الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك سفك الدم إن ذُبِحَتْ لله توحيد، وإن ذبحت لغيره صار شركا، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 1 والنسك: سفك الدم 2.
كذلك التوكل من أنواع العبادة، إن توكلت على الله صار توحيدا، وإن توكلت على صاحب القبة صار شركا. قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3.
وأكبر من ذلك كله: الدعاء، تفهمون أنه يُذْكَرُ 4 أن الدعاء مخ العبادة؟ قالوا: نعم، قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5 أنتم تفهمون أن هنا من يدعو الله ويدعو الزبير، ويدعو الله ويدعو عبد القادر، الذي يدعو الله وحده مخلصٌ، وإن دعا غيره صار مشركا. فهمتم هذا؟ قالوا: فهمنا.
قال الشيخ: هذا إن فهمتموه: فهذا الذي بيننا وبين الناس، فإن قالوا: هؤلاء يعبدون أصناما يدعونهم يريدون منهم، ونحن عبيد مذنبون وهم صالحون ونبغي بجاههم، فقل لهم: عيسى نبي الله عليه السلام وأمه صالحة، والعزير صالح، والملائكة كذلك، والذين يدعونهم أخبر الله عنهم أنهم ما أرادوا منهم ما أرادوا بجاههم إلا قربة وشفاعة، واقرأ عليه الآيات في الملائكة في قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ} 6 الآية، وفي الأنبياء قوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 7 الآية، وفي الصالحين:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 8 الآية، ولم يفرق بينهم النبي صلى الله عليه وسلم.
1 سورة الأنعام آية: 162.
2 أي: لأجل القربة كالأضحية، وفدية الإحرام، ومثلها النذر لله وحده.
3 سورة هود آية: 123.
4 أي يذكر في الحديث عن النبي (ص) .
5 سورة الجن آية: 18.
6 سورة سبأ آية: 40.
7 سورة النساء آية: 171.
8 سورة الإسراء آية: 56.
رسالة أخرى في كلمة التوحيد
كلمة التوحيد الفارِقة بين الكفر والإسلام
وله أيضا -رحمه الله تعالى-:
اعلم -أرشدك الله- أن الله خلقك لعبادته، وأوجب عليك طاعته، ومن أفرض عبادته عليك: معرفة لا إله إلا الله علما وقولا وعملا، والجامع لذلك قوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} 1. وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2.
فاعلم أن وصية الله لعباده: هي كلمة التوحيد الفارِقة بين الكفر والإسلام، فعند ذلك افترق الناس سواء جهلا أو بغيا أو عنادا. والجامع لذلك: اجتماع الأمة على وفق قول الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 3، وقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 4 الآية.
فالواجب على كل أحد إذا عرف التوحيد، وأقر به أن يحبه بقلبه، وبنصره بيده ولسانه، وينصر من نصره ووالاه وإذا عرف الشرك وأقر به أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه، ويخذل من نصره ووالاه باليد واللسان والقلب هذه حقيقة الأمرين، فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 5. فنقول: لا خلاف بين الأمة أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم، واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، فإنْ أخَلَّ بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلما، فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس، وإن عمل بالتوحيد ظاهرا، وهو لا يعتقده باطنا فهو منافق خالص، وهو شر من الكافر، والله أعلم.
توحيد الألوهية هو الفارق بين الكافر والمسلم
قال رحمه الله: وهو نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية: أما توحيد الربوبية فيقر به الكافر والمسلم، وأما توحيد الألوهية فهو الفارق بين الكفر والإسلام. فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا وهذا، ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله الخالق الرازق المدبر، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 6 الآية.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
1 سورة آل عمران آية: 103.
2 سورة الشورى آية: 13.
3 سورة الشورى آية: 13.
4 سورة يوسف آية: 108.
5 سورة آل عمران آية: 103.
6 سورة يونس آية: 31.
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1 الآية.
فإذا ثبت لك أن الكفار يقرون بذلك عرفت أن قولك، لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، لا يُصَيِّرُكُ مسلمًا حتى تقول: لا إله إلا الله مع العمل بمعناها. فهذه الأسماء كُلٌّ منها له معنًى يخصه.
أما قولك: الخالق؛ فمعناه الذي أوجد جميع مخلوقاته بعد عدمها. وأما قولك: الرازق؛ فمعناه أنه لما أوجد الخلق أجرى عليهم أرزاقهم. وأما المدبر: فهو الذي تنْزل الملائكة من السماء إلى الأرض بتدبيره، وتصعد إلى السماء بتدبيره، ويسير السحاب بتدبيره، وتصرف الرياح بتدبيره، وكذا جميع خلقه، هو الذي يدبرهم على ما يريد. فهذه الأسماء تتعلق بتوحيد الربوبية الذي يقر به الكفار.
