الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهم، لأن ذلك بوجيهن واعتبارين. قال ابن عطية:«فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه وما ذُمُّوا فيه، وأنَّ الذمَّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة» .
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} فيه خمسة أوجه، احدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ بعده، وهو على ظرفيَّته، أي: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِفَ ليكونَ أبلغَ في التخويف. والثاني: أنه معطوف على ظرفٍ محذوف، وذلك الظرف معمول لقوله:{لَا يُفْلِحُ الظالمون} والتقدير: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم، قاله محمد بن جرير. الثالث: أنه منصوب بقوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} وفيه بُعْدٌ لعبده من عامله بكثرة الفواصل. الرابع: أنه مفعول به باذكر مقدراً. الخامس. أنه مفعول به أيضاً، وناصبه احذروا أو اتقوا يوم نحشرهم، كقوله:{واخشوا يَوْماً} [لقمان: 33] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً.
وقرأ الجمهور «نَحْشرهم» بنون العظمة وكذا «ثم نقول» وقرأ حميد ويعقوب بياء الغيبة فيهما وهو الله تعالى. والجمهور على ضم الشين من «نَحْشُرهم» وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع. والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكذب، وقيل: على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم، والتوبيخ مختص بهم. وقيل: يعود على المشركين وأصنامهم، ويدل عليه قوله:{احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات:
22]
. و «جميعاً» حال من مفعول «نحشُرهم» . ويجوز أن يكونَ توكيداً عند مَنْ أثبته من النحويين كأجمعين. وعطف هنا ب «ثُمَّ» للتراخي الحاصل
بين الحشر والقول. ومفعولا «تَزْعُمون» محذوفان للعِلْمِ بهما أي: تزعمونهم شركاء أو تزعمون أنهما شفعاؤكم.
وقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ} إن جَعَلْنا الضمير في «نحشرهم» عائداً على المفترين الكذبَ كان ذلك من باب إقامة الظاهرِ مُقام المضمر، إذ الأصل: ثم نقول لهم وإنما أُظِهِرَ تنبيهاً على قبح الشرك.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} : قرأ حمزة والكسائي: «يكن» بالياء من تحت، «فتنتهم» نصباً، وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم:«تكن» بالتاء من فوق، «فتنتُهم» رفعاً. والباقون بالتاء من فوق أيضاً، «فتنتهم» نصباً. فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات لإِجرائها على القواعد من غير تأويل، وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن، وإعرابها ظاهر. وذلك أن «فتنتهم» خبر مقدم، و «أَنْ قالوا» بتأويل اسم مؤخر، والتقدير: ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع اسمان، أحدهما: أعرفُ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً حديثاً عنه، و «أَنْ قالوا» يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِل الأعرفُ/ فيها اسماً ل «كان» وغيرُ الأعرف خبرَها، ولم يؤنَّث الفعل لإِسناده إلى مذكر. وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه ف «فتنتُهم» اسمها، ولذلك أُنِّثَ الفعلُ لإِسناده إلى مؤنث. و «إلا أَنْ قالوا» خبرها، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً، فليست في قوة الأولى.
وأمَّا قراءةُ الباقين ف «فتنتَهم» خبر مقدم، و «إلا أن قالوا» اسمٌ مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرفِ اسماً - كالقراءة الأولى، إلا أن
فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل. فقيل: لأن قوله: {إِلَاّ أَن قَالُواْ} في قوة مقالتهم. وقيل: لأنه هو الفتنة في المعنى، وإذا أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته، وجعل أبو علي منه {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده. ومثلُ الآيةِ قولُه:
188 -
0- ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ
…
وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه الغَدْرُ
ف «كانت» مسند إلى الغدر وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه، ومثله قول لبيد:
188 -
1- فمضى وقدَّمها وكانت عادةً
…
إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
قال أبو علي: «فأنَّث الإِقدام لما كان العادة في المعنى» قال: «وقد جاء في الكلام:» ما جاءت حاجتَك «فأنّث ضمير» ما «حيث كانت الحاجة في المعنى، ولذلك نصب» حاجتك «. وقال الزمشخري:» وإنما أنَّث «أن قالوا» لوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم: من كانت أمَّك «.
وقال الشيخ:» وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي، وأمَّا «من كانت أمَّك» فإنه حَمَلَ اسمَ «كان» على معنى «مَنْ» فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، وليس الحَمْلُ
على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله:
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42][وقوله] :
188 -
2-. . . . . . . . . . . . . . .
…
نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان
قلت: ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وارد على أبي علي أيضاً؟ إذ لقائلٍ أن يقول: التأنيث في «جاءت» للحمل على معنى «ما» فإن لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مثل «مَنْ» على أنه يقال: للتأنيث علَّتان، فذكرا إحداهما.
ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود: «وما كان فتنتُهم إلا أن قالوا» فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث. ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب «حُجَّتَهم» من قوله تعالى: {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] . وقرئ شاذاً: {ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا «بتذكير» يكنْ «ورفع» فتنتهم «ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةِ التأنيثِ والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن كان غيرَ حقيقي، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ خبراً، فهي عكس القراءة الأولى من الطرفين، و» أن قالوا «ممَّا يجب تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً.
قوله: {رَبِّنَا} قرأ الأخَوان: {ربَّنا} نصباً والباقون جراً. ونصبه: إمَّا على النداء وإمَّا على المدح، قاله ابن عطية، وإمَّا على إضمار» أعني «قاله
أبو البقاء والتقدير: يا ربنا. وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم وجوابه وهو قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وخفضُه في ثلاثةِ أوجهٍ: النعتِ والبدلِ وعطفِ البيان. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: {واللَّهُ ربُّنا} برفعهما على المبتدأ والخبر. قال ابن عطية:» وهذا على تقديمٍ وتأخير، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا «قلت: يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً.
قوله تعالى: {كَيْفَ كَذَبُواْ} : «كيف» منصوب على حدِّ نَصْبها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] وقد تقدَّم بيانه. و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» لأنها معلِّقة بها عن العمل. و «كَذَبوا» وإن كان معناه مستقبلاً لأنه في يوم القيامة، فهو لتحقُّقِه أبرزه في صورة الماضي. وقوله:«وضَلَّ» يجوز أن يكونَ نَسَقاً على «كَذَبوا» فيكون داخلاً في حَيِّز النظر، ويجوز أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ فلا يندرجُ في حَيِّزِ المنظور إليه، وقوله:«ما كانوا» يجوز في «ما» أن تكون مصدرية أي: وضلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قولُ ابن عطية. ويجوز أن تكونَ موصولةً اسمية، أي: وضَلَّ عنهم الذين كانوا يفترونه، فعلى الأول لا يُحْتاج إلى ضمير عائد على «ما» عند الجمهور، وعلى الثاني لا بد من ضمير عند الجميع.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} : راعى لفظَ «مَنْ» فأفردَ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن
يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] وقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخره، حُمِل على معناها.
قوله: {وَجَعَلْنَا} «جَعَلَ» هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين، أَوَّلُهما «أكنَّةً» ، والثاني الجار قبله، فيتعلَّق بمحذوف، أي: صَيَّرنا الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد، ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لأنه لو تأخر لوقع صفةً ل «أَكِنَّة» ويُحتمل أن يكونَ بمعنى «ألقى» فتتعلق «على» بها كقولك:«ألقيت على زيدٍ كذا» وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] .
وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها مستأنفة سيقت للإِخبار بما تضمَّنَتْه من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم. ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال، والتقدير: مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاً على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية، وعلى الثاني تكون الواو للحال، و «قد» مضمرة، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً.
والأَكِنَّة: جمع كِنان وهو الوعاء الجامع. قال:
188 -
3- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ
…
حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي غيومُها
وقال بعضهم: «الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي، وبالفتح المصدر. يقال: كنَّنْتُه كِنَّاً أي: جعلتُه في كِنّ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى:{مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} [النحل: 81] . والكِنانُ: الغِطاء الساتر، والفعل من هذه المادة
يُستعمل ثلاثياً ورباعياً، يقال: كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه كِنَّاً وأكناناً، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال:» وخُصَّ كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى:{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في النفس، قال تعالى:{أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] . قلت: ويَشْهد لما قال قوله أيضاً: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 7778] وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] . وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل، إلا أن يكونَ مضاعفاً ك «بَتَات» و «كِنان» أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة، ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان وحِجاج.
قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} في محلِّ نصب على المفعول من أجله، وفيه تأويلان سَبَقا، أحدهما: كراهةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين، والثاني: حَذْفُ «لا» أي: أن لا يفقهوه، وهو رأيُ الكوفيين.
قوله: {وَقْراً} عطفٌ على «أَكِنَّة» فينصبُ انتصابَه، أي: وجَعَلْنا في آذانهم وقراً. و «في آذانهم» كقوله «على قلوبهم» وقد تقدَّم أنَّ «جَعَل» يَحْتمل معانيَ ثلاثةً فيكونُ هذا الجار مبنيَّاً عليها مِنْ كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلقاً بها نفسِها أو حالاً.
والجمهور على فتح الواو من «وَقْراً» وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها والفرق بين الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقل في الأذن، يُقال منه: وَقَرِتْ أذنه بفتح القاف وكَسْرِها، والمضارع تَقِر وتَوْقَر بحسب الفعلين ك تَعِد وتَوْجَل. وحكى أبو زيد: أذنٌ مَوْقورة، وهو جارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أن وَقَر الثلاثي يكون متعدِّياً، وسُمِع «أذن مُوْقَرَة» والفعل على هذا أَوْقَرْتُ رباعياً كأكرم. والوِقْر - بالكسر - الحِمْل للحمار والبغل ونحوهما، كالوسَق للبعير، قال تعالى:{فالحاملات وِقْراً} [الذاريات: 2] فعلى هذا قراءةُ الجمهور واضحة أي: وجَعَلْنا في آذانهم ثِقَلاً أي: صَمَماً. وأمَّا قراءةُ طلحة فكأنه جَعَلَ آذانهم وَقِرت من/ الصَّمَم كما تُوْقَرُ الدابة بالحِمْل، والحاصل أن المادَّة تدلُّ على الثِّقَل والرِّزانة، ومنه الوَقار للتُّؤَدة والسَّكينة، وقوله تعالى:{وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} فيه الفصلُ بين حَرْفِ العطف وما عَطَفه بالجار مع كونِ العاطف على حرفٍ واحد وهي مسألة خلافٍ تقدَّم تحقيقُها في قوله: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] والظاهر أن هذه الآيةَ ونظائرها مثلُ قوله: {آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] ليس مما فُصِل فيه بين العاطِف ومعطوفِه. وقد حقَّقْتُ جميع ذلك في الموضعِ المُشارِ إليه.
قوله: {حتى إِذَا جَآءُوكَ} قد تقدَّم الكلام في «حتى» الداخلة على «إذا»
في أول النساء. وقال أبو البقاء هنا: «إذا» في موضع نصب بجوابها وهو «يقول» وليس ل «حتى» هنا عملٌ وإنما أفادَتْ معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل «. وقال الحوفي:» حتى «غاية، و» يُجادلونك «حال، و» تقولُ «جوابُ» إذا «وهو العامل في» إذا «وقال الزمخشري:» هي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، والجملةُ قولُه:{حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ} ، و «يجادلونك» في موضع الحال، ويجوزُ أن تكونَ الجارَّةَ، ويكون «إذا جاؤوك» في محل الجَرِّ بمعنى: حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله:{يَقُولُ الذين كفروا} تفسير له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبُهم الآياتِ إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسَّر مجادلتهم بأنهم يقولون: إنْ هذا إلا أساطير الأولين.
قال الشيخ: «وقد وُفِّق الحوفي وأبو البقاء وغيرُهما للصواب في ذلك، ثم ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي. وقال أيضاً:» و «حتى» إذا وقع بعدها «إذا» يُحْتمل أن تكونَ بمعنى الفاء، ويُحتمل أن تكون بمعنى إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاؤوك يجادلونك يقول، أو يكون التقدير: وجَعَلْنا على قلوبهم أَكِنَّة، وكذا إلى أَنْ قالوا: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، وقد تقدَّم أن «يُجادِلونك» حالٌ من فاعل «جاؤوك» و «يقول» : إمَّا جواب «إذا» وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء كما تقدَّم تقريره.
و «أساطير» فيه أقوال، أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختُلِفَ في ذلك المقدَّر فقيل: أُسْطورة، وقيل: أَسْطارة، وقيل: أُسْطور، وقيل: أَسْطار،
وقيل: إسْطير وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات. والثاني: أنه جمعُ جمعٍ، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع سطَر بفتح الطاء، وأما سَطْر بسكونها فجمعُه في القلة على أَسْطُر، وفي الكثرة على سُطور كفَلْس وأَفْلُس وفُلوس. والثالث: أنه جَمْعُ جَمْعِ الجمع، فأساطير جمع أَسْطار، وأَسْطار جمع أَسْطُر، وأَسْطُر جمع سَطْر. وهذا مرويٌّ عن الزجاج. وهذا ليس بشيء، فإنَّ «أَسْطار» ليس جمعَ أَسْطُر، بل هما مثالا جمع قلة. الرابع: أنه اسم جمع، قال ابن عطية:«وقيل: هو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نصُّوا على أذا كان على صيغة تَخُصُّ الجموعَ لم يُسمُّوه اسم جمع بل يقولون هو جمعٌ كعباديد وشماطيط. وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سَطَر بفتح الطاءِ فإنه قال: «وجمعُ سَطَر - يعني بالفتح - أسطار وأساطير» ووقال المبرد: «هي جمع أُسْطورة نحو أُرْجوحة وأراجيح وأُحْدُوثه وأحاديث» ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة والتُرَّهات ممَّا لا حقيقةَ له.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} : في الضميرين - أعني هم وهاء «عنه» - أوجه، أحدها: أن المرفوع يعود على الكفار، والمجرور يعود على القرآن، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من «يَفْقهوه» ، والمشارُ إليه بقولهم:«إنْ هذا» والثاني: أنَّ «هم» يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار، وفي «عنه» يعود على الرسول، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، فإن قوله:{جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} خطاب للرسول، فخرج
من هذا الخطاب إلى الغَيْبة. وقيل: يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه.
وفي قوله {يَنْهَوْنَ} و {وَيَنْأَوْنَ} تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء، ويَنْأَوْن بالهمزة، ومثله قوله تعالى:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104]{بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ. . . . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] وقوله عليه السلام: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ» وبعضهم يسمِّيه «تجنيس التحريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف، وأنشدوا:
188 -
4- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً
…
لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين، وجعل منه «اللُّهى تفتح اللَّهى» وقد تقدم تحقيق ذلك. وقرأ الحسن البصري «ويَنَوْن» بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها، وهو تخفيف قياسي. والنَّأيُ: البُعْد، قال:
188 -
5- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ
…
رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ
وقال آخر:
188 -
6- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ
…
وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ
عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية، يقال: نأى زيد يَنْأى نأياً، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أَنْأيْتُه، ولا يُعَدَّى بالتضعيف، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة. ونقل الواحدي أنه يقال: نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه، أنشد المبردِ:
188 -
7- أعاذِلُ إن يُصْبحْ صَداي بقَفْرَةٍ
…
بعيداً نآني صاحبي وقريبي
أي: نأى عني. وحكى اللَّيث: «نَأَيْت الشيء» أي: أبعدته، وأنشد:
188 -
8- إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا
…
شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع
فبناه للمفعول أي: يُنَحَّى ويُبْعَد. والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد، ومنه: أَتَنَأَّى أي: أفتعلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيد، قال النابغة:
188 -
9- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي
…
وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ
وتناءَى: تباعَدَ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء. وقُرِئ:{وناءَ بجانبه} وهو مقلوبٌ مِنْ نأى، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة.
قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ} «إنْ» نافيةٌ كالتي في قوله: {إِنْ هاذآ} [الأنعام: 25] ، و «أنفسهم» مفعولٌ، وهو استثناء مفرغ، ومفعول «يَشْعرون» محذوف: إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم.
قوله تعالى: {وَلَوْ ترى} : جوابها محذوف لفَهْمِ
المعنى، التقدير: لرأيت شيئاً عظيماً وهَوْلاً مُفْظِعاً. وحَذْفُ الجواب كثيرٌ في التنزيل وفي النظم، كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} [الرعد: 31] وقول الآخر:
189 -
0- وجَدِّك لو شيءٌ أتانا رسولُه
…
سِواك ولكن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا
وقوله:
189 -
1- فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً
…
ولكنها نفسٌ تساقَطُ أنفُسَا
وقوله:
189 -
2- كَذَبَ الغواذِلُ لو رَأَيْنَ مُنَاخَنَا
…
بحَزيزِ رامةَ والمَطِيُّ سَوَامي
وحَذْفُ الجواب أبلغُ: قالوا: لأنَّ السَّامع تَذْهَبُ نفسُه كلَّ مذهب، فلو صُرِّح له بالجواب وَطَّن نفسَه عليه فلم يَخْشَ منه [كثيراً، ولذلك قال كثير:
189 -
3- فقلتُ لها يا عَزُّ كلُّ مصيبةٍ
…
إذا وُطِّنَتْ لها النفسُ ذَلَّتِ]
و «ترى» يجوز أن تكونَ بَصَريةً ومفعولُها محذوف، أي: ولو ترى حالَهم، ويجوز أن تكونَ القلبيةَ، والمعنى: ولو صَرَفْتَ فكرَك الصحيح لأن تَتَدبَّر حالَهم لازْدَدْتَ يقيناً.
وفي «لو» هذه وجهان، أظهرهما: أنها الامتناعية فينصرف المضارع بعدها للمضيِّ، ف «إذ» باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي،
وهذا وإن كان لم يقعْ بعدُ لأنه سيأتي يوم القيامة إلا أنه أُبْرِزَ في صورة الماضي لتحَقُّقِ الوعد. والثاني: أنها بمعنى «إنْ» الشرطية «و» إنْ «هنا تكون بمعنى» إذا «والذي حَمَلَ هذا القائلَ على ذلك كونُه لم يقعْ بعدُ، وقد تقدَّم تأويله.
وقرأ الجمهور: {وُقِفُوا} مبنياً للمفعول من وقف ثلاثياً. و» على «يُحْتمل أن تكونَ على بابها وهو الظاهر أي: حُبِسوا عليها، وقيل: يجوز أن تكون بمعنى في، وليس بذاك. وقرأ ابن السَّمَيْفَع وزيد بن علي:» وَقَفوا «مبنياً للفاعل. و» وقف «يتعدَّى ولا يتعدَّى، وفرَّقَتِ العرب بينهما بالمصدر، فمصدرُ اللازم على فُعول، ومصدرُ المتعدِّي على فَعْل، ولا يقال: أَوْقَفْتُ. قال أبو عمرو بن العلاء:» لم أسمعْ شيئاً في كلام العرب: أوقفت فلاناً، إلا أَنِّي لو رأيت رجلاً واقفاً فقلت: له: «ما أوقفك ههنا» لكان عندي حسناً «وإنما قال كذلك لأنَّ تعدِّيَ الفعل بالهمزة مقيس نحو: ضحك زيد وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في» وقف «المتعدي أوقفته. قال الراغب:» ومنه - يعني من لفظِ وَقَفْتُ القومَ - استُعير وَقَفْتُ الدابة إذا سَبَلْتُها «فَجَعَل الوقفَ حقيقةً في مَنْع المشي وفي التسبيل مجازاً على سبيل الاستعارة، وذلك أن الشيء المُسْبَل كأنه ممنوع من الحركة، والوَقْفُ لفظُ مشترك بين ما تقدَّم وبين سِوار من عاج، ومنه:» حمار مُوَقَّفٌ بأرساغه مِثْلُ الوَقْف من البياض «.
قوله: {ياليتنا} قد تقدَّم الكلام في» يا «المباشِرة للحرف والفعل.
وقرأ: «ولا نُكَذِّبُ» و «نكونُ» برفعهما نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي،
وبنصبهما حمزةُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو بكر. ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصبَ الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل «قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر/ في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر: {ولا نكذِّبُ} بالرفع، و» نكون «بالنصب» . فأما قراءة الرفع فيهما ففيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما وهو «نُرَدُّ» ، ويكونون قد تمنَّوا ثلاثة اشياء: الردَّ إلى دار الدنيا، وعدمَ تكذيبهم بآيات ربهم، وكونَهم من المؤمنين. والثاني: أن الواو واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مضمر، والجملة الاسمية في محصل نصب على الحال من مرفوع «نُرَدُّ» ، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين وكائنين من المؤمنين، فيكونُ تمنِّي الرد مقيَّداً بهاتين الحالَيْن، فيكونُ الفعلان أيضاً داخلَيْن في التمني.
وقد استشكل الناسُ هذين الوجهين: بأن التمني إنشاء، والإِنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب، وإنما يدخلان في الإِخبار، وهذا قد دخله الكذبُ لقوله تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها - ذكره الزمشخري - قال: «هذا تمنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة فجاز أن يدخلَه التكذيبُ كما يقول الرجل:» ليت اللَّهَ يرزقني مالاً فأُحْسِنَ إليك، وأكافئَك على صنيعك «فهذا مَتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِق مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ولم يكافئه كذَّبَ، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك.
والثاني: أن قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ليس متعلِّقاً بالمتمنَّى، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تعالى بأنهم دَيْدَنهم الكذب وهِجِّيراهم ذلك، فلم يدخل الكذب في التمني. وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح.
والثالث: أنَّا لا نُسَلِّم أن التمنِّي لا يَدْخُله الصدق والا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِي ذلك إلى عيسى بن عمر. واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر:
189 -
4- مُنَىً إن تكن حقاً يكنْ أحسنَ المنى
…
وإلَاّ فقد عِشنا بها زمناً رغْدا
قال:» وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقاً بجاز أن توصف بكونها باطلاً وكذباً «وهذا الجواب ساقط جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحق إنما هو المنى، والمُنى جمع مُنْيَة والمُنْيَةُ توصف بالصدق والكذب مجازاً؛ لأنها كأنها تَعِد النفس بوقوعها فيُقال لِما وقع منها صادق ولِما لم يقع منها كاذب، فالصدق والكذب إنما دخلا في المُنْيَةِ لا في التمني.
والثالث من الأوجه المتقدمة ان قوله» ولا نكذِّبُ «خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استنافية لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عُطِفَتْ هاتان الجملتان الفعليَّتان على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حَيِّزها فليسَتْ داخلةً في التمني أصلاً، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أَخْبروا عن أنفسهم بأنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم، وأنَّهم يكونون من المؤمنين، فتكون هذه الجملة وما عُطِف عليها في محل نصبٍ بالقول، كأنَّ التقديرَ: فقالوا: يا ليتنا نُرَدُّ وقالوا: نحن لا نُكَذِّبُ ونكونُ من المؤمنين واختار سيبويه هذا الوجه، وشبَّهه بقولهم:» دعني ولا أعودُ «أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني، أي: لا أعود على كل حال، كذلك معنى الآية أَخْبروا أنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، رُدُّوا أو لم يُرَدوا.
وهذا الوجه وإن كان الناسُ قد ذكروه ورجَّحوه واختار سيبويه - كما مرَّ - فن بعضهم استشكل عليه إشكالاً وهو: أنَّ الكذبَ لا يقع في الآخرة فكيف وُصِفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولا نكذِّب ونكون» ؟ وقد أُجيب عنه بوجهين، أحدهما: أن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} استيثاقٌ لذَمِّهم بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّم ذلك آنفاً. والثاني: أنهم صَمَّموا في تلك الحال على أنهم لو رُدُّوا لَمَا عادوا إلى الكفر لِما شاهدوا من الأهوال والعقوبات، فأخبر الله تعالى أنَّ قولَهم في تلك الحال:«ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغيَّر على تقدير الرد ووقوع العَوْد، فيصير قولهم:«ولا نكذب» كذباً، كما يقول اللص عند ألم العقوبة:«لا أعود» ، ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّص وعادَ كان كاذباً.
[وقد أجاب مكي أيضاً بجوابين، أحدهما] قريبٌ مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال:«أي: لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعثَ للحال التي كانوا عليها وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوعَ التكذيب في الآخرة لأنهم ادَّعَوا أنهم لو رُدُّوا لم يكذِّبوا بآيات الله، فعلمَ اللَّهُ ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات الله، فأكذبهم الله في دعواهم» .
وأمَّا نَصْبُهما فبإضمار «أَنْ» بعد الواو التي بمعنى مع، كقولك:«ليت لي مالاً وأنفقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» و «أنْ» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدرٌ، والواوُ حرف عطف فيستدعى معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلا فعلٌ فكيف يُعْطَفُ اسمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنَّا نقدِّر مصدراً
متوهماً يُعْطَفُ هذا المصدر المنسبك من «أَنْ» وما بعدها عليه، والتقدير: يا ليتنا لنا رَدُّ وانتفاءُ تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين، أي: ليتنا لنا ردُّ مع هذين الشيئين، فيكون عدمُ التكذيب والكونُ من المؤمنين مُتَمَنَّيَيْنِ أيضاً، فهذه الثلاثةُ الأشياءِ: أعني الردَّ وعدمَ التكذيب والكونَ من المؤمنين متمنَّاةٌ بقيد الاجتماع، لا أنَّ كلَّ واحدٍ متمنَّى وحدَه؛ لأنه كما قَدَّمْتُ لك: هذه الواوُ شرطُ إضمار «أنْ» بعدها: أن تصلح «مع» في مكانها، فالنصبُ يُعَيِّنُ أحدَ محتملاِتها في قولك «لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن» وشبهه، والإِشكالُ المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني واردٌ هنا، وقد تقدم جواب ذلك، إلا أن بعضَه يتعذَّر ههنا: وهو كون لا نكذِّبُ، ونكونُ «متسأنَفَيْن سِيقا لمجرد الإِخبار، فبقي: إمَّا لكون التمني دخله معنى الوعد، وإمَّا أن قوله تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ليس راجعاً إلى تمنِّيهم، وإمَّا لأنَّ التمنِّي يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فساده.
وقال ابن الأنباري: «أَكْذَبَهم في معنى التمني؛ لأن تمنِّيَهم راجعٌ إلى معنى:» نحن لا نكذِّب إذا رُدِدْنا «فغلَّب عز وجل تأويلَ الكلام فأكذبهم، ولم يُسْتعمل لفظ التمني» وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدَّم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ: «وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أنَّ هذه الواوَ المنصوبُ بعدها هو على جواب التمني، كما قال الزمخشري:» وقرئ: ولا نكذِّبَ ونكونَ بالنصب بإضمار أَنْ على جواب التمني، ومعناه: إنْ رُدِدْنا لم نكذِّبْ ونكنْ من المؤمنين «. قال:» وليس كما ذكر، فإنَّ نَصْبَ الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب؛ لأنَّ الواوَ لا تقع [في] جواب الشرط فلا ينعقد
ممَّا قبلها ولا ممَّا بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو «مع» يُعْطَفُ ما بعدها على المصدر المتوهَّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النصب أحدُ محامِلها الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويُمَيِّزها من الفاء تقديرُ «مع» موضعها، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعلٌ منصوب ميِّزها تقدير شرطٍ قبلها أو حال مكانها. وشُبْهَةُ مَنْ قال إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنها جواب. وقال سيبويه: «والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى:
189 -
5- لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لو دخلت الفاءُ هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النهيَ والإِتيان وتقول:» لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن «لو أَدْخَلْتَ الفاء فَسَدَ المعنى» قال الشيخ: «ويوضِّح لك أنها ليست بجوابٍ انفرادُ الفاءِ دونها بأنها إذا حُذِفت انجزم الفعلُ بعدها بما قبلها لِما تضمَّنه من معنى الشرط إلا في النفي، فإن ذلك لا يجوز» . قلت: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخُ الجماعة. قال أبو إسحاق: «نصبٌ على الجواب بالواو في التمني كما تقول:» ليتك تصير إلينا ونكرمَك «المعنى: ليت مصيرَك يقع وإكرامَنا، ويكون المعنى: ليت ردَّنا وقع وأن لا نكذِّب» .
وأمَّا كونُ الواو ليست بمعنى الفاء فصحيحٌ، على ذلك جمهورُ النحاة. إلى أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرَّج النصب على وجهين، أحدهما: أن
الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر: «في نصب» نكذِّبَ «وجهان، أحدهما: أن الواو مُبْدَلةٌ من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} [الزمر: 58] يؤكد هذا قراءةُ ابنِ مسعود وابن أبي إسحاق:» يا ليتنا نردُّ فلا نكذبَ «بالفاء منصوباً. والوجه الآخر: النصب على الصرف ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين/.
وأمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأنَّ الأولَ يرتفع على حدِّ ما تقدَّم من التأويلات، وكذلك نصبُ الثاني يتخرَّج على ما تقدَّم، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه، إلا أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تمام قوله» نُرَدُّ «أي: تَمَنَّوا الردَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظاهر إذا جَعَلْنا» ولا نكذِّب «معطوفاً على» نردُّ «أو حالاً منه. وأما إذا جَعَلْنا» ولا نكذِّبُ «مستأنفاً فيجوز ذلك أيضاً ولكن على سبيل الاعتراض، ويحتمل أن يكونَ من تمامِ» ولا نكذِّب «أي: لا يكونُ منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين، ويكون قوله» ولا نكذب «حينئذ على حاله، أعني مِنْ احتماله العطفَ على» نُرَدُّ «أو الحالية أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخولُ كونِهم مع المؤمنين في التمني وخروجُه منه بما قرَّرْتُه لك.
وقُرئ شاذاً عكسَ قراءة ابن عامر، أي: بنصب» نكذبَ «ورفع» نكون «وتخريجها على ما تقدم، إلا أنها يضعف فيها جَعْلُ» ونكونُ من المؤمنين «حالاً لكونه مضارعاً مُثْبَتاً إلا بتأويل بعيد كقوله:
189 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالكاً
أي: وأنا أَرْهَنُهم، وقولهم:» قمتُ وأصكُّ عينه «، ويدل على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أُبيٍّ:» ونحن نكونُ من المؤمنين «.
قوله تعالى: {بَلْ بَدَا} : «بل» هنا لانتقالٍ من قصة إلى أخرى وليست للإِبطالِ، وعبارةُ بعضهم توهم أن فيها إبطالاً لكلام الكفرة فإنه قال:«بل» رَدٌّ لِما تمنَّوه، أي: ليس الأمر على ما قالوه لأنهم لم يقولوا ذلك رغبةً في الإِيمان، بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة. قال الشيخ:«ولا أدري ما هذا الكلام؟» . قلت: ولا أدري ما وَجْهُ عدمِ الدراية منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه، فإنهم لمَّا قالوا: يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا، ولكن هذا التمنِّيَ ليس بصحيح، لأنهم إنما قالوه تقيَّةً، فقد يتمنى الإِنسان شيئاً بلسانه وقلبه فارغ منه. وقال الزجَّاج «بل» هنا استدراكٌ وإيجابُ نفي كقولهم: ما قام زيد بل قام عمرو «. قال الشيخ:» ولا أدري ما النفيُ الذي سَبَق حتى توجَبه «بل» ؟ قلت: الظاهرُ أنَّ النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله: {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} إذا جعلناه مستأنفاً على تقدير: ونحن لا نكذِّبُ، والمعنى: بل إنهم مُكَذِّبون.
وفاعلُ «بدا» قوله: {مَّا كَانُواْ} و «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفونه. والعائد محذوف. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي ظهر لهم إخفاؤهم، أي: عاقبته، أو أُطْلِق المصدرُ على اسم المفعول، وهو بعيد، والظاهر أن الضميرين: أعني المجرورَ والمرفوعَ في قوله {بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} عائدان على شيء واحد، وهم الكفار أو اليهود والنصارى خاصة، وقيل: المجرورُ للأتباع والمرفوعُ للرؤساء، أي: بل بدا للأتباع ما كان الوجهاء المتبعون يُخْفُونه.
قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ} قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً. وقرأ الأعمش
ويحيى بن وثاب وإبراهيم: «رِدُّوا» بكسرها خالصاً. وقد عَرَفْتَ أن الفعلَ الثلاثي المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بُني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء المعتل العين إذا بُني للمفعول نحو: قيل وبيع، وقد تقدَّم ذلك. وقال الشاعر:
189 -
7- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلمائِنا
…
ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء.
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تقدَّم الكلام على هذه الجملة: هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله {يا ليتنا} ؟
قوله تعالى: {وقالوا} : هل هذه الجملة معطوفة على جواب «لو» والتقدير: ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز «لو» ، / أو هي معطوفةٌ على قوله:{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ؟ ثلاثة أوجه، ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال:«وقالوا عطف على» لعادوا «أي: لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا: إنْ هي إلا حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يُعْطف على قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} على معنى: وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء» . والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد، إلا أن ابن عطية ردَّه فقال:«وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإِشارة إليه في قوله {أَلَيْسَ هذا بالحق} [آل عمران: 30] يردُّ على هذا التأويل» . وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا، فاعترافهم به في الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإِنكارهم إياه في الدنيا.
قوله: {إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا} «إنْ» نافية و «هي» مبتدأ، و «حياتُنا» خبرها، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإِخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفيٍ وإثبات، و «هي» ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة، وقد قَدَّمْتُ ذلك عند قوله:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] ، وكونُ هذا ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ، إذ لقائل أن يقول «هي» تعود على شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري:«هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إلا بِذِكْر ما بعده» ومثَّل الزمخشري بقول العرب: «هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ» و «هي العرب تقول ما شاءت» .
وليس فيما قاله الزمخشري دليل له؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا بذكر ما بعده، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير، ويجوز أن يكون المعنى: إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا، فقوله {إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسيرِ، ويدلُّ على ما قلتُه قولُ أبي البقاء:«هي كنايةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة» .
قلت: أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ، وأمَّا آخرُه وهو قوله:«إن هي ضمير القصة» فليس بشيء؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها. فإن قلت: الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم. فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو: «إنه قائم زيد» «وظنتُه قائِماً زيدٌ» لأنه في صورة الجملة، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليه. أما نحو «
هو زيد» فلا يُجيزه أحدٌ، على أن يكونَ «هو» ضميرَ شأنٍ ولا قصة، والدنيا صفة الحياة، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها، وإلَاّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] . والباء في قوله «بمبعوثين» زائدةٌ لتأكيد الخبر المنفي، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ «ما» حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.
قوله تعالى: {على رَبِّهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه من باب الحذف، تقديره: على سؤال ربهم أو ملك ربهم أو جزاء ربهم. والثاني: أنه من باب المجاز؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ، كما يوقَفُ العبدُ بين يدي سيِّده ليعاتبَه، ذكر ذلك الزمخشري، ورجَّح المجاز على الحذف لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال:«وقيل [وقُفوا] على جزاء ربهم» . وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر. وجملة القول فيه أن فيه ثلاثةَ مذاهب، أشهرُها: ترجيحُ المجاز على الإِضمار، والثاني عكسُه، والثالث: هما سواء.
قوله: {قَالَ أَلَيْسَ} في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها استفهاميةٌ أي: جواب سؤال مقدر، قال الزمشخري:«قال» مردودٌ على قولِ قائلٍ قال: ماذا قال لهم ربُّهم إذا وُقِفوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أليس هذا بالحق «. والثاني: أن تكون الجملة حالية، وصاحبُ الحال» ربُّهم «كأنه قيل: وُقِفوا عليه قائلاً: أليس هذا بالحق. والمشارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذِّبون به من البعث. وقيل: هو العذاب يدلُّ عليه {فَذُوقُواْ العذاب} .
وقوله: {بِمَا كُنتُمْ} يجوز أن تكونَ» ما «موصولةً اسميةً والتقدير: تكفرونه، والأصل: تكفرون به، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطةِ، ولا جائزٌ أن يُحْذَف وهو مجرور بحاله، وإن كان مجروراً بحرفٍ جُرَّ بمثله الموصولُ لاختلاف المتعلَّق، وقد تقدَّم إيضاحُه غيرَ مرة. والأَوْلَى أن تُجْعَلَ» ما «مصدرية ويكون متعلَّق الكفر محذوفاً، والتقدير: بما كنتم تكفرون بالعبث أو بالعذاب أي بملاقاته أي بكفركم بذلك.
قوله تعالى: {بَغْتَةً} : في نصبها أربعة أوجه، أحدها: أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل «جاءَتْهم» أي: مباغتةً، وإمَّا من مفعوله أي: مَبْغوتين. الثاني: أنها مصدرٌ على غير الصدر؛ لأنَّ معنى «جاءتهم» بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولهم:«أتيته رَكْضاً» . الثالث: أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ محذوف من لفظها، أي: تَبْغَتُهم بَغْتة. الرابع: بفعلٍ من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة.
والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه حتى لو استشعر الإِنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة، ولذلك قال الشاعر:
189 -
8- إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها
…
قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ
والألف واللام في «الساعة» للغلبة كالنجم والثريا، لأنها غلبت على يوم القيامة، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى. وقوله «قالوا» هو جواب «إذا» .
قوله: {ياحسرتنا} هذا مجازٌ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتَّى منها الإِقبال، وإنَّما
المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ، وكأنهم نادوا التحسُّر، وقالوا: إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك. ومثله: «يا ويلتا» ، والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.
قوله: {على مَا فَرَّطْنَا} متعلقٌ بالحَسْرة، و «ما» مصدريةٌ، أي: على تفريطنا. والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على الساعة، ولا بد من مضاف أي: في شأنها والإِيمان بها، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله:{قَدْ خَسِرَ الذين} قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [يَجْرِ] لها ذِكْرٌ لكونها مَعْلومةً، قاله الزمخشري. وقيل: يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها. وهو بعيدٌ.
والتفريطُ: التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله. وقال أبو عبيد: «هو التضييع» وقال ابن بحر: «هو السَّبْق، منه الفارط أي السابق للقوم، فمعنى فرَّط بالتشديد خلَّى السبق لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإِسراء: 79] .
قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} الواو للحال، وصاحب الحال الواو في» قالوا «أي: قالوا: يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم. وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ، والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ، وقيل: هو حقيقةٌ. وفي الحديث:» إنه يُمَثَّل له عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها «وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدَّم في {
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] ؛ لأن اليدَ أقوى في الإِدراك اللمسي من غيرها.
الأوزار: جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال.
والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه: وَزِرْتُهُ أي: حَمَّلْته شيئاً ثقيلاً، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة رعيتَّه وحَشَمَتِه، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها، قال:
189 -
9- وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها
…
رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا
وقيل: الأصل في ذلك الوَزَر بفتح الواو الزاي، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من الجبل، قال تعالى:{كَلَاّ لَا وَزَرَ} [القيامة: 11] ثم قيل للثقل وِزْرٌ تشبيهاً بالجبل، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه، والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة.
قوله: {أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} «ساء» هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة، أحدُها: أنها «ساء» المتصرفةُ المتعدِّية، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين، ومفعولُها حينئذ محذوف، وفاعلها «ما» ، و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكونَ موصلةً اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة تُقَدِّر لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور. والتقدير: ألا ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم. وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال: «كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله:
190 -
0- رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ
…
فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا
قال الشيخ:» ولا يتعيَّن أن تكون «ما» في البيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ الثلالثة «انتهى وهو ظاهر.
الثاني: أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها، فتُعْطى حكمَ فعل التعجب: من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإِنشاء، إن قلنا: إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح، والمعنى: ما أسوأ - أي أقبح- الذي يَزِرُونه أو شيئاً يَزِرُونه أو وِزْرُهم، الثالث: أنها بمعنى بئس فتكون للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً، ويجري الخلاف في» ما «الواقعةِ بعدها حَسْبما ذكر في {بِئْسَمَا اشتروا} [البقرة: 90] . وقد ظهرالفرقُ بين هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية. والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس. وقال الشيخ:» والفرقُ بين هذا الوجهِ - يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل «بئس» من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبر، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل «. انتهى.
وظاهرهُ لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوصٍ بالذم وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر، إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص، وعلى تقدير التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل.
قوله تعالى: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ لَعِبٌ} : يجوز أن يَكون من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولها:
190 -
1-. . . . . . . . . . . . . .
…
فإنما هي إقبالٌ وإدبار
وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي: وما أعمال الحياة، وقال الحسن البصري:«وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب» فقدَّر شيئين محذوفين.
واللَّهْو: صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل. ومنه لو يلهو. وأمَّا لَهِي عن كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها نحو: شَقِي ورضي. وقال المهدوي: «الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم لَهْيان، ولام الأول واو» . قال الشيخ: «وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياءً فليس أصلها الياء، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ: شَجِيان وهو مِن الشَّجْوِ» انتهى. يعني أنهم يقولون في اسم فاعله: لَهٍ كشجٍ، والتثنيةُ مبنيَّةٌ على المفرد، وقد أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ولنا فيه بحثٌ أَوْدَعْناه في «التفسير الكبير» ولله الحمد] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ المهدوي على الرماني، فإنَّ الرماني قال:«اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما تنتفعُ به، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل، يقال: لَهَيْتُ عنه أي صرفْتُ نفسي عنه» قال المهدوي: «وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ؛ لأنَّ الذي فيه معنى الصرف لامه ياء، بدليل قولهم في التثنية ليهان» انتهى. وقد تقدَّم فسادُ هذا الردِّ وقال الراغب: «اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإِنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه، يقال: لَهَوْتُ بكذا
أو لهيت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ» وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حَمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين.
قوله: {وَلَلدَّارُ الآخرة} قرأ الجمهور بلامَيْن، الأُوْلى لام الابتداء، والثانية للتعريفِ، وقرؤوا «الآخرةُ» رفعاً على أنها صفةٌ للدار، و «خيرٌ» خبرُها. وقرأ ابن عامر:«ولَدارُ» بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء، و «الآخرةِ» جرٌّ بالإِضافة. وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه، والتقدير: ولَدارُ الساعةِ الآخرة، أو لَدار الحياة الآخرة، يدلُّ عليه «وما الحياة الدنيا» ومثله قولهم:«حبة الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي» التقدير: حبة البقلة الحمقاء، ومسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، ومكان الجانب الغربي. وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائِها العواملَ كثيراً، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع؛ لأن الإِضافة: إمَّا للتعريف أو للتخصيص، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها.
والثاني: وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء:«هي إضافةُ الشيء إلى نفسِه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين» . وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين بلامٍ واحدة، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه
في يوسف: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [يوسف: 109] ، وفي مصاحف الناسِ بلامَيْنِ.
و «خيرٌ» يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي: خيرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكونَ لمجرَّدِ الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى:{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] . و {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «خير» والذي ينبغي - أو يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه، نحو:{خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] .
قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزةِ الداخلةِ على الفاء وأختِها الواوِ وثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم: {تَعْقِلُون} خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه. والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة، وحُذِفَ مفعول «تَعْقِلون» للعلمِ به، أي: فلا تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذكر فتزهَّدوا في الدنيا، أو أنها خير من الدنيا.
قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ} : «قد» هنا حرف تحقيق. وقال الزمخشري والتبريزي: «قد نعلم: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله:
190 -
2-. . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ:» وهذا القول غير مشهور للنحاة، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله:
190 -
3- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه
…
كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ
وقول الآخر:
أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه
…
ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه
والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من «قد» إنما فُهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير «. قلت: قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم، ثم قال:» وقولُه بمعنى «ربما» التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ «رُبَّ» للتقليل لا للتكثير، وزيادةُ «ما» عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل، و «ما» المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل «لعلَّ» عن الترجِّي ولا «كأنَّ» عن التشبيه ولا «ليت» عن التمني. وقال ابن مالك «» قد «ك» ربما «في التقليل والصَّرف إلى معنى المضيّ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله} [الصف: 5] وقوله:
190 -
4- وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه
…
ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
/ وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله: {قَدْ نرى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: 144] .
وقال مكي:» قد «هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه. و» نعلم «بمعنى عَلِمْنا، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ والاسميةِ. وقال الشيخ هنا:» قد حرف توقع، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك:«قد ينزل المطرُ شهرَ كذا» ، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم:«هو يعطي ويمنع» .
و {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها. وتقدَّم الكلامُ في «لَيَحْزُنك» وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران. «والذي يقولون» فاعلٌ وعائده محذوف، أي: الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به، والضمير في «إنه» ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك:«إنَّ زيداً يقوم أبوه» لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين.
قوله: {لَا يُكَذِّبُونَكَ} قرأ نافع والكسائي: {لا يَكْذِبُونك} مخففاً من أَكْذَبَ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب، وهي قراءة علي وابن عباس. واختلف الناس في ذلك، فقيل: هما بمعنى واحد مثل: أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل،
وقيل: بينهما فرق، قال الكسائي: العرب تقول «كذَّبْتُ الرجلَ» بالتشديد، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه، و «أَكْذَبْتُه» إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، ويقولون أيضاً: أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً، فمعنى «لا يُكْذِبونك» مخفَّفاً: لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً، وهو واضحٌ.
وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه. فإن قيل: هذا مُحالٌ؛ لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً. فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى جمعيهم، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يراد به بعضُهم مجازاً كقوله:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105]{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [الشعراء: 16] وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص. والثاني: أنه نفى التكذيب لانتقاء ما يترتَّب عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل: فإنهم لا يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب، فتكذيبُهم كلا تكذيب، فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه. وقال الزمخشري: «والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه: - وقد أهانه بعض الناس - لن يُهِينُوك وإنما أهانوني، وعلى هذه الطريقة:{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] .
قوله: {بِآيَاتِ الله} يجوز في هذا الجارِّ وجهان، أحدهما: أنه متعلِّقٌ ب» يَجْحَدون «، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن
يتعلَّق بالظالمين، قال:» كقوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإِسراء: 59] وهذا الذي قاله ليس بجيد، لأن الباءَ هناك سببيةٌ، أي: ظلموا بسببها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيءٌ يتعلق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه. وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضمر، إذ الأصل: ولكنهم يَجْحدون بآيات الله، ولكنه نَبَّه على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود.
والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه. وقيل: الجَحْد: إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه.
قوله تعالى: {مِّن قَبْلِكَ} : متعلَّقٌ ب «كَذَّبَتْ» ومنع أبو البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ، والزمان لا يُوصف به الجثث، وقد تقدَّم البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله:{وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} [الأنعام: 6] .
قوله: {وَأُوذُواْ} يجوز/ فيه أربعة أوجه أظهرها: أنه عطفٌ على قوله «كُذِّبَتْ» أي: كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك. والثاني: أنه معطوفٌ على «صَبَروا» أي: فصبروا وأُوْذُوا. والثالث: - وهو بعيدٌ- أن يكونَ معطوفاً على «كُذِّبوا» فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير: فصَبروا على تكذيبهم وإيذائهم. والرابع: أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون القف تَمَّ على قوله» كُذِّبوا «ثم استأنف فقال:» أُوْذوا «.
وقرأ الجمهور: {وأُوْذُوا} بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً. وقرأ ابن عامر في روايةٍ شاذةٍ:» وأُذوا «من غير واو بعد الهمزة، وهو من أَذَيْتُ الرجل ثلاثياً لا من» آذيت «رباعياً.
قوله: {حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله:» فصبروا «أي: كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنا» وأوذوا «عطفاً عليه كانت غايةً لهما، وهو واضح جداً. وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط، وإن جَعَلْناه معطوفاً على» كُذِّبَتْ «فتكون الغاية للثلاثة. والنصر مضافٌ لفاعله ومفعوله محذوف، أي: نَصْرُنا إياهم. وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى التكلُّم، إذ قلبه» بآيات الله «فلو جاء على ذلك لقيل: نَصْرُه. وفائدةُ الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة.
قوله: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} في فاعل» جاء «وجهان، أحدهما: هو مضمر، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية:» الصواب عندي أن يقدر: «جَلاء، وبيان» . وقال الرماني: «تقديره: ولقد جاءك نبأ» وقال الشيخ: «الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن نُصِروا» . وعلى هذه الأقوال يكون «من نبأ المرسلين» في محل نصب على الحال من ذلك الضمير، وعاملها هو «جاء» لأنه عاملٌ في صاحبها. والثاني: أنَّ «من نبأ» هو الفاعل، ذكره الفارسي، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه
لا يَشْترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ، والمجرور ب «مِنْ» معرفة. وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله:
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، وزيادة «مِنْ» تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه اسم جنس مضاف، والأمر بخلافِه.
ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال: «ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أبنائهم وقصصهم» وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ «مِنْ» لا تكون فاعلة، ولا يجوز أن يكون «من نبأ» صفةً لمحذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت، كذا قالوا. قال أبو البقاء:«ولا يجوز عند الجميع أن تكون» مِنْ «صفةً لمحذوف، لأن الفاعلَ لا يُحْذف، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَّ حرف لاجر يُعَدِّي، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍّ» يعني بقولِهِ «لم يصحَّ أن يكونَ فاعلاً» لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلَاّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً البتة.
قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} : هذا شرطٌ، جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني، وجواب الثاني محذوف تقديره: فإن استطعت أن تبتغي فافعلْ، ثم جُعِل الشرطُ الثاني وجوابُه جواباً للشرط الأول، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم. . . . . فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ} [البقرة: 38] . وتقدَّم تحرير القول فيه، إلا أن جواب الثاني هناك مُظْهَرٌ. و «كان» في اسمها وجهان، أحدهما: أنه «إعراضهم» و «كَبُرَ» جملة فعلية في محل نصب خبراً
مقدماً على الاسم، وهي مسألة خلاف: هل يجوزُ تقديمُ خبرِ كان على اسمها إذا كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ فلا يجوزُ البتةَ، لئلا يلتبسَ بباب الفاعل واللَّبْسُ هنا مَأْمون. وَوَجْهُ المَنْع استصحابُ الأصل. و «كَبُر» إذا قيل: إنه خبر «كان» فهل يُحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ والظاهر أنه لا يحتاج، لأنه كثر وقع الماضي خبراً لها من غير «قد» نظماً ونثراً بعضهم يَخُصُّ ذلك ب «كان» ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا ب «قد» ظاهرةً أو مضمرةً ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قولُ النابغة:
190 -
5- أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا
…
أَخْنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
والثاني: أن يكونَ اسمُها ضميرَ الأمر والشأن، والجملة الفعلية مفسِّرةٌ له في محل نصب على الخبر، فإعراضُهم مرفوعٌ ب «كَبُر» وفي الوجه الأول ب «كان» ، ولا ضمير في «كَبُر» على الثاني، وفيه ضمير على الأول. ومثلُ ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى:{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137]{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] ، ففرعون يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فاعلاً وكذلك «سفيهُنا» ومثلُه أيضاً قولُ امرئ القيس.
190 -
6- وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ
…
فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ
فخليقة يحتمل الأمرين. وإظهار «قد» هنا يرجَّح قولَ مَنْ يشترطها، وهل يجوز في مثل هذا التركيب التنازعُ؟ وذلك أن كلاً من «كان» وما بعدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلةِ يطلب المرفوع من جهة المعنى، وشروط الإِعمال موجودة. وكنت قديماً سألت الشيخ عن ذلك فأجابَ بالمنع، محتَّجاً
بأنَّ شرط الإِعمال أن لا يكونَ أحدُ المتنازعين مفتقراً إلى الآخر، وأن يكونَ من تمام معناه، و «كان» مفتقرةٌ إلى خبرها وهو من تمام معناها. وهذا الذي ذكره من المنع وترجيحِه ظاهرٌ، إلا أن النَّحْويين لم يذكروه في شروط الإِعمال.
وقوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} مؤولٌ بالاستقبال وهو التَبيُّن والظهور فهو كقوله:
{إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] أي: إنْ تبيَّن وظَهَر، وإلَاّ فهذه الأفعالُ قد وقعتْ وانقضتْ فكيف تقع شرطاً؟ وقد تقدَّم أنَّ المبردَ يُبْقي «كان» خاصةً على مضيِِّها في المعنى مع أدوات الشرط، وليس بشيء. وأمَّا:«فإن استطعتَ» فهو مستقبلٌ معنى لأنه لم يقعْ بخلافِ كونه كَبُر عليه إعراضُهم وقَدِّ القميص «وأن تبتغي» مفعولُ الاستطاعة. «ونَفَقاً» مفعول الابتغاء.
والنَّفَقُ: السَّرَب النافذ في الأرض وأصله في جُحْرة اليربوع ومنه النافقاء والقاصِعاء، وذلك أن اليربوعَ يَحْفِر [في] الأرض سَرَباً ويجعل له بابين، وقيل: ثلاثة؛ النَّافِقاء والقاصعاء والدَّابِقاء، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض، فإذا نابه أمرٌ دفع تلك القشرةَ الرقيقةَ وخرجَ، وقد تقدَّم لك استيفاء هذه المادة عند ذكر {يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] و {المنافقين} [النساء: 61] .
وقوله {فِي الأرض} ظاهرُه أنه متعلقٌ بالفعل قبله، ويجوز أن يكون صفةً ل «نَفَقاً» فيتعلَّقَ بمحذوف، وهي صفة لمجرد التوكيد إذ النفق لا يكون إلا في الأرض. وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكونَ حالاً من فاعل «تَبْتغي» أي: وأنت في الأرض، قال:«وكذلك في السماء» يعني مِنْ جوازِ الأوجه الثلاثة، وهذا الوجهُ الثالث ينبغي أن لا يجوز لخُلُوِّه عن الفائدة.
والسُّلَّم: قيل: المِصْعَد، وقيل: الدَّرَج، وقيل: السبب، تقول العرب: اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك أي: سبباً، قال كعب بن زهير:
190 -
7- ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا
…
بها نَفَقاً أو في السماوات سُلَّماً
وهو مشتقٌّ من السَّلامة، قالوا: لأنه يُسْلَمُ به إلى المصعد. والسُّلَّم مذكر، وحكى الفراء تأنيثه، قال بعضهم، ليس ذلك بالوضع، بل لأنه بمعنى المِرْقاة كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله:
190 -
8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ
لمَّا كان في معنى الصرخة.
قوله تعالى: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} : فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيْقَتْ للإِخبار بقدرته، وأنَّ مَنْ قَدَرَ على بعث الموتى يَقِدْرُ على إحياء قلوب الكفرة بالإِيمان فلا تتأسَّفْ على مَنْ كفر. والثاني: أن «الموتى» منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده، ورُجِّح هذا الوجهُ على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلها فو نظير:{والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإِنسان: 31] بعد قوله: {يُدْخِل} والثالث: أنه مرفوع نسقاً على الموصول قبله، والمراد بالموتى الكفار أي: إنما يَسْتجيب المؤمنون السامعون من أول وهلة، والكافرون الذين يُجيبهم الله تعالى بالإِيمان ويوفقهم له، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله:{يَبْعَثُهُمُ الله} في محل نصب على الحال، إلا أن هذا القولَ يُبْعده قوله تعالى:{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} إلا أن يكون من ترشيح المجاز. وتقدَّمت له نظائر.
وقرئ {يَرْجِعون} مِنْ رَجَع اللازم.
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّهِ} : فيها وجهان، أحدهما: أنها متعلقة ب «نُزِّل» والثاني: أنها متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل «آية» أي: آية كائنة من ربه. وتقدَّم الكلام على «لولا» وأنها تحضيضية.
قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ} : «مِنْ» زائدة لوجود الشرطين وهي مبتدأ، و «إلا أممٌ» خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها. وقوله «في الأرض» صفةٌ لدابَّة، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ، وأن تجعلها في محصل رفع باعتبار الموضع.
قوله: {وَلَا طَائِرٍ} الجمهور على جرِّه نسقاً على لفظ «دابة» ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها. وقرأ ابن عباس:«ولا طيرٍ» من غير ألف. وقد تقدَّم الكلامُ فيه: هل هو جمع أو اسم جمع؟ وقوله: {يطير} في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار موضعه. وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا. وفي قوله «ولا طائر» ذكرُ خاصٍ بعد عام، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو كقوله:{وملائكته. . . . . وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] وفيه نظر إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر.
قوله: {بِجَنَاحَيْهِ} فيه قولان، أحدهما: أن الباء متعلقة ب «يطير» وتكونُ الباءُ للاستعانة. والثاني: أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة، وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم؛ لأنَّ الطيران يُستعار في السرعة قال:
190 -
9-
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم
…
طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا
ويُطلق الطيرُ على العمل، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإِسراء: 13] .
وقوله: {إِلَاّ أُمَمٌ} خبر المبتدأ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان، لأن المراد بها الجنس. و «أمثالكم» صفة لأُمَم، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها. وقيل: في معرفة الله وعبادته.
قوله: {مِن شَيْءٍ} فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن «مِنْ» زائدة في المفعول به والتقدير: ما فرَّطْنا شيئاً، وتضمَّنه «فرَّطنا» معنى تركنا وأغفلنا، والمعنى: ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً. ثم اختلفوا في الكتاب: ما المراد به؟ فقيل: اللوح المحفوظ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما يكون فيه. وقيل: القرآن، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ؟ منهم من قال: نعم، وأن جميع الأشياء مثبتة في القرآن. إمَّا بالصريح وإمَّا بالإِيماء، ومنهم من قال: إنه يُراد به الخصوص، والمعنى: من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون. والثاني: أن «مِنْ» تبعيضيةٌ أي: ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه المكلَّف. الثالث: أنَّ «من شيء» في محل نصب على المصدر و «من» زائدة فيه أيضاً. ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره، فإنه قال:«مِنْ» زائدة، و «شيء» هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً.
وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً. ونظير ذلك: {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ «فرَّطْنا» لا يتعدى بنفسه بل
بحرف الجر، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب ب «في» فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا «انتهى. قوله:» يحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً «لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات. وقرأ الأعرج وعلقمة:» فَرَطْنا «مخفَّفاً، فقيل: هما بمعنى. وعن النقاش: فَرَطْنا: أخَّرْنا كما قالوا:» فَرَط الله عنك المرض «أي: أزاله.
قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ} : مبتدأٌ وما بعده الخبرُ. ويجوز أن يكون «صمٌّ» خبرَ مبتدأ محذوف، والجملة خبر الأول، والتقدير: والذين كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ، وقال أبو البقاء:«صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ، مثل حلو حامض، والواو لا تمنع من ذلك» . قلت: هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ وجهين، أحدهما: أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد لأنهما في معنى مُزّ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما مستقلٌّ بالفائدة. والثاني: أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي الفارسي وهو وجه ضعيف.
قوله: {فِي الظلمات} فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكون خبراً ثانياً لقوله: {والذين كَذَّبُواْ} ويكون ذلك عبارةً عن العَمَى، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] فَعَبَّر عن العمى بلازمه، والمراد بذلك عَمَى البصيرة. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في الخبر تقديرُه: ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات. الثالث: أنه صفةٌ ل «بُكْم» فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات. الرابع: أن يكون ظرفاً
على حقيقته وهو ظرف ل «صُمُّ» أو ل «بُكْم» قال أبو البقاء: «أو لِما ينوبُ عنهما في الفعل» أي: لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل.
قوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنها مبتدأ وخبرها ما بعدها، وقد عُرِف غير مرة. ومفعول «يشأ» محذوف أي: مَنْ يشأ الله إضلاله. والثاني: أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى، ويقدِّر ذلك الفعل متأخراً عن اسم الشرط لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك وأن فيه خلافاً، والتقدير: مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايته. فإن قلت: هل يجوز أن تكون «مَنْ» مفعولاً مقدَّماً ل «يشأ» ؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى. فإن قلت: أُقَدِّرُ مضافاً هو المفعول حُذِفَ وأقيمت «مَنْ» مُقامه تقديره: إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط. فالجوابُ أنَّ الأخفشَ حكى عن العرب أنَّ اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى سام الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو على ما أُضيف إليه، فالضمير في «يُضْلِلْه» و «يِجْعَلُه» إمَّا أن يعود على المضاف المحذوف ويكونَ كقوله:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] فالهاء في «يغشاه» تعود على المضاف أي: كذي ظلمات يَغْشاه، وإمَّا أن يعود على اسم الشرط، والأول ممتنع، إذ يصير التقدير: إضلال مَنْ يشأ الله يُضْلِلْه أي: يُضِلُّ الإِضلال، وهو فاسدٌ.
والثاني: أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط. فإن قيل: يجوز أن يكون المعنى: مَنْ يشأ الله بالإِضلال وتكون «مَنْ» مفعولاً مقدماً؛ لأنَّ «شاء» بمعنى أراد، و «أراد» يتعدى بالباء قال:
191 -
0-
أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ
…
عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد ظَلَمْ
قيل: لا يلزم من كون «شاء» بمعنى «أراد» أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نجد اللفظ الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول: دخلت الدار ودخلت في الأمر، ولا تقول: دخلتُ الأمرَ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يُحفظ عن العرب تعديةُ «شاء» بالباء وإن كانت في معنى أراد.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم} : يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام «قُلْ» وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش، وهو تسهيل مطرَّد، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني، ولها أحكام تختص بها، اضطربت أقوال الناس فيها، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول:
«أرأيْتَ» إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة الرئة كقولهم: «رَأَيْتُ الطائر» أي: أصبت رِئَته، لم يَجُزْ فها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينُها، بل تُحَقَّق ليس إلا، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر، ويكون ضميراً فاعلاً نحو: أرأيتم، أرأيتما أرأيتنَّ، ويدخلها التعليق والإِلغاء.
وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى «أخبرني» اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها: أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ
المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين. قال بعضهم: «هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه» أي على نافع. وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة. ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها. قلت: وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة.
وقال مكي، بن أبي طالب:«وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية، والمدُّ لا يتمكَّن، إلا مع البدل، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن» وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله «أأنذرتهم» . ومنها: أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً، فَمِنَ النظم قوله:
191 -
1- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا
…
مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا
أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا
…
وقال آخر:
191 -
2- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ
…
رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ
وأنشد الكسائي لأبي الأسود:
191 -
3- أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ
…
أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا
وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب، قال:«في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان، أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زيداً، أي: أعلمت، فهذه مهموزة، وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى أَخْبِرْني، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين» انتهى.
وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف، والثالث: أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال:«وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل» يعني في يرى وبابه. ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف، وأنشد:
191 -
4- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا
…
وأنشد لأبي الأسود:
191 -
5- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ
…
فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
وقولهم: {وَيْلُمِّه} وقوله:
191 -
6-
وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها
…
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ
وأنشد أيضاً:
191 -
7- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ
…
إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ
أي: ومن رأى
ومنها: أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني، و «أخبرني» لا يُعَلَّقُ عند الجمهور. قال سيبويه:«وتقول: أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في» زيد «ألا ترى أنك لو قلت:» أرأيت أو مَنْ انت؟ «لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها، وبقوله:{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم} [العلق: 1314]، وبقوله:
191 -
8- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا
…
وهذا لا يَرِد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً.
ومنها: أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى «أخبرني» فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها.
ومنها: أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما. وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ
التاء، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل، واستعير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة، الأولُ قولُ البصريِّين، والثاني قول الفراء، والثالثُ قولُ الكسائي.
ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق.
قال أبو علي: «قولهم» : «أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل» بفتح التاء في جميع الأحوال، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب. ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء، وممَّا كان يلحق الكاف، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم «.
وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك: «أرأيتك زيداً ما شأنه» لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى: أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه،
وهذا مُحالٌ «ثم ذكر مذهبَ البصريين. وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء:» وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع: أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع، لأن الكاف هو المخاطب، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائب آخر، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت، وهذا كلُّه لا يجوزُ، ولو قلت:«أرأيتك عالماً بزيد» لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى «رأى» إلى مفعولين «.
وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين:» والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت: إمَّا مجرورةً - وهو باطل، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين، أحدهما: أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع، والثاني: أنها لا رافعَ لها، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه، أحدُها: أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعولين كقولك: «أرأيت زيداً ما فعلَ» فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً.
والثاني: أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيت زيداً، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم،
أرأيتكنَّ «ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال:» وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه «.
وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال:» لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء، كما يقعان بها عند عدم الكاف، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد. ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة: أرأيت، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها «. وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ، ومع ذلك هي حرف.
وقال الفراء:» موضعُ الكاف نصب، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها، وهي بمنزلة الكاف في «دونك» إذا أغري بها، كما تقول:«دونكَ زيداً» فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً، لأنها مأمورةٌ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع «. قلت: وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم، والخلاف في» دونك «و» إليك «وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة.
وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع، قال:» للعرب في «أرأيْتَ» لغتان ومعنيان، أحدُهما رؤيةُ العين، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال، تقول للرجل:«أرأيتك على غير هذه الحال» تريد: هل رأيتَ نفسَك، ثم تثنِّي وتجمع فتقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ، والمعنى الآخر: أن تقول «أرأيتك» وأنت تريد معنى أخبرني، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي: أخبرني، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول:
أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً «؟
قال: والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتُني وأريتُني، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة، لا يقولون للرجل: قتلتَك بمعنى: قتلتَ نفسَك، ولا أحسنتَ إليك، كما يقولون: متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه، ألا ترى أنك تقول:» أنا أظنُّ خارجٌ «فتلغي» أظن «وقال الله تعالى:
{أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] ولم يَقُلْ: رأى نفسه. وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص:
قال جران العود:
191 -
9- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني
…
وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ
والعرب تقول: عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام «انتهى.
واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو: أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن» زيداً «مفعول أول، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني. وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان:» إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك «وقال الأخفش:» إن لا بد بعد «أرأيت» التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن «
أخبرني» موافق لمعنى الاستفهام «وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى» أما «أو» تنبَّه «، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد، وجعل من ذلك:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} [الكهف: 63] . وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك.
إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق: اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال، أحدُها: أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم» أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو ذلك: فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني: والتاء هي الفاعل، والكاف حرف خطاب.
الثاني: أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه، فإنْ عَنَى بقوله:«سَدَّا مَسَدَّه» أنَّهما دالَاّن عليه فهو المدَّعى.
والثالث: أن المفعول الأول محذوفٌ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ «العذاب» . وهذا اختيار الشيخ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال: «فنقول: الذي نختاره: أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية.
فإذا تقرَّر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية محذوف، والمسألة من باب التنازع، تنازع «أرأيتكم» والشرط
على «عذاب الله» ، فأعمل الثاني وهو «أتاكم» فارتفع «عذاب» به، ولو أعمل الأول لكان التركيب:«عذاب» بالنصب، ونظير ذلك:«اضرب إنْ جاءك زيد» على إعمال «جاءك» ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأول. وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام:«أغيرَ الله تَدْعُون» والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره: أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه، والمعنى: قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها «انتها. والتقدير الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح، وتقديره: قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً.
وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري:» إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون «قال الشيخ:» وإصلاحُه أن يقول: «فَمَنْ تدعون» بالفاء، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بتد فيه من الفاء. الثاني: أنه «أرأيتكم» ، قاله الحوفي، وهو فاسِدٌ لوجهين، أحدهما: أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ والثاني: أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب «هل» أو اسمٍ من أسماء الاستفهام، وإنما لم تقع الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو: أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً
يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً، ولا جائز أن تأتي بها لأنك: إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو: إن قمت فأزيد منطلق «، أو بعدها نحو:» أفزيد منطلق «، وكلاهما ممتنعٌ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها، وهذا بخلاف» هل «فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول: إن قمت فهل زيد قائم، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة.
الثالث: أنه» أغير الله «وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال:» ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقولِه: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله «قال الشيخ:» ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله: «أغير الله» ؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب «هل» وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال:«ولا يجوز أيضاً من وجه آخر، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ» أرأيتك «متعدِّية إلى اثنين، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ، وأنه من باب التنازع، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ» أرأيتَكم «متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز» قلت: وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه.
قوله «يلزم تعدِّيها لواحد» قلنا: لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام، كما قدَّره غيرُه: بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم، ثم قال:«وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد» أرأيت «مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه، قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} [الأنعام: 47]{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} [الأنعام: 46]{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 71]{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 72]{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50]{أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء: 205]{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 13] إلى غير ذلك من الآيات. وقال الشاعر:
192 -
0- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا
…
وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط» . انتهى.
ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله: {أغير الله} سأل سؤالاً وأجابَ عنه، قال:«فإنْ قلت: إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله:» فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه «مع قوله: {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله» إنْ شاء «إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ منه» قال الشيخ: «وهذا مبنيٌّ على أن
الشرط متعلقٌ ب» أغير الله «. وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز» قلت: تَرَك الشيخُ التبنيهَ على ماهو أهمُّ من
ذلك وهو قوله: «إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه» وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك، تعالى الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، لا يُسأل عما يَفعل، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً.
الرابع: أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم، ودَلَّ عليه قوله:{أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} الخامس: أن محذوف أيضاً، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى، تقديرُه: إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول: «أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به» أي: إن جاءَك فأخبرني عنه، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة «أخبرني» عليه، ونظيرُه: أنت ظالمُ إن فعلت، أي: فأنت ظالم، فحذف «فأنت ظالمٌ» لدلالةِ ما تقدَّم عليه. وهذا ما اختاره الشيخ. قال:«وهو جارٍ على قواعد العربية» وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره.
قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} «غيرَ» مفعول مقدم ل «تَدْعون» وتقديمُه: إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري: «بَكَّتهم بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء، ألا ترى أنك إذا قلت» أزيداً تضربُ «إنما تُنْكِرُ كونَ» زيد «مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى:{أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] .
قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ» صادقين «والتقدير: إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟
قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} : «بل» حرفُ إضرابٍ وانتقال لا إبطالٍ، لِما عَرَفْتَ غيرَ مرة من أنها في كلام الله كذلك. و «إياه» مفعول مقدَّم للاختصاص عند الزمخشري، ولذلك قال:«بل تَخُصُّونه بالدعاء، وعند غيره للاعتناء، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاص فِمِنْ قرينة أخرى.» وإياه «ضمير منصوب منفصل تقدَّم الكلامُ عليه مشبعاً في الفاتحة وقال ابن عطية:» هنا «إيَّا» اسم مضمر أُجري مُجرى المظهرات في أنه مضاف أبداً «قال الشيخ:» وهذا خلافُ مذهبِ سيبويه، فإنَّ مذهب سيبويه أن ما بعد «إيَّا» حرفٌ يُبَيِّن أحوال الضمير، وليس مضافاً لما بعده، لئلَاّ يلزمَ تعريفُ الإِضافةِ، وذلك يستدعي تنكيره، والضمائر لا تَقْبَلُ التنكير فلا تقبل الإِضافة.
قوله: {مَا تَدْعُونَ} يجوز في «ما» أربعةُ أوجه، أظهرها: أنها موصولة بمعنى الذي أي: فتكشف الذي تَدْعون، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي: تَدْعونه. الثاني: أنها ظرفية، قال ابن عطية. وعلى هذا فيكون مفعول «يكشفُ» محذوفاً تقديره: فيكشف العذاب مدةَ دعائكم أي: ما دُمْتُمْ داعِيه.
قال الشيخ: «وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وَصْلَها بمضارعٍ، وهو قليلٌ جداً تقولُ:» لا أُكَلِّمك ما طلَعت الشمس «ويضعف: ما تطلع الشمس» قلت: قوله بمضارع «كان ينبغي أن يقول مثبت؛ لأنه متى كان منفياً ب» لم «كَثُر وَصْلُها به نحو قوله:
192 -
1- ولَنْ يَلْبَثَ الجُهَّالُ أن يَتَهَضَّموا
…
أخا الحلم ما لم يَسْتَعِنْ بجَهول
ومِنْ وَصْلها بمضارعٍ مثبت قولُه:
192 -
2- أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم آوي
…
إلى أمَّا ويَرْويني النقيعُ
وقول الآخر:
192 -
3- أُطَوِّفُ ما أُطّوِّفُ ثم أوي
…
إلى بيتٍ قعيدَتُهُ لَكاعِ
ف» أُطَوِّفُ «صلةُ ل» ما «الظرفية.
الثالث: أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والعائد أيضاً محذوف أي: فيكشفُ شيئاً تَدْعونه أي: تَدْعون كَشْفَه، والحذفُ من الصفةِ أقلُّ منه من الصلة. الرابع: أنها مصدرية، قال ابن عطية:» ويَصِحُّ أن تكون مصدرية على حذف في الكلام «قال الزجاج:» وهو مثل: {وَسْئَلِ
القرية} [يوسف: 82] . قلت: والتقدير: فيكشف سبب دعائكم وموجبه قال الشيخ «وهذه دعوى محذوف غيرِ معين وهو خلاف الظاهر» وقال أبو البقاء: «وليست مصدرية إلا أَنْ تجعلَها مصدراً بمعنى المفعول» يعني يصير تقديره: فيكشف مَدْعُوَّكم أي: الذي تَدْعُون لأجله، وهو الضُّرُّ ونحوه.
قوله: {إِلَيْهِ} فيما يتعلق به وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب «تَدْعون» ، والضمير حينئذ يعود على «ما» الموصولة أي: الذي تدعون إلى كَشْفِه، و «دعا» بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى ب «إلى» أو اللام.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33]{وَإِذَا دعوا إِلَى الله} [النور: 48] وقال:
192 -
4- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال:
192 -
5- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ
…
يوماً سَراةَ كرامِ الناس فادْعِينا
وقال:
192 -
6- دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً
…
فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
والثاني: أن يتلعَّق ب «يَكْشِفُ» قال أبو البقاء: «أي: يرفعه
إليه» انتهى. والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه. وقال ابن عطية:«والضمير في» إليه «يُحتمل أن يعودَ إلى الله بتقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه» قال الشيخ: «وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ» دعا «يتعدى لمفعول به دون حرف جر: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] {إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ومن كلام العرب:» دعوتُ الله سميعاً «قلت: ومثلُه: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} [الإِسراء: 110] {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} [الأعراف: 55] قال: ولا تقول بهذا المعنى:» دعوت إلى الله «بمعنى: دعوت الله، إلا أنه يمكن أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين، ضمَّن» تدعون «معنى» تلجَؤون فيه إلى الله «إلا أنَّ التضمين ليس بقياس، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا» .
قلت: ليس التضمين مقصوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر، تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها، على أنه قد يقال تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن «إليه» متعلق بيكشف، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه «يرفعه» فلا يلزم المحذورُ المذكور، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله «تدعون فيه إليه» فتقديره «فيه» ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه ب «تَدْعُون» .
قوله: {إِنْ شَآءَ} جوابه محذوف لفهم المعنى، ودلالة ما قبله عليه، أي: إنْ شاء أن يكشِفَ كشف، وادِّعاءُ تقديمِ جواب الشرط هنا واضحٌ
لاقترانه بالفاء، فهو أحسنُ مِنْ قوله:«أنت ظالم إن فعلت» لكن يمنع مِنْ كونها جواباً هنا أنها سببيَّةٌ مرتبة أي: أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاء، وأن الدعاءَ سببٌ فيه، على أن لنا خلافاً في فاء الجزاء: هل تفي السببيَّة أو لا؟
قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} الظاهر في «ما» أن تكون موصولةً اسمية، والمرادُ بها ما عُبِد مِنْ دون الله مطلقاً: العقلاءُ وغيرُهم، إلا أنه غَلَّب غيرَ العقلاء عليهم كقوله:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات} [النحل: 49] والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونه مع الله في العبادة. وقال الفارسي: «الأصلُ: وتَنْسَون دعاءَ ما تشركون، فحذف المضاف» ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وحينئذ لا تحتاج إلى عائد عند الجمهور. ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي: تَنْسَون الإِشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة، أو هو واقعٌ موقعَ المعفول به، أي: وتنسَوْن المُشْرَك به وهي الأصنام وغيرها، وعلى هذا فمعناه كالأول وحينئذٍ يحتمل السياقُ أن يكون على بابه من الغفلة، وأن يكون بمعنى الترك، وإن كانوا ذاكرين لها أي للأصنام وغيرها.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ} : في الكلام حَذْفٌ تقديره: أَرْسَلْنا رسلاً إلى أمم فكذَّبوا فأخذناهم، وهذا الحذفُ ظاهرٌ جداً، و «مِنْ قبلك» متعلِّق بأَرْسلنا، وفي جعله صفةً لأمم كلامٌ تقدَّم غير مرة، وتقدَّم تفسيرُ البأساء والضرَّاء، ولم يُلْفَظْ لهما بمذكَّر على أَفْعَل.
قوله تعالى: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} : «إذ» منصوب ب «تَضرَّعوا» فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز
حتى في المفعول به، تقول:«لولا زيداً ضَرَبْتَ» وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ.
والتضرُّع: تفعُّل من الضَّراعة، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال: ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال:
192 -
7- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ
…
ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له «ضَرْعاً»
قوله: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} «لكنْ» هنا واقعة بين ضدين، وهما اللين والقسوة؛ وذلك أن قولَه «تَضَرَّعوا» مُشْعِرٌ باللين والسهولة، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان، والقسوة عبارة عن الكفر، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب، ألا ترى أنك تقول:«آمَنَ قلبُه فتضرَّع، وقسا قلبه فكفر» وهذا أحسن من قول أبي البقاء: «ولكن» استدراك على المعنى، أي ما تضرَّعوا ولكن «يعني أن التحضيض في معنى النفي، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمخشري فإنه قال:» معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل: لم يتضرعوا إذ جاءهم بأْسُنا، ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم «.
قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ} هذه الجملة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون استنافيةً، أخبر تعالى عنهم بذلك.» والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلةٌ في حَيِّز
الاستدارك فهي نسقٌ على قوله: {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال: «لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم» وقد تقدَّم ذلك. و «ما» في قوله: {مَا كَانُواّ} يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي: الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية، أي: زَيَّن لهم عملَهم، كقوله:{زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة.
قوله تعالى: {فَتَحْنَا} : قرأ الجمهور «فَتَحْنا» مخفَّفاً، وابن عامر «فتَّحنا» مثقلاً، والتثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتكثير؛ لأنَّ بعده «أبواب» فناسب التكثير، والتخفيف هو الأصل. وقرأ ابنُ عامر أيضاً في الأعراف:{لَفَتَحْنَا} [الآية: 96] وفي القمر: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ} [الآية: 11] بالتشديد أيضاً، وشدَّد أيضاً {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] والخلاف أيضاً في {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الآيتين: 71، 73] في الزمر في الموضعين، {وَفُتِحَتِ السمآء} [الآية: 19] في النبأ، فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأْها بالتخفيف إلا الكوفيون، فقد جرى ابن عامر على نمطٍ واحد في هذا الفعل، والباقون شدَّدوا في المواضع الثلاثة المشارِ إليها، وخفَّفوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين.
قوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} «إذا» هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب
مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهب جماعة منهم والرياشي أنها ظرفُ زمانٍ، ومذهب الكوفيين أنها حرف. فعلى تقدير كونها ظرفاً مكاناً أو زماناً الناصبُ لها خبر المبتدأ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها.
والإِبلاسُ: الإِطراق، وقيل: هو الحُزْن المعترض من شدة البأس، ومنه اشْتُقَّ «إبليس» وقد تقدَّم في موضعه وأنه هل هو أعجمي أم لا؟
قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ} الجمهور على «فَقُطِع» مبنيّاً للمفعول. «دابر» مرفوع به. وقرأ عكرمة: «قطع» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «دابر» مفعول به، وفيه التفاتٌ، إذ هو خروج من تكلم في قوله:«أخذناهم» إلى غيبة. والدابِرُ: التابع من خلف، يقال: دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلان القوم يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً. وقيل: الدابِر: الأصل، يقال: قطع الله دابِرَه أي: أصله، قال الأصمعي. وقال أبو عبيد:«دابرُ القوم آخرُهم» ، وأنشدوا لأميَّة بن ابي الصلت:
192 -
8- فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ
…
فما استطاعوا له صَرْفاً ولا انتصروا
ومنه: دَبَر السهمُ الهدفَ أي: سقَط خلفَه.
قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} : المفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم سَمْعَكم وأبصاركم إن أخذها الله، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني، وقد تقدم أنَّ الشيخ يجعلُه من التنازع، وجواب الشرط محذوف على نحو ما مرَّ. وقال الحوفي:«وحرفُ الشرط وما اتصل به في موضع نصبٍ على الحال، والعالمُ في الحال» أرأيتم «كقولك:» اضربه إن خرج «أي خارجاً، وجواب الشرط ما تقدَّم مِمَّا دخلَتْ عليه همزة
الاستفهام» وهذا إعرابٌ لا يَظْهر. ولم يُؤْتَ هنا بكاف الخطاب وأُتي به هناك؛ لأنَّ التهديدَ هناك أعظم فناسب التأكيد بالإِتيان بكاف الخطاب، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وجب بروزُ علامةِ الجمع في التاء لئلا يلتبسَ، ولو جيء معها بالكاف لا ستُغْنِي بها كما تقدَّم، وتوحيد السمع وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ ممَّا تقدَّم في البقرة.
قوله: {مَّنْ إله} مبتدأ وخبر، و «مَنْ» استفهامية، «وغيرُ الله» صفةٌ ب «إلهٌ» و «يأتيكم» صفةٌ ثانية، والهاء في «به» على سمعكم. وقيل: تعود على الجميع. وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإِشارة وقيل: تعود على الهَدْي المدلول عليه بالمعنى. وقيل: يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ والخَتْم. والاستفهام هنا للإِنكار.
قوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ} «كيف» معمولةٌ لنصرِّف، ونصبُها: إمَّا على التشبيه بالحال أو التشبيه بالظرف، وهي مُعَلِّقةٌ ل «انظر» فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر، وهذا كله ظاهر مِمَّا تقدم. «ويَصْدِفون» معناه يُعْرِضُون، يقال: صَدَف عن الشيء صَدْفاً وصُدُوفاً وصدافِيَةً قال عدي بن الرقاع:
192 -
9- إذا ذكرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَه
…
وهُنَّ عن كل سوءٍ يُتَّقى صُدُفُ
«صُدُف» جمع صَدُوف ك صُبُر في جمع صبور، وقيل: معنى صدف: مالَ، مأخوذ من الصَّدَف في البعير وهو أن يَميل خِفُّه من اليد إلى الرِّجْل من الجانب الوحشي. والصَّدَف جمع صَدَفة وهي المَحارة التي تكون فيها الدُّرَّة قال:
193 -
0-
وزادَها عَجَباً أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ
…
وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في الصَّدَفِ
والصَّدَف والصُّدُف بفتح الصاد والدال وضمهما، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجبل المرتفع، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان.
