المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} صورتُه استفهامٌ ومعناهُ الأمرُ، أي: أَسْلَموا، كقوله تعالى: - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ٣

[السمين الحلبي]

الفصل: قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} صورتُه استفهامٌ ومعناهُ الأمرُ، أي: أَسْلَموا، كقوله تعالى:

قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} : لَمَّا ضُمِّن هذا الموصولُ معنى الشرطِ دَخَلَتِ الفاءُ في خبرِه، وهو قولُه: فبشِّرْهُم، وهذا هو الصحيحُ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأُ ب «إنَّ» فجوازُ دخولِ الفاءِ باقٍ، لأن المعنى لم يتغيَّرْ، بل ازدادَ تأكيداً، وخَالَف الأخفشُ فمنعَ دخولَها مع نَسْخِة ب «إنَّ» ، والسماعُ حُجَّةٌ عليه كهذِه الآية، وكقوله:{إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] الآية، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لكنَّ» كقوله:

1‌

‌21

0 - فوالله ما فَارَقْتُكُمْ عن مَلالةٍ

ولكنَّ ما يُقْضَى فسوف يكون

وكذلك إذا نُسِخَ ب «أنَّ» المفتوحة كقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ

ص: 93

مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ [خُمُسَهُ] } [الأنفال: 41] ، أمَّا إذا نُسِخَ بليت ولعل وكان امتنعتِ الفاءُ عند الجميعِ لتغيُّرِ المعنى.

قوله: {وَيَقْتُلُونَ} قرأ حمزة «ويُقاتلِون» من المقاتلة، والباقون:«ويَقْتُلون» كالأولِ، فأمَّا قراءةُ حمزةَ فإنه غايَرَ فيها بين الفعلين وهي موافقةٌ لقراءةِ عبد الله:«وقاتِلوا» من المقاتلة، إلَاّ أنَّه أتى بصيغةِ الماضي، وحمزةُ يُحْتمل أن يكونَ المضارعُ في قراءتِه لحكاية الحالِ ومعناه المضيُّ. وأمَّا الباقون فقيل في قراءتهم: إنما كَرَّر الفعلَ لاختلافِ متعلَّقه، أو كُرِّر تأكيداً، وقيل: المرادُ بأحدِ القَتْلين تفويتُ الروحِ وبالآخرِ الإِهانةُ، فلذلك ذَكَر كلَّ واحدٍ على حِدَتِه، ولولا ذلك لكان التركيبُ «ويقتلون النبيين والذين يَأْمُرون» .

وقرأ الحسن: «ويُقَتِّلون» بالتشديد ومعناه التكثيرُ، وجاء هنا «بغيرِ حق» مُنَكَّراً، وفي البقرة {بِغَيْرِ الحق} [الآية: 61] مُعَرَّفاً قيل: لأنَّ الجملةَ هنا أُخْرِجَتْ مُخْرَجَ الشرطِ، وهو عامٌ لا يتخصَّصُ فلذلك ناسَبَ أن تُنَكَّر في سياقِ النفي ليعُمَّ، وأمَّا في البقرةِ فجاءَتْ الآيةُ في ناسٍ مَعْهودين مُشَخَّصِين بأعيانِهم، وكانُ الحقُّ الذي يُقْتَلُ به الإِنسانُ معروفاً عندهم فلم يُقْصَدْ هذا العمومُ الذي هنا، فَجِيءَ في كلَّ مكان بما يناسِبُه. قوله:«من الناس» : إمَّا بيانٌ وإمَّا للتبعيض، وكلاهما معلومٌ أنهم من الناسِ، فهو جارٍ مَجْرى التأكيدِ.

ص: 94

وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن بفتحِ الباء: «حَبَطَتْ» وهي لغةٌ معروفةٌ.

ص: 94

قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ} : في محلِّ نصب على الحالِ من «الذين أُوتوا» . وقولُه «ليحكُمَ» متعلقٌ بيُدْعَوْن. وقوله: «ثم يَتَوَّلى» عطفٌ على «يُدْعَوْن» و «منهم» صفةٌ لفريق.

