الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في توحيد الألوهية
* وهو إِخْلَاصُ العبادة لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، فلا يُعْبد إلَّا الله وَحْدَه، ولا يُدْعَى إلَّا هو، دون غيره من الملائكة والنَّبيين والأولياء الصَّالحين وغيرهم. ولا يُلْتَجَأ لكشف الضُّر إلَّا إليه، ولا لِجَلْب الخير إلَّا إليه، ولا يُنْذَر إلَّا له، ولا يُذْبح إلَّا له، ولا يُتَوكَّل إلَّا عليه، ولا يُخَاف إلَّا منه سبحانه، ولا يُسْتَعان ولا يُسْتَغَاثُ إلَّا به وحده. إلى غير ذلك من أنواع العبادة، كالرَّغبة والرَّهبة، والإنابة إلى الله، والخُشوع له، فَصَرْفُ شَيءٍ منها إلى غير الله شِرْكٌ مُنَاف للتَّوحيد الذي أُرْسِل لأجله الرُّسل. فجميع الرُّسل أُرسلوا لتحقيق هذا النوع من التَّوحيد.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
[الأعراف: 59] فهذه دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك إلى عبادة الله وحده سبحانه.
وقال هود لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] .
وقال صالح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61] .
وقال شعيب لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] .
وقال إبراهيم عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16] .
وقال تعالى: مُخاطبًا لنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
* وأوَّل ما أُمِر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المُرْسلين، وخاتم النَّبيين توحيد الله بعبادته وَحْدَه، لا شَرِيك له، وإخلاص الدِّين له وَحْدَهُ، كما قال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]، ومعنى قوله:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، أي عظم ربك بالتَّوحيد، وإخلاص العبادة له وَحْدَهُ، لا شريك له، وهذا قبل الأمر بالصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، والحج، وغيرهما من شعائر الإسلام.
* ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، أي أنذر عن الشِّرك في عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا قبل الإنذار عن الزِّنا، والسَّرقة والرِّبا، وظلم النَّاس، وغير ذلك من الذُّنوب الكبار.
* وهذا النَّوع من التَّوحيد هو أَعظم أُصول الدِّين وأفرضها، فلأجله خلق الله الخلق، كما قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، ولأجله أرسل الله الرُّسل، وأَنزل الكتب، كما قال
تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
* ومعنى: {اُعْبُدُوا اللَّهَ} وَحِّدُوا الله، وأَفْرِدُوه بالتَّألُّه له تعالى، فالعبادة:"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظَّاهرة، والباطنة" من الدُّعاء والخوف، والرَّجاء والتَّوكل، والرَّغبة، والرَّهبة، والخُشُوع، والخَشيْة، والاستعانة، والاسْتِغَاثة، والذَّبح، والنّذر، إلى غير ذلك من أنواع العبادة. وَصرْفُ شيء من هذا إلى غير الله شِرْكٌ بالله، ومُنَافٍ لكلمة التَّوحيد: لا إله إلَّا الله، التي أُرْسِل لأَجْلِها جميع الرُّسل، فإنَّها كلمة عظيمة، قامت بها الأرض والسَّماوات، وخُلِقَت لأَجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رُسُلَه، وأَنزل كُتُبه، وشرع شَرَائِعه، ولأجلها نُصِبَت الموازين، وَوُضِعت الدَّواوين، وقام سوق الجنَّة والنَّار، وبها
انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفُجَّار، فهي مَنْشَأُ الخلق والأمر، والثَّواب والعقاب، وهي الحق الذي خُلِقَت له الخَلِيقة، وعنها وعن حقوقها السُّؤال والحِسَاب، وعليها يقع الثَّواب والعقاب، وعليها نُصِبت القبلة، وعليها أُسِّسَت المِلَّة، ولأجلها جُرِّدت السُّيوف للجهاد، وهي حَقُّ الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السَّلام، وعنها يُسْأَل الأَوَّلون والآخرون: "فلا تزول قدم العبد بين يدي الله حَتَّى يُسْأَل عن مَسْألتين: ماذا كُنْتُم تَعْبدون؟ وماذا أَجَبْتُم المُرْسَلين؟
فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلَّا الله، مَعْرفة وإِقرارًا وَعَملًا.
