الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الحشويَّة فإن أراد بهم أهل الحديث المتَّبعين للسلف فقد سبق الجواب عنهم، وأنهم إنما ينكرون النظر على الطريق الفلسفيَّة ويوجبون النظر على الطريق السلفيَّة.
وأما التعليميَّة
(1)
فهم عند عامَّة المسلمين مبتدعةٌ، ومن المسلمين مَن يكفِّرهم. والمعروف عنهم أنهم إنما يرون الاتِّباع للإمام؛ لأنه عندهم معصومٌ، فاتِّباعه في زعمهم ليس بتقليدٍ بالمعنى المتعارَف.
وبالجملة ف
الأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ
، والله أعلم
(2)
.
واعلم أنه لا فرق في التقليد بين أن يكون لعالم واحد وأن يكون لجماعة من العلماء /
(3)
وإن اشتهر أنهم أهل السنة وأن مخالفهم من أهل البدعة.
أولًا: لأن اشتهار أن هذا قول أهل السنة جميعهم قد يكون غير صحيح، ويكون جماعة من أئمة السنة على خلافه. بل قد يكون القول الذي زعموا لك أنه قول أهل السنة إنما هو قول طائفة من المتأخرين، ويكون قول سلف هذه الأمة الذين هم أهل السنة في الحقيقة
(4)
على خلافه، وسيأتي قريبًا قول ابن مسعود وحذيفة وغيرهما: إنها ستنتشر البدع ويألفها الناس حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: قد تُرِكَت السنة، وأن ذلك في حكم المرفوع، على أنها
(1)
من ألقاب الباطنية، وسبق التعريف بهم قريبًا. وقد كفَّرهم الغزالي وغيره. راجع: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير، وفضائح الباطنية للغزالي. وانظر: مجموع الفتاوى 19/ 186 - 187.
(2)
هنا ينتهي ما أخذناه من النسخة ب.
(3)
من هنا يبدأ ملحق ص: 43، وهو سبع ورقاتٍ.
(4)
ولا يخرج الحق عما يجتمعون عليه. انظر منهاج السنة النبوية 5/ 166.
ستأتي أحاديث كثيرة تفيد هذا المعنى.
ثانيًا: أن قول أهل السنة وحدهم ليس بإجماع، فلا يكون حجة كما هو مقرَّر في أصول الفقه، قال الإمام الغزالي: «المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه، إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق، وخلاف المجتهد الفاسق معتبر
…
والمبتدع ثقة يقبل قوله؛ فإنه ليس يدري أنه فاسق
…
»
(1)
.
وإذا لم يكن حجة مطلقًا فكيف يكون حجة في العقائد التي لا يصح بناؤها إلا على الحجج القطعية المفيدة لليقين؟
ثالثًا: أن أهل السنة إنما حصل لهم الشرف باتباع الكتاب والسنة، فإنما يكون تقليدهم فيما يجوز فيه التقليد أولى لأن الظاهر أن قولهم موافق للكتاب والسنة، فإذا فُرِضَ أنه تبيَّن بالبحث والتحقيق أنهم قالوا في مسألة خلاف ما يدل عليه الكتاب والسنة فلا قيمة لقولهم فيها.
وإنما ننبِّهك على هذا؛ لأنَّ مِنْ طَبْع الإنسان أنه إذا عرف في طائفة أنهم على الحق في كثير من المسائل، وعرف في طائفة أخرى أنهم على باطل في كثير من المسائل، ثم ذكرت له مسألة اختلفت الطائفتان فيها، فإنه يتسرَّع إلى الحكم بأن الحقَّ فيها مع الطائفة الأولى، ولو لم يعرف لهم حجَّة، بل قد تُتْلى عليه الحجج الموافقة للطائفة الثانية، وتكون قويَّة ولا يعرف حجَّة للطائفة الأولى، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك الوهم عنه، وهذا من أشنع الغلط.
وفي الحديث: «الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ
(1)
المستصفى 1/ 183. [المؤلف]
بها»، أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا
(1)
.
وأخرج الديلمي وابن عساكر نحوه من حديث علي عليه السلام كما «في المقاصد الحسنة» للسخاوي.
أقول: ومعناه صحيح يشهد له الكتاب والسنة. ومما يشهد له من السنة حديث أحمد وغيره في اليهوديّ الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكم تشركون وتندِّدون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن ذلك
(2)
، وسيأتي هذا الحديث وما في معناه إن شاء الله تعالى.
وحديث الحكمة يُشير إلى أمور: منها: أن الحق كثيرًا ما يوجد عند مَنْ ليس من أهله فضلًا عمن أسيئت سمعته، ولهذا قال:«فهو أحق بها» يريد: فهو أحق بها ممن وجدها عنده، وذلك صريح في أنه وجدها عند من ليس من أهلها. بل قوله:«ضالة المؤمن» إلخ صريح في أنه قد توجد الحكمة عند كافر. ولهذا يكون المؤمن أحق بها ممن وجدها عنده؛ إذ لو وجدها عند مؤمن لكان كلٌّ منهما حقيقًا بها، وإذا أمكن وجودها عند كافر فإمكان وجودها عند مبتدعٍ أو فاسقٍ أولى.
(1)
جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 2/ 115، ح 2687. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، 2/ 281، ح 4169. قال الترمذيّ: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضَعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه» . اهـ. [المؤلف]
(2)
انظر: المسند 6/ 371 - 372، سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة، 7/ 7. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في صحيح سنن النسائيّ، برقم 3773.
ومنها: أنه قد لا يوجد الحق في بعض المسائل عند من اشتهر بالحق؛ لأن من شأن الضالة أنها تقع في محلٍّ غير مناسب لها فلا توجد إلا فيه، ولا توجد في المحلِّ المناسب لها، فمن اقتصر على طلبها في المواضع المناسبة لها لم يظفر بها.
ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يستنكف عن طلب الحق عند من اشتهر بخلاف الحق ولا عن قبوله منه، فإن من ضلّ خاتمه مثلًا فوجده في كُنَاسَة أو بيد مشرك أو مبتدع أو من يلابس القاذورات مثلًا لم يمنعه ذلك من أخذه، ولو امتنع لعُدَّ أحمق.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يتعرَّف الحق من حيث هو حق، ولا يلتفت إلى حال من قاله، حتى لو اختلف عليه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل لم يحمله ذلك على تلقّي كلام الوليِّ أو العالم بالقبول بدون تحقُّق أنه الحق، كما أن من ضلّ خاتمه مثلًا فلقيه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل بيد كلٍّ منهما خاتم يقول له: أرى أن هذا خاتمك لم يلتفت إلى جلالة الوليّ أو الإمام ودناءة الفاجر أو الجاهل، بل يتأمَّل الخاتمين فأيُّهما عرف أنه خاتمه أَخَذَه، وإن كان هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل.
ومنها: أن ترك الأخذ بقول وليٍّ أو إمام لا يكون تحقيرًا له ولا استخفافًا بحقه؛ فإن من عرف أن خاتمه هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل، فأخذه وترك الذي بيد الوليِّ أو الإمام لم يُعَدَّ مُهينًا لهذين ولا مُسيئًا إليهما كما أنه لا يُعَدُّ معظِّمًا مبجلًا لذلك الفاجر أو الجاهل، وإن كان عليه شكره.
ومن أمعن في تدبُّر الحديث ظهر له أكثر مما ذكرنا.
ومما يحسن ذكره هنا قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].
تقول العرب: جَرَمَه بُغْضِي أن يظلمني أو على أن يظلمني أي: جعله بغضي يكسب ظلمي الذي هو جُرْمٌ، أي: ذنب.
ومن العدوان وترك العدل أن تردَّ قول العالم بدون حجة، ولكن لأنك تسيء الظنّ به أو لأن كثيرًا من الناس أو أكثرهم يخالفونه ويدَّعون عليه أنه يخالف الحقَّ في بعض المسائل. وكما أن هذا عدوان على ذلك العالم، فهو عدوان على الحق أيضًا؛ لأن عليك أن تطلبه بالحجة والبرهان، فَتَرَكْتَ ذلك، وعدوانٌ على نفسك أيضًا؛ لأنك ظالم لها.
والحاصل: أن طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء كان عليه أن ينصب نفسه منصب القاضي فيسمع قولَ كلِّ واحد منهم وحجته، ثم يقضي بالقسط، فكما أن القاضي إذا اختصم إليه وليٌّ وفاجر أو مؤمن وكافر ليس له أن يقضي للوليِّ أو المؤمن بدون حجة، ولا أن يسمع منه ويُعْرِضَ عن خصمه، ولا أن يمتنع عن الحكم للفاجر أو الكافر إذا توجَّه له الحق، فكذلك طالب الحق في المسائل المختلف فيها.
ولعلك قد بلغك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أيام خلافته أنه رافع يهوديًا إلى القاضي شريح وبيد اليهودي درعٌ،
فادَّعى أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: «إنها درعي» ، فأنكر اليهودي، ولم يكن لأمير المؤمنين بينة، فقضى القاضي لليهودي، فلما رأى اليهوديّ ذلك أسلم واعترف بأن الدرع درع أمير المؤمنين، فلما رأى أمير المؤمنين إسلامه واعترافه وهب له الدِّرْعَ.
والقصة ثابتة في كتب الحديث والتاريخ
(1)
.
وبعض الناس يتوهَّم أنَّ مثل هذا الحكم إنما هو من باب طرد القواعد، وإلَّا فلا ريب في صحة قول أمير المؤمنين وبطلان قول اليهوديّ. وفيه أنه يجوز خلاف ذلك لجواز أن يكون أمير المؤمنين وَهَبَها أو باعها ثم نسي أو اشتبهت عليه درع بدرع أو نحو ذلك، فتدبَّرْ. والله أعلم.
واعلم أن أكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، وإنما نصبوا أنفسهم منصب المحامين، كلٌّ عن المذهب المنتسِب إليه
(2)
. فعلى طالب الحق أن ينزلهم منازلهم فلا يعدّهم قضاة يُقْبل قولهم في تأييد المذهب المنتسبين إليه وتخطئة غيره، بل عليه أن يعرف أنهم محامون عن مذاهبهم، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي.
ورُوِّينا من حديث عليٍّ بن أبي طالبٍ عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فسوف تدري كيف تقضي» . قال عليٌّ: «فما زلت قاضيًا
(1)
انظر: سنن البيهقيّ، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين
…
10/ 136. [المؤلف]
(2)
كذا في الأصل، والجادَّة إظهار الفاعل، فيُقال: المنتسِب هو إليه.
بَعْدُ». رواه أحمد، والترمذيّ وحسَّنه، وأبو داود، وقوَّاه ابن المدينيّ، وصحَّحه ابن حِبَّان
(1)
. وله شاهدٌ عند الحاكم من حديث ابن عبَّاسٍ
(2)
. كذا في بلوغ المرام
(3)
.
واشتهر من قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام: «لا تنظر إلى مَنْ قال وانظر إلى ما قال»
(4)
، وسيأتي كثيرٌ مما يؤيِّد هذا المعنى.
وقال الإمام الغزالي: «الغلطة الثالثة: سببها سَبْقُ الوهم إلى العكس، فإنَّ ما يُرَى مقرونًا بالشيء يُظَنُّ أنَّ الشيء أيضًا لا محالة مقرون به مطلقًا، ولا يُدْرَى أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرون بالأعمِّ، والأعمُّ لا يلزم أن يكون مقرونًا بالأخص. ومثله نُفْرَة نفس السَّلِيم وهو الذي نهشته الحيَّة عن الحبل
(1)
انظر: المسند 1/ 90. وسنن أبي داود، كتاب الأقضية، بابٌ كيف القضاء، 3/ 301، ح 3582. وجامع الترمذيّ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، 3/ 609، ح 1331، وقال:«هذا حديث حسنٌ» . وصحيح ابن حبَّان (الإحسان)، كتاب القضاء، ذكر أدب القاضي عند إمضائه الحكم
…
، 11/ 451، ح 5065. وأعلَّه ابن حزم وغيره بسماك بن حرب. انظر: المحلى 8/ 436، والبدر المنير 9/ 533، وإرواء الغليل 8/ 226.
(2)
انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، استماع بيان الخصمين واجبٌ على القاضي، 4/ 93، من حديث عليٍّ رضي الله عنه، وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، ولم يتعقَّبه الذهبيّ. أما حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقد رواه في أوَّل كتاب الأحكام 4/ 88، وقال:«صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ، ولم يتعقَّبه الذهبيّ، لكن ليس فيه ذكر الاستماع إلى الخصمين.
(3)
كتاب القضاء، 2/ 188، ح 1388.
(4)
انظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 206، ح 397، وكشف الخفاء 2/ 362.
المبرقَش اللَّون؛ لأنه وجد الأذى مقرونًا بهذه الصورة، فتوهم أنَّ هذه الصورة مقرونة بالأذى. وكذلك تنفر النفس عن العسل، إذا شُبِّه بالعَذِرة؛ لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونًا بالرَّطْب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطْبَ الأصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذَّر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خُلِقَتْ قُوَى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة، حتى إنَّ الطبع لينفر عن حسناء سمِّيت اسم اليهود إذا وجد الاسم مقرونًا بالقبح، فظنَّ أنَّ القبح أيضًا ملازم للاسم. ولذا تُوْرَد على بعض العوامِّ مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت: هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نَسَبْتَه إليه، وليس هذا طبعَ العامِّيِّ خاصَّة، بل طبعُ أكثر العقلاء المُتَّسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله تعالى الحقَّ حقًّا، وقوَّاهم على اتِّباعه .... »
(1)
.
أقول: ومما يوضح ما قاله الغزالي أنك قد ترى من يشبه صديقًا لك فتميل إليه نفسك، مع أنك لم تره قبل ذلك، وترى من يشبه بغيضًا لك، فتنفر نفسك عنه، وترى من يشبه مخوفًا لك فتخافه، وقس على هذا. حتى إن الإنسان ليميل إلى سَمِيِّ صديقه، وينفر عن سميِّ بغيضه، ونحو ذلك، وقد يكون عهدك بصديقك أو بغيضك أو مخوفك بعيدًا، أو تكون مشابهة هذا له غير واضحة، فيخفى عنك السبب، فتبقى متعجبًا ما بال نفسي مالت إلى هذا الشخص مع أني لم أره قبل الآن. وما لها نفرت عن هذا مع أني لم أره قبل الآن، وأكثر الناس يوجِّهون ذلك بتعارف الأرواح أو تناكرها، وهذا وإن كان صحيحًا في الجملة إلَّا أنَّ الغالب ما تقدّم، وأنت إذا تذكّرت وتفكَّرْت
(1)
المستصفى 1/ 59. [المؤلف]
عرفت صحَّة ما ذكرنا. وهذا الباب واسع حتى لقد ترى الشخص فتظنُّه عالمًا، وما ذلك إلا لمشابهةٍ بينه وبين رجلٍ عالمٍ قد عرفته قبل ذلك.
فأمَّا ما ذكره الغزاليُّ أنَّ الإنسان قد تُذْكَر له مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قيل له: هذا قول الأشعرية وكان يسيء الظن بهم نفر عنها، فقد يكون لما ذكر بأن يكون هذا الإنسان طالب علم، وقد عرف مسائل أخطأ فيها الأشعرية، فلما نُسِبَتْ هذه المسألة إليهم نفرت نفسه عنها لمشابهتها لتلك المسائل في أنَّ الجميع من قول الأشعرية، فتوهَّم أنَّ المشابهة في هذا الأمر تشعربالمشابهة في الخطأ، وقَوِيَ هذا المعنى في وهمه حتى غلب ما قام لديه من دليلٍ على صحَّة قولهم في تلك المسألة.
وقد يكون طالع مذهب الأشاعرة فظهر له أنَّ الغالب فيما يخالفون فيه المعتزلة الخطأ، فاجتمع عنده القياس الوهميُّ السابق مع الحمل على الغالب.
وقد يكون سمع كثيرًا ممن يحسن الظن بهم يذمّون الأشعرية، وقد يكون وجد آباءه وأشياخه على الاعتزال ونشأ عليه، فصار يكره أن يُنْسَب الغلط إلى مذهبه ومذهب آبائه وأشياخه. وهذا هو التعصب، وهو أوْخَم هذه الأمور، فلقد بلغ بكثير من الناس إلى ما يظهر منه اعتقاد العصمة في فرد من أفراد الأمة؛ فإنك تجد كثيرًا من المقلدين للشافعيِّ مثلًا لا يجوِّزون الخطأ عليه. فإن قيل: إنهم لا يصرِّحون باعتقاد العصمة. قلت: نعم، ولكن ألا تراهم كلما عُرِضَ عليهم قولٌ من أقوال الشافعي اعتقدوا أنه الحق، ولا يتردَّدون فيه، ولو خالف القرآن أو خالف الأحاديث الصحيحة أو خالف أكابر الصحابة أو خالف جمهور الأمة؟ فلولا أنهم يعتقدون له العصمة لكانوا إذا بُيِّنَتْ لهم الحجة على خلافه خضعوا لها.
ولقد كثر اعتقاد العصمة في كثير من أفراد الأمة فضلًا عن الطوائف كالأشعرية والمعتزلة ونحوها، ومع هذا فلا نقول فيمن لم يصرِّح باعتقاد العصمة إنه يعتقدها، وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه بالتعصب ومحبة النفس، فإنَّ أحدهم يحب نفسه حتى لا تطاوعه نفسه إلى الاعتراف بأنَّ آباءه أو مشايخه أو أهل مذهبه أخطؤوا، فلذلك تجده لا يميل إلى الاعتراف بأن إمامه أخطأ، وإن قامت الحجة عليه، بل يذهب يحرِّف الحجج ويؤوِّلها. وليس هذا بالتقليد الذي أجازه العلماء في الفروع وأنكره بعضهم، وإنما التقليد المجوَّز أن تأخذ بقول مجتهد لا تعلم حجَّته، ولكن قد قام عندك دليل يفيد الظن بأنَّ قوله صواب، فإذا أُخْبِرْتَ بدليل أقوى من الدليل الأول يدلُّ على أنَّ ذلك المجتهد أخطأ، وأنَّ الصواب قول مجتهد آخر، لزمك أن ترجع إلى قول الآخر، فإن منعك التعصُّب فعليك أن تكتفي بقول:«لعلّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل» . واعلم أنَّ هذا لا أراه ينجيك؛ لما تقرَّر في الأصول من وجوب اعتقاد أنَّ الدليل الظاهر على ظاهره، والعمل بمقتضى ذلك حتى يتمَّ البحث، فإن ظهر بالبحث أنَّ هناك دليلًا آخر يوجب تخصيص الأول أو تأويله عُمِلَ به من حين ظهوره. ذَكَرَ أهلُ الأصول هذه المسألة في بحث الأمر وبحث العامِّ
(1)
.
ولا فرق بين المقلِّد وغيره؛ لأنَّ قول إمامه وإن كان شبه قرينة على أن لذلك الدليل مخالفًا، فهذه القرينة معارَضَةٌ بقول مَنْ قال من المجتهدين بظاهر ذلك الدليل، والتفاوت بين المجتهدين يسير لا يقاوِم الدليلَ الظاهرَ
(1)
انظر: قواطع الأدلَّة للسمعانيّ 1/ 308، وتشنيف المسامع للزركشيّ 2/ 599 و 728.
من الكتاب والسنة.
والمقصود أنَّ قولك: «لعلَّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل» لا ينجيك، ولكنه أهون من أن تَعْمِد إلى الأدلَّة المخالفة لمذهبك فتحرِّفها وتؤوِّلها وتبدلها، والعياذ بالله. هذا مع أن التقليد المجوَّز إنما هو في فروع الفقه، فأمَّا أصول الدين فلا يغني فيها التقليد المحض
(1)
.
/ولو جاز التقليد في أصول الدين، لكان سلف الأمة أولى بأن يقلِّدهم الناس، فإنَّ لهم مزايا يعزُّ وجودها فيمن بعدهم.
منها: قربهم من عهد النبوَّة.
ومنها: بعدهم عن التقليد لغير المعصوم. فكان الصحابة رضي الله عنهم لما علموا أن أمور الدنيا ربما يرى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رأيًا يكون غيرُه أولى منه لا يمنعهم علمهم بعظيم قدره صلى الله عليه وآله وسلم، وتفانيهم في محبته وتوقيره، عن الإشارة عليه بخلاف رأيه. وهذا كثير في الأحاديث، وثبت في حديث جابر في شأن الجمل الذي اشتراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، قال جابر:«كنا نراجعه مرَّتين في الأمر إذا أَمَرَنَا به، فإذا أَمَرَنَا الثالثة لم نراجعه»
(2)
. ومن كان له اطِّلاع على الحديث وجد المراجعة ثلاثًا موجودة في أحاديث كثيرة يكفي بعضها في تواتر هذا المعنى.
فأمَّا في أمور الدين فكانوا يعلمون عصمته صلى الله عليه وآله وسلم فيها فلم يكونوا يراجعونه في شيء منها إلَّا نادرًا، حيث يعلمون أنه صلَّى الله
(1)
هنا انتهى ملحق ص 43.
(2)
مسند أحمد 3/ 358 - 359. [المؤلف]
عليه وآله وسلَّم استند إلى اجتهاده، كما راجعه عمر رضي الله عنه في الصلاة على ابن أبيٍّ المنافق
(1)
؛ لأنَّ عمر فَهِم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم إنما استند في ذلك إلى رأيه. ثم كان أصاغرهم يخالفون أكابرهم في أمور الدين مع احترامهم لهم، وهكذا التابعون وأتباعهم والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة وغيرهم يخالفون أكابر الصحابة فضلًا عن غيرهم. ولم يكن يخطر ببال العالم منهم أنَّ مخالفته مَنْ تَقَدَّمَه فيها احتقار أو سوء أدب في حقِّه، بل كان أحدهم يعترف بأنَّ مَنْ فوقه أفضلُ وأعلم منه، ولا يمنعه ذلك من مخالفته إذا ترجَّح له خلافُ قوله.
ومنها: الإخلاص، فكان أحدهم إذا سئل عما لا يعلمه حقَّ العلم لم يتوقف عن قول: لا أدري، وإذا أخطأ في شيء ثم وُقِفَ عليه لم يتوقَّف عن قوله: أخطأتُ، ولا يتكلَّم في علم لم يتقِنه، بل يقول: لا خبرة [44] لي بهذا العلم، ولا يبالي بأنَّ ذلك قد ينقص مكانته في قلوب الناس ويعظم مكانة غيره من معاصريه ومخالفيه. وحسبك ما كان بين أمير المؤمنين عليٍّ وبين معاوية من النزاع، ولم يمنع ذلك معاوية أن يستفتي أمير المؤمنين عما أشكل عليه من الأحكام، كما في قضية الرجل الذي قتل آخر زاعمًا أنه وجده مع امرأته، وغير ذلك
(2)
.
والعلوم كالصنائع، قد يكون الرجل نَجَّارًا ولا يحسن من الصنائع
(1)
انظر: البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما يُكره من الصلاة على المنافقين
…
، 2/ 97، ح 1366. وصحيح مسلمٍ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 8/ 120، ح 2774. [المؤلف]
(2)
انظر: سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب الشهود في الزنى، 8/ 231. [المؤلف].
غيرها، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه صانع ماهر، فهكذا قد يكون الرجل ماهرًا في العربية فقط كسيبويه، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه عالم علَّامة إمام.
وكان أهل القرون الأولى من الورع والمعرفة بحيث إن العالم بفنٍّ لا يتعاطى الكلام في غيره، والعامَّة لا يسألون في كلِّ علمٍ إلَّا من عُرِفَتْ له الإمامةُ فيه. فكان الناس في بغداد في زمن المأمون وما بعده مَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الحديث وفقهه سأل الإمام أحمد وأضرابه، ومَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الرأي والقياس سأل أصحاب الإمام أبي حنيفة، ومَنْ أحبّ أن يسأل عن شيء من العربية سأل أصحاب الكسائي وأضرابهم، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شيء من الورع وأمراض القلب سأل أضراب بشر الحافي وأصحابه، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شي من [45] المغازي والأخبار سأل أصحاب الواقدي وأمثالهم، وقس على ذلك.
وقد كان جماعة من أئمة الحديث المضروب بهم المثل إذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية يقول للسائل: سَل الفقهاء.
ولكن في العصور الوسطى تغيَّر الحال، فكم من عارف بفنٍّ خاصٍّ تعاطى الكلام في غيره، واغترَّت العامة بشهرته فقلَّدوه في جميع العلوم.
وبالجملة فمزايا السلف كثيرة، وحسبك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» .
والحديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعةٍ من الصحابة
(1)
، وفي
(1)
منهم: ابن مسعودٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في كتاب الشهادات، بابٌ لا يشهد على جَوْرٍ إذا أُشْهِد، 3/ 171، ح 2652. ومسلمٌ ــ كما سيأتي ــ. ومنهم: عمران بن حُصَينٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في الموضع السابق، 3/ 171، ح 2651. ومسلمٌ في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 185، ح 2535. ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه. أخرج حديثه مسلمٌ في الموضع السابق، 7/ 185، ح 2534.
ألفاظه اختلافٌ، واللفظ الذي ذكرناه لمسلمٍ في صحيحه عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه
(1)
.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرها عن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مُوَدّع فأوصنا، فقال:«أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة»
(2)
.
(1)
صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 184، ح 2533. [المؤلف]
(2)
مسند أحمد 4/ 126. سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 165، ح 4607. سنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، 1/ 10 - 11، ح 42 - 44. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب اتِّباع السنَّة، 1/ 44، ح 96. جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنَّة واجتناب البدع، 2/ 113، ح 2676، وقال:«حسنٌ صحيحٌ» . والحاكم في المستدرك، كتاب العلم، «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين» ، 1/ 94 - 98، من طرقٍ، قال في بعضها:«صحيحٌ ليس له علَّةٌ» ، وقال في بعضها:«صحيحٌ على شرطهما جميعًا، ولا أعرف له علَّةً» ، وأقرَّه الذهبيّ. وقد صحَّحه ابن حِبَّان أيضًا (الإحسان)، في (المقدَّمة)، باب الاعتصام بالسنَّة
…
، 1/ 178، ح 5. [المؤلف]
[46]
وفي سنن أبي داود وسنن الدارمي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: «يُفتح القرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبيُّ والرجل، فيقول الرجل: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، والله لأقومنَّ به فيهم لعلي أُتَّبع، فيقوم به فيهم فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، وقد قمت به فيهم فلم أُتَّبَع، لأحتظرنَّ في بيتي مسجدًا لعلي أُتَّبَع، فيحتظر في بيته مسجدًا فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَعْ، وقمتُ به فيهم فلم أُتَّبَع، وقد احتظرتُ في بيتي مسجدًا فلم أُتَّبَع، والله لآتينَّهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلِّي أُتَّبَع، قال معاذ: فإياكم وما جاء به؛ فإنَّ ما جاء به ضلالة»
(1)
.
