المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالة أخرى في الشهادتين - الجواهر المضية لمجدد الدعوة النجدية

[محمد بن عبد الوهاب]

الفصل: ‌رسالة أخرى في الشهادتين

‌رسالة أخرى في الشهادتين

وبعثة محمّد – صلى الله عليه وسلم ودلائل رسالته

معنى كون أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة

قال -صب الله عليه من شآبيب بره ورحمته ووالى-:

هذه كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وقد غلط أهل زماننا فيها، وأثبتوا لفظها دون معانيها، وقد يأتون بأدلة على ذلك تلتبس على الجاهل المسكين، ومن ليس له معرفة في الدين، وذلك يُفْضِي إلى أعظم المهالك.

فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم" 1 الحديث. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته: من أحق بها يوم القيامة؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة" 3. وكذلك حديث عتبان بن مالك: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"4.

وهذه الأحاديث الصحيحة إذا رآها هذا الجاهل أو بعضها أو سمعها من غيره طابت نفسه، وقرتْ عينه، واستنقذه المساعد على ذلك، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك. فلو أنه دعا غير الله أو ذبح له، أو حلف به، أو نذر له: لم ير ذلك شركا، ولا محرما، ولا مكروها؛ فإذا أنكر عليه أحدٌ بعضَ ما ينافي التوحيد لله، والعمل بما أمر الله اشمأز ونفر وعارض بقوله: قال رسول الله، وقال رسول الله، وهذا لم يدر حقيقة الحال.

فلو كان الأمر كما قال؛ لما قال الصديق رضي الله عنه في أهل الردة: والله لو منعوني عناقا- أو قال عقالا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وما يصنع هذا الجاهل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم، فإنهم شر قتيل

1 البخاري: الجهاد والسير (2946)، ومسلم: الإيمان (21)، والترمذي: الإيمان (2606)، والنسائي: الجهاد (3090 ،3095) وتحريم الدم (3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978)، وأبو داود: الجهاد (2640)، وابن ماجه: الفتن (3927 ،3928) ، وأحمد (1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394) .

2 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .

3 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .

4 البخاري: الصلاة (425) والأطعمة (5401)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .

ص: 24

تحت أديم السماء "1؟

أفيظن هذا الجاهل أن الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وقال صلى الله عليه وسلم:"في هذه الأمة- ولم يقل منها- قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" 2 3.

وكذلك أهل حلقة الذكر؛ لما رآهم أبو موسى في المسجد في كل حلقة رجل يقول: سَبِّحُوا مائة، هَلِّلُوا مائة. الحديث؛ فلما أنكر عليهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما أردنا إلا الخير. قال: كم من مريد للخير لم يصبه4 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: "أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم" 5 أو قال: "تراقيهم"6. وأيم الله لا أدري أن يكون أكثرهم إلا منكم، قال عمرو بن سلمة: فما كان إلا قليل حتى رأوا أولئك يطاعنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النهروان مع الخوارج.

أفيظن هذا الجاهل المشرك أنهم يتركون ذلك؛ لكونهم يسبحون ويهللون ويكبرون؟ وكذلك المنافقون على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم؛ ويصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس ويحجون معه، قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 7.

أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا: لا إله إلا الله؟ وكذلك قاتل النفس بغير حق يقتل؛ أفيظن هذا الجاهل أنه لم يقل: لا إله إلا الله؟ وأنه لم يقلها خالصا من قلبه؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب:{أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} 8، حتى قال هؤلاء الجهلة ممن ينتسب

1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/81 ،1/131) .

2 البخاري: المناقب (3610)، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/33 ،3/60 ،3/65) .

3 فيه أن الخليفة الرابع رضي الله عنه قاتلهم ببغيهم، ولم يحكم بكفرهم، وكانوا متأولين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع.

4 أنكر ابن مسعود (رض) ذلك على قائله؛ لأنه بدعة كما بينه الشاطبي في الاعتصام وغيره.