وجواب الثَّانية: بتحقيق، أن محمدًا رَسُولُ الله معرفةً وإقرارًا وانقيادًا وطاعَةً".
* ومعنى الإله: هو المأْلُوه المعبود الذي يَسْتَحِق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القَادِر على الاختراع، فإذا فَسَّر المُفَسِّر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد
أن هذا المعنى هو أَخَصُّ وَصْف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التَّوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من مُتَكَلِّمة الصِّفاتية وغيرهم، لم يعرفوا حقيقة التَّوحيد الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ مُشْرِكي العَرَب كانوا مُقِرِّين بأنَّ الله وَحْدَه خَالِقُ كُلِّ شيء، وكانوا مع هذا مُشْركين.
قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] ومع ذلك كانوا يعبدون، ويدعون غيره، ويطلبون المَدَدَ من دون الله، وإذا قيل لهم: لم تعبدون وتدعون غير الله وأنتم تُقِرُّون بأنَّ الله هو الخالق لكل شيء؟ يُجيبون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .
وقد وقع كثير من النَّاس في كثير من أنواع الشِّرك الذي حذر عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الإسلام لمحوها.
* " ومنْ أنواع الشِّرك الذي وقع فيه الكثير طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتَّوجه إليهم، وهذا أَصْلُ شِرك العالم، فإنَّ الميت قد انقطع عَمَلُه، وهو لا يملك لنفسه نَفعًا ولا ضَرًّا، فضلا عَمَّن اسْتَغَاث به، أو سأله أن يَشْفع له عند الله، وهذا من جهله بالشَّافع والمَشْفُوع".
ولكن يا حَسْرَة على العباد يعملون على قبور المشايخ وَمَشاهِدهم ما كان يعمله المُشْرِكُون على مَشَاهد أوْثَانهم.
* قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله:
"هذه المَشَاهد المَشْهُودة اليوم قد اتَّخذها الغُلاة أعيادًا للصَّلاة إليها والطَّواف بها، وتَقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعِبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النَّصر، والرِّزق، والعافية وقضاء الدِّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللَّهفات، وغير ذلك من أنواع الطَّلبات، التي
كان عباد الأوثان يَسْأَلُونها أوثانهم، ومن لم يُصَدِّق ذلك، فليَحْضُر مَشْهدًا من مَشاهدهم المعروفة، حتى يَرَى الغُلاة، وقد نزلوا عن الأكوار والدَّواب - إذا رَأَوها من مكان بعيد- فَوَضعوا لها الجباه، وقبَّلوا الأرض، وكَشَفوا الرُّؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضَّجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النَّشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الرِّبح على الحجيج، فاستغاثوا بِمَن لا يُبدي ولا يُعيد، ونادوا، ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دَنَوا منها صَلُّوا عند القبر رَكْعَتين، وَرأوا أَنَّهم قد أحرزوا من الأجر كأَجر من صلَّى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكَّعًا سُجَّدًا، يَبتغون فَضلا من الميت ورِضوانًا، وقد ملئوا أكُفَّهم خيبةً وخُسْرانًا، فلغير الله - بل للشَّيطان- ما يُراق هناك من العَبَرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميِّت من الحاجات، ويُسْأل من تَفريج الكُرُبات، وإغناء ذَوي الفَاقَات، ومُعَافاة أُولي العَاهات والبَلِيَّات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طَائفين تَشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جَعَله الله مُباركًا وهدى للعالمين، ثمَّ
أخذوا في التَّقبيل والاستلام، أَرَأَيت الحجر الأسود وما يَفْعل به وفد البيت الحرام!! ثمَّ عفَّروا لديه تلك الجِبَاه والخُدود، التي يعلم الله أَنَّها لم تُعَفَّر كذلك بين يديه في السُّجود، ثم كملوا مَنَاسك حج القبر بالتَّقصير والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوَثَن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خَلاق، وقرَّبوا لذلك الوثن القَرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم، وقربانهم لغير الله رب العالمين.
قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار، مثل تعظيم القبور، والتزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها، يا مولاي، افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركًا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر؛ اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم
يتسمح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته الصديق أبو بكر، أو محمد وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجًا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يُرق ماء الورد على القبر".
* قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وَمَن جَمَع بين سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القُبور، وما أَمَر به ونَهَى عنه، وما كان عليه أَصْحَابُه، وما عليه أَكثر النَّاس اليوم، رأى أحدهما مُضَادًّا للآخر، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة إلى القبور، وهؤلاء يُصَلُّون عندها وإليها، ونهى عن اتَّخاذها مَسَاجد وهؤلاء يَبنون عليها المساجد، ويُسَمُّونها مَشَاهد؛ مُضَاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل، ونهى عن أن تُتَّخذ عيدًا، وهؤلاء يَتَّخذونها أعيادًا وَمَناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد، أو
أكثر، وأمر بتَسويتها لما روى مسلم في صحيحه، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لِي عَلِيٌّ: " «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن لا تَدَع صُورةً إلَّا طَمَسْتَهَا وَلا قَبْرًا مُشَرّفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» ". وحديث ثُمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال:" كُنَّا مع فُضالة بن عبيد بأرض الرُّوم برودس، فتوفي صَاحِبٌ لنا، فأمر فُضَالة بقبره فَسُوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُر بِتَسْوِيتها"، وهؤلاء يُبَالِغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويَعْقِدون عليها القباب، ونَهى عن تجصيص القبر والبناء عليه - لما روى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، قال:«نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن تَجْصِيصِ القبر، وأن يُقْعَدَ عَلَيه، وأَن يُبْنَى عليه» ، وَنَهى عن الكِتابة عَليها - لما روى أبو دَاود في
سننه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن تَجْصِيص القُبور، وأن يُكْتَبَ عَلَيها» . قال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وهؤلاء يَتَّخِذون عليها الألواح، وَيكْتُبون عليها القُرآن وغيره، ونهى عن أن يُزاد عليها غير تُرابها، كما روى أبو داود عن جابر -أيضًا-:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُجَصَّص القَبر، أو يُكْتَب عليه، أو يُزاد عليه» ، وهؤلاء يَزِيدون عليه الآجر، والجَص، والأحجار، قال إبراهيم النخعي:"كَانُوا يكرهون الآجر على قبورهم.... ".
والمقصود أنَّ هؤلاء المُعَظِّمين للقُبور، المُتَّخِذِينها أعيادًا، الموقدين عليها السُّرج، الذين يبنون عليها المَسَاجد والقباب، المناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك
اتِّخاذها مَسَاجد، وإيقاد السُّرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو محمد المقدسي:ولو أبيح اتخاذ السُّرج عليها لم يُلْعَن من فَعَله؛ ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام.
قال: ولا يجوز اتخاذ المَسَاجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَعَن اللهُ اليهود والنَّصارى؛ اتَّخذُوا قُبور أَنبيائِهم مَسَاجِد،» يُحَذِّر مَا صَنَعوا. متفق عليه.
ولأنَّ تخصيص القُبور بالصَّلاة عندها يُشبْه تعظيم الأصنام بالسُّجود لها، والتَّقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتِّخاذ صورهم، والتَّمسح بها، والصَّلاة عندها". انتهى.
* قال العلامة المباركفوري الهندي في كتابه: تُحفة الأحوذي بشِرَح جامع التِّرمذي: على قول علي لأبي الهياج الأسدي: «أبعثك على ما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته"» ما نصه:
"ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوليًّا، القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكى لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، بل ظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا ما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومع هذا المنكر الشَّنيع، والكفر الفظيع
لا نجد من يَغضب لله، ويغار حميه للدين الحنيف، لا عالمًا ولا متعلمًا، ولا أميرًا ولا وزيرًا، ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين، أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم، وتلكأ، وأبى، واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة.
فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟!
لَقَد أَسْمَعْتَ لَو نَادَيْتَ حَيًّا
…
وَلَكِن لَا حَيَاة لِمَن تُنَادِي
وَلَو نارًا نَفَخْتَ بِها أَضَاءَت
…
وَلكِن أَنْتَ تَنْفُخُ في رَمَادِ
* قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم الَّلات لما أسلمت ثَقيف-: "فيه أنَّه لا يجُوز إبقاء مَوَاضع الشِّرك والطَّواغيت بعد القُدرة على هَدْمها، وإبطالها يَومًا واحدًا، وكذا حكم المَشَاهد التي بُنِيت على القبور، والتي اتُّخذت أوثانًا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة، أو أعظم شركًا عندها وبها
…
فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتَفَاقم الأمر،
واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين" ا. هـ. ملخصًا.
* وماذا يُفيد الملتجئون إلى أصحاب القُبور، وهم لا يملكون لأنفسهم نَفعًا ولا ضرًّا، بل هم محتاجون إلى رحمة الله، وإلى من يَدْعُو لهم من الأحياء بالرحمة والمغفرة لهم.
فهذا سيد الخلق، وأشرف المرسلين، وأكرم البرية يقول لأعز النَّاس عنده بنته فاطمة، والتي هي بِضْعة منه، وعمه عباس بن عبد المطَّلب، وعمته صفية بنت عبد المُطَّلب، ولعشيرته الأقربين: " «يا مَعْشَر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ (أي بالإيمان بالله، والعمل الصَّالح) ، لا أُغْني عَنْكُم مِن الله شَيْئًا، يا عبَّاس بن عبد المُطَّلب لا أغني عَنْكَ من الله شَيْئًا،»
فإذا كان سيد المرسلين صرح بأنه لا يغني شيئًا عن سيدة نساء العالمين، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، فتبين له التوحيد وغربة الدين.
وفي الحديث: رد على من تعلق على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم؛ ليشفعوا له، وينفعوه، أو يدفعوا عنه.
كما أن فيه: دلالة صريحة على أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا بما يقدر عليه من أمور الدنيا، وأما الرحمة والمغفرة والجنة، والنجاة من النار، ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى، فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه لعباده أن يَتَقَرَّبوا به
إليه، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه، ولا عمته، ولا قرابته، إلا ذلك فغيرهم أولى وأحرى، وفي قصة عمه أبي طالب معتبر.
فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس من الالتجاء إلى الأموات، والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًا، ولا نفعًا، فضلًا عن غيرهم، يتبين لك أنهم ليسوا على شيء {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
* ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله؛ إشراكًا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ولرسوله، والصالحين من عباده، كما قال تعالى:
ونحن مع هذا لا ننكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصالحين، فقد صح أن الأنبياء يشفعون،، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، لكن لا نطلب الشفاعة منهم، ولكن نطلبها من الله، فلا يشفع أحد إلا بإذن الله له، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وهو سبحانه وتعالى لا يأذن إلا لمن رضي الله قوله وعمله، كما في قوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
فنقول: اللهم لا تحرمنا شفاعة نبيك، اللهم شفعه فينا، وأمثال هذا.
والأحياء يشفعون للميِّت إذا قاموا يصلون عليه بدعائهم له، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مسلم يموت فيقومون على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» ، وكما في دعاء المصلين على الطفل المتوفى، فإنهم يقولون في دعائهم:"اللهم اجعله لوالديه فرطًا وأجرًا، وشفيعًا مجابًا"، فيسألون الله أن يقبل شفاعة هذا الفرط لوالديه، لا لأنهم يطلبون الشفاعة من الفرط نفسه؛ لأن الشفاعة ملك لله، قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44] .