المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأقرب شبها بالطلاق المجموع: الهبة التي يجوز الرجوع فيها - الحكم المشروع في الطلاق المجموع - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الأقرب شبها بالطلاق المجموع: الهبة التي يجوز الرجوع فيها

قاس الفقهاء من الشافعية وغيرهم الرجعة على النكاح في مواضع، وإن اضطربت فروعهم فيها: هل هي كابتداء النكاح أو كدوامه؟

والصواب أنها كابتداء النكاح وإن خالفته في بعض الأحكام، والاحتجاج لهذا يطول.

و‌

‌الأقرب شبهًا بالطلاق المجموع: الهبة التي يجوز الرجوع فيها

، كالهبة للفرع عند الشافعية، وللأجنبي عند الحنفية، والبيع مع خيار المجلس، إذا قال قائل: لله عليَّ إذا وهبتُ لابني هذا الثوب الذي عليه، ثم رجعت ثم وهبت، ثم رجعت ثم وهبت، أن لا أرجع في المرة الثالثة.

ولله عليَّ إذا بعتُ منك هذه الدار، ثم فسخت في المجلس ثم بعت، ثم فسخت ثم بعت، أن لا أفسخ في المرة الثالثة.

ثم قال بعد ذلك لولده: وهبتُك هذا الثوب الذي عليك ثلاثًا، وقال للآخر: بعتك هذه الدار ثلاثًا، فهل ينزل قوله:"ثلاثًا" منزلة قوله: وهبتُ رجعتُ، وهبتُ رجعتُ، وهبتُ، وبعتُ فسختُ، بعتُ فسختُ، بعتُ؟

هذا في غاية البعد.

وقد اختلف أصحاب الشافعي في بيع الواهب السلعة الموهوبة، هل يكون رجوعًا عن الهبة؟

فإن قيل: نعم. فهل يصح البيع مع ذلك؟

والراجح عندهم أنه ليس برجوع.

واختلفوا في البائع في مدة الخيار إذا وهب المبيع، هل يكون ذلك فسخًا؟ وإذا كان فسخًا فهل تصح الهبة؟

ص: 634

والراجح عندهم هنا أنه فسخٌ.

وهذا أقرب جدًّا من قوله: وهبت ثلاثًا، أو بعت ثلاثًا.

وفوق ذلك، فالأمر في الفروج أضيق منه في الأموال، والرجعة لا تكون إلا بنية، والقائل: طلقتك ثلاثًا لا التفات له إلى الرجعة.

ثم غاية ما يدعى: أن يكون قوله: "طلقتك ثلاثًا" بمنزلة قوله: "طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك، طلقتك".

وهذا من التلاعب بالأحكام، واتخاذ آيات الله هزوًا، وليس هذه الرجعة التي شرع الله تعالى بقوله:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} .

ويُغنِي عن هذا كله ورودُ النص بأن الثلاث واحدة. والله أعلم.

[ص 17] قال الشافعي

(1)

: "فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟

قيل: نعم جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجتُ عبد الرحمن بن الزَّبِير، وإنما معه مثل هُدبةِ الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".

قال الشافعي: فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بتَّ طلاقها في مرات؟

(1)

"الأم"(10/ 259، 260).

ص: 635

قلت: ظاهره في مرة واحدة

وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن زوجها بتَّ طلاقها، تعني ــ والله أعلم ــ أنه طلَّقها ثلاثًا، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"ليس لك عليه نفقة" لأنه ــ والله أعلم ــ لا رجعة له عليها".

أقول: حديث امرأة رفاعة في صحيح البخاري

(1)

، وحديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم

(2)

، وأشار إليه البخاري

(3)

.

والجواب عن الحديثين: أن كليهما قد جاء مفسرًا في رواية أخرى بما يزيل الشبهة.

