المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر الحذر من النفس قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والحمد لله على كل حال ، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله أجمعين ، وبالله أستعين. أما بعد: وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل ، وأعاذنا وإياكم من شرور - أدب النفوس للآجري

[الآجري]

الفصل: ‌ذكر الحذر من النفس قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والحمد لله على كل حال ، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله أجمعين ، وبالله أستعين. أما بعد: وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل ، وأعاذنا وإياكم من شرور

‌ذِكْرُ الْحَذَرِ مِنَ النَّفْسِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِّيُّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ ، وَبِاللَّهِ أَسْتَعِينُ. أَمَّا بَعْدُ: وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِلْرَشَادِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَأَعَاذَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ شُرُورِ

أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، إِنَّهُ سُمَيْعٌ قَرِيبٌ. اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ ذَكَرَ النَّفْسَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ ، مُنَبِّهٌ بِمَعَانِي كَثِيرَةٍ ، كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَذَرِ مِنَ النَّفْسِ. أَخْبَرَنَا مَوْلَانَا الْكَرِيمُ أَنَّهَا تَمِيلُ إِلَى مَا تَهْوَاهُ مِمَّا لَهَا فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ ، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّهَا قَدْ نُهِيَتْ عَنْهُ. ثُمَّ أَعْلَمَنَا مَوْلَانَا الْكَرِيمُ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَمَّا تَهْوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 35] ،

ص: 249

فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْهُ انْزَجَرَ عَنْهُ ، فَإِنْ تَابَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَا زَجَرَهَا عَنْهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عز وجل بِبَالٍ ، وَأَنَّ هَذِهِ نَفْسٌ مَرْحُومَةٌ ، فَلْيَشْكُرِ اللَّهَ الْكَرِيمَ عَلَى ذَلِكَ. أَلَمْ تَسْمَعُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَا أَخْبَرَكُمْ مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمُ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ، وَهُوَ يُوسُفُ عليه السلام ، قَوْلَهُ:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، فَيُقَالُ: إِنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ الْمَرْحُومَةَ هِيَ الْمَعْصُومَةُ الَّتِي عَصَمَهَا اللَّهُ عز وجل. ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا رَكِبَتْ مَا تَهْوَى مِمَّا قَدْ نُهِيَتْ عَنْهُ ، فَإِنَّهَا سَتَلُومُ صَاحِبَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، تَقُولُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ لِمَ قَصَّرْتَ؟ لِمَ بَلَّغْتَنِي مَا أُحِبُّ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ عَطَبِي؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1] الآية فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا مِنَ اللَّهِ عز وجل أَنْ يَحْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ أَشَدَّ

ص: 250

حَذَرًا مِنْ عَدُوٍّ يُرِيدُ قَتْلَهُ ، أَوْ أَخْذَ مَالِهِ ، أَوِ انْتِهَاكَ عِرْضِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَلْزَمْتَنِي هَذَا الْحَذَرَ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى جَعَلْتَهُ أَشَدَّ حَالًا مِنْ عَدُوٍّ وَقَدْ تَبَيَّنْتُ عَدَاوَتَهُ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ عَدُوَّكَ الَّذِي يُرِيدُ قَتْلَكَ ، أَوْ أَخْذَ مَالِكَ ، أَوِ انْتِهَاكَ عِرْضِكَ ، إِنْ ظَفِرَ مِنْكَ بِمَا يُؤَمَّلُهُ مِنْكَ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُكَفِّرُ عَنْكَ بِهِ السَّيِّئَاتِ ، وَيَرْفَعُ لَكَ بِهِ الدَّرَجَاتِ ، وَلَيْسَ النَّفْسُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إِنْ ظَفَرَتْ مِنْكَ بِمَا تَهْوَى مِمَّا قَدْ نُهِيَتْ عَنْهُ ، كَانَ فِيهِ هَلَكَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْفَضِيحَةُ مَعَ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ ، وَسُوءُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل مَعَ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْآخِرَةِ. فَالْعَاقِلُ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، يُلْزِمُ نَفْسَهُ الْحَذَرَ وَالْجِهَادَ لَهُ أَشَدَّ مِنْ مُجَاهَدَةِ الْأَقْرَانِ مِمَّنْ يُرِيدُ مَالَهُ وَنَفْسَهُ ، فَجَاهِدْهَا عِنْدَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ ، كَذَا أَدَّبَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ حَدِيثٍ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل»

