الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
في حد الإيمان وتفسيره
حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، تتقدم أحكامها؛ فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها. فمن حكم على أمر من الأمور - قبل أن يحيط علمه بتفسيره، ويتصوره تصورا يميزه عن غيره - أخطأ خطأ فاحشا.
أما حد الإيمان وتفسيره، فهو التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإيمان به؛ والانقياد ظاهرا وباطنا. فهو تصديق القلب واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب وأعمال البدن. وذلك شامل للقيام بالدين كله.
ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون: الإيمان قول القلب واللسان، وعمل
القلب واللسان والجوارح.
وهو قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. فهو يشمل عقائد الإيمان، وأخلاقه، وأعماله.
فالإقرار والاعتراف بما لله تعالى - من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال الناشئة عن أسمائه وصفاته - هو من أعظم أصول الإيمان.
وكذلك الاعتراف بما لله من الحقوق الخاصة - وهو التأله والتعبد لله ظاهرا وباطنا - من أصول الإيمان.
والاعتراف بما أخبر الله به عن ملائكته وجنوده، والموجودات السابقة واللاحقة؛ والإخبار باليوم الآخر، كل هذا من أصول الإيمان.
وكذلك الإيمان بجميع الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما وصفوا به في الكتاب والسنة من الأوصاف الحميدة؛ كل هذا من أصول الإيمان.
كما أن من أعظم أصول الإيمان؛ الاعتراف بانفراد الله بالوحدانية والألوهية، وعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين لله، والقيام بشرائع الإسلام الظاهرة، وحقائقه الباطنة. كل هذا من أصول الإيمان.
ولهذا رتب الله على الإيمان دخول الجنة والنجاة من النار، ورتب عليه رضوانه والفلاح والسعادة. ولا يكون ذلك إلا بما ذكرنا من شموله للعقائد وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح. لأنه متى فات شيء من ذلك حصل
- من النقص وفوات الثواب، وحصول العقاب - بحسبه.
بل أخبر الله تعالى أن الإيمان المطلق تنال به أرفع المقامات في الدنيا، وأعلى المنازل في الآخرة فقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [سورة الحديد: 19] . والصديقون هم أعلى الخلق درجة بعد درجة الأنبياء في الدنيا، وفي منازل الآخرة. وأخبر في هذه الآية أن من حقق الإيمان به وبرسله، نال هذه الدرجة.
ويفسر ذلك ويوضحه ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، قال:«إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة، كما تراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم) فقالوا: " يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم " قال: (بلى»
«- والذي نفسي بيده - رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين» .
وإيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين في ظاهرهم وباطنهم، في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وفي كمال طاعتهم لله ولرسله. فقيامهم بهذه الأمور، به يتحقق إيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين.
وقد أمر الله في كتابه بهذا الإيمان العام الشامل، وما يتبعه من الانقياد والاستسلام، وأثنى على من قام به؛ فقال في أعظم آيات الإيمان:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة: 136] .
فأمر الله عباده بالإيمان بجميع هذه الأصول العظيمة والإيمان الشامل
بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله وبالإخلاص والاستسلام والانقياد له وحده - بقوله:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة: 136] .
كما أثنى على المؤمنين - في آخر السورة - بالقيام بذلك فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [سورة البقرة: 285] .
فأخبر أن الرسول ومن معه من المؤمنين، آمنوا بهذه الأصول ولم يفرقوا
بين أحد من الأنبياء بل آمنوا بهم جميعا، وبما أوتوه من عند الله؛ وأنهم التزموا طاعة الله، فقالوا: سمعنا وأطعنا وطلبوا من ربهم أن يحقق لهم ذلك وأن يعفو عن تقصيرهم ببعض حقوق الإيمان، وأن مرجع الخلائق كلهم ومصيرهم إلى الله يجازيهم بما قاموا به من حقوق الإيمان، وما ضيعوه منها. كما قال تعالى عن أتباع الأنبياء - عيسى وغيره - إنهم قالوا:
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [سورة آل عمران: 53] . فآمنوا بقلوبهم، والتزموا بقلوبهم، وانقادوا بجوارحهم وسألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين له بالتوحيد وأن يحقق لهم القيام به قولا، وعملا، واعتقادا.
.