وفي سنن الدارمي أيضًا عن الحسن قال: «سننكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي .... »
(2)
.
وفيها أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير إذا تُرِكَ منها شيء [47] قيل: تُرِكَت السنَّة
…
»
(3)
.
(1)
سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 272، ح 4611. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 66 - 67، ح 205. [المؤلف]
(2)
سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، بابٌ في كراهية أخذ الرأي، 1/ 72، ح 222. [المؤلف]
(3)
سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 64، ح 191. ونحوه في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، ذكر فتنةٍ يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، 4/ 514 - 515. قال الذهبيّ في تلخيصه: «قلت: (خ م)» ، يعني أنه على شرط الشيخين. [المؤلف]
أقول: وهذا الموقوف له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يُقال بالرأي.
وفي كتاب ابن وضاح
(1)
عن حذيفة رضي الله عنه: «أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلَّا قليلًا، قال: والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قَدْر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشُونَّ البدع حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة
…
». وهذا الموقوف له حكم المرفوع أيضًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه.
ومن أعظم مزايا السلف: ما نبَّه عليه ابن الحاج
(2)
رحمه الله، قال ما معناه: كان في عهد السلف إذا ابتدعت العامّة بدعة قام العلماء في إبطالها، وأما علماء الخلف فإنهم إذا ابتدع أحد من العامَّة والأمراء والأغنياء بدعةً قام العلماء في الترغيب فيها والانتصار لها وتوجيهها.
أقول: وقد صدق وبرَّ، ومَن أراد من أمرائنا وأغنيائنا فليجرِّب بأن يُحْدِثَ بدعة، ثم يستعين بالعلماء والمتصوِّفين فسيجدهم أسرع ما يكون إلى الترغيب فيها وتحريف الكتاب والسنة في سبيل تحسينها وتضليل أو
(1)
ما جاء في البدع 124 ح 162.
(2)
أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري القبيلي الفاسي المالكي المشهور بابن الحاج، من تصانيفه:«المدخل إلى تنمية الأعمال» ، قال فيه ابن حجر:(كثير الفوائد، كشف فيه عن معايب وبدعٍ يفعلها الناس)، توفي سنة 737 هـ. انظر: الدرر الكامنة 4/ 355 - 356. ولم أقف على هذا النقل في المدخل.
تكفير مَن قد يتعرّض لردِّها، [48] ولعلَّ الأعلم الأتقى منهم هو الذي يُلزم نفسه السكوت، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
وبهذا هلكت الأمم السابقة، وقد قصّ الله تعالى في كتابه عن اليهود والنصارى ما فيه أعظم العبر.
وفي الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى الآن ويسمونها بالتوراة أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما النصرانية فمَن تتبع تاريخها منذ رفع عيسى عليه السلام تبيَّن له أنه كان لا يزال في القرون الأولى عارفون بالحق، ولكنهم مغلوبون على أمرهم، وكانت العامَّة والملوك والأئمة المضلُّون يحدثون المقالات فيجدون من العلماء والرهبان مَنْ ينصرها، ويكفّر أو يضلِّل مَنْ يخالفها، وهذا حال جميع الأمم.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَنْ جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَنْ جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ»
(1)
.
[49]
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم» ، قلنا: يا رسول الله! اليهود
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 50 - 51، ح 50. [المؤلف]
والنصارى؟ قال: «فمن؟ »
(1)
.
وروى البخاري نحوه عن أبي هريرة، وفيه: فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: «ومَن الناس إلا أولئك»
(2)
.
وروى الشافعي بسندٍ صحيحٍ ــ كما في الفتح ــ عن عبد الله بن عمرٍو عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حُلوَها ومُرَّها»
(3)
.
وفي الفتح: وأخرج الطبرانيّ من حديث المستورد بن شدَّادٍ ـ رفعه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: «لا تترك هذه الأمَّة شيئًا من سنن الأوَّلين حتى تأتيه»
(4)
.
قال في الفتح: قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وآله وسلم، وسيقع بقية ذلك
(5)
.
(1)
البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لتتَّبعنَّ سنن مَن كان قبلكم» ، 9/ 103، ح 7320. مسلم، كتاب العلم، باب اتِّباع سنن اليهود والنصارى، 8/ 57، ح 2669. [المؤلف]
(2)
البخاري، الموضع السابق، 9/ 102 - 103، ح 7319. [المؤلف]
(3)
الفتح 13/ 235. [المؤلف]. كذا، وليس في الفتح أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث موقوف على ابن عمرو كما نصَّ عليه البيهقي في معرفة السنن والآثار 1/ 186. وانظر: السنن المأثورة للشافعي ص 137 - 138 ح 398. وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر في السنة وغيرهما.
(4)
الفتح 13/ 235. [المؤلف]. قال الطبرانيّ: «لا يُروى هذا الحديث عن المستورد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به ابن لهيعة» .انظر: المعجم الأوسط 1/ 101، ح 313.
(5)
الفتح 13/ 235. [المؤلف]
وفي المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: «أوَّلُ ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتُنْقَضَنَّ عرى الإسلام عروة عروة، وليصلينَّ نساء وهنَّ حيّض، ولتسلكُنَّ طريق مَن كان قبلكم حذوَ القذة بالقذة، وحذوَ النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا يخطئنكم
(1)
، حتى تبقى فرقتان من فرقٍ كثيرة، فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضَلَّ مَنْ كان قبلنا، إنما قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 115] لا تصلُّوا إلَّا ثلاثًا، وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافرٌ ولا منافقٌ، حقٌّ على الله أن يحشرهما مع الدَّجَال».
قال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، وأقرَّه الذهبيّ
(2)
.
أقول: وقد وُجِدَت الطائفتان؛ فإنَّ بالهند طائفة يسمُّون أنفسهم أهل القرآن
(3)
، يقولون: إنما الواجب ثلاث صلوات أو صلاتان، وأما الطائفة الأخرى فغلاة المرجئة. والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن
(1)
كذا في الأصل، ولعلَّ الضمير يرجع إلى الطرق المفهومة من «طريق» ، ورُسمت الكلمة في المستدرك:«ولا يخطأنكم» على لغة «خَطِئ يخطأ» . وفي مسند الشاميِّين للطبرانيّ 2/ 100، ح 987:«ولا يُخْطَأُ لكم» .
(2)
المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، «أوَّل ما تفقدون من دينكم الخشوع» ، 4/ 469. [المؤلف]
(3)
انظر رسالتي في الرَّدِّ على «شبهات القرآنيِّين» وقد طُبعت مرّتين في مجمَّع الملك فهدٍ لطباعة المصحف الشريف.
سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قِبَلَ حنينٍ، فمررنا بسدرةٍ، فقلت: يا نبي الله! اجعل لنا هذه ذات أنواطٍ، كما للكفار ذات أنواطٍ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرةٍ ويعكفون حولها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:[49 ب]«الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم» .
وقال أيضًا: حدَّثنا حجَّاج، حدَّثنا ليث يعني ابن سعد، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي ثم الجندعي، عن أبي واقدٍ الليثيِّ، فذكره. وفيه: فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:«قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إنها السنن، لتركبن سنن مَن كان قبلكم سنَّةً سنَّةً»
(1)
.
وكلا السندين رجاله رجال الصحيحين، وأخرجه الترمذيّ، وقال:«حسنٌ صحيحٌ»
(2)
.
وأخرج الطبرانيُّ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ، عن أبيه، عن جدِّه، نحوه
(3)
.
(1)
المسند 5/ 218 [وفي الأصل: 118]. [المؤلف]
(2)
جامع الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء «لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم» ، 2/ 27 - 28، ح 2180. [المؤلف]
(3)
المعجم الكبير 17/ 21، ح 13715.
قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين» ، وأقرَّه الذهبي
(1)
.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود [غريبًا] كما بدأ، ويَأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحيَّة في جُحرها»
(2)
.
وقد رُوِي نحوه من حديث ابن مسعودٍ وأنسٍ وأبي هريرة وعمرو بن عوف المزنيّ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وغيرهم
(3)
.
(1)
المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، «ابن أمِّ عبد من أقربهم إلى الله وسيلةً» ، 2/ 312. [المؤلف]
(2)
مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ الإسلام بدأ غريبًا، 1/ 90، ح 146. [المؤلف]
(3)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 1/ 90، ح 145. وحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 398. والترمذيّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، 5/ 18، ح 2629، وقال:«حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ» . وحديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 184. وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالكٍ رضي الله عنهم أخرجه الطبرانيّ 8/ 152، ح 7659، وقال الهيثميّ: «وفيه كثير بن مروان، وهو ضعيفٌ جدًّا». مجمع الزوائد 7/ 513 - 514. وحديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه أخرجه الترمذيّ في الموضع السابق، 5/ 18، ح 2630، وقال: «حديث حسنٌ صحيحٌ». وانظر: مجمع الزوائد 1/ 297 و 7/ 545 - 547.
وأخرج الحاكم في المستدرك ــ وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين» ، وأقرَّه الذهبيّ ــ عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ»
(1)
.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ.
(2)
.
أقول: يشير [49 ج] إلى الحديث المشهور: «لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» . وهو في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ثوبان ــ واللفظ له عند مسلمٍ ــ، وجابر بن عبد الله، ومعاذٌ، وأبو أمامة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وجابر بن سَمُرة، وعقبة بن عامرٍ، وسلمة بن نُفَيلٍ، وقرَّة بن إياسٍ، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان
(3)
.
(1)
المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، «يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ» ، 4/ 442. [المؤلف]. وهو موقوفٌ على عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما.
(2)
الفتح 13/ 235. [المؤلف]
(3)
انظر: البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين» ، 9/ 101، ح 7311، [من حديث المغيرة بن شعبة]. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم، 1/ 95، ح 156، [من حديث جابر بن عبد الله]. وكتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ» ، 6/ 52 - 54، ح 1920 - 1925، [من حديث ثوبان، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سَمُرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامرٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ. وسنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في دوام الجهاد، 3/ 4، ح 2484، من حديث عمران بن حُصَينٍ. وجامع الترمذيّ، كتاب الفتن، باب ما جاء في الشام، 4/ 485، ح 2192، من حديث قرَّة بن إياسٍ، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». وسنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، 1/ 5، ح 7. والمسند 4/ 104 و 5/ 269، من حديث سلمة بن نُفَيلٍ وأبي أمامة]. وانظر: فتح الباري 13/ 229 - 230. [المؤلف]. وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 216، ح 81.
قال البخاريّ في صحيحه: «وهم أهل العلم» .
وقال ابن المدينيّ: «وهم أصحاب الحديث» .
وقال الإمام أحمد: «إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري مَنْ هم؟ » ، وكذا قال يزيد بن هارون
(1)
.
وقد استُدِلَّ به وبغيره على عصمة مجموع الأمة، فبني على ذلك حجِّيةُ الإجماع، وفيها نزاع كثير.
وعلى كلِّ حال، فأصول العقائد إنما تُبْنَى على الحجج القطعية، وقلَّما يتفق ذلك في الإجماعات المعروفة إلَّا ما كان منها على وفق ظواهر الكتاب والسنة، كما يأتي.
بل قيل: إنَّ الإجماع ــ أي وحده ــ لا يكون حجَّةً قطعيَّةً أصلًا.
(1)
انظر: فتح الباري 13/ 229. [المؤلف]
والقائلون بأنه قد يكون حجَّةً قطعيَّةً يشترطون أن يُعْلَم بالعلم القطعي أنَّ أهل العصر محصورون في عدد كذا، ثم يُنقل ذلك القول عن كلِّ فرد منهم بالتواتر، أي: ينقله عن زيد جماعةٌ يستحيل عادةً تواطؤُهم على الكذب وحصوله منهم اتفاقًا، فيحصل العلم القطعي بأنَّ ذلك الرجل قاله، كعلم المطَّلِع على أخبار العالم في هذا العصر أنَّ (باريس) اسم مدينة للفرنسيس، وينقله عن عمرٍو جماعة كذلك، وعن خالد كذلك، حتى يستغرق جميع أفراد ذلك العصر، ويُعْلمَ قطعًا أنهم استمرُّوا على ذلك القول إلى أن ماتوا، وأنَّ كل واحد منهم قاله غير مكرَه، ويعلم قطعًا أنه لم يخالفهم أحد قبل انقراض عصرهم، وأنه لم يكن قبلهم في الأمة مَنْ يقول بخلاف قولهم، وأن يتسلسل النقلُ إلينا بالتواتر [50] التفصيليّ القطعيِّ في كل درجة، إلى غير ذلك من الشرائط المسطورة في كتب الأصول
(1)
، فإن لم تجتمع فغايته أن يكون حجَّة ظنيَّة بشرطه. فلا يصلح للتمسك في أصول العقائد إلَّا إذا انضمَّ إليه أدلَّةٌ أخرى من ظواهر القرآن وعِدَّة من الأحاديث، بحيث يكون كلُّ فرد منها مفيدًا للظن، ولكن مجموعها يفيد القطع.
وإذا كان هذا حال الإجماع، فما بالك بقول الأكثر؟
فإن قيل: فأين الأحاديث الآمرة بالتمسك بالجماعة والسواد الأعظم؟
قلت: فما تصنع أنت بحديث الطائفة وغيره مما مرّ؟ وقد مرّ كلام ابن بطَّالٍ. ثم ما تصنع إذا دلّ كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على معنىً، وقولُ الأكثر على خلافه؟ وهذا كثيرٌ.
(1)
انظر: قواطع الأدلَّة 3/ 250، 270،، 296، 303، 310، ونهاية السول 3/ 303 فما بعدها.
لا مخرج إلا أحد أمرين:
الأول: أن يقال: إن أحاديث الجماعة والسواد الأعظم خاصة بما إذا لم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة، وعلى هذا يدل قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
والأدلَّة في هذا من الكتاب والسنَّة كثيرةٌ. وعلى [51] ذلك كان عمل الصحابة، فقد جاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان إذا عرضت حادثةٌ يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد شاور الناس
(1)
.
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد فبما قضى به أبو بكرٍ، فإن لم يكن شاور الناس
(2)
.
وعلى هذا يدلُّ كتابه إلى شريح
(3)
. وروي نحو ذلك عن ابن مسعود
(4)
.
(1)
انظر: سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب الفتيا وما فيها من الشدَّة، 1/ 58، ح 163. وإعلام الموقعين 1/ 74 - 75. [المؤلف]
(2)
انظر: إعلام الموقعين 1/ 74 - 75. [المؤلف]
(3)
انظر: سنن النسائيّ، كتاب آداب القضاة، الحكم باتِّفاق أهل العلم، 2/ 360، ح 5414. وسنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 60، ح 169. وانظر: إعلام الموقعين 1/ 61 - 62.
(4)
انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، الخصمان يقعدان بين يدي الحاكم، 4/ 94، سنن النسائيّ، الموضع السابق، 2/ 306، ح 5412. سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 167. [المؤلف]
وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه
(1)
.
وفي طبقات ابن سعد: «أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس» فذكر نحوه
(2)
.
وفي سنن البيهقي من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن عبد الله أخبره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلمة بن مخلد، أنه قام على زيد بن ثابت فقال: يا ابن عم: أُكرِهْنا على القضاء، فقال زيد: اقض بكتاب الله عز وجل، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم يكن في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فادع أهل الرأي، ثم اجتهد، واختر لنفسك، ولا حرج
(3)
.
وعلى هذا كان عمل أئمة التابعين وعلماء السلف، كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة، ترى أحدهم إذا ظفر بدلالة من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قال بها، وإن كان جمهور الأمة على خلافها.
(1)
سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 168. ونحوه في المستدرك، كتاب العلم، الناس كانوا لا يكذبون في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، 1/ 127. قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين» ، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف]
(2)
الطبقات 2/ 101.
(3)
سنن البيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي
…
، 10/ 115. [المؤلف]
الأمر الثاني: ما نقله الشاطبي في الاعتصام
(1)
عن ابن جرير الطبري، وحاصله: أن أحاديث السواد الأعظم خاصَّة بمسألة الإمارة، والمعنى أنه إذا اجتمع أكثر المسلمين على تأمير أحدهم وجب عليهم وعلى غيرهم طاعته.
أقول: وهذا هو الذي يدلُّ عليه سياق تلك الأحاديث، وقد بُيِّنَ في بعضها أن المراد الطاعة في غير معصية الله تعالى، وقد دلّت على ذلك الآية السابقة، وبَيَّن في بعض الأحاديث أنَّ الخروج على الأمير لا يجوز إلَّا أن يكفر كفرًا بواحًا أو يترك الصلاة.
وعلى هذا أو ما في معناه يُحْمَل عمل الحسين بن علي عليهما السلام، ثم خلاف ابن الزبير وأهل المدينة ثم ابن الأشعث ومن خرج معه من الأئمة كسعيد بن جبير والشعبي وغيرهما.
وبالجملة، فالنظر في هذه المسألة مبنيٌّ على الأصل الإسلامي المشهور، وهو أنه إذا تعارضت مفسدتان ولم يكن بدٌّ من ارتكاب إحداهما وجب ارتكاب الصغرى لدرء الكبرى. وَمِنْ هنا يُعْلَمُ عُذْرُ أهلِ السنة بعد القرن الأول في حظر الخروج على السلطان مادام مسلمًا، فإنَّ التجارب علّمتهم أنَّ نتيجة الخروج تكون أعظم فسادًا وشرًّا وضرًّا مما كان قبله.
والمقصود أنَّ أحاديث الجماعة والسواد الأعظم لا حجة فيها على أنَّ قول الأكثر يكون حجة شرعية في المسائل العلمية، ولا سيَّما فيما يُطْلَبُ فيه العلم القطعيُّ من أصول الدين.
هذا مع أنَّه إذا فُرض ضلالُ الأكثر في أصلٍ من أصول الدِّين الكلِّيَّة، فقد
(1)
3/ 140. نقل في الاعتصام أقوالًا أخرى فراجعها إن أحببت. [المؤلف]
خرجوا بذلك عن رسم الأمة فلا يصدق عليهم الجماعة ولا السواد الأعظم؛ لأنَّ المراد جماعة المسلمين، والسواد الأعظم منهم، كما هو ظاهر، والله أعلم.
وليس غرضي مما تقدَّم الحكمَ على أكثر الأمَّة بالضلال، وإنما مقصودي أن يعلم الناظر أنَّ ذلك أمر محتمل في نفسه، فلا يصُدُّه حسن الظن عن تدبُّر كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه سلف الأمة.
(1)
فأما حديث البخاري وغيره عن عقبة بن عامرٍ في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شهداء أحد وخطبته بعد ذلك وقوله: «وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي»
(2)
، فقال الحافظ في الفتح: أي على مجموعكم؛ لأنَّ ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى
(3)
.
وأشار في موضعٍ آخر إلى أنه خاصٌّ بالصحابة؛ لأنهم المخاطَبون، وعبارته:«ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره .... وبأنَّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك»
(4)
.
وفي صحيح مسلمٍ من طريق أبي سفيان عن جابرٍ قال: سمعت النبي
(1)
من هنا يبدأ ملحق 52.
(2)
أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، 2/ 91، ح 1344، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وصفاته، 7/ 67، ح 2296، من حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه.
(3)
الفتح 3/ 139. [المؤلف]
(4)
الفتح 6/ 400. [المؤلف]
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» .
(1)
.
ويعني بأمر دوسٍ ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أَلَيَاتُ نساء دوسٍ على ذي الخَلَصَة» ، وذو الخَلَصَة: طاغية دوسٍ التي كانوا يعبدونها في الجاهلية
(2)
.
وأخرج مسلمٌ وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزَّى» ، فقلت: يا رسول الله! إن كنتُ لأظنُّ حين أَنْزَلَ الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33، والصف: 9] أن ذلك تامًّا
(3)
، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان،
(1)
إكمال إكمال المعلم 7/ 206. [المؤلف]
(2)
البخاريّ، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى يعبدوا الأوثان، 9/ 58، ح 7116. مسلم، كتاب الفتن
…
، بابٌ لا تقوم الساعة حتى تعبد دوسٌ ذا الخلَصة، 8/ 182، ح 2906. [المؤلف]
(3)
كذا في الأصل وفي صحيح مسلمٍ، والتقدير: يكون تامًّا، كما في الطبريّ 23/ 361، والمستدرك 4/ 447 وتلخيصه.
فيبقى مَنْ لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم»
(1)
.
أقول: هو صريح في أنه بعد بعث الريح يعمّ الكفر وتُعبد اللات والعزى، وأما قبل ذلك فلا يَعُمُّ ولا تعبد اللات والعزى، ولكنه يقع من بعض الناس الكفر بغير ذلك، كما بيّنته الأحاديث الأخرى، والله أعلم.
وأما حديث أحمد عن شدَّاد بن أوس، وفيه: «
…
قلت: يا رسول الله: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: «نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية»
(2)
، ففي سنده
(3)
عبد الواحد بن زيدٍ القاصّ وهو مجمع على ضعفه، كما في تعجيل المنفعة ولسان الميزان. والله أعلم
(4)
.
فصل
[53]
وإذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء؛ فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟ وقد كان في السلف الصالح كثير من الزهاد والعباد، فلم يكن الناس يرجعون إليهم ولا إلى أقوالهم في الأمور العلمية، وإنما كانوا يرجعون إليهم في دقائق الورع، وترقيق القلوب، ومداوة النفوس، ونحو ذلك.
وأنت خبير أنَّ التقليد في المسائل الظنيات شرطه أن يكون لمجتهد
(1)
مسلم، الموضع السابق، 8/ 182، ح 2907. [المؤلف]
(2)
المسند 4/ 123.
(3)
أصاب هاتين الكلمتين بللٌ فلم تظهرا كاملتين، والمثبَت اجتهادٌ منِّي.
(4)
انتهى ملحق ص 52.
مُسَلَّمٍ له الاجتهاد، وأنَّ عامَّة الأولياء الذين شاع بين الأمة تقليدهم كانوا مقلِّدين، ومَنْ قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد منهم لم يعترف له أهل عصره بذلك.
ولما بحثت عن أسباب تقليد الناس لمن يظنون به الخير والصلاح، وجدتُ أنه قد سرى إلى أذهانهم اعتقاد العصمة لكثير من أولئك، حتى لقد يغلو بعضهم فيُثْبِت لبعض الأولياء كمالات لا يثبتها للأنبياء، وينزهه عن أشياء لا ينزه عنها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولقد يُنْقَل له نقلًا
(1)
صحيحًا أو متواترًا أو يشاهِد بعينيه أنَّ فلانًا الذي يعتقد فيه يترك الصلاة ويشرب الخمر ويفعل ويفعل، فيقول: نعوذ بالله من فساد العقيدة ومن حرمان بركة الصالحين، إنما كان [54] سيدي فلان يتستر من الناس لئلا يعلموا منزلته عند الله، أو يختبر الناس ليظهر الموفَّق الذي لا تَزَلْزَلُ عقيدتُه من المحروم الذي يغترُّ بالظواهر، فكان يظهر للناس أنه عندهم ولم يصلّ، مع أنه في الحقيقة بمكة أو بالمدينة أو بجبل قاف أو نحو ذلك، ويظهر لهم أنه يشرب الخمر والواقع أنَّ الخمر كانت تستحيل في يده إلى شراب طهور.
ومنهم من يعترف بفعل سيده فلان بعضَ تلك الأعمال، ويقول: فَعَلَها وفَعَلَ غيرَها؛ لأنه قد وصل إلى الله تعالى، وتخلَّص من حيطة التكليف، فإنَّ الشريعة إنما فُرِضَتْ لأجل الوصول، فَمَنْ وَصَلَ ارتفعت عنه التكاليف.
وأحْسَنُ الغلاةِ حالًا مَنْ يقول: فَعَلَ ذلك الولي هذه الأمور لِحِكَمٍ لا نعلمها، أو لعلَّه ألهمه الله عز وجل إباحتها له، أو رأى النبيَّ صلَّى الله عليه
(1)
كذا في الأصل، وهو مفعول مطلقٌ. وقوله:(أنَّ فلانًا) نائب فاعلٍ لـ (يُنقَل)، أو مفعولٌ لـ (يشاهِد).
وآله وسلَّم فأذن له فيها، أو أمره بها.
وأقربهم مَنْ يقول: لعلّ ذلك الصالحَ فَعَلَ هذه الأمور وهو في حال الغيبوبة عن هذا الكون، والاستغراق في أنوار التجلِّيات.
وأضرُّهم على الإسلام والمسلمين مَنْ يقول: فِعْلُ ذلك القطب لهذه الأمور يدلُّ على مشروعيتها، وأن فعلها يُقَرِّب إلى الله تبارك وتعالى [55] وما خالف ذلك من ظواهر الكتاب والسنة له تأويل يعلمه أولياء الله تعالى. كيف لا وهم أعرف بالله وبكتابه ورسوله، وهم دائمًا حاضرون عند الله تعالى يُعَلِّمُهم ما لا يعلم غيرهم، ومشاهدون للوح المحفوظ، والملائكة تنزل عليهم، ويجتمعون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم متى شاؤوا.
وقد يتعدَّى بعضهم هذا الحدَّ فيقول: إن الوليَّ إذا استحسن شيئًا كان عند الله تعالى حسنًا؛ لأن الله تعالى يحبه، فيحبُّ كل ما أحبَّه.
وفي طبقات الصوفية ومناقب الأولياء قصص كثيرة مما قدَّمنا الإشارة إليه، وتجدهم عند ذكر شيء منها يُعْقِبُونه بالتعوذ بالله تعالى من سوء الاعتقاد في الصالحين ومن حرمان بركتهم، ويتأولون فعلهم بشيء مما تقدم.