ص: 251

1 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: ثنا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، يَقُولُ:«الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ عز وجل»

ص: 251

2 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ ، ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ ، أنبأ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، حَدَّثَنِي فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمَّنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا»

ص: 252

3 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» ، قَالُوا: مَا الشَّدِيدُ؟ قَالَ: «الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»

ص: 253

4 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ ، ثنا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

⦗ص: 254⦘

«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»

ص: 253

5 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وثنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ لُوَيْنٌ الْمِصِّيصِيُّ ، ثنا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ،

⦗ص: 255⦘

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّدِيدَ لَيْسَ الَّذِي يَغْلِبُ النَّاسَ ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَعَلَى مَا أُجَاهِدُ نَفْسِي حَتَّى أَغْلِبَهَا

⦗ص: 256⦘

؟ قِيلَ لَهُ: تُجَاهِدُهَا حَتَّى تَلْزَمَ أَدَاءَ فَرَائِضِ اللَّهِ عز وجل ، وَتَنْتَهِيَ عَنْ مَعَاصِيهِ. فَإِنْ قَالَ: صِفْ لِي مِنْ أَخْلَاقِهَا الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَحْسُنُ ، حَتَّى أَحْذَرَهَا ، وَأَمْقُتَهَا ، وَأُجَاهِدَهَا ، إِذَا عَلِمْتُ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّفْسَ أَهْلٌ أَنْ تُمْقَتَ فِي اللَّهِ عز وجل ، وَمَنْ مَقَتَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل رَجَوْتُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ اللَّهُ عز وجل مِنْ مَقْتِهِ ، كَذَا رُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ

ص: 254

6 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُفَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ ، ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّادَانِيُّ ، ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ ، يَقُولُ:«مَنْ مَقَتَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل أَمَّنَهُ اللَّهُ عز وجل مِنْ مَقْتِهِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَبَيِّنْ لِي أَخْلَاقَهَا الْقَبِيحَةَ. قِيلَ لَهُ: هِيَ الْأَخْلَاقُ الَّتِي قَدِ اسْتَوْطَنَتْهَا النَّفْسُ ، وَلَيْسَ تُحِبُّ مُفَارَقَتَهَا ، وَهِيَ أَخْلَاقٌ كَثِيرَةٌ إِذَا تَصَّفَّحَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. فَإِنَّهَا نَفْسٌ مُتَّبِعَةٌ لِلْهَوَى. مُنْهُمِكَةٌ فِي لَذَّةِ الدُّنْيَا. بَاسِطَةٌ لِطُولِ أَمَلٍ عَنْ قَلِيلٍ يَنْقَضِي. قَلِيلَةُ الِاكْتِرَاثِ لِأَجَلٍ لَا بُدَّ أَنْ يُغْشَى.