5 البخاري: المناقب (3610)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: الزكاة (2578) وتحريم الدم (4101)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/4 ،3/33 ،3/60 ،3/68 ،3/73) .

6 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6934)، ومسلم: الزكاة (1068) .

7 -

سورة النساء آية: 145.

8 -

سورة الأعراف آية: 179.

ص: 25

إلى العلم والفقه: قبلتنا مَنْ أَمّها لا يكفر1.

فلا إله إلا الله: نَفْيُ وإثباتُ الإلهية كلها لله، فمن قصد شيئا من قبر أو شجر أو نجم أو ملك مقرب أو نبي مرسل؛ لجلب نفع وكشف ضر فقد اتخذه إلها من دون الله، فَكَذَّبَ بلا إله إلا الله؛ يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل.

الشرك بعبادة غير الله للتبرك

فإن قال هذا المشرك: لم أقصد إلا التبرك، وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر. فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردتَ، كما أخبر الله عنهم، أنهم لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا:{يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، فأجابهم بقوله:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2 الآيتين.

وحديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر إنها السنن3. قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، لتركبن سنن من كان قبلكم".

وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى} 4، وفي الصحيح عن ابن عباس وغيره أنه رجل صالح كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره. فيرجع هذا المشرك ويقول: هذا الشجر والحجر، وأنا أعتقد في أناس

1 يعني الشيخ رحمه الله أن هؤلاء الجهلة لم يفهموا قول أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، وأنهم يعنون به عدم التكفير بالذنب لا بالشرك، والكفر الذي لا يحتمل التأويل. والتأويل الذي يمنع تكفير الشخص المُعَيَّن: إنما يمنعه ما دام محتملا فإذا قامت عليه الحجة، وذهب احتمال التأويل ظهر أنه مُرتد ليس له عذر.

2 سورة الأعراف آية: 138.

3 الضمير هنا ضمير القصة والشأن، والسنن: سنن الله في الأمم، وهي قواعد الاجتماع والأحوال التي يستن فيها بعض الناس بما كان عليه غيرهم.

4 سورة النجم آية: 19.

ص: 26

صالحين أنبياء وأولياء، أريد منهم الشفاعة عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله، فقل له: هذا مذهب الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.

وقد ذكر أناسا يعبدون المسيح وعزيرا، فقال الله: هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون، ويخافون عذابي كما تخافون، وأنزل الله -سبحانه-:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3 الآيتين، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} 4 الآيتين.

والقرآن، بل والكتب السماوية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الشرك وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل عملهم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 6. وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 7. قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله.

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء لله وحده". وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر. فسئل عنه فقال: الرياء"8.

لم يتخلص من عبادة الأوثان إلا أتباع ملة إبراهيم عليه السلام

وبالجملة، فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلا الحنفاء: أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض من قبل قوم نوح، كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها وسدانتها وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبقت الأرض، قال إمام الحنفاء:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 9، كما قص الله ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين. وكفى في معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن

1 سورة الزمر آية: 3.

2 سورة يونس آية: 18.

3 سورة الإسراء آية: 56.

4 سورة سبأ آية: 40.

5 سورة النساء آية: 48.

6 سورة الفرقان آية: 23.

7 سورة البقرة آية: 22.

8 أحمد (5/428) .

9 سورة إبراهيم آية: 35.

ص: 27

بَعْثَ النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، قال الله تعالى:{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً} 1. وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2. وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 3.

دلائل نبوة نبينا عليه السلام

ولما أراد سبحانه إظهار توحيده، وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهورا، وفي توراة موسى وإنجيل عيسى مذكورا، إلى أن أخرج الله تلك الدرة، بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فَتْرَةٍ من الرسل، وهداه إلى أقوم السُّبُل، فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصرها.

فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت له بُصْرَى من أرض الشام"4. وولد صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلةَ مولده حتى سمع انشقاقه وسقط أربعة عشر شرفة5 وهو باق إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت بحيرة ساوة، وكانت بحيرة عظيمة في مملكة العراق عراق العجم وهمدان تسير فيها السفن، وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة، كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك حتى بني مكانها مدينة ساوة وهي باقية إلى اليوم، وأرسلت الشهب على الشياطين كما أخبر الله بقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} 6 الآية.

وأنبته الله نباتا حَسَنًا، وكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا حتى سماه قومه:"الأمين" لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية؛ ووصل بُصْرَى من أرض الشام مرتين فرآه بحيرا الراهب فعرفه، وأخبر

1 سورة الإسراء آية: 89.

2 سورة الأنعام آية: 116.

3 سورة يوسف آية: 103.

4 أحمد (4/127) .

5 كذا في الأصل: ولا بد أن يكون صوابه: أربع عشرة شرفة منه أو من شرفاته.

6 سورة الجن آية: 9.

ص: 28

عمه أنه رسول الله، ونصحه أن يرده، فرده مع بعض غلمانه، وقال لعمه: احتفظ به فلم نجد قدما أشبه بالقدم الذي بالمقام1 من قدمه. واستمرت كفالة أبي طالب له كما هو مشهور، وَبُغِّضَ إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك.

والدليل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقل والنقل: فأما النقل فواضح.

وأما العقل فنبه عليه القرآن: من ذلك: أن ترك الله خلقَه بلا أمر ولا نهي لا يناسب في حق الله، ونَبَّهَ عليه في قوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 2 ومنه أن قول الرجل: إني رسول الله؛ إما أن يكون خير الناس وإما أن يكون شرهم وأكذبهم.

والتمييز بين ذلك سهل يعرف بأمور كثيرة، ونبه على ذلك بقوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3 الآيات. ومنه شهادة الله بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 4. ومنها شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم كما في هذه الآية.

ومنها - وهي أعظم الآيات العقلية-: هذا القرآن الذي تحداهم بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية فنحن نعلمه من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم وفصحائهم، وتكريره هذا واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه، وإدخال الشبهة على الناس.

ومنها: تمام ما ذكرنا، وهو إخباره سبحانه- أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أُعْطُوا من الفصاحة والكمال والعلوم.

ومنها: نصرُهُ مَنْ اتَّبَعَهُ، ولو كانوا أضعف الناس.

ومنها: خذلان من عاداه وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم.

ومنها: أنه رجل أمي لا يخط ولا يقرأ الخط، ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى

1 مقام إبراهيم، يعني أنه صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بإبراهيم.

2 سورة الأنعام آية: 91.

3 سورة الشعراء آية: 221.

4 سورة الرعد آية: 43.

ص: 29

ذلك أحد من أعدائه مع كثرة كذبهم وبهتانهم، ومع هذا أتى بالعلم الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1.

الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك

وقال -رحمه الله تعالى-: ولما بلغ أربعين سنة، بعثه الله بشيرا ونذيرا {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2 ولما أتى قومه بلا إله إلا الله قالت قريش:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} 3. قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة وزيد بن مروان وغيرهم قالوا: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مُسْتَخْفِيًا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين يوافي الموسم كل عام فيقول: "أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة" 4. وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئٌ كذابٌ، فيردون عليه أقبح الرد.

ولما أمره الله بالهجرة، هاجر وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين؛ ولم يميز بين مَن اعتقد في نبي ولا ولي ولا شجر ولا حجر، وما زال يعلم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال، وبان للناس من التوحيد ساطعُ الجمالِ.

وعن أنس قال: قال أناس: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس أنا محمدٌ عبدُ الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله عز وجل"5.

وعن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنت سيدنا. فقال: "السيد الله"6. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النصارى المسيحَ ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله ورسوله" 7. وما زال صلى الله عليه وسلم مُعَلِّمًا لأصحابه هذا التوحيد، َومُحَذِّرًا من الشرك، حتى أتاهم مرة وهم يتذاكرون الدجال فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف

1 سورة العنكبوت آية: 48.

2 سورة الأحزاب آية: 46.

3 سورة ص آية: 5.

4 أحمد (3/492) .

5 أحمد (3/249) .

6 أبو داود: الأدب (4806) .

7 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .

ص: 30

ما أخاف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لِمَا يَرَى مِن نظر رجل) ، وحتى قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلِفَ له بالله فَلْيَرْضَ، ومن لم يرض فليس من الله في شيء" 1 وحتى قال:"لا يقول أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان" 2 وحتى قال: "لا تقولوا: لولا الله وفلان" وحتى قال: "لا يقول: أحدكم عبدي وأمتي" 3 وحتى قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر"4.

وحذرهم من الشرك بالله في الأقوال والأعمال، حتى قال:"إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور، ومن تركه كان على الردى" 5، وحتى قال:"خير الحديث: كتاب الله، وخير الهدي هَدْيُ محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 6 وحتى أنه لم يترك النهي عند الموت والتحذير لنا من هذا الشرك حتى قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضبُ الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"7. وحتى قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" الحديث. وحتى حذرهم عن الكفر بنعمة الله، قيل: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته من آبائي، وقال بعضهم: هو كقوله: الريح طيبة والملاح حاذق، ونحو ذلك.

الصلاة والزكاة من حق الإسلام يقاتل تاركهما

ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين الأحاديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" 8، وكذلك حديث ابن عمر في الصحيحين:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"9. وقال: "إن الصلاة من حقها، والزكاة من حقها"، كما قال الصِّدِّيق لعمر، ووافقه عمر وسائرهم على ذلك. ويكون ذلك أنه قال: قد شرع في العصمة وإلا بطل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الحديثين في وقت ليعلم المسلمون أن الكافر إذا قالها جَبَّ الكفر عنه، ثم صار القتال مجردا إلى الشهادتين؛

1 ابن ماجه: الكفارات (2101) .

2 أبو داود: الأدب (4980) ، وأحمد (5/384 ،5/398) .

3 البخاري: العتق (2552)، ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249)، وأبو داود: الأدب (4975) ، وأحمد (2/316 ،2/423 ،2/463 ،2/484 ،2/491 ،2/508) .

4 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/76 ،2/125) .

5 مسلم: فضائل الصحابة (2408) .

6 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه: المقدمة (45) ، وأحمد (3/371)، والدارمي: المقدمة (206) .

7 مالك: النداء للصلاة (416) .

8 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

9 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

ص: 31

ليعلم أن تمام العصمة يحصل بذلك لئلا يقع شبهة؛ وأما مجرد الإقرار فلا يعصمهم على الدوام1 كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها الصديق رضي الله عنه ووافقوه.

وقال ابن القيم في شرح المنازل2: شهادة أن لا إله إلا الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. هذا هو التوحيد الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه حقنت الدماء والأموال، وانفصلت دار الإيمان من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة، وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال بعد أن يسلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب، وهذا توحيد العامة، الذي يصح بالشواهد، وهي إرسال الرسل الصنائع3، ويجب بالسمع، ويوجد بِتَبْصِيرِ الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد4. والحمد لله رب العالمين.

1. الإقرار بالشهادتين هو المدخل في الإسلام، والعنوان على ترك الكفر السابق، فهما كافيتان في العصمة من القتل في أثناء القتال؛ وأما الاعتداد بإسلام قائليها بعد ذلك: فلا بد فيه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) وقال بعدها: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) .

2 هذه العبارة التي نقلها هنا هي عبارة كتاب المنازل لا شارحه ابن القيم.

3 عبارة المنازل: وهي "أي الشواهد" الرسالة والصنائع. قال ابن القيم: ومقصوده أن الشواهد نوعان آيات متلوة وهي الرسالة، وآيات مرئية وهي الصنائع.

4 هذه آخر عبارة المنازل.

ص: 32