وقوله: {وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} يجوزُ أن تكونَ صفةً معطوفةً على الصفةِ قبلها فتكونُ الواوُ عاطفةً، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستتر في «منهم» لوقوعِهِ صفةً فتكونُ الواوُ للحالِ، [ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من «فريق» وجاز ذلك وإنْ كان نكرةً لتخصيصِه بالوصفِ قبلَه] وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ مؤكدةً، لأَنَّ التولَّيَ والإِعراضَ بمعنى، ويجوزُ أن تكونَ مبيِِّنةً لاختلافِ متعلَّقِهما، قالوا: لأنَّ التولِّيَ عن الداعي، والإِعراضَ عَمَّا دُعِي إليه. وُيحْتمل أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً لا محلَّ لها أَخبْر عنهم بذلك.

وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري، «لِيُحْكَمَ» مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ الفاعلِ هو الظرفُ، أي: ليَقَعَ الحكمُ بينهم.

ص: 95

قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ} : يجوزُ في «ذلك» وجهان، أًصحُّهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ بعده خبرهُ، أي: ذلك التولِّي بسببِ هذه الأقوالِ الباطلةِ التي لا حقيقةَ لها. والثاني: أن «ذلك» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك، وهو قولُ الزجاج. وعلى هذا فقولُه:«بأنهم» متعلق بذلك المقدَّر، وهو الأمر ونحوه. وقال أبو البقاء:«فعلى هذا يكون قوله:» بأنهم «في موضعِ نصبٍ على الحال مِمَّا في» ذا «من معنى الإِشارة أي: ذلك الأمرُ مستحقاً بقولِهم» ، ثم قال:«وهذا ضعيفٌ» . قلت: بل لا يجوزُ البتة.

ص: 95

وجاء هنا «معدودات» بصيغة الجمع، وفي البقرة:{مَّعْدُودَةً} [الآية: 80] تفنُّناً في البلاغة، وذلك أنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوزُ أَنْ يعامَلَ معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ومعاملةَ جمعِ الإِناث أخرى، فيقال:«هذه جبالٌ راسيةٌ» وإن شئت: «راسيات» ، و «جِمال ماشية» وإن شئت:«ما شيات» . وخُصَّ الجمعُ بهذا الموضعِ لأنه مكانُ تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا، فأتى بلفظِ الجمعِ مبالغةً في زَجْرِهم وزجرِ مَنْ يعملُ بعملهم.

قوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} الغُرور: الخِداع، يقال منه: غَرَّه يَغِرُّه غُرورا فهو غارٌّ ومغرور، والغَرور بالفتح مثالُ مبالغة، كالضَّروب، والغِرُّ: الصغير، والغَريرة: الصغيرة لأنهما يَنْخَدِعَان والغِرَّةُ مأخوذة من هذا. يقال: «أخَذَه على غِرَّة» أي: تَغَفُّل وخداع، والغُرَّةُ: بياضٌ في الوجهِ، يقال منه: وَجْهٌ أَغرُّ ورجل [أغرُّ] وامرأة «غَرَّاء» ، والجمعُ القياسي: غُرٌّ، وغيرُ القياسي: غُرَّان. قال:

1211 -

ثيابُ بني عوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ

وأوجُهُهم عند المَشاهِدِ غُرَّانُ

والغُرَّةُ من كلِّ شيء: أَنْفَسُه، وفي الحديث:«وجَعَلَ في الجنين غُرَّةً عبداً أو أَمَة» وقيل: «الغُرَّةُ» الخِيارُ. وقال أبو عمرو بن العلاء في تفسير هذا الحديث: «إنه لا يكون إلا الأبيضُ من الرقيقِ» كأنَّه أَخَذَه من الغُرَّة وهي البياضُ في الوجه.

قوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: الذي كانوا يَفْتَرُونه.

ص: 96

قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا} : «كيف» منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: كيف يكونُ حالُهم؟ كذا قدَّره الحوفي، وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ الكونُ تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدِّمان في قوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] من التشبيه بالحال أو الظرف، وأن تكونَ الناقصةَ فتكونَ «كيف» خبرَها، وقَدَّر بعضُهم الفعلَ فقال:«كيف يَصْنعون» ف «كيف» على ما تقدَّم من الوجهين، ويجوز أَنْ تكونَ «كيف» خبراً مقدَّماً، والمبتدأُ محذوفٌ، تقديرُه: فكيف حالُهم؟ .

قوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} ظرفٌ مَحْضٌ من غيرِ تضمينِ شرطٍ، والعاملُ فيه العاملُ في «كيف» إنْ قلنا إنَّها منصوبةٌ بفعلٍ مقدَّرٍ كما تقدَّم تقريرُه، وإنْ قلنا: إنَّها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وهي منصوبَةٌ انتصابَ الظروفِ كانَ العاملُ في «إذا» الاستقرارَ العاملَ في «كيف» لأنها كالظرفِ. وإنْ قلنا: إنها اسمٌ غيرُ ظرفٍ، بل لمجردِ السؤالِ كان العاملُ فيها نفسَ المبتدأ الذي قَدَّرناه، أي: كيف حالُهم في وقت/ جَمْعِهم.

قوله: {لِيَوْمٍ} متعلِّقٌ بجمعناهم «أي: لقضاء يومٍ أو لجزاء يوم و {لَاّ رَيْبَ فِيهِ} في صفةٌ للظرف.

ص: 97

قوله تعالى: {اللهم} : اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة. فقال البصريون: الأصلُ يا الله، فحُذِفَ حرفُ النداء، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة. وهذا خاصٌّ بهذا الاسمِ الشريف فلا يجوزُ تعويضُ الميمِ من حرفِ النداء في غيره، واستدلُّوا على أنَّها عوضٌ من «يا» أنهم لم يَجْمَعوا بينهما فلا يُقال: يا اللهمَّ إلَاّ في ضرورةٍ كقوله:

ص: 97

1212 -

وما عليكِ أَنْ تقولي كلما

سَبَّحْتِ أو هَلَّلْتِ يا اللهم ما

أرْدُدْ علينَا شَيْخَنا مُسَلَّما

وقال الكوفيون: الميمُ المشددةُ بقية فعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «أُمَّنا بخير» أي: اقصُدْنا به، مِنْ قولك:«أمَّمْتُ زيداً» أي قصدتُه، ومنه:{ولا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] أي: قاصِديه، وعلى هذا فالجمعُ بينَ «يا» والميمِ ليس بضرورةٍ عندهم، إذ ليسَتْ عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهم البصريون هذا بأنه قد سُمع «اللهم أُمَّنَا بخير» وقال تعالى:{اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ} [الأنفال: 32] فقد صَرَّح بالمدعوِّ به، فلو كانَتِ الميمُ بقيةَ «أمَّنا» لفسد المعنى فبان بطلانُه. وهذا من الأسماء التي لَزِمَت النداءَ فلا يجوزُ أَنْ يقعَ في غيرِه، وقد وَقَع في ضرورةِ الشعرِ كونُه فاعِلاً. أنشد الفراء:

1213 -

كحَلْفَةٍ من أبي دِثار

يَسْمَعُها اللهُمَ الكُبارُ

فاستعملَه هنا فاعلاً بقوله: «يَسْمَعُها» ولا يجوزُ تخفيفُ ميمِه، وجَوَّزه الفراء وأنشد البيت:«يَسْمَعُها اللَهُمَ/ الكُبار» بتخفيفِ الميم؛ إذ لا يمكنُه استقامةُ الوزن إلَاّ بذلك. قال بعضُهم: «هذا خطأٌ فاحِشٌ، وذلك لأنَّ الميمَ بقيةُ» أُمَّنا «وهو رأيُ الفراء، فكيف يُجَوِّزُ الفراء؟ وأجاب عن البيت بأنَّ الروايةَ ليسَتْ كذلك، بل الروايةُ: يَسْمَعُها لاهُه الكُبارُ. قلت: وهذا [لا يُعارِضُ الروايةً الأخرى، فإنه كما صَحَّتْ هذه صَحَّتْ] تَيْكَ. وردَّ

ص: 98

الزجاج مذهبَ الفراء بأنه لو كان الأصل:» يا لله أُمَّنا «لَلُفِظَ به مَنْبَهَةً على الأصل كما قالوا في: وَيْلُمِّه: ويلٌ لأُمِه.

ومن أحكام هذه اللفظةِ أيضاً أنها كَثُرَ دَوْرُها حتى حُذِفَتْ منها الألف واللامُ في قولِهم:» لاهُمَّ «أي: اللهم، وقال الشاعر:

1214 -

لا هُمَّ إنَّ عامرَ بنَ جَهْمِ

أَحْرَم حَجَّاً في ثيابٍ دُسْمِ

وقال آخر:

1215 -

لا هُمَّ إنَّ جُرْهُما عِبادُكا

الناسُ طَرْفٌ وهمُ بِلادُكا

وفي هذه الكلمةِ أبحاثُ كثيرةٌ موضِعُها غيرُ هذا.

قوله: {مَالِكَ الملك} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من» اللهم «. الثاني: أنه عطفُ بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ، حُذِفت منه حرفُ النداء، أي: يا مالكَ المُلك، وهذا هو البدلُ في الحقيقةِ، إذ البدلُ على نيةِ تكرارِ العاملِ، إلَاّ أنَّ الفرقَ هذا ليسَ بتابعٍ. الرابع: أنه نعتٌ ل» اللهم «على الموضعِ فلذلك نُصِب، وهذا ليس مذهب سيبويه، فإنَّ سيبويه لا يُجِيزُ نَعْتَ هذه اللفظةِ لوجودِ الميم في آخِرها، لأنها أَخْرَجَتْها عن نظائرها من الأسماءِ، وأجازَ المبرد ذلك، واختارَه الزجاج قالا: لأنَّ الميمَ بدَلٌّ من» يا «

ص: 99

والمنادى مع» يا «لا يمتنعُ وَصْفُه فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإنَّ الاسمَ لم يتغيَّرْ عن حكمِه، ألا تَرَى إلى بقائه مبنياً على الضم كما كانَ مبنياً مع» يا «.

وانتصرَ الفارسي [لسيبويه] بأنه ليسَ في الأسماءِ الموصوفةِ شيءٌ على حَدِّ «اللهم» فإذا خالَفَ ما عليه الأسماءَ الموصوفَةَ ودخل في حَيِّزِ ما لا يُوصَفُ من الأصواتِ وَجَبَ ألَاّ يوصَفَ، والأسماءُ المناداةُ المفردةُ المعرفةُ القياسُ ألَاّ توصفَ كما ذهب إليه بعضُ الناسِ لأنها واقعةٌ موقعَ ما لا يوصف. وكما أنه لمَّا وَقَع موقعَ ما لا يُعْرَبُ لم يُعْرَبْ، كذلك لَمَّا وَقَعَ مَوْقِعَ ما لا يُوْصَفُ لم يُوْصَفْ. فأما قوله:

1216 -

يا حكمُ الوارثُ عن عبد الملكْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله:

1217 -

يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بنَ الجارودْ

سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدُودْ

و [قوله] :

1218 -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . يا عُمَرُ الجَوادا

ص: 100

فإنَّ الأولَ على «أنت» والثاني على نداءٍ ثانٍ، والثالثُ على إضمارِ «أعني» ، فلمَّا كان هذا الاسمُ الأصلُ فيه ألَاّ يوصَفَ لِمَا ذَكَرْنا كان «اللهم» أَوْلى ألَاّ يوصفَ، لأنه قبل ضمِّ الميمِ إليه واقعٌ موقعَ ما لا يوصفُ، فلَّما ضُمَّتْ إليه الميمُ صيغَ معَهَا صياغةً مخصوصةً، وصارَ حكمُه حكمَ الأصوات، وحكُم الأصواتِ ألَاّ توصَفَ نحو:«غاق» وهذا مع ما ضُمَّ إليه من الميمِ بمنزلةِ صوتٍ مضمومٍ إلى صوتٍ نحو: «حَيَّهَلَ» فحقُّه ألَاّ يوصفَ كما لا يُوصف «حيهل» . انتهى ما انتصر به أبو علي السيبويه وإن كان لا ينتهضُ مانعاً.

قوله: {تُؤْتِي} هذه الجملةُ وما عُطِفَ عليها يجوزُ أنْ تكونَ مستأنفةً مُبَيِّنَةً لقوله: {مَالِكَ الملك} ويجوزُ أن تكونَ حالاً من المنادى، وفي انتصابِ الحالِ عن المنادى خلافٌ، الصحيحُ جوازُه، لأنه مفعولٌ به، والحالُ كما تكونُ لبيانِ هيئةِ الفاعل تكونُ لبيان هيئةِ المفعولِ، ولذلك أَعْرب الحُذَّاقُ قولَ النابغةَ:

1219 -

يا دارمَيَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ

أَقْوَت وطالَ عليها سالِفُ الأبدِ

إن «بالعلياء» حالٌ من «دارمَيَّة» ، وكذلك «أَقْوت» .

والثالث من وجوه «تُؤتي» أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أي: أنت تُؤتي، فتكونُ الجلمةُ اسميةً، وحينئذ يجوز أن تكونَ مستأنفة وأن تكون حالية.

وقوله: {تَشَآءُ} أي: تشاء إيتاءه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة للعلم به/

ص: 101

قوله: {بِيَدِكَ الخير} [قيل: في الكلام حذفُ معطوف تقديره: والشر، فحذف كقوله] : {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبردَ، وكقوله:

1220 -

كأنَّ الحَصَا مِنْ خلفِها وأمامِها

إذا نَجَلْتهُ رِجْلُها خَذْفَ أَعْسَرا

أي: ويدُها.

وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف قال:» بيدِك الخيرُ «فذكرَ الخيرَ دونَ الشر؟ قلت: لأن الكلامِ إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرَتْه الكفرةُ، فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءَك على رغمٍ مِنْ أعدائك» انتهى.

وهذا جوابٌ حسنٌ جداً، ثم ذكر هو كلاماً آخرَ يُوافق مذهبَه لا حاجةَ لنا به، وقيل: هذا من آداب القرآن حيث لم يصرِّحْ إلا بما هو محبوبٌ لخَلْقِه، ونحوٌ منه قولُه:«والشرُّ ليس إليك» وقولُه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .

والنَّزْعُ: الجَذْبُ، يقال: نَزَعَهُ يَنْزِعُه نَزْعاً إذا جَذَبَه عنه، ويُعَبَّر به عن المَيْلِ، ومنه:«نَزَعَتْ نفسُه إلى كذا» كأنَّ جاذباً جَذَبَها، ويُعَبَّر به عن الإِزالَةِ، «نَزَعَ الله عنك الشَّر» أي: أَزاله، {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] أي: أَزاله، وكهذه الآيةِ فإنَّ المعنى: ويُزِيلُ المُلْكَ.

ص: 102

قوله تعالى: {تُولِجُ} : كقولِهِ: «تُؤْتِي» وقد تقدَّم ما فيه، ويقال: وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً كَعِدَةً ووَلْجاً كَوَعْدٍ، واتَّلَجَ يَتَّلِجُ اتِّلاجاً، والأصل:

ص: 102

اوْتَلَجَ يَوْتَلِجُ اوْتِلَاجاً، فَقُلِبَتْ الواوُ تاءً قبلَ تاءِ الافتعالِ نحو: اتَّعَدَ يَتَّعِدُ اتِّعاداً قال الشاعر:

1221 -

فإنَّ القوافِي تَتَّلِجْنَ مَوالِجاً

تضايَقُ عنها أَنْ تَوَلَّجَها الإِبَرْ

والوُلوجُ: الدخولُ، والإِيلاجُ: الإِدْخال، ومعنى الآية على ذلك. وقول مَنْ قال معناه: النقص فإنما أراد أنه من باب اللازم، لأنه تبارك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ، وزعم بعضُهم أن «تُولِج» بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيء.

قوله: {مِنَ الميت} اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتب: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكرٍ عن عاصم لفظ «المَيْت» من غير تاء تأنيث مخففاً في جميع القرآن، وسواءً وُصِفَ به الحيوانُ نحو:{تُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} أو الجمادُ نحو قوله تعالى: {إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} [فاطر: 9]{لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57] منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذكره إلا قولَه تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقولَه:{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [الآية: 17] في إبراهيم، مما لم يَمُتْ بعدُ فإن الكلَّ ثَقَّلوه، وكذلك لفظُ «الميتة» في قوله:{وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33] دونَ الميتةِ المذكورةِ مع الدمِ فإنَّ تَيْكَ لم يشددها إلا بعضُ قُرَّاء الشواد، وقد تقدَّم ذكرُها في

ص: 103

البقرة، وكذلك قولُهُ:{وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: 139] و {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] و {إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] فإنها مخففات عند الجميع. وثَقَّل نافع جميعَ ذلك، والأخوان وحفص عن عاصم وافقوا ابن كثير ومَنْ معه في الأنعام في قوله:{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الآية: 122] وفي الحجرات: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الآية: 12] ، و {الأرض الميتة} في يس، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأن كُلاًّ من القراءتين صحيحٌ، وهما بمعنًى، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المعتل بحذف إحدى يائيه فيقال: هَيْن وهيِّن ولَيْن وليِّن ومَيْت ومَيِّت، ومنه قولُ الشاعر فَجَمَعَ بين اللغتين:

1222 -

ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ

إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً

كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ

وزعم بعضهم أن «مَيْتاً» بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت، وأنَّ المشدَّد يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وهذا مردودٌ بما تقدَّم من قراءةِ الأخَوين وحفص، حيث خَفَّفوا في موضعٍ لا يمكِنُ أن يرادَ به الموتُ وهو قولُهُ:{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً} [الأنعام: 122] إذا المرادُ به الكفرُ مجازاً.

ص: 104

هذا بالنسبة إلى القُرَّاء، وإن شئت ضَبَطْتَه باعتبار لفظ «الميت» فقلت: هذا اللفظُ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثةُ أقسام: قسمٌ لا خلاف في تثقيله وهو ما لم يَمُتْ نحو {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} و {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} ، وقسمٌ لا خلافَ في تخفيفه وهو ما تقدم في قوله:{الميتة والدم} و {إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وقوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} وقوله {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّم تفصيلُهُ.

وقد تقدَّم أيضاً أن أصلَ ميِّت: مَيْوِت فأدغم، وأن في وزنِهِ خلافاً: هل وزنه فَيْعِل وهو مذهب البصريين أو فَعِيل وهو مذهب الكوفيين، وأصله: مَوِيت، قالوا: لأنَّ فَيْعِلاً مفقودٌ في الصحيح فالمعتلُّ أَوْلى ألَاّ يوجَد فيه. وأجاب البصريون عن قولهم بأنه لا نظير له في الصحيح بأنَّ قَضاة في جمع «قاض» لا نظير له في الصحيح. وتفسيرُ هذا الجواب أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المعتل يلزم أن يكون له نظيرٌ من الصحيح، ويدل على عدمِ التلازم:«قُضاة» جمع قاضٍ، وفي «قضاة» خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره. واعتراض البصريون عليهم بأنه لو كان وزنه فَعِيلاً لوجَبَ أن يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائره من ذواتِ الواو نحو: طَوِيل وعَوِيل وقَوِيم، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمخالَفَةِ نظائره. وهو ردٌّ حسنٌ.

قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي: ترزقه وأنت لم تحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه/. وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قوله تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] فَأَغْنَى عن إعادته.

واشتملت هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع، منها: التجنيس المماثل في

ص: 105