⦗ص: 257⦘

رَاغِبَةٌ فِي حُبِّ دُنْيَا إِذَا أَحَبَّهَا قَلْبُ عَبْدٍ قَسَى. زَاهِدَةٌ فِي دَارٍ نَعِيمُهَا لَا يَفْنَى. مُحِبَّةٌ لِأَخْلَاقٍ تَعْلَمُ أَنَّهَا مُضَرَّةٌ بِهَا غَدًا. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ نَاعِمَةٌ بِمَا عَنْهُ مَوْلَاهَا نَهَى. نَفْسٌ تَحْزَنُ عَلَى مَا لَمْ يَجْرِ لَهَا بِهِ الْمَقْدُورُ مِمَّا أَمَّلَتْهُ مِنَ الدُّنْيَا صَبَاحَهَا وَالْمِسَا. نَفْسٌ يَخِفُّ عَلَيْهَا السَّعْيُ وَالْكَدُّ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ، نَفْسٌ تَلَذُّ بِالْفُتُورِ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي إِلَيْهِ مَوْلَاهَا دَعَا. نَفْسٌ تَهُمُّ بِالنَّفَقَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، فَيُوعِدُهَا الشَّيْطَانُ الْفَقْرَ ، فَتَمِيلُ إِلَى مَا إِلَيْهِ دَعَا. نَفْسٌ وَعَدَهَا اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ ، وَالْفَضْلَ فَلَمْ تَثِقْ ، وَلَمْ تَرْضَ. نَفْسٌ تَثِقُ بُوعِدِ مَخْلُوقٍ ، وَعِنْدَ وَعِيدِ مَوْلَاهَا تَتَلَكَّا. نَفْسٌ تُرْضِي الْمَخْلُوقِينَ بِسَخَطِ رَبِّهَا ، وَعَنْ رِضًا مَوْلَاهَا تَتَوَانَى. نَفْسٌ نَدَبَهَا اللَّهُ إِلَى الصَّبْرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ ، تَعْزِيَةً مِنْهُ لَهَا ، فَلَا تَقْبَلُ الْعَزَا. نَفْسٌ تَتَصَنَّعُ لِلْمَخْلُوقِينَ بِوَفَاءِ الْوَعْدِ ، وَفِيمَا عَهَدَ اللَّهُ الْكَرِيمُ إِلَيْهَا قَلِيلَةُ الْوَفَا. نَفْسٌ تَتْرُكُ الْمَعَاصِي بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، حَيَاءً مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، وَعِنْدَ نَظَرِ اللَّهِ الْعَظِيمِ إِلَيْهَا قَلِيلَةُ الْحَيَا. نَفْسٌ قَلِيلَةُ الشُّكْرِ لِلَّهِ الْكَرِيمِ عَلَى نِعَمٍ لَا تُحْصَى.

⦗ص: 258⦘

نَفْسٌ تَسْتَعِينُ بِنِعَمِ اللَّهِ الْكَرِيمِ عَلَى مَعَاصِيهِ فِي صَبَاحِهَا وَالْمِسَا. نَفْسٌ يَخِفُّ عَلَيْهَا مُجَالَسَةُ الْبَطَّالِينَ ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهَا مُجَالَسَةُ الْعُلَمَا. نَفْسٌ تُطِيعُ الْغَاشَّ ، وَتَعْصِي أَنْصَحَ النُّصْحَا. نَفْسٌ تُسَارِعُ فِيمَا تَهْوَى ، وَهِيَ تَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِ لِلتَّوْبَةِ الْيَوْمَ وَغَدَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ ، وَغَيْرَهَا ، سَارَعَ إِلَى رِيَاضَتِهَا ، بِحُسْنِ الْأَدَبِ لَهَا؛ لِيَرُدَّهَا إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْ تَقْوَى اللَّهِ عز وجل ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، بِالنَّدَمِ الشَّدِيدِ ، وَالنِّزُوعِ مِنْ قَبِيحِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ ، إِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَإِصْلَاحِ مَا يَسْتَأْنِفُهُ فِي طُولِ عُمْرِهِ ، وَاللَّهُ عز وجل الْمُوَفَّقُ لِذَلِكَ

ص: 256

ذِكْرُ أَدَبِ النُّفُوسِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَى تَأْدِيبِ النَّفْسِ؟ ، قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ قَالَ: فَاذْكُرْهُ؟ قِيلَ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، قُلْتُ: فَمَنْ سَمِعَ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ عِلْمَ هَذَا ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ: فَاذْكُرْ مَا يَقِي بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ ، وَأَهْلَهُ مِنَ النَّارِ ، قِيلَ: نَعَمْ

ص: 259

7 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَهْشَلٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ: يَكُونُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ ، فَيَعْمَلُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، يُصَلِّي فَيُصَلُّونَ ، وَيَصُومُ فَيَصُومُونَ ، وَيَتَصَدَّقُ فَيَتَصَدَّقُونَ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]

ص: 259

8 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَثنا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ ، ثنا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] يَقُولُ: اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ عز وجل ، وَاتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ عز وجل ، وَمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ ، يُنْجِيكُمْ مِنَ النَّارِ "

ص: 260

9 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَثَنًا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، ثنا حَمُّ بْنُ نُوحٍ ، ثنا أَبُو مُعَاذٍ ، ثنا أَبُو مُصْلِحٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، يَقُولُ: اعْمَلُوا بِطَاعَتِي ، وَتَعَلَّمُوا، وَعَلِّمُوا أَهْلِيكُمْ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ

ص: 260

10 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَثَنًا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مِهْرَانَ ، ثنا عَامِرُ بْنُ الْفُرَاتِ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ: أَدِّبُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَأَهْلِيكُمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ

⦗ص: 261⦘

وَجَلَّ

ص: 260

11 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَثَنًا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، يَعْنِي: الْأَدَبُ الصَّالِحُ

ص: 261

12 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، وَثَنًا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، ثنا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ ، ثنا وَكِيعٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ بَعْضِ ، أَصْحَابِهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزّ َ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ: «عَلِّمُوهُمْ ، أَدِّبُوهُمْ»

⦗ص: 262⦘

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَا تَرَوْنَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ ، يَحُثُّكُمْ عَلَى تَأْدِيبِ نُفُوسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ؟ ، فَاعْقِلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَنِ اللَّهِ عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ: «عَلِّمُوهُمْ ، أَدِّبُوهُمْ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَا تَرَوْنَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ ، يَحُثُّكُمْ عَلَى تَأْدِيبِ نُفُوسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ؟ ، فَاعْقِلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَنِ اللَّهِ عز وجل ، وَأَلْزِمُوا أَنْفُسَكُمْ عِلْمَ ذَلِكَ. ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَلْزَمُكُمْ عِلْمُ حَالَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا: عِلْمُ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ ، وَقُبْحِ مَا تَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ ، مِمَّا تَهْوَاهُ وَتَلُذُّهُ ، مُضْمِرَةً لِذَلِكَ ، وَقَائِلَةً وَفَاعِلَةً ، فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَزْجُرُوهَا عَنْهُ ، حَتَّى لَا تُبَلِّغُوهَا ذَلِكَ. وَالْحَالُ الثَّانِي: عِلْمُ كَيْفَ السِّيَاسَةُ لَهَا؟ ، وَكَيْفَ تُرَاضُ؟ ، وَكَيْفَ تُؤَدَّبُ؟ ، فَهَذَانِ الْحَالَانِ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ أَنْ يَطْلُبَ عِلْمَهُ حَتَّى يَعْرِفَ نَفْسَهُ ، وَيَعْرِفَ كَيْفَ يُؤَدِّبُهَا. قُلْتُ: فَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّفْسِ ، وَقَبِيحُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ ، وَأَنَا أَزِيدُكَ فِي فَضْحَتِهَا: هِيَ جَامِعَةٌ لِكُلِّ بَلَاءٍ. وَخَزَانَةُ إِبْلِيسَ ، وَإِلَيْهَا يَأْوِي ، وَيَطْمَئِنُّ.