واغتنم الفساقُ هذا الأمر، فصار بعضهم يتظاهر بِزِيِّ المتصوفة، ثم يفعل ما بدا له. بل اغتنم ذلك أعداء الإسلام الملحدون فصاروا يتظاهرون بِزِيِّ المتصوفة، ويستعملون الألفاظ الشائعة بين المتصوفة، ثم يصرِّحون بكفرهم وإلحادهم جهارًا، قائلين في أنفسهم: مَنْ ضل بهذا الكلام فقد اصطدناه، [56] ومَنْ لم يضلَّ به فلا علينا؛ لأن من كان راسخ العقيدة في الإسلام سيحمل كلامنا على تأويلات بعيدة، أو يقتصر على زَعْم أن كلامنا على غير ظاهره، وأنه إنما يفهمه أهل الذوق والمعرفة؛ وعلى كلِّ حال فإن
اعتقادهم فينا الصلاح لا يتزلزل، وتبقى كتبنا متداوَلةً بينهم، يضلُّ بها في كل يوم جماعة.
أقول: وقد صدق ظنهم، فصار الضلال بكتبهم كثيرًا، ولا يستطيع أحد الإنكار عليهم؛ إما خوفًا من سطوتهم الروحية إن كان يعتقد فيهم، وإما خوفًا من أكثر الناس، وهكذا أُميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله المستعان.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
فقوله: {تَأْمُرُونَ} إلخ، في معنى بيان السبب في الخيرية، فدلّ ذلك على أن مَنْ تَرَكَ ذلك فلا نصيب له في الخيرية.
وقد نظرت في الأمر الباعث للغلاة على اعتقاد العصمة في غير الأنبياء، فوجدته اعتقاد الولاية فيهم، ونظرت في سبب اعتقاد الولاية، فإذا هو ما شاع بينهم من ظهور بعض الغرائب على أيدي أولئك، فأحببت أن أُبَيِّن لك حال الخوارق، هل تدل على ولاية مَنْ ظهرت على يده؟ ثم أبيِّنُ لك حال الولاية.
[57]
فصل
واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية والغُلوِّ فيهم أمران:
الأول: ما ينقل عن أحدهم من الخوارق.
الثاني: اعتقاد أنهم يطَّلعون على الغيب.
فأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في الطريق الرابع
(1)
.
وأما الأول فتقرير ما قام بأنفس العامة من الاحتجاج به أن يُقال: كما أن الخارقة إذا وقعت على يد مدّعي النبوة دلت على صدقه، فكذلك إذا وقعت على يد الصالح دلت على ولايته. وإذا ثبتت ولايته ثبت أنه كان على حق، فثبت أنّ كلَّ ما جاء عنه حق.
فأقول مستعينًا بالله عز وجل:
اعلم أولًا أنني بحمد الله تعالى لا أنكر الولاية ولا الكرامات، وأني بفضل الله عز وجل أحب كلَّ من عُرِف بالخير والصلاح والولاية، وأرجو الله تبارك وتعالى أن ينفعني بمحبتي لهم.
واعلم أيضًا أنني على يقين بأن ما أكتبه هاهنا مرضي عند أولياء الله تعالى؛ لأن فيه تبرئة لهم عما يظنه بهم الجاهلون وينسبه إليهم الغافلون، وتمييزًا لهم عمن يتستر بدعوى أنه منهم وهو أبعد الناس عنهم.
ثم اعلم أن الخوارق المنقولة عن صُلحاء المسلمين إذا وزنّاها بما توزن به سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدنا غالبها لا يثبت. ولا تَسْتَبْعِدَنَّ الكذب في اختلاق الكرامات، فإن الناس قد كذبوا على ربهم، فنسبوا إليه الابن والبنات والشركاء، وادعى بعضهم الألوهية، وبعضهم النبوة، وبعضهم أنه يوحى إليه. وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدَّم، مع أن الكذب عليه كذب على الله عز وجل، لقوله تعالى:
(1)
وهو بحث «الاطلاع على الغيب» الذي يشمل الإلهام والكشف كما يتضح من نسخة (ب) المشوَّشة.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. والكذب على الله عز وجل كفر بواح، قال الله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32].
وقد صرَّح بعض أهل العلم بأن الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى
(1)
.
وقال أهل العلم ــ والعبارة لابن الصلاح في مقدمته ــ: «والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا [أي: طلبًا للأجر والثواب] زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونًا إليهم، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها، والحمد لله»
(2)
.
وفي صحيح مسلمٍ عن الإمام يحيى بن سعيدٍ القطّان قال: «لم نر أهل الخير في شيءٍ أكذب منهم في الحديث»
(3)
.
وذكر غيره أن أكثر الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعها أصحابها تعصُّبًا لمذاهبهم.
أقول: فهكذا كثير من الخوارق المنقولة عن الصالحين اخترعها متبعوهم زاعمين أن ذلك يقرِّبهم إلى الله عز وجل وإليهم، بل قد يقول بعضهم: إن الولي الفلاني أهلٌ لأن تجري على يده جميع الخوارق، فكلُّ
(1)
انظر: ص 889 فما بعدها.
(2)
مقدِّمة ابن الصلاح (علوم الحديث)، النوع الحادي والعشرون، ص 279 - 280.
(3)
مسلم، (المقدِّمة)، باب بيان أن الإسناد من الدين، 1/ 13 - 14. [المؤلف]
خارقة [59] تخيَّلتها صحّ لك أن تنسبها إليه، ولا يكون ذلك كذبًا؛ ويقول: إن لذلك الولي الحظَّ الكامل من وراثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال صاحب البردة:
دع ما ادَّعته النصارى في نبيِّهمُ
…
واحكم بما شئت مدحًا فيه واحْتَكِم
وانْسُب إلى ذاته ما شئت من شرف
…
وانْسُبْ إلى قدره ما شئت مِنْ عِظَمِ
فإن قَدْر رسول الله ليس له
…
حدٌّ فيُعْرِب عنه ناطق بفم
(1)
زاعمًا أن هذا حجة على أن للإنسان أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء من الخوارق سواء رويت أم لم ترو.
وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيِّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا، فيخترعون الخوارق ويدّعونها له ويلبِّسون على الشيخ نفسه، فيقول له هذا: رأيتك يا سيدي في المنام كذا وكذا، ويقول له الآخر: وقعت لي شدة فاستغثت بك فجئت وأنقذتني منها، وهكذا لا يزالون به حتى يعتقد في نفسه أنه من أهل الكرامات.
وفي المثل الفارسي: «بِيرانْ نَمِي بَرَنْد ومُرِيدَانْ مِيْ بَرَانَنْدْ» . ومعناه: المشايخ لا يطيرون، ولكن المريدين يُطَيِّرُونهم.
[60]
فأما إذا كان الشيخ نفسه يميل إلى الشهرة وبعد الصيت ومحبة الدنيا فالأمر أوضح، وهذه أمور قد شاهدنا بعضها.
وقد يتعصب المريد لشيخه على شيخ آخر في عصره، فيحرص على أن ينسب لشيخه الخوارق والكرامات. وكثيرًا ما يفعل المريدون ذلك بعد
(1)
ديوان البوصيريّ ص 8 - 9.
موت الشيخ ليكون لهم بذلك جاه وشهرة، وليحملوا الناس على كثرة زيارة ضريحه، وبذل أموالهم على سبيل النذر وغيره، فيتمتع بها أولئك الفجار، ومَنْ وقف على كتب القادرية والرفاعية عرف إلى أي حدٍّ يصل التعصب بين أتباع المشايخ. وكثيرًا ما تكون الغرائب المنقولة حِيَلًا دَبَّرها أتباع الشيخ بحضرته أو عند قبره، وقد وقفنا على بعض ذلك.
وأما سبب انتشارها بين الناس فهو أنَّ للطباع البشرية وُلُوعًا
(1)
بذكر العجائب والغرائب، كما تراه منتشرًا بينهم من أخبار الجن والغِيلان والكيمياء وعجائب المخلوقات. وغالب ذلك مما لا أصل له، وإنما يختلق الإنسان شيئًا من ذلك مدحًا لنفسه أو لمن له علاقة به، [61] أو تكون جرت له قصة توهَّم فيها خارقًا، كمن يخيل له بعض الخيالات في النوم ويستيقظ بسرعة فيتوهم أنه لم يزل مستيقظًا، وأن الأمر الذي تخيَّل له كان يقظة؛ أو كان في ظلمة وخوف، فتوهَّم شيئًا، فذهب يحكيه على أنه أمر واقع، أو يكون احتال عليه بعض الناس بحيلة أوهمته تلك الواقعة.
والغالب في هؤلاء أنهم إذا حكوا الحكاية وأراد بعض العقلاء أن يناقش فيها حملهم ذلك على أن يسدِّدوا مواضع الخلل والاحتمال فيها بالكذب. ثم يتلقَّى الناس تلك الحكايات وينشرونها لحرصهم على الإغراب والتعجيب، وكثيرًا ما يكملها الحاكي بالكذب إذا رآها غير وافية بالتعجيب ويدافع عنها إذا قوبلت بالتكذيب، فيزعم أن الذي أخبره ثقة، أو أن الحكاية متواترة أو نحو ذلك.
(1)
هكذا ضبطه المؤلف بضم الواو، ونصّت عامَّة المعاجم على أنَّ هذا المصدر من المصادر القليلة التي تأتي على فَعول.
فأما إن حكيت تلك الغريبة على أنها كرامة فإن الدواعي إلى نقلها ونشرها أشدُّ؛ لما تقدَّم، ومقابلتها بالشك أو التردد بعيد جدًّا عند العامة وكثيرٍ من المنتسبين إلى العلم؛ لأنهم يعتقدون أنَّ الشك في مثل ذلك شكٌّ في قدرة الله عز وجل وفساد عقيدة، فترى أحدهم يُكْرِهُ نفسه على التصديق بذلك خوفًا من الكفر وفساد العقيدة ولا يسمع أحدًا يُكَذِّبها أو يستبعدها أو يتردَّد في صِحَّتها [62] إلا ناله بما يكره.
ولما صار أكثر المنتسبين إلى العلم في القرون المتأخرة يتزلَّفون إلى العامة وإلى مَن تعتقد فيه العامة جَارَوْهُم على هواهم، وأحسنهم حالًا مَنْ يعتصم بالسكوت.
والحاصل أنَّ من أراد أن يعلم في شيء من تلك الخوارق المحكية عن بعض المعتقَد فيهم أثابتة هي أم لا؟ فعليه أن يختبرها بما تُخْتَبَرُ به سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته.
ومَن كان له اطِّلاع على علم الحديث وكلام أهله والكتب التي أُلِّفَتْ في الموضوعات علم أنَّ كثيرًا من الموضوعات قد اغترَّ بها أئمة أكابر كالغزالي وإمام الحرمين والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، فأدرجوها في كتهبم، بل إنَّ أئمة الحديث ليوردون في كتبهم التي لم يلتزموا فيها الصحة كثيرًا من الأحاديث الموضوعة ولا يُنَبِّهون على وضعها مكتفين بأنهم لم يلتزموا الصحة، وأن على من رأى حديثًا في كتبهم ينبغي له أن يبحث عن درجته. ويقع هذا كثيرًا في مؤلفات ابن منده وأبي نعيم والخطيب وابن عساكر وغيرهم. بل وقع بعضه في الكتب التي قيل إنها خاصة بالصحاح، ولا سيَّما المستدرك، ولم يَعُدَّ أحدٌ من العلماء ذلك دليلًا على
صحَّتها، بل صرَّحوا بوضعها واعتذروا عن أولئك الأكابر. فكذلك لا ينبغي أن يُسْتَدَلَّ على صحة شيء من هذه الغرائب بإدراج بعض العلماء المشهورين لها في كتبهم، على أنَّ كثيرًا منهم يتسامحون في ذلك؛ لزعمهم أن ما كان من باب المناقب والفضائل يجوز التساهل في روايته؛ لأنه لا يبنى عليه حكم شرعيٌّ لا قطعيٌّ ولا ظنِّيٌّ. [63] وقد نُقِلَ نحوُ هذا عن الأئمة المتقدمين وشرطوا ألّا يشتمل على شيء من الأحكام، وألّا يبنى عليه شيء من الأحكام، وقد حققت هذا البحث في رسالة مستقلة
(1)
. والحمد لله.
فصل
فإذا صحَّ وثبت وقوع شيء من الغرائب عن رجل من المسلمين
(2)
كان عليك حينئذٍ أن تعرف من أيّ الأقسام هو، فقد قسم أهل العلم الغرائب إلى قسمين: خوارق وغيرها.
وذكروا أن الخوارق على أربعة أضرب: معجزة، وكرامة، واستدراج، وإهانة.
فالمعجزة مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والكرامة بالأولياء والصالحين، وأنكرها المعتزلة والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من كبار أئمة أهل السنة، قال: كل ما جاز تقديره معجزة لنبيٍّ لا يجوز ظهور مثله كرامةً لوليٍّ، وإنما مَبَالِغُ الكرامات إجابة دعوة أو موافاةُ
(1)
هي: رسالة «حكم العمل بالحديث الضعيف» .
(2)
هنا لَحَق بقدر ثمان كلمات، ظهر منها: (لزم
…
النظر فيها أخارق هي أم لا؟)، مع أنَّ الكلام يستقيم بدونها.
ماءٍ في بادية من غير توقُّع المياه، أو نحو ذلك مما ينحطُّ عن خرق العادات.
وقال الإمام القشيريّ ــ وهو من أئمَّة أهل السنَّة العارفين بالتصوُّف ــ: لا تنتهي الكرامة إلى نحو ولدٍ دون والدٍ، وقلب جمادٍ بهيمةً.
قال التاج السبكي: وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزة لنبيٍّ جاز أن يكون كرامة لوليٍّ
(1)
.
وقال الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري في باب غزوة الرجيع، في الكلام على مقتل خُبَيبٍ رضي الله عنه وقول المرأة:«لقد رأيتُه يأكل من قِطْف عنبٍ وما بمكَّة يومئذٍ ثمرةٌ، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله خُبَيبًا» .
قال الحافظ: «قال ابن بطَّالٍ: هذا يمكن أن يكون الله جعله آيةً على الكفار وبرهانًا لنبيِّه لتصحيح رسالته، قال: فأما مَن يدَّعى وقوع ذلك له اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له؛ إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوَّة، فأيُّ معنىً لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلا أن يقول جاهلٌ: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبيٍّ فكيف نصدِّقها من نبيٍّ والفرض أن غيره يأتي بها؟ لكان في إنكار ذلك قطعًا
(2)
للذريعة، إلى أن قال: إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادةً ولا يقلب عينًا، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوةٍ في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الوليِّ، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوُّه حرمته، انتهى.
(1)
انظر: شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 262 - 263. [المؤلف]
(2)
كذا في الأصل وفتح الباري.
والحاصل أن ابن بطَّالٍ توسَّط بين مَن يثبت الكرامة ومَن ينفيها، فجعل الذي يُثبَت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنعَ ما يقلب الأعيان مثلًا.
والمشهور عن أهل السنَّة إثبات الكرامات مطلقًا، واستثنى بعض المحقِّقين منهم كأبي القاسم القشيريِّ ما وقع به التحدِّي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولدٍ من غير أبٍ ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب في ذلك؛ فإن إجابةَ الدعوة في الحال وتكثيرَ الطعام والماء والمكاشفةَ بما يغيب عن العين والإخبارَ بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيريُّ، وتعيَّن تقييد قول مَن أطلق أن كلَّ معجزةٍ وُجِدَتْ لنبيٍّ يجوز أن تقع كرامةً لوليٍّ»
(1)
.
وفي شرح المقاصد: ثمَّ المجوزون ذهب بعضهم إلى امتناع كون الكرامة على قضيّة الدعوى، حتى لو ادّعى الوليّ الولاية واعتقد بخوارق العادات لم يجز ولم يقع، بل ربما يسقط عن مرتبة الولاية.
وبعضهم إلى امتناع كونها من جنس ما وقع معجزة لنبي، كانفلاق البحر وانقلاب العصا وإحياء الموتى، قالوا: وبهذه الجهات تمتاز عن المعجزات.
وقال الإمام: هذه الطرق غير سديدة، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معرض الكرامات، وإنما تمتاز عن المعجزات بخلوِّها
(1)
فتح الباري 7/ 268 - 269. [المؤلف]
عن دعوى النبوة، حتى لو ادَّعى الولي النبوة صار عدوًّا لله، لا يستحق الكرامة، بل اللعنة والإهانة
(1)
.
والاستدراج: ما يجريه الله عز وجل لبعض الدجّالين، كالدجّال الأكبر، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عدَّة عجائب تقع معه، وذلك فتنة وابتلاء وامتحان واختبار من الله عز وجل لخلقه، ليمتاز المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ من غيره، فإن المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ يميِّزُ ما هو حجة حقيقية يرتضيها الشرع والعقل، وما ليس كذلك، فتلك العجائب لا تخدش في يقينه؛ للبراهين القاطعة على كذب الدجال، فيعلم المؤمن حينئذٍ أن تلك العجائب من قَبِيل الاستدراج. وأما غيره فإن العجيبة عنده [64] هي أقوى الحجج، فإذا رآها خضع لها، والعياذ بالله تعالى.
فإن قيل: فما الفرق بين المعجزة والاستدراج، حيث قلتم: إن المعجزة توجب العلم اليقينيَّ بصدق صاحبها، وأن الاستدراج لا يدل على صدقه، بل قد يدلُّ على كذبه؟
قلت: قد تولّى الإمام الغزالي رحمه الله وغيره من علماء الأمة بيانَ الفرق.
وحاصله: أن المعجزة إنما تفيد الصدق بمعونة القرائن، مثل أن تكون سلسلة النبوة لم تختم، وأن يكون مدَّعي النبوة محمود السيرة، وألّا يأتي بما يكذبه العقل تكذيبًا قاطعًا، ولا يأتي بما يكذب خبرًا ثابتًا عن الله عز وجل ثبوتًا قطعيًّا، وأن يكون عامّة ما يأتي به مما تتضافر الفطر والعقول والشرائع على الشهادة بأنه حق، إلى غير ذلك؛ بخلاف الاستدراج فإنه يصحبه براهين قطعية على كذب الدجّال إذا ادّعى دعوى يستشهد عليها بالعجيبة، فأما إن لم
(1)
شرح المقاصد 2/ 203. [المؤلف]
يدَّعِ ولم يستشهد فلا إشكال أصلًا. والله أعلم.
والإهانة: ما يجريه الله تعالى تكذيبًا للدجّال، كما نقل أن مسيلمة الكذاب بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بيده على رأس أقرع فنبت شعره، وتفل في بئر كان ماؤها ملحًا فعَذُب، ففعل مسيلمة مثل ذلك فازداد رأس ممسوحه قرعًا وماء بئره ملوحة
(1)
.
وقد بقي ضرب خامس، وهو الابتلاء، أعني ما يجريه الله عز وجل ليبتلي به المؤمنين ويختبرهم أيغترُّون به ويركنون إليه، فيقول أحدهم: أنا وليٌّ لله تعالى محبوب له؛ بدليل أنه أجرى على يدي الكرامة، أم يثبت على ما يقتضيه
(2)
الشريعة؟ وكما يكون ابتلاء لمن وقع على يده فهو كذلك ابتلاء لغيره، والله أعلم.
ومن أعظم الابتلاء أن يُمَكِّن الله تعالى الدجَّال من استعمال غرائبه في نفع مَنْ يوافقه والإضرار بمن يخالفه مع أن المخالف على الحق، ولكن ليتبين حالُ المخالف أعلى يقين هو من أمره أم لا؟ ويتبيَّن حال غيره أيعتصمون بالحجج الحقيقيَّة أم يغترُّون بتلك الظواهر؟ وفي أحوال الدجَّال الأكبر كثير من هذا، فاحفظه وتدبَّره، فإنه مهمٌّ جدًّا.
ومما يشهد له قصة لبيد بن الأعصم اليهودي في إضراره بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سبب نزول المعوذتين
(3)
. والله أعلم.
(1)
تاريخ الطبري 3/ 284 - 285، الروض الأنف 4/ 225.
(2)
كذا في الأصل.
(3)
صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 4/ 122، ح 3268، ومواضع أخرى، وصحيح مسلم، كتاب الأدب، باب السحر، 7/ 14، ح 5832.
[65]
فصل
وأما القسم الثاني من الغرائب: فيقع بكسب الإنسان وتَسَبُّبه، وقد تُسمَّى خوارق؛ لخفاء أسبابها وجهل غالب الناس بها.
فمنها: الشعبذة، وهي: عبارة عن أعمال تُظَنُّ أوَّلَ الأمر خارقة، فإذا عُرِفَتْ أسبابُها تبين أنها حِيَلٌ بمعونة خاصيَّةٍ يجهلها أكثر الناس، أو خفَّة اليد وسرعة الحركة إلى حدٍّ لا يثبته الناظر، أو بآلة يخفيها المشعوذ، أو عملٍ خفي قد أعدَّه من قبل، أو مساعدة شخص آخر مختبئٍ أو ظاهرٍ، والنظَّارة
(1)
لا يحسبون له علاقة بالمشعوذ، أو غير ذلك.
وللمشَعْبِذ مهارةٌ في تغليط النظارة، وصرف ظنونهم وأبصارهم إلى غير ما يريده.
[66]
(2)
وقريب من الشعبذة ما يسمى الآن بالألعاب الرياضية، كرفع
(1)
النَّظَّارة هم القوم ينظرون إلى الشيء. انظر: المعجم الوسيط، ص 923.
(2)
من منتصف ص 65 إلى آخرها مع ثلاثة أسطر من ص 66 كلامٌ مضروبٌ عليه وهو:
(وبالجملة، فالشعبذة في الأعمال كالتعمية والإلغاز في الكلام، كقولي: والله الذي لا إله إلا هو إني أستطيع أن أخطو خطوة واحدة تكون إحدى رجليّ في الهند والأخرى في صعيد مصر، وأشير عند الكلام إشارات تناسب المقام. فكلُّ مَنْ عَلِم بُعْدَ ما بين الهند وبين مصر وصعيدها يعلم أن قطع ذلك بخطوة واحدة محال، وإذا سمعني أُقْسِم على ذلك، وهو يعلم أني مسلم متحرِّز عن إظهار الكذب والفجور عَلِمَ أني لا أحلف إلا على صدق، فيتحيَّر في ذلك، فإن كان يظن بي القدرة على خرق العادة صدَّقني على ظاهر قولي، وإن أساء بي الظن كذَّبني بلا تأمُّل. والعاقل الفَطِن: الذي يتأمَّل كلامي، فإن ظَفِر له بمحمل صحيح يخرجه من المعنى المحال عرف أنه المقصود، وإلا قال: لا بدَّ له من محمل صحيح غير ما يتبادر منه، ولم يتردَّدْ في أن المتبادر من ذلك الكلام أمر محال، وأني إن أردت ظاهره فأنا كذَّاب دجَّال). [المؤلف]
إلى هنا انتهى الكلام المضروب عليه، لكن المؤلف قد عاد ووضع كلمة (صح) أربع مرات فوق آخر سطرين.
الأثقال العظيمة، والمشي على سلك دقيق ممدود بين جدارين، أو نحوها، والإمساك عن التنفس مدة طويلة، وغير ذلك مما لا يستطيع الإنسان فعله ابتداء، ولكن أصحابه تمرَّنوا عليه زمانًا حتى سَهُلَ لهم.
ومن هذا القبيل: الإمساك عن الأكل مدة طويلة، وتناول بعض السموم، وإدخال حديدة في موضعٍ خاصٍّ من البدن.
وقد رأيت فقراء يزعمون أنهم رفاعية زعموا أنهم يأتون بالخوارق، فكان أحدهم يُدخل حديدة في طرف عينه اليمنى ثم يرفع بها حدقته رفعًا يسيرًا، وهذا عمل بسيط، وهو يأبى أن يغرز الحديدة في نفس الحدقة أو يبرز الحدقة أكثر مما كان يبرزها. فأخبرناهم أن هذا ليس بشيء، فتقدَّم آخر وجعل يجذب جلد بطنه ثم يغرز فيما انجذب من الجلد مسلّة
(1)
، ولكنه يأبى أن يغرزها في حشاه بحيث تخرق الصِّفاق
(2)
، بل يأبى أن يغرزها في موضع آخر من جلده. ثم تقدَّم الثالث ــ وكان أهمَّهم ــ[67] فأبرز حنجرته وحلقومه إلى الأمام إبرازًا فاحشًا، ثم غرز حديدة في جانب عنقه الأيمن، ومرت وراء الحلقوم حتى نفذت من الجانب الأيسر، ولكن لحقته صعوبة شديدة وساعده أصحابه وبعد نفاذها سال دم وتأَلَّم الرجل. وحاول أصحابه أن يكتموا ذلك ولكن كان ظاهرًا، فقيل لهم: إن كان هذا كرامة فَلِمَ هذا
(1)
هي بمعنى الإبرة.
(2)
الصِّفاق: غشاء ما بين الجلد والأمعاء. انظر: المعجم الوسيط، ص 517.
العناءُ كلُّه؟ فزعموا أنه كان في النَّظَّارة امرأة حائض!
وسئلوا: هل يمكن هذا أن يغرز حديدة في بطنه أو في ثغرة نحره أو غير ذلك؟ فأجابوا: أنه ليس له إجازة في غير ما فعل.
وفي اليمن فقراء كثيرون هذه صناعتهم. أن يطوفوا البلاد للسؤال، ويعملون بعض أعمالٍ. يوهم أحدهم أنه يغرز الحديدة في عينه أو في حلقه أو بطنه أو نحو ذلك، ويوهم الناس أنه يتحامل على الحديدة بأقصى قوَّته، وتتمُّ حِيَلُهُم على النساء والصبيان ونحوهم، ومنهم من يضرب كتفه بالسيف، ولكنه يقيس قوَّة يده بالضرب بقدر أن يدنو السيف من كتفه أو يلامسه ملامسة خفيفة، وقد يجاوز بعضهم هذا إلى حدِّ أنه يشق أعلى الجلد فيسيل الدم.
والحاصل: أن العاقل إذا تأمَّل صنيعهم، وأمعن النظر تبين له أن عملهم كله مغالطة.
