وعبء على كفاحنا ونهضتنا، وعون للحاقدين على ديننا والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه. إن هؤلاء الناس الذين برزوا فجأة وملأت ضجتهم الأودية كما تملأ الضفادع بنقيقها أكناف الليل، يجب أن يمزق النقاب عن سريرتهم، وأن تعرفهم هذه الأمة على حقيقتهم حتى لا يروج لهم خداع ولا ينطلي لهم زور، إن هؤلاء الذين

ص: 43

يلبسون مسوح العروبة ويندسون خلال صفوف المجاهدين، ويزعمون أنهم مبشرون بالقومية العربية ورافعون لألويتها، وفي الوقت نفسه ينسحبون من تقاليد العروبة ويهاجمون أجل ما عرفت به، ويبعثرون العوائق في طريق الإيمان ورسالته. إن هؤلاء الناس ينبغي أن يماط اللثام عن وجوههم الكالحة، وأن تلقى الأضواء على وظيفتهم التي يسرها الاستعمار لهم، ووقف بعيدا يرقب نتائجها المرة، وما نتائجها إلا الدمار المنشود لرسالة القرآن وصاحبها العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لقد قرأنا ما يكتبون، وسمعنا ما يقولون، ولم يعوزنا الذكاء لاستبانة غاياتهم، فهم ملحدون مجاهرون بالكفر، يقولون في صراحة: إن الإسلام ليس إلا نهضة عربية، فاز بها هذا الجنس العظيم في القرون الوسطى، واستطاع في فورته العارمة أن يجتاح العالم بقيادة رجل عبقري، هو الزعيم الكبير: محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذا الدين الجليل، نبت من الأرض، ولم ينزل من السماء، وأنه انطلاقة شعب طامح فاتح، وليس هداية مثالية فدائية، جاءت من عند الله لتنقذ العرب من جاهلية طامسة، كانوا بها في مؤخرة البشر، إلى حنيفية سمحة رفعت خسيستهم، ثم انتشر شعاعها بعد في أنحاء الأرض، كما تنتشر الأضواء في عرض الأفق لدى الشروق. والفضل في ذلك

ص: 44

كله لله وحده الذي اصطفى محمدا وامتن عليه بالهدى والحق بعد أن قال له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] وقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] كما يقول في العرب الذين أرسل فيهم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] فأي زحف عربي هنالك؟ وأي عبقرية أنشأت من عندها هذا الغيث الممرع لأهل الأرض؟ إن الزعم بأن الإسلام " ثورة عربية " أكذوبة كبرى وأضلولة شائنة، وإن هذا القول ليس تكذيبا للإسلام فقط بل دعوة خطيرة إلى تكذيب الديانات كلها، وإلى إشاعة الكفر والفسوق والعصيان في أنحاء الأرض، والغريب أن هؤلاء الناس يخاصمون الإسلام بعنف، ويحاربون أمته بجبروت، ويهادنون الأديان الأخرى من سماوية وأرضية، كأن الإسلام هو العدو الذي كلفوا باستئصاله وحده، لا بل هو العقبة الفذة التي وضعت المعاول في أيديهم لإحالتها ترابا. أجل، وهل للاستعمار عدو في هذه البلاد إلا الإسلام؟ إنه مصدر المقاومة العنيدة، وروح الكفاح الباسل الذي أعيا المهاجمين وأحبط مؤامراتهم، ومن ثم فعلى الاستعمار أن

ص: 45

ينسج خيوطه حوله ليقتله، ويحول بينه وبين الحياة الكريمة. ولقد ابتدع القوميات الضيقة واستجباها بشتى الأساليب لينال من كيان هذا الدين، فلما سقطت أمام الإسلام في المعركة دس أتباعه تحت لواء القومية العربية، وزودهم بضروب من الادعاء ليزحموا العرب المخلصين في هذا الميدان، ولينالوا من الإسلام بطريقة أخرى، وتفسير القومية العربية هذا التفسير الكفور الكنود، هو حرب أخرى ضد الإسلام، وإنه لجدير أن يتسمى هؤلاء بأتباع القومية العبرية لا العربية، أليسوا يعملون لمصلحة الاستعمار وإسرائيل؟ ولقد مرت أربعة عشر قرنا على اشتباك العروبة بالإسلام، أو بتعبيرنا نحن أهل الإيمان: على تشريف الله للعرب بحمل هذه الأمانة وإبلاغها للناس، ونظرة إلى الماضي البعيد تعرفنا بسهولة أن العرب مرت عليهم أدهار قبل الإسلام لم يكونوا فيها شيئا مذكورا، ثم جاء هذا الدين فدخلوا التاريخ به، وطار صيتهم تحت رايته، وصدق الله إذ يقول {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] ثم أخطأ العرب، فظنوا هذا الدين العالمي الذي نزلت فيهم آياته، يمنحهم امتيازا خاصا، ويجعلهم عنصرا أرقى من سائر الأجناس، ونشأ عن هذا الخطأ رد الفعل الذي لا بد منه، فقامت الشعوب الأخرى تدافع عن قيمة دمائها وكرامة عنصرها، وهذه

