الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات} : «جعل» هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق، هكذا عبارة النحويين، ظاهرها أنهما مترادفان. إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال: «الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و [في] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً، أو نقلِه من كان إلى مكان، ومن ذلك:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:
1
89] {وَجَعَلَ الظلمات والنور} لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار» انتهى. وقال الطبري: «جَعَل» هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا، فكأنه:«وجعل إظلامَها وإنارتَها» وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان. ولكونها عند
أبي القاسم ليست بمعنى «خلق» فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ. وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد.
ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر، ومثَّل بقوله:{وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] فقال: «وما ذَكَره من أنَّ» جَعَل «بمعنى صَيَّر في قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة} لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى» قلت: ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل، بل المراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ بيان في موضعه. وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري. وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار، والظلمات كثيرة، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ، وظلُّه هو الظلمة، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقُدِّمت «الظلمات» في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور.
قوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} «ثم» هذه ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من
الدلالات. وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله «الحمد لله» وإما على قوله: «خلق السماوات» قال الزمخشري: «فإن قلت: فما معنى» ثم «؟ قلت: استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم» وقال ابن عطية: «ثم» دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر، وآياتِه قد سَطَعَتْ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره «.
قال الشيخ: «ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح، لأنها لم تُوضَعْ لذلك، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من» ثم «، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل» ثم «هنا للمُهْلة في الزمان، وهي عاطفةٌ جملةً اسمية على جملة اسمية» . يعني على «الحمد لله» . ثم اعترض على الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على «خَلَق» بأنَّ «خَلَق» صلة، فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول. ثم قال:«إلا أن يكون على رأيِ مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم: أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري» وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله «. قلت: الزمخشري إنما يريد العطف ب» ثم «لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن الرابط، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ؟
قوله: {بِرَبِّهِمْ} يجوز أن يتعلَّق ب» كفروا «فيكون» يُعْدِلون «بمعنى يَميلون عنه، من العُدول، ولا مفعولَ له حينئذ، ويجوز أن يتعلَّ ب» يعدِلون «
وقُدِّم للفواصل، وفي الباء حينئذ احتمالان، أحدهما: ان تكون بمعنى عن، و» يَعْدِلون «من العُدول وأيضاً، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره. والثاني: أنها للتعدية، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين، أي: ثم الذين كفروا يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفاً.
قوله تعالى: {مِّن طِينٍ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلِّقٌ ب «خَلَقكم» و «مِنْ» لابتداء الغاية. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ خلاف: ذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ، وأن الإِنسان مخلوقٌ من الطين، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته» . وقيل: إن النطفة أصلها الطين. وقال غالب المفسرين: ثمَّ محذوفٌ أي: خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقصته المشهورة. وقال امرؤ القيس:
185 -
9- إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي
…
وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي
قالوا: أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه.
قوله: {ثُمَّ قضى} إن كان «قضى» بمعنى أظهر ف «ثُمَّ» للترتيب الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى كَتَب وقَدَّر فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنها صفة ذات، وذلك مُقَدَّم على خَلْقِنا.
قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} مبتدأ وخبر، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان، أحدهما: وَصْفُه، والثاني: عَطْفُه، ومجرَّدُ العطف من المسوغات، قال:
186 -
0-
عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي
…
فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
والتنكير في الأجلين للإِبهام. وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله:
186 -
1- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له
…
بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ
ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً؛ قال الزمخشري: لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ «المعرفةَ، قال الشيخ:» وهذا الذي ذكره من كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا يتعيَّن، لجواز أن يكون المسوِّغُ التفصيلَ، ثم أنشد البيت: إذا ما بكى «قلت: الزمخشري لم يقلْ إنه تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات.
قال الزمخشري:» فإن قلت: الكلامُ السائرُ أن يُقال: «عندي ثوب جيِّدٌ، ولي عبدٌ كيِّس» فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأيُّ أجل مسمَّى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم «. قال الشيخ: وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجل مسمى عنده كانت» أيّ «صفةً لموصوف محذوف تقديره: وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا كانت» أيَّاً «ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت: مررت بأيِّ رجل، تريد برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ» قلت: ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر، بل قال: معناه كيت وكيت، فكيف يَلزمه أن يكون ذلك
الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر؟ على أنه قد وَرَدَ حذفُ موصوفِ «أيّ» وإبقاؤها كقوله:
186 -
2- إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ
…
عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ يقطعُ
قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} قد تقدَّم الكلامُ على «ثم» هذه. وتمترون تَفْتَعُون من المِرْيَة، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله:{مِنَ الممترين} [الآية: 147] وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات، أعني قوله:«خَلَقَكم ثم أنتم تَمْتَرون» يعني أن قوله {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} غائبٌ، فالتفت عنه إلى قوله:«خلقكم ثم أنتم» . ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يختصُّ به الكفار، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك. وأجاب بأنه إنما قصد الكفار تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم. قال:«وإنما جَعَلْتُه من الالتفات؛ لأن هذا الخطابَ وهو {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} لايمكن أن يندرجَ فيه مَنْ اصطفاه الله بالنبوَّة والإِيمان» .
وأصل مُسَمَّى: مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً، ثم الياء ألفاً. وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ.
قوله تعالى: {وَهُوَ الله فِي السموات} : في هذه الآية أقوالٌ كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً؛ وذلك أن «هو» فيه قولان، أحدهما: هو ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني: أنه ضمير القصة، قال أبو عليّ. قال الشيخ: «وإنما فَرَّ إلى هذا
لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير: الله الله، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى لا نسبةَ بينهما إسنادية» قلت: الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك الصفاتِ الجليلة وهي خَلْقُ السماوات والأرض، وجَعْلُ الظلمات والنور، وخَلْق الناس من طين إلى آخرها، فصار في الإِخبار بذلك، فائدةٌ من غير شك، فعلى قول الجمهور يكون «هو» مبتدأ و «الله» خبره، و «في السماوات» متعلق بنفس الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل: وهو المعبود في السماوات، وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري.
قال الزمخشري: «في السماوات» متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: وهو المعبود فيها - ومنه: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} [الزخرف: 84]- أو هو المعروف بالإِلهيَّة والمتوحِّد بالإِلهيَّة فيها، أو هو الذي يقال له «الله» لا يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره «. قلت: إنما قال:» أو هو المعروف أو هو الذي يقال له الله «لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف: هل هو مشتق أو لا؟ فإن كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به، وإن كان ليس بمشتق: فإمَّا أن يكون منقولاً أو مرتجلاً، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة، فقوله» المعبود «راجع للاشتقاق، وقوله» المعروف «راجع لكونه عَلَماً منقولاً، وقوله» الذي يقال له اللهُ «راجع إلى كونه مرتجلاً، وكأنه رحمه الله استشعر بالاعتراض المذكور. والاعتراضُ منقولٌ عن الفارسي، قال:» وإذا جَعَلْتَ الظرف
متعلقاً باسم الله جاز عندي على قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإِله، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل «فكأن الزمخشري - والله أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبَسَطه. إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه لا يتعلَّق» في «باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغييرِ الذي دخله كالعلمَ، ولهذا قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] . فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً.
وقال الزجاجُ: «هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك» أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب «. قال ابن عطية:» هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى. وإيضاحُه أنه أراد أن يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذه الصفات، فَجَمع هذه كلِّها في قوله:{وَهُوَ الله} أي: الذي له هذه كلُّها في السماوات وفي الأرض، كأنه قال: وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السماوت والأرض، كما تقول:«زيد السلطان في الشام والعراق» فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً، فإذ كان مقصدُ قولك:[زيد] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً، فأقمت السلطنة مُقامَ هذه الصفات، كذلك في الآية الكريمة أقمت «الله» مقام تلك الصفات «.
قال الشيخ:» ما ذكره الزجاج، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث
المعنى، لكن صناعة النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن «في السماوات» متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه من تلك المعاني، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها، بل العمل من حيث اللفظُ لواحدٍ منها، وإن كان «في السماوات» متعلقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ «الله» لِما تضمَّنه من معنى الألوهية، وإن كان عَلَماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله:
186 -
3- أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ
…
ف «بعضَ» نصب بالعلمَ لأنه في معنى أنا المشهور «. قلت: قوله» لو صُرِّح بها لم تعمل «ممنوعٌ، بل تعمل ويكون عملُها على سبيل التنازع، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً، ولما ذكر الشيخ ما قاله الزمخشري قال:» فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها «يعني أنه استنصر به فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية.
الوجه الثاني: أن» في السموات «معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ لفَهْمِ المعنى، فقدَّرها بعضهم، وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو الله المدبِّر، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها، فمنها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] أي المعانِدون، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه.
الوجه الثالث: قال النحاس:» وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام
تمَّ عند قوله: {وَهُوَ الله} والمجرور متعلِّقٌ بمفعول «يَعْلَم» وهو «سِرَّكم وجَهْرَكم» [أي:] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما «وهذا ضعيفٌ جداً لِما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة، ويتعلق الظرف بنفس» يعلم «وهذا ظاهر، و» يعلم «على هذين الوجهين مستأنف.
الوجه الخامس: أن الكلام تمَّ عند قوله {فِي السموات} فيتعلق {فِي السموات} باسم الله، على ما تقدَّم، ويتعلَّق «في الأرض» ب «يعلم» . وهو قول الطبري قال أبو البقاء «وهو ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي الأرض، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، فلا تتخصَّص إحدى الصفتين بأحد الظرفين» وهو رَدٌّ جميل.
الوجه السادس: أنَّ «في السماوات» متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من «سرَّكم» ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها.
السابع: أنه متعلق ب «يَكْسِبون» وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ لأن «ما» موصولة اسمية أو حرفية، وأيضاً فالمخاطبون كيف يكسِبون في السماوات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله «في السماوات» وعلَّق «في الأرض» ب «يَكْسِبون» لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ.
الثامن: أن «الله» خبر أول، و «في السماوات» خبر ثان. قال الزمخشري: «على معنى: أنَّه الله وأنه في السماوات وفي الأرض، وعلى
معنى: أنه عالمٌ بما فيها لا يخفى عليه شيء، كأنه ذاته فيهما» قال الشيخ:«وهذا ضعيفٌ لأن المجرور ب» في «لا يدل على كون مقيد، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق» وهذا سهلُ الجواب لتقدُّمِه مراراً.
التاسع: أن يكون «هو» مبتدأ و «الله» بدل منه، و «يَعْلَمُ» خبره، و «في السماوات» على ما تقدَّم.
العاشر: أن يكون «الله» بدلاً أيضاً، و «في السماوات» الخبرُ بالمعنى الذي قال الزمخشري.
الحادي عشر: أن «هو» ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء، والجلالة مبتدأ ثان، وخبرها «في السماوات» بالمعنى المتقدَّم أو «يَعْلَمُ» والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرةً له.
وأمَّا «يَعْلَمُ» فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً، فلا محلَّ [له] ، أو في محل رفع خبراً، أو في محل نصب على الحال، و «سِرَّكم وجهرَكم» : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل. وأجاز أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم، واستدل بقوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] ولا دليلَ [فيه] لأنه يجوز أن تكون «ما» مصدرية. و «ما» في «ما تكسبون» يحتمل أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي.
فيه «مِنْ» لوجود الشرطين فلا تَعَلُّق لها. و «من آيات» صفة ل «آية» فهي في محل جرٍّ على اللفظ أو رفعٍ على الموضع. ومعنى «مِنْ» التبعيض.
قوله: {إِلَاّ كَانُواْ} هذه الجملةُ الكونيَّةُ في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في «تأتيهم» والثاني: أنه «من آية» وذلك لتخصُّصِها بالوصف. «وتأتيهم» يحتمل أن يكون ماضيَ المعنى لقوله «كانوا» ويحتمل أن يكون «كانوا» مستقبلَ المعنى لقوله «تأتيهمْ» . واعلمْ أن الفعل الماضي لا يقع بعد «إلا» إلا بأحد شرطين: إمَّا وقوعِه بعد فعلٍ كهذه الآية الكريمة، أو يقترن ب «قد» نحو: ما زيدٌ إلا قد قام «. وهنا التفات من خطابه بقوله:» خلقكم «إلى آخره إلى الغَيْبة بقوله:» وما تأتيهم «.
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ} : الفاء هنا للتعقيب، يعني أن الإِعراض عن الآيات أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري:«فقد كذَّبوا» مردودٌ على كلامٍ محذوف، كأنه قيل: إن كانوا مُعْرِضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظمُ آيةٍ وأكبرها «. قال الشيخ:» ولا ضرورةَ تدعو إلى هذا مع انتظام الكلام «، وقوله» بالحق «من إقامة الظاهر مُقام المضمر، إذ الأصل: فقد كذَّبوا بها، أي بالآية. والأنباء جمع نبأ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُه من الأخبار. وفي الكلام حذف، أي يأتيهم مضمون الأنباء. و» به «متعلق بخبر» كانوا «و» لمَّا «حرفُ وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه» كَذَّبوا «.
» وما يجوز أن تكون موصولة اسمية، والضمير في «به» عائدٌ عليها،
ويجوز أن تكونَ مصدرية، قال ابن عطية، أي أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضمير لا يعود عليها لأنها حرفية، بل يعود على الحق، وعند الأخفش يعود عليها لأنها اسم عنده.
قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} : يجوز في «كم» أن تكون استفهامية وخبرية، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره. والرؤيةُ هنا عِلْميَّة، ويَضْعُفُ كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْميَّةً ف «كم» وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد.
و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها «أَهْلَكْنا» و «مِنْ قَرْنٍ» على هذا تمييز لها، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا، أي إهلاكاً، و «مِنْ قرن» على هذا صفةٌ لمفعول «أَهْلَكْنا» أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع، و «مِنْ» تبعيضية، والأُولى لابتداء الغاية. وقال الحوفي:«من» الثانية بدل من «مِنْ» الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ، ويجوز أن تكون «كم» عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف. قال أبو البقاء:«تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها» وجعل أبو البقاء على هذا الوجه «من قرن» هو المفعول به و «مِنْ» مزيدة
فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة. إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت: [ «كم أزماناً ضربتُ رجلاً، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً» لم يكن مدلولُ رجل رجالاً] ، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس [موضعَ زيادة «مِنْ» لأنها لا تُزاد في الاستفهام] ، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ. [انتهى. والجواب عمَّا قاله: لا نُسَلِّم ذلك] .
قوله: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} في موضع جر صفةً ل «قَرْن» وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه، قاله أبو البقاء والحوفي، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ «مِنْ قرن» تمييز ل «كم» ف «كم» هي المحدِّث عنها بالإِهلاك، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتمكين لا ما بعدها، إذ «من قرن» يجري مجرى التبيين، ولم يُحَدَّثْ عنه. وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر، قال كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: مكَّنَّاهم، وجعله هو الظاهر. وفي نظر، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق.
والفرق بين قوله {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} [وقوله] : «ما لم نمكِّن لكم» أنَّ «
مَكَّنه في كذا» : أَثْبته فيها، ومنه:
{وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه، {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 84] {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57]، ومثله:«أَرَضَ له» أي جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري. وأمَّا الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال:«وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثرُ تعديتُه باللام: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 21] {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف: 84] {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] . وقال أبو عبيدة:» مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم: لغتان فصيحتان نحو: نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له «. [قلت: وبهذا قال] أبو علي والجرجاني.
قوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} في» ما «هذه خمسة أوجه، أحدها: أن تكون موصولةً بمعنى الذي، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: التمكين الذي لم نمكِّن لكم، والعائد محذوف أي: الذي لم نمكَّنه لكم. الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمصدر محذوف تقديره: تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم، ذكرهما الحوفي. وردَّ الشيخ الأول بأن» ما «بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن
كان» الذي «يقع صفة لها، ولو قلت:» ضربت الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ «تريد الضربَ الذي ضربه زيد، لم يجز، فإن قلت:» الضرب الذي ضربه زيد «جاز. ورَدَّ الثاني بأن» ما «النكرة التي تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها، لو قلت:» قمت ما وضربت ما «وأنت تعني: قمت قياماً ما، وضرباً ما، لم يجز» .
الثالث: أن تكون مفعولاً بها ل «مَكَّن» على المعنى، لأن معنى مكَّنَّاهم: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ:«هذا تضمينٌ، والتضمين لا ينقاس» الرابع: أن تكون «ما» مصدريةً، والزمان محذوف، أي: مدةَ ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مدة انتفاء التمكين لكم. الخامس: أن تكون نكرةً موصوفة بالجملة المنفيَّة بعدها والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنْه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير:«وهذا أقرب إلى الصواب» قلت: ولو قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول: مكنَّاهم تمكيناً لم نمكنه لكم.
والضمير في «يروا» قيل: عائد على المستهزئين، والخطاب في «لكم» راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية:«والمخاطبة في» لكم «هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة، كأنه قيل:
ما لم نمكِّن يا أهل هذا العصر لكم، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال: يا محمد قل لهم: ألم يروا كم أهلكنا الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال - فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب» .
انتهى ومثاله: «قلت لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه» .
والقَرْن: لفظ يقع على معانٍ كثيرة، فالقرن: الأمَّة من الناس، سمُّوا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام:«خيرُ القرون قرني» . وقال الشاعر:
186 -
4- أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ
…
أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ
وقال قس بن ساعدة:
186 -
5- في الذاهبين الأوَّلِي
…
نَ من القرون لنا بصائِرْ
وقيل: أصله الارتفاع، ومنه قَرْنُ الثور وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السنِّ. وقيل: لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه، ومنه القَرَن للحَبْلِ يُجمع به بين البعيرين، ويُطلق على المدة من الزمان أيضاً.
وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز؟ الراجح الثاني؛ لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك. وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة
غالباً. وقال ابن عطية: «القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فجعله معنى، وليس بواضح. وقيل: القرن: الناس المجتمعون، قلَّت السنون أو كَثُرت، واستدلوا بقوله عليه السلام:» خيرُ القرونِ قَرْني «وبقوله:
186 -
6- في الذاهبين الأوَّلي
…
نَ من القرون لنا بصائرْ
وبقوله:
186 -
7- إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ
…
وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ
فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع. ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان فالجمهور أنه مئة سنة، واستدلوا له بقوله عليه السلام:» يعيش قرناً «فعاش مائة سنة. وقيل: مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى. وقيل: ثمانون نقله صالح عن ابن
عباس: وقيل: سبعون قاله الفراء. وقيل: ستون لقوله عليه السلام:» معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين «وقيل: أربعون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: ثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة. وقيل: عشرون، وهو رأي الحسن البصري. وقيل: ثمانية عشر عاماً. وقيل: هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان، واستحسن هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة وثلاث مائه وألفاً وأكثر وأقل.
وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} أهلاً، أي: أهل قرن؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقةٌ فيه، مجاز في الناس، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه.
قوله: {مَّدْرَاراً} حال من «السماء» إن أريد بها السحابُ، فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً، وإن أريد به الماء فكذلك. ويدلُّ على أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث «في أثر سماء كانت من الليل» ويقولون: ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، ومنه:
186 -
8- إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ
…
رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
أي: رَعَيْنا ما ينشأ عنه. وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ حينئذ أي: مطر السماء، ويكون «مدراراً» حالاً منه. ومدرار مِفْعال
وهو للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث. قالوا: وأصله مِن «دَرِّ اللبن» وهو كثرةُ ورودِه على الحالِب ومنه: «لا درَّ درُّه» في الدعاء عليه بقلة الخير. وفي المثل: «سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه» وهي مثلُ قولهم: «سبقَ سيلُه مَطَرَه» . واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل، قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْه حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت.
قوله: {تَجْرِي} إنْ جعلنا «جَعَلَ» تصييرية كان «تجري» مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادية كان حالاً. و «من تحتهم» يجوز فيه أوجه: أن يكون متعلقاً ب «تجري» ، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه، وأن يكون حالاً: إمَّا من فاعل «تجري» أو من «الأنهار» وأن يكون مفعولاً ثانياً ل «جعلنا» ، و «تجري» على هذا حال من الضمير في الجار، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي، ويجوز أن يكون «من تحتهم» حالاً من «الأنهار» كما تقدَّم، و «تجري» حال من الضمير المستكنِّ فيه، وفيه الضعف المتقدم.
قوله: {مِن بَعْدِهِمْ} متعلق ب «أنشأنا» قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون حالاً من» قرن «لأنه ظرف زمان» يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم جوازُ كونه صفةً له، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه، لكنه منع ذلك كونُه ظرفَ زمان، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به، وقد تقدم لك أنه يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله:{والذين مِن قَبْلِكُمْ} [الآية: 21] . و «آخرين» صفة ل «قَرْن» لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط، فلذلك