[68]
ومن الغرائب ما يكون عن قوة غريبة للنفس، فأشهر ذلك الإصابة بالعين، وقد تكون قوة الإصابة بالعين اكتسابية.
قال في شرح المقاصد: «وقالوا: إن كان العين في بني أسد
(1)
، وكان الرجل يتجوَّع ثلاثة أيام فلا يمرُّ به شيء يقول فيه: لم أر كاليوم؛ إلّا عانه»
(2)
.
وفوق الإصابة بالعين درجات كثيرة تكتسب بالرياضة، فإنه كما أن القوى الجسمية يمكن تربيتها بالرياضة حتى تصير للمرتاض قوَّة لم تكن له من قبل ولا تكون لغير المرتاض، كما مرّ في الشعبذة والألعاب، فكذلك
(1)
كذا في الأصل بتذكير العين وحذف اللام الفارقة من الخبر.
(2)
شرح المقاصد 2/ 207. [المؤلف]
القوى النفسية يمكن تربيتها بالرياضة المختصة بها. وهذا الأمر معروف من القِدَم بين اليونان وأهل الهند والصين وغيرهم.
والفلاسفة القدماء فريقان:
فريق يذهبون إلى اكتساب العلوم والمعارف بإعمال العقل والفكر، ويقال لهم: المشَّاؤون.
وفريق يذهبون إلى اكتسابه برياضة النفس وترقيتها، ويقال لهم: الإشراقيون.
قال غير واحد: فالمشَّاؤون كالمتكلمين من المسلمين، والإشراقيون كالمتصوِّفين.
وفي رسائل ابن سينا وغيره كثير من طريق الإشراقيين، ويسميها هو تصوفًا.
وقال البيروني
(1)
: إن اشتقاق التصوف من كلمة يونانية هي سوفا، ومعناه: الحكمة، ومنها قيل: فيلسوف، وأصله باليونانية فيلا سوفا، أي: محبّ الحكمة، فعُرِّبت هذه الكلمة بالصاد، ونسب إليها الصوفي
(2)
.
أقول: واعلم أن أهل الرياضة من الأمم تختلف أغراضهم، فالحكماء
(1)
هو أبو الريحان أحمد بن محمد -وقيل محمد بن أحمد- الخوارزمي العلامة المنجم الطبيب، اللغوي، من مؤلفاته:«الآثار الباقية عن القرون الخالية» ، توفي سنة 440 هـ. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطبَّاء 2/ 20 - 21، ومعجم الأدباء 17/ 180.
(2)
تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص 24.
إنما يقصدون أن تصفو أنفسهم، وتنكشف لهم بعض الحقائق الكونية والمعارف الربانية، رغبة في العلم والمعرفة، [69] فإذا حصلت لهم قوى غريبة لم يأنسوا بها، ولا يلتفتون إلَّا إلى ما يرونه معينًا لهم على مطلوبهم. ولكنَّ كثيرًا من الناس إنما يرتاضون طلبًا لتحصيل القوة الغريبة، ومنهم من يكون نيته أوَّلًا تحصيل المعرفة، ولكن إذا حصلت له القوة الغريبة اغترّ بها وعكف عليها.
وأساس هذه الرياضات عندهم الجوع والسهر والعزوبة والخلوة وقطع الشواغل وجمع الفكر في شيء واحد، وأن لا يأكل روحًا ولا ما خرج من روح، كالبيض، والسمن، واللبن، وغير ذلك، وإتعاب الجسد وأعمال أخرى لها قواعد مخصوصة عندهم كرياضة التنفُّس، فينظِّم الطالب تنفُّسه على كيفية مخصوصة يواظب عليها حتى تصير له عادة. ومنها: أن يوجِّه همته عند استنشاق الهواء إلى أن يمرَّ به على طريق مخصوص يمرُّ على أعضاء مخصوصة، وغير ذلك.
ثم إنهم يزيدون على هذا المقدار أشياء تناسب غرض الطالب وعقيدته، فمن كان غرضه تحصيل المعرفة وتصفية النفس يضيف إلى ذلك المحافظة على الشريعة التي يعتقدها حقًّا، فالصابئة يضيفون تعظيم الكواكب ودعاءَها والتبخير بالبخورات الخاصة وغير ذلك، والوثنيون تعظيمَ الأصنام [70] والعكوف عليها، ونحو ذلك؛ وهكذا كل فريق بحسب اعتقاده.
ومن كان غرضه تحصيل القوة الغريبة فإنه يقتصر على ما يظنه كافيًا في تحصيلها، حتى إن منهم مَنْ يستعجل حصول تلك القوة ويرى أنها لا تحصل له إلا إذا أصلح نيته، ولكنه قد يحصل له مثلها بمعونة الشياطين،
فيسعى في الأعمال الخبيثة في اعتقاده، ويبالغ فيها، فربما حصل له شيء من القوة بسبب الرياضة إن كان ارتاض، ولكنه يظنها ما حصلت له إلا بتلك الأعمال الخبيثة، وأنه إن ترك تلك الأعمال سُلِبَ تلك القوة.
ومنهم من تستولي عليه الشياطين حقيقة، فيساعدوه
(1)
على بعض ما يريد ليطيعهم، ويعمل على تطويع الناس لهم، والعياذ بالله.
والمقصود أن حصول تلك الآثار إنما هو في الغالب نتيجة لما قدَّمنا ذكره من الجوع والسهر ونحوهما، فإذا صَحِبَ ذلك نوعٌ ما مما يراه المرتاض عبادة فإنما يساعد على حصول تلك الآثار من حيث هو رياضة. ولذلك لا يختص حصول تلك الآثار بدين من الأديان، ولكن الناس لجهلهم بالأسباب الحقيقية يستدلون على صحة الدين بحصول تلك الآثار للمرتاضين العاملين به، بل قد يستدل المرتاض نفسه بذلك، وهو خطأ كما علمتَ. والله أعلم.
[71]
واعلم أن هذه الرياضة ليست بمذمومة على الإطلاق، فقد جاء الإسلام بالنهي عن الإسراف في الأكل والشرب، وبمشروعية الصيام، وقيام الليل، والتفكر، والاعتكاف، وغير ذلك مما يتضمن طرفًا من الرياضة وإن لم تكن الرياضة هي المقصود من ذلك، على أنه لا يبعد أن تكون مقصودة في الجملة.
وعلى كل حال فإن القدر الذي تضمنته العبادات المشروعة في الإسلام من الرياضة مفيد في تهذيب الأخلاق، وتقوية العزم، وتصفية النفس، وغير
(1)
كذا في الأصل.
ذلك إلى حدٍّ لا يبلغ القوى الغريبة. بل جاءت أحاديث كثيرة في النهي عن الغلوِّ في العبادات؛ فثبت النهي عن مواصلة الصوم، وعن صوم الدهر، وعن قيام جميع الليل أبدًا، وأخرى في النهي عن الغلو، وعن التشديد على النفس ومجاوزة ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عهده. فكان الصحابة رضي الله عنهم وعامَّة التابعين واقفين عند الحدود الشرعية في ذلك، ولكنه بعد ذلك نشأ أفرادٌ لهم رغبة في الخير وفي عبادة الله عز وجل، يتأوّلون ما ثبت عن الشارع من النهي عن الزيادة في العبادات بأن ذلك كان شفقة منه على الناس لئلا يشق عليهم، أو خشية أن يكون الإمعان في العبادة داعيًا إلى السآمة والملل، أو لئلا تضعف أجسامهم عن الجهاد والعمل في إعزاز الإسلام، ونحو ذلك من التأويلات.
وربما بالغ بعضهم [72] في العبادات ونحوها مما ورد في الشرع استحبابُ طرفٍ منه، حتى يبلغ بهم الحالُ إلى مشابهة أهل الرياضات، كما كانوا يبالغون في تجويع أنفسهم؛ لأنهم لا يجدون طعامًا حلالًا صِرْفًا لا شبهة فيه، وفي مناقب الزهاد أشياء من ذلك. وفي القرن الثاني والثالث بدأ هؤلاء المبالغون يذكرون أن للجوع فائدة في تصفية النفس.
ثم اطَّلع المسلمون على فلسفة اليونان ووجدوها على طريقين: إعمال العقل، ورياضة النفس؛ فنقلوا ذلك وعملوا به.
وقد عورضوا في الأولى معارضة شديدة يعلمها من له إلمام بتاريخ الإسلام.
وأما الثاني فلم يَلْقَ كبيرَ معارضة؛ لأن أصحابه ألحقوا كلَّ طَرَفٍ منه بما يشابهه في الإسلام، وقد قدَّمنا أن الإسلام تضمَّن طرفًا من الرياضة، وأن
بعض الراغبين في الخير بالغوا في ذلك. ولم تبق على الناقلين صعوبة إلا في بعض الأمور؛ كالعزوبة، وأن لا يأكل من روح ولا ما خرج من روح، ورياضة التنفس، فألحقوها بالإسلام بضربٍ من التَّمَحُّل، فقالوا: إن الزواج يشغل عن أداء الحقوق، ويحمل على الحرص على الدنيا من حلِّها وغير حلِّها، ولا سيَّما على أمثالنا من الضعفاء، فأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فكانت عندهم قوة ليست عندنا، وذكروا حديثًا نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خيركم بعد الـ
…
(1)
مَن لا زوجة له ولا ولد».
وأما منع الأكل من روح أو ما خرج من روح فاستشهدوا له بما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن لهذا اللحم ضراوة كضراوة الخمر
(2)
، [73] وغير ذلك.
وأما رياضة التنفس فاخترعوا لها نوعًا من الذكر بقولهم: (هو الله، الله
(1)
كذا في الأصل. ولعلَّه أراد حديث: «خيركم في المائتين كلُّ خفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد» . أخرجه أبو يعلى في مسنده - كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 3، ح 3584 - وغيره، من طريق روَّاد بن الجرَّاح عن سفيان الثوريّ، ولم يتابَع عليه. ولذلك قال أبو حاتمٍ:«باطلٌ» ، وقال مرَّةً:«منكرٌ» . انظر: العلل س 1890 و 2765. وقال الدارقطنيّ: «تفرَّد به روَّادٌ، وهو ضعيفٌ». انظر: العلل المتناهية 2/ 146 - 147، ح 1051 - 1052. وقال السخاويّ:«وعلَّته روَّادٌ، ولذا قال الخليليّ: ضعَّفه الحفَّاظ فيه وخطَّؤوه. انتهى. فإن صحَّ فهو محمولٌ على جواز الترهُّب أيَّام الفتن. وفي معناه أحاديث كثيرةٌ كلُّها واهيةٌ» . المقاصد الحسنة ص 203، ح 452. وقال الألبانيّ:«باطلٌ» ، وقال أيضًا:«موضوعٌ» . انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 71، ح 3580، ضعيف الجامع الصغير ح 2919.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 524 - 525 ح 2702، وأبو داود في الزهد (47) ، وغيرهما.
هو)، على نظام مخصوص، واخترعوا بدل جمع الهمة وحصر الفكر في شيء معيّن حصر المريد هَّمته في تصوُّر الشيخ، ونحو ذلك.
واعلم أن العاملين بالرياضة من المسلمين على أقسام:
فقسم منهم يرى أنها علم من العلوم، وصناعة من الصنائع، تختلف أحكامها في الشريعة باختلاف الغرض منها. فمَنْ كان غرضه منها تهذيب نفسه وتقوية إدراكه وتحصيل قوة يستعين بها على معرفة ربِّه فلا بأس بها عند هؤلاء. ومَنْ كان غرضُه تحصيلَ قوة يستعين بها على أغراضه الدنيوية من الجاه والشهرة ونحو ذلك فهي وبال عليه.
وقسم منهم تَوَهَّم أنها عبادات، إما بناء على ما تقدّم من أن الشريعة جاءت بشيء مما يشبهها، وأن أفرادًا من الراغبين في الخير بالغوا في ذلك إلى أن قربوا منها. وإما استنادًا إلى كلام المتأخرين من المتصوفين الذين يزعمون أن تلك الأعمال عبادة إسلامية بدون تأويل.
وقسم ليس لهم اعتقاد ثابت في الشريعة، ورأوا أن هذه الرياضة طريقة من طرق الحكماء تُوْصِل إلى زيادة المعرفة والقوة الغريبة، ولكنهم يراؤون الناس بزعم أنهم يعتقدون [74] أنها عبادة. ثم لما كان مقرَّرًا عند جمهور الأمة أن الله عز وجل يكرم صالحي عباده بأن يخرق لهم العادة أحيانًا، وقد نقل شيء من ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وكان أكثر الناس يجهلون أن الرياضة من شأنها ترقية قُوَى الناس إلى حدِّ الغرائب= صاروا يسمُّون كلَّ ما يظهر أو ينسب إلى المرتاضين من الغرائب: كراماتٍ، مع أنها محتملة لذلك، ومحتملة أن تكون من آثار الرياضة. والله أعلم.
وقد قال الصوفية أنفسهم بأن السالك يمر على مرتبة السحر العال
(1)
يكون صاحبها بحيث لا يريد شيئًا إلا كان في الحال، وأنه إن وقف عليها هلك. ذكره غير واحدٍ، منهم: عبد الكريم الجيليّ
(2)
في «الإنسان الكامل» ، في الباب السادس والثلاثين
(3)
، وفي كتب الغزاليّ نحو ذلك.
ومن الغرائب ما يكون بمساعدة الشياطين، إما لمشاكلة بينهم وبين نفس ذلك الإنسان، كابن صَيَّاد الثابتة قصته في الصحيحين وغيرهما
(4)
.
وإما بسعي ذلك الإنسان فيما يرضي الشياطين حتى يساعدوه، كما في كُهَّان العرب. وكان في زمن الحجاج رجل يقال له عبد الله بن هلال، ويلقَّبُ «صديق إبليس» ؛ كان يعمل الغرائب، وكان يترك صلاة العصر إرضاء لإبليس حتى يساعده
(5)
.
(1)
كذا في الأصل بحذف ياء المنقوص، وفسَّره الجيليّ في الإنسان الكامل (1/ 71) بأنه شيءٌ يشبه الكرامات، قال:«لأنه بلا أدويةٍ ولا عملٍ ولا تلفُّظٍ بشيءٍ، بل بمجرَّد قوىً سحريَّةٍ في الإنسان تُجْري الأمور على حسب ما اقتضاه الساحر» .
(2)
عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي القادري، قطب الدين، صوفي، من تصانيفه الكثيرة: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلَّى لأهل الذكر من الأنوار لابن عربي، توفي سنة 832 هـ. الأعلام 4/ 50 - 51 ومعجم المؤلفين 5/ 313.
(3)
1/ 71.
(4)
انظر: البخاريّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ كيف يعرض الإسلام على الصبيّ؟ 4/ 70 - 71، ح 3055. وصحيح مسلمٍ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيَّادٍ، 8/ 189 - 194، ح 2924. [المؤلف]
(5)
انظر ترجمته في: لسان الميزان [3/ 372 - 374]. [المؤلف]
وكثير من الناس في الهند وغيرها في عصرنا هذا يسلكون هذه الطريقة، أي التقرب إلى الشياطين.
وإما لقصد الشياطين أن يُضِلُّوا ذلك الإنسان ويُضِلُّوا به، وقصة الشيخ عبد القادر الجيلي رحمه الله وتعرُّض الشيطان له مشهورة، وأشباهها كثيرة.
قال ابن قتيبة في عيون الأخبار
(1)
: حدثني محمد بن داود، قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في الرجل يرى الضوء في الليل قال: هو من الشيطان، لو كان فضلًا لأوثر به أهل بدر.
وعن السلف آثار أخرى في هذا المعنى، كما روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وغيرها، من قولهم لِمَنْ يُصْعَقُ عند سماع القرآن: من الشيطان، وغير ذلك
(2)
.
وفي مقابلها آثار كثيرة عن التابعين فمن بعدهم في تحسين الظنِّ بمن ظهر على يده شيء من الغرائب، وكان واقفًا عند حدود الله تعالى، متحقِّقًا بالكتاب والسنة، بلا تحريف ولا تأويل يخالف به العلماء. والله أعلم.
فأما السحر، فمنه ما يكون بالرياضة، ومنه ما يكون بالتقرُّب من الشياطين، ومنه ما يكون بغير ذلك، وسنتكلم عليه في ما يأتي إن شاء الله.
[75]
فصل
واعلم أن الخوارق والغرائب متقاربة يلتبس بعضها ببعض غير أن المعجزة تمتاز بما قدمنا، وكذلك الإهانة ممتازة كما مرّ.
(1)
4/ 301. [المؤلف]
(2)
انظر: سنن سعيد بن منصور، كتاب فضائل القرآن 2/ 330 ح 95، وانظر آثارًا أخرى في هذا المعنى في الدر المنثور 7/ 221 - 222.
فأما الكرامة فذكر أهل العلم أنها تمتاز بوقوعها على يد المسلم العالم بالشريعة العامل بها.
قال الشعراني في كتابه «تنبيه المغترِّين» : «من أخلاق السلف الصالح رضي الله عنهم ملازمة الكتاب والسنة كلزوم الظلِّ للشاخص، ولا يتصدَّر أحدهم للإرشاد إلا بعد تبحره في علوم الشريعة المطهرة بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة أو الراجحة الواضحة، وكتب القوم مشحونة بذلك، كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم.
وقد كان سيد الطائفة الإمام أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه يقول: كتابنا هذا ــ يعني القرآن ــ سيد الكتب وأجمعها، وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقُّها، وطريقتنا ــ يعنى طريق أهل التصوف ــ مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة ويفهم معانيها لا يصح الاقتداء به.
وكان رضي الله عنه يقول: ما نزل من السماء علم وجعل الله لغير [76] نبيٍّ إليه سبيلًا إلا وجعل لي فيه حظًّا ونصيبًا.
وكان رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلًا قد تربَّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنعه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثلًا لجميع الأوامر الإلهيّة مجتنبًا لجميع المناهي فاعتقدوه واقتدوا به، وإن رأيتموه يخلُّ بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه. انتهى»
(1)
.
وفي الأنوار: «ومن ادَّعى الكرامات لنفسه بلا غرض ديني فكاذب
(1)
تنبيه المغترين ص: 6. [المؤلف]
يلعب به الشيطان»
(1)
.
(2)
.
وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على غزوة الرجيع من فتح الباري: «ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدلّ على أنّ من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحرٍ وكاهن وراهب، فيحتاج مَنْ يستدلُّ بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارقٍ، وأولى ما ذكروه أن يُخْتبر حالُ مَنْ وقع له ذلك، فإن كان متمسِّكًا بالأوامر الشرعية كان ذلك علامة ولايته، ومَنْ لا فلا»
(3)
.
أقول: والتمييز بين الكرامة والابتلاء والغرائب التي قدَّمناها صعب جدًّا، كثيرًا ما يشتبه على من جرت الواقعة على يده فضلًا عن غيره. وأقصى ما يمكن: أن تمتحن تلك الواقعة مع النظر في جميع ما يتعلق بها، وتوزن بالكتاب والسنة، فإن وُجِد فيها مخالفةٌ ما لظاهرٍ من ظواهر الشريعة كان الظاهر أنها ليست بكرامة، وإلا كانت محتملة.
وهذا ــ والله أعلم ــ مراد الجنيد وأبي يزيد. فأما أمرهما بالاعتقاد والاقتداء فإنما ذلك لكون ذلك الرجل عالمًا عاملًا [77] بحسب الظاهر،
(1)
نقله ابن حجر ص: 54 وأقرّه في الإعلام [بهامش الزواجر 2/ 161]. [المؤلف].
(2)
الاعتصام 1/ 113 - 114.
(3)
فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]
ومن كان كذلك كان أهلًا أن يُعْتَقَد فيه ويُقْتَدى به وإن لم يظهر على يده شيء، فظهور تلك الواقعة مع سلامتها عن الدلالة على مخالفته للشريعة إن لم يزده لم ينقصه، فتدبَّرْ.
وعلينا إذا رأينا مَنْ ظهر على يده شيء من ذلك، وهو معتصم بالشريعة واقف عند حدودها، ولم يتعاط شيئًا من أسباب الغرائب، أن نظن تلك الظاهرة كرامة، وهذا مجرد ظن لا يكون حجة على القطع بأنه وليٌّ لله تعالى.
وقد تقدّم في الطريق الثالث
(1)
ما فيه كفاية، والحمد لله.
[وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «ويحك قطعت عنق صاحبك» ، يقولها مرارًا:«إن كان أحدكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكِّي على الله أحدًا»
(2)
.
وفي صحيح البخاريِّ وغيره حديث سعد بن أبي وقاص وقوله في رجل: إنه لمؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أو مسلم» ، الحديث
(3)
.
(1)
لعله يشير إلى استناد بعضهم إلى تقليد الصوفية المعتَقَد فيهم العصمة.
(2)
البخاريّ، كتاب الأدب، باب ما يُكرَه من التمادح، 8/ 18، ح 6061. ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراطٌ، 8/ 227 - 228، ح 3000. [المؤلف]
(3)
البخاريّ، كتاب الإيمان، بابٌ إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، 1/ 14، ح 27. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تألُّف مَن يُخاف على إيمانه، 1/ 91، ح 150.
وحديث الأنصارية التي قالت في عثمان بن مظعون بعد وفاته: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ » الحديث. وفيه: «والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به»
(1)
.
وفي مسند أحمد وغيره عن شقيق، ومسروق، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن من أصحابي مَنْ لا يراني بعد أن أفارقه» ، فبلغ عمرَ رضي الله عنه، فجاء عمرُ فدخل عليها فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولن أبرِّئ أحدًا بعدك
(2)
]
(3)
.
[78]
وبالجملة، الأدلة في هذا كثيرة، وحاصلها: النهي عن القطع، فأما الظن وما يتبعه من الثناء المبني على الظاهر بدون نصٍّ على القطع، فلا حرج فيه. وإذا ظننا في إنسان أنه وليٌّ لله تعالى بما ظهر لنا من علمه وعمله، واستقامته على الصراط الشرعي؛ فلا يلزم من ذلك أن نجعل قوله حجة؛ لأن ولايته لم تثبت بالقطع، ولو ثبتت فهي لا تقتضي العصمة.
وقد سئل الجنيد: أيزني العارف؟ فسكت قليلًا، ثم قال:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]
(4)
.
وهب أننا ظننا برجل أنه معصوم أو كالمعصوم، فإنما ذلك عن التعمُّد، فأمَّا عن الخطأ فلا شبهة في عدم عصمته؛ إذ لا تمنعه تقواه وورعه أن يخطئ
(1)
البخاريّ، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، 3/ 182، ح 2687. [المؤلف]
(2)
المسند 6/ 290، وص 298، وص 307، وص 312، وص 317. [المؤلف]
(3)
ما بين المعقوفتين رأينا عليه خطًّا معترضًا، يحتمل أن يكون للضرب عليه.
(4)
انظر: الرسالة القشيرية ص 187.
فيقول أو يعمل ما يظنه حقًّا وهو في نفس الأمر باطل. وكذلك لا يمنعنا اعتقاد أنه أخطأ مِنْ حُسْنِ الظن به، وظنِّ أنه كان صالحًا فاضلًا أو وليًّا لله عز وجل؛ فإن المجتهد إذا أخطأ لم يأثم، بل هو مأجور، كما ورد في الحديث
(1)
، وأشار إليه القرآن في قصة داود وسليمان، فقال تعالى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
واعلم أن كثيرًا من مسائل العقائد لا تخرج عن هذا؛ فإن كثيرًا من الأعمال والأقوال يُعَدُّ كفرًا، ومع ذلك يُنْقل شيء منه عن بعض الأكابر، ولا يمنع ذلك من اعتقاد فضلهم وصلاحهم وولايتهم؛ فإن إنكار آية من القرآن كفر، ومع ذلك فقد قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: إن المعوذتين ليستا من القرآن، ولم يقدح ذلك في جلالته، لما كان له من العذر. وأمثلة ذلك كثيرةٌ، لعلَّنا نفرد لها فصلًا، وقد قدَّمنا
(2)
ما يتعلَّق بهذا.
وحاصله: أنه ليس كل ما ثبت في العمل أنه كفر أو شرك ثبت أن كلَّ مَنْ عَمِله يكون كافرًا أو مشركًا، بل ربما يكون العمل كفرًا أو شركًا ويكون بعضُ عامليه من أولياء الله عز وجل؛ لأنه كان معذورًا في عمله.
وبهذا يندفع عنك ما تتوهَّمه؛ إذ تقول لك نفسك: لو كان هذا كفرًا أو شركًا لكان فلان وفلان وآبائي ومشايخي كفارًا، وأنت لا تستطيع أن تتصوَّر ذلك، وبهذا التوهم تتجنَّب النظر إلى الأدلة بالعدل والإنصاف.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 9/ 108، ح 7352. ومسلم في كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 5/ 131، ح 1716، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(2)
في ص 132 - 147.
وقد غلط كثير من الناس فصاروا إذا ظهر لهم في أمرٍ أنه كفر تعدَّوا الحدود وأعلنوا بتكفير جماعة من أئمة الدين والأولياء الصالحين، وهذه حماقة شيطانية.
نعم لا يلزم من عذر بعض العاملين أن يُعْذَر جميعهم؛ فإن للعذر شرائط، فلا يخدعنَّك الشيطان، فتقول: إذا كان أولئك معذورين فأنا معذور على فرض أن هذا العمل كفر أو شرك؛ فإنك إنما تعذر إذا بحثت وحقَّقْت وبذلت وُسْعَك ثم تبيَّن لك أنه ليس ذلك العمل بكفر ولا شرك، بشرط أن تكون أهلًا للبحث والنظر، وإلَّا فإنه يتعين عليك الاحتياط.
ولعلَّنا نوضح هذا المعنى، وإنما قدَّمنا هنا الإشارة إليه مخافة أن يمنعك التوهُّمُ المذكور عن النظر في رسالتنا هذه نظر الطالب للحقِّ من حيث هو حقٌّ. والله الموفق.
وأنت خبير أن سادة الأولياء هم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُجْعَل قولُ أحد منهم حجة كما تقدَّم.
