المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثفي فوائد الإيمان وثمراته - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان

[عبد الرحمن السعدي]

الفصل: ‌الفصل الثالثفي فوائد الإيمان وثمراته

‌الفصل الثالث

في فوائد الإيمان وثمراته

كم للإيمان الصحيح من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة، في القلب والبدن والراحة، والحياة الطيبة، والدنيا والآخرة. وكم لهذه الشجرة الإيمانية من الثمار اليانعة، والجني اللذيذ، والأكل الدائم، والخير المستمر، أمور لا تحصى، وفوائد لا تستقصى. ومجملها أن خيرات الدنيا والآخرة، ودفع الشرور كلها من ثمرات هذه الشجرة.

وذلك أن هذه الشجرة إذا ثبتت وقويت أصولها، وتفرعت فروعها، وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها - عادت على صاحبها وعلى غيره، بكل خير عاجل وآجل.

1 -

فمن أعظم ثمارها: الاغتباط بولاية الله الخاصة، التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وأجل ما حصله الموفقون.

قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس: 62، 63] .

فكل مؤمن تقي، فهو لله ولي ولاية خاصة، من ثمراتها ما قاله الله عنهم:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة البقرة: 257] أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر. وحاصل ذلك: أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة، إلى ما يرفعها من أنوار الخير العاجل والآجل.

وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل: بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا

ص: 85

ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة - بإيمانهم الذي كملوا به أنفسهم، وكملوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله ورسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاستولوا على أجل الوسائل، وأفضل الغايات وذلك فضل الله.

3-

ومنها: أن الإيمان الكامل يمنع من دخول النار، والإيمان - ولو قليلا - يمنع من الخلود فيها.

فإن من آمن إيمانا - أدى به الواجبات، وترك المحرمات - فإنه لا يدخل النار. كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأصل. كما تواتر عنه أنه «لا يخلد في النار من في قلبه شيء من الإيمان ولو يسيرا.»

4-

ومن ثمرات الإيمان: أن الله يدافع عن المؤمنين جميع المكاره، وينجيهم من الشدائد. كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة الحج: 38] أي: يدافع عنهم كل مكروه، يدافع عنهم شر شياطين الإنس وشياطين الجن، ويدافع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخففها بعد نزولها.

ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس عليه الصلاة والسلام-

ص: 87

وأنه {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، قال:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنبياء: 87 - 88] ، إذا وقعوا في الشدائد، كما أنجينا يونس. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«دعوة أخي يونس ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه كربته - {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} .»

وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي: بالقيام بالإيمان ولوازمه، {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [سورة الطلاق: 2] أي: من كل ما ضاق على الناس: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [سورة الطلاق: 4] .

فالمؤمن المتقي ييسر الله أموره وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويسهل عليه الصعاب ويجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وشواهد هذا كثير، من الكتاب والسنة.

5-

ومنها: أن الإيمان والعمل الصالح - الذي هو فرعه - يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفي دار القرار.

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97] .

ص: 88

وذلك أن من خصائص الإيمان، أنه يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره. وهذه هي الحياة الطيبة. فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح.

6-

ومنها: أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص.

ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل مثل قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [سورة الأنبياء: 94] أي: لا يجحد سعيه، ولا يضيع عمله، بل يضاعف بحسب قوة إيمانه.

وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [سورة الإسراء: 19] . والسعي للآخرة، هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا تأسست على الإيمان، وانبنت عليه، كان السعي مشكورا مقبولا مضاعفا، لا يضيع منه مثقال ذرة.

وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره، فإنه غير مقبول. قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [سورة الفرقان: 23] .

وذلك؛ لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله، الذي روحه الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول.

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [سورة الكهف: 103 - 105]

ص: 89

فهم لما فقدوا الإيمان، وحل محله الكفر بالله وآياته، حبطت أعمالهم.

وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر: 65]، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام: 88] .

ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يجبُّ ما قبله من السيئات وإن عظمت، والتوبة من الذنوب المنافية للإيمان والقادحة فيه، والمنقصة له - تجبُّ ما قبلها.

7-

ومنها: أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، وبهديه الصراط المستقيم، يهديه إلى علم الحق، وإلى العمل به، وإلى تلقي المحاب والمسار بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [سورة يونس: 9] .

وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [سورة التغابن: 11] قال بعض السلف: " هو الرجل تصيبه

ص: 90

المصيبة؛ فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم ".

ولو لم يكن من ثمرات الإيمان، إلا أنه يسلي صاحبه عن المصائب والمكاره التي كل أحد عرضة لها في كل وقت، ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها

وذلك؛ لقوة إيمانه، وقوة توكله؛ ولقوة رجائه بثواب ربه، وطمعه في فضله. فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر قال تعالى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [سورة النساء: 104] .

ولهذا تجد اثنين تصيبهم مصيبة واحدة أو متقاربة - وأحدهما عنده إيمان، والآخر فاقد له - تجد الفرق العظيم بين حاليهما، وتأثيرها في ظاهرهما وباطنهما. وهذا الفرق راجع إلى الإيمان والعمل بمقتضاه.

وكما أنه يسلي عند ورود المصائب والمكاره، فإنه يسلي عند فقد المحاب. فإذا فقد المؤمن حبيبه الذي تمكن حبه من قلبه - من أهل وولد،

ص: 91

ومال، وصديق، وشبهها - تسلى بحلاوة إيمانه، والإيمان خير عوض للمؤمن عن كل مفقود، كما هو مشاهد مجرب.

وفقد المحبوب - في الحقيقة - معدود من المصائب. ولولا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام عنده من الإيمان ما يهون عليه مصيبته في فقد يوسف مع شدة حبه العظيم، بحيث قال لإخوته - لما طلبوا منه بعض يوم، أن يذهب معهم ليرتع ويلعب - {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [سورة يوسف: 13] فأخبر أن المانع له من إرساله؛ أنه لا يصبر على فراقه ولا ساعة من نهار. ولكنهم عالجوه، وذكروا له الأسباب التي توجب له أن يرسله معهم؛ فأرسله {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [سورة الأنفال: 42] . فمن هذه حاله، وهذا حبه البليغ الذي لا يمكن المعبر أن يعبر عنه - هل يدخل في الذهن أنه يبقى هذه المدة الطويلة على الوجود؟ ! بل يغلب على الظن أن الحب يفتت كبده بأسرع وقت. ولكن قوة الإيمان، وقوة الرجاء بالله - أوجب له أن يتماسك كل هذه المدة، حتى جاء الله بالفرج الذي وعد به المؤمنون.

وكذلك؛ أم موسى - حين ذهبت اليم بموسى، وأصبح فؤادها فارغا من كل شيء إلا من الحزن على موسى - لولا أن الله ربط على قلبها بالإيمان، وعلمت أن وعد الله حق - لكادت تبدي بما في قلبها، وتصرح بمصيبتها. ولكن هو الإيمان، المثبت عند الشدائد، المسلي عند المصائب، المقوي إذا وهنت القوى، المعزي إذا عز العزا.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم، في وصيته العظيمة - في حديث ابن عباس، الصحيح الذي في السنن:" «تعرَّفْ إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة» " أي: تعرف إلى الله بالإيمان وأعمال الإيمان - وأنت صحيح غني قوي - يعرفك الله في الشدة

ص: 92

ويقويك الله على مباشرتها، ويعينك على معالجتها. وأعظم شدة - تنزل بالمؤمن - شدة الموت وسكراته.

فهذا الحديث بشرى لكل مؤمن - قد تعرف إلى ربه في رخائه - أن يعينه في ذلك المقام الحرج، والشدة المزعجة، وضعف القوى، وتكاثف الشياطين الذين يريدون أن يحولوا بين العبد وبين ختم حياته بالخير. فإن الله يعينه بتأييده، وروحه ورحمته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

8-

ومن ثمرات الإيمان ولوازمه - من الأعمال الصالحة - ما ذكره الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [سورة مريم: 96] أي بسبب إيمانهم وأعمال الإيمان، يحبهم الله ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين. ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حيا وميتا، والاقتداء به، وحصول الإمامة في الدين.