⦗ص: 263⦘

تُظْهِرُ لَكَ الزُّهْدَ وَهِيَ رَاغِبَةٌ. وَتُظْهِرُ لَكَ الْخَوْفُ ، وَهِيَ آمِنَةٌ. تَفْرَحُ بِحُسْنِ ثَنَاءٍ مِنْ جَهْلِهَا بِبَاطِلٍ ، فَتَحْمَدُهُ ، وَتُدِينُهُ. وَيَثْقُلُ عَلَيْهَا الصِّدْقُ مَنْ ذَمَّهَا بِحَقٍّ ، نُصْحًا مِنْهُ لَهَا ، فَتُبْغِضُهُ وَتُقْصِيهِ. وَأَنَا أُمَثِّلُ لَكِ مِثَالًا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَمْرُهَا إِنَّ شَاءَ اللَّهُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ مِثْلُهَا كَمَثَلِ الْمُهْرِ الْحَسَنِ مِنَ الْخَيْلِ ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُ أَعْجَبَهُ حُسْنُهُ وَبَهَاؤُهُ ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ بِهِ: لَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا حَتَّى يُرَاضَ رِيَاضَةً حَسَنَةً ، وَيُؤَدَّبَ أَدَبًا حَسَنًا ، فَحِينَئِذٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، فَيَصْلُحُ لِلطَّلَبِ وَالْهَرَبِ ، وَيَحْمِدُ رَاكِبُهُ عَوَاقِبَ تَأْدِيبِهِ وَرِيَاضَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يُؤَدَّبْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِحُسْنِهِ وَلَا بِبَهَائِهِ ، وَلَا يَحْمَدُ رَاكِبُهُ عَوَاقِبَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قِيْلَ صَاحِبُ هَذَا الْمُهْرِ قَوْلَ أَهْلِ النَّصِيحَةِ وَالْبَصِيرَةِ بِهِ ، عَلِمَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فَدَفَعَهُ إِلَى رَائِضٍ فَرَاضَهُ. ثُمَّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الرَّائِضُ إِلَّا عَالِمًا بِالرِّيَاضَةِ ، مَعَهُ صَبْرٌ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ عِلْمِ الرِّيَاضَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ بِالرِّيَاضَةِ وَنَصَحَهُ انْتَفَعَ بِهِ صَاحِبُهُ ، فَإِنْ كَانَ الرَّائِضُ لَا مَعْرِفَةَ مَعَهُ بِالرِّيَاضَةِ ، وَلَا عِلْمَ بَأَدَبِ الْخَيْلِ ، أَفْسَدَ هَذَا الْمُهْرَ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ ، وَلَمْ يَحْمَدْ رَاكِبُهُ عَوَاقِبَهُ ، وَإِنْ كَانَ الرَّائِضُ مَعَهُ مَعْرِفَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْأَدَبِ لِلْخَيْلِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَشَقَّةِ الرِّيَاضَةِ ، وَأَحَبَّ التَّرْفِيهَ لِنَفْسِهِ ، وَتَوَانَى عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ ، مِنَ النَّصِيحَةِ فِي الرِّيَاضَةِ ، أَفْسَدَ هَذَا الْمُهْرَ ، وَأَسَاءَ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَصْلُحْ لِلطَّلَبِ ، وَلَا لِلْهَرَبِ ، وَكَانَ لَهُ مَنْظَرٌ بِلَا مَخْبَرٌ ، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهُ هُوَ الرَّائِضُ لَهُ ، نَدِمَ عَلَى تَوَانِيهِ يَوْمَ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ ، حِينَ نَظَرَ إِلَى

⦗ص: 264⦘

غَيْرِهِ فِي وَقْتِ الطَّلَبِ ، قَدْ طَلَبَ فَأَدْرَكَ ، وَفِي وَقْتِ الْهَرَبِ قَدْ هَرَبَ فَسَلِمَ ، وَطَلَبَ فَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ ، وَهَرَبَ فَلَمْ يُسْلِمْ ، كُلُّ ذَلِكَ بِتَوَانِيهِ ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ مِنْهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يَلُومُهَا وَيُبِّخُهَا ، فَيَقُولُ: لِمَ فَرَّطْتِ؟ لِمَ قَصَّرْتِ؟ ، لَقَدْ عَادَ عَلَيَّ مِنْ قِلَّةِ صَبْرَى كُلُّ مَا أَكْرَهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. اعْقِلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عِلْمَ هَذَا الْمَثَلِ ، وَتَفَقَّهُوا بِهِ ، تُفْلِحُوا وَتَنْجَحُوا ، وَقَدْ قُلْتُ فِي هَذَا الْمَثَلِ أَبْيَاتًا تُشْبِهُ هَذَا الْمَثَلَ:

[البحر المتقارب]

أَرَى النَّفْسَ تَهْوَى مَا تُرِيدُ

وَفِي مُتَابَعَتِي لَهَا عَطَبٌ شَدِيدْ

تَقُولُ وَقَدْ أَلَحَّتْ فِي هَوَاهَا

مُرَادِي كُلُّ مَا أَهْوَى أُرِيدْ

فَأَمْنَحُهَا نُصْحِي لِكَيْ تَنْزَجِرَ

فَتَأْبَى وَرَبِّي عَلَى ذِي شَهِيدْ

فَإِنْ أَنَا تَابَعْتُهَا نَدِمْتُ

وَخِفْتُ الْعُقُوبَةَ يَوْمَ الْوَعِيدْ

فَإِنْ كُنْتَ لِلنَّفْسِ يَا ذَا مُحِبًّا

فَقَيَّدْ ، وَلَوْ بِقَيْدِ الْحَدِيدْ

وَرُضْهَا رِيَاضَةَ مُهْرٍ يُرَاضُ

بِالسَّوْطِ ، وَالسَّوْطُ سَوْطُ حَدِيدْ

يَمْنَعُهُ الرَّائِضُ مَا يَشْتَهِي

يُرِيدُ بِالْمَنِعِ صَلَاحًا وَفَهْمًا يُرِيدْ

يَحْمَدُهُ الرَّاكِبُ يَوْمَ اللُّقَى

وَالْخَيْلُ فِي الْحَرْبِ وَجَهْدٌ جَهِيدْ

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى مَا قُلْتُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثَالِ ، وَآثَارًا تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ ، فَأَنَا ذَاكِرُهَا؛ لِيَعْتَبِرَهَا مَنْ تَدَبَّرَهَا

ص: 261

13 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ الصَّنْدَلِيُّ ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي الْوَرْدِ ، يَقُولُ: قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: «النَّفْسُ كَنُفُوسِ الدَّوَابِّ ، وَالْإِيمَانُ قَائِدٌ ، وَالْعَمَلُ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسُ

⦗ص: 265⦘

حَرُونٌ ، فَإِنْ فَتَرَ قَائِدُهَا حَرَنَتْ عَلَى سَائِقِهَا ، وَإِنْ فَتَرَ سَائِقُهَا ضَلَّتْ عَلَى الطَّرِيقِ»

ص: 264

14 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ ، ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، ثنا أَبُو مُقَاتِلٍ يَعْنِي حَفْصَ بْنَ سَلْمٍ ، ثنا عَوْنُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ لَا تَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ إِلَّا بِالْعَقْلِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ قَائِدٌ ، وَالْعَمَلَ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ ، فَإِنْ فَتَرَ سَائِقُهَا ضَلَّتْ عَنِ الطَّرِيقِ ، فَلَمْ تَسْتَقِمْ لِصَاحِبِهَا ، وَإِنْ فَتَرَ قَائِدُهَا حَرَنَتْ ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ سَائِقُهَا ، فَإِذَا اجْتَمَعَ ذَلِكَ اسْتَقَامَتْ طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الدِّينُ إِلَّا بِالتَّطَوُّعِ وَالْكُرْهِ ، إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ كُلَّمَا كَرِهَ مِنَ الدِّينِ شَيْئًا تَرَكَهُ ، أَوْشَكَ أَنْ لَا يَبْقَيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ عز وجل ، فَلَا تَقْنَعْ لِنَفْسِكَ بِقَلِيلٍ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَلَا تَقْنَعْ لَهَا بِضَعِيفٍ مِنَ الْعَمَلِ ، وَلَا تُرَخِّصْ لَهَا فِي قَلِيلٍ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عز وجل ، وَلَا تَعِدْهَا بِشَيْءٍ مِنَ اسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا أُطْمِعَتْ طَمِعَتْ ، وَإِذَا أَيِسْتَهَا أَيِسَتْ ، وَإِذَا أَقْنَعْتَهَا قَنِعَتْ ، إِذَا أَرْخَيْتَ لَهَا طَغَتْ ، وَإِذَا زَجَرَتْهَا انْزَجَرَتْ ، وَإِذَا عَزَمْتَ عَلَيْهَا أَطَاعَتْ ، وَإِذَا فَوَّضْتَ إِلَيْهَا أَسَاءَتْ ، وَإِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ صَلَحَتْ ، وَإِذَا تَرَكْتَ الْأَمْرَ

⦗ص: 266⦘

إِلَيْهَا فَسَدَتْ ، فَاحْذَرْ نَفْسَكَ وَاتَّهِمْهَا عَلَى دِينِكَ ، وَأَنْزِلْهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا ، فَإِنَّ لَا حَاجَةَ لَكَ فِي بَاطِلِهَا ، وَلَا بُدَّ لَكَ مِنْ تُهْمَتِهَا ، وَلَا تَغْفَلْهَا عَنِ الزَّجْرِ فَتَفْسَدْ عَلَيْكَ ، وَلَا تَأْمَنْهَا فَتَغْلِبْكَ ، فَإِنَّهُ مَنْ قَوَّمَ نَفْسَهُ حَتَّى تَسْتَقِيمَ ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهَا ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَأَنْفُسُ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ تَغْلِبَهُ ، وَكَيْفَ لَا يَضْعُفُ عَنْ أَنْفَسِ النَّاسِ وَقَدْ ضَعُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّفْسِ ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ عَلَى نَفْسِهِ؟ وَكَيْفَ يُهْتَدَى بِمَنْ قَدْ أَضَلَّ نَفْسَهُ؟ وَكَيْفَ يُرْجَا مَنْ قَدْ حُرِمَ حَظَّ نَفْسِهِ؟ يَا بُنَيَّ ثَقِّفْهُمْ بِالْحِكْمَةِ وَاسْتَعِنْ بِمَا فِيهَا ، فَإِنْ وَافَقَكَ الْهَوَى أَوْ خَالَفَكَ ، فَاصْبِرْ نَفْسَكَ لِلْحَقِّ ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحِكَمِ ، فَإِنَّ الْحَكِيمَ يُذِلُّ نَفْسَهُ بِالْمَكَارِهِ حَتَّى تَعْتَرِفَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ الْأَحْمَقَ يُخَيِّرُ نَفْسَهُ فِي الْأَخْلَاقِ ، فَمَا أَحَبَّتْ مِنْهَا أَحَبَّ ، وَمَا كَرِهَتْ مِنْهَا كَرِهَ

⦗ص: 267⦘

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اعْقِلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ مَا تَسْمَعُونَ ، اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَكُونَ طَبِيبًا لِنَفْسِهِ ، لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ طَبِيبًا لِنَفْسِ غَيْرِهِ ، وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ ، لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَ غَيْرِهِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا لِلَّهِ عز وجل عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ نَفْسَهُ بِعِلْمِ ذَلِكَ ، كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ ، قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ تَعْلِيمَهُمْ مَا جَهِلُوهُ. مَا أَسْوَأَ حَالَ مَنْ تَوَانَى عَنْ تَأْدِيبِ نَفْسِهِ وَرِيَاضَتِهَا بِالْعِلْمِ وَمَا أَحْسَنَ حَالَ مَنْ عَنِّي بِتَأْدِيبِ نَفْسِهِ ، وَعَلِمَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ ، وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ ، وَاسْتَعَانَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا

ص: 265

15 -

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ ، ثنا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، ثنا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْقَسْمَلِيُّ ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ ، يَقُولُ:" يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ لَا ، تَأْتِيَ الْخَيْرَ إِلَّا عَلَى نَشَاطٍ ، فَإِنَّ نَفْسَكَ إِلَى السَّآمَةِ وَالْفُتُورِ وَالْكَلَلِ أَقْرَبُ ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الْعَجَّاجُ ، وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُتَوَقِّي ، وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الْمُتَشَدِّدُ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْجَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ عز وجل بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاللَّهِ مَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا رَبَّنَا ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَتَّى اسْتَجَابَ لَهُمْ "

ص: 267