وأما توحيد الألوهية فهو قولك: لا إله إلا الله، وتعرف معناها كما عرفت معنى الأسماء المتعلقة بالربوبية، فقولك: لا إله إلا الله نَفْيٌ وإثباتٌ: فتنفي الألوهية كلها عن غير الله، وتثبتها لله وحده، فمعنى الإله في زماننا: الشيخ والسيد الذي يقال فيهم سر ممن يعتقد فيهم أنهم يجلبون منفعة أو يدفعون مضرة.
فمن اعتقد في هؤلاء أو غيرهم؛ نبيا كان أو غيره هذا الاعتقاد فقد اتخذه إلها من دون الله، فإن بني إسرائيل لما اعتقدوا في عيسى ابن مريم وأمه سَمَّاهم لله إلهين، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} 2.
ففي هذا دليل على أن مَن اعتقد في مخلوق جَلْبَ منفعةٍ أو دفعَ مضرةٍ فقد اتخذه إلها، فإذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذه حاله فما دونهم أولى.
1 سورة العنكبوت آية: 61.
2 سورة المائدة آية: 116.
وأيضا فإن من تبرك بحجر أو شجر، أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بهم، فقد اتخذهم آلهة1.
والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، يريدون بذلك التبرك، قال:"الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} "2.
فوصف قول الصحابة في ذات أنواط بقول بني إسرائيل وسماه إلها3.
ففي هذا دليلٌ على أن مَن فعل مِن ذلك شيئا مما ذكرناه: فقد اتخذه إلها.
الإله الذي لا تصلح العبادة إلا له هو الله وحده
والإله هو: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله وحده، فمن نذر لغير الله أو ذبح له فقد عبده، وكذلك من دعا غير الله، قال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وفي الحديث:
1 كذا في الأصل بضمير العقلاء. ويعني بالتبرك المنافي للتوحيد: ما فشا في العوام من اعتقاد أن هذه الأشياء المُتَبَرَك بها تنفع فتشفي من المرض وبرد البلاء وغير ذلك، بخلاف التبرك المَرْوِي عن بعض الصحابة بآثار النبي – صلى الله عليه وسلم وبدم حجامته ونخامته، وتبرك الشافعي بقميص الإمام أحمد الذي روي بالسند كما في طبقات السبكي، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن هذه الرواية غيرُ ثابتة، وعلى تقدير ثبوتها يراد بها وبأمثالها ذكرى الحب كالمعهود من عشاق الحسان.
2 سورة الأعراف آية: 138: 140.
3 إن الذين قالوا للنبي (ص) ما ذُكِرَ كانوا حديثي عهد بالشرك، فظنوا أن ما يجعله لهم النبي – صلى الله عليه وسلم من ذلك يكون مشروعا لا ينافي الإسلام. وأما بنو إسرائيل الذين طلبوا من موسى جعل الآلهة لهم فكانوا جاهلين بحقيقة التوحيد بما تَرَبَوْا عليه من شرك الفراعنة كما تقدم في حاشية سابقة.
4 سورة يونس آية: 106.
"إن الدعاء مخ العبادة" 1، وكذلك من جعل بينه وبين الله واسطةٌ، وزعم أنها تقربه إلى الله فقد عبده.
وقد ذكر الله ذلك عن الكفار؛ فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. وكذلك ذَكَرَ عن الذين جعلوا الملائكة وسائط فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 4.
فذكر سبحانه أن الملائكة نَزَّهُوهُ عن ذلك، وأنهم تبرؤوا من هؤلاء، وأن عبادتهم كانت للشياطين الذين يأمرونهم بذلك. وذكر سبحانه عن الذين جعلوا الصالحين وسائط، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 5. وذكر سبحانه أنهم لا يملكون كشف الضر عن أحد ولا عن أنفسهم، وأنهم لا يُحَوِّلُونَهُ عن أحد، وأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه.
فهذا يثبت لك معنى لا إله إلا الله؛ فإذا عرفت حال المعتقدين في عيسى بن مريم والمعتقدين في الملائكة، والمعتقدين في الصالحين، وحالهم معهم أنهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فضلا عن غيرهم عرفتَ أن مَن اعتقد فيمن دونهم فهو أضل سبيلا، فحينئذ يثبت لك معنى لا إله إلا الله، والله أعلم.
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الزمر آية: 3.
4 سورة سبأ آية:40: 41.
5 سورة الإسراء آية:56، 66.