وهذه أيضا من أجل ثمرات الإيمان، أن يجعل الله المؤمنين الذين كملوا إيمانهم بالعلم والعمل - لسان صدق - ويجعلهم أئمة يهتدون بأمره كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [سورة السجدة: 24] ، فبالصبر واليقين - اللذين هما رأس الإيمان وكماله - نالوا الإمامة في الدين.

9 -

ومنها: قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة: 11] .

فأهل الإيمان والعلم يرفعهم الله في الدنيا والآخرة فهم أعلى الخلق درجة عند الله، وعند عباده في الدنيا والآخرة.

وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح وعلمهم ويقينهم والعلم، واليقين من أصول الإيمان.

ص: 93

10 -

ومن ثمرات الإيمان: حصول البشارة بكرامة الله، والأمن التام من جميع الوجوه.

كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة: 223] فأطلقها؛ ليعم الخير العاجل والآجل، وقيدها في مثل قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سورة البقرة: 25] فلهم البشارة المطلقة والمقيدة.

ولهم الأمن المطلق في مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأنعام: 82] .

ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة الأنعام: 48] . فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى عليهم. وبذلك يتم لهم الأمن.

فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة، أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور. وله البشارة الكاملة بكل خير، كما قال تعالى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [سورة يونس: 64] . ويوضح هذه البشارة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [سورة فصلت: 30 - 32] .

ص: 94

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الحديد: 28] .

فرتب على الإيمان حصول الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته، ويمشي به يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سورة الحديد: 12] فالمؤمن يمشي في الدنيا بنور علمه وإيمانه، وإذا طفئت الأنوار يوم القيامة، مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم.

وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غفرت سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب.

11-

ومن ثمرات الإيمان: حصول الفلاح - الذي هو إدراك غاية الغايات، فإنه إدراك كل مطلوب، والسلامة من كل مرهوب - والهدى الذي هو أشرف الوسائل.

كما قال تعالى - بعد ذكره المؤمنين بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من قبله، والإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللتين هما من

ص: 95

أعظم آثار الإيمان - قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة: 5] .

فهذا هو الهدى التام، والفلاح الكامل.

فلا سبيل إلى الهدى والفلاح - اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما - إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله. فالهدى أجل الوسائل، والفلاح أكمل الغايات.

12-

ومن ثمرات الإيمان: الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات.

قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذرايات: 55]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الحجر: 77] .

وهذا؛ لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه علما وعملا. وكذلك معه الآلة العظمة، والاستعداد لتلقي المواعظ النافعة والآيات الدالة على الحق، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به.

وأيضا فالإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد. ومن كان كذلك انتفع بالآيات.

ومن لم يكن كذلك، فلا يستغرب عدم قبوله للحق، واتباعه له. ولهذا يذكر الله - في سياق تمنع الكافرين من تصديق الرسول، وقبول الحق الذي جاء به - السبب الذي أوجب لهم ذلك، وهو الكفر الذي في قلوبهم. يعني؛ لأن الحق واضح وآياته بينة واضحة، والكفر أعظم مانع يمنع من اتباعه. أي فلا تستغربوا هذه الحالة، فإنها لم تزل دأب كل كافر.

13-

ومنها: أن الإيمان يحمل صاحبه على الشكر في حالة السراء، والصبر في حالة الضراء، وكسب الخير في كل أوقاته.

كما ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«عجبا لأمر المؤمن! إن»

ص: 96

«أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» .

وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. والشكر والصبر هما جماع كل خير، فالمؤمن مغتنم للخيرات في كل أوقاته، رابح في كل حالاته.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يصيب المؤمن من هم، ولا غم ولا أذى - إلا كفر الله عنه بها من خطاياه» .

فيجتمع للمؤمن عند النعم والسراء، نعمتان: نعمة حصول ذلك المحبوب، ونعمة التوفيق للشكر الذي هو أعلى من ذلك. وبذلك تتم عليه النعمة. ويجتمع له عند الضراء، ثلاث نعم: نعمة تكفير السيئات، ونعمة حصول مرتبة الصبر التي [هي] أعلى من ذلك، ونعمة سهولة الضراء عليه. لأنه متى عرف حصول الأجر والثواب، والتمرن على الصبر، هانت عليه وطأة المصيبة، وخف عليه حملها.

14-

ومنها: أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم.

قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [سورة الحجرات: 15]

ص: 97

أي: دفع الإيمان الصحيح الذي معهم الريب والشك الموجود، وأزاله بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس والجن، والنفوس الأمارة بالسوء. فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان.

ولهذا ثبت في الصحيحين - من حديث أبي هريرة - أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك، فليقل: آمنت بالله ولينته، وليتعوذ بالله من الشيطان» .

فذكر صلى الله عليه وسلم، هذا الدواء النافع، لهذا الداء المهلك، وهي ثلاثة أشياء، الانتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية، والاستعاذة من شر من ألقاها وشبه بها، ليضل بها العباد، والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به كان من الآمنين.

وذلك؛ لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها: العلم أنه مناف للحق، وكل ما ناقض الحق فهو باطل، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [سورة يونس: 32] .

15-

ومنها: أن الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم من سرور

ص: 98

وحزن وخوف وأمن وطاعة ومعصية وغير ذلك من الأمور التي لا بد لكل أحد منها.

فعند المحاب والسرور، يلجأون إلى الإيمان فيحمدون الله، ويثنون عليه، ويستعملون النعم فيما يحب المنعم.

وعند المكاره والأحزان يلجأون إلى الإيمان من جهات عديدة يتسلون بإيمانهم وحلاوته، ويتسلون بما يترتب على ذلك من الثواب، ويقابلون الأحزان والقلق براحة القلب، والرجوع إلى الحياة الطيبة المقاومة للأحزان والأتراح.

ويلجأون إلى الإيمان عند الخوف فيطمئنون إليه، ويزيدهم إيمانا وثباتا، وقوة وشجاعة ويضمحل الخوف الذي أصابهم. كما قال تعالى عن خيار الخلق:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [سورة آل عمران: 173 - 174] لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار وخلفه قوة الإيمان وحلاوته، وقوة التوكل على الله، والثقة بوعده.

ويلجأون إلى الإيمان عند الأمن فلا يبطرهم، ولا يحدث لهم الكبرياء بل يتواضعون، ويعلمون أنه من الله، ومن فضله وتيسيره. فيشكرون الذي أنعم بالسبب والمسبب الأمن وأسبابه. ويعلمون أنه إذا حصل لهم ظفر بالأعداء وعز، أنه بحول الله وقوته وفضله، لا بحولهم وقوتهم.

ويلجأون إلى الإيمان عند الطاعة والتوفيق للأعمال الصالحة، فيعترفون بنعمة الله عليهم بها، وأن نعمته عليهم فيها أعظم من نعم العافية والرزق. وكذلك يحرصون على تكميلها، وعمل كل سبب لقبولها، وعدم ردها أو نقصها. ويسألون الذي تفضل عليهم بالتوفيق لها أن يتم عليهم نعمته بقبولها، والذي تفضل عليهم بحصول أصلها أن يتمم لهم منها ما انتقصوه منها.

ويلجأون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، وعمل ما يقدرون عليه من الحسنات لجبر نقصها.

ص: 99

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [سورة الأعراف: 201] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن ومثل الإيمان كالفرس المربوط في آخيته يجول ما يجول، ثم يعود إلى آخيته» .

كذلك المؤمن يجول ما يجول في الغفلة والتجرؤ على بعض الآثام، ثم يعود سريعا إلى الإيمان الذي بنى عليه أموره كلها.

فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم ملجؤهم إلى الإيمان، ومفزعهم إلى تحقيقه، ودفع ما ينافيه ويضاده. وذلك من فضل الله عليه، ومنه.

16-

ومنها: أن الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في الموبقات المهلكة.

كما ثبت في الصحيح - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزني الزاني - حين يزني - وهو مؤمن ولا يسرق السارق - حين يسرق - وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر - حين يشرب - وهو مؤمن» الحديث.

ومن وقعت منه فإنه لضعف إيمانه، وذهاب نوره، وزوال الحياء ممن يراه حيث نهاه. وهذا معروف مشاهد.

والإيمان الصادق الصحيح، يصحبه الحياء من الله، والحب له، والرجاء القوي لثوابه، والخوف من عقابه، والنور الذي ينافي الظلمة. وهذه الأمور - التي هي من مكملات الإيمان - لا ريب أنها تأمر صاحبها بكل خير، وتزجره عن كل قبيح.

ص: 100

فأخبر؛ أن الإيمان إذا صحبه - عند وجود أسباب هذه الفواحش -؛ فإن نور إيمانه يمنعه من الوقوع فيها؛ فإن النور الذي يصحب الإيمان الصادق، ووجود حلاوة الإيمان، والحياء من الله - الذي هو من أعظم شعب الإيمان، بلا شك - يمنع من مواقعة هذه الفواحش.

17-

ومنها: أنه ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] في الصحيحين - من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها» .

وهؤلاء القسمان هم خير الخليقة؛ فإن الناس أربعة أقسام:

[الأول] : خير في نفسه، متعد خيره إلى غيره. وهو خير الأقسام. فهذا المؤمن الذي قرأ القرآن، وتعلم علوم الدين. فهو نافع لنفسه، متعد نفعه إلى غيره؛ مبارك أينما كان. كما قال الله تعالى عن عيسى [عليه السلام] :{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم: 31] .

(والثاني) : طيب في نفسه، صاحب خير. وهو المؤمن الذي ليس عنده من العلم، ما يعود به على غيره.

فهذان القسمان هما خير الخليقة؛ والخير الذي فيهم عائد إلى ما معهم من الإيمان القاصر، والمتعدي نفعه إلى الغير بحسب أحوال المؤمنين.

(والقسم الثالث) : من هو عادم للخير، ولكنه لا يتعدى ضرره إلى غيره.

(والرابع) : من هو صاحب شر على نفسه، وعلى غيره. فهذا شر الأقسام:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [سورة النحل: 88] .

ص: 101

فعاد الخير كله إلى الإيمان وتوابعه، وعاد الشر إلى فقد الإيمان، والاتصاف بضده. والله الموفق.

وشبيه بهذا المعنى، قوله صلى الله عليه وسلم:«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» .

ص: 102

فقسم صلى الله عليه وسلم المؤمنين، إلى قسمين: قسم قوي في عمله وقوة إيمانه، وفي

ص: 103

نفعه لغيره. وقسم ضعيف في هذه الأشياء.

ص: 104

ومع ذلك، ففي كل من القسمين خير؛ لأن الإيمان وآثاره كله خير، وإن

ص: 105

تفاوت المؤمنون في هذا الخير.

ص: 106

ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم» .

ومفهوم هذه النصوص الصحيحة المحكمة أن فاقد الإيمان لا خير فيه؛ لأنه إذا عدم الإيمان، فإما أن يكون الشخص أحواله كلها شر وضرر على نفسه، وعلى المجتمع من جميع الوجوه، وإما أن يكون فيه بعض الخير الذي قد انغمر بالشر. وغلب شره خيره. والمصالح إذا انغمرت واضمحلت في المفاسد، صارت شرا؛ لأن الخير الذي معه، يقابله شر نظيره فيتساقطان، ويبقى الشر - الذي لا مقابل له من الخير - يعمل عمله.

ومن تأمل الواقع في الخلق، رأى الأمر كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 107