ص: 46

الأغلاط المتبادلة علتها حنين البشر إلى الجاهلية واستثقالهم مؤنة السعي لتحصيل الكمال الإنساني، فإذا عز على شخص تافه أن يكون تقيا ينسبه عمله إلى المجد والعلا، ذهب ينتحل نسبا آخر إلى أسرة أو وطن أو جنس، ليرتفع به دون جهد، وتلك كلها عصبيات باطلة ونزعات نازلة، ولا محل لها في دين، ولا وزن لها عند رب العالمين. ولكن المهم أن العرب الأولين لما أرادوا المفاخرة والتميز كان الإسلام متكأهم ومعقد فخارهم، فبأي شيء يملأون أفواههم إذا لم يذكروا الإسلام؟ إن وطابهم خال وتاريخهم صفر، حتى جاء الأفاكون في هذا الزمان بالبدعة التي لم يسمع بها إنسان فإذا العروبة في نظرهم يجب أن تتجرد من الإيمان، وزعموا - قبحهم الله - أنها بالانسلاخ عن الدين تسمو وتسير، بل إن أحد الكتاب من هذه العصابة وجد الوجه الذي يطالع به الناس ليقول: إن الإسلام جنى على العروبة، وإن اللغة العربية قد انتشرت أبعد مما انتشر الإسلام، وإن الإسلام - لأنه عالمي - ضار بالقومية العربية. وظاهر أن هذا الكلام، بقطع النظر عن بطلانه، إنما يروج لحساب الاستعمار الغربي منه والشرقي على السواء، وأن قائله يخدم أهداف الغزاة الذين عسكرت جيوشهم في بعض أقطار العروبة وأنزلت بها الهون،

ص: 47

ووقفت على حدود البعض الآخر تتربص به الدوائر.

وكاتب آخر من هذه العصابة يطلب منا بإلحاح أن ننسى التاريخ؛ لأنه لا يضم إلا رفات الموتى، وأن نتطلع إلى المستقبل فحسب. ونسي هذا الغر أن اليهود في كبد الشرق الأوسط أقاموا دولتهم بإمداد من التاريخ الموحى، وأنهم جعلوا اسم إسرائيل علما عليها. إنه حلال للناس جميعا أن يستصحبوا تاريخهم في كفاحهم، أما نحن المسلمين فحرام علينا أن نذكر فصلا من هذا التاريخ، وأن نستوحي منه عونا في جهاد وأملا في امتداد، إنها قومية عبرية لا عربية، تلك التي يبشر بها الملحدون وكارهو الإسلام، ولقد عرف الأولون والآخرون أننا نحن المسلمين أحنى الناس على العروبة وأوصلهم لمجدها وأخلصهم لقضاياها، وأن هؤلاء القوميين لا خير فيهم بل إنهم مصدر شر طويل وأذى ثقيل".

انتهى ما أردنا نقله للقراء من كلام الشيخ: محمد الغزالي هاهنا، وقال أيضا في كتابه المذكور صفحة 347 ما نصه:

الهدم الروحي: يجتهد الاستعمار في صرف المسلمين عن دينهم بكل ما يتاح له من وسائل، وفي جعل حركات التحرر الناشطة

ص: 48

في بلادهم مبتوتة العلاقة بالدين، حتى تولد ميتة، أو تحيا عقيمة لا ثمر لها ولا زهر. وما من نهضة في الأولين والآخرين إلا ولها دعامة معنوية تقوم عليها، وسناد روحي تتحرك به. ولما كان عمل الدين في هذه الحالة ملأ القلوب بالضمائر الحية، وبنى الأخلاق على الفضيلة، وصبغ الحياة بتقاليد جامعة ومعلومة وواضحة، ورص الصفوف على إحساس مشترك، ودفعها إلى مصير واحد، فإن الاستعمار استهدف إقصاء الدين عن آفاق البلاد كلها، وتكوين أجيال غريبة عنه، إن لم تكن كارهة له. . بل إن ذكر الإسلام أصبح محظورا في المناسبات الجادة والشئون الهامة، وقد يحوم البعض حوله ولكنه يوجل من التصريح به، كأن الإسلام مجرم ارتكب ذنبا ثم فر من القضاء الذي حكم بعقوبته فهو لا يستطيع الظهور في المجتمعات، وربما تلوح له فرصة الظهور متنكرا تحت اسم مستعار فيتحرك قليلا هنا وهناك، حتى إذا أحس انكشاف أمره استخفى من الأنظار، يا عجبا، لماذا يلقى الإسلام هذا الهوان كله؟ والجواب: عند الاستعمار الذي يجر خلفه ضغائن القرون الأولى ويضع نصب عينه ألا تقوم للإسلام قائمة في بلاده، فهو حريص على خنقه في ميدان التربية والمعاملات والتشريع وسائر ألوان الحياة.