وكثيرًا ما نجد المنسوبين إلى الولاية يختلفون فيما بينهم، ويخطِّئ بعضهم بعضًا، وقد يَنْسُبُ كلٌّ منهما رأيَه إلى الكشف، وقد يقول أحدهم قولًا ينسبه إلى الكشف ثم يرجع عنه، وينسب رجوعه إلى الكشف أيضًا، وفي ذلك دلالة على أن الكشف يخطئ. وفي أبيات لابن عربي
(1)
:
واعتصم بالشرع في الكشف فقد
…
فاز بالخير عُبيدٌ قد عُصِم
(1)
نقلها الآلوسيُّ في روح المعاني (1/ 141 - 142) عن الفتوحات لابن عربيّ. وستأتي بقيَّة الأبيات في ص 307.
وسبب الخطأ في الكشف يُعْلَم مما قدمنا في الخوارق والغرائب.
وأزيدك هاهنا فائدة جليلة.
[79]
اعلم أن الكشف، وإن ثبت أنه صحيح، فالأغلب أنه يكون له تأويل كتأويل الرؤيا، يوكل ذلك التأويل إلى فهم المكلَّف. والبرهان على ذلك مكاشفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رأى ليلة أُسْرِي به الفطرة في صورة اللبن، والشهوات في صورة الخمر، وأشياء كثيرة رآها
(1)
، وهي من باب التمثيل تحتاج إلى تأويلٍ.
وكذلك رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد رأى يوسف عليه السلام الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، وكان تأويلُ ذلك سجودَ أبويه وإخوته.
وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ
…
} [الأنفال: 43].
فرآهم قليلًا وليسوا في الواقع قليلًا، ولكن ذلك كناية عن الذلَّة، وأنهم سيُغلبون. ورأى أنه في درع حصينة فأوَّلها المدينة. ورأى بقرًا تُنْحَرُ، فأوّلها بمن يقتل من أصحابه. ورأى سوارين من ذهب، فأولهما بالكذَّابَيْنِ: مسيلمة والأسود. وأمثال ذلك كثير
(2)
.
وإنما يكون الظاهر حجة في الأوامر التكليفية التي كلف الله العباد أن
(1)
سيأتي تخريج هذه الأحاديث بعد أسطر.
(2)
انظر: باب التعبير في صحيح البخاريِّ 9/ 29 - 46، [ح 6982، وما بعده]. وكتاب الرؤيا في صحيح مسلمٍ 7/ 50 - 58، [ح 2261، وما بعده]. [المؤلف].
يتدبروها ويعملوا بما فيها، فأمّا ما عدا ذلك فهو على ما وصَفْتُ.
هذا مع أن رؤيا الأنبياء وحي، فأما رؤيا غيرهم فإنها كما جاء [80] في الحديث محتملة أن تكون صادقة، وأن تكون من حديث النفس، وأن تكون من الشيطان.
والكشفُ عند التحقيق ضرب من الرؤيا، غاية الأمر أن الروح إذا قويت وضعف الجسد صارت الروح تعمل في اليقظة مثل ما تعمل غيرها من الأرواح في النوم. والبرهان على هذا حديث البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يبق من النبوَّة إلا المبشِّرات» ، قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة»
(1)
.
فلو كان الكشف أقوى من الرؤيا لكان أولى بأن يستثنيه.
ثم رأيت في فتح الباري نقلًا عن الطيبي: «
…
فلا يظهر على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلا لرسول
…
وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات»
(2)
.
فأما حديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» ، وفي روايةٍ:«فإن عمر بن الخطَّاب منهم»
(3)
. فقد تتبعنا
(1)
البخاريّ، كتاب التعبير، باب المبشِّرات، 9/ 31، ح 6990. [المؤلف]
(2)
انظر: فتح الباري 13/ 284. [المؤلف]
(3)
البخاريّ، كتاب فضائل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، 5/ 13، ح 3689، [من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل عمر رضي الله عنه، 7/ 115، ح 2398، [من حديث عائشة رضي الله عنها]. [المؤلف].
سيرة عمر رضي الله عنه فلم نجد له من هذا القبيل إلا الفراسة وصدق الظن. ولم يكن ذلك مطَّرِدًا له، بل كان ربما أخطأ، ولم يكن يحتج في الشريعة بمجرد ظنه، بل كان يقضي القضاء ثم يرجع عنه لحديث يبلغه، أو لرأي يبدو له أو غير ذلك.
وهكذا لم يقل أحد من الصحابة ولا مَن بَعْدَهُم: إن قول عمر يكون حجة لحديث التحديث، وقد وجدنا صغار الصحابة وأئمة التابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وأضرابهم كثيرًا ما يخالفون عمر لأدلَّة ظنية، بل لم يكن أحد من الصحابة يحتجّ في قليل ولا كثير [81] بالكشف، بل لا يكاد يصحُّ، بل لا يصحُّ عن أحد منهم دعوى الكشف لنفسه أو لغيره منهم، والله المستعان.
وقصَّة: (يا سارية الجبل) لم تصحَّ، وإن قال بعض المتأخِّرين: إن لها طرقًا تبلغ بها درجة الحسن لغيره
(1)
، ومع ذلك ففيها: أن عمر سُئل بعد أن قال: «يا سارية الجبل» ، فأجاب أنه شيءٌ جرى على لسانه لم يُلْقِ له بالًا، وسيأتي بقية الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
(2)
.
وهكذا نجد نقل الكرامات عنهم قليلًا، والنادرَ من ذلك القليل صحيحًا، مع أنهم خير الأمة وأقربها من الله تعالى ورسوله، وأولاها بكل
(1)
لعلَّه يعني الحافظ ابن كثيرٍ؛ فإنه قال بعدما ذكر طرقًا لهذه القصَّة: (فهذه طرقٌ يشدُّ بعضها بعضًا). انظر: البداية والنهاية 10/ 176. أو الحافظ ابن حجرٍ؛ فإنه حسَّن إسنادها في الإصابة، ترجمة سارية بن زنيم بن عبد الله الدؤليِّ، 4/ 177.
(2)
انظر: ص 799.
فضل، ولا يبلغ أحد ممن بعدهم مُدَّ أحدهم ولا نصيفه، عَمِلَ ما عَمِل. ولقد ينقل لواحد من أفراد الأمة بعد القرون الفاضلة أضعاف أضعاف ما نُقِلَ عن مجموع الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من ذلك، وأنت إذا كنت قد تدبَّرت ما قدَّمنا فقد علمت السبب الحقيقيَّ في ذلك. والله أعلم.
وأغرب من ذلك أنك تجد الصحابة وخيار التابعين ومَنْ يليهم من العارفين كانوا شديدي الخوف من الله عز وجل، والمقت لأنفسهم، واتهامها بالغرور والرئاء وغير ذلك، مع أن منهم مَنْ مدحه الله عز وجل في كتابه وبشره بالجنة على لسان رسوله، وكثر ثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، وكان ممن ورد فيهم:«اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»
(1)
، فلا تجد أحدا منهم ادّعى لنفسه الخير والصلاح، وأن الله يحبه، وأنه من المقربين، ونحو ذلك.
[81 ب] وفي الصحيحين عن عائشة قالت: صنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ترخص
(2)
وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله ثم قال:«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشيةً»
(3)
.
(1)
صحيح البخاري كتاب الجهاد، باب الجاسوس
…
، 4/ 59 ح 3007، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر 7/ 167 ح 2494 من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
(2)
في بعض نسخ البخاريِّ: ترخَّص فيه.
(3)
البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب ما يُكرَه من التعمُّق والتنازع، 9/ 97، ح 7301، مسلم، كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وشدَّة خشيته، 7/ 90، ح 2356، وفي رواية له:«فغضب حتى بان الغضب في وجهه» . [المؤلف]
وفي معنى ذلك أحاديث أخرى.
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد
(1)
.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَة من الأرض، فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخْلَق، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نسيًا منسيًّا
(2)
.
وفي مسند أحمد وغيره عن مسروقٍ
(3)
.
وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في مناجاته بالليل: «آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق»
(4)
.
وقال ابن سعد
(5)
:
وعن ابن مسعود أنه قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب
(1)
الموطَّأ بهامش شرحه المنتقى للباجي 7/ 312. [المؤلف]. وهو في كتاب الجامع، باب ما جاء فيما يُخاف من اللسان، 2/ 586، ح 2825 - ط: دار الغرب-.
(2)
انظر: الزهد لابن المبارك ص 79، ح 234، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 360، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام عمر بن الخطَّاب، 19/ 149، ح 35621. وفي إسناده: عاصم بن عُبَيد الله، وهو ضعيفٌ.
(3)
بيَّض له المؤلِّف.
(4)
انظر: حلية الأولياء 1/ 85، تاريخ دمشق 24/ 401. وفي إسناده: محمد بن السائب الكلبي، وهو متهم بالكذب. وله طريق آخر عند ابن عبد البر في الاستيعاب 3/ 44 (بهامش الإصابة)، وفيه رجل مبهم.
(5)
بيَّض له المؤلِّف.
اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن هاهنا رجل ودّ أنه إذا مات لا يُبْعَث، يعني نفسه
(1)
.
وعنه قال: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم عليّ التراب
(2)
.
وعنه قال: لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي: اختر نخيِّرْك، من أيهما تكون أحب إليك، أو تكون رمادًا؛ لأحببت أن أكون رمادًا
(3)
.
يريد أن يخيّر بين أمرين:
أحدهما: أن يكون رمادًا.
الثاني: أن يُقْضَى له بما يستحقه من الجنة أو النار، فهو يختار الأول، أي: أن يكون رمادًا، لأنه لو اختار الثاني لا يدري لعله يقضى له بالنار.
وعن ابن عمر قال: لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، ثم تلا:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]
(4)
.
(1)
انظر: الزهد للإمام أحمد ص 195 و 198، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 405.
(2)
انظر: الزهد لأبي داود، ص 144، ح 148، المعرفة والتاريخ 2/ 549، المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عبد الله بن مسعودٍ، 3/ 316، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406 - 407.
(3)
انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ابن مسعود، 19/ 165، ح 35683، المعجم الكبير للطبراني 9/ 105، ح 8535، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406. قال الهيثمي:(ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أني لم أجد للحسن سماعاً من ابن مسعود). مجمع الزوائد 10/ 407.
(4)
انظر: تاريخ دمشق 31/ 146، صفة الصفوة 1/ 576.
وروى ابن سعد في ترجمة ابن عمر من الطبقات عن أبي الوازع أنه قال: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. قال: فغضب وقال: إني لأحسبك عراقيًّا، وما يدريك ما يُغْلق عليه ابن أمّك بابه؟
(1)
.
وعن أبي ذرٍّ قال: والله لوددت أن الله عز وجل خلقني يوم خلقني شجرة تُعْضَد، ويؤكل ثمرها
(2)
.
[81 ج] وعن أبي الدرداء قال: أخوف ما أخاف أنْ يقال لي يوم القيامة: أعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فإن قلتُ: علمتُ لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أُخِذْتُّ بفريضتها، الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت
(3)
.
(1)
الطبقات الكبرى 4/ 161. وانظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نُعَيم بن حمَّادٍ) ص 14، ح 54، المعرفة والتاريخ 3/ 191، المدخل للبيهقيِّ 2/ 91، ح 542، تاريخ دمشق 31/ 157 - 158، صفة الصفوة 1/ 572.
(2)
انظر: مسند أحمد 5/ 173، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام أبي ذرٍّ، 19/ 209، ح 35827، الزهد لأبي داود، ص 186 - 187، ح 203، الزهد لوكيعٍ 1/ 393، ح 159، المستدرك، كتاب الأهوال، بشارة النبيِّ للمؤمنين أن يكونوا شطر أهل الجنَّة، 4/ 579. الزهد لهناد ص 259، ح 450، الزهد لابن أبي عاصم، ص 42، ح 66، حلية الأولياء 1/ 164، صفة الصفوة 1/ 595. وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذيُّ في كتاب الزهد، باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً» ، 4/ 556، ح 2312، وقال:(هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ). وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، 2/ 1402، ح 4190، والحاكم في المستدرك، الموضع السابق، 4/ 579، وقال:(هذا حديثٌ صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ. والموقوف هو الأشبه، كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة 4/ 261، ح 1780، والسلسلة الصحيحة 4/ 299، ح 1722.
(3)
انظر: حلية الأولياء 1/ 214، صفة الصفوة 1/ 630. وورد نحوه في الزهد للإمام أحمد ص 170، وشعب الإيمان للبيهقيِّ 4/ 411، ح 1646، وجامع بيان العلم 1/ 549، ح 1201. ورُوِي مرفوعاً، وأوَّله: «كيف أنت يا عُوَيمر إذا قيل لك يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ
…
». أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، كما في بغية الباحث 2/ 1004، ح 1124، والخطيب في اقتضاء العلم العمل ص 19، ح 5، وابن عساكر في تاريخه 67/ 181. وضعَّفه الألبانيُّ في السلسلة الضعيفة 9/ 179، ح 4157.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ دخل عليها ابن عباس وهي محتضَرة فبشرها، وذكر فضائلها. فقالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده، لوددت أني كنت نسيًا منسيًّا
(1)
.
وعن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام أنه حجَّ فلما أحرم واستوت به راحلته اصْفَرَّ لونه، وانتفض، ووقع عليه الرِّعْدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول: لبيك فيقال لي: لا لبيك، فقيل له: لا بدَّ من هذا، فلما لَبَّى غُشِيَ عليه، وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجَّه
(2)
.
وعن محمد بن عليِّ بن الحسين أنه كان يقول في جوف الليل: إلهي أمرتني فلم آتَمِرْ، وزجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك ولا أعتذر
(3)
.
(1)
انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة النور، باب: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
…
}، 6/ 106، ح 4753، حلية الأولياء 2/ 45، صفة الصفوة 2/ 37 - 38.
(2)
ذُكِرَتْ هذه القصة في ترجمة علي بن الحسين من تهذيب التهذيب [7/ 306]. [المؤلف]. وانظر: المجالسة وجواهر العلم 3/ 154، تاريخ دمشق 41/ 378. قال الذهبي:(إسنادها مرسلٌ). سير أعلام النبلاء 4/ 392.
(3)
انظر: التوبة لابن أبي الدنيا، ص 92، ح 101، حلية الأولياء 3/ 186، صفة الصفوة 2/ 111.
وعن الفضيل بن عياضٍ قال: لو خيرت بين أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة لاخترت أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة
(1)
.
وعنه قال: أخذت على يد سفيان بن عيينة في هذا الوادي، فقلت: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك؛ فبئس ما تظن
(2)
.
[81 د] وعن بشرٍ الحافي أنه قال: شهرني ربي في الدنيا فليته لا يفضحني في القيامة، ما أقبح بمثلي يُظَنُّ بي ظنٌّ وأنا على خلافه، إنما ينبغي لي أن يكون أكثر ما يُظَنُّ بي أني أكره الموت، وما يكره الموت إلا مريب، ولولا أني مريب لأيِّ شيء أكره الموت
(3)
.
وعنه: لقيه سكران وجعل يقبِّله ويقول: يا سيّدي، فلما ولّى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبَّ رجلًا على خيرٍ توهَّمه، لعلَّ المحبّ قد نجا، والمحبوب لا يدري ما حاله
(4)
.
وعنه قال: ربما رفعت يدي في الدعاء فأردُّها أو قال: فأستلها، أقول: إنما يعمل هذا من كان له عنده وجه
(5)
.
(1)
انظر: حلية الأولياء 8/ 84، صفة الصفوة 2/ 238 - 239.
(2)
انظر: حلية الأولياء 8/ 101، صفة الصفوة 2/ 239 - 240. ونحوه في تاريخ دمشق 48/ 418.
(3)
انظر: طبقات الصوفية ص 50، صفة الصفوة 2/ 326.
(4)
انظر: تاريخ دمشق 10/ 203 - 204، صفة الصفوة 2/ 327.
(5)
انظر: صفة الصفوة 2/ 330.
وعن السَّريِّ السقطي
(1)
فيما حكاه الجنيد عنه، قال: ما أرى لي على أحد فضلًا، قيل: ولا على المخنثين، قال: ولا على المخنثين
(2)
.
وعنه فيما حكاه الجنيد أيضًا عنه قال: ما أحب أن أموت بحيث أُعْرَف، أخاف أن تقذفني الأرض، فأفتضح
(3)
.
قال الجنيد: وسمعت سَريًّا يقول: إني لأنظر إلى أنفي كلَّ يوم مرتين مخافة أن يكون قد أسودَّ وجهي
(4)
.
وعن أبي عبد الله البراثي
(5)
قال: حملتنا المطامع على سوء الصنائع، نذلّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ ولا نفع، ونخضع لمن لا يملك لنا رزقًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وكيف أزعم أني أعرف ربي حق معرفته، وأنا أصنع ذلك، هيهات هيهات
(6)
.
(1)
السري بن المغلس السقطي، أبو الحسن البغدادي، الإمام القدوة شيخ الإسلام، ولد في حدود الستين ومائة، وتوفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سبع وخمسين. انظر: تاريخ بغداد 9/ 187، سير أعلام النبلاء 12/ 185.
(2)
انظر: طبقات الصوفية ص 53، حلية الأولياء 10/ 124، صفة الصفوة 2/ 375.
(3)
انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 692، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376.
(4)
انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 691، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376.
(5)
محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان البراثي، كان كثير البر والإحسان، وكان صديق بشر بن الحارث. اللباب 1/ 131.
(6)
انظر: حلية الأولياء 10/ 323، صفة الصفوة 2/ 389.
وعن الجنيد قال: كنت بين يدي السَّرِيِّ السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة [81 هـ] يتكلّمون في الشكر فقال لي: يا غلام! ما الشكر؟ فقلت: ألاّ تعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانَكَ. قال الجنيد: فأنا أبكي على هذه الكلمة التي قالها السريُّ لي
(1)
.
وعن الربيع بن خُثَيْم أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا
(2)
.
وقال: أدركنا أقوامًا كنا في جنوبهم لصوصًا
(3)
.
وعن داود الطائي أنه وعظ رجلًا ثم قال: إني لأقول لك هذا، وما أعلم أحدًا أشدَّ تضييعًا مني
(4)
.
وعن سفيان الثوري رآه رجل يكثر البكاء فقال له: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب فرفع شيئًا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت
(5)
.
(1)
انظر: الرسالة القشيرية ص 95، تاريخ بغداد 7/ 244 - 245، صفة الصفوة 2/ 417.
(2)
انظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نعيم بن حماد) ص 38، ح 151، الزهد لهنَّاد بن السريِّ ص 293، ح 513، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ربيع بن خُثَيمٍ 19/ 266 - 267، ح 35987، الطبقات الكبرى 6/ 185، المعرفة والتاريخ 2/ 564، الدعاء للطبراني 1/ 541، ح 1940، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 67.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى 6/ 189، الرقَّة والبكاء لابن أبي الدنيا، ص 163، ح 218، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 68.
(4)
انظر: الزهد لابن أبي الدنيا، ص 190، ح 490، حلية الأولياء 7/ 346، اقتضاء العلم العمل، ص 110 - 111، ح 193، صفة الصفوة 3/ 138.
(5)
انظر: شعب الإيمان 3/ 133 - 134، ح 839، حلية الأولياء 7/ 12، صفة الصفوة 3/ 150.
وعن هرم بن حيان
(1)
قال: والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الراحلة، ثم قذفتني بَعْرًا، ولم أكابد الحساب، إني أخاف الداهية الكبرى؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار
(2)
.
وعن الحسن البصري؛ بكى مرة، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي
(3)
.
وعنه قال: لقد أدركت أقوامًا ما أنا عندهم إلا لصٌّ
(4)
.
وعن مالك بن دينار قال: رأيت أبا عبد الله مسلم بن يسار في منامي بعد موته، فسلّمت عليه فلم يردَّ السلام، فقلت: ما يمنعك أن تردّ عليّ السلام؟ فقال: أنا ميِّت، فكيف أرد عليك السلام، قال: قلت له: فماذا لقيت بعد الموت؟ قال: فدمعت عينا مالك عند ذلك، وقال: لقيت والله أهوالًا زلازل
(5)
عظامًا شدادًا، [81 و] قال: فقلت: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيِّئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خرّ مغشيًّا عليه، قال: فلبث بعد ذلك
(1)
هو العبدي الأزديُّ البصريُّ، أحد العُبَّاد، قال ابن سعدٍ: كان عاملاً لعمر، وكان ثقةً، له فضلٌ وعبادةٌ. سير أعلام النبلاء 4/ 48. وانظر: الطبقات الكبرى 7/ 131 - 132، حلية الأولياء 2/ 119.
(2)
انظر: الزهد للإمام أحمد ص 284 - 285، المتمنِّين لابن أبي الدنيا ص 36 - 37، ح 37، حلية الأولياء 2/ 120، صفة الصفوة 3/ 214.
(3)
انظر: صفة الصفوة 3/ 223.
(4)
انظر: شعب الإيمان 9/ 285، ح 4673، حلية الأولياء 8/ 240، صفة الصفوة 3/ 234.
(5)
كذا في الأصل، وفي المصادر: وزلازل.
أيامًا مريضًا من غشيته، ثم مات
(1)
.
وقال صالح المرِّي: وقف مُطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير وبكر بن عبد الله المزني بعرفة، فقال مطرِّف: اللهم لا تردَّهم اليوم من أجلي. وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاه لأهله لولا أني فيهم
(2)
.
وعن العلاء بن زياد أنه قال: إنما نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار، فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجَنا
(3)
.
وعن محمد بن واسع أنه قال: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي
(4)
.
وعنه أنه لما مرض كثر عُوَّاده فقال لرجل: أخبرني ما يغني هؤلاء إذا أُخِذَ بناصيتي وقدمي غدًا وأُلْقِيتُ في النار؟ ! ثم تلا هذه الآية: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41]
(5)
.
وعن مالك بن دينار أنه قال له محمد بن واسع: يا أبا يحيى! إن كنت
(1)
انظر: المنامات لابن أبي الدنيا ص 39، ح 30، حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا ص 114، ح 131، المجالسة وجواهر العلم 1/ 452، ح 140، حلية الأولياء 2/ 295، صفة الصفوة 3/ 241.
(2)
انظر: الزهد للإمام أحمد ص 298، صفة الصفوة 3/ 248.
(3)
انظر: الزهد للإمام أحمد ص 312، شعب الإيمان 3/ 211، ح 953، حلية الأولياء 2/ 245، صفة الصفوة 3/ 254.
(4)
انظر: حلية الأولياء 2/ 349، صفة الصفوة 3/ 268.
(5)
انظر: المحتضرين لابن أبي الدنيا ص 142 - 143، ح 183 - 184، حلية الأولياء 2/ 348، صفة الصفوة 3/ 271.
من أهل الجنة فهنيئًا لك، فقال مالك: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى
(1)
.
وعنه قال: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شرّ مَنْ في المسجد لبادرتكم إليه
(2)
.
وعنه أنه قال له رجل: يا مرائي! فقال: متى عرفت اسمي، ما عَرَفَ اسمي غيرُك
(3)
.
وعنه لما حضرته الوفاة قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد قبلي [81 ز] لأوصيت أهلي إذا أنا متُّ أن يقيِّدوني، وأن يجمعوا يديَّ إلى عنقي، وأن ينطلقوا بي على تلك الحال حتى أُدْفَن، كما يُصْنَع بالعبد الآبق
(4)
.
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: إن حبيبًا أبا محمدٍ وهو العجميُّ جزع جزعًا شديدًا عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قطُّ
…
ثم أُوْقَف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحةً واحدةً سبَّحتني في ستِّين سنةً، لم يظفر بك الشيطان فيها بشيءٍ، فماذا أقول وليس لي حيلةٌ؟ أقول: يا ربِّ قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي. قال عبد الواحد: هذا قد عبد الله ستِّين سنةً مشتغلاً به، ولم يشتغل من الدنيا
(1)
انظر: تاريخ دمشق 56/ 422، صفة الصفوة 3/ 279.
(2)
انظر: صفة الصفوة 3/ 281 - 282.
(3)
انظر: شعب الإيمان 14/ 515، ح 8108، حلية الأولياء 8/ 339، تاريخ دمشق 56/ 420، صفة الصفوة 3/ 287.
(4)
انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغدايِّ ص 101، ح 71، صفة الصفوة 3/ 288.
بشيءٍ قطُّ، فأيُّ شيءٍ حالنا؟ واغوثاه بالله!
(1)
.
وعن بشر بن منصورٍ
(2)
قال: كنت أوقد نارًا بين يدي عطاءٍ السلمي
(3)
في غداةٍ باردةٍ، فقلت له: يا عطاء، يَسُرُّك الساعة لو أنك أُمِرْتَ أن تُلْقِيَ نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب؟ فقال لي: إي ورب الكعبة. قال: ثم قال: والله مع ذلك لو أُمِرْتُ لخشيت أن تخرج نفسي فرحًا قبل أن أصل إليها
(4)
.
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: ربما سهرت مفكِّرًا في طول حزن عُتبة (الغلام)
(5)
، ولقد كلَّمته ليرفق بنفسه، فبكى، وقال: إنما أبكي على تقصيري
(6)
.
وعن سهل التستري أنه قال: أول الحجاب الدَّعْوَى، فإذا أخذوا في الدعوى حُرِمُوا
(7)
.
(1)
انظر: المجالسة وجواهر العلم 4/ 399 - 400، ح 1594، صفة الصفوة 3/ 321.
(2)
السَّليمي، أبي محمد الأزدي البصري، عابد زاهد. توفي سنة 180 هـ. انظر: التاريخ الكبير 2/ 2/84 برقم 1770، سير أعلام النبلاء 8/ 359 - 361.
(3)
من صغار التابعين، نُقلت عنه أشياء في الخوف فيها غلو. توفي بعد الأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 6/ 86 - 88.
(4)
انظر: شعب الإيمان 3/ 168 - 169، ح 890، حلية الأولياء 6/ 216، صفة الصفوة 3/ 325.
(5)
هو عتبة بن أبان بن صمعة، من عباد أهل البصرة وزهادهم ممن جالس الحسن. روى عنه البصريون الحكايات. مات غازيًا. الثقات لابن حبان 7/ 270، السير 7/ 62.
(6)
انظر: حلية الأولياء 6/ 236، صفة الصفوة 3/ 372 - 373.
(7)
انظر: حلية الأولياء 10/ 202، صفة الصفوة 4/ 65.
وعنه أنه قال: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدَّعْوَى، ولا طريق أقرب من الافتقار
(1)
.