فوصف الله المؤمنين بهذه الصفات المتضمنة للقيام بأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه. فإنه وصفهم بالإيمان به إيمانا ظهرت آثاره في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وأنه - مع ثبوت الإيمان في قلوبهم - يزداد إيمانهم كلما تليت عليهم آيات الله، ويزداد خوفهم ووجلهم كلما ذكر الله وهم في قلوبهم وسرهم متوكلون على الله، ومعتمدون في أمورهم كلها عليه، ومفوضون أمورهم إليه. وهم مع ذلك يقيمون الصلاة فرضها ونفلها يقيمونها ظاهرا وباطنا ويؤتون الزكاة، وينفقون النفقات الواجبة والمستحبة. ومن كان على هذا الوصف فلم يبق من الخير مطلبا، ولا من الشر مهربا. ولهذا قال:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الذين يستحقون هذا الوصف على الحقيقة، ويحققون القيام به ظاهرا وباطنا. ثم ذكر ثوابهم الجزيل؛ المغفرة المتضمنة لزوال كل شر ومحذور، ورفعة الدرجات عند ربهم، والرزق الكريم المتضمن من النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ففسر الله الإيمان - في هذه الآيات - بجميع هذه الخصال. فإنه أخبر
بفلاح المؤمنين، ثم وصفهم بقوله:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، إلى آخر الآيات المذكورة. فمن استكمل هذه الأوصاف فهو المؤمن حقا. ومضمونها القيام بالواجبات الظاهرة والباطنة، واجتناب المحرمات والمكروهات. وبتكميلهم للإيمان استحقوا وراثة جنات الفردوس التي هي أعلى الجنات، كما أنهم قاموا بأعلى الكمالات.
وهذه صريحة في أن الإيمان يشمل عقائد الدين، وأخلاقه، وأعماله الظاهرة والباطنة. ويترتب ذلك؛ أنه يزيد بزيادة هذه الأوصاف والتحقق بها، وينقص بنقصها، وأن الناس في الإيمان درجات متفاوتة بحسب تفاوت هذه الأوصاف.
ولهذا كانوا ثلاث درجات: سابقون مقربون، وهم: الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات. ومقتصدون، وهم: الذين قاموا بالواجبات، وتركوا المحرمات. وظالمون لأنفسهم، وهم: الذين تركوا بعض واجبات الإيمان، وفعلوا بعض المحرمات. كما ذكرهم الله بقوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [سورة فاطر: 32] .
وقد يعطف الله على الإيمان، الأعمال الصالحة أو التقوى أو الصبر، للحاجة إلى ذكر المعطوف. لئلا يظن الظان أن الإيمان يكتفي فيه بما في القلب. فكم في القرآن من قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : ثم يذكر خبرا عنهم. والأعمال الصالحات: من الإيمان، ومن لوازم الإيمان. وهي التي يتحقق بها الإيمان. فمن ادعى أنه مؤمن - وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن ترك المحرمات - فليس بصادق في إيمانه.
كما يقرن بين الإيمان والتقوى، في مثل قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس: 62 - 63] .
فذكر الإيمان الشامل لما في القلوب من العقائد والإرادات الطيبة، والأعمال الصالحة. ولا يتم للمؤمن ذلك حتى يتقي ما يسخط الله من الكفر والفسوق والعصيان. ولهذا حقق ذلك بقوله:{وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . كما وصف الله بذلك خيار خلقه، بقوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحجرات: 7 - 8] .
فهذه أكبر المنن: أن يحبب الله الإيمان للعبد، ويزينه في قلبه، ويذيقه حلاوته، وتنقاد جوارحه للعمل بشرائع الإسلام، ويبغض الله إليه أصناف
المحرمات. والله عليم بمن يستحق أن يتفضل عليه بهذا الفضل، حكيم في وضعه في محله اللائق به.
كما ثبت في الصحيح - من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع عن دينه، كما يكره أن يقذف في النار» .
فذكر أصل الإيمان الذي هو محبة الله ورسوله، ولا يكتفي بمطلق المحبة، بل لا بد أن تكون محبة الله مقدمة على جميع المحاب. وذكر تفريقها بأن يحب لله، ويبغض لله. فيحب الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين؛ لأنهم قاموا بمحاب الله، واختصهم من بين خلقه. وذكر دفع ما يناقضه وينافيه، وأنه يكره أن يرجع عن دينه أعظم كراهة، تقدر أعظم من كراهة إلقائه في النار.