ص: 49

إنه يطمئن إلى مجتمع واحد، المجتمع الذي مات ضميره والذي تفسخت أخلاقه، في هذا المجتمع الذي غاصت منه معاني الفضل واستغلظت فيه غرائز الشره وزحفت فيه ثعابين الأثرة، يستطيع الاستعمار أن يطمئن إلى يومه وغده، فإذا جاء الإسلام لمسح هذه الأقذار، طلب منه على عجل أن يعود إلى وكره ليخفى عن الأعين. . إنه اسم لا ينبغي أن يذكر وحقيقة لا يجوز أن تعيش.

هكذا حكم الاستعمار، حتى قيض الله لنا فكرة العروبة عنوانا نستطيع تحته أن ندفع غوائل الموت. وقد هششنا للفكرة، ورجونا من ورائها الخير. . وللعروبة المجردة مثل تعكر على الاستعمار مآربه. . إن التعليم في ظل الاحتلال الأجنبي أوجد أناسا تحركهم الشهوات وحدها، أناسا فرغت عواطف اليقين من أفئدتهم فهي هواء، فإذا جاءت إليهم العروبة فهل يعرفون أن العفة من خلائقها، وأن تقديس العرض من شمائلها، وأن المحافظة على الحريم من صفاتها الباطنة والظاهرة. . إن أمثال العرب في الجاهلية تشهد بما لهم من غيرة على نسائهم، فالمثل القائل:(كل ذات صدار خالة) يعني: أن العرب يجعلون في حكم الخالة كل من تلبس ثياب المرأة، فما ينظرون إليها إلا نظرة الاحترام والعفة، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم،

ص: 50

ويقول الشاعر:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مثواها (1)

ويقول الآخر:

ولا ألقي لذي الودعات سوطي

أداعبه ، وريبته أريد. . .! (2)

يعني: أنه يداعب طفلا مع أمها ابتغاء إثم بالأم نفسها. فهل هذه الشوارع الغاصة بمتتبعي العورات وبغاة الدنية شوارع عربية؟ وهل عرب أولئك الذين ترى الواحد منهم يتأبط ذراع فتاة متبرجة لعوب تسير في وضع يقول لكل ناظر (هيت لك) ؟ والعرب الأقدمون كانوا أصحاب كرم غريب وإيثار لامع ونهوض بالحق على عض الزمن وشدة الحاجة، واسمع قول عروة بن الورد:

وإني امرؤ عافى إنائي شركة

وأنت امرؤ عافى إنائك واحد

أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى

بوجهي شحوب الحق والحق جاهد

(1) البيت لعنترة. انظر ديوانه 308 - طبع المكتب الإسلامي.

(2)

هو لعلقمة بن علقمة المري. تاج العروس 5 / 524.

ص: 51

أفرق جسمي في جسوم كثيرة

وأحسو قراح الماء والماء بارد

أرأيت صورة الإنسان النبيل، يؤثر غيره بالطعام ويستعيض برشحات من الماء البارد يصفر بها وجهه وهو يأبى تضييع من نزلوا به، وحسبه أنه فرق جسمه في جسوم كثيرة.

احتفظ بهذه الصورة، ثم سل نفسك: أمدن عربية هذه التي تراها مزدحمة بأصحاب الفضول من المال النامي، ومع ذلك فقلما تؤوي يتيما، أو تغذو محروما. وما لنا نبحث عن الشمائل العربية المفقودة في بيئات مسخها الاستعمار وترك عليها طابع الحيوانية والتقطع، إنك ترى الواحد من أولئك يقول إنه عربي ولغة العرب لا تستقيم على فمه. ومن أعاجيب الليالي أن أسمع المذيع مثلا يقول: يا أخي المواطن، أحنا بنعمل إيه في هذه الأيام. وكان يستطيع أن يقول ما نعمل في هذه الأيام، ولكنه حريص على تخليد لغة الرعاع والتنكر للغة الفصحى وهي اللغة التي ترسل بها الإذاعات من جميع محطات العالم لمستمعيها على اختلاف ألسنتهم إذ أنه يخاطب المذيع قومه في أي عاصمة بلغة غير الفصحى، فهل من مظاهر الوفاء لعروبتنا أن نذيع نحن بلغة الرعاع؟

الواقع: أن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة

ص: 52

وأدبا وخلقا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها وأدبها وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز هذا الاسم بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه، وأن يذهبوا عنه الوحشة التي صنعها أعداؤه حوله، حتى يصبح مألوفا في الآذان، محببا إلى القلوب، وإظهار هذا الاسم لا يكفي، فما قيمة شكل لا جوهر له. يجب على الدعاة أن يجمعوا الجماهير على تعاليمه " وأن ينعشوا أنفسهم بروحه. "

الضمير الديني الخاشي لله، الرحيم بخلقه، المحتفي بالواجبات، النفور من الرذائل، الشجاع في نصرة الحق، المستعد للقاء الله، المتأسي بصاحب الرسالة، هذا الضمير، يجب أن ندعمه بل أن نوجده في كل طائفة، وأن يربط به إنجاز كل عمل ونجاح كل مشروع، ومنع كل تفريط، وصيانة كل حق، فالإسلام قبل كل شيء قلب كبير، قلب موصول بالله، يبادر لمرضاته ويتقيه حيث كان، وهذا القلب لا يتكون من تلقاء نفسه، ويستحيل أن يتكون بداهة وسط تيارات الشكوك والتجهيل التي تسلط عليه عمدا ليتوقف ويزيغ، إنه يتكون بأغذية روحية منظمة، تقدم له في برامج التعليم، وفي عظات المساجد، وفي صبغ البيئة بمعان معينة، تساعد على احترام الفضيلة وإشاعتها، ونحن

ص: 53

أحوج ما نكون لإنشاء هذه الضمائر في الذراري المحدثة التي عريت عنها، والطبقات الكثيفة التي مردت على العبث والاستخفاف بجميع القيم، وإنني أستغرب كيف نشتري آلة ما بأغلى الأسعار، ثم نوقف أمامها عاملا لا يتقي الله، فهي تخرب بين يديه على عجل أو يقل إنتاجها لو قدر لها البقاء سليمة. إننا لو بذلنا شيئا زهيدا لغرس التدين الحق في قلب هذا العامل لربحنا الكثير، أفلا يبذل المسئولون هذا الشيء بالزهيد، ولو على اعتبار نفقات صيانة للآلة التي اشتريت؟ إن من حق الله علينا ومن حق بلادنا علينا أن نربي الصغار والكبار باسم الإيمان لابتداء عمل ما، فسوف يتم على خير الوجوه. إن للضمير الديني علاقة راشدة بالسماء، ونواة مباركة في الأرض، وما أصدق قول الأستاذ أحمد الزين في وصفه:

هو صوت السماء في عالم ال

أرض وروح من اللطيف الخبير

وشعاع تذوب تحت سناه

خدع العيش من رياء وزور

هو سر يحار في كنهه اللب

وتعيا به قوى التفكير

ص: 54

مبلغ العلم أنه روح خير

باطن الشخص ظاهر التأثير

كل حي عليه منه رقيب

حل من قلبه مكان الشعور

حل حيث الأهواء تنزو إلى الإث

م وتهفو إلى مهاوي الشرور

جامحات أعيت على الناس كبحا

رغم إنذارها بسوء المصير

ثم صاح الضمير فيها نذيرا

فأصاخت إلى صياح النذير

هو روح من الملائك يسمو

بسليل الثرى لعالم نور

قد تولت بالأنبياء عصور

وهو باق على توالى العصور

حافظا في الزمان ما خلفوه

قائما في الصدور بالتذكير

حاملا من شرائع الخير كتبا

قدست من صحائف وسطور

ليس يعفو عن الهنات وإن أنـ

ت ملح في اللوم والتعذير

ص: 55

ونحن ننشد هذا الشعر هنا تكريما للأدب العالي، وإلا فلا مجال لقول بعد أن نتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» .

انتهى المقصود من كلام الغزالي في كتابه: (مع الله) . ولعظيم فائدته نقلته هاهنا. وأسأل الله عز وجل أن يصلح قلوب المسلمين ويعمرها بتقواه، وأن يمن علينا وعلى جميع شبابنا وسائر إخواننا بالفقه في الدين، والاستقامة على صراط الله المستقيم، فإن ذلك هو سبيل النجاة والفوز بالعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 - 14] وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32] وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ; والله أعلم.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 56