الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 1]
الباب الأول
(1)
في الطلاق المأذون فيه
اختلف أهل العلم في الطلاق المأذون فيه على مذاهب، بعد اتفاقهم على تحريم إيقاع الطلاق في حيض أو في طهر قاربها فيه.
المذهب الأول: أن الطلاق إلى الزوج، فإن شاء طلَّق واحدة، وإن شاء جمع اثنتين، وإن شاء جمع ثلاثًا، وإن شاء طلَّق واحدة، ثم أتبعها واحدةً أو اثنتين في العدة، أو طلَّق اثنتين ثم أتبعها واحدة في العدة، كل ذلك جائزٌ له، وهذا قول الشافعي.
المذهب الثاني: أن الذي يحل له أن يوقع طلقةً واحدةً، ثم ينتظر الطهر الثاني، فيطلق أخرى إن أحب، ثم ينتظر الثالث فيطلق الثالثة إن شاء، وهذا قول أبي حنيفة وأهل الكوفة.
المذهب الثالث: أن الذي يحل له أن يطلق واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وهذا قول مالك والليث والأوزاعي وأحمد وغيرهم.
الاحتجاج للمذهب الأول:
قال الإمام الشافعي
(2)
رحمه الله تعالى: "قال الله عز وجل: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية، وقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
(1)
قبله في الأصل: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحكم المشروع في الطلاق المجموع". ويبدأ من هنا ترقيم جديد للصفحات.
(2)
"الأم"(6/ 457).
تَمَسُّوهُنَّ}، وقال:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية، وقال:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} ، وقال:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فالطلاق مباحٌ، إلا أنه ينهى عنه لغير قُبُلِ العدة .. أختارُ للزوج أن لا يطلق إلا واحدةً؛ ليكون له الرجعة في المدخول بها، ويكون خاطبًا في غير المدخول بها .. ولا يحرم عليه أن يطلق اثنتين ولا ثلاثًا، لأن الله تبارك وتعالى أباح الطلاق، وما أباح فليس بمحظور على أهله". (الأم ج 5/ 162).
وقال
(1)
: "وحكم الله في الطلاق أنه مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني ــ والله أعلم ــ الثلاث، فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره". (كتاب اختلاف الحديث هامش الأم ج 7/ ص 313).
[ص 2] جواب أهل المذهب الثاني:
أما قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فـ (طلقوا) صيغة أمرٍ، ولا تدل على التكرار، وتتحقق بمرة واحدة، فأين دلالتها على الجمع؟
ويُبيِّن أن المراد بها طلقة واحدة قوله تعالى في أثناء الآية: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .
والإمساك هنا الرجعة، فدل هذا أن الآية واردة في أول طلاق يطلقه
(1)
"الأم"(10/ 258).
الرجل، وذكر بعده الرجعة، فعلم أنه لا يكون ثلاثًا، وكذلك لا يكون اثنتين لما ذكرنا من عدم دلالة الصيغة على التكرار، ولأنا لا نعلم قائلًا يقول: يجوز جمع طلقتين، لا ثلاث.
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، فليس فيها دلالة على الجمع، وهي مع ذلك مسوقة لبيان عدم وجوب العدة، لا لسنة الطلاق.
وفوق ذلك، فالله عز وجل إنما أباح الطلاق ليتخلص كل منهما من الآخر، والتخلص في غير المدخول بها يحصل بواحدة، فجمع طلقتين أو ثلاث من اتخاذ آيات الله هزوًا، ومن تضييق الرجل على نفسه أن لا تحل له بعقد جديد إذا جمع ثلاثًا، أو تحل له على طلقة واحدة، وهذا إضرار بنفسه وبالمرأة أيضًا، لا تقابله منفعة ما، فأنى يجوز؟
وإنما أجزنا في المدخول بها أن يتبعها طلقة ثانية عن الطهر الثاني، وثالثة عن الثالث، لأنه قد يحتاج إلى إبانتها لئلا يموت قبل انقضاء العدة فترثه إذا كانت رجعية، ولا ترث إذا كانت مبتوتة عند بعض أهل العلم، ولإسقاط نفقتها أو سكناها أو كليهما عند من يقول من أهل العلم: إن المبتوتة لا نفقة لها، أو لا نفقة ولا سكنى، ولتعجل نكاح أختها مثلًا، أو رابعة عند من يقول بحل ذلك في العدة إذا كانت مبتوتة.
وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فلا دلالة فيها على الجمع، وإنما سِيقَت للأمر بالوفاء بالصداق.
وأما الآية الرابعة فهي الحجة الواضحة عليكم، قال الجصاص:"وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع"(أحكام القرآن ج 1/ ص 378).
بل في الطلاق نفسه لو قيل: قد طلَّق فلان زوجته مرتين، لفُهِم منه أنه طلَّقها ثم بعد مدة طلَّقها.
ثم ذكر الله عز وجل الثالثة بعدُ إما بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وإما بقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} الآية.