وأخبر في هذا الحديث أن للإيمان حلاوة في القلب، إذا وجدها العبد سلته عن المحبوبات الدنيوية، وعن الأغراض النفسية، وأوجبت له الحياة الطيبة. فإن من أحب الله ورسوله لهج بذكر الله طبعا - فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره - واجتهد في متابعة الرسول، وقدم متابعته على كل قول، وعلى إرادة النفوس وأغراضها. من كان كذلك، فنفسه مطمئنة مستحلية للطاعات، قد انشرح صدر صاحبها للإسلام؛ فهو على نور من ربه. وكثير من المؤمنين لا يصل إلى هذه المرتبة العالية:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [سورة الأنعام: 132] .
وكذلك في الصحيحين - من حديث أبي هريرة - أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان» .
وهذا صريح أن الإيمان يشمل أقوال اللسان، وأعمال الجوارح، والاعتقادات والأخلاق، والقيام بحق الله، والإحسان إلى خلقه. فجمع في هذا الحديث بين أعلاه وأصله وقاعدته - وهو قول لا إله إلا الله اعتقادا، وتألها، وإخلاصا لله - وبين أدناه، وهو إماطة العظم والشوكة وكل ما يؤذي، عن
الطريق. فكيف بما فوق ذلك من الإحسان. وذكر الحياء - والله أعلم - لأن الحياء به حياة الإيمان، وبه يدع العبد كل فعل قبيح. كما به يتحقق كل خلق حسن. وهذه الشعب - المذكورة في هذا الحديث - هي جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.
وهذا - أيضا - صريح في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب زيادة هذه الشرائع والشعب، واتصاف العبد بها أو عدمه. ومن المعلوم أن الناس يتفاوتون فيها تفاوتا كثيرا. فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقد خالف الحس، مع مخالفته لنصوص الشارع كما ترى.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبريل المشهور، حيث سأله جبريل بحضرة الصحابة عن الإيمان، فقال:«أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر» وفسر الإسلام بالشرائع الخمس الظاهرة. لأنه - كما تقدم - إذا قرن بالإيمان غيره، فسر الإيمان بما في القلب من العقائد الدينية والإسلام أو الأعمال الصالحة بالشرائع الظاهرة. وأما عند الإطلاق إذا أطلق الإيمان، فقد تقدم أنه يشمل ذلك أجمع.
وفي الصحيحين - من حديث أنس - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( «لا يؤمن»
«أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» ) .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا تعارضت المحبتان، فإن قدم ما يحبه الرسول كان صادق الإيمان، وإلا فهو ناقص الإيمان. كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: 65] .
فأقسم تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ولا يبقى في قلوبهم حرج وضيق من حكمه وينقادوا له انقيادا، وينشرحوا لحكمه. وهذا شامل في تحكمه في أصول الدين، وفي فروعه، وفي الأحكام الكلية، والأحكام الجزئية.
وفي الصحيحين أيضا - عن أنس مرفوعا -: ( «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ) . وذلك يقتضي أن يقوم بحقوق إخوانه المسلمين
الخاصة والعامة، فإنه من الإيمان. ومن لم يقم بذلك ويحب لهم ما يحب لنفسه، فإنه لم يؤمن الإيمان الواجب، بل نقص إيمانه بقدر ما نقص من الحقوق الواجبة عليه.
وفي صحيح مسلم - من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا» ) .
والرضا بذلك يقتضي الفرح بذلك، والسرور بربوبية الله له، وحسن تدبيره وأقضيته عليه، و [أن] يرضى بالإسلام دينا، ويفرح به، ويحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر المنن حيث رضي الله له الإسلام ووفقه له، واصطفاه له ويرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا إذ هو أكمل الخلق، وأعلاهم في كل صفة كمال. وأمته وأتباعه أكمل الأمم وأعلاهم، وأرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
فالرضا بنبوة الرسول ورسالته، وأتباعه من أعظم ما يثمر الإيمان، ويذوق به العبد حلاوته. قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران: 164]{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: 128] .
فكيف لا يرضى المؤمن بهذا الرسول الكريم، الرءوف الرحيم الذي أقسم الله أنه لعلى خلق عظيم، وأشرف مقام للعبد انتسابه لعبودية الله، واقتداؤه برسوله، ومحبته واتباعه، وهذا علامة محبة الله، وباتباعه تتحقق المحبة والإيمان!
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران: 31] .
وفي صحيح مسلم - من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي - قال: «قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم» .
