المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيفي ذكر الأمورالتي يستمد منها الإيمان - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان

[عبد الرحمن السعدي]

الفصل: ‌الفصل الثانيفي ذكر الأمورالتي يستمد منها الإيمان

‌الفصل الثاني

في ذكر الأمور

التي يستمد منها الإيمان

وهذا فصل عظيم النفع والحاجة، بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية معرفة واتصافا - وذلك أن الإيمان هو كمال العبد، وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة، وهو السبب والطريق لكل خير عاجل وآجل. ولا يحصل، ولا يقوى، ولا يتم إلا بمعرفة ما منه يستمد. وإلى ينبوعه وأسبابه وطرقه.

والله تعالى قد جعل لكل مطلوب سببا وطريقا يوصل إليه. والإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها، وقد جعل الله له مواد كبيرة تجلبه وتقويه، كما كان له أسباب تضعفه وتوهيه.

ومواده التي تجلبه وتقويه أمران: مجمل ومفصل.

أما المجمل فهو التدبر لآيات الله المتلوة من الكتاب والسنة، والتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خلق له العبد، والعمل بالحق، فجميع الأسباب مرجعها إلى الأصل العظيم.

وأما التفصيل، فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة.

1 -

منها - بل أعظمها -: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد لله فيها.

فقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«إن لله تسعة وتسعين اسما - مائة إلا واحدا - من أحصاها دخل الجنة» أي: من حفظها وفهم معانيها،

ص: 71

واعتقدها، وتعبد لله بها - دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون.

فعلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها.

ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهذه الأنواع هي رُوح الإيمان ورَوْحه، وأصله وغايته. فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه، وقوي يقينه. فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكون معرفته سالمة من داء التعطيل، ومن داء التمثيل اللذين ابتلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول، بل تكون المعرفة متلقاة من الكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فهذه المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة في أحواله.

2-

ومنها: تدبر القرآن على وجه العموم. فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيمانا. كما قال تعالى:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة الأنفال: 2] .

وكذلك إذا نظر إلى انتظامه وإحكامه، وأنه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف - تيقن أنه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه - من التناقض والاختلاف - أمور كبيرة. قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82] . وهذا من أعظم مقويات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة، فالمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما ركب عليه من الأخبار الصادقة، والأحكام الحسنة - يحصل له من أمور الإيمان، خير كبير فكيف إذا أحسن تأمله، وفهم مقاصده

ص: 72

وأسراره؟ ! . ولهذا كان المؤمنون الكمل يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} الآية [سورة آل عمران: 193] .

3 -

وكذلك معرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله - كلها من محصلات الإيمان ومقوياته. فكلما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله، ازداد إيمانه ويقينه. وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين. فقد وصف الله الراسخين في العلم. الذين حصل لهم العلم التام القوي، الذي يدفع الشبهات والريب، ويوجب اليقين التام؛ ولهذا كانوا سادة المؤمنين الذين استشهد الله بهم، واحتج بهم على غيرهم من المرتابين والجاحدين، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة آل عمران: 7] .

ص: 73

فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات، وردوا المتشابه من الآيات إلى المحكم منها، وقالوا آمنا بالجميع، فكلها من عند الله وما منه وما تكلم به وحكم به كله حق وصدق.

وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة النساء: 162] .

وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران: 18] .

ولعلمهم بالقرآن العلم التام، وإيمانهم الصحيح - استشهد بهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الروم: 56] .

وأخبر تعالى في عدة آيات أن القرآن آيات للمؤمنين، [وآيات] للموقنين. لأنه يحصل لهم بتلاوته وتدبره من العلم واليقين والإيمان. بحسب ما فتح الله عليهم منه. فلا يزالون يزدادون علما وإيمانا ويقينا.

فالتدبر للقرآن من أعظم الطرق والوسائل الجالبة للإيمان، والمقوية له. قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29] .