[81 ح] وعن شاه بن شجاعٍ الكرماني
(2)
أنه قال: لأهل الفضل فضلٌ ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولايةٌ ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم
(3)
.
وعن يحيى بن معاذ الرازي
(4)
أنه قال: ليس بعارفٍ مَنْ لم يكن غاية أمله من ربه العفو
(5)
.
وعنه أنه قال: لا يفلح مَنْ شمِمْتَ منه رائحة الرياسة
(6)
.
وقال: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة، ثم قال: إلهي! سلامة إن لم يكن كرامة
(7)
.
(1)
انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغداديِّ ص 123، ح 101، صفة الصفوة 4/ 65.
(2)
هو شاه بن شجاع بن محمد بن المظفر، جلال الدين، أبو الفوارس، كان من أولاد الملوك، فتزهَّد، وصحب أبا تراب النخشبي، قال السُّلَميُّ: كان من علماء هذه الطبقة، وله رسالاتٌ مشهورةٌ، توفِّي قبل الثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفيَّة للسلميِّ 192، الوافي بالوفيات 16/ 91.
(3)
انظر: طبقات الصوفية للسلميِّ 193، صفة الصفوة 4/ 68.
(4)
زاهدٌ، له كلامٌ جيِّدٌ، ومواعظ مشهورةٌ. توفِّي بنيسابور سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين. انظر: طبقات الصوفيَّة 107 - 114، سير أعلام النبلاء 13/ 15.
(5)
انظر: القصَّاص والمذكِّرين ص 272، ح 134، صفة الصفوة 4/ 93.
(6)
انظر: حلية الأولياء 10/ 53، صفة الصفوة 4/ 94.
(7)
انظر: صفة الصفوة 4/ 96.
وعن محمد بن أسلم الطوسي أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا الله هو ما رأيت نفسًا تصلِّي إلى القبلة شرًّا عندي من نفسي
(1)
.
وعن إبراهيم بن أدهم أنه كان ناطورًا في كَرْمٍ، فمرَّ به رجل، فقال: ناوِلْنا من هذا العنب، قال إبراهيم: ما أذن لي صاحبه. فقَلَب الرجل السوط فجعل يُقنِّعُ
(2)
رأس إبراهيم، فطأطأ إبراهيم رأسه، وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله
(3)
.
وعن رَابِعَة العدوية أنه قال لها رجل: ادعي، فالتصقت بالحائط، وقالت: مَنْ أنا يرحمك الله، أَطِع ربك وادعه؛ فإنه يجيب المضطرَّ
(4)
.
وعن شقيق البلخي
(5)
أنه قال: مَثَلُ المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكًا، ومَثَل المنافق كمَثَل رجل زرع شوكًا وهو يطمع أن يحصد تمرًا
(6)
.
وعن أبي سليمان الداراني أنه قال: من حَسَّن ظنَّه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع
(7)
.
(1)
انظر: حلية الأولياء 9/ 244، صفة الصفوة 4/ 127.
(2)
قنَّع رأسه بالسوط: علاه به.
(3)
انظر: حلية الأولياء 7/ 379، تاريخ دمشق 6/ 316.
(4)
انظر: صفة الصفوة 4/ 28.
(5)
الإمام الزاهد شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي، أبو علي، صاحب إبراهيم بن أدهم، قُتل في غزاة كولان سنة 194 هـ. حلية الأولياء 8/ 58، سير أعلام النبلاء 9/ 313.
(6)
انظر: حلية الأولياء 8/ 71، صفة الصفوة 4/ 160.
(7)
انظر: حلية الأولياء 9/ 272، صفة الصفوة 4/ 226.
وعنه أنه قال: ربّما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتُني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها، وكيف تهنأ الدنيا مَنْ كانت هذه صفته
(1)
.
وعنه أنه قال: إنما ارتفعوا بالخوف، فإن ضيَّعوا نزلوا، وينبغي للعاقل وإن بلغ أعلى درجة [81 ط] أن يُفَزِّع
(2)
قلبَه بأسفل درجة من ذكر الموت في المقابر والبعث
(3)
.
وعنه أنه قال: ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرُك يَفُتُّ لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبَّد، ولا خير في قلب يتوقَّع قَرْعَ الباب يتوقَّع إنسانًا يجيئه يعطيه شيئًا
(4)
.
وقال أحمد بن أبي الحواري
(5)
: قلت لأبي سليمان: إن فلانًا وفلانًا لا يقعان على قلبي، قال: ولا على قلبي، ولكن لعلّنا أُتِينا من قلبي وقلبك، فليس فينا خير، وليس نحبُّ الصالحين
(6)
.
وعن الجنيد أنه قال: لولا أنه يُروى أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم؛ ما تكلَّمت عليكم
(7)
.
(1)
انظر: حلية الأولياء 9/ 261، صفة الصفوة 4/ 227.
(2)
أي: يخوِّف.
(3)
انظر: صفة الصفوة 4/ 227.
(4)
انظر: حلية الأولياء 9/ 264، صفة الصفوة 4/ 230.
(5)
هو أحمد بن عبد الله بن ميمون، شيخ أهل الشام، إمام زاهد عالم، توفي سنة 246 هـ. حلية الأولياء 10/ 5، سير أعلام النبلاء 12/ 85.
(6)
انظر: حلية الأولياء 9/ 262 - 263، صفة الصفوة 4/ 232.
(7)
انظر: حلية الأولياء 10/ 263، صفة الصفوة 2/ 420. وعبارة:«وكان زعيم القوم أرذلهم» وردت في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه التِّرمِذيِّ في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، 4/ 494، ح 2210، ضمن خمس عشرة خصلةً إذا فعلتها الأمَّة حلَّ بها البلاء، وقال التِّرمِذيُّ: (هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ إلَّا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلَّم فيه بعض أهل الحديث وضعَّفه من قبل حفظه
…
). وانظر كلام الأئمَّة في تضعيفه في السلسلة الضعيفة 3/ 312 - 313، ح 1170.
الزعيم: هو الرئيس، يعني: أني إذا تكلمت عليكم أجعل نفسي رئيسكم فأنا أخاف من ذلك أن يلزم منه تزكيتي لنفسي، ولكن هذه الرواية دفعت الخوف؛ لأنها تُشْعِر بأني إذا تكلّمت عليكم فأنا أرذلكم.
وعن ذي النون المصري
(1)
أنه قال: من تطأطأ لقط رُطَبًا ومن تعالى لقي عطبًا
(2)
.
وعن أبي يزيد البسطامي أنه قال: لو صَفَتْ لي تهليلةٌ ما باليت بعدها بشيء
(3)
.
وعنه أنه قال: ما دام العبد يظنّ أن في الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر
(4)
.
(1)
هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل في اسمه غير ذلك، الإخميميُّ النوبيُّ، يكنى أبا الفيض أو الفياض، الزاهد، كان عالمًا واعظًا فصيحًا حكيمًا، توفي سنة 245 هـ. تاريخ بغداد 8/ 393، سير أعلام النبلاء 11/ 532 - 533.
(2)
انظر: حلية الأولياء 9/ 376، صفة الصفوة 4/ 319.
(3)
انظر: حلية الأولياء 10/ 40، صفة الصفوة 4/ 108.
(4)
انظر: حلية الأولياء 10/ 36، صفة الصفوة 4/ 109.
وعن أبي بكرٍ الهلالي
(1)
أنه قال: رَمَوا بِهِمَمِهم إلى أعلى الفضائل وضيّعوا الفرائض، فلا إلى هممهم وصلوا ولا قاموا بقليلٍ ما به وُكِلُوا، ومَن قام بقليل ما وُكِل به اؤتمن على الكثير، ومن لم يقم بقليل ما وُكِلَ به لم يؤتمن على قليلٍ ولا كثيرٍ
(2)
.
وسئل يوسف بن أسباط عن غاية (التواضع) فقال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خيرٌ منك
(3)
.
وعنه أنه قال: خرجت سَحَرًا لأؤذِّن فإذا عليّ ليلٌ، فقعدت فإذا أَسْوَد في يده حجرٌ يريد أن يضربني، ووراءه شيءٌ أبيض بيده حجرٌ يريد أن يصرفه عني، فقلت: هذان شيطانان يريدان أن يُرِيَاني أني رجلٌ صالحٌ، فقلت: كلاكما شيطان؛ فطارا
(4)
.
وعن حذيفة بن قتادة المرعشي
(5)
أنه قال: إن لم تخش أن يعذِّبك الله على أفضل عملك، فأنت هالك
(6)
.
وقال: لو جاءني رجلٌ، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما عَمَلُك
(1)
هو محمد بن معمر، من أهل طبرية. تاريخ دمشق 56/ 16.
(2)
انظر: صفة الصفوة 4/ 243 - 244.
(3)
انظر: حلية الأولياء 8/ 238، صفة الصفوة 4/ 265.
(4)
انظر: صفة الصفوة 4/ 265.
(5)
من العُبَّاد، صحب سفيان الثوري، وروى عنه. مات سنة 207 هـ، الثقات لابن حبان 8/ 215 - 216، حلية الأولياء 8/ 267، سير أعلام النبلاء 9/ 283.
(6)
انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268. قال الذهبي تعليقًا على هذا الكلام: يعني: لما يعتوِرُه من الآفات. انظر: تاريخ الإسلام 5/ 47.
عملَ من يؤمن بيوم الحساب؛ لقلت له: يا هذا! لا تكفِّر عن يمينك، فإنك لم تحنث
(1)
.
وجاء سعيد بن عبد العزيز
(2)
إلى سليمان الخوَّاص
(3)
بِصُرَّةٍ، وقال له: تنفق هذا وأنا أحلف لك بين يدي الله تعالى أنه حلالٌ، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال له: ما ترى ما الناس فيه؟ دعوةً، فصرخ سليمان صرخةً، ثم قال: ما لك يا سعيد، فتنتني بالدنيا وتَفْتِنُني بالدين، مالي والدعاء؟ مَن أنا؟ !
(4)
.
وعن فتح الموصلي
(5)
قال: كبرت عليَّ خطاياي وكثرت، حتى لقد آيسَتْني من عظيم عفو الله، ثم قال: وأَنى آيَسُ منك، وأنت الذي جُدْتَ على السَّحَرة بعد أن غدوا كفرةً فجرةً؟
…
ولم يزل يقول: وأنى آيسُ منك؟ حتى سقط مغشيًّا عليه
(6)
.
ما لم أنسبه من هذه الآثار فهو من كتاب صفة الصفوة، وعامَّتها في الحلية لأبي نعيم بأسانيدها.
(1)
انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268.
(2)
أبو محمد التنوخي، الدمشقي، مفتيها، مات سنة 167 هـ. حلية الأولياء 6/ 124، سير أعلام النبلاء 8/ 32.
(3)
من العابدين الكبار، المرابطين في الثغر في الشام، وكان لا يأكل إلَّا الحلال المحض، وما له حديثٌ مستقيمٌ يرجع إليه. الثقات لابن حبان 8/ 277، سير أعلام النبلاء 8/ 178.
(4)
انظر: حلية الأولياء 8/ 277 (طرفه الأوَّل)، صفة الصفوة 4/ 273 - 274.
(5)
هو فتح بن سعيد الموصلي، أبو نصر، كان شريفاً زاهداً، مات سنة 220 هـ. حلية الأولياء 8/ 292، تاريخ بغداد 12/ 381 - 383.
(6)
انظر: حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا، ص 114، ح 130، صفة الصفوة 4/ 186.
فأما مَنْ ذُكِر من أهل البيت والصحابة فمقامه معروف، وأما من ذُكِرَ من غيرهم فعامَّتهم ممَّن عُرِفَ بالعلم والعمل والزهد والصلاح واشتهر بالولاية، ونُقِلَتْ عنهم كرامات كثيرة.
وكثير من الناس يقول في الآثار المتقدمة: إنها من باب التواضع. وهذا حقٌّ، ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد بالتواضع أن يخبر المرء عن نفسه بخلاف ما يعتقده؛ فإن هذا كذب، وقد كان السلف أبعد الناس عن الكذب مطلقًا.
وفي ترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق من «تهذيب التهذيب»
(1)
: وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلِّي فجاء إليه أعرابي [81 ي] فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرَّر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله. قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكِّي نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذب. قال: وكان القاسم أعلمهما».
وأنت ترى في هذه الآثار المتقدمة أن منهم من أقسم بالله تعالى وأكَّد اليمين.
وفي الآثار المتقدمة الحكم على الناس بأن المدَّعِيَ محروم، ومن رأى لنفسه فضلًا فلا فضل له، ومن رأى لنفسه ولاية فلا ولاية له، ومن حسَّن ظنه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع، وأن الذين ارتفعوا إنما ارتفعوا بالخوف، فإذا ضيَّعوا نزلوا، وأن من تعالى لقي عَطَبًا، وأنه مادام العبد يظنُّ أن في
(1)
تهذيب التهذيب 8/ 334. وانظر: حلية الأولياء 2/ 184.
الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، وأن التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خير منك، وأنه من لم يخش أن يعذِّبه الله تعالى على أفضل عمله فهو هالك، وقول فضيل بن عياض لسفيان بن عيينة: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
فهذه الآثار تصرِّح بأن على كل إنسان أن يعتقد في نفسه النقص والتقصير، ويُظهر ذلك، ويطهِّر نفسه من العُجْب وظنِّ أنه صالح أو فاضل، وأنَّ من لم يصنع ذلك فهو متكبر، والمتكبر هالك. فكيف بمن تعدَّى حسن الظن بنفسه إلى الدعوى والشَّطح؟ فانظر حال السلف وحال من بعدهم.
[82]
فقد جاء بعد ذلك أقوام يتغالون في مدح أنفسهم وإطرائها حتى إن بعضهم ليفضِّل نفسه على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرَّبين، ومنهم من يتجاوز ذلك فيزعم أنه ربُّ العالمين، أو أن ربَّ العالمين لا يقدر على مخالفته، ونحو ذلك مما يسمُّونه الشَّطح، ويعدُّونه من علامات الولاية.
وأقلُّ ما يدلُّ عليه هذا فضل علم السلف على علم الخلف، فإن ميزان العلم الخشية، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وفي كتب الزهد والرقائق كلمات كثيرة عن السادة الصوفية في وجوب مقت النفس وسوء الظنِّ بها، وذمِّ مَنْ يزكِّي نفسه أو يظن بها خيرًا، ولكن أكثر هذه الكتب تشتمل على أدوية وسموم، وإلى الله المشتكى.
وليس مقصودي الطعنَ في أحدٍ من أولياء الله تعالى والعلماء به، أعوذ بالله من ذلك، وإنما المقصود بيان فضل السلف على الخلف، وإذا لم تثبت
العصمة للسلف كما مرَّ، فأولى من ذلك أن لا تثبت للخلف، فإذا لم يكف في أصول العقائد تقليدُ أحد من السلف فتقليد الخلف أولى ألا يكفي.
واعلم أن الله تعالى قد يوقع بعض المخلصين في شيء من الخطأ ابتلاء لغيره أيتبعون الحق ويدَعون قوله أم يغترُّون بفضله وجلالته؟ وهو معذور بل مأجور؛ لاجتهاده وقصده الخير وعدم تقصيره؛ ولكن من تبعه مغترًّا بعظمته بدون التفات إلى الحجج الحقيقية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون معذورًا، بل هو على خطر عظيم.
[83]
ولما ذهبت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة قبل وقعة الجمل، أتبعها أمير المؤمنين علي عليه السلام ابنه الحسن وعمار بن ياسر رضي الله عنهما لينصحا الناس، فكان من كلام عمَّار لأهل البصرة أن قال: والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم بها ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي
(1)
.
ومن أعظم الأمثلة في هذا المعنى مطالبة فاطمة عليها السلام بميراثها من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم
(2)
، وهذا ابتلاء عظيم للصِّدِّيق رضي الله عنه، ثبَّته الله عز وجل فيه.
وأهل العلم إذا بلغَهُم خَطَأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغترَّ الناس
(1)
البخاريّ، كتاب الفتن، باب 18، 9/ 56، ح 7100. [المؤلف]
(2)
أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس، 4/ 79، ح 3092. ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» 5/ 153، ح 1759.
بجلالته ربما وَضَعوا مِنْ فَضله وغبَّروا في وجه شهرته، مع محبتهم له ومعرفتهم بمنزلته؛ ولكن يظهرون تحقيره لئلا يفتتن به الناس.
ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحطِّ الشديد على البخاري في صدد الردِّ عليه في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه، حتى لقد يخيل إلى القارئ ما يخيل إليه، مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة، ومحبته له وإجلاله أمر معلوم في التاريخ وأسماء الرجال.
وقد يكون من هذا كثير من طعن المحدثين في أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
[84]
ولعلَّ مما حملهم على هذا علمهم بأن العامَّة وأشباه العامَّة يغترُّون بفضل القائل في نفسه، فإذا قال لهم العلماء: إنه أخطأ مع جلالته وفضله، قالوا: قد خالفتموه وشهدتم له بالجلالة والفضل، فقوله عندنا أرجح من قولكم بشهادتكم. وهكذا قال بعض الناس لعمَّار رضي الله عنه لما قال مقالته المتقدمة آنفًا:«فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمَّار» ، يعنُون أمَّ المؤمنين
(1)
.
وبالجملة؛ فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم مَنْ يخافون ضلال الناس بسببه، ولو علم محبُّو المطعون فيه هذا المعنى لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثَلْبِ أولئك الأكابر حميَّة وعصبيَّة، والله المستعان.
(1)
انظر: تاريخ الأمم والملوك 4/ 485.
فصل
وكثيرًا ما يحتج أهل زماننا وما قرب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم ينقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية.
وقد عظم البلاء بذلك، حتى إنك لتجد العجميَّ الذي لا يعرف من العربية إلا بعض المفردات، ولا يستطيع أن يكتب سطرين أو ثلاثة بدون لحن، وهو يفسر القرآن [85] برأيه. وهكذا يصنعون بالأحاديث الثابتة، مع أنهم يشددون النكير على مخالفهم إذا احتجَّ عليهم بآية أو حديث، وأوضح تفسيرها بالحجج الصحيحة، ونقل عن تفسير السلف ما يوافق قوله أو يشهد له، ويقولون: إن الفهم من الكتاب والسنة خاصٌّ بالمجتهدين. فأما إذا خالف أحد قول إنسان يعتقدون فيه الإمامة أو الولاية؛ فإنهم يكفِّرونه أو يضلِّلونه، ويشدِّدون عليه النكير، ويقولون: انظروا إلى هذا الضالِّ المضلِّ يزعم أنه فهم من الكتاب أو السنة ما لم يفهمه الإمام فلان أو الشيخ فلان أو نحو ذلك.
ومن البلاء العظيم أن هؤلاء الجهال هم في نظر العامة هم الرؤساء في الدين. وذلك مصداق حديث الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا»
(1)
.
(1)
البخاريّ، كتاب العلم، بابٌ كيف يُقبَض العلم، 1/ 32، ح 100. ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم، 8/ 60، ح 2673. [المؤلف]
نعم، قد بقي في الناس أفراد من العلماء؛ مصداقًا لحديث الصحيحين:[86]«لا تزال طائفةٌ من أمَّتي قائمةً على الحقِّ»
(1)
، وهو مبيِّن لحديث ابن عمرٍو، والله أعلم. ولكن يكاد يكون وجود أولئك الأفراد كعدمهم؛ لأنهم غرباء، لا ترى العامَّةُ إلا أنهم مبتدعون ضُلَّال، والرياسة الدينيَّة بيد غيرهم.
والمقصود هاهنا النصيحة للمسلمين أن لا يغترَّ أحد منهم بأحد ممن يحتج بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة، وعليه أن ينظر لنفسه إن كان أهلًا، أو يطلب العلم لتصير له أهلية، أو يعمل بالاحتياط؛ فإنه لا عسر فيه. والله أعلم.
فصل
وكثيرًا ما يحتجون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ؛ فمنهم من يكتفي بذكر الحديث أو الأثر ونقله عن كتاب معروف ولا يبين حاله من صحة وعدمها، إما لجهله بهذا العلم الجليل، وهو معرفة علوم الحديث، وإما لأنه لما رأى ذلك الحديث أو الأثر موافقًا لهواه اعتقد صحته، وإما لغير ذلك.
ومنهم من يحكي عن بعض [87] المتأخرين، كالسبكي وابن حجر وابن الهمام والسيوطي ونحوهم، أنهم صحَّحوا ذلك الحديث أو الأثر أو حسَّنوه، ويكون جهابذة العلم من السلف قد ضعّفوا ذلك الحديث أو حكموا بوضعه، وهم أجلّ وأكمل من المتأخرين، وإن كان بعض المتأخرين أولي علم وفضل وتبحُّر، ولكننا رأيناهم يتساهلون في التصحيح والتحسين،
(1)
سبق تخريجه ص 232.
ويراعون فيه بعض أصول الفن، ويغفلون عما يعارضها من الأصول الأخرى، وفوق ذلك أن السلف كانوا أبعد عن الهوى.
ومن هنا قال ابن الصلاح: إن باب التصحيح والتحسين قد انسدَّ، ولم يبق فيهما إلا النقل عن السلف. وهذا القول خطأ، ولكنه يعين على ما نريده، وهو وجوب الاحتياط فيما يصحِّحه المتأخرون أو يحسِّنونه.
وهكذا جماعة من المتقدمين لا يُغْترُّ بتصحيحهم، كالحاكم وابن حبان، بل والترمذي، ولا سيَّما تحسينه.
وهؤلاء أئمة كبار، ولكن الحاكم كان هَمُّه في كثرة الجمع ليردَّ على مَنْ قال من المبتدعة: إنه لم يصح عند أهل الحديث إلا ما في صحيحي البخاري ومسلم، كما ذكر هذا في مقدمة مستدركه، فجمع ولم يحقِّق ولم ينتقد. وكان عَزْمُه أن ينظر في الكتاب مرة [88] أخرى ليُخرج منه ما ليس من شرطه، ولكنه لم يتمكن من ذلك، كما ذكره السخاوي في فتح المغيث
(1)
.
وقد انتقد أحاديثه الذهبي وابن دقيق العيد، وطبع كتاب الذهبي مع المستدرك، ولكني وجدته يتسامح أيضًا، فكثيرًا ما يكون في الحديث رجلٌ مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع، أو رجل اختلط بأخرة، وربما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما سُمِع منه قبل الاختلاط، أو رجل ضعيف قد انتقد الأئمة مسلمًا أو البخاري في الرواية له في الصحيح، أو رجل عن رجل كان يُضَعَّف في روايته عنه، وإنما يروي له الشيخان مما رواه عن غيره، أو رجل كان يُضَعَّف في حفظه وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما حدَّث به من
(1)
ص 13. [المؤلف]. وفي الطبعة الهنديَّة بتحقيق علي حسين علي 1/ 40 - 41.
كتابه، أو رجل ضعيف وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما في المتابعات والشواهد، إلى غير ذلك.
وفي شروط الأئمة الخمسة للحازمي بسنده إلى سعيد بن عمرو ــ هو البرذعي ــ قال: شهدت أبا زرعة الرازي
…
وأتاه ذات يوم، وأنا شاهد، رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: ما أبعد هذا عن الصحيح! يُدخل في كتابه أسباط بن نصر؟ ! ثم رأى قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت فجعلها عن أنس، ثم نظر، فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتاب الصحيح؟ قال أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أن أحمد بن عيسى ـ وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه ــ كأنه يقول: الكذب
…
فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجَّاج
…
فقال لي: إنَّ ما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط بن نصر وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع
…
(1)
.
أقول: وقد وافقه البخاري على الإخراج لأحمد بن عيسى، وعُذْرُه عُذْرُه. وقد قال أبو داود: كان ابن معين يحلف أنه كذَّاب. وقد تأوَّل ابنُ حجر في تهذيب التهذيب ذلك بما حاصله: أنه كان يكذب في السماع لا أنه يضع الحديث اختلاقًا
(2)
. وهذا لا يدفع الجرح، والله أعلم.
(1)
شروط الأئمَّة الخمسة ص 23 - 24. [المؤلف]
قلت: وهو في كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي المنشور ضمن رسالة (أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية) 2/ 674 - 676.
(2)
انظر: تهذيب التهذيب 1/ 65.
ومع هذا يسكت الذهبيُّ عن بيان ذلك، وهكذا يسكت عن علل أخرى تكون في الأحاديث، والله المستعان.
وأما ابن حِبَّان فمِن أصله ــ كما نبَّه عليه في كتابه الثقات ــ أن المجهول إذا روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ، ولم يكن حديثه منكرًا؛ فهو ثقةٌ، يذكره في ثقاته، ويخرج حديثه في صحاحه. ووافقه على هذا شيخه ابن خزيمة، إلا أنه أشدُّ احتياطًا منه، وكذلك الدارقطنيُّ. ويظهر لي أن الكعبيَّ
(1)
صاحب الثقات كذلك. وهذا قولٌ واهٍ مخالف لما عليه جمهور الأئمَّة والأئمَّةُ المجتهدون وجهابذة الفنِّ، والنظر الصحيح يأباه.
وأما الترمذيُّ فله اصطلاحٌ في التحسين والتصحيح، وهو أن الحديث إذا روي من طريقين ضعيفين يسمِّيه حسنًا، والأئمَّة المجتهدون وغيرهم [89] من الجهابذة لا يعملون بهذا الإطلاق، بل يشترطون أن تحصل من تعدُّد الطرق مع قوة رواتها غلبةُ ظنٍّ للمجتهد بثبوت الحديث، فإن لم تحصل هذه الغلبة فلا أثر لتعدد الطرق وإن كثرت.
والمتأخِّرون يعرفون هذا الشرط، ولكنهم كثيرًا ما يتغافلون عنه. وربما توهَّم أحدهم أنه قد حصلت له غلبة ظنٍّ، وإنما حصلت له من جهة موافقة ذلك الحديث لمذهبه أو لمقصوده، والله المستعان.
بل إن في الصحيحين أو أحدهما أحاديث قد انتقدها الحفاظ، مثل حديث البخاري: حدّثنا محمد بن عثمان، حدثنا خالد بن مَخْلَد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي
(1)
كذا في الأصل، ولم يتبيَّن لي مَنْ هو، ولعلَّه يريد العجليّ.
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله قال: مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه، وما تردَّدْتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مَسَاءتَه»
(1)
.