فبين صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية الجامعة - أن العبد إذا اعترف بالإيمان ظاهرا
وباطنا، ثم استقام عليه - قولا وعملا، فعلا وتركا - فقد كمل أمره، واستقام على الصراط المستقيم، ورجي له أن يدخل مع من قال الله عنهم:
وفي حديث ابن عباس - المتفق عليه - في وفد عبد القيس، حين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: (مرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به
الجنة) وسألوه عن الأشربة. فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده [و] قال: « (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) قالوا: (الله ورسوله أعلم) ، قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس) ونهاهم عن أربع: (عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت) وقال: (احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم) » .
فهذا - أيضا - صريح في إدخاله الشرائع الظاهرة بالإيمان، مثل الصلاة والزكاة والصيام، وإعطاء الخمس من المغنم. وكل هذا يفسر لنا الإيمان تفسيرا يزيل الإشكال، وأنه كما يدخل فيه العقائد القلبية، فتدخل فيه الأعمال البدنية فكل ما قرب إلى الله - من قول وعمل واعتقاد - فإنه من الإيمان.
وفي سنن أبي داود، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» ) .
فالحب والبغض في القلب والباطن والعطاء والمنع في الظاهر. واشترط فيها كلها الإخلاص الذي هو روح الإيمان ولبه وسره.
فالحب في الله أن يحب الله، ويحب ما يحبه من الأعمال والأوقات والأزمان والأحوال ويحب من يحبه من أنبيائه وأتباعهم.
والبغض في الله أن يبغض كل ما أبغضه [الله] من كفر وفسوق وعصيان ويبغض من يتصف بها، أو يدعو إليها.
والعطاء يشمل عطاء العبد من نفسه كل ما أمر به مثل قوله تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [سورة الليل: 5 - 7] .
وهذا يشمل جميع ما أمر به العبد، لا يختص بالعطاء المالي، بل هو جزء من العطاء. وكذلك مقابله المنع.
وبهذه الأمور الأربعة، يتم للعبد إيمانه ودينه.
وكذلك ما رواه الترمذي والنسائي - من حديث أبي هريرة مرفوعا «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» يدل: على أن الإيمان الصحيح يحمل صاحبه على رعاية الأمانة، وينهاه عن الخيانة حتى يطمئن إليه الناس، ويأمنوه على أنفس الأشياء عندهم، وهي الدماء، والأموال.
وهذه النصوص كلها تبين معنى الإيمان وحقيقته، وأنه - كما قال الحسن وغيره:" ليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال ".
فالأعمال الظاهرة والباطنة تصدق الإيمان، وبها يتحقق. كما قال تعالى:
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [سورة التغابن: 11] .
فالعبد إذا أصابته المصيبة، فآمن أنها من عند الله، وأن الله حكيم رحيم في تقديرها، وأنه أعلم بمصالح عبده، هدى الله قلبه هداية خاصة للرضا والصبر والتسليم والطمأنينة. كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [سورة يونس: 9] . فحذف المتعلق؛ ليشمل هدايتهم لكل خير، وهدايتهم لترك كل شر؛ وذلك بسبب إيمانهم. فالأعمال من الإيمان من جهة، ومن ثمرات الإيمان ولوازمه من جهة أخرى. والله الموفق.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة: 143] .
كثير من المفسرين فسروا الإيمان هنا بالصلاة إلى القبلة التي كانوا عليها، بيت المقدس، قبل النسخ حيث مات أناس من المسلمين قبل أن تنقل القبلة إلى الكعبة، فحصل عند بعضهم اشتباه في شأنهم، فأنزل الله هذه
الآية. وذلك أن صلاتهم إلى بيت المقدس في ذلك الوقت، التزام منهم لطاعة الله ورسوله، وذلك هو الإيمان.
وهذه الآية فيها بشارة كبرى [وهي] : أن الله لا يضيع إيمان المؤمنين، قل ذلك الإيمان، أو كثر. كما ورد في الصحيح:«أن الله يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان» .
وبشارة لكل من عمل عملا قصده طاعة الله ورسوله، وهو متأول أو مخطئ، أو نسخ ذلك العمل، فإنه إنما عمل ذلك العمل إيمانا بالله، وقصدا لطاعته، ولكنه تأول تأويلا أخطأ فيه، أو أخطأ بلا تأويل، فخطؤه معفو عنه، وأجر القصد والتوجه إلى الله وإلى طاعته، لا يضيعه الله.
ولهذا قال الله عن المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة: 286] قال الله على لسان نبيه: (قد فعلت) .
وفي الحديث الصحيح: «إذا اجتهد الحاكم فحكم، فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له» .
وكذلك من نوى عملا صالحا، وحرص على فعله، ومنعه مانع - من مرض، أو سفر أو عجز أو غيرها - كتب له ما نواه من ذلك العمل، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم - من حديث أبي موسى مرفوعا -:«من مرض أو سافر كتب له ما»
«كان يعمل صحيحا مقيما» . ويدخل في ذلك من أقعده الكبر عن عمله المعتاد.
فصل
إذا ثبت بدلالة الكتاب والسنة معنى الإيمان، وأنه اسم جامع لشرائع الإسلام، وأصول الإيمان، وحقائق الإحسان وتوابع ذلك من أمور الدين - بل هو اسم للدين كله - علم أنه يزيد وينقص، ويقوى ويضعف.
وهذه المسألة لا تقبل الاشتباه بوجه من الوجوه لا شرعا، ولا حسا، ولا واقعا.
وذلك أن نصوص الكتاب والسنة صريحة في زيادته ونقصانه مثل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [سورة الفتح: 4]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [سورة المدثر: 31] ، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران: 173] ، {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة التوبة: 124] وغيرها من الآيات.
وكذلك الحس والواقع يشهد بذلك من جميع وجوه الإيمان، فإن الناس في علوم الإيمان، وفي معارفه، وفي أخلاقه وأعماله الظاهرة والباطنة - متفاوتون تفاوتا عظيما في القوة والكثرة، ووجود الآثار، ووجود الموانع، وغير ذلك. فالمؤمنون الكمل عندهم من تفاصيل علوم الإيمان ومعارفه وأعماله، ما لا نسبة إليه من علوم عموم كثير من المؤمنين، وأعمالهم وأخلاقهم. فعند كثير منهم علوم ضعيفة مجملة، وأعمال قليلة ضعيفة. وعند كثير منهم، من المعارضات والشبهات والشهوات، ما يضعف الإيمان، وينقصه درجات كثيرة. بل تجد المؤمنين يتفاوتون تفاوتا كثيرا في نفس العلم الذي عرفوه من علوم الإيمان
أحدهما: علمه فيه قوي صحيح لا ريب فيه ولا شبهة والآخر: علمه فيه ضعيف، وعنده معارضات كثيرة تضعفه أيضا. وكذلك أخلاق الإيمان يتفاوتون فيها تفاوتا كثيرا، صفات الحلم والصبر والخلق وغيرها. وكذلك في العبادات الظاهرة كالصلاة: يصلي اثنان صلاة واحدة، وأحدهما يؤدي حقوقها الظاهرة والباطنة، ويعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. والآخر يصليها بظاهره وباطنه مشغول بغيرها. وكذلك بقية العبادات.
ولهذا كان المؤمنون ثلاث مراتب مرتبة السابقين، ومرتبة المقتصدين ومرتبة الظالمين. وكل واحدة من هذه المراتب أيضا، أهلها متفاوتون تفاوتا كثيرا. والعبد المؤمن - في نفسه - له أحوال وأوقات تكون أعماله كثيرة قوية، وأحيانا بالعكس. وكل هذا من زيادة الإيمان ونقصه، ومن قوته وضعفه. وكان خيار الأمة، والمعتنون بالإيمان منهم - يتعاهدون إيمانهم كل وقت ويجتهدون في زيادته وتقويته، وفي دفع المعارضات المنقصة له، ويجتهدون في ذلك، ويسألون الله أن يثبت إيمانهم، ويزيدهم منه، من علومه وأعماله وأحواله. فنسأل الله: أن يزيدنا علما ويقينا، وطمأنينة به وبذكره، وإيمانا صادقا.
وخيار الخلق - أيضا - يطلبون ويتنافسون في الوصول إلى عين اليقين، بعد علم اليقين، وإلى حق اليقين. كما قال الله عن إبراهيم عليه السلام:
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [سورة الأنعام: 75] .
والحواريون خواص أتباع المسيح ابن مريم - حين طلبوا نزول المائدة، ووعظهم عيسى عن هذا الطلب - {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [سورة المائدة: 113] . فذكروا حاجتهم الدنيوية، وحاجتهم العلمية الإيمانية إلى ذلك.