والجمهور: «به انظر» بكسر الهاءِ على الاصل، وروى المُسَيِّبي عن نافع:«بهُ انظر» بضمها نظراً إلى الأصل: وقرأ الجمهور أيضاً: {نُصَرِّف} مضعَّفاً، وقُرِئ شاذاً:«نَصْرِف» بكسر الراء من صرف ثلاثياً.
قوله: {هَلْ يُهْلَكُ} هذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت «إلَاّ» ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، والتقدير: ما يُهْلك إلا القوم الظالمون. وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتكم» والأولُ محذوفٌ، وهذا من التنازع على رأي الشيخ كما تقدَّم تقريره. وقال أبو البقاء:«الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير، فلذلك ناب عن جواب الشرط أي: إن أتاكمْ هَلَكْتم، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه، ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً. وقرأ ابن محيصن: {هل يَهْلَكُ} مبنياً للفاعل. وتَقَدَّم الكلام أيضاً على» بَغْتة «اشتقاقاً وإعراباً» .
قوله تعالى: {إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} : حال من «المرسلين» وفي هذه الحال معنى الغَلَبة أي: لم نُرْسِلْهم لأن تُقْتَرَحَ عليهم
الآيات، بل لأن يُبَشِّروا ويُنْذِرُوا. وقرأ إبراهيم ويحيى:«مُبْشِرين» بالتخفيف وقد تقدَّم أن «أَبْشَر» لغةٌ في «بَشَّر» .
قوله: {فَمَنْ آمَنَ} يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وأن تكونَ موصولةً، وعلى كلا التقديرين فمحلُّها رفعٌ بالابتداء والخبر:«فلا خوف» : فإن كانت شرطية فالفاء جواب الشرط، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون محلُّ الجملتين الجزمَ، وعلى الثاني لا محلَّ للأولى، ومحلُّ الثانية الرفع، وحُمِل على اللفظ فأفردَ في «آمن» و «اصلَح» ، وعلى المعنى فجمع في {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ويُقَوِّي كونَها موصولةً مقابلتُها بالموصول بعدها في قوله:{والذين كَذَّبوا} .
وقرأ علقمة: {نُمسُّهم} : بنونٍ مضمومة من «أَمَسَّه كذا» «العذابَ» نصباً، والأعمش ويحيى بن وثاب:«يَفْسِقون» بكسر السين، وقد تقدَّم أنها لغة. و «ما» مصدريةٌ على الأظهر، أي: بفِسْقِهم.
قوله: {ولا أَعْلَمُ الغيب} في محلِّ هذه الجملة وجهان، أحدهما: النصب عطفاً على قوله «عندي خزائنُ الله» لأنه من جملة المقول، كأنه قال: لا أقول لكم هذا القولَ ولا هذا القولَ، قاله الزمشخري، وفيه نظرٌ من حيث إنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقول لكم لا أَعْلَمُ الغيب، وليس بصحيحٍ. والثاني: أنه معطوف على «لا أقول» لا معمولٌ له، فهو أمَرَ أن يُخْبِرَ عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة
للأمر الذي هو «قل» ، وهذا تخريجُ الشيخ، قال بعد أن حكى قول الزمخشري:«ولا يتعيَّنُ ما قاله، بل الظاهرُ أنه معطوفٌ على» ألَاّ أقول «إلى آخره» .
قوله: {بالغداة} : قرأ الجمهور: «بالغداة» هنا وفي الكهف وابن عامر: {بالغُدْوة} بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي. والأشهر في «الغُدْوة» أنها معرفة بالعلمية، وهي علميَّة الجنس كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء:«سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة قط، يريد: غداة يومه» قال: «ألا ترى أن العرب لا تضيفها، فكذا لا يدخلها الألف واللام، إنما يقولون: جئتك غداة الخميس» وقال الفراء في كتاب «المعاني» في سورة الكهف: «قرأ عبد الرحمن السلمي: {بالغُدْوَة والعَشِي} ولا أعلم أحداً قرأ بها غيره، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في» الغدوة «لأنها معرفة بغير ألف ولام» فذكره إلى آخره.
وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال: «إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظُهما على تَرْكها، وكذلك الغداة، على هذا وجدنا العرب» . وقال الفارسيُّ: «الوجه قراءة العامة بالغداة، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام، فأمَّا» غُدْوَة «فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع للتعريف، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك. ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها، فكذلك الغداة. قال سيبويه:» غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين، كما جعلوا «أم حُبَيْن» اسماً لدابَّةٍ معروفة «. إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه، وكيف يُظَنُّ بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن قراءته، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة، وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عبيد رحمه الله لم يعرف أن تنكير» غدوة «لغةُ ثانية عن العرب حكاها سيبويه والخليل.
قال سيبويه:» زعم الخيل أنه يجوز أن تقول: «أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة» فجعلها مثل ضَحْوة، قال المهدوي:«حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر فيقول» غُدْوةً «بالتنوين، وبذلك قرأه ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألف واللام» وقال أبو علي الفارسي: «وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر، كما حكى أبو زيد» لقيته فَيْنَةَ «
غير مصروفة» والفَيْنَةَ بعد الفينة «أي: الحين بعد الحين، فألحق لام التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني» .
وقال أبو جعفر النحاس: «قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن عامر:» بالغُدْوة «قال:» وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف «وقال مكي بن أبي طالب:» إنما دَخَلَت الألف واللام على «غداة» لأنها نكرة، وأكثر العرب يَجْعل «غُدوة» معرفةً فلا ينوِّنها، وكلهم يجعل «غداة» نكرةً فينوِّنها، ومنهم مَنْ يجعل «غُدْوة» نكرة وهم الأقل «فثبت بهذه النقولِ التي ذكرْتُها عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد، وكأنه رحمه الله لم يحفظها لغةً.
وأما» العَشِيُّ «فنكرةٌ وكذلك» عَشِيَّة «وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟ أي: إن هذا اللفظَ فيه لغتان: التذكير والتأنيث أو أن عَشِيّاً جمعُ عَشِيَّة في المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة، فيكون اسم جنس، خلاف مشهور، والظاهر الأول لقوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات} [ص: 31] ، إذ المرادُ هنا عشيَّة واحدة، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة» الغدوة «بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي: الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة، وحرفٌ اتٌّفِق على رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو» الغداة «. وأصل غداة: غَدَوَة، تحرَّكَت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً. وقرأ ابن أبي عبلة»
بالغَدَوات والعَشِيَّات «جمع غداة وعشية، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً» بالغدوِّ «بتشديد الواو من غير هاء.
قوله: {يُرِيدُونَ} هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل» يَدْعون «أو مِنْ مفعلوله، والأول هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ أي: يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهَه.
قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} » ما «هذه يجوز أن تكونَ الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون» عليك «في محل النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان ظرفاً أو حرف جر، وأمَّا إذا كانت تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان» عليك «في محل رفع خبراً مقدماً، والمبتدأ هو» مِنْ شيء «زِيْدت فيه» مِنْ «.
وقوله: {مِنْ حِسَابِهِم} قالوا: «مِنْ» بتعيضية وهي في محلِّ نصب على الحال، وصاحبُ الحال هو «مِنْ شيء» لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له، وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، والعامل في الحال الاستقرار في «عليك» ، ويجوز أن يكون «من شيء» في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ورافعُه «عليك» لاعتماده على النفي، و «مِنْ حسابهم» حالٌ أيضاً من «شيء» العمل فيها الاستقرار، والتقدير: ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم. وأُجيز أن يكون «من حسابهم» هو الخبر: إمَّا ل «ما» وإمَّا للمبتدأ، «وعليك» حال من «شيء» ، والعامل فيها الاستقرار، وعلى هذا فيجوز أن يكون «من حسابهم» هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه، و «عليك» حال أيضاً كما تقدم تقريره، وكون «من حسابهم» هو الخبر، و «عليك» هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة إنما هو «عليك» .
وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} كالذي قبله، إلا أنَّ هنا
يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك، وذلك أن قوله «من حسابك» لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي، وهو ضعيفٌ أو ممتنع، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذ لك أن تجعل قوله «مِنْ حسابك» بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ، وكَوْنُ «مِنْ» هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى لكان التركيب:«وما عليهم مِنْ حسابك من شيء» فتقدَّم المجرور ب «على» كما قَدَّمه في الأولى، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم.
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع: ردَّ الأعجاز على الصدور، كقولهم:«عادات السادات سادات العادات» ، ومثله في المعنى قول الشاعر:
193 -
1- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ
…
وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم
وقال الزمخشري: - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - «فإن قلت أما كفى قولُه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} حتى ضمَّ إليه {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ} قلت: قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] ، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه» .
قال الشيخ: «قوله: لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره» تركيبٌ غير عربي،
لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً، لأنه إنْ عاد غائباً فلم يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله «هم» ولا يمكن العَوْدُ عليه على اعتقادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قولُه «لا تُؤاخذ أنت» ولا يمكن العَوْدُ إليه، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً، ولو أَبْرَزْته مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب ايضاً، فإصلاحُ التركيبِ أن يقال:«لا يُؤاخذُ كلُّ واحدٍ منك ولا منهم بحسابِ صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما تقول: «أنت وزيد تضربان» والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره: لا يؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بحساب صاحبه، وتكون «انت ولا هم» بدلاً من كل واحد، والضمير، في «صاحبه» عائد على قوله «كل واحد» ، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم، وذلك أنه قال:«أولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم» وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثاني هو المقصود.
والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله:{مِنْ حِسَابِهِم} و «عليهم» و «فتطردهم» الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم، وبه قال الطبري، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ. وقال الزمخشريّ وبان عطية: «إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود
على الداعين» . قال الشيخ: «وقيل: الضميرُ في» حسابهم «و» عليهم «عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه» ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين «في حسابهم» و «عليهم» عائدَيْن على المشركين، وليس الأمرُ كذلك، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو «لا تَطْرُدِ» وبين جوابِه وهو فتكونَ «وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك في» فتكون «:» وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله {وَلَا تَطْرُدِ} وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه «فجعلهما اعتراضاً مطلقاً من غير نظر إلى الضميرين.
ويعني بالجملتين «وما عليك من حسابهم مِنْ شيء» و «ما من حسابك عليهم من شيء» وبجواب الأول قوله {فَتَطْرُدَهُمْ} .
قوله تعالى: {فَتَطْرُدَهُمْ} فيه وجهان، أحدهما: منصوب على جواب النهي بأحد معنيين فقط، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم، لأنه ينتفي المُسَبِّب بانتفاء سببه، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو «ما تأتينا فتحدِّثنا» بنصب «فتحدِّثَنا» وهو يحتمل معنيين، أحدُهما: انتفاءُ الإِتيان وانتفاء الحديث، كأنه قيل: ما يكون منك إتيانٌ فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود الآية الكريمة أي: ما يكون مؤاخذةٌ كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انتفاء الحديث وثبوت الإِتيان كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدِّث. وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة، والعلماء رحمهم الله وإن أطلقوا قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني: والثاني: أن يكون منصوباً على جواب النهي.
وأما قوله «فتكونَ» ففي نصبه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب عطفاً على «فتطردَهم» والمعنى: الإِخبار بانتفاء حسابهم، والطرد والظلم المسبب عن الطرد. قال الزمخشري:«ويجوز أن تكون عطفاً على» فتطردَهم «على وجه السبب، لأنَّ كونَه ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم» .
والثاني من وجهي النصب: أنه منصوب على جواب النهي في قوله: «ولا تَطْرد» ولم يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره. قال الشيخ: «وجوَّزوا أن يكون» فتكونَ «جواباً للنهي في قوله» لا تَطْرِدِ «كقوله: {لَا تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61] ، وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه» قلت: قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على عَوْد الضميرين في قوله «مِنْ حسابