المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجمالي بالقرآن والسنة بدون معرفة المعاني كلها أن يكتفى بمثل ذلك في الشهادتين - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين

- ‌ بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها

- ‌الأصل الأولحجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ

- ‌الأصل الثانيالحجج والشبهات

- ‌ الأصل الثالثإصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع

- ‌ أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

- ‌ فصلالمنتسبون إلى الإسلام أقسام:

- ‌بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقادوهي غير صالحةٍ للاستناد

- ‌ التقليد

- ‌ القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين

- ‌الأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ

- ‌ تفسير لفظ «إله» في كتب العقائد

- ‌ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا

- ‌ تفسير الإله بالمعبود

- ‌فصل في تفسير أهل العلم للعبادة

- ‌ حاصل ما تقدَّم في هذا الباب

الفصل: ‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجمالي بالقرآن والسنة بدون معرفة المعاني كلها أن يكتفى بمثل ذلك في الشهادتين

القتال، وقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:"هو من أهل النار"، فكاد بعض المسلمين يرتاب

(1)

.

[21]

وفي قصَّة الحديبية، ويوم أحدٍ، ووفاة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يشبه ذلك.

والمقصود أن الإيمان الإجماليَّ لا يؤمَن تزلزله أو زواله إذا جاء في التفصيل ما يخالف الرأي والهوى، ولكنَّ أُبيًّا وأضرابه كان الله تبارك وتعالى يتداركهم فورًا ويخرجهم من الظلمات إلى النور.

[22]

وإنما لم يكلِّف الله عز وجل العباد بالإيمان التفصيليِّ بجميع ما جاء به الرسول بحيث لا يُقبَل إيمان العبد حتى يعلم الشريعة من أوَّلها إلى آخرها؛ لما في ذلك من المشقَّة الشديدة، بل عدم الإمكان، فلو كلَّفهم بذلك لم يكد يصحُّ إيمان أحدٍ، فاكتُفي بالعلم التحقيقيِّ بمعنى الشهادتين مع الإيمان الإجماليِّ، ثم كُلِّف الناس بعد ذلك ما يطيقون. والتوحيد رأس الدين وعماده، ف‌

‌لا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين

.

[ب 16] فإن قيل: فما القول في صبيان المسلمين: أمسلمون أم لا؟ وفيمَن كبر منهم وبلغ ولم يعلم معنى الشهادتين تحقيقًا أمسلمٌ أم لا؟ وفيمَن قبل الإسلام من الأعاجم ونحوهم وهو لا يعلم معنى الشهادتين أيصحُّ إسلامه أم لا؟

(1)

صحيح البخاريِّ، كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 8/ 124، ح 6606. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 74، ح 112. [المؤلف]

ص: 33

قلت: هؤلاء كلُّهم مسلمون، وإنما الكلام في الإيمان المنجي؛ فالصبيُّ ومَن بلغ مجنونًا ينجوان لعدم التكليف؛ فإن الأعراب وإن كانوا يعلمون معنى الشهادتين إلَّا أنهم لم يصدِّقوا به بقلوبهم، وهؤلاء لم يعلموا معنى الشهادتين حتى يُعلَم أيصدِّقون أم لا، ولكن الشريعة قد قبلت إسلام هؤلاء وهؤلاء وأجرت عليهم أحكام المسلمين.

فإن قلت: فإذا كان رجلٌ عارفٌ بالتوحيد الذي تدلُّ عليه (لا إله إلا الله) تحقيقًا مصدِّقًا به مسلِّمًا راضيًا ملتزمًا عالمًا بموجَبه ولكنه لا يعلم معنى (لا إله إلا الله)، ومع ذلك يقولها امتثالًا مؤمنًا بها إجمالًا؟

قلت: أمَّا هذا فالأمر فيه قريبٌ، ولكن الغالب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) يكون جاهلًا بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخشى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر، [23] أو أن يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك، [ب 17] وكلا الأمرين خطرٌ شديدٌ.

ص: 34

بابٌ في أن الشرك هلاك الأبد حتمًا، وأن تكفير المسلم كفرٌ

أما الشرك ــ نعوذ بالله منه ــ فهلاك الأبد، لا هوادة فيه لأحدٍ، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].

وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

وقال عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} أي: الملائكة، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29].

وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

ص: 35

(88)

أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 83 - 89].

وقال جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) [24] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64 - 65].

وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22].

[ب 18] وقال سبحانه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].

وقال عز وجل: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 213 - 214].

وقال جلَّ ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وقال تبارك وتعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [المؤمن: 18].

هذا مع أن الله عز وجل قد عصم ملائكته وأنبياءه وخاتمهم عليهم الصلاة والسلام من الشرك ومما هو دونه، ولكن نَبَّه بما تقدَّم من الآيات المتعلقة بهم على عِظَمِ أمر الشرك وخطره، مع أنَّ التعليم والتحذير هو من جملة العصمة.

ص: 36

فصلٌ

ومما يبيِّن فظاعة الشرك وشدَّة بغض الله عز وجل له: النظر فيما ورد في تعظيم شأن ضدِّه وهو التوحيد.

قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

جاء عن ابن عبَّاسٍ وغيره تفسير العبادة بالتوحيد

(1)

. ووَجْه ذلك: أن الله عز وجل يحبُّ أن يُعبد العبادة التي يقبلها، وهو لا يقبل إلا العبادة الخالصة التي لا شرك معها.

[25]

ومما يبيِّن عظمة شأن التوحيد وشدَّة خطر الشرك: أن أعظم سورة في القرآن، والسورة التي تعدل ثلثه، وإنما هي بضع عشرة كلمة، والسورة التي ورد أنها تعدل ربعه، وأعظم آية في القرآن= كلُّها مبنيَّةٌ على توحيد العبادة.

أما أعظم سورة في القرآن فأمُّ الكتاب.

روى البخاريُّ وغيره عن أبي سعيد بن المعلَّى أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "ألا أعلِّمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ "، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج، قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلِّمنَّك أعظم سورةٍ من القرآن، قال:" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"

(2)

.

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 385، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 - 60 كلاهما من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (اعبدوا ربكم) أي: وحِّدوا ربكم ..

(2)

صحيح البخاريِّ، [كتاب] فضائل القرآن، باب [فضل] فاتحة الكتاب، 6/ 187، ح 5006. [المؤلف]

ص: 37

أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].

وجاء نحوه من حديث أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي هريرة

(1)

.

وصحَّ في عدَّة أحاديث تسميتها أمَّ الكتاب وأمَّ القرآن. وفي ذلك أوضح الدَّلالة على أنها أعظم السور؛ لأن أمَّ الشيء في اللغة أعظم ما فيه، يُقال للدِّماغ: أمُّ الرأس.

[ب 19] ومما يدل على عظمتها: أن الله تبارك وتعالى فرض قراءتها في كلِّ ركعةٍ من الصلاة، فانظر كم شُرِع تكرارها كلَّ يومٍ، والصلاة أعظم الفرائض الدينيَّة.

وجاء أن الفاتحة هي الصلاة؛ ففي صحيح مسلمٍ وغيره من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم: "قال الله تعالى: قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله تعالى: حمدني [26] عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي" الحديث، فصَّل فيه الفاتحة فقط فجعلها هي الصلاة

(2)

. ويشهد لذلك تسمية الصلاة صلاةً، فإن الصلاة في اللغة: الدعاء، وليس في الصلاة دعاءٌ أعظم من الفاتحة، والشيء إنما يسمَّى باسم جزئه إذا كان ذلك الجزء كأنه كلُّه.

(1)

المستدرك، [كتاب فضائل القرآن، "ما أُنزِلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل فاتحة الكتاب"]، 1/ 557 - 558. [المؤلف]

(2)

صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، 2/ 9، ح 395. [المؤلف]

ص: 38

وبيان كون الفاتحة مبنيَّةً على توحيد العبادة: أن صدر السورة تمهيدٌ لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

فقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] معناه كما حقَّقه المفسِّرون وغيرهم: لا نبتدئ بشيءٍ مستعينين به أو متبرِّكين إلا باسم الله الرحمن الرحيم، وتَضَمُّنُ هذا للتوحيد ظاهر.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه على ما حقَّقه المفسرون وغيرهم: كلُّ حمدٍ فهو مستحَقٌّ لله وحده، أي ليس معه تعالى أحدٌ يستحقُّ شيئًا من الحمد، وإيضاحه: أنَّ الكمالات التي يُسْتَحَقُّ عليها الحمد كلُّها لله عز وجل؛ فإنَّ ما يُنْسَب إلى غيره من الكمالات فهو أثرٌ من آثار خلقه تعالى وفضله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].

رُوِي عن جعفر بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن عليٍّ عليهم السلام قال: فَقَدَ أبي بغلة له فقال: لئن ردَّها الله عز وجل لأحمدنَّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتِيَ بها بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها وضَمَّ عليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد عليها، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركتُ أو أبقيتُ شيئًا؟ جعلتُ الحمد كلَّه لله عز وجل

(1)

.

وإذا كان لا يستحق شيئًا من الحمد إلا الله عز وجل، فقد بان من ذلك أنه لا يَستحق غيرُه تعالى شيئًا من العبادة.

(1)

صفة الصفوة 2/ 62. [المؤلف]. وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ص 54، ح 106. ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 186، وفي إسناده محمد بن مسعر، لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا.

ص: 39

قال ابن جريرٍ: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشكر خالصًا لله جَلَّ ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه ودون كُلِّ ما يُرَى من خلقه"

(1)

.

[ب 20]{رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي مالكهم ومدبِّرهم، بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، يدبِّر الأمر كلَّه، فكيف يعبد أحدٌ من عباده المخلوقين المربوبين عبدًا مخلوقًا مربوبًا مثله؟ !

[27]

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا إبطالٌ لما توهَّمه بعض المشركين بل جميعهم كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في بيان اعتقاد قدماء المصريِّين

(2)

، توهَّموا أن الناس لحقارتهم وجهلهم وفجورهم لا ينبغي لهم أو لا يغنيهم التوجُّه إلى مَن له الكبرياء والجلال والعظمة تبارك وتعالى، بل لا بدَّ لهم أن يتوجَّهوا إلى المقرَّبين عنده كالروحانيِّين والصالحين ليكونوا شفعاءهم عند الله ويقرِّبوهم إليه زُلفى؛ لأنهم متوسِّطون بين الجبار عز وجل وبين سائر الخلق، فدرجتهم لا ترفعهم عن الالتفات إلى العامَّة ولا تضعهم عن نظر الجبَّار تعالى إليهم وقبول شفاعتهم.

ويقول بعضهم: إذا كثرت ذنوب الإنسان كان حريًّا بألَّا تناله رحمة العزيز الجبَّار إلا أن يشفع له أحد المقرَّبين، وهذا جهلٌ برحمة الله تعالى التي قال فيها:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال جلَّ ثناؤه:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ، إلى قوله:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [المؤمن: 7]. وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

(1)

تفسير ابن جرير 1/ 45. [المؤلف]

(2)

انظر ص 700 فما بعدها.

ص: 40

[28]

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه ردٌّ على مَن يقول: أما الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يوسِّع فيها على البرِّ والفاجر؛ فيمكن ألَّا يحتاج المخلوق فيها إلى شفاعةٍ، وأما الآخرة فلا غنى فيها عن الشفاعة؛ فأخبر الله تعالى أنه مالك يوم الدِّين بما فيه، فهو الذي يملك الشفاعة والشافعَ والمشفوعَ له، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43]، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].

فمَن تدبَّر الآيات المتقدِّمة من الفاتحة واستحضر ما تضمنته من دلائل التوحيد لم يبقَ عنده ريب في أنَّ الله عز وجل هو وحده المستحق للعبادة، فإذا كان مع ذلك مستحضرًا أنه قائمٌ بين يدي ربِّ العالمين يثني عليه ويتضرَّع إليه، لم يتمالك نفسه أن يقول بلسانه وقلبه وعقله:[ب 21]{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ومعنى ذلك كما أطبق عليه المفسرون وأهل العربية وأهل المعاني: نَخُصُّك اللَّهمَّ بعبادتنا ونَخُصُّك باستعانتنا، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين أحدًا سواك.

وعبارة ابن جريرٍ: "وتأويل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربنا بالربوبيَّة". ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ قال: "قال جبريل لمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم: قل يا محمَّد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نُوَحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك"، إلى أن قال ابن جريرٍ: "ومعنى قوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : وإيَّاك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحدًا سواك، إذ كان مَنْ يكفر [29] بك يستعين بسواك، ونحن

ص: 41

بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة". ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: "إيَّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلِّها"

(1)

.

وعلاقة بقيَّة السورة بالتوحيد تظهر بالتدبُّر.

ثم رأيت في نظم الدرر للعلامة البقاعيِّ تلميذ الحافظ ابن حجرٍ في الكلام على الفاتحة ما لفظه: "فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو: إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال واختصاصه بملك الدنيا والآخرة وباستحقاق العبادة .... ، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم. والمقصود من جَمْعهم تعريفهم بالمَلِكِ وبما يرضيه وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة لإفراده بالعبادة فهو مقصود الفاتحة بالذات، وغيره وسائل إليه ..... ؛ لأن [المقصود من]

(2)

إرسال الرسل وإنزال الكتب: نصبُ الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع: جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم: تعريفهم بالملِك وبما يرضيه، وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأوَّل"

(3)

.

أقول: ويتلخَّص من كلامه بإيضاحٍ أنَّ مقصود الشرائع مجموعٌ في

(1)

تفسير ابن جريرٍ 1/ 52. [المؤلف]

(2)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، وأضفته من المطبوع.

(3)

كذا نقلته من أوراقٍ مأخوذةٍ بالتصوير عن نسخةٍ قلميَّةٍ محفوظةٍ بدار الكتب المصريَّة أو بإحدى مكاتب إسلامبول. [المؤلف]. وهو في المطبوع 1/ 20 - 22. وقد وضع المؤلف هنا في نسخة (أ) كلمة (ملحق). واستوفى في هذا الملحق المستقلِّ الكلامَ على سورتي الإخلاص والكافرون.

ص: 42

الإسلام، ومقصود الإسلام مضمَّنٌ في القرآن، ومقصود القرآن منتظمٌ في الفاتحة، ومقصود الفاتحة في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وتقرير هذا يُحْوِج إلى إطالةٍ، ويكفي في إثباته قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

[ب 22] وأما السورة التي تعدل ثلث القرآن، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ففي صحيح البخاري "عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، يردِّدها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، وكأَن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، إنها لتعدِل ثلثَ القرآن""

(1)

.

وفي صحيح مسلم "عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلته ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن". وفيه: "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احشُدوا

(2)

فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشَد مَن حشَد، ثم خرج نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرٌ

(3)

جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبيُّ الله صلى الله عليه

(1)

صحيح البخاري، فضائل القرآن، فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، 6/ 189، ح 5013. [المؤلف]

(2)

يعني: اجتمِعوا واستحضروا الناس. النهاية 1/ 388.

(3)

كذا في الأصل وصحيح مسلم، وفي إحدى نُسخ صحيح مسلم بالنصب.

ص: 43

وآله وسلم فقال: إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن"

(1)

.

وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث أخرى في هذا المعنى وفي فضلها.

فأما بناؤها على توحيد العبادة فإن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} معناه عند السلف ما لخَّصه ابن جرير في قوله: "هو الله الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح لشيء سواه"

(2)

.

ومَن حمله على أَحديَّة الذات أو على ما يشمل الأمرين فالمراد بأحديَّة الذات، والله أعلم، الرَّدُّ على النصارى في قولهم:(ثلاثة أقانيم)، وانجرُّوا بذلك إلى القول بأن عيسى إله يستحق العبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك، وعلى هذا فإثبات أحديَّة الذات مقصود منه إثبات الأحديَّة في استحقاق العبادة.

{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} ، ساق ابن جرير آثارًا في تفسيره ثم قال: "قال أبو جعفر: الصمد عند العرب هو السيد الذي يُصْمَد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمِّي أشرافَها، ومنه قول الشاعر

(3)

:

(1)

صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . [المؤلف]

(2)

تفسيره 3/ 195. [المؤلف]

(3)

نُسب البيت إلى (هند) بنت معبد الأسدية. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 254، ومعجم ما استعجم 2/ 996، والبيان والتبيين 1/ 180، وخزانة الأدب 11/ 269.

ونُسب أيضًا إلى سبرة بن عمرو الأسدي. انظر: شرح أبيات إصلاح المنطق 151، وسمط اللآلي 2/ 933، ولسان العرب مادة (خير).

ص: 44

ألا بكَّر الناعي بخيري بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَد

وقال الزِّبْرِقان

(1)

:

ولا رهينة إلا سيِّد صمد

فإذا كان كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام مَن نزل القرآن بلسانه"

(2)

.

[ب 23] وفي الكشاف

(3)

: "الصمد فَعَل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج".

أقول: وإنما زاد ابن جرير قوله: "الذي لا أحد فوقه" لما فهمه والله أعلم من الحصر في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، أي: لا صَمَد إلَّا الله، وقد نص غيره على الحصر وأنه لأجله عُرِّف (الصمد) دون (أحد)؛ لأن المشركين لم يدَّعوا الأحديَّة لغير الله عز وجل، وإنما ادَّعوا الصمدية فأتى بالحصر ردًّا عليهم. وقد نص أهل البلاغة في بحث المسند أنَّ نحو "زيد الأمير" قد يفيد القصر، أي: لا أمير إلا زيد.

وكأن ابن جرير رأى أن غير الله تعالى قد يصمد الناس إليه كالملوك والرؤساء وأن الصمْد إليهم قد يكون مباحًا، فرأى أنه لا يتأتَّى الحصرُ إلا مع

(1)

مجاز القرآن 2/ 316. انظر: الأمالي لابي علي القالي 2/ 288، وفرحة الأديب للغندجاني 177. وصدره:

ساروا إلينا جميعًا فاحتملوا

(2)

تفسيره 30/ 197. [المؤلف]

(3)

4/ 242.

ص: 45

الزيادة المذكورة "الذي لا أحد فوقه"، والصواب: أنه لا حاجة إليها، ولكن الصمد في الآية صمد خاص تعيِّنه القرائن، وسيأتي بيانه في تحقيق الدعاء إن شاء الله تعالى، وهذا الصَّمْد الخاصُّ عبادة لا يستحقه إلَّا الله تعالى.

{لَمْ يَلِدْ} ردٌّ على من زعم أن لله تعالى ولدًا، ومنهم مشركو العرب في قولهم:(الملائكة بنات الله)، والنصارى في شأن عيسى وغيرهم، وهؤلاء زعموا لله تعالى ولدًا ثم أشركوا ذلك المزعوم أنه ولد في العبادة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

{وَلَمْ يُولَدْ} فيه رد على النصارى في قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72]، ثم عبدوه مع أنه مولود.

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فيه [ردٌّ]

(1)

على جميع أصناف المشركين الذين يؤلهون غير الله، فإنهم يجعلونهم أكفاءً له من حيث استحقاق العبادة وإن كانوا لا يسوُّونهم به في كل شيء، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى. ولبناء هذه السورة على توحيد العبادة سميت سورة الإخلاص، والله أعلم.

وأما السورة التي ورد فيها أنها تعدل ربع القرآن فـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، ففي روح المعاني

(2)

: "وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط

(3)

عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخر أخرجه في

(1)

زيادة يحتِّمها السياق.

(2)

30/ 249.

(3)

1/ 61، ح 186، وفي إسناده: عُبَيد الله بن زحرٍ، وفيه مقالٌ. وأخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن، " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن"، 1/ 566 (سقط من الأصل وهو في التلخيص). وقال:"صحيحٌ"، فتعقَّبه الذهبي فقال:"بل جعفر بن ميسرة منكر الحديث جدًّا، قاله أبو حاتمٍ. وغسَّان ــ يعني ابن الربيع ــ ضعَّفه الدارقطنيُّ". وانظر الآتي.

ص: 46

الصغير

(1)

عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن".

وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم من طريق فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا أقوله إذا أويت إلى فراشي، قال:"اقرأ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقره الذهبي

(2)

.

(1)

1/ 114، وفي إسناده: زكريا بن عطية. قال أبو حاتم: "منكر الحديث". وقال العُقيلي في حديثه هذا: "لا يتابع عليه". انظر: الجرح والتعديل 3/ 599، الضعفاء 2/ 85.

وورد من حديث أنس، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} 5/ 166، ح 2895. وأحمد 3/ 146 و 221. من طريق سلمة بن وردان عنه. قال الترمذي:"حديث حسن". وأخرجه الترمذي أيضًا في الموضع السابق 5/ 165 - 166، ح 2893. من طريق ثابتٍ عنه. وقال:"حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ: الحسن بن سلم".

ومن حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي في الموضع السابق 5/ 166، ح 2894. والحاكم في كتاب فضائل القرآن، " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن". قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث يمان بن مغيرة". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقَّبه الذهبي فقال:"بل يمان ضعَّفوه".

(2)

المستدرك، كتاب فضائل القرآن، قراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} براءةٌ من الشرك، 1/ 565. وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبي. [المؤلف].

قلت: وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، 4/ 313، ح 5055. وجامع الترمذي. كتاب الدعوات، باب 22، 5/ 474، ح 3403. وقال: "وقد اضطرب أصحاب أبي إسحاق في هذا الحديث

". وعمل اليوم والليلة للنسائي، قراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند النوم

، ص 468 - 469، ح 801 - 804. وصحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب قراءة القرآن، ذكر الأمر بقراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لمن أراد أن يأخذ مضجعه، 3/ 69 - 70، ح 789 - 790].

ص: 47

وجاء نحوه من حديث جَبَلة بن حارثة

(1)

، وهو كما في الإصابة في ترجمته:"حديث متصل صحيح الإسناد"

(2)

.

[ب 24] وورد نحوه من حديث أنس، أخرجه البيهقي في الشعب

(3)

، ومن حديث خبَّاب أخرجه البزار وابن مردويه

(4)

، ذكرهما في روح

(1)

أخرجه أحمد 5/ 457، والنسائي في عمل اليوم والليلة، الموضع السابق، ص 467، ح 800، والطبراني في الكبير 2/ 287، ح 2195، وفي الأوسط 1/ 272، ح 888، و 2/ 275، ح 1968. قال الهيثمي:"ورجاله وُثِّقوا". مجمع الزوائد 10/ 166. وفي إسناده اختلافٌ بيَّنه النسائي في الموضع المذكور، وانظر: العلل للدارقطني 13/ 277، س 3174.

(2)

الإصابة 2/ 159.

(3)

انظر: شعب الإيمان، باب في تعظيم القرآن، فصل في فضائل السور والآيات، ذكر سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 5/ 461 - 462، ح 2291. قال البيهقي:"هو بهذا الإسناد منكر".

(4)

انظر: مختصر زوائد البزَّار 2/ 416، ح 2122. والمعجم الكبير للطبراني 4/ 81، ح 3708. وليس فيه: "فإنها براءةٌ من الشرك". والدر المنثور 8/ 657 - 658. وفي إسناده شريك بن عبد الله، وهو صدوق اختلط. وجابرٌ الجعفيُّ، وهو ضعيف.

ص: 48

المعاني

(1)

قال: "وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "ألا أدلُّكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله؟ تقرؤون: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند منامكم"

(2)

.

فأما بناؤها على توحيد العبادة فظاهر.

وأما الآية فآية الكرسي؛ ففي صحيح مسلم وغيره "عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فضرب في صدري: وقال: والله ليَهْنِك العلمُ، أبا المنذر"

(3)

.

وقد وردت في فضلها أحاديث أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا.

وأما بيان بنائها على توحيد العبادة فهاكه:

(1)

30/ 249.

(2)

أخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية 15/ 452، ح 3786، والطبراني في المعجم الكبير 12/ 241، ح 12993. قال الهيثمي:"وفيه جبارة بن المغلس، وهو ضعيف جدًّا". مجمع الزوائد 10/ 167.

(3)

صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي. [المؤلف]

ص: 49

قال تعالى في الآية التي قبلها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].

المراد، والله أعلم، بنفي الخلَّة: ما لم يكن في طاعته، كما قال تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وهذه الآية تقدَّمها في سورة الزخرف ذكر شأن مشركي العرب في عبادتهم الملائكة، وقولهم:"بنات الله"، وذكر شأن النصارى في عبادتهم عيسى وقولهم:"ابن الله"، فيظهر من هذا أن قوله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ} الآية فيه إشارة إلى ذلك، أي أن مشركي العرب يحبون الملائكة ويعبدونهم، والنصارى يحبون المسيح ويعبدونه، فإذا كان يوم القيامة كان الملائكة والمسيح أعداء لمن عبدهم من دون الله، وقد بين الله عز وجل ذلك في مواضع من القرآن كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وهكذا قوله: {وَلَا شَفَاعَةٌ} المراد بها، والله أعلم، الشفاعة التي يطمع فيها المشركون من الملائكة وعيسى ونحوهم، فأمر الله عز وجل المؤمنين ألَّا يتَّكلوا على الشفاعة التي يتَّكل عليها المشركون، ونبَّه على ذلك بقوله:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

ثم رد الله تعالى على الكافرين زعمهم وبيَّن حقيقة الشفاعة بقوله: [30]{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرٌ برهن عليه بما [ب 25] يعترف به المشركون وغيرهم، وهو أنه عز وجل:

ص: 50

{الْحَيُّ} وحياته عز وجل حياة ذاتية تامة كاملة، نسبة حياة الملائكة والجن والإنس إليها أضعف من نسبة موتهم إلى حياتهم. وإلى هذا ــ والله أعلم ــ أشار سبحانه بقوله:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21].

المدعوُّون هنا الملائكة أو هُم وغيرهم، وصفهم سبحانه بأنهم أموات غير أحياء، أي بالنظر إلى الحياة الكاملة، وهي حياته سبحانه وتعالى. وسيأتي الكلام على هذه الآية إن شاء الله تعالى.

{الْقَيُّومُ} قال الراغب

(1)

: "أي القائم الحافظ لكل شيءٍ والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] "، ولا أحد سواه تعالى يشاركه في ذلك ولا يقاربه.

{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، فيه توضيح لكمال حياته وقيُّوميَّته.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، بما فيه الداعون من دونه والمدعوون وغيرهم، وكل خير وشر يحتاج المخلوق إلى جلبه أو دفعه.

فهذه الصفات يعترف بها المشركون لله عز وجل ويعترفون باختصاصه بها؛ فثبت بها أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لأن العبادة إن كانت إجلالًا فالله هو الجليل على الحقيقة، وإن كانت شكرًا فهو المنعم على الحقيقة، وإن كانت استجلابًا لنفعٍ أو استدفاعًا لضرٍّ فهو سبحانه

(1)

المفردات 691.

ص: 51

الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، والمشركون يعترفون بهذا كلِّه، إلا أنهم يقولون: الذين نعبدهم من دون الله هم مقربون لديه يشفعون إليه، فلما ثبت أنَّه سبحانه وتعالى قرّبهم وجعل لهم أن يشفعوا إليه لزم من ذلك أن لا يمنع غيرهم من عبادتهم طلبًا لشفاعتهم؛ لأن ذلك ينفع العابد ولا يضرُّ الله تعالى. وعلى ذلك قولهم فيما حكاه الله عز وجل عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقولهم:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، فأبطل الله تعالى شبهتهم بقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الاستفهام بمعنى النفي، كما قال تعالى في موضع آخر:[31]{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3].

والمشركون يسلِّمون أنه لا يشفع أحد عنده بغير إذنه، ولكنهم يتوهَّمون أنه سبحانه قد أذن للمقرَّبين في الشفاعة إذنًا عامًّا، فدفع سبحانه وتعالى ذلك بقوله:[ب 26]{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، فهو سبحانه العالم بكل شيءٍ بالمشفوع له وما قُدِّر له، وبالشافع وشفاعته وغير ذلك، والمقرَّبون لا يحيطون بشيءٍ من علمه إلَّا بما شاء، فلا يعلمون بالمشفوع له ولا بحقيقة عمله ولا حقيقة ما يستحقه ولا ما قدر له ولا بأن الشفاعة له صواب يشاؤه الله ويرتضيه، لا يعلمون شيئًا من هذا إلا إذا شاء الله تعالى أن يعلموا، وقد ثبت أنهم مملوكون لله عز وجل مبالغون في طاعته، فيُعْلَم من هذا أنهم لا يشفعون لأحدٍ إلَّا بعد أن يأذن الله تعالى لهم أن يشفعوا له، وأنه سبحانه لا يأذن لهم إلا بعد أن يشاء شفاعتهم لذلك الشخص ويرتضيها ويعلم أنها صواب، كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ

ص: 52

فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال عز وجل:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، [32] وقال تبارك وتعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28].

ومَن تدبَّر هذا كلَّه علم أنَّ شفاعة المقرَّبين لا تقع إلَّا لمن أراد الله عز وجل أن ينفعه، ومَن أراد الله عز وجل أن ينفعه فلا بد أن ينفعه، فإن كان قد قضى أن ذلك النفع يكون بعد شفاعة فإنه سبحانه يأمر بها الشفيع فيشفع طاعة لربه ومسارعة في مرضاته.

وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لطلب الشفاعة من المقربين، ولا لتعظيمهم لكي يشفعوا. فإذا كان الطلب والتعظيم عبادة فهو مع ذلك موجِبٌ لغضب الله عز وجل على فاعله، لأنه أشرك به غيره، فكيف يرجو منه أن يجازيه على ذلك بأن يرتضيه ويرضى له النفع، ويأذن في الشفاعة له ويرضاها؟ بل وموجِبٌ لغضب المقربين على الفاعل؛ لأنهم ما تقرَّبوا إلا بطاعتهم لربهم وحبهم لرضاه حبًّا أفناهم عن غيره من الحظوظ والأغراض.

فأما ما ثبت بسلطان أن الله عز وجل أمر به وأذن فيه مما فيه توقير للمقربين فإنه عبادة لله تعالى، كما سيأتي تحقيقه بأدلته، والحق على الناس أن يقتصروا عليه، والله الموفق.

[ب 27] {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ

ص: 53

الْعَظِيمُ}.

في هذا وفيما قبله إبطال لما يتوهَّمه بعض الأمم من أن الله عز وجل يَكِلُ كثيرًا من تدبير العالم إلى الرُّوحانيِّين والأرواح، فيدبِّرون كما يريدون، ويزيد بعضهم فيتوهَّم أنَّ الله تبارك وتعالى لا يقدر على التدبير بغير معونة الرُّوحانيين والأرواح، ويغلو بعضهم فيجحد علم الله تعالى بالجزئيات، أو يشكُّ فيه. وسيأتي بسط الكلام على هذا وذكر الآيات الصريحة في إبطاله إن شاء الله تعالى.

[33]

هذا، والآيات المبيِّنة خطر الشرك كثيرة جدًّا، وفيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى.

وأمَّا رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، فحسبك من خطره ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ مَن كفَّر مسلمًا فقد كفر

(1)

.

على أنَّ مَن لم يحط علمًا بمعنى لا إله إلا الله على سبيل التحقيق فهو نفسه على خطر أن يكون مشركًا، أو يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يشعر، فالأَولى به أن يبادر إلى تخليص نفسه.

وقد جاء من حديث أبي موسى: "خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخْفَى من دبيب النمل".

(1)

انظر: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب مَن كفَّر أخاه

، 8/ 26، والباب الذي يليه. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، 1/ 56. [المؤلف]

ص: 54

الحديث، رواه الإمام أحمد

(1)

، وجاء مثله من حديث عائشة، رواه الحاكم في المستدرك

(2)

. ونحوه من حديث أبي بكر الصديق وابن عباس

(3)

.

وسيأتي

(4)

إن شاء الله تفصيل هذه الأحاديث، والكلام على أسانيدها

(5)

، وبيان أن في سياقها ما يدل أنه أريد بها الشرك الحقيقي كما هو الظاهر، لا الشرك الأصغر الذي هو الرئاء.

(1)

المسند 4/ 403. [المؤلف]

(2)

3/ 391. [المؤلف]

(3)

انظر: كنز العمال 2/ 97 و 98 و 169. [المؤلف]

(4)

641. [المؤلف]. وانظر ص 989 فما بعدها في كلامه عن القسم بغير الله.

(5)

انظر ص 143 فما بعدها.

ص: 55