وأما قولكم: " {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي ــ والله أعلم ــ: ثلاثًا" فخطأٌ يخالفه ظاهرُ السياق، وما فهمه المفسرون من السلف، فإنهم اختلفوا على قولين:
الأول: أن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي الثالثة، وقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} بناءٌ عليها، كأنه قال: فإن وقع التسريح المذكور.
الثاني: أن التسريح هنا معناه عدم المراجعة، وقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} هي الثالثة.
وأما ما ذكره ابن جرير
(1)
عن ابن عباس قال: "يقول: إن طلَّقها ثلاثًا لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره"(تفسير ابن جرير ج 2/ ص 270)، فسنده ضعيف، وهو مع ذلك محمول على أن المراد منه ثلاثًا متفرقات هذه آخرها، جمعًا بينه وبين الروايات الثابتة عن ابن عباس.
(1)
"تفسيره"(4/ 166). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 422) والبيهقي (7/ 376).
اعتراض أهل المذهب الثالث:
قالوا لأهل المذهب الثاني: أما ردكم على المذهب الأول تجويزَهم الجمعَ فقد وُفِّقتم فيه، ولكنكم أخطأتم في تجويزكم أن يُتْبِعها طلقة ثانية، ثم طلقة ثالثة، وهي في عدتها من الأولى.
والآية الأولى حجة عليكم
(1)
، [ملحق ص 3] فإن قوله:{لِعِدَّتِهِنَّ} معناه: عند شروع عدتهن. قال الحافظ ابن حجر
(2)
: "أي عند ابتداء شروعهن في العدة، واللام للتوقيت كما يقال: لقيتُه لليلةٍ بقيتْ من الشهر، قال مجاهد: قال ابن عباس: "في قُبُلِ عدتهن"، أخرجه الطبري
(3)
بسند صحيح، ومن وجه آخر
(4)
أنه قرأها كذلك، وكذا وقع في صحيح مسلم
(5)
من رواية أبي الزبير عن ابن عمر: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن} . ونقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيّ وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم". (فتح الباري ج 9/ ص 276).
قالوا: وفي كتب اللغة: "والقُبُل من الزمن أوله".
قالوا: فهذا إنما يصدق على الطلقة الأولى، فأما الطلقة الثانية والثالثة
(1)
هنا كتب المؤلف في الهامش: "الصفحة الثالثة بعد" وفيها الكلام الذي يلحق هنا.
(2)
"فتح الباري"(9/ 346).
(3)
"تفسيره"(23/ 25). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (5/ 2) والنسائي في "الكبرى"(5586).
(4)
"تفسير الطبري"(23/ 24).
(5)
رقم (1471/ 14).
على قولكم فإن إحداهما تقع بعد مضي ثلث العدة، والأخرى بعد مضي ثلثيها، فليستا في قُبُل العدة، فالآية تنفي قولكم بتاتًا، وتثبت قولنا، والحمد لله.
وأما ما اعتذر به بعضكم بأن هذه اللام كاللام في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قال: مع أن وقت الظهر لا يتعين عند دلوك الشمس، بل يمتد إلى صيرورة ظل الشيء مثله أو مثليه على الخلاف في ذلك، فعذر باطلٌ؛ لأن في هذه الآية ما يدل على الامتداد، وهو قوله:{إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فدل على امتداد الوقت، ثم بينت السنة حد امتداد الظهر وحد امتداد العصر، ومع صرف النظر عن هذا فلنا أن نقول: لما دلت السنة على امتداد وقت الظهر علمنا أن الآية نصَّت على وقت الفضيلة، وهو أول الوقت، كما نصت عليه السنة.
وقال ابن طاوس: "إذا أردتَ الطلاق فطلِّقها حين تطهر قبل أن تمسها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها حتى تخلو ثلاثة قروء، فإن واحدة تُبِينها"(تفسير ابن جرير ج 28/ ص 77)
(1)
.
فأما من قال من المفسرين كقولكم، فكأنه تأول العدة بالقرء؛ لأن به تكون العدة، فقال: يطلق ثلاثًا عند كل قرء، فمعنى الآية على هذا: فطلقوهن في قُبُل كل قرءٍ من أقراءِ العدة الثلاثة.
وهذا خلاف الظاهر بلا حجة، بل هو تعسفٌ واضحٌ.
(1)
(23/ 27)(ط. التركي). ونحوه عن أبيه طاوس في "مصنف عبد الرزاق"(6/ 302).
فإن قلتم: قد قدمنا أن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أن هذا في الطلقة الأولى، فعلى هذا لم تبين الآية حكم الثانية والثالثة، فقسناها على الأولى فيما يمكن، وهو أن تكون في الطهر الثاني وفي الثالث.
قلنا: فإن الآية نفسها تنفي أن يكون في العدة طلاق غير هذه الطلقة الأولى، فإنه [ص 3] لم يذكر فيها بعد الطلقة الأولى إلا قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، فالإمساك هنا المراجعة، والفراق عدمها، كما ذكره ابن جرير ونقله عمن تقدم، ولم يذكر غيره.
والآية وما بعدها مسوقة لتعليم سنة الطلاق اتفاقًا، وقد بينت أنه لا ينبغي أن يكون بين الطلقة الأولى وبين انقضاء العدة إلا مراجعة أو عدم مراجعة.