ففي صحيح البخاري في حديث امرأة رفاعة: "

فقالت: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات". (صحيح البخاري ج 8/ ص 23، ومثله في صحيح مسلم ج 4 / ص 154)

(4)

.

وفي حديث فاطمة بنت قيس في رواية عند مسلم

(5)

: "

أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات". وفي رواية أخرى

(6)

: "أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة

(1)

رقم (5260).

(2)

رقم (1480).

(3)

انظر "الصحيح" مع "الفتح"(9/ 477) وكلام الحافظ عليه.

(4)

البخاري (6084) ومسلم (1433/ 113).

(5)

مسلم (1480/ 40).

(6)

مسلم (1480/ 41).

ص: 636

بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها". (صحيح مسلم ج 4/ ص 196 ــ 197).

قال

(1)

رحمه الله تعالى: "فإن قيل: أطلَّق أحدٌ ثلاثًا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

قيل: نعم، عويمر العجلاني، طلَّق امرأته ثلاثًا، قبل أن يخبرهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها تحرم عليه باللعان، فلم أعلم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نهاه .. ولم أعلمه عاب طلاق ثلاثٍ معًا".

أقول: حديث لعان عويمر قد رواه نفرٌ من الصحابة، ولم يذكر الطلاق إلا في رواية سهل بن سعد، رواها الزهري عنه.

ثم اختلف على الزهري:

فروي عنه كما ذكره الشافعي، رواه مالك وابن جريج وغيرهما

(2)

.

وروي عنه بلفظ "فطلقها" فقط، رواه الأوزاعي كما في "صحيح البخاري" في تفسير سورة النور

(3)

، وعبد العزيز بن أبي سلمة عند أحمد (مسند ج 5/ ص 337)

(4)

.

وروي عنه بلفظ "ففارقها" فقط، رواه جماعة منهم: فليح عند البخاري في تفسير سورة النور

(5)

، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد عند

(1)

أي الشافعي في "الأم"(10/ 260).

(2)

رواية مالك عند البخاري (5308) ورواية ابن جريج عنده (5309).

(3)

البخاري (4745).

(4)

"مسند أحمد"(22856).

(5)

البخاري (4746).

ص: 637

النسائي

(1)

، وعقيل عند أحمد (مسند ج 5/ ص 337)

(2)

، وابن أبي ذئب عند البخاري في الاعتصام (صحيح البخاري ج 9/ ص 98)

(3)

.

وروي عنه بلفظ: "قال: يا رسول الله! ظلمتُها إن أمسكتها، فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق". رواه ابن إسحاق، هكذا ذكره الحافظ في "الفتح"

(4)

نقلًا عن "مسند أحمد"، والذي في نسخة المسند المطبوعة بلفظ:"وهي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق"(المسند ج 5/ ص 334)

(5)

.

ثم قال الحافظ: "وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة"(فتح الباري ج 9/ ص 365)

(6)

.

أقول: لم يذكر الزهري صفة الطلاق إلا في هذه الرواية، وابن إسحاق أعلم بالله من أن يسمع من ابن شهاب قوله:"فطلقها ثلاثًا" فيرى هذا المعنى مخالفًا لرأيه، فيعمد إلى إبداله بما يوافق مذهبه على أنه من لفظ الملاعن، وهذا تبديلٌ وتحريفٌ، لا رواية بالمعنى. وليس اتهامه بذلك بأقوى من احتمال أن يكون الزهري كان ربما زاد لفظ "ثلاثًا" لما فهمه من أن الطلاق كان باتًّا، بسبب

(1)

النسائي (6/ 171).

(2)

"المسند"(22853).

(3)

البخاري (7304).

(4)

"فتح الباري"(9/ 451).

(5)

"المسند"(22831) بحذف واوات العطف.

(6)

"فتح الباري"(9/ 451).

ص: 638

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرق بينهما الفرقة الباتة، وظن أن سبب التفرقة تلك هو الطلاق، وإن صارت السنة بعد ذلك الفرقة المؤبدة، ولو بلا لفظ طلاق.

وفي الصحيحين

(1)

بعد ذكر الطلاق، قال ابن شهاب ــ وهو الزهري ــ:"فكانت سنة المتلاعنين"، وفي رواية

(2)

: "وكان ذلك تفريقًا بين كل متلاعنين".

على أن قوله: "فطلقها ثلاثًا" محتملٌ احتمالًا قريبًا أن يكون معناه: كرَّر الطلاقَ ثلاثًا، فيكون طلَّق تطليقة، ولكن أكّد تأكيدًا لفظيًا.

ويؤيد هذا اقتصار ابن شهاب تارةً على "طلَّقها"، وتارةً على "فارقها".

وعلى هذا، فرواية ابن إسحاق إنما كانت تفيد طلقة واحدة، إلا أنه أكّد اللفظ، فأعاده ثلاثًا، كما فهمه ابن حجر، فهي مفسِّرة للروايات الأخرى، لا مخالفة.

[ص 18] وفوق هذا كله، فلو ثبت أن عويمرًا قال:" طلقتها ثلاثًا" أو نحو هذا اللفظ، وأقره عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك لا يدل على إمكان وقوع الثلاث معًا، لاحتمال أن يكون لم يقصد إيقاع الثلاث، وإنما قصد إظهار أنه لا يريد أن يراجعها، فكأنه يقول: لو استطعتُ أن أوقع الثلاث معًا لأوقعتُها، كما يُعقَل أن يقول رجلٌ لزوجته: إن شئتِ فطلِّقي نفسك طلقة واحدة، فتقول: طلقتُ نفسي ثلاثًا، وهي تعلم أنه ليس لها إلا واحدة، وإنما قالت ذلك

(1)

البخاري (5308) ومسلم (1492).

(2)

البخاري (5309) ومسلم (1492/ 3).

ص: 639

إظهارًا لشدة رغبتها في أن تبين منه.

وإذ قد ثبت أن الطلاق في عهده صلى الله عليه وآله وسلم على ما قدمنا من أنه طلاق تحل بعده الرجعة، فإن رجع فله طلاق آخر تحل بعده الرجعة، فإن راجع فله طلاق ثالث لا رجعة بعده، فالظاهر أن عويمرًا كان يعلم ذلك، وعلمه بذلك قرينة على أنه إنما أراد ما ذكرناه، وحاله كحال المرأة التي ملَّكها زوجها طلقةً واحدةً، وهي عارفة بالحكم كما قدمنا.

فإن قيل: فإن كان الظاهر أن من قال في عهده صلى الله عليه وآله وسلم: "هي طالق ثلاثًا" أو نحو ذلك، إنما يظهر منه أنه قصد إظهار العزم على عدم المراجعة، فلماذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جمع الثلاث؟

قلت: إن صح النهي فسببه مخالفة هذا العزم لمقصود الشارع من الترغيب في المراجعة، وأنه إنما جعل له الرجعة بعد الطلاق الأول والطلاق الثاني، لعله يبدو له فيندم، فالذي يظهر العزم على عدم المراجعة ويؤكده، كأنه يؤكد عزمه على أن لا يفعل الخير، ولا يقبل من الله تعالى رخصته إذا احتاج إليها، وهذا مذمومٌ.

ويقرب منه قول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 223].

قال أهل التفسير: معناها: لا تحلفوا بالله على أن لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، ومراجعة الزوجة داخلة في الإصلاح، وقد تكون برًّا وتقوى.

ص: 640

وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} الآية [النور: 22].

وكما نهاهم عن اليمين مع أنه شرع لهم أن يتخلصوا منها بالكفارة، وإتيان ما هو خير، فكذلك يجوز أن يكون نهاهم عن تأكيد العزم على عدم المراجعة مع تمكنهم من أن يراجعوا بعد ذلك العزم المؤكد.

* * * *

ص: 641