فاستخراج بركة القرآن - التي من أهمها حصول الإيمان - سبيله وطريقه

ص: 74

تدبر آياته وتأملها، كما ذكر " أن تدبره يوقف الجاحد عن جحوده، ويمنع المعتدي على الدين من اعتدائه ".

قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [سورة المؤمنون: 68] أي: فلو تدبروه حق تدبره، لمنعهم مما هم عليه من الكفر والتكذيب، وأوجب لهم الإيمان واتباع من جاء به.

وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [سورة يونس: 39] أي: فلو حصل لهم الإحاطة بعلمه، لمنعهم من التكذيب، وأوجب لهم الإيمان.

4-

ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه - معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة.

فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه، وصدق ما جاء به من الكتاب والسنة، والدين الحق. كما قال تعالى:{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [سورة المؤمنون: 69] أي: فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به.

وقال تعالى حاثا لهم على تدبر أحوال الرسول الداعية للإيمان: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سورة سبأ: 46] .

وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول، وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق - بقوله:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم: 1 - 4] .

فهو صلى الله عليه وسلم أكبر داع للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة النافعة، وأفعاله الرشيدة. فهو الإمام الأعظم، والقدوة الأكمل،

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: 21]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر: 7] .

وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا:

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} وهو هذا الرسول الكريم: {يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} بقوله

ص: 75

وخلقه، وعمله ودينه، وجميع أحواله:{أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [سورة آل عمران: 193] أي: إيمانا لا يدخله ريب.

ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله - توسلوا بإيمانهم أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات فقالوا:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [سورة آل عمران: 193] .

ولهذا كان الرجل المنصف - الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق مجرد ما يراه ويسمع كلامه - يتبادر إلى الإيمان [به صلى الله عليه وسلم] ، ولا يرتاب في رسالته بل كثير منهم - مجرد ما يرى وجهه الكريم - يعرف أنه ليس بوجه كذاب.

وقيل لبعضهم: " لم بادرت إلى الإيمان بمحمد قبل أن تعرف رسالته؟ " فقال: " ما أمر بشيء، فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل ليته أمر به ". فاستدل العاقل الموفق - بحسن شريعته، وموافقتها للعقول الصحيحة - على رسالته، فبادر إلى الإيمان [به] .

ولهذا استدل ملك الروم هرقل - لما وصف له ما جاء به الرسول، وما كان يأمر به، وما ينهى عنه - استدل بذلك أنه من أعظم الرسل، واعترف بذلك اعترافا جليا. ولكن منعته الرئاسة وخشية زوال ملكه من اتباعه، كما منع كثيرا ممن اتضح له أنه رسول الله حقا. وهذا من أكبر موانع الإيمان في حق أمثال هؤلاء.

وأما أهل البصائر والعقول الصحيحة، فإنهم يرون هذه الموانع والرئاسات والشبهات والشهوات تضمحل، ولا يرون لها قيمة حتى يعارض بها الحق الصحيح النافع، المثمر للسعادة عاجلا وآجلا.

ولهذا السبب الأعظم، كان المعتنون بالقرآن حفظا ومعرفة، والمعتنون بالأحاديث الصحيحة - أعظم إيمانا ويقينا من غيرهم، وأحسن عملا في الغالب.

ص: 76

5 -

ومن أسباب الإيمان ودواعيه: التفكر في الكون، في خلق السماوات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات.

فإن ذلك داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره. وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره، واللهج بذكره، وإخلاص الدين له. وهذا هو روح الإيمان ويسره.

وكذلك النظر إلى فقر المخلوقات كلها، واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفة عين خصوصا ما تشاهده في نفسك، من أدلة الافتقار، وقوة الاضطرار. وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه، وكمال الثقة بوعده، وشدة الطمع في بره وإحسانه. وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد. فإن الدعاء مخ العبادة وخالصها.

وكذلك التفكر في كثرة نعم الله وآلائه العامة والخاصة، التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. فإن هذا يدعو إلى الإيمان.

ولهذا دعا الله الرسول والمؤمنين إلى شكره، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة البقرة: 172] .

ص: 77

فالإيمان يدعو إلى الشكر والشكر ينمو به الإيمان. فكل منهما ملازم وملزوم للآخر.

6-

ومن أسباب دواعي الإيمان: الإكثار من ذكر الله كل وقت، ومن الدعاء الذي هو مخ العبادة.

فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها. وكلما ازداد العبد ذكر الله قوي إيمانه، كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر. فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي الإيمان، بل هي روحه.

7-

ومن الأسباب الجالبة للإيمان: معرفة محاسن الدين.

فإن الدين الإسلامي كله محاسن، عقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها.

وبهذا النظر الجليل يزين الله الإيمان في قلب العبد، ويحببه إليه. كما امتن به على خيار خلقه، بقوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [سورة الحجرات: 7] . فيكون الإيمان في القلب أعظم المحبوبات وأجمل الأشياء. وبهذا يذوق العبد حلاوة الإيمان ويجدها في قلبه، فيتجمل الباطن بأصول الإيمان وحقائقه، وتتجمل الجوارح بأعمال الإيمان، وفي الدعاء المأثور:" اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتديين ".

8-

ومن أعظم مقويات الإيمان: الاجتهاد في التحقق في مقام الإحسان، في عبادة الله، والإحسان إلى خلقه. فيجتهد أن يعبد الله كأنه يشاهده ويراه، فإن لم يقو على هذا استحضر أن الله يشاهده ويراه. فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه. ولا يزال العبد يجاهد نفسه؛ ليتحقق بهذا المقام العالي، حتى يقوى إيمانه ويقينه، ويصل في ذلك إلى حق اليقين - الذي هو أعلى مراتب اليقين - فيذوق

ص: 78

حلاوة الطاعات، ويجد ثمرة المعاملات. وهذا هو الإيمان الكامل.

وكذلك الإحسان إلى الخلق - بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع - هو من الإيمان، ومن دواعي الإيمان. والجزاء من جنس العمل. فكما أحسن إلى عباد الله، وأوصل إليهم من بره، ما يقدر عليه - أحسن الله إليه أنواعا من الإحسان، ومن أفضلها أن يقوى إيمانه ورغبته في فعل الخير، والتقرب إلى ربه، وإخلاص العمل له.

وبذلك يتحقق العبد بالنصح لله وبعباده. فإن «الدين النصيحة» ومن وفق للإحسان في عبادة ربه، والإحسان في معاملة الخلق، فقد تحقق نصحه.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ، متفق عليه.

9-

ومنها قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} . .. الآيات [سورة المؤمنون: 1 - 11] . فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره. كما تقدم.

فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلي يجاهد نفسه على استحضار ما يقوله ويفعله، من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والركوع

ص: 79

والسجود - من أسباب زيادة الإيمان ونموه.

وتقدم: أن الله سمى الصلاة إيمانا، بقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة: 143] وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [سورة العنكبوت: 45] . فهي أكبر ناهٍ عن كل فحشاء ومنكر ينافي الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذي الإيمان وينميه لقوله:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} .

والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده، وهي فرضها ونفلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«والصدقة برهان» أي: على إيمان صاحبها. فهي دليل الإيمان، وتغذيه وتنميه.

والإعراض عن اللغو الذي هو كل كلام لا خير فيه، وكل فعل لا خير فيه - بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولا وفعلا - لا شك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان، ويثمر الإيمان.

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم، يقول بعضهم لبعض:" اجلس بنا نؤمن ساعة " فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية. فيتجدد بذلك إيمانهم.

وكذلك العفة عن الفواحش خصوصا فاحشة الزنا، لا ريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمياته. فالمؤمن لخوفه مقامه بين يدي ربه، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} إجابة لداعي الإيمان، وتغذية لما معه من الإيمان.

ورعاية الأمانات والعهود وحفظها من علائم الإيمان. وفي الحديث: «لا»

ص: 80

«إيمان لمن لا أمانة له» .

وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه، فانظر حاله هل يرعى الأمانات كلها مالية، أو قولية، أو أمانات الحقوق؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله، والتي بينه وبين العباد؟ .

فإن كان كذلك، فهو صاحب دين وإيمان. وإن لم يكن كذلك نقص من دينه وإيمانه، بمقدار ما انتقص من ذلك.

وختمها بالمحافظة على الصلوات - على حدودها، وحقوقها، وأوقاتها - لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان، فيسقيه وينميه ويؤتي أكله كل حين.

وشجرة الإيمان - كما تقدم - محتاجة إلى تعاهدها كل وقت بالسقي - وهو: المحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات - وإلى إزالة ما يضرها من الصخور والنوابت الغريبة الضارة؛ وهو العفة عن المحرمات قولا وفعلا. فمتى تمت هذه الأمور حي هذا البستان وزها، وأخرج الثمار المتنوعة.

10-

ومن دواعي الإيمان وأسبابه: الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وبذلك يكمل العبد بنفسه، ويكمل غيره. كما أقسم تعالى بالعصر أن جنس الإنسان لفي خسر، إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح اللذين بهما تكميل النفس، والتواصي بالحق - الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق - وبالصبر على ذلك كله؛ يكمل غيره.

ص: 81

وذلك أن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقويات الإيمان وصاحب الدعوة لا بد أن يسعى بنصر هذه الدعوة، ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها، ويأتي الأمور من أبوابها، ويتوسل إلى الأمور من طرقها. وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه.

وأيضا: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما سعى إلى تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم بالحق، وصبر على ذلك - لا بد أن يجازيه الله من جنس عمله، ويؤيده بنور منه، وروح وقوة إيمانه، وقوة التوكل. فإن الإيمان وقوة التوكل على الله، يحصل به النصر على الأعداء، من شياطين الإنس، وشياطين الجن. كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة النحل: 99] .

وأيضا: فإنه متصد لنصر الحق، ومن تصدى لشيء، فلا بد أن يفتح عليه فيه - من الفتوحات العلمية والإيمانية -. بمقدار صدقه وإخلاصه.

11-

ومن أهم مواد الإيمان ومقوياته: توطين النفس على مقاومات جميع ما ينافي الإيمان من شعب الكفر والنفاق، والفسوق والعصيان.

فإنه كما أنه لا بد في الإيمان من فعل جميع الأسباب المقوية المنمية له، فلا بد مع ذلك - من دفع الموانع والعوائق وهي: الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان، المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان. فإن الإرادات التي أصلها الرغبة في الخير ومحبته، والسعي فيه - لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها من رغبة النفس في الشر، ومقاومة النفس الأمارة بالسوء.

فمتى حفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات، وفتن الشهوات تم إيمانه، وقوي يقينه، وصار مثل بستان إيمانه:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة: 265] .

ومتى كان الأمر بالعكس - بأن استولت عليه النفس الأمارة بالسوء،

ص: 82

ووقع في فتن الشبهات أو الشهوات، أو كليهما -. انطبق عليه هذا المثل وهو قوله تعالى:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [سورة البقرة: 266] .

فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين:

أحدهما: تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتحقق بها علما، وعملا، حالا.

والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها من الفتن الظاهرة والباطنة، ويداوي ما قصر فيه من الأول، وما تجرأ عليه من الثاني بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [سورة الأعراف: 201] أي: مبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا تداركوا هذا الخلل بسده، وهذا الفتق برتقه، فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدوهم حسيرا ذليلا:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [سورة الأعراف: 202] الشياطين لا تقصر عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبون لهم لا يقصرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحق عليهم الخسار.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، بفضلك ومنتك، إنك أنت العليم الحكيم.

ص: 83