الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] على أحد القولين.
و {ما} في قوله تعالى: {مَا فَضَّلَ الله} : موصولةٌ أو نكرة موصوفة، والعائدُ الهاءُ في «به» . و «بعضَكم» مفعول ب «فَضَّل» و «على بعض» متعلق به.
قوله: {واسألوا} : الجمهورُ على إثباتِ الهمزة في الأمر من السؤال الموجَّه نحو المخاطب إذا تقدَّمه واو أو فاء نحو: {فَاسْأَلِ الذين} [يونس: 94]{واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء:
32]
. وابن كثير والكسائي بنَقْل حركةِ الهمزة إلى السين تخفيفاً لكثرةِ استعماله. فإنْ لم تتقدَّمه واو ولا فاء فالكل على النقل نحو: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 211]، وإن كان لغائب فالكل على الهمز نحو:{وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} [الممتحنة: 10] . ووهم ابن عطية فنقل اتفاقَ القراء على الهمز في نحو: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] وليس اتفاقهم في هذا بل في {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} كما تقدم. وتخفيفُ الهمز لغة الحجاز، ويحتمل أن يكون ذلك من لغةِ مَنْ يقول:«سال يسال» بألفٍ محضة، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة عند «سَلْ بني إسرائيل» فعليك بالالتفات إليه، وهذا إنما يتأتَّى في «سل» و «فسل» وأما «وسَلوا» فلا يتأتَّى فيه ذلك؛ لأنه كان ينبغي أن يُقال: سالوا كخَافوا، وقد يقال: إنه التزَم الحذفَ لكثرةِ الدَّوْر.
وهو يتعدَّى لاثنين، والجلالةَ مفعول أول، وفي الثاني قولان، أحدهما: أنه محذوف فقدَّره ابن عطية: «أمانيَّكم» ، وقدره غيره: شيئاً من فضله، فحذف الموصوف وأبقى صفته نحو:«أطعمته من اللحم» أي: شيئاً منه، و «مِنْ» تبعيضية. والثاني: أن «مِنْ» زائدة، والتقدير:{واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} ، وهذا إنما يتمشى على رأي الأخفش لفقدانِ الشرطين، وهما تنكيرُ المجرور وكونُ الكلام غيرَ موجَبٍ.
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} : فيه ستة أوجه، وذلك يستدعي مقدمة قبله، وهو أن «كل» لا بُدَّ لها من شيءٍ تُضاف إليه. واختلفوا في تقديره: قيل: تقديرُه: «ولكلِّ إنسانٍ» ، وقيل: لكل مال، وقيل: لكل قوم، فإنْ كان التقدير:«لكلِّ إنسان» ففيه ثلاثةُ أوجه، أحدها:«ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا مواليَ» أي: وُرَّاثاً مِمَّا ترك، ففي «ترك» ضمير عائد على «كل» وهنا تم الكلام، ويتعلق «مِمَّا ترك» ب «مواليَ» لِما فيه من معنى الوراثة، أو بفعل مقدَّرٍ أي: يَرِثون مما. «مواليَ» مفعول أول ل «جعل» بمعنى صَيَّر، و «لكل» جارٌ ومجرور هو المفعول الثاني قُدِّم على عامِلِه، ويرتفع «الوالدان» على خبر مبتدأ محذوف، أو بفعل مقدر أي: يَرِثون مما، كأنه قيل: ومَنْ الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون، والأصل: «وجعلنا لكلِّ ميتٍ وُرَّاثاً يَرِثون ممَّا تركه هم الوالدان والأقربون.
والثاني: أنَّ التقديرَ:» ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جَعَلنا وُرَّاثاً مما ترك ذلك الإِنسان «ثم بَيَّن الإِنسانَ المضافَ إليه» كل «بقوله: الوالدان، كأنه قيل: ومَنْ هو هذا الإِنسانُ الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. والإِعرابُ كما تقدَّم في الوجهِ قبله. وإنما الفرق بينهما أن الوالدين في الأول وارثون، وفي الثاني
مَوْروثون، وعلى هذين الوجهين فالكلام جملتان، ولا ضمير محذوف في» جعلنا «، و» موالي «مفعول أول، و» لكل «مفعول ثان.
الثالث: أن يكون التقدير: ولكل إنسان وارثٍ مِمَّنْ تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي: موروثين، فيُراد بالمَوْلى الموروثُ، ويرتفع» الوالدان «ب» ترك «، وتكون» ما «بمعنى» مَن «، والجار والمجرور صفةٌ للمضافِ إليه» كل «، والكلامُ على هذا جملةٌ واحدة، وفي هذا بُعْدٌ كبير.
الرابع: وإنْ كان التقدير:» ولكل قوم «فالمعنى: ولكل قوم جعلناهم مواليَ نصيبٌ مِمَّا تركه والدُهم وأقربوهم، ف» لكل «خبر مقدم، و» نصيب «مبتدأٌ مؤخر، و» جَعَلْناهم «صفةٌ لقوم، والضمير العائد عليهم مفعولُ» جَعَل «و» مواليَ «: إمَّا ثانٍ وإمَّا حالٌ، على أنها بمعنى» خلقنا، و «مِمَّا ترك» صفة للمبتدأ، ثم حُذِف المبتدأ وبقيت صفتُه، وحُذِف المضاف إليه «كل» وبقيت صفتُه أيضاً، وحُذِف العائد على الموصوفِ. ونظيرُه:«لكلِّ خلقه الله إنساناً مِنْ رزق الله» أي: لكل أحد خلقه الله إنساناً نصيبٌ من رزق الله.
الخامس: وإنْ كان التقدير: «ولكلِّ مال» فقالوا: يكون المعنى: ولكلِّ مال مِمَّا تركه الولدان والأقربون جعلنا مواليَ أي: وُرَّاثاً يَلُونه ويَحُوزونه، وجعلوا «لكل» متعلقةً ب «جعل» ، و «مما ترك» صفة ل «كل» ، الوالدان فاعلٌ ب «ترك» فيكون الكلام على هذا وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً، وهذا وإن كان حسناً إلا أن فيه الفصلَ بين الصفة والموصوف بجملةٍ عاملةٍ في الموصوف. قال الشيخ:«وهو نظير قولك:» بكلِّ رجلٍ مررت تميميٍ «وفي جواز ذلك نظر» . قلت: ولا يحتاج إلى نظر؛ لأنه قد وُجد الفصلُ بين الموصوف وصفته بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف، كقوله تعالى: {
قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات} [الأنعام: 14] ف «فاطر» صفةٌ ل «الله» ، وقد فُصِل بينهما ب «أتَّخِذُ» العامل في «غير» فهذا أولى.
السادس: أَنْ يكونَ «لكلِّ مال» مفعولاً ثانياً ل «جعل» على أنها تصييرية، و «مواليَ» مفعول أول، والإِعراب على ما تقدم. وهذا نهايةُ ما قيل في هذه الآية فلله الحمد.
قوله: {والذين عَاقَدَتْ} في مَحَلِّه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ والخبر قوله: «فآتوهم» . الثاني: أنه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل، وهذا أرجحُ من حيث إنَّ بعده طَلَباً. والثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على «الوالدان والأقربون» فإنْ أريد بالوالدين أنهم موروثون عادَ الضميرُ مِنْ «فآتوهم» على «موالي» ، وإنْ أُريد أنهم وارثون جازَ عَوْدُه على «مواليَ» وعلى الوالدين وما عُطف عليهم. الرابع: أنه منصوبٌ عطفاً على «مواليَ» ، قال أبو البقاء:«أي وَجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ وُرَّاثاً، وكان ذلك ونُسِخ» ، وَردَّ عليه الشيخ بفساد العطفِ، قال:«إذ يصير التقدير: ولكلِّ إنسان، أو لكل شيءٍ من المالِ جَعَلْنا وُرَّاثاً والذين عاقَدَتْ أَيْمانكم» ثم قال: «فإنْ جُعِل من عطفِ الجمل وحًُذِفَ المفعولُ الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي: جَعَلْنا وُرَّاثاً لكلِّ شيء من المالِ، أو لكلِّ إنسانٍ، وجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً، وفيه بعد ذلك تكلفٌ» . انتهى.
وقرأ الكوفيون: «عَقَدَتْ» والباقون: «عاقَدَتْ» بألف، ورُويَ عن
حمزة التشديد في «عَقَّدت» . والمفاعلة هنا ظاهرة لأن المراد المحالفةُ. والمفعولُ محذوفٌ على كلٍّ من القراءات، أي: عاقَدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ونسبةُ المعاقدةِ أو العقدِ إلى الأيمان مجازٌ، سواءً أُريد بالأيمان الجارحةُ أم القَسَم. وقيل: ثَمَّ مضاف محذوف أي: عقدت ذوو أيمانكم.
وقوله تعالى: {عَلَى النسآء} : متعلِّقٌ ب «قَوَّامون» وكذا «بما» ، والباء سببية، ويجوز أن تكونَ للحال، فتتعلَّق بمحذوف؛ لأنها حال من الضمير في «قَوَّامون» تقديرُه: مستحقين بتفضيل الله إياهم. و «ما» مصدريةٌ وقيل: بمعنى الذي. وهو ضعيفٌ لحَذْفِ العائد من غير مُسَوِّغ. والبعضُ الأولُ المرادُ به الرجال والبعضُ الثاني النساء، وعَدل عن الضميرين فلم يَقُلْ: بما فَضَّلهم الله عليهنَّ للإِبهام الذي في «بعض» . و «بما أنفقوا» متعلقٌ بما تعلَّق به الأولُ. و «ما» يجوز هنا أن تكونَ بمعنى الذي من غيرِ ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوغاً أي: وبما أنفقوه مِنْ أموالِهم.
و {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} متعلقٌ ب «أَنْفَقوا» ؛ أو بمحذوف على أنه حال من الضمير المحذوف. قوله: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ} «الصالحات» : مبتدأ وما بعده خبران له. و «للغيب» متعلق ب «حافظات» . وأل في «الغيب» عوضٌ من الضمير عند الكوفيين كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] أي: رأسي وقوله:
1577 -
لَمْياءُ في شَفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ
…
وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
أي: لِثاتِها:
والجمهورُ على رفع الجلالة من «حَفِظ اللهُ» . وفي «ما» على هذه
القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها مصدريةٌ والمعنى: بحِفْظِ الله إياهن أي: بتوفيقِه لهن أو بالوصية منه تعالى عليهن. والثاني: أن تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بالذي حفظه الله لهنَّ مِنْ مهورِ أزوجِهِنَّ والنفقة عليهن قاله الزجاج. والثالثُ: أن تكونَ «ما» نكرة موصوفةً، والعائد محذوف أيضاً كما تقرر في الموصولة بمعنى الذي.
وقرأ أبو جعفر بنصبِ الجلالة، وفي «ما» ثلاثةُ أوجهً أيضاً، أحدُها: أنها بمعنى الذي، والثاني: نكرة موصوفة، وفي «حَفِظ» ضميرٌ يعود على «ما» أي: بما حَفِظ من البر والطاعة. ولا بد من حذف مضافٍ تقديرُه: بما حفظ دينَ الله أو أَمْرَ الله، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يحفظها أحد. والثالث: أن تكونَ «ما» مصدريةً، والمعنى بما حفظن الله في امتثال أمره، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على جمعِ الإِناثِ لأنهن في معنى الجنس، كأنه قيل: مِمَّنْ صَلَحَ، فعادَ الضميرُ مفرداً بهذا الاعتبار، ورد الناسُ هذا الوجهَ بعدم مطابقة الضمير لما يعود عليه وهذا جوابه. وجعله ابن جني مثلَ قول الشاعر:
1578 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فإنَّ الحوادِثَ أودى بها
أي: أَوْدَيْنَ، وينبغي أن يقال: الأصلُ بما حَفِظَتِ اللهَ، والحوادث أَوْدَت؛ لأنها يجوز أن يعود الضمير على جمع الإِناث كعوده على الواحدة منهن، تقول:«النساءُ قامت» ، إلا أنَّه شَذَّ حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث.
وقرأ عبد الله وهي في مصحفه كذلك «فالصوالحُ قوانتٌ حوافظٌ» بالتكسير. قال ابن جني: «وهي أشبهُ بالمعنى لإِعطائها الكثرةَ، وهي المقصودةُ هنا» ، يعني أنَّ فواعل من جموع الكثرة، وجمعُ التصحيحِ جمعُ قلة ما لم يَقْتَرِنْ بالألفِ واللام. وظاهرُ عبارة أبي البقاء أنه للقلة وإن اقترن ب «أل» فإنه قال:«وجَمْعُ التصحيح لا يَدُلُّ على الكثرة بوضعه، وقد استُعْمل فيها كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] . وفيما قاله أبو الفتح وأبو البقاء نظرٌ، فإنَّ» الصالحات «في القراءة المشهورة معرفةٌ بأل، وقد تقدَّم أنه تكونُ للعموم، إلا أنَّ العمومَ المفيدَ للكثرةِ ليس مِنْ صيغةِ الجمع، بل من» أل «، وإذا ثبت أن الصالحات جمعُ كثرة لزم أن يكون» قانتات «و» حافظات «للكثرة لأنه خبرٌ عن الجميع، فيفيدُ الكثرة، ألا ترى أنك إذا قلت:» الرجال قائمون «لَزِم أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الرجال قائماً، ولا يجوز أن يكون بعضهم قاعداً، فإذاً القراءة الشهيرة وافية بالمعنى المقصود.
قوله: {فِي المضاجع} فيه وجهان، أحدهما: أن» في «على بابها من الظرفية متعلقة ب» اهجروهن «أي: اتركوا مضاجعتهن أي: النومَ معهن دونَ كلامِهن ومؤاكلتهن. والثاني: أنها للسبب قال أبو البقاء:» واهجروهُنَّ بسبب المضاجع كما تقول: «في هذه الجنايةِ عقوبةٌ» وجَعَل مكي هذا الوجه متعيناً، ومنع الأول، قال:«ليس» في المضاجع «ظرفاً للهجران، وإنما
هو سبب لهجران التخلف، ومعناه: فاهجروهن من أجلِ تخلُّفِهِنَّ عن المضاجعة معكم» . وفيه نظرٌ لا يَخْفى وكلامُ الواحدي يُفْهِم أَنه يجوز تعلُقه ب «نشوزهن» فإنه قال بعدما حكى عن ابن عباس كلاماً: «والمعنى على هذا: واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع» ، والكلامُ الذي حكاه عن ابن عباس هو قوله:«هذا كلُّه في المضجع إذا هي عَصَتْ أن تضطجع معه» ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي. وقَدَّر بعضُهم معطوفاً بعد قوله: «واللاتي تخافون» أي: واللاتي تخافون نشوزهن ونَشَزْنَ، كأنه يريد أن لا يجوز الإِقدامُ على الوعظ وما بعده بمجردِ الخوفِ. وقيل: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأن الخوفَ بمعنى اليقين، وقيل: غلبةُ الظنِّ في ذلك كافية/.
قوله: {فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} في نصب «سبيلا» وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، والثاني: أنه على إسقاط الخافض، وهذان الوجهان مبنيان على تفسير البغي هنا ما هو؟ فقيل: هو الظلم من قوله: {فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] ، فعلى هذا يكون لازماً، و «سبيلاً» منصوبٌ بإسقاط الخافض أي: بسبيل. وقيل: هو الطلب من قولهم: بَغَيْتُه أي طلبته. وفي «عليهن» وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «تبغوا» . والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «سبيلاً» لأنه في الأصل صفةُ النكرة قُدِّم عليها.
قوله تعالى: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} : فيه وجهان، أحدهما: أن الشقاق مضاف إلى «بين» ومعناها الظرفية، والأصل:«شقاقاً بينهما» ولكنه
اتُّسِعَ فيه فَأُضيف الحدث إلى ظرفه، وظرفيتهُ باقيةٌ نحو: سَرَّني مسير الليلة، ومنه {مَكْرُ الليل} [سبأ: 33] . والثاني: أنه خرج عن الظرفية، وبقي كسائر الأسماء كأنه أريد به المعاشرةُ والمصاحبة بين الزوجين، وإلى هذا مَيْلُ أبي البقاء قال:«والبَيْنُ هنا الوصلُ الكائنُ بين الزوجين» .
و {مِنْ أَهْلِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «ابعثوا» فهي لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ للنكرةِ أي: كائناً من أهلِه فهي للتبعيضِ.
قوله: {إِن يُرِيدَآ} الضميران في «يُريدا» و «بينهما» يجوز أن يعودا على الزوجين أي: إنْ يُرِدِ الزوجان إصلاحاً يُوَفِّق الله بين الزوجين، وأَنْ يعودا على الحكمين، وأَنْ يعودَ الأول على الحكمين، والثاني على الزوجين، وأن يكونَ بالعكس، وأُضْمِر الزوجان وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة ذِكْرِ الرجال والنساء عليهما. وجَعَل أبو البقاء الضمير في «بينهما» عائداً على الزوجين فقط، سواءً قيل بأن ضمير «يريدا» عائد على الحكمين أو الزوجين.
قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} : تقدَّم نظيرتها في البقرة، إلا أنَّ هنا قال:{وَبِذِي القربى} بإعادة الباء، وذلك لأنها في حَقِّ هذه الأمةِ فالاعتناءُ بها أكثرُ، وإعادةُ الباءِ يَدُلُّ على زيادة تأكيد فناسب ذلك هنا بخلافِ آية البقرة فإنها في حق بني إسرائيل. وقرأ ابن أبي عبلة «إحسانٌ» بالرفع، على أنه مبتدأٌ وخبرُه الجار قبله، والمرادُ بهذه الجملةِ الأمرُ بالإِحسان وإن كانت خبريةً كقوله:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83] .
قوله: {والجار ذِي القربى} الجمهورُ على خفضِ «الجار» والمراد به القريبُ النسب، وبالجارِ الجَنْبِ البعيدُ النسب. وعن ميمون بن مهران:«والجارِ ذي القربى أريد به الجار القريب» قال ابن عطية: «وهذا خطأٌ لأنه على تأويله جمع بين» أل «والإِضافة، إذ كان وجه الكلام» وجارِ ذي القربى «. ويمكنُ تصحيحُ كلام ابن مهران على أن» ذي القربى «بدلٌ من» الجار «على حذف مضاف أي: والجار جارِ ذي القربى كقوله:
1579 -
نَضَر اللهُ أعظماً دفنوها
…
بسجستانَ طلحةِ الطَّلَحاتِ
أي: أعظمَ طلحة، ومِنْ كلامهم:» لو يعلمون: العلمُ الكبيرةِ سنةٌ «أي: علم الكبيرة سنة، فحَذَف البدلَ لدلالةِ الكلام عليه.
وقرأ بعضُهم:» والجارَ ذا القربى «نصباً. وخَرَّجه الزمخشري على الاختصاص كقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] .
والجُنُب صفةٌ على فُعُل نحو: ناقة سُرُح، ويستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً ومؤنثاً نحو: رجال جُنُب، قال تعالى:{وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} [المائدة: 6] ،
وبعضُهم يُثَنِّيه ويجمعه، ومثله: شُلُل. وعن عاصم:» والجار الجَنْب «بفتح الجيم وسكون النون، وهو وصفٌ أيضاً بمعنى المجانب كقولهم: رجلٌ عَدْل وألفُ الجار عن واو لقولهم: تجاوروا وجاوَرْتُه، ويُجمع على جِيرة وجيران. والجَنابة: البُعْد. قال:
1580 -
فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابةٍ
…
فإني أمرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
لأنَّ الإِنسان يُتْركُ جانباً، ومنه:{واجنبني وَبَنِيَّ} [إبراهيم: 35] .
قوله: {بالجنب} يجوز في الباء وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى» في «. والثاني: أن تكونَ على بابها وهو الأولى، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بمحذوف لأنها حال من الصاحب. و {وَمَا مَلَكَتْ} يجوز أن يريد غيرَ العبيد والإِماء ب» ما «، حَمْلاً على الأنواع كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وأن يكونَ أُريدَ جميعُ ما ملكه الإِنسان من الحيواناتِ فاختلط العاقل بغيره فأتى ب» ما «.
قوله تعالى: {الذين يَبْخَلُونَ} : فيه سبعةُ أوجه، أحدها: أن يكون منصوباً بدلاً من «مَنْ» وجُمع حَمْلاً على المعنى. الثاني: أنه نصب على البدل من «مختالاً» وجُمع أيضاً لما تقدم. الثالث: أنه نصب على الذم. الرابع: أنه مبتدأ وفي خبره قولان، أحدهما: أنه محذوف، فقدَّره بعضهم:«مُبْغَضُون لدلالة {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ} ، وبعضهم:» معذبون «لقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً} ، وقَدَّره الزمخشري:» أَحِقَّاء بكل مَلامة «، وقَدَّره
أبو البقاء:» أولئك قرناؤهم الشيطان «. والثاني: أن قوله: {إِنَّ الله لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ} ويكون قوله: {والذين يُنْفِقُونَ} عطفاً على المبتدأ والعائد محذوف، والتقدير: الذين يبخلون، والذين يُنْفقون أموالَهم رئاءَ الناس، إن الله لا يظلمهم مثقال ذرة، أو مثقال ذرة لهم، وإليه ذهب الزجاج، وهذا متكلفٌ جداً لكثرةِ الفواصل، ولقلق المعنى أيضاً. الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هم الذين. السادس: أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في» فخوراً «، ذكره أبو البقاء، وهو قلقٌ. السابع: أنه صفةٌ ل» مَنْ «، كأنه قيل: لا يُحِبُّ المختال الفخورَ البخيلَ.
و» بالبخل «فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق ب» يأمرون «فالباءُ للتعدية على حَدِّ: أمرتك بكذا. والثاني: أنها باء الحالية، والمأمور محذوف، والتقدير: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون في المعنى كقول الشاعر:
1581 -
أجْمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضاعَ الحَزْمُ بينهما
…
تِيْهَ الملوكِ وأفعالَ المماليكِ
والمُخْتال: التيَّاه الجَهُول، والمُخْتال اسمُ فاعل من اختال يختال أي: تكبَّر وأُعجب بنفسه، وألفه عن ياءٍ لقولِهم: الخُيَلاء والمَخْيِلة، وسُمِع أيضاً: خَالَ الرجلُ يَخال خَوْلاً بالمعنى الأول، فيكون لهذا المعنى مادتان: خَيَل وخَوَل. والفخر: عَدُّ مناقبِ الإِنسان ومحاسنِه، وفخور صيغة مبالغة.
وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء وبها قرأ حمزة والكسائي،
ويضمهما، وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر، وبفتح الباء وسكون الخاء وبها قرأ قتادة وابن الزبير، وبضم الباء وسكون الخاء وبها قرأ جمهور الناس. والبُّخْل والبَخَل كالحُزْن والحَزَن والعُرْب والعَرَب. و {مِن فَضْلِهِ} يجوز أن يتعلَّق ب» آتاهم «أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» ما «أو مِنَ العائدِ عليها.
قوله: {والذين يُنْفِقُونَ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مرفوعاً عطفاً على «الذين يبخلون» والخبر {إِنَّ الله لَا يَظْلِمُ} ، وقد تقدم ذلك وضَعْفُه. الثاني: أنه مجرور عطفاً على «الكافرين» أي: أعتدنا للكافرين وللذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس، قاله ابن جرير. الثالث: أنه مبتدأُ وخبرهُ محذوف أي: مُعَذَّبون، أو: قرينهم الشيطان، فعلى الأوَّلين يكونُ من عطفِ المفردات، وعلى الثالث مِنْ عطفِ الجمل.
قوله: {رِئَآءَ الناس} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، وشروطُ النصب متوفرة. والثاني: أنه حالٌ من فاعل «ينفقون» يعني مصدراً واقعاً موقعَ الحال أي: مُرائين. والثالث: أنه حالٌ من نفسِ الموصولِ ذكره المهدوي. و «رئاءَ» مصدرٌ مضاف إلى المفعول.
قوله: {وَلَا يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستأنف. والثاني: أنه عطف على الصلة، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: أنه حالٌ من فاعل «ينفقون» . إلا أن هذين الوجهين الأخيرين أعني العطفَ على الصلة والحالية يمتنعان على الوجه المحكي عن المهدوي، وهو كونُ «رئاءَ» حالاً من نفس الموصول؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين أبعاضِ الصلة أو بين الصلةِ ومعمولِها بأجنبي وهو «رثاءَ» ؛ لأنه حالٌ من الموصولِ لا تعلُّقَ له بالصلة، بخلاف ما إذا جَعَلْناه مفعولاً له أو حالاً من فاعل «ينفقون» فإنه على الوجهين معمولٌ ل «ينفقون» فليس أجنبياً، فلم يُبالَ بالفصل به.
وفي جَعْلِ {وَلَا يُؤْمِنُونَ} حالاً نظرٌ من حيث/ إنَّ بعضَهم نصَّ على أن المضارع المنفيَّ ب «لا» كالمثبت في أنه لا تدخل عليه واو الحال، وهو محلُّ تَوَقُّف. وكررت «لا» في قوله:«ولا باليوم» وكذا الباء إشعاراً بأن الإِيمان منتفٍ عن كلِّ على حِدَتِه لو قلت: «لا أضرب زيداً وعمراً» احتمل نفيَ الضرب عن المجموع، ولا يلزم منه نفيُ الضربِ عن كلِّ واحدٍ على انفراده، واحتمل نفيَه عن كل واحد بانفرادِه، فإذا قلت:«ولا عمراً» تعيَّن هذا الثاني.
قوله: {فَسَآءَ قِرِيناً} في «ساء» هذه احتمالان أحدهما: أنها نُقِلَتْ إلى الذمِّ فجرت مجرى «بئس» ، ففيها ضميرٌ فاعل لها مفسَّرٌ بالنكرة بعده، وهي «قريناً» ، والمخصوصُ بالذم محذوف أي: فساء قريناً هو، وهو عائدٌ: إما على الشيطان وهو الظاهر، وإما على «من» وقد تقدَّم حكمُ نعم وبئس. والثاني: أنها على بابها فهي متعدية ومفعولُها محذوفٌ، و «قريناً» على هذا منصوبٌ على الحال أو على القطع، والتقديرُ: فساءَه أي: فساءَ الشيطانُ مُصَاحِبَه.
واحتجوا للوجه الأول، بأنه كان ينبغي أن يَحْذِف الفاءَ من «فساء» أو تقترن به «قد» ؛ لأنه حينئذ فعل متصرفٌ ماض، وما كان كذلك ووقع جواباً للشرط تجرَّدَ من الفاءِ أو اقترن ب «قد» ، هذا معنى كلام الشيخ. وفيه نظرٌ لقولِه تعالى:{وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ} [النمل: 90]{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] فما يُؤَوَّلُ به هذا ونحوُه يتأوَّل به هذا. ومِمَّنْ ذهب إلى أنَّ «قريناً» منصوبٌ عل الحالِ ابنُ عطية، ولكن يحتمل أن يكونَ قائلاً بأنَّ «ساء» متعديةٌ، وأن يكونَ قائلاً برأي الكوفيين، فإنهم ينصبون ما بعد نعم وبئس على الحال.
والقرينُ: المصاحِبُ الملازمُ، وهو فَعِيل بمعنى مُفاعل كالخليط والجليس. والقَرْنُ: الحبل، لأنه يُقْرن به بين البعيرين قال:
1582 -
وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، وهذا يَحْتَمِل أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ هنا أي: وأيُّ شيء عليهم في الإِيمان بالله، أو: وماذا عليهم من الوبالِ والعذابِ يومَ القيامة، ثم استأنَفَ بقولِه:{لَوْ آمَنُواْ} ويكونُ جوابُها محذوفاً أي: لحصلت لهم السعادةُ. ويُحْتمل أن يكونَ تمامُ الكلام ب «لو» وما بعدها، وذلك على جَعْلِ «لو» مصدريةً عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك أي: وماذا عليهم في الإِيمان، ولا جوابَ لها حينئذٍ. وأجازَ ابنُ عطية أن يكون {َمَاذَا عَلَيْهِمْ} جواباً ل «لو» فإنْ أرادَ مِنْ جهةِ المعنى فَمُسَلَّم، وإن أراد من جهةِ الصناعةِ ففاسدٌ؛ لأنَّ الجوابَ الصناعيَّ لا يتقدم عند البصريين، وأيضاً فالاستفهامُ لا يُجابُ به «لو» . وأجاز أبو البقاء في «لو» أن تكونَ بمعنى «إنْ» الشرطية كما جاء في قوله:{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] أي: وأيُّ شيءٍ عليهم إنْ آمنوا، ولا حاجةَ إلى ذلك.
قوله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي: لا يَظْلم أحداً ظلماً وزنَ ذرة، فحذف المفعول والمصدر وأقام نعتَه مُقامه. ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ
قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً قال: «تقديرُه: ظلماً قَدْرَ مثقالِ ذرة، فَحَذَفَ المصدرَ وصفته، وأقام المضافَ إليه مُقامهما» . ولا حاجة إلى ذلك لأنَّ المثقالَ نفسَه هو قَدْر من الأقدار، جُعِل معياراً لهذا القَدْر المخصوصِ. والثاني: أنه منصوب على أنه مفعول ثان ل «يَظْلم» والأول محذوف، كأنهم ضَمَّنوا «بظلم» معنى «بغضب» و «بنقص» فَعَدَّوه لاثنين، والأصل: إنَّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرة.
قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} حُذِفت النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وهذه قاعدة كلية، وهو أنه يجوز حذفُ نون «يكون» مجزومةً، بشرطِ ألَاّ يليَها ضميرٌ متصل نحو:«لَم يَكُنْه» وألَاّ تُحَرَّك النون لالتقاء الساكنين نحو: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} [البينة: 1] خلافاً ليونس، فإنه أجاز ذلك مستدلاً بقوله:
1583 -
فإنْ لم تَكُ المِرْآةُ أَبْدَتْ وَسامةً
…
فقد أَبْدَتِ المرآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ
وهذا عند سيبويه ضرورةٌ، وإنما حُذفت النون لغُنَّتِها وسكونها فأشبهت الواو، وهذا بخلاف سائر الأفعال نحو:«لم يَضِنَّ» و «لم يَهُنْ» لكثرة استعمال «كان» ، وكان ينبغي أن تعود الواو عند حَذْفِ هذه النون؛ لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين وقد زال ثانيهما وهو النونُ إلا أنها كالملفوظ بها.
وقرأ الجمهور «حسنةً» نصباً على خبر «كان» الناقصة، واسمها مستتر فيها
يعود على «مثقال» وإنما أَنَّث ضميرَه حملاً على المعنى؛ لأنه بمعنى: وإنْ تكن زنةَ ذرة حسنة، أو لإِضافته إلى مؤنث فاكتسب منه التأنيث. وقرأ ابن كثير ونافع «حسنة» رفعاً على أنها التامة أي: وإنْ تقع أو توجد حسنة.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: «يُضَعِّفْها» بالتضعيف، والباقون «يضاعفها» . قال أبو عبيدة:«ضاعفه» يقتضي مراراً كثيرة، و «ضَعَّفَ» يقتضي مرتين، وهذا عكسُ كلام العرب؛ لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدَّدْتَ دَلَّت البُنْية على التكثير، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة بحسَبِ ما يكون من العدد. وقال الفارسي:«هما لغتان بمعنًى، يدل عليه قولُه {نُضَعِّفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] {فَيُضَعِّفُهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وقد تقدم لنا الكلام على هذا بأبسطَ منه هنا. وقرأ ابن هرمز:» نضاعِفْها «بالنون، وقرىء» يُضْعِفْها «بالتخفيف مِنْ أضعفه مثل أكرم.
قوله: {مِن لَّدُنْهُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب» يُؤْتِ «و» من «للابتداء مجازاً. والثاني: يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من» أجراً «فإنه صفةُ نكرةٍ في الأصلِ قُدِّم عليها فانتصب حالاً.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ} : فيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها في
محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف أي: فكيف حالُهم أو صنعُهم؟ والعامل في «إذا» هو هذا المقدر. والثاني: أنها في محلِّ نصب بفعل محذوف أي: فيكف تكونون أو تَصْنَعون؟ ويَجْري فيها الوجهان: النصب على التشبيه بالحالِ كما هو مذهبُ سيبويه، أو على التشبيه بالظرفية كما هو مذهب الأخفش، وهو العاملُ في «إذا» أيضاً. والثالث: حكاه ابن عطية عن مكي أنها معمولةٌ ل «جئنا» ، وهذا غلط فاحش.
قوله: {مِن كُلِّ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «جئنا» . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شهيد» ، وذلك على رأي مَنْ يجوُّزُ تقديمَ حالِ المجرور بالحرف عليه، وقد تقدم تحريره. والمشهودُ عليه محذوفٌ أي: بشهيد على أمته/.
والمِثْقال: مِفْعَال من الثِّقَل وهو زِنَةُ كل شيء، والذَّرَّة: النملة الصغيرة، وقيل: رأسُها، وقيل: الخَرْدَلة، وقيل: جزء الهَباءَة، وعن ابن عباس: أنه أَدْخَلَ يده في التراب ثم نَفَخَها وقال: «كلُّ واحدةٍ منه ذرةٌ» والأولُ هو المشهور؛ لأن النملة يُضْرَبُ بها المثل في القلة، وأصغرُ ما تكون إذا مَرَّ عليها حَوْلٌ، قالوا لأنها حينئذ تَصْغُر جداً، قال حسان:
1584 -
لو يَدِبُّ الحَوْلِيُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ
…
رِ عليها لأنْدَبَتْها الكُلُومُ
وقال امرؤ القيس:
1585 -
مِن القاصِراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ
…
من الذَرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها في محل جر عطفاً على «جئنا» الأولى أي: فكيف تصنعون في وقت المجيئين؟ . والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، و «قد» مرادةٌ معها، والعامل فيها «جئنا» الأولى أي: جئنا من كل أمة بشهيد وقد جئنا، وفيه نظر. والثالث: أنها مستأنفة فلا محل لها. قال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، ويكون الماضي بمعنى المستقبل» . انتهى. وإنما احتاج إلى ذلك لأنَّ المجيءَ بعدُ لم يقع، فادَّعى ذلك، والله أعلم. و {على هؤلاء} متعلق ب «شهيداً» و «على» على بابها وقيل: هي بمعنى اللام وفيه بُعْدٌ، وأجيز أن تكون «على» متعلقةً بمحذوف على أنها حالٌ من «شهيداً» ، وفيه بُعْدٌ، و «شهيداً» حالٌ من الكاف في «بك» .
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه معمول ل «يود» أي: يَوَدُّ الذين كفروا يوم إذ جئنا. والثاني: أنه معمولٌ ل «شهيداً» قاله أبو البقاء، قال «وعلى هذا يكون» يود «صفةً ل» يوم «، والعائد محذوف تقديره: فيه، وقد ذكر ذلك في قوله {واتقوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي} [البقرة: 48] وفيما قاله نظرٌ لا يَخْفى.
والثالث: أن» يوم «مبني لإضافته إلى» إذ «قاله الحوفي، قال: لأنَّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤُه معه. و» إذ «هنا اسمٌ؛ لأنَّ الظروفَ
إذا أُضيف إليها خَرَجَتْ إلى معنى الاسمية من أجل تخصيصِ المضاف إليها كما تُخَصَّصُ الأسماءُ، مع استحقاقِها الجر، والجرُّ ليس من علامات الظروف» .
والتنوينُ في «إذ» تنوينُ عوضٍ على الصحيح، فقيل: عوض من الجملة الأولى في قوله {جِئْنَا مِن كُلِّ} أي: يومَ إذْ جِئْنا من كل أمة بشهيد، وجِئْنا بك على هؤلاء شهيداً، والرسولُ على هذا اسم جنس. وقيل: عوضٌ من الجملةِ الأخيرة، وهي «وجِئْنا بك» ، ويكون المراد بالرسول محمداً صلى الله عليه وسلم. وكان النظم «وعَصَوْك» ولكنْ أُبْرِزَ ظاهراً بصفةِ الرسالةِ تنويهاً بقَدْرِهِ وشَرَفِه.
وفي قوله: {وَعَصَوُاْ} ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها جملة معطوفة على «كفروا» فتكونُ صلةً، فيكونون جامعين بين كفرٍ ومعصية. وقيل: بل هي صلةٌ لموصول آخر فيكونون طائفتين. وقيل: هي في محل نصب على الحال من «كفروا» و «قد» مرادةٌ أي: وقد عصوا. وقرأ يحيى وأبو السمَّال: «وعَصَوا الرسول» بكسر الواو على الأصل.
قوله: {لَوْ تسوى} إنْ قيل: إنَّ «لو» على بابها كما هو قول الجمهور فمفعول «يود» محذوف أي: يود الذين كفروا تسويةَ الأرض [بهم]، ويدلُّ عليه:{لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} وجوابها حينئذ محذوف أي: لَسُرُّوا بذلك. وإنْ قيل: إنها مصدرية كانت هي وما بعدها في محل مفعول «يود» ولا جوابَ لها حينئذٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96] قال أبو البقاء «
وعَصَو الرسول» في موضع الحال، و «قد» مرادةٌ، وهي معترضةٌ بين «يود» وبين مفعولِها وهو «لو تُسَوَّى» ، و «لو» بمعنى «أَنْ» «المصدرية» . انتهى. وفي جَعْلِه الجملةَ الحاليةَ معترضةً بين المفعولِ وعاملِه نَظَرٌ لا يَخْفَى، لأنها مِنْ جملةِ متعلقات العامل الذي هو صلةٌ للموصولِ، وهذا نظير ما لو قلت:«ضَرَبَ الذين جاؤوا مُسْرِعين زيداً» فكما لا يقال إنَّ «مسرعين» معترض به فكذلك هذه الجملة.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم «تُسَوَّى» بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن الله تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى «على» ، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن الله يُسَوِّيهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم:«أدخلت القَلَنْسوة في رأسي» ، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً.
وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها «تَتَسَوَّى» بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداهما. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً.
قوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ} فيه ستةُ أوجهٍ، وذلك أنَّ هذه الواوَ تحتمل أن تكونَ للعطفِ وأن تكون للحالِ: فِإنْ كانت للعطفِ احتمل أن يكون من عطف المفردات، وأن يكونَ من عطف الجمل، إذا تقرر هذا فيجوز أن [يكون] {وَلَا يَكْتُمُونَ} عطفاً على مفعول «يود» أي: يَوَدُّون تسويةَ الأرض بهم وانتفاءَ
كتمان الحديث، و «لو» على هذا مصدريةٌ، ويَبْعُدُ جَعْلُها حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيرِه، ويكونُ «ولا يكتمون» عطفاً على مفعول «يَوَدُّ» المحذوفِ. فهذان وجهان على تقدير كونِه من عطفِ المفردات.
ويجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على جملة «يَوَدُّ» ، أَخْبَرَ تعالى عنهم بخبرين أحدُهما: الوَدادة لكذا، والثاني: أنهم لا يَقْدِرُون على الكتم في مواطنَ دونَ مواطنَ، و «لو» على هذا مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ «لو» حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ، ومفعولُ «يود» أيضاً محذوفٌ، ويكون «ولا يكتمون» عطفاً على «لو» وما في حَيِّزها، ويكونُ تعالى قد أخْبَرَ عنهم بثلاثِ جمل: الوَدادةِ وجملةِ الشرط ب «لو» وانتفاءِ الكتمان، فهذان أيضاً وجهان على تقدير كونه من عطف الجمل.
وإنْ كانَتْ للحالِ جاز أن تكونَ حالاً من الضمير في «بهم» ، والعامل فيها «تُسَوَّى» ، ويجوزُ في «لو» حينئذٍ أَنْ تكونَ مصدريةً وأن تكون امتناعيةً، والتقديرُ: يَوَدُّون تسويةَ الأرضِ بهم غيرَ كاتمين، أو: لو تُسَوَّى بهم غيرَ كاتمين لكان بغيتَهم، ويجوز أن تكون حالاً من {الذين كَفَرُواْ} ، والعاملُ فيها «يود» ، ويكونُ الحال قيداً في الوَدادةِ، و «لو» على هذا مصدريةٌ في محلِّ مفعولِ الودادة، والمعنى: يومئذ يود الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير كاتمين الله حديثاً، ويبعد أن تكون «لو» على هذا الوجه امتناعيةً للزوم الفصل بين الحال وعاملها بالجملة. و «يكتمون» يتعدى لاثنين، والظاهر أنه يصل إلى أحدهما بالحرف، والأصل: ولا يكتمون من الله حديثاً.
قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُواْ الصلاة} : فيه وجهان، أحدهما: أن في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: مواضعَ الصلاة، والمراد بمواضعها المساجدُ، ويؤيدُ هذا قولُه بعد ذلك:{إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} في أحد التأويلين. والثاني: أنه لا حذفَ، والنهي عن قربان نفسِ الصلاة في هذه الحالة.
قوله: {وَأَنْتُمْ سكارى} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تقربوا» . وقرأ الجمهورُ: «سُكارى» بضم السين وألف بعد الكاف، وفيه قولان، أحدهما: وهو الصحيح أنه جمع تكسير، نص عليه سيبويه، قال:«وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى، وذلك كقولِ بعضِهم» سُكارى «» وعُجالى «. والثاني: أنه اسمُ جمع، وزعم ابنُ الباذش أنه مذهب سيبويه، قال:» وهو القياسُ لأنه لم يأت من أبنيةِ الجمع شيءٌ على هذا الوزن «. وذكر السيرافي الخلافَ، ورجَّح كونه تكسيراً.
وقرأ الأعمش:» سُكْرى «بضم السين وسكون الكاف/، وتوجيهُها أنها صفةٌ على فُعْلى كحُبْلى، وقعت صفةً لجماعةٍ أي: وأنتم جماعةٌ سُكْرى. وحَكى جناح بن حبيش:» كُسْلى وكَسْلى «بضم الكاف وفتحها. قاله الزمخشري. وقرأ النخعي:» سَكْرى «بفتح السين وسكون الكاف، وهذه تحتمل وجهين، أحدُهما: ما تقدَّم في القراءة قبلها وهو أنها صفةٌ مفردةٌ على فَعْلى كامرأةٍ سَكْرى وُصِفَ بها الجماعة. والثاني: أنها جمعُ تكسيرٍ كجَرْحى ومَوْتى وهَلْكى، وإنما جَمْعُ سَكْران على» فَعْلى «حملاً على هذه؛ لِما فيه من الآفةِ اللاحقةِ للفعلِ، وقد تقدَّم لك شيء من هذا في قولهِ في البقرة عند قولِه: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [الآية: 85] ، وقُرىء» سَكارى «بفتحِ السينِ، والألفِ، وهذا جمعُ تكسيرِ نحو: نَدْمان ونَدامى وعَطْشان وعَطاشَى.
والسُّكْر لغةً: السَّدُّ، ومنه قيل لِما يَعْرِضُ للمرءِ مِنْ شرب المُسْكِر؛ لأنه
يَسُدُّ مابين المرء وعقله، وأكثرُ ما يقال السُّكْرُ لإِزالة العقلِ بالمُسكِر، وقد يُقال ذلك لإِزالتِه بغضبٍ ونحوِه من عشقٍ وغيرِه قال:
1586 -
سُكْرانِ سُكْرُ هوىً وسُكْرُ مُدامَةٍ
…
أنَّى يُفيقُ فتىً به سُكْرانِ
والسَّكْرُ بالفتح وسكون الكاف حَبْسُ الماءِ، وبكسرِ السينِ نفسُ الموضعِ المسدودِ، وأمَّا» السَّكَر «بفتحهما فما يُسْكَرُ به من المشروبِ، ومنه {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] ، وقيل: السُّكْر بضمِّ السين وسكون الكاف السَّدُّ أي: الحاجزُ بين الشيئين قال:
1587 -
فما زِلْنَا على السُّكْرِ
…
نُداوي السُّكْرِ بالسُّكْرِ
والحاصلُ: أنَّ أصلَ المادة الدلالةُ على الانسدادِ، ومنه» سَكِرتْ عينُ البازي «إذا خالَطَها نومٌ، و» سَكِر النهرُ «إذا لم يَجْرِ، وسَكَرْتُه أنا.
قوله: {حتى تَعْلَمُواْ} » حتى «جارةٌ بمعنى» إلى «، فهي متعلقة بفعلِ النهي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «، وتقدَّم تحقيقُه.
و «ما» يجوزُ فيها ثلاثة أوجه: أن تكونَ بمعنى الذي، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على هذين القولين محذوفٌ أي: يقولونه، أو مصدريةً فلا حَذْفَ إلا على رأيِ ابنِ السراجِ ومَنْ تَبِعه.
قوله: {وَلَا جُنُباً} نصبٌ على أنه معطوفٌ على الحال قبله، وهو قوله {وَأَنْتُمْ سكارى} ، عَطَفَ المفردَ على الجملةِ لَمَّا كانَتْ في تأويلِه، وأعادَ معها «
لا» تنبيهاً على أنَّ النهيَ عن قربانِ الصلاةِ مع كل واحدة من هذين الحالين على انفرادِهما، فالنهيُ عنها مع اجتماعِ الحالين آكدُ وأَوْلى.
والجُنُبُ: مشتقٌ من الجَنابة وهي البُعْد قال:
1588 -
فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابَةٍ
…
فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
وسُمِّي الرجلُ جُنُباً لبُعْده عن الطهارة، أو لأنه ضاجَعَ بجَنْبه ومَسَّ به، والمشهورُ أنه يُستعمل بلفظٍ واحد للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ومنه الآيةُ الكريمة. قال الزمخشري:«لجَرَيانه مَجَرى المصدر الذي هو الإِجْناب» ومن العرب مَنْ يُثَنِّيه فيقول: «جُنُبان» ويجمعه سَلامَةً فيقول: «جُنُبون» وتكسيراً فيقول: «أَجْناب» ، ومثله في ذلك:«شُلُل» وتقدَّم تحقيق ذلك.
قوله: {إِلَاّ عَابِرِي} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على الحال، فهو استثناء مفرغ، والعامل فيها فعل النهي، والتقدير: لا تقربوا الصلاةَ في حال الجنابة، إلا في حال السفر أو عبور المسجد، على حَسَب القولين. وقال الزمخشري:{إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناءٌ من عامة أحوالِ المخاطبين، وانتصابُه على الحالِ. فإنْ قلت: كيف جَمَع بين هذه الحالِ والحالِ التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ الجنابة إلا ومعكم حالٌ أخرى تُعْذَرُون فيها وهي حال السفر، وعبُور السبيلِ عبارةٌ عنه «. والثاني: أنه منصوب على أنه صفةٌ لقوله:» جُنُباً «وصفَة ب» إلا «بمعنى» غير «فظهر الإِعرابُ فيما بعدها، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ عند قولِه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ
آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] كأنه قيل: لا تَقْرَبوها جُنُباً غيرَ عابري سبيل أي: جُنُباً مُقِيمين غيرَ مَعْذُورين، وهذا معنى واضح على تفسيرِ العبورِ بالسفر. وأمَّا مَنْ قَدَّر مواضع الصلاة فالمعنى عنده: لاتقْربوا المساجدَ جُنُباً إلا مجتازين لكونهِ لا ممرَّ سواه، أو غيرِ ذلك بحَسَبِ الخلاف.
والعُبور: الجوازُ، ومنه:» ناقةٌ عُبْرُ الهَواجِر «قال:
1589 -
عَيْرانَةٌ سُبُحُ اليدينِ شِمِلَّةٌ
…
عُبْرُ الهواجرِ كالهِزَفِّ الخاضِبِ
وقوله: {حتى تَغْتَسِلُواْ} كقوله: {حتى تَعْلَمُواْ} فهي متعلقةٌ بفعلِ النهي. قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبر» كان «وهو» مَرْضَى «وكذلك قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} {أَوْ لَامَسْتُمُ} وفيه دليلٌ على مجيء خبرِ» كان «فعلاً ماضياً من غيرِ» قد «، وادِّعاء حذفِها تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه، كذا استدلَّ به الشيخ، ولا دليلَ فيه لاحتمال أن يكونَ» أو جاء «عطفاً على» كنتم «تقديرُه:» وإنْ جاء أحد «، وإليه ذهب أبو البقاء وهو أظهرُ من الأول، والله أعلم.
و «منكم» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «أحد» ، فيتعلق بمحذوف و «من الغائط» متعلِّقٌ ب «جاء» ، فهو مفعولُه. وقرأ الجمهور:«الغائِط» بزنة فاعِل، وهو المكانُ المطمئِنُّ من الأرض، ثم عَبَّر به عن نفسِ الحدثِ كنايةً للاستحياء مِنْ ذكره، وفَرَّقت العرب بين الفعلين منه، فقالت: «غاطَ في
الأرض» أي: ذهب وأبعد إلى مكانٍ لا يراه فيه إلا مَنْ وَقَفَ عليه، وتغوَّط: إذا أَحْدَثَ. وقرأ ابن مسعود: «من الغَيْطِ» وفيه قولان، أحدُهما: وإليه ذهب ابن جني أنه مخفف من فَيْعِل كهَيْن ومَيْت في: هيّن وميّت. والثاني أنه مصدرٌ على وزن فَعْلَ قالوا: غاط يغيط غَيْطاً، وغاط يَغُوط غَوطاً. وقال أبو البقاء:«هو مصدرُ» يَغُوط «فكان القياس» غَوْطاً «فَقَلبَ الواوَ ياءً وإنْ سَكَنَتْ وانفتَحَ ما قبلَها لِخفَّتها» كأنه لم يَطَّلع على أنَّ فيه لغةً أخرى من ذواتِ الياء حتى ادَّعى ذلك. وقرأ الأخوان هنا وفي المائدة: «لَمَسْتم» والباقون: «لامستم» فقيل: «فاعِل» بمعنى فَعَل، وقيل: لمَس: جامَع، ولامسَ لما دون الجماع.
قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ} الفاءُ عَطَفَتْ ما بعدهَا على الشرط. وقال أبو البقاء: «على جاء» ، لأنه جَعَل «جاء» عطفاً على «كنتم» فهو شرط عنده. والفاءُ في قوله «فتيمَّموا» هي جوابُ الشرط، والضمير في «تَيَمَّموا» لكلِّ مَنْ تقدَّم من مريضٍ ومسافرٍ ومتغوِّط وملامس أو لامس، وفيه تغليبٌ للخطابِ على الغَيْبَةِ، وذلك أنه تقدَّم غيبة في قوله:{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وخطابُ في «كنتم» و «لمستم» فَغَلَّب الخطابَ في قوله «كنتم» وما بعده عليه. وما أحسنَ ما أتى هنا بالغيبة لأنه كنايةٌ عما يُسْتحيا منه فلم يخاطِبْهم به، وهذا من محاسِنِ الكلام، ونحُوه:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . و «وَجَد» هنا بمعنى «لَقِي» فتعدَّت لوَاحد.
و «صعيداً» مفعولٌ به لقوله: «تَيمَّموا» أي: اقصِدوا، وقيل: هو على إسقاطِ حرف أي: بصعيدٍ، وليس بشيء لعدمِ اقتياسِه. و «بوجوهكم» متعلِّقٌ ب «امْسَحوا» وهذه الباءُ تحتمل أَنْ تكون زائدة، وبه قال أبو البقاء، ويحتمل أن تكون متعدية، لأن سيبويه حكى:«مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه» فيكون من باب: نصحته ونصحت له. وحُذِفَ الممسوحُ به، وقد ظهَر في آية المائدة في قوله «منه» فَحُمِلَ عليه هذا.
قوله تعالى: {مِّنَ الكتاب} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل «نصيباً» فهو في محل نصب، والثاني: أنه متعلق ب «أوتوا» أي: أوتوا من الكتابِ نصيباً. و «يَشْتَرُون» حالٌ وفي صاحبِها وجهان، أحدُهما: أنه واو «أوتوا» ، والثاني: أنه الموصولُ، وهي على هذا حالٌ مقدرة، والمشترى به محذوف أي: بالهُدى، كما صَرَّح به في مواضعَ. و «يريدون» عطفٌ على «يشترون» . وقرأ النخعي:«ويُريدون أَنْ تَضُلُّوا» بتاءِ الخطاب، والمعنى: وتريدون أيها المؤمنون أن تَدَّعوا الصوابَ/. وقرأ الحسن: «أن تُضِلُّوا» من «أضلَّ» . وقرىء: «أَنْ تُضَلُّوا السبيل» بضم التاء وفتح الضاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. و «السبيل» مفعول به كقولك: «أخطأ الطريق» ، وليس بظرفٍ، وقيل: يتعدَّى ب «عَنْ» تقول: «ضَلَلْتُ السبيل، وعن السبيل» .
قوله تعالى: {وكفى بالله} : قد تقدَّم الكلامُ على هذا التركيبِ أولَ السورةِ فَأَغْنى عن إعادتِه، وكذلك تقدَّم الكلامُ في المنصوبِ بعده.
قوله تعالى: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ} : فيه سبعةُ أوجهٍ أحدها: أَنْ يكونَ «مِن الذين» خبراً مقدماً، و «يُحَرِّفون» جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً لموصوف محذوف هو مبتدأ، تقديره:«من الذين هادوا قومٌ يُحَرِّفون» وحَذَفُ الموصوفِ بعد «مِنْ» التبعيضية جائزٌ، وإنْ كانت الصفةُ فعلاً كقولهم:«منا ظَعَن ومنا أَقام» أي: فريق ظعن، وهذا هو مذهبُ سيبويه والفارسي، ومثلُه:
1590 -
وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما
…
أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي: فمنهما تارةً أموت فيها.
الثاني: قول الفراء وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً، ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره:«من الذين هادوا مَنْ يحرفون» ، ويكون قد حَمَل على المعنى في «يُحَرِّفون» ، قال الفراء: «ومثله:
1591 -
فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له
…
وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ
قال:» تقديرُه: «ومنهم مَنْ دمعُه سابقٌ له» . والبصريون لا يجيزون
حَذْفَ الموصولِ لأنه جزءُ كلمة، وهذا عندهم مؤولٌ على حذف موصوف كما تقدم، وتأويلُهم أَوْلَى لعطفِ النكرة عليه وهو «آخر» ، و «أخرى» في البيتِ قبلَه، فيكونُ في ذلك دلالةٌ على المحذوفِ، والتقديرُ: فمنهم عاشقٌ سابقٌ دمعُه له وآخرُ.
الثالث: أنَّ «مِن الذين» خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين هادوا، و «يُحَرِّفون» على هذا حالٌ من ضمير «هادوا» . وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله «نصيراً» .
الرابع: أن يكونَ «من الذين» حالاً من فاعل «يريدون» قاله أبو البقاء، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في «أوتوا» ومن «الذين» أعني في قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ} قال: «لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض» . قلت: وهذه مسألةٌ خلافٍ، من النحويين مَنْ مَنَع، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح.
الخامس: أنَّ «مِن الذين» بيانٌ للموصولِ في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ} لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ، قال الزمخشري، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي:«والله أعلم» إلى آخره، وإذا كان الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً.
السادس: أنه بيانٌ لأعدائِكم، وما بينهما اعتراض أيضاً وقد عُرِف ما فيه.
السابع: أنه متعلِّقٌ ب «نصيراً» ، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «من» . قال تعالى:
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77]{فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] على أحدِ تأويلين: إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي: منعناه من القوم، وكذلك: وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا، وإمَّا على جَعْلِ «مِنْ» بِمعنى «على» والأولُ مذهبُ البصريين. فإذا جعلنا «من الذين» بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق؟؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف، ويَدُلُّ على ذلك أنهم قالوا في «سُقيْاً لك» : إنَّ «لك» متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ.
وقال أبو البقاء: «وقيل: هو حالٌ من» أعدائكم «أي: واللهُ أعلمُ بأعدائِكم كائنين من الذين هادوا، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال» . فقوله هذا يُعْطي أنه بيانٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لكن لا على ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان.
وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ «يُحَرِّفون» : إمَّا لا محلَّ له، أو له محلُّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم. وقرأ أبو رجاء والنخعي:«الكلام» وقرىء «الكِلْم» بكسر الكاف وسكون اللام جمع «كِلْمة» مخففة من كَلِمة، ومعانيهما متقاربةٌ.
و {عَن مَّوَاضِعِهِ} متعلِّقٌ ب «يُحَرِّفون» ، وذكَّر الضمير في «مواضعه» حَمْلاً على «الكَلِم» لأنها جنسٌ.
وجاء هنا: {عَن مَّوَاضِعِهِ} ، وفي المائدة:{مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [الآية: 41] قال الزمخشري: «أمَّا» عن مواضِعه «فَعَلى ما فَسَّرناه من إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم من إبدالِ غيره مكانَه، وأما {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قَمِنٌ بأن يكونَ فيها، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارِّه، والمعنيان متقاربان» . قال الشيخ: «وقد يقال إنهما سِيَّان، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [الآية: 41] ؛ لأنَّ قولَه» عَنْ مَّواضِعِه «يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له، وحُذِف في ثاني المائدة» عن مواضِعِه «لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن مواضعِه، فالأصلُ: يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها، فَحَذَف هنا البعدية وهناك» عنها «توسُّعاً في العبارةِ، وكانت البداءةُ هنا بقوله» عن مواضعِه «لأنه أخصرُ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على» عن «وعلى المواضعِ وإشارةٌ إلى البعدِيَّة» .
وقوله: {وَيَقُولُونَ} عطفٌ على «يُحَرِّفون» ، وقد تقدَّم، وما بعده في محلِّ نصبٍ به. قوله:{غَيْرَ مُسْمَعٍ} في نصبه وجهان أحدهما: أنه حالٌ، والثاني: أنه مفعولٌ به، والمعنى: اسمَعْ غيرَ مُسْمَع كلاماً ترضاه، فسمعُك عنه نابٍ. قال الزمخشري بعد حكايتِه نصبَه على الحالِ وذكرِه المعنى المتقدم:«ويجوز على هذا أن يكون» غيرَ مُسْمَع «مفعول» اسمَعْ «أي: اسْمَعْ كلاماً غيرَ مسمعٍ إياك لأنَّ أذنك لا تَعِيه نُبُوّاً عنه» . وهذا الكلامُ ذو وجهين: يعني أنَّه يحتمل المدح والذم فبإرادة المدحِ تقدِّرُ: «غيرَ مُسْمِعٍ مكروهاً» ، فيكونُ قد حذف المفعولَ الثاني، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، وبإرادة الذمِّ تقدِّر:«غير مُسْمع خيراً» ، وحُذِفَ المفعولُ الثاني أيضاً.
وقال أبو البقاء: «وقيل: أرادوا غيرَ مسموعٍ منك» ، وهذا القولُ نَقَله ابن عطية عن الطبري، وقال:«إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد» . قال ابن عطية: «ولا يساعِدُه التصريف» يعني أن العرب لا تقول: «أَسْمَعْتُك» بمعنى قَبْلْتُ منك، وإنما تقول:«أسْمَعْتُه» بمعنى سَبَبْتُه، و «سمعت منه» بمعنى: قَبِلْتُ منه، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً، وتقدَّم القولُ في {رَاعِنَا} [الآية: 104] في البقرة.
قوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً} فيهما وجهان أحدهما: أنهما مفعولٌ من أجله ناصبُهما: «ويقولون» . والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال أي: لاوينَ وطاعنِين. وأصل لَيّاً: «لَوْيٌ» من لوى يَلْوي، فأُدْغِمَتِ الواوُ في الياء
بعد قَلْبِها ياءً فهو مثل «طَيّ» مصدر طَوَى يَطْوي. و «بألسنتِهم» و «في الدين» متعلقان بالمصدرين قبلهما. و {لَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ} تقدَّم الكلامُ على ذلك في البقرة بأشبعِ قول.
قوله: {لَكَانَ خَيْراً} فيه قولان، أظهرُهما: أنه بمعنى أفعل، ويكونُ المفضَّلُ عيه محذوفاً، أي: لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ. والثاني: أنه لا تفضيلَ فيه، بل يكون بمعنى جيد وفاضل، فلا حَذْفَ حينئذ، والباءُ في «بكفرِهم» للسببية.
قوله: {إِلَاّ قَلِيلاً} فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنَّه منصوبٌ على الاستثناءِ من «لَعَنَهم» أي: لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم، فإنهم آمنوا فلم يَلْعَنْهم. والثاني: أنه مستثنى من الضميرِ في «فلا يؤمنون» والمرادُ بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه. ولم يستحسن مكي هذين الوجهين: أمَّا الأول قال: لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يستثنى منهم أحدٌ. وأمَّا الثاني: فلأنَّ الوجهَ الرفعُ على البدلِ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ «. والثالث: أنه صفةٌ/ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إلا إيماناً قليلاً، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وعَبَّر الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة، كقوله:
1592 -
قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ: «وما ذكراه من أن التقليلَ يُراد به العَدَمُ صحيح، غير أنَّ هذا التركيبَ الاستثنائي يأباه، فإذا قلت:» لم أقم إلا قليلاً «فالمعنى: انتفاء القيام إلا القليلَ فيوجد منك، لا أنه دال على انتفاء القيامِ البتةَ بخلافَ» قَلَّما يقولُ ذلك أحدٌ إلا زيدٌ «و» قَلَّ رجلٌ يفعل ذلك «فإنه يَحْتمل القليل المقابل للتكثير، ويحتمل النفيَ المحض، أمَّا أنك تنفي ثم توجب، ثم تريد بالإِيجاب بعد النفي نفياً فلا، لأنه يلزم أَنْ تجيءَ» إلَاّ «وما بعدها لغواً من غيرِ فائدة، لأنَّ انتفاءَ القيام قد فُهِم من قولك:» لم أقم «فأيُّ فائدةٍ في استثناء مثبت يراد به انتفاءٌ مفهومٌ من الجملة السابقة؟ وأيضاً فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعدَ» إلا «موافقاً لِما قبلها في المعنى، والاستثناءُ يلزم أن يكون ما بعد» إلَاّ «مخالفاً لِما قبلها فيه» .
قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} : متعلقٌ بالأمر في قوله: «آمنوا» ، و «نَطْمِس» يكون متعدياً، ومنه هذه الآية، ومثلُها:{فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} [المرسلات: 8] لبنائِه للمفعولِ من غيرِ حرفِ جرٍّ، ويكون لازماً يقال:«طمس المطرُ الأعلامَ» و «طَمَست الأعلامُ» ، قال كعب:
1593 -
من كلِّ نَضَّاخةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ
…
عُرْضَتُها طامِسُ الأعلامِ مجهولُ
وقرأ الجمهور: «نَطْمِس» بكسر الميم، وأبو رجاء بضمها، وهما لغتان
في المضارع. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: عيونَ وجوهٍ، ويُقَوِّيه أنَّ الطمسَ للأعينِ، قال تعالى:{لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] .
وقوله: {على أَدْبَارِهَآ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلق ب «نَرُدَّها» . والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف؛ لأنه حال من المفعول في «نردَّها» قاله أبو البقاء، وليس بواضح.
قوله: «أو نلعَنهم» عطفٌ على «نَطْمِسَ» ، والضميرُ في «نلعنهم» يعودُ على الوجوه، «على حَذْفِ مضافٍ إليه» ، أي: وجوه قوم، أو على أن يُرادَ بهم الوُجَهاءُ والرؤساءُ، أو يعودُ على الذين أوتوا الكتاب، ويكون ذلك التفاتاً من خطابٍ إلى غيبة، وفيه استدعاؤُهم للإِيمان، حيث لم يواجِهْهم باللعنةِ بعد أَنْ شَرَّفهم بكونهم من أهل الكتاب. وقوله:{وَكَانَ أَمْرُ الله} : أمرٌ واحدٌ أُريد به الأمورُ. وقيل: هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به أي: مأمورُه أي: ما أَوْجَدَه كائنٌ لا محالةَ.
وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} : مستأنفٌ، وليس عطفاً على «يَغْفر» الأولِ لفسادِ المعنى. والفاعل في «يشاء» ضميرٌ عائد على الله تعالى، ويُفْهَمُ مِنْ كلامِ الزمخشري أنه ضميرٌ عائدٌ على «مَنْ» في «لِمَنْ» ؛ المعنى عنده: إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ الشرك لمن لا يشاء أن يغفر له، بكونهِ مات على الشرك غيرَ تائبٍ منه، ويغفرُ ما دونَ ذلك لمَنْ يشاءُ أَنْ يغفرَ له بكونهِ مات تائباً من الشرك «، و» لِمَنْ يشاء «متعلقٌ ب» يغفر «.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} : تقدَّم مثلُه، و «بل» إضرابٌ عن
تزكيتهم أنفسَهم. وقَدَّر: أبو البقاء قبل هذا الإِضراب جملةً قال: «تقديره: أخطؤوا بل الله يزكي من يشاء.
وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ} يجوز أن يكونَ حالاً مِمَّا تقدَّم، وأَنْ يكونَ مستأنفاً، والضميرُ في» يُظْلمون «يجوز أن يعودَ على مَنْ يشاء» أي: لا يُنْقِصُ من تزكيتهم شيئاً، وإنما جَمَع الضميرَ حَمْلاً على معنى «مَنْ» ، وأن يعودَ على الذين يُزَكُّون، وأن يعود على القبيلين: مَنْ زكَّى نفسَه ومَنْ زكَّاه الله، فذاك لا يُنْقِصُ من عقابِه شيئاً، وهذا لا يُنْقِصُ من ثوابِه شيئاً. والأولُ أظهرُ؛ لأن «مَنْ» أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ «بل» إضرابٌ منقطعٌ ما بعدها عَمَّا قبلها. وقال أبو البقاء:«ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً أي: مَنْ زَكَّى نفسَه، ومَنْ زَكَّاه الله» انتهى، فَجَعَلَ عود الضميرِ على الفريقين بناءً على وجهِ الاستئنافِ، وهذا غيرُ لازمٍ، بل يجوزُ عَوْدُه عليهما والجملةُ حاليةٌ.
و {فَتِيلاً} مفعولُ ثانٍ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، كما تقدَّم تقريرُه في {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] . والفتيل: خيط رقيق في شِقِّ النَّواة، يُضْرب به المَثَلُ في القلة، وقيل: هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفَّيْك من الوسخ حين تفتلهما، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقد ضَرَبَتِ العربُ المثلَ في القلة التافهة بأربعة أشياء اجتمعن في النواة، وهي: الفتيل والنقير وهو النُّقْرة التي في ظَهر النَّواة والقِطْمير وهو القشر الرقيق فوقها وهذه الثلاثةُ واردةٌ في الكتابِ العزيز، والثُّفْروق وهو ما بين النواة والقِمْع الذي يكون في رأس التمرة كالعِلاقة بينهما.