ومن ادعى أن الفراق هنا بمعنى الطلاق، فدعواه مردودة، فإن الفراق لا يعطي ذلك لغةً ولا شرعًا، وإن كان قد يستعمل فيه، فإن استعماله في الطلاق بخصوصه مجازٌ، ولا قرينة هنا على هذا المجاز، بل القرينة تفيد خلافه، وهي أنه جعله مقابلًا للرجعة، والظاهر في مقابل المعنى الوجودي هو عدمه، فثبت ما قلنا.
ويزيده وضوحًا أن قوله: {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ظاهر هذا اللفظ في الأصل "انقضت عدتهن" ــ كما لا يخفى ــ ولكنه استعمل ههنا في معنى قاربن بلوغ الأجل، واستعمال البلوغ في مقاربته تقتضي مقاربة شديدة، وعند القرب الشديد من انقضاء العدة لا تبقى حاجة لإيقاع طلاق آخر، بل لا يمكن هذا على قول من يقول منكم: إن الأقراء هي الحيض؛ لأن المقاربة الشديدة إنما
تكون في الحيضة الثالثة، وقد اتففنا على تحريم الطلاق في الحيض مطلقًا.
وأيضًا لو أجزنا الطلاق عند مقاربة الانقضاء، فإما أن نجيز طلقة أو طلقتين معًا؟ وقد اتفقنا على منع الطلقتين، وعليه فلا يكون له ــ على ما فرضناه ــ أن يُوقِع إلا طلقةً أخرى، فتكون هي الثانية، فلا تحصل بها البينونة، فلا يكون للمطلق غرض صحيح، وإذا كان كذلك كان هذا الطلاق من اتخاذ آيات الله هزوًا والتلاعب بحدوده.
على أننا نقول: إن الفوائد التي ذكرتم أنها قد تكون للمطلق إذا طلَّق المدخول بها من حرمان الميراث، وحرمان النفقة والسكنى، وتعجل نكاح أختها مثلًا أو رابعة، كلها أغراضٌ مذمومةٌ شرعًا.
أما حرمان الميراث وحرمان النفقة والسكنى فظاهر، وقد قال الله تعالى:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ، والطلاق لحرمان الميراث أو النفقة والسكنى منافٍ لهذا كله.
وهكذا تعجل نكاح الأخت ــ مثلًا ــ مذموم؛ لأنه يثبت في نفس المطلقة أنه إنما طلَّقها لينكح أختها، فتهيج بذلك بغضاء بين الأختين، ويورث ذلك سوء ظن بين الناس فيه وفي الأخت الثانية؛ لأن عادة الناس أن لا تحتجب المرأة من زوج أختها، كما تحتجب من الأجانب.
وأما الرابعة فالحاجة إلى استعجال نكاحها نادرة، ولا يخلو ذلك من إثارة البغضاء بين أهل الأولى وأهل الثانية، بقول أهل الأولى: إنما طلَّق صاحبتنا ليزوج صاحبتهم، وهم أفسدوه، وغير ذلك.
ومع هذا كله، فإن هذه المنافع غير مقررة في الشرع؛ لاختلاف أهل العلم فيها، وعلى ذلك فلا تقوم بكراهية الطلاق من أصله فضلًا عن الطلاق البائن.
ولهذا ــ والله أعلم ــ حظر الطلاق في الحيض، وفي طهر قاربها فيه، والعلة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الزوج بعد مقاربة زوجته يقل ميله إليها إلى مدة، وعند قلة الميل [ص 4] قد يطلق عن غير نفرة صادقة، ولعله لو صبر أيامًا قوي ميله إليها، فأعرض عن الطلاق.
فإذا كانت حائضًا كان لعله قريب العهد بها في الطهر الأقرب، ومع ذلك فإن النفس تنفر عن الحائض للأذى، ولحظر الشرع مقاربتها، فالنفس يائسة منها، فلا تتحدث بمقاربتها.
والطهر الذي قاربها فيه يكون قريب عهد بها، فإذا حاضت المرأة ثم طهرت كان الميل قد قوي في الرجل؛ لأنه قد بعُدَ عهدُه بها؛ ولأنه يتمثلها قد اغتسلت، وتطيبت، ولبست، وتزيَّنت، فيدعوه ذلك إليها، فيعرض عن الطلاق، ما لم تكن النفرة قد قويت.
ومع ذلك لم يأذن له إلا بطلقة واحدة، وفرض عليه نفقتها، لئلا ينسد باب الصلح، وإبقاؤها في بيتها، وهو في الغالب بيته الذي يسكن فيه، أو قريبًا منه، وأطيلت العدة إلى ثلاثة قروء، إذ لعله يقوى ميلُه إليها في أثناء هذه المدة، وينسى ما بعثه على الطلاق من الإساءة، وقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه، فلا يكون بينه وبينها إلا أن يراجع، ثم يكشف الستر، أو يدقّ الباب.
فلو جمع الثلاث ربما ندم بعد ساعة، كما هو مشاهدٌ بكثرة فاحشة في جميع البلدان، فأدخل بذلك الضرر على نفسه، وعليها إذا كانت تحبه، أو لا يرغب فيها غيره كما في الهند وغيرها من الأقطار، تقل فيها الرغبة في زواج الثيبات، ولا سيما المطلقات، حتى لا تكاد تسمع بمطلقة تزوجّها رجلٌ آخر.
ويدخل الضرر على أطفاله منها، إن كانوا، فإنهم إن بقوا عندها بعدوا عن أبيهم، فأضر ذلك به وبهم، وقد لا يكون عنده من المال ما يكفي لأن يرسل إليهم نفقة تكفيهم، وإن اتفق أن تزوجت رجلًا آخر، فإما أن يكونوا معها، وذلك بلاء عليهم، وإما أن تدَعَهم عند أمها، فيمسوا محرومين من أبيهم وأمهم مع أنهما حيان، وإن أبقاهم عنده فإن لم يتزوج كانوا عذابًا عليه، ولم يكن عنده من يقوم بمصالحهم من النساء، وإن كان فليست كأمهم، وإن تزوج كانت هذه المرأة عدوةً طبيعية لأولاده من الأولى، كما هو مشاهد.
فاجعلْ كراهيةَ الشرع وهذه المضارَّ في كِفَّة، وما قد يقصده الزوج من تلك المنافع في كفة، وانظر أيهما يرجح.
هذا، مع ما تقدم من أن تلك المنافع مذمومة وغير مقررة في الشرع، مما يبعد أن يُقِيم لها الشرعُ وزنًا البتة.
قالوا: ولو كان لهذه المنافع أثرٌ في الشرع لكان أباح إيقاع الثلاث دفعةً، وقد اتفقنا على رده، وكان يلزمكم إذ لم تُسندِوا جواز إتباع الطلقة الثانية ثم الثالثة إلا إلى احتمال تلك الأغراض أن تقيّدوا الجواز بوجود غرضٍ مباحٍ منها إن كان، فكيف تكون سندًا لتشريع عامٍ وهي نادرة؟ ! هذا خلاف سنة الشرع، فإن سنته أن يُراعي الغالب ويُلغي النادر، لا عكسه.
قالوا: فإذا قلنا: إن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إنما هو في الطلقة الأولى، فالقياس الصحيح في الثانية والثالثة أن لا تُوقَع كلٌّ منهما إلا عندما يحتاج إليها كالحاجة إلى الأولى، وإنما يحتاج إلى الثانية إذا راجع من الأولى، فيحتاج حينئذٍ إلى ثانية لحل العصمة، فيحتاط لها كما احْتِيط للأولى، فلا توقع إلا في قُبُل العدة، والمعنى حينئذٍ كما في الأولى تمامًا، ثم لا تُوقع الثالثةُ إلا عند الحاجة إليها كالحاجة إلى الأولى وإلى الثانية، وإنما يكون ذلك إذا راجع من الثانية، واحتاج إلى الطلاق، فحينئذٍ يحتاط لها كما في الأُوليين، فلا تُوقَع إلا في قُبُل العدة، والمعنى قبل إيقاعها كالمعنى في الأوليينِ تمامًا، وأما بعد إيقاعها فقد اختلف المعنى، إذ لا رجعةَ بعدها.
وأما إذا قلنا: إن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يصدق بالطلقة الأولى وبالثانية وبالثالثة ــ وإن كانت بعض الأحكام المذكورة في السياق تختصُّ بالأولى والثانية ــ فالأمر أظهر، فإن كلًّا من الثلاث تكون منصوصًا في الآية على إيقاعها في قُبُل العدة، وقد تقدم بقية الكلام.
قالوا: وأما ما تُفسِّرون به قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيتين: أن المرة الأولى في طهرٍ لم يقربْها فيه، والثانية في الطهر الثاني، والثالثة في الطهر الثالث، فمردودٌ عليكم.
أخرج مالك رحمه الله في "الموطأ"
(1)
عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك
(1)
(2/ 588).
له، وإن طلَّقها ألف مرة، فعَمَدَ رجلٌ إلى امرأته فطلَّقها، حتى إذا شارفتْ انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلَّقها، ثم قال: لا والله لا آوِيكِ إليَّ، ولا تحِلِّينَ أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فاستقبل الناس الطلاقَ جديدًا من يومئذٍ، من كان طلَّق منهم أو من لم يطلِّق". ("الموطأ" بهامش شرحه "المنتقى" ج 5/ ص 125).
[ص 5] هذا مرسلٌ صحيحٌ، وهكذا رواه ابن إدريس وجرير بن عبد الحميد عن هشام. انظر تفسير ابن جرير (ج 2/ص 259)
(1)
.
وقد رفعه بعضهم، أخرجه الحاكم في "المستدرك"
(2)
، وصححه من طريق يعلى بن شَبِيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وله عواضد.
أخرج ابن جرير
(3)
عن قتادة قال: "كان أهل الجاهلية يطلق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حدَّ في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة أقراء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات".
وأخرج
(4)
عن ابن زيد: "
…
وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تَحِلَّ ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقًا بعد ذلك لِيُضارَّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا: مرتين، ثم بعد المرتين إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان".
(1)
"تفسيره"(4/ 125، 126).
(2)
"المستدرك"(2/ 279، 280). وأخرجه أيضًا الترمذي (1192).
(3)
في "التفسير"(4/ 126).
(4)
المصدر نفسه (4/ 126).
فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} يعني ــ والله أعلم ــ: الطلاق الذي تعقبه رجعة؛ لأن هذا هو المعهود لهم سابقًا، والمعهود في القصة التي كانت سبب النزول، والمعهود في الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} .
فكأنه قال: الطلاق الذي تعقبه رجعة إنما هو مرَّتان، لا مِرارٌ كثيرة، كما أراد ذلك الرجل المضارُّ أن يفعل.
وعليه، فكل مرة من المرتين عبارة عن طلاق عقبتْه رجعةٌ، لأن هذا ردّ على ذلك المضارّ الذي أراد أن يفعل هذا، أي الطلاق والرجعة مرارًا.
وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أريد به ــ والله أعلم ــ: وبعد أن يطلق أحدكم [ثم يراجع] ثم يطلق ثم يراجع، لا يبقى له إلا أن يمسكها ويحتفظ بها، أو يُسرِّحها السراحَ الأخير، وهو الطلاق الثالث.
قال في الفتح
(1)
: "معنى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فيما ذكر أهل العلم بالتفسير، أي: أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذٍ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة، أو المفارقة فيسرِّحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور".
ثم ذكر القول الثاني، وسيأتي، ثم قال
(2)
: "ويرجِّح الأولَ ما أخرجه
(1)
(9/ 366).
(2)
أي الحافظ في "الفتح"(9/ 366).
الطبري
(1)
وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: "قال رجل: يا رسول الله! الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
أقول: وفي رواية للطبري
(2)
: "قال رجل: يا رسول الله! يقول الله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان". (تفسير ابن جرير 2/ ص 260).
ثم قال الحافظ
(3)
: "وسنده حسن، لكنه مرسلٌ؛ لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدارقطني
(4)
من وجهٍ آخر، فقال:"عن أنس" لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ
…
والأخذ بالحديث أولى، فإنه مرسل حسن، يعتضد بما أخرجه الطبري
(5)
من حديث ابن عباس بسندٍ صحيحٍ قال: "إذا طلَّق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في الثالثة، فإما أن يُمسِكها فيُحسِن صحبتها، أو يُسرِّحها فلا يظلمها من حقها شيئًا". (فتح الباري ج 9/ ص 293).
وقال ابن جرير
(6)
: "فقال بعضهم: عَنَى الله تعالى ذِكره بذلك الدلالةَ
(1)
"تفسيره"(4/ 130).
(2)
المصدر نفسه (4/ 131). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 93) و"المصنف"(11091) وأبو داود في "المراسيل"(ص 145) وابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 419).
(3)
في "الفتح"(9/ 366).
(4)
في "سننه"(4/ 4) وقال: والصواب مرسل.
(5)
في "التفسير"(4/ 128).
(6)
المصدر نفسه (4/ 130).
على اللازم للأزواج للمطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف، أو بفراقهن بطلاق".
ثم قال
(1)
بعد أن ذكر الحديث وغيره، وذكر القول الثاني:"فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بنا من غيره، فإذ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساك بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". (تفسير ابن جرير ج 2/ص 259 - 260).
[ص 6] أقول: والقول الثاني حكاه ابن جرير فقال
(2)
: "وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعةٍ بمعروف، أو تسريحٍ بإحسان بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن".
ثم روى عن السدي
(3)
قال: "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك، ويمسك: يراجع بمعروف، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها".
وعن الضحاك
(4)
قال: "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان".
وروى عنه قبل ذلك
(5)
: "والتسريح أن يدَعَها حتى تمضي عدتها". (تفسير ابن جرير ج 9/ص 260).
(1)
في "التفسير"(4/ 132).
(2)
المصدر نفسه (4/ 131).
(3)
المصدر نفسه (4/ 131، 132).
(4)
المصدر نفسه (4/ 132).
(5)
المصدر نفسه (4/ 132).
وأخرج
(1)
في تفسير سورة الطلاق عن الضحاك في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} قال:"يعني بالمخرج واليسر: إذا طلَّق واحدةً ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليسر الذي قال الله، وإن مضت عدتها ولم يراجعها كان خاطبًا من الخُطَّاب، وهو الذي أمر الله به، وهكذا طلاق السنة، فأما من طلَّق عند كل حيضة فقد أخطأ السنة، وعصى الرب، وأخذ بالعسر". (تفسير ابن جرير ج 28/ص 82).
أقول: قال ابن جرير
(2)
في تحرير القول الثاني: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف، أو تسريح لهن بإحسان".
أقول: وحاصله هكذا: المرة الأولى فمراجعةٌ أو تركٌ حتى تنقضي عدتها، فإذا راجع وأراد الطلاق فالمرة الثانية، فمراجعةٌ أو تركٌ حتى تنقضي عدتها، ثم قال تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
ومعناها على هذا: فإذا راجع من الثانية، ثم بدا له الطلاق فإن طلَّقها
…
إلخ.
وعلى هذا، فهذا القول الثاني لا يخالف القول الأول فيما ذهب إليه
(1)
"التفسير"(23/ 44).
(2)
المصدر نفسه (4/ 132).
أهل المذهب الثالث
(1)
.
أقول: والقائلون بأن الإمساك هو الرجعة يقولون كما ذكر بأن ....
(2)
فبعد المرتين إما مراجعة و .... في الاعتراض إما مراجعة وإما طلاق.
فإن قيل: لكنه جاء الطلاق بعد ذلك في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} .
[قيل]: هو مبني على فرض الإمساك وهو المراجعة؛ لأنه قد حصر الأمر بعد الثنتين في مراجعة أو عدمها، فإن عدمت حتى انقضت العدة كما هو ظاهر، فلا موقع للطلاق الثالث، وإنما يكون له موقع على فرض وقوع المراجعة، فتدبر.
وأما من قال: المرتان طلقتان عند كل طهر واحدة، فلم يتبين ما يفسرون به الإمساك والتسريح، وعلى كل حال فقولهم مردود من أصله.
وعلى كلٍ من الأقوال الثالثة، فقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} المراد بها الطلاق الثالث.
أما على قول من قال: الإمساك الإبقاء في العصمة، والتسريح الطلاق، فإنه يقول: إن قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} مبني على التسريح، كأنه قال: فإن وقع منه التسريح الذي تقدم ذكره. والتسريح هو الطلاق الثالث عند هؤلاء.
وأما من قال: الإمساك المراجعة بعد كل من الطلقتين، والتسريح عدم
(1)
بعدها صفحتان كتبهما المؤلف، ثم شطب عليهما. وكتب بعد صفحات ملحقًا يناسب هذا المكان.
(2)
الكلمات مخرومة في الأصل في مواضع النقط.
المراجعة، فإنه يقول: إن الطلقة الثالثة إنما ذكرت في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} .
وأما من قال: المرتان طلقتان في كل طهر واحدة، فلا بد أن يوافق أحد القولين المتقدمين، ولو كان يقول بخلاف ذلك لكان الظاهر أن يحكيه ابن جرير.
نعم، ذكر ابن جرير
(1)
في تفسير {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} عن ابن عباس قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره".
رواه من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، وفي كل منهم كلام، وهو مع ذلك منقطع، فإن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وصحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يستأنس بها أهل العلم، ولا يحتجون بها.
على أن هذا الأثر لو صح لوجب حملُه على معنى "إن طلَّقها" الثالثةَ، فتمَّ طلاقُها "ثلاثًا"، توفيقًا بين هذا وبين الروايات الصحيحة عنه
(2)
.
واحتج أهل المذهب الثاني بالآية {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن المراد بالإمساك المراجعة، وبالتسريح الطلاق، كأنه قال: وبعد المرتين إما مراجعة وإما طلاق.
وهذا يدل أن المرة الثانية طلاق لم يعقبه رجعة، إذ لو كانت طلاقًا
(1)
في "تفسيره"(4/ 166).
(2)
هنا نهاية الملحق، وما بعدها وراء صفحة الملحق.
ورجعة لما أمكن أن تكون بعدها مراجعة أخرى، وإذا ثبت أن المرة الثانية طلاقٌ تصلح بعده المراجعة ويصلح الطلاق، فقد وقعت المرة الثالثة من الطلاق عقب الطلاق الثاني بدون تخلل رجعة، وإذا جاز هذا بين الثانية والثالثة فليجز بين الأولى والثانية، ولا قائل بالفرق.
فالجواب: أن جمهور السلف فسروا الإمساك ههنا بالإبقاء في العصمة، لا بالمراجعة، ونظيره قوله تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37].
وقد أخرج الحاكم في "المستدرك"
(1)
عن أنسٍ قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمسِك عليك أهلَك، فنزلت".
وذكر ابن جرير
(2)
أثرًا عن ابن زيد، وفيه:"فجاء فقال: يا رسول الله! إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: مالك؟ أرابَكَ منها شيءٌ؟ قال: لا والله ما رابني منها شيءٌ يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيرًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمسِكْ عليك زوجك واتق الله".
وروى أثرًا عن قتادة بنحوه
(3)
. (تفسير ابن جرير ج 22/ ص 9).
وأصرح منه قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
(1)
(2/ 417).
(2)
"تفسيره"(19/ 116).
(3)
المصدر نفسه (19/ 115).
وأكثر ما يجيء الإمساك في القرآن بهذا المعنى، أي عدم الإرسال.
وإنما ذكرت الآيتين لئلا يقول قائل: قد جاء في القرآن {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} في موضعين، والمراد به في كل منهما "فراجعوهن"، فينبغي أن يكون قوله هنا:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي مراجعة.
على أنه قد يقال: فرق بين قوله: {فَإِمْسَاكٌ} ، وقوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ} ، فإن الاسم يدل على الثبات واللزوم، فيقتضي أن هذا الإمساك هو الإبقاء في العصمة؛ لأنه استمرار شيء ثابت، والفعل يدل على التجدد والحدوث، فيقتضي في قوله:"فأمسكوا" أي أحدثوا إمساكًا، وهو المراجعة، فتأمل.
وقال ابن جرير
(1)
بعد أن ذكر أثر عروة وما في معناه: "فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا: عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعةُ تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان".
ثم حكى قول من قال: إن "المرتان" طلقتان في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك إما إمساك بمعروف وإما تسريح بإحسان، ثم رده بأنه مخالفٌ لظاهر التنزيل، ولمرسل عروة وعواضده.
ثم حكى الخلاف في تأويل الإمساك والتسريح قال
(2)
: فقال بعضهم:
(1)
"تفسيره"(4/ 127).
(2)
المصدر نفسه (4/ 130).
عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج للمطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف أو فراقهن
(1)
بطلاق".
وذكر حديث أبي رزين الآتي وآثارًا لا أراها صريحة فيما قال.
ثم قال
(2)
: "وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف، أو تسريح بإحسان بترك رجعتهن".
ثم روى عن السدي قال
(3)
: "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك ــ ويمسك: يراجع بمعروف ــ وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها".
وعن الضحاك قال
(4)
: "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان".
ثم رد هذا التأويل بحديث أبي رزين
(5)
: "قال رجل: يا رسول الله! قول الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان".
ثم قال
(6)
: "فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على
(1)
في الأصل: "بفراقهن"، والتصويب من تفسير الطبري.
(2)
المصدر السابق (4/ 131).
(3)
المصدر نفسه (4/ 131، 132).
(4)
المصدر نفسه (4/ 132).
(5)
المصدر نفسه (4/ 132، 130).
(6)
المصدر نفسه (4/ 132).
نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 259 - 260).
[ص 7] السُّنَّة
المذهب الأول: قالوا: السنة معنا، ففي حديث عائشة الذي في الصحيحين
(1)
وغيرهما في قصة امرأة رفاعة: أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبِير، وإنما معه مثل هُدْبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته".
قال الإمام الشافعي
(2)
: "فإن قيل: فقد يجوز أن يكون رفاعة بتَّ طلاقها في مرات.
قلت: ظاهره مرةً واحدةً".
وفي حديث فاطمة بنت قيس، وهو في صحيح مسلم
(3)
، وأشار إليه البخاري
(4)
: "أن زوجها طلَّقها ثلاثًا، فلم يجعل لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم سكنى ولا نفقة".
(1)
البخاري (2639) ومسلم (1433).
(2)
"الأم"(10/ 259).
(3)
رقم (1480).
(4)
انظر "الصحيح" مع "الفتح"(9/ 477) وكلام الحافظ عليه.
وفي الصحيحين
(1)
من حديث عائشة: "أن رجلًا طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت فطلق، فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتحلُّ للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عُسيلتها، كما ذاق الأول".
وفي الصحيحين
(2)
من حديث سهل بن سعد في قصة عويمر العجلاني: "أنه بعد أن لاعنَ زوجته قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ".
قال الإمام الشافعي
(3)
: "وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّم عبد الله بن عمر موضع الطلاق، ولو كان في عدد الطلاق مباحٌ ومحظورٌ علَّمه ــ إن شاء الله ــ إياه؛ لأن من خفي عليه أن يطلق امرأته طاهرًا، كان ما يُكره من عدد الطلاق ويُحَبّ ــ لو كان فيه مكروه ــ أشبه أن يخفى عليه
…
وطلق ركانة امرأته البتة، وهي تحتمل واحدةً، وتحتمل ثلاثًا، فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نيته وأحلفه، ولم نعلمه نهى أن يطلق البتة يريد بها ثلاثًا، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثًا".
رده: قالوا: أما الحديث الأول فقد جاء مفسرًا على خلاف ما ظننتم، ففي الصحيحين
(4)
: "
…
فقالت: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة، فطلَّقها آخر ثلاث تطليقات" (صحيح البخاري ج 8/ص 23، صحيح مسلم ج 4/ص 154).
(1)
البخاري (5261) ومسلم (1433/ 115).
(2)
البخاري (5308) ومسلم (1492).
(3)
"الأم"(6/ 457).
(4)
البخاري (6084) ومسلم (1433/ 113).
وهكذا الحديث الثاني، ففي رواية عند مسلم
(1)
: "أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات"، وفي رواية أخرى
(2)
: "
…
فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها". (صحيح مسلم ج 4/ص 196 - 197).
وأما الحديث الثالث فالظاهر أنه مختصرٌ من حديث امرأة رفاعة، كما جوزه الحافظ في الفتح
(3)
، قال:"وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد". (فتح الباري ج 9/ص 295).
وذكر في (ص 375 - 380)
(4)
تلك الروايات، وهي بين ضعيفٍ أو غلطٍ في قصة امرأة رفاعة، فانظرها إن شئت.
وأما الحديث الرابع فقصة عويمر، رواها جماعة من الصحابة، ولم يذكر أحدٌ منهم الطلاق إلا في رواية الزهري عن سهل بن سعد.
والزهري يقول تارة: "فطلقها"، رواه عنه هكذا الأوزاعي، كما في صحيح البخاري في تفسير سورة النور
(5)
، وعبد العزيز بن أبي سلمة عند أحمد (المسند ج 5/ص 337)
(6)
.
(1)
رقم (1480/ 40).
(2)
رقم (1480/ 41).
(3)
(9/ 367).
(4)
(9/ 464 ــ 469).
(5)
البخاري (4745).
(6)
رقم (22856).
وتارةً يقول: "ففارقها"، هكذا رواه عنه جماعة، منهم فليح عند البخاري في تفسير سورة النور
(1)
، وابن أبي ذئب عند البخاري أيضًا في الاعتصام
(2)
، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد عند النسائي
(3)
، وعقيل عند أحمد (المسند ج 5/ص 337)
(4)
.
وتارة يقول: "فطلقها ثلاثًا"، هكذا رواه مالك وابن جريج
(5)
وغيرهما.
قال الحافظ في الفتح
(6)
: "في رواية ابن إسحاق ــ يعني عن الزهري ــ: ظلمتُها إن أمسكتُها، فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق".
أقول: والذي في مسند أحمد "هي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق". (مسنده 5/ 334)
(7)
.
ثم قال الحافظ
(8)
: "وقد تفرد بهذه الزيادة ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات". (فتح الباري 9/ 365).
وفي هذا نظر، فمن البين أن اختلاف هذه الألفاظ:"فطلقها"،
(1)
رقم (4746).
(2)
رقم (7304).
(3)
(6/ 171).
(4)
رقم (22853).
(5)
انظر البخاري (5308، 5309).
(6)
(9/ 451).
(7)
رقم (22831).
(8)
"الفتح"(9/ 451).
"ففارقها"، "فطلقها ثلاثًا" ليس من سهل بن سعد، وإنما هو من الزهري، ومن الجائز أن يعني الزهري بقوله:"فطلقها ثلاثًا" أنه كرر الطلاق ثلاثًا، وهذا اللفظ يصدق بما إذا كان التكرار صالحًا للتوكيد، فتكون هذه الرواية موافقة لرواية ابن إسحاق، ومن الجائز أيضًا أن يكون الزهري سمع الحديث من سهل باللفظ الذي ذكره ابن إسحاق، ولكن كان الزهري يرويه بالمعنى، فقال مرة:"فطقها ثلاثًا" بناءً على ما ظنه من أن هذا اللفظ يثبت به ثلاث طلقات، ثم تردد في ذلك، فكان يقول تارةً:"فطلقها" ويقتصر عليه، وتارةً:"ففارقها" ويقتصر عليه، وذكر ابن إسحاق أصل اللفظ الذي سمعه
(1)
من سهل، فقد كان لابن إسحاق اختصاص بالزهري، قال ابن عيينة:"رأيت الزهري قال لمحمد بن إسحاق: أين كنت؟ فقال: هل يصل إليك أحد؟ قال: فدعا حاجبه وقال: "لا تحجبه إذا جاء". (ذكره في تهذيب التهذيب)
(2)
.
فأما أن يسمع ابن إسحاق "فطلقها ثلاثًا" فيراها مخالفة لرأيه، فيبدلها بلفظ يوافق رأيه، وينسبه إلى صاحب القصة، فهذا بغاية البعد، وليس هذا من الرواية بالمعنى، بل من التحريف والتبديل، وحاشا ابن إسحاق من ذلك
(3)
.
[ص 8] قالوا: وعلى فرض أنه ثبت ثبوتًا لا ريب فيه أن عويمرًا طلَّق ملاعنته ثلاث طلقات بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينكر عليه، ودل ذلك على الجواز، فليس في هذا ما يدل على إباحة جمع الطلاق مطلقًا، فليجز مثل
(1)
أي الزهري.
(2)
(9/ 40).
(3)
ثم الكلام يتصل بعد خمس ورقات في الأصل.
ذلك في مثل هذه الواقعة، وهي أن يطلق الزوج زوجته التي اطلع على زناها ولاعنَها فالتعنت، ولا يُقاس عليها من ليس مثل معناها.
على أنه قد أغنى الله الملاعن عن الطلاق بقضائه بالتفريق بينهما مؤبدًا بغير طلاق.
وقد أخرج النسائي
(1)
وغيره بسند صحيح عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: "أُخبِر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبانَ، فقال: أيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجلٌ وقال: ألا أقتله؟ ". (سنن النسائي 2/ 695).
ومحمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالحديث مرسلٌ صحيحٌ.
وأخرج البيهقي
(2)
وغيره من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بالُ رجالٍ يلعبون بحدود الله؟ طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك! ".
ورجاله رجال الصحيح إلا أن فيهم من يدلس.
وفي رواية: "لِمَ يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك؟ طلقوا المرأة في قُبُل عدتها"(سنن البيهقي 7/ 322 - 323).
وأخرج الحاكم
(3)
وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(1)
(6/ 142).
(2)
"السنن الكبرى"(7/ 322). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2017).
(3)
"المستدرك"(2/ 196). وأخرجه أيضًا أبو داود (2178) وابن ماجه (2018).