فهذا الحديث قد تكلَّم فيه الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن مخلد، ولم يخرجه الإمام أحمد في المسند.
وخالد بن مخلد
…
(2)
قال فيه الإمام أحمد: له أحاديث مناكير. وقال ابن سعد: كان متشيِّعًا، منكر الحديث، في التشيُّع مفرطًا، وكتبوا عنه للضرورة.
وقال صالح جَزَرَة: كان ثقة في الحديث إلا أنه كان مُتَّهَمًا بالغلوّ.
وقال الأعين
(3)
: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل: في المثالب والمثاقب.
(1)
البخاريّ، كتاب الرقاق، باب التواضع، 8/ 105، ح 6502. [المؤلف]
(2)
هنا كلمةٌ غير واضحةٍ، تشبه:(ضعيفٌ) أو (ضُعِّف).
(3)
هو محمد بن الحسن بن طريف، أبو بكر البغدادي الحافظ، روى عنه مسلم في المقدمة وأبو داود خارج سننه، وحدّث عن يزيد بن هارون وغيره، وثقه ابن حبان والخطيب البغدادي، وأثنى عليه الإمام أحمد، توفي سنة 240 هـ. انظر: الثقات لابن حبان 9/ 95، وتاريخ بغداد 2/ 183، وسير أعلام النبلاء 12/ 119 - 120.
وقال
(1)
أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به.
وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء.
وقال ابن معين: ما به بأس
(2)
.
وحاصل القول فيه أنه صدوق يهم ويخطئ ويأتي بالمناكير، ولا سيما في التشيع، فإنه كان غاليًا فيه. ومثل هذا يتوقف عما انفرد به، ويُرَدُّ ما انفرد به مما فيه تهمة تأييدٍ لمذهبه. وقد تفرد بهذا الحديث كما ذكره الذهبي
(3)
، وكذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح
(4)
.
وفي هذا الحديث تهمة تأييد مذهب غلاة الرافضة في الاتحاد والحلول، وإن لم يُنْقَلْ مثل ذلك عن خالد. وقد أُسْنِدت إلى هذا الحديث بدع وضلالات تصطكُّ منها المسامع، والله المستعان.
وفي سنده أيضًا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وحاصل كلامهم فيه أنه صدوق يخطئ
(5)
. وقال الحافظ في الفتح بعد أن نقل كلام الذهبي والكلام في شريك: «ولكنْ للحديث طرق أخرى يدلُّ مجموعُها على أن له أصلًا»
(6)
.
(1)
من قوله: «وقال أبو حاتم» إلى قوله: «والله الموفِّق» ملحق.
(2)
انظر هذه الأقوال في تهذيب التهذيب 3/ 117 - 118.
(3)
ميزان الاعتدال 1/ 640 - 641.
(4)
هدي الساري: 400.
(5)
وهو ما قاله ابن حجر في التقريب ص 266.
(6)
فتح الباري 11/ 270. [المؤلف]
ثم ذكر الحافظ تلك الطرق، وعامَّتها ضعاف، إلا أنه ذكر أن الطبرانيَّ أخرجه من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة، عن عائشة، وأن الطبراني أخرجه عن حذيفة مختصرًا، قال:«وسنده حسن غريب» .
أقول: أما رواية حذيفة فمع الغرابة هو مختصر، وكأنه ليس فيه تلك الألفاظ المنكرة، وينبغي النظر في سنده؛ فإن الحافظ ربما تسامح في التحسين. وكذا ينبغي النظر في سند الطبراني إلى يعقوب بن مجاهد؛ فأخشى أن يكون فيه وهم؛ فإن المشهور رواية عبد الواحد بن ميمون عن عروة، وعبد الواحد متروك الحديث.
وبالجملة، فاقتصار الحافظ على قوله:«إن تلك الطرق يدلُّ مجموعها على أنَّ له أصلا» ، ظاهرٌ في أنه ليس في شيء منها ما يصلح للحجَّة. ودلالة مجموعها على أنَّ له أصلًا لا يكفي في إثبات هذه الألفاظ المنكرة. ولو فهم البخاري رحمه الله من تلك الألفاظ ما يزعمه الملحدون لما ذكر هذا الحديث في صحيحه.
وهذا من المهمَّات؛ فإن كثيرًا من الأئمة قد يقبل الحديث؛ لأنه يحمله على معنىً له شواهد وعواضِد بمعونتها يستحقُّ القبول، فيجيء بعض الناس يحتجُّ بالحديث على معنىً منكر، قائلًا: قد قبله فلان من الأئمة، فليُتنبَّه لهذا.
ومما ينبغي التنبه له أيضًا: أن الشيخين أو أحدهما قد يوردان في الصحيح حديثًا ليس بحجَّة في نفسه، وإنما يوردانه لأنه شاهد لحديث آخر ثابت، ثم قد يكون في هذا الحديث الذي ذكراه شاهدًا زيادةٌ لا شاهد لها، فيجيء مَنْ بعدهما يحتجُّ به بالنسبة لتلك الزيادة، وربما حمل الحديث على
معنىً آخر غير المعنى الذي فهمه صاحب الصحيح، وبنى عليه أنه شاهد للحديث الآخر.
وبالجملة، فمَن أراد الاحتجاج بالحديث لا يستغني عن النظر في إسناده، بعد أن يكون له من المعرفة ما يؤهِّله لهذا الأمر، وإلَّا أوشك أن يَضِلَّ ويُضِلَّ. والله الموفق.
ومن أهل زماننا وما قرب منه من يترقَّى فيذكر الراوي وبعض ما قيل فيه من جرح أو تعديل، ولكنَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم يكون زمامه بيد الهوى، فإن كان الحديث موافقًا له نقل ما قيل في الرجل من الثناء، وأعرض عما قيل من الجرح، وإن كان مخالفًا لهواه نقل ما قيل فيه من الجرح وسكت عن الثناء.
وأكثرهم ليس عندهم من التبحر في العلم، وممارسة الفن ما يؤهلهم للترجيح ومعرفة العلل، وأعظم ما عند أحدهم أن يتمسك بظاهر قاعدة من قواعد الفن؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسك بقولهم:«إن الجرح لا يُقْبل إلا مفسَّرًا» ، أو:«إن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُلْتفت إليه» ، أو:«إنَّ [90] المتصلِّب في مذهبٍ يجب التأنِّي في قبول كلامه في أهل المذهب الآخر» ، أو نحو ذلك. وإن كان مخالفًا له تمسَّك بقولهم:«الجرح مقدَّمٌ على التعديل» ، ونحوها.
فأما جهلهم بالعلل فحدِّث عنه ولا حرج. وغاية أحدهم أن ينقل عن بعض أهل العلم تعليل الحديث أو يتنبه هو للعلَّة إن تنبَّه، ثم يعمل في ذلك عمله في الجرح والتعديل؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسَّك بقولهم:«المثبِت مقدَّم على النافي» ، أو:«زيادة الثقة مقبولةٌ» ، أو:«إن من الأئمَّة مَن يقبل المرسل والمنقطع مطلقًا» ، أو: «إن تصحيح بعض العلماء للحديث
يدلُّ أنه علم أن المدلِّس قد سمع الحديث ممن عنعنه عنه»، أو:«يدلُّ أن الراوي سمع هذا الحديث من شيخه قبل الاختلاط» .
وإن كان مخالفًا له قال: «إن النافي كان أحفظ من المثبت» ، و «الساكتين جماعةٌ، والذي زادَ واحدٌ» ، و «أُعِلَّ بالإرسال والانقطاع، وبعنعنة المدلِّس، واختلاط الشيخ» ، ولم يعرِّج على ما يخالف ذلك، أو أشار إليه، ونقل ردَّه عن بعض العلماء، وهكذا.
وهذه القواعد منها ما هو ضعيفٌ، ومنها ما ليس بكلِّيٍّ، ومنها المختلف فيه. والعالم المتبحر الممارس [91] للفنِّ هو الذي يصلح أن يحكم في ذلك، بشرط براءته عن الهوى، والتجائه إلى الله تعالى دائمًا أن يوفِّقه لإصابة الحقِّ.
وكثيرًا ما يحتجُّ المتأخرون بالحديث مع اعترافهم بضعفه، ولكن يستندون إلى ما قاله النوويُّ ــ وتبعه كثير ممن بعده من الشافعيَّة والحنفيَّة وغيرهم ــ أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال ــ بشروطٍ ذكرها الحافظ ابن حجر وغيره ــ، وقد عارضه القاضي أبو بكر ابن العربيِّ ــ مؤلِّف أحكام القرآن وشرح الترمذيِّ وغيرهما ــ بأن الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع، فإثباتها بالضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله
(1)
.
ومما شُرط لجواز العمل أن لا يعتقد السُّنِّيَّة، أي الاستحباب، ذكره
(1)
وضع المؤلِّف هنا علامة إلحاقٍ، لكنه لم يكتب شيئًا، ولعلَّه أراد الإحالة إلى الفتح المبين بشرح الأربعين لابن حجر الهيتمي: 36، فإنه أورد نصَّ هذه العبارة، ونسبها إلى بعضٍ مبهم لم يفصح عنه، وجوَّز المعلِّمي في رسالة العمل بالحديث الضعيف أن يكون الهيتمي أراد بالبعض المبهم ابنَ العربي.
الخطيب الشربيني في شرح المنهاج
(1)
، وردَّه ابن قاسم بأنه لا معنى لجواز العمل في فضائل الأعمال إلا أنه يكون مطلوبًا طلبًا غير جازم، وكلُّ ما كان كذلك فهو سنَّةٌ
(2)
.
[85]
(3)
فصل
ومن الناس مَن يحتجُّ في هذا الأمر العظيم بمجرَّد العقل والقياس، وفي ذلك ما فيه.
أما العقل؛ فإنما يصحُّ الاستناد إليه إذا كان قاطعًا، والوجوه التي يحتجُّون بها غير قاطعةٍ، اللهم إلا ما أُشِير إليه في آية الكرسيِّ كما تقدَّم
(4)
.
وليعلم العاقل أن عقله قوَّةٌ من قواه المخلوقة له، كالسمع والبصر
(1)
المغني 1/ 67. [المؤلف]
(2)
انظر: حواشي الشرواني على التحفة 1/ 251. [المؤلف]
(3)
من هنا تبدأ تكملة السقط في مخطوطة الحرم المكِّي (رقم: 4781)؛ بدليل أن المؤلِّف كتب السطر الأوَّل من هذا الفصل أثناء ص (84) من الدفتر الأوَّل، ثم ضرب عليه، وزاد فصلًا كاملًا استغرق سبع صفحاتٍ، وجعل هذا الفصل الذي ضرب على أوَّل سطرٍ منه بداية الدفتر الثاني من دفاتر الكتاب الذي عثرت عليه بتوفيق الله، واستمرَّ ترقيم الدفتر الثاني من حيث انتهى الدفتر الأول قبل زيادة سبع الصفحات. ولا يُشوِّشْ عليك تكرُّر الترقيم من ص (85) إلى ص (91) في الدفتر الثاني مرَّةً أخرى؛ لأنه الموافق للأصل الأصيل قبل الزيادة، فلزم بقاؤه كما كان.
ومن الأدلَّة على صحَّة موضع هذا الدفتر أنَّ المؤلِّف أحال إلى عدَّة مواضع منه، ثم وُجدت الأرقام المحالة مطابقةلأرقام الصفحات المُحال إليها، وفيها المعلومات المُشار إليها سواء بسواء.
(4)
في ص 53.
والشمِّ والذوق وغيرها. فكما أن كلَّ قوَّةٍ من هذه لها حدٌّ لا تتجاوزه، فكذلك العقل. وكما أن للحواسِّ أغلاطًا معروفةً كرؤية الواحد اثنين والصغير كبيرًا وعكسه، وَتَوَهُّمِ بعض الناس أنه يسمع كلامًا في حال أن الذين بجنبه لا يسمعون شيئًا، واستطابة الروائح الكريهة في بعض الأمراض، وطعم الماء العذب مرًّا في بعضها وطعمه كأنما مُزِجَ بالسكر بعد تناول بعض الأدوية المُرَّة؛ فكذلك للعقل أغلاطٌ أدقُّ وأخفى. وقد روي عن الإمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى أنه قال: إنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه
(1)
.
ولابن عربيٍّ الصوفيِّ في الباب الثاني والسبعين بعد أربعمائةٍ من فتوحاته
(2)
:
على السمع عَوَّلْنا فكنا أولي النهى
…
ولا علم فيما لا يكون عن السمع
وله في الباب الثامن والخمسين بعد ثلاثمائةٍ:
كيف للعقل دليلٌ والذي
…
قد بناه العقل بالكشف انهدم
[86]
فنجاة النفس في الشرع فلا
…
تك إنسانًا رأى ثم حُرِم
واعتصم بالشرع في الكشف فقد
…
فاز بالخير عُبَيْدٌ قد عُصِم
كلُّ علمٍ يشهد الشرع له
…
فهو علمٌ فبه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل
…
طَوْرَكَ الْزَمْ ما لكم فيه قَدَم
(1)
توالي التأسيس في معالي ابن إدريس ص 72. [المؤلف]. وانظر: مناقب الشافعي للبيهقي 2/ 187.
(2)
5/ 468. [المؤلف]
والخلاصة أن العقل القاطع إذا لم يوجد فما بقي إلا الخرص والتخمين، وهو سبيل المشركين، فلا ينبغي لمسلم اقتفاؤهم فيه.
وأما القياس؛ فإنه لا يفيد القطع كما حققه الغزالي والفخر الرازي
(1)
وغيرهما، ومسألتنا تستدعي الدليل القاطع. بل اختلفت الأمة في القياس أدليلٌ ظنِّيٌّ هو أم ليس بدليلٍ أصلًا؟ ومن قال بدلالته شرط له عدة شرائط، منها: ألَّا يعارض شيئًا من ظواهر الكتاب والسنة، ومنها: عدم الفارق، وقد يخفى الفارق على أكابر النُّظَّار.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 73 - 74].
وجاء عن بعض الصحابة أنه قال لمن كان ربما توقَّف في الحديث وذكر أقيسة [87] تعارضه: «إذا حدَّثتك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثًا فلا تضرب له الأمثال»
(2)
. وهذا المتوقِّف من الأكابر، وإنما كان يتوقف تَثَبُّتًا لاحتمال غلط الذي أخبره بالحديث أو نحو ذلك، فقد كان إذا لم يظهر له دليل على غلط المخبر يصير إلى الحديث، ولا يبالي بما خالفه، وقد نُقِل عنه من ذلك كثير.
(1)
انظر: المستصفى للغزالي 1/ 31 والمحصول للرازي 5/ 123 - 124.
(2)
رواه الترمذي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيَّرت النار، 1/ 114، ح 79، مطولًا. وابن ماجه في كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، 1/ 10، ح 22، مختصرًا. وفي كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء مما غيَّرت النار، 1/ 163، ح 485، مطوَّلًا.
وقال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
هؤلاء القوم رأوا أن البيع والربا شبيهان، في كلٍّ منهما أخذ زيادة على رأس المال؛ فرأوا أن أخذ الزيادة إما أن يحرم في الموضعين، وإما أن يحلَّ فيهما، وهذا هو القياس، فردَّ الله عز وجل عليهم بأنَّ من الفرق بينهما أن الله تعالى أحلَّ أحدهما وحرَّم الآخر، أي فإن كانوا عَبِيدَه فليطيعوه ويكتفوا بذلك. وليس في هذا نفيُ أن يكون هناك فرقٌ آخر، وإنما فيه أن فريضةَ العبد طاعةُ ربه، وإن لم يفهم الحكمة.
وروى الدارميُّ عن الحسن أنه تلا هذه الآية: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12، ص: 76] قال: «قاس إبليس، وهو أوَّل مَن قاس» .
وعن ابن سيرين أنه قال: «أوَّل مَن قاس إبليس، وإنما عُبِدَت الشمس والقمر بالمقاييس»
(1)
.
وصدق؛ فإن عامَّة دين المشركين مبنيٌّ على المقاييس والرأي.
[88]
فمن ذلك: نسبتهم إلى الله سبحانه الولد، واتخاذهم بعض المقربين عنده آلهةً من دونه ليشفعوا لهم إليه.
(1)
سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 65، ح 195 - 196. [المؤلف].
قلت: وأثر الحسن في إسناده محمَّد بن كثيرٍ الصنعانيُّ، ومطرٌ الورَّاق، وفي كلٍّ منهما مقالٌ. أما أثر ابن سيرين ففي إسناده يحيى بن سُلَيمٍ الطائفيُّ، وهو صدوقٌ سيء الحفظ.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20].
وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
ومن ذلك: ما أحدثوا في أعمال الحجِّ، وما حرَّموه في
(1)
البحيرة والسائبة وغيرهما.
(1)
كذا في الأصل.
جاء في تفسيرها روايات يجمعها أنهم كانوا يجعلون ما سمَّوه لله تعالى أو بعضه لشركائهم ولا يعكسون، محتجِّين بأن الله تعالى غنيٌّ وشركاءهم فقراء.
ومن ذلك: قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24].
وهكذا عامة ديانتهم، وسيأتي كثير من ذلك مع إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وفي تفسير الخازن عند قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ما لفظه: «قال أهل المعاني: توهَّموا أن عبادتها أشدُّ في تعظيم الله من عبادتهم إيَّاه، وقالوا: لسنا بأهلٍ أن نعبد الله، ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام؛ فإنها تكون شافعة لنا عند الله»
(1)
.
[89]
وكان من المنتسبين إلى الإسلام مَن يجحد علم الله عز وجل بالأشياء قبل كونها، دعاه إلى ذلك أنه لم يقدر على تقرير عدل الله تعالى
(1)
تفسير الخازن 3/ 180.
وحكمته مع إثبات علمه السابق سبحانه وتعالى. ومن الفلاسفة مَن يجحد علم الله تعالى بالجزئيَّات، زاعمين أَنهم بذلك ينزِّهونه عز وجل عن التغيُّر. وقد توسَّط أبو البركات البغدادي
(1)
في كتاب المعتبر فاعترف بعلم الله عز وجل لبعض الجزئيَّات ونفاه عن الاتفاقيَّات، زاعمًا أن العقل ينفي أن يسع علم الله تعالى جميع الجزئيَّات مع كثرتها، وأن الثواب والعقاب الذي جاءت به الشرائع لا يسوِّغه العدل والحكمة إلا إذا كان الله عز وجل لا يعلم الأعمال قبل وقوعها، وحاول أن يلطِّف العبارة جهده
(2)
.
وبعض المجوس قالوا بوجود قديم غير الله عز وجل هو خالق الشرِّ، أدَّاهم إلى ذلك تنزيه الله عز وجل عن الشرِّ، زعموا أنه لا يمكن تنزيهه عنه إلا بذلك القول، ومع ذلك فهم يبغضون خالق الشرِّ ويوجبون مخالفته ويقولون: إن مصيره مع مَن تبعه إلى جهنَّم، وأكثرهم يقول: إن خالق الشر وهو الشيطان مخلوق من خلق الله تعالى، ثم يتحيرون كيف يمكن أن يخلقه الله تعالى مع علمه بخبثه، حتى التزم بعضهم أنه قديم كما سبق.
وهكذا جميع أمم المشركين وطوائف المبتدعين يزعمون أنهم بشركهم أو بدعهم معظِّمون لله عز وجل، حتى فرعون وقومه كما سيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى. ولعل أكثرهم كالصادقين في قصدهم، وإنما أُتُوا من قبل اعتمادهم على عقولهم وقياسهم وإعراضهم عن كتب الله ورسله فلم يقنعوا
(1)
هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، أبو البركات البغدادي، العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان، كان يهوديًّا ثم أسلم، من تصانيفه: المعتبر في الحكمة (أي المنطق والفلسفة)، توفي عام نيِّفٍ وخمسين وخمسمائة. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 374 - 376، وسير أعلام النبلاء 20/ 419.
(2)
انظر: المعتبر 3/ 93 - 99، 187 - 195.
بما جاءت به الرسل ويسلِّموا له ويدَعوا خَرْصَهم وتخمينَهم وأهواءَهم وظنونَهم.
[90]
ولقد بلغ الاعتماد على العقل والقياس بل الخرص والتخمين بكثير من نظار المسلمين إلى أن زعموا أن كثيرًا من آيات الكتاب وكثيرًا من الأخبار الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مصروفة عن ظواهرها بدون قرينة تمنع المخاطَبين عن فهم الظاهر، بل صرَّحت طائفة بأن الله تعالى ورسوله قصد من المخاطَبين أن يفهموا ذلك الظاهر المخالف للحقيقة، فقيل لهم: فهذا كذب، فأجابوا أن الكذب للمصلحة جائز على الله تعالى وعلى رسله. فيقال لهم: فإن كثيرًا من تلك الآيات والأحاديث لا ملجئ إلى الإخبار بها على ظاهرها، ولا تتوقف على ذلك مصلحة ضرورية على فرض أن ظاهرها غير مراد، وقد تكرَّرَتْ وكَثُرَتْ وتضافرت إلى حدٍّ يقْطَع مَنْ تأمّله بأنه لا يمكن أن تكون إنما أُتي بها على تلك الصفة للضرورة التي زعموها.
ولهذا ذهب بعض أئمة الفلسفة من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن الرسل مصلحون فقط، ولا علم لهم بالحقائق الغيبية والدقائق العقلية. قالوا: فالفيلسوف أعلم من الرسول، وسموا الأنبياء: فلاسفة العامة، والفلاسفة أنبياء الخاصة، فلم يتحاش أحدهم أن يقول: أنا أعلم بالله من أنبيائه ورسله، بل ويقول بعضهم: أنا أعلم بالله من نفسه، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
وإذا تتبعت كلامهم وجدتهم يزعمون أنه ما أدَّاهم إلى تلك الأقوال إلا تنزيه الله عز وجل وتعظيم رسله. والله المستعان.
[91]
فصل
ومن الناس مَن يحتج في هذا الباب بآية من كتاب الله عز وجل أو سنة ثابتة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ويغفل أو يتغافل عن عِدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله. وهذا غلط شنيع؛ فإن الكتاب والسنة كالكلام الواحد، بمعنى أن الاستدلال على مطلب من المطالب بآية أو حديث لا يتم الوثوق به إلا بعد العلم بأنه ليس في آية أخرى من آيات القرآن ولا حديث آخر من الأحاديث الثابتة ما يخالفه.
فكما أنه ليس لعاقلٍ أن يحتجَّ على حرمة الصلاة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ويقف على الصلاة، ولا على انتقاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول الله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ويحذف {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} ، وأمثال ذلك= فكذلك ليس له أن يحتجَّ بقول الله عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] على نفي قتل القاتل والزاني المحصن ودفع الصائل والباغي؛ لأن على هذه أدلَّةً خاصَّةً من الكتاب والسنَّة تبيِّن المراد بتلك الآية. وهذا أمرٌ واضحٌ، وإن أعرض عنه كثيرٌ من الباحثين في مسألتنا.
[92]
فصل
ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه وقَبِلَه من آبائه أو مشايخه، ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلب له حجة، ويحول ذلك بينه وبين أن يصغي إلى الأدلة التي يتمسك بها مخالفه أو يتدبَّرَها، فإن
تعدى هذه المنزلة أخذ يتطلب الأدلة لرأيه، فيجمع كل ما يظن فيه دلالة بدون تصحيح ولا تنقيح ولا نظر في الأدلة المعارضة له. فإن جاوز هذه الدرجة تصفَّح أدلة مخالفيه وانتقى منها ما يسهل عليه تأويله، وأعرض عن الباقي. فإن ترقى عن هذه المرتبة جَهَدَ نفسه في الكلام على ما يجده لمخالفه من الأدلة، وإن اضطر إلى التعسف والتحريف ومخالفة القواعد القطعية.
فأما من لم يكن له علم راسخ بالقواعد وما أكثرهم في المتكلمين في مسألتنا وغيرها في القرون الأخيرة فهو أقرب إلى العذر عند الناس، وعُظْمُ اللوم على من صدَّره ونحله العلم والإمامة بغير استحقاق. ولكننا نجد أفرادًا لا يُؤْتَون مِنْ جهلٍ بالقواعد وإنما يُؤْتَونَ من مخالفتها، والله المستعان.
وأريد بالقواعد ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد. فلا ينبغي للعاقل أن يزجَّ بنفسه في بحر الاستدلال حتى يجمع أمورًا:
الأوَّل: إتقانُ [93] العربية وطولُ ممارستها؛ فإننا نجد من علماء العجم من يغلط في فهم آية أو حديث غلطًا لا نشك فيه. ومع ذلك يصعب علينا أن نقنعه بقاعدة معيَّنة من القواعد المذكورة في كتب النحو وغيرها، وما ذلك إلا لأنه قد بقي من قواعد فهم اللغة ما لا يُعْرَف إلا بالممارسة التامة وتربية الذوق الصادق، بل إن القواعد المبسوطة المحرَّرة لا يُسْتَطاع تطبيقُ أكثرها بدون ممارسةٍ وحسن ذوق. وليس هذا خاصًّا بعلم العربية، بل الأمر كذلك في بقية العلوم، ألا ترى أن من الأئمة المجتهدين من يحتجُّ بالاستحسان وفسَّروه بدليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يستطيع التعبير عنه. ونحو هذا يقول أئمة الحديث في معرفة علل الحديث حتى قال الإمام
عبد الرحمن بن مهدي: هي إلهام، لو قلتَ للقيِّم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة
(1)
. وذكر السخاوي في فتح المغيث
(2)
قصصًا في ذلك ومثلوه بالصيرفيِّ والجوهريِّ.
(3)
/ومما يشبه ذلك أنَّ من خالط أهل الصين واليابان ثم رأى شخصين صينيًّا ويابانيًّا يميز أحدهما من الآخر بأوَّلِ نظرةٍ، ولو سئل عن سبب تمييزه ما استطاع أن يذكره حينئذٍ
(4)
.
الثاني: المعرفة بالمعاني والبيان مع حظٍّ من معرفة أشعار العرب وفهم معانيها ولطائفها وتطبيقها على قواعد المعاني والبيان ممارسًا لذلك.
[94]
الثالث: معرفة أصول الفقه والتمكن فيها على وجه التحقيق لا التقليد، وكثرة الممارسة لتطبيق الفروع على الأصول.
الرابع: معرفة مصطلح الحديث والتمكُّنُ فيه، وطرفٌ صالحٌ من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم.
الخامس: كثرة مطالعة كتب الحديث، وتَفَهُّم معانيه، ومعرفة صحيحه من سقيمه، والممارسة لذلك إلى أن تكون له ملكة صحيحة في معرفة العلل والتوفيق بين المختلفات والترجيح بين المتعارضات. ويلحق بذلك معرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإسلام وأحوال الصحابة وعلماء التابعين وتابعيهم.
(1)
انظر: العلل لابن أبي حاتم 1/ 388، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 360.
(2)
1/ 273.
(3)
هنا بداية ملحق ص 93 وهو ثلاث صفحات وبضعة أسطر.
(4)
لفظ «حينئذٍ» مكرَّرٌ في الأصل.
السادس: معرفة العلماء ومراتبهم في العلم ومزاياهم الخاصة التي يتفاوتون فيها، كشدَّة الاعتصام بالكتاب والسنة والورع وتجنب الأهواء والبدع والإخلاص وعدم العصبية وغير ذلك، ولا يقتصر على ما هو مشهور بين الناس من الفضائل والمناقب فإن كثيرًا من [95] ذلك نشأ عن التعصب للمتبوعين والمغالاة فيهم وتنقيص مخالفيهم.
السابع ــ وهو الأوَّل في الرتبة والأَوْلَى بالعناية ــ: كثرةُ تدبر كتاب الله عز وجل وتفهم معانيه، وليختبر فهمه له ويكرر امتحان نفسه حتى يحصل له الوثوق التام بأن فهمه فهم العلماء، وليكن اعتماده على الفهم المطابق للقواعد العلمية ولا يقتصر على «قال فلان وقال فلان» .
الثامن: الإخلاص ومحبة الحق وتطهير النفس من الهوى والتعصب وحب الجاه والشهرة والغلبة، وأن يكون أعظم همِّه موافقةَ الحق وإن خالف آباءَه ومشايخه وعاداه أكثر الناس، ويكون مع ذلك محافظًا على الطاعات متنزِّهًا عن المعاصي بقدر الاستطاعة، ويبتهل إلى الله عز وجل في كلِّ وقت أن يهديه ويرشده ويوفِّقه ويسدده. ويكثر من قول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ، و «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك» ، اللهم يا من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، أجرني من شر نفسي ومن شر ما خَلَقْتَ، ونحو ذلك. ويُكْثِرُ من الصلاة والسلام على [96] النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمحبة له ولأهل بيته عليهم السلام ولأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، والاحترام للعلماء والصالحين؛ فإن ألزمه الدليل مخالفة بعضهم فلا يحمله ذلك على احتقارهم والطعن فيهم، وليعرف لهم حقهم ويعتذر لهم بما استطاع مع المحافظة على الحق أينما كان.
ولعل قائلًا يقول: وهل كاتب هذه الرسالة جامع للأمور المتقدمة؟ فأقول: لست هنالك ولا قريبًا من ذلك.
ولكنَّ البلاد إذا اقْشَعَرَّتْ
…
وصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيمُ
(1)
ومَن طالع هذه الرسالة فسيعرف منزلة كاتبها، والله تعالى الموفق.
ولنختم هذا الفصل بالتنبيه على قاعدة من القواعد التي تقدَّمت الإشارة إليها وهي وجوب حمل النصوص على ظاهرها، وهي قاعدة قطعية متفق عليها بين المسلمين بل بين العقلاء. والمراد بالظاهر ما يكون ظاهرًا من النص بعد أن يُضَمَّ إليه ما يبينه من النصوص الأخرى، فالنصُّ العام ظاهره العموم فإذا قامت حجة ثابتة على تخصيصه لم يبق ظاهرًا إلا فيما بقي بعد التخصيص.
[97]
واعلم أن الظاهر الواحد لا يفيد وحده إلا الظن، ولكنه قد يترقى إلى القطع إذا عضدته ظواهر أخرى، أو عُلِمَ من حال السلف الصالح أنهم كانوا يحملونه على ظاهره أو غير ذلك.
ونقل ابن حجر الهيتمي في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام عن كتاب الأنوار ما لفظه: «وأن من دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره فهو كافر بالإجماع» .
(1)
البيت لأبي عليٍّ البصير، الفضل بن جعفرٍ الكوفيِّ. انظر: أمالي القالي 2/ 287، والوساطة بين المتنبِّي وخصومه ص 221، ومعجم الأدباء 3/ 89، ترجمة أحمد بن أبي طاهرٍ ونسبه لدعبل أيضًا، واقشعرت: أجدبت، وصوّح أي جفَّ، والهشيم الكلأ الجافّ.
وأقرَّه ابن حجر إلا أنه قال: «والظاهر أيضًا أن معنى قوله: المحمول على ظاهره، أي بالإجماع»
(1)
.
أقول: ومن الإجماع عندهم أن يُنْقَلَ قولٌ عن بعض السلف ولا يعلم له مخالف منهم
(2)
. والله أعلم.
وبالجملة، فالظاهر إذا لم يعتضد بشيء فإنه حجة في غير العقائد، فأما في العقائد فإنه يوجب الاحتياط، والاحتياط فيما يتعلق بالاعتقاد أصل عظيم نَبَّه عليه القرآن في مواضع قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52]، وقال عز وجل:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10].
ويدخل في هذا المعنى كثير من الآيات التي يُطالَبُ المشركون فيها بالحجة والسلطان على دعواهم، أو يُنْفَى أن يكون عندهم شيء من ذلك، أو يُنْعَى عليهم الاعتماد على الظن والخرص والتقليد؛ فإن من المقصود في ذلك أن يبين لهم أنه على فرض أن حجج الأنبياء وبيناتهم لا تفيد عندكم [98] القطع بصدقهم فأنتم ليس عندكم براهين قاطعة على شرككم، وحينئذٍ فالواجب عليكم الاحتياط وترجيح جانب السلامة، ولا ريب أنها ترك الشرك.
(1)
الإعلام ص 44. [المؤلف]
(2)
انظر: الإحكام لابن حزم 4/ 219 إذ نسب هذا القول إلى بعض الشافعيِّين وجمهور الحنفيين والمالكيين، والسلف عنده: واحد أو أكثر من الصحابة.
والحكماء الربانيون يسلكون هذه الطريقة لقربها، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} إلى أن قال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 28 - 35].
وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنَّ دَهْرِيًّا
(1)
نازعه في البعث فقال أمير المؤمنين: «يا هذا إن كان الأمر كما أقول نجوتُ أنا وهلكتَ أنت، وإن كان كما تقول نجونا جميعًا» أو كما قال
(2)
. يعني: فعليك أن تحتاط لنفسك فتُسْلِمَ فتكون ناجيًا بيقينٍ.
وجاء عن ابن عمرو وابن عباس أنهما قالا لمن كان يرى أنه كما لا ينفع مع الكفر عمل لا يضرُّ مع الإيمان عمل، قالا له: عَشِّ ولا تَغْتَرَّ
(3)
، وهذا مثل
(1)
في تاج العروس 11/ 349: «والدَّهريُّ - بالفتح، ويُضمُّ -: الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة القائل ببقاء الدهر» . وانظر: الفصل في الملل والنحل لابن حزم 1/ 47.
(2)
لم أعثر عليه.
(3)
أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 4/ 253، وورد أيضًا بمعناه جوابًا لسؤال معبد الجهني القدري لما قال: رجل لم يدع من الشر شيئًا إلا عمله غير أنه يشهد أن لا إله إلا الله. انظر: الجامع لمعمر 11/ 285 ح 20553، والزهد لابن المبارك ص 324 - 325 ح 922 - 923، ومسند ابن الجعد 2/ 1167 ح 3506 - 3507، وحلية الأولياء 1/ 311، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 6/ 1073 - 1074 ح 2002 - 2003.
أصله أن رجلا أراد أن يقطع بإبله مفازة فأراد أن لا يعشِّيها اتِّكالًا على ما في المفازة من الكلأ
(1)
.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المعنى في الكلام على بيان شرك العرب الذين بُعِثَ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
[99]
فإن قيل: فهلا أغنى الله عز وجل رسله عليهم الصلاة والسلام عن هذه الطريقة بآيات قاطعة؟
فالجواب أن الحجج القاطعة على ضربين:
الضرب الأول: ما لا يستطيع المعاند إنكاره، ولو أنكره لمقته الناس جميعًا ولم تكن هناك أدنى شبهة يجوز أن يعتذر بها عنه، كأن يكون بصيرًا في مكان مكشوف، وحوله أمة من الناس، والشمس وسط السماء ليس دونها سحاب؛ فإنه لا يقدر أن ينكر كون الشمس في ذلك الوقت طالعة على ذلك المكان.
الثاني: ما يستطيع المعاند إنكاره؛ لظنه أنه لا يعدم عذرًا عند الناس، كأن يكون العلم بتلك الحجة متوقفًا على التدبر والتأمل، فيقال: لعل هذا لم يتدبر ولم يتفكر، بل قد يكون الواقع كذلك، أعني أنه لم يتدبر ولم يتفكر، إما لأنه قد أَلِفَ ذلك القول الباطل ووجد عليه آباءه ومشايخه ويصعب عليه أن يتبين بطلانه، فهو يَصُدُّ نَفْسَه عن التدبر والتفكر ويغالطها ويقنعها بأن ما هو عليه هو الحق، وإما لأنه أخذ ما هو عليه تقليدًا عن مُعَظَّم عنده يغلو في اعتقاده فيه، وإما لأنه يتوهم أن ما هو عليه هو الحق، ويخشى أن يوقعه
(1)
انظر: نهاية ابن الأثير، مادة (عشا). [المؤلف]. ومجمع الأمثال 2/ 16.
التدبر والتفكر في خلاف الحق [100] أو نحو ذلك، وهذه الأعذار وشبهها تمنع الناس أن يسخروا منه كما يسخرون من المنكر للضرب الأول.
إذا علمت ذلك فاعلم أن عامة الحجج الدينية من الضرب الثاني. ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الله عز وجل أنشأ الجن والإنس هذه النشأة في الحياة الدنيا لحكم يعلمها، منها: أن يبرز فعلًا ما انطوت عليه نفوسهم من الخضوع للحق أو الاستكبار عنه، فتكون مجازاتهم على أمرٍ قد وقع وَوُجِدَ ما ينشأ عنه من المفاسد، وشَاهَدَهُ الخلق وشهدوا به حتى تشهد به أعضاء الفاعل؛ إذ لو أراد سبحانه أن يجازيهم على ما علمه من نفوسهم لأنكروا ذلك.
وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 22 - 23].
ولعلَّ الأرواح في عالَمِها لا يقع منها كفر ولا معصية، إما لأن الحق في ذلك العالم واضح من الضرب الأول وإما لغير ذلك، والله أعلم.
وعلى كلِّ حالٍ فإن عدل الله عز وجل اقتضى ما قدمنا ألا يجازيهم على مجرد ما علمه من نفوسهم حتى تبرز آثار ذلك إلى الخارج وتشهد به الخلائق.
إذا تقرَّر هذا فالحكمة المذكورة لا تتمُّ إلا إذا كانت حجج الحق وبراهينه من الضرب الثاني؛ ليتمكَّن من إنكارها مَنْ انطوت نفسه على العناد [101] والاستكبار، ويتبين في مَنْ قَبِلَها أن نفسه منطوية على حبِّ الحق وقَبوله والخضوع له.
ومثال هذا: أنك إذا أردت امتحان رجل أأمين هو أم لا؟ فإنك لا تمتحنه بأن تودعه مالًا بمحضر أمة من الناس، ثم تطالبه به في المجلس، وإنما تمتحنه بأن تودعه سرًّا مالًا له خطر، ثم تطالبه بعد أيام مثلًا، فإنه إن أدَّاه كان ذلك دليلًا على أمانته.
ثم اعلم أن الخيانة على درجات: فمن الناس مَنْ يرتكبها وهو يعلم قطعًا أنها خيانة.
ومنهم من لا يرتكبها إلا إذا كانت هناك شبهة يغالط بها نفسه، كأن يزعم أنه محتاج وأن المودِعَ لا يؤدِّي الزكاة أو نحو ذلك، فهكذا المخالف لظواهر الأدلة قد يكون يعلم من نفسه أنه على باطل وإنما يعتني بالتأويل والمغالطة كراهية أن يعترف بأنه على باطل.
ومنهم من يغالط نفسه أيضًا كما تجده في كثير من المقلدين فإن أحدهم لشدة محبته لإمامه وحسن ظنه به يعمد إلى الأدلة الظاهرة المخالفة لمذهبه فيؤولها التأويلاتِ البعيدةَ في حين أنه يشنع على مخالفه إذا فعل مثل ذلك أو أقلَّ منه.
والمقصود أن الحكماء الربانيين يسلكون الطريقة المتقدمة؛ لقربها، [102] ولأن المخالف إذا قَبِلَها لم يلبث أن تزول عنه تلك الحواجز التي كانت تحول بينه وبين معرفة الحقّ فيعرفه يقينًا. والله أعلم.
فصل
ومن الناس مَن يتهاون بهذا الأصل العظيم ــ الفصل بين التوحيد والشرك ــ قائلًا: «إنما الأعمال بالنيات» ، زاعمين أن هذا الحديث حجة على أن المدار في البر والإثم، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، وكل خير
وشر على مقصود العامل، فأيُّ عمل عمله قاصدًا به التقرب إلى الله عز وجل فحُكْم الشرع في حقِّه أنه متقرب يُرْجى له الثواب.
فبعض هؤلاء يجعل هذا الحديث على تأويله له حجةً يتحجَّرُها لنفسه ولا يقبلها لمخالفه، وكفى بذلك تناقضًا.
وبعضهم يسمح بالمشاركة ولكنه يجحد أَنَّ مخالفيه قصدوا الخير ويكذِّبهم في ذلك.
وبعضهم يضطرب ويرتبك.
وبعضهم يتسامح فلا ينكر على أحد. وهذا رأي فيه قيراط حق وقنطار باطل.
فأما الحديث فلفظه كما في الصحيحين: «إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
(1)
.
فالمراد بالأعمال الأعمال الشرعية التكليفية بقرينة أن المتكلمَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلامه هذا من باب تبليغ الشريعة، وأنه مَثَّلَ [103] بالهجرة وهي عمل شرعي تكليفي.
وقال الحافظ ابن حجر: «والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين
…
(1)
البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب النيَّة في الأيمان، 8/ 140، ح 6689. ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيَّة»، 6/ 48، ح 1907. [المؤلف]
قال الطيِّبِي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع»
(1)
.
وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ظاهره اتفاقًا نفي وجود الأعمال بدون النيات. وتوهم بعض أهل العلم أن النفي لا يصح إذ قد توجد صورة الصلاة بدون نية، والصواب صحة النفي؛ فإن الكلام في الأعمال الشرعية كما علمت، والموجود في الخارج بدون النية ليس هو العمل الشرعي، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته:«ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ»
(2)
.
ولا خفاء أنَّ مَنْ اتفق له عدمُ الأكل والشرب والجماع يومًا كاملًا بغير نية صيام يصدق عليه حقيقة أنه لم يقع منه صيام.
فهذه الجملة «إنما الأعمال بالنيات» دلَّت أنه لا يوجد عملٌ شرعيٌّ تكليفيٌّ
(3)
إلا بنيَّةٍ، والمراد بها ــ والله أعلم ــ إخراج الأعمال الصورية التي لم تقع بنية عن أن تكون شرعية تكليفية، مثل أن يكون إنسان نائمًا أو مغمى عليه فيُحْمَلَ بغير رضًا منه سابقٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام، فهذا لم يوجد منه عمل شرعي تكليفيٌّ أصلًا.
والجملة الثانية «وإنما لامرئ ما نوى» أريد بها ــ والله أعلم ــ التمييز بين الأعمال الشرعية التكليفية المشتبهة صورة، فأفاد أنَّ الذي يوجد منها هو ما
(1)
الفتح: 1/ 9. [المؤلف]. وقد تكرَّر في الأصل قوله: «كلام الشارع» مرَّتين سهوًا.
(2)
البخاريّ، كتاب الأذان، باب أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي لا يتمُّ ركوعه بالإعادة، 1/ 158، ح 793. ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، 2/ 11، ح 397. [المؤلف]
(3)
في الأصل: تكليفيَّةٌ، وهو سبق قلمٍ.
نواه، ومَثَّلَ له بالهجرة؛ فإنَّ الخارج من دار الكفر إلى دار الإسلام [104] قاصدًا قد وُجِدَ منه عَمَلٌ شرعي تكليفيٌّ في الجملة، وهذا العمل الشرعي التكليفي يحتمل أن يكون الهجرةَ إلى الله ورسوله وحكمُه الوجوب، أو الهجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها وله حكم آخر، فتعيين أحدهما بخصوصه موكول إلى نيته الخاصة. وهاهنا انتهى معنى الحديث
(1)
.
فأنت ترى أن الحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفية وبين غيرها، فأما أحكام تلك الأعمال فلم يتعرَّضْ لها وإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى.
ولنوضح ذلك بمثال: أربعة وقعوا على أمهاتهم، فأحدهم مجنون، والثاني ظنها زوجته، والثالث يعلم أنها أمه ولكن غلبته الشهوة، والرابع يعلم أنها أمه وقصد بِرَّها ورضاها تقربًا إلى الله تعالى في زعمه.
فالأوَّل: ليس له قصد معتدٌّ به شرعًا. «وإنما الأعمال بالنيات» ، فلم يوجَدْ مِنْه عمل شرعي تكليفي أصلًا، فلا يقال لعمله: حرام ولا مكروه ولا مباح ولا مندوب ولا واجب، والآخرون قصدوا الوقوع فوُجِدَ مِنْ كلٍّ منهم عملٌ شرعيٌّ
(2)
تكليفي. ثم يقال: الثاني
(3)
إنما نوى الوقوع على زوجته،
(1)
هنا كان مكتوبًا: «ولنضرب مثلًا يتَّضح به المعنى» ، وهو تكرارٌ لما سيأتي بعد سطرين من قوله:«ولنوضِّح ذلك بمثالٍ» ، لأنه ضرب على صفحةٍ ونصف صفحة ثم أعاد تبييضهما، فنسي أن يضرب على هذا القدر.
(2)
أي للشرع فيه حكمٌ، ولا يعني أنه مشروعٌ.
(3)
لعله: «الأوَّل» أي: في عدد الآخرين خلا المجنون، بدليل ما يأتي من الثاني والثالث.
«وإنما لامرئ ما نوى» ، فالعمل الشرعي التكليفي الذي وُجِد منه هو الوقوع على زوجته. والثاني نوى الوقوع على أمه شهوة فالعمل الشرعي الذي وُجِدَ منه هو الزنا بأمِّه. والثالث: نوى الوقوع على أمه تقربًا إلى الله تعالى في زعمه، فالعمل الذي وجد منه هو الزنا بأمه تقربًا إلى الله تعالى في زعمه.
وهاهنا انتهى معنى الحديث، فأما الأحكام فتطلب من غيره، فحكم الثاني أنه مندوب أو مباح، وحكم الثالث أنه حرام من أكبر الكبائر، عليه التفسيق والحد، وحكم الرابع من جهة كالثالث، ومن جهة أنه كفر لاستحلاله الحرام المقطوع به وكذبه على الله تعالى، وتكذيبه بآياته وتكذيبه لرسوله، ولو كان المعنى ما توهَّمه الجهال لكان عمل الرابع يكون قربة يرجى لصاحبه الثواب. وذلك قريب مما توهّمه المشركون فيما حكى الله تعالى عنهم من قولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
والحاصل أن مَن نوى التقرُّب إلى الله تعالى بعملٍ لا بدَّ من النظر في الأدلَّة الشرعيَّة، فإذا دلَّت على أن ذلك العمل بذلك القصد قربة فهو قربة، وإذا دلَّت على أنه ليس بقربة ففعلُه له بنيَّة التقرب وبالٌ عليه؛ لما فيه من الكذب على الله تعالى والتكذيب بآياته وغير ذلك
…
(1)
.
فإن قيل: فقد عُلِمَ من الشريعة أن المباح يصير قربة بالنية الصالحة، بل بعض المكروهات، وكذا بعض المحرمات إذا تعينت طريقًا لدفع مفسدة أعظم منها.
قلت: نحن لم ننف ذلك، وإنما قلنا: لا بدَّ من دليل شرعيٍّ على أن هذا
(1)
هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل، وكلمة:(ففعله) لم تظهر كاملةً.
العمل يكون قربةً بالنية، ولا يكفي في ذلك مجرد النية كما في الزاني بأمِّه تقرُّبًا في زعمه، وشاربِ الخمر تقوِّيًا على قيام الليل، والساجد للشمس احترامًا لها لأنها آية من آيات الله، وقس على ذلك، ولعلّك قد وقفت على الحكاية التي وُضِعَتْ على مؤذن حمص ومسجدها وإمامها وقاضيها، فإنها من هذا القبيل
(1)
.
واعلم أن سائر الكفار من أهل الكتاب والمشركين كلهم يزعمون أنهم إنما يتمسكون بكفرهم طاعة لله عز وجل وتعظيمًا له، كما تقدم بعض ذلك، وقد علمنا أن قصدهم ذلك لا ينفي عنهم اسم الكفر ولا حكمه بل يغلِّظه عليهم ويكون كفرًا على كفرٍ.
وأما ما في ذلك الرأي
(2)
من الحق فهو في رمي المسلم غَيْرَهُ بالكفر عند ظنه ذلك بعد اجتهادٍ يُعْتَدُّ به، كما قال عمر في حاطب، وأسيدُ بن حضير في سعد بن عبادة، وجلساء عتبان بن مالك [107] في مالك بن الدخشم رضي الله عنهم، وسيأتي توضيح ذلك في أواخر الرسالة
(3)
، إن شاء الله تعالى.
وقد قال الإمام أحمد وغيره بكفر تارك الصلاة كسلًا، ولم يُنْكَرْ عليهم ذلك، وإن خولفوا فيه فكما خولفوا في بعض أحكام البيع مثلًا، ومَنْ طالع أبواب الردة في كتب الفقهاء وجد من ذلك كثيرًا.
(1)
الحكاية في المستطرف 2/ 305، وهي من الحكايات الماجنة المكذوبة.
(2)
أي: عدم الإنكار على أحد، وقد مرَّ في مطلع هذا الفصل.
(3)
في باب الأعذار ص 935 - 941.
ولكنَّ كثيرًا من الذين يكفِّرون بَعْضَ المصلِّين في هذا الزمان ليس عندهم شبهة قويَّة يُعْذَرُون بها، ولا هم أهلٌ للاجتهاد والنظر. والله المستعان.
فإن قلت: فهل يتصور أن يُعْذَرَ الإنسان في الكفر كما قد يعذر في التكفير؟
قلت: أما من أقدم على الكفر مختارًا وهو يعلم أو يظن أنه كفر، أو كان عنده احتمال لكون ذلك كفرًا ولم يبحث ولم ينظر، أو بحث ونظر بغير تحقيق ولا إنصاف، بل كان غرضه من البحث نصرَ هواه والردَّ على مخالفيه، أو جاهلًا أنه كفر وهو مقصِّر بجهله= فإنه لا يُعْذَر.
وأما من أقدم مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان، أو جاهلًا غير مقصِّر، كمن نشأ في رأس جبل= فمعذور.
وأما مَنْ أقدم عليه يعتقد أنه ليس بكفر، وقد نظر وبحث باذلًا أقصى جهده في ذلك حريصًا على إصابة [108] الحق مخلصًا في هذا القصد، فأدَّاه اجتهاده إلى أن ذلك الأمر ليس بكفر بل هو حق؛ فإن كان مسلمًا ملتزمًا بالأصول الإسلامية العظمى، وإنما كان خلافه فيما دونها، فسيأتي الكلام عليه في الأعذار، إن شاء الله.
وإن كان خلافه في أصول الإسلام العظمى فقد نُقِلَ عن رجل أو رجلين من المتقدمين أن هذا معذور، وجمهور العلماء على أنه غير معذور، وزاد بعضهم فكفَّر من يقول إنه معذور
(1)
. وظهر لي أن مثل هذا الشخص لا يوجد؛ لأنه قد فُرِضَ مجاهدًا في سبيل الحق مخلصًا في جهاده، فيمتنع
(1)
مضى الكلام على هذا المبحث في الصفحات 171 - 172، 206 - 210.
ألا يُهْدى؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فثبت من هذا أن من كان على كفر ويزعم أنه أداه إليه اجتهاده فلم يكن اجتهاده صادقًا خالصًا لوجه الحق، فثبت أنه ليس بمعذور اتفاقًا.
والتكفير دون الكفر قطعًا، ولا سيما الشرك، فقد قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] ، وقد مرَّ في المقدمة ما يتعلق بهذا.
ويشتد الخطر على من فهم من دلالة الكتاب أو السنة في عمل من الأعمال أنه شرك، فعارضها بمجرد التقليد وغيره مما مرَّ. وكذلك من أمكنه تدبر الكتاب والسنة فلم يفعل واكتفى بالتقليد أو غيره. وكذا من لم تمكنه المراجعة ولكنّه قد علم أن من أهل العلم مَنْ يقول في عمل من الأعمال إنه شرك فلم يجتنبه؛ [109] فإن الاحتياط واجب كما تقدم. وفي الحديث الصحيح:«الحلال بيِّن والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه»
(1)
.
وشبهات الشرك أشدُّ من شبهات الحرام.
وفي حديثٍ آخر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 20 ح 52، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 5/ 50 ح 4178.
(2)
المسند 3/ 153.
وفي حديثٍ ثالثٍ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس»
(1)
.
وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد (أشهد أن لا إله إلا الله)، فعلى المسلم السعي في ذلك، وعليه أن يلتزم قبل تحقيق معناها الاحتياط، ولا يكفيه الاحتياط مع الإعراض عن الاجتهاد في تحقيق معناها. ولما كان معظم الاشتباه في معناها إنما جاء من الاشتباه في معنى الإلاهة والعبادة، فلنشرع في تحقيق معناهما، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يهديني والمسلمين لما اختلف فيه من الحق بإذنه ويحفظنا من الزيغ والزلل بفضله ومَنِّه، آمين.
* * * *
(1)
أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق، باب 19، 4/ 634 ح 2451، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الورع والتقوى 2/ 1409 ح 4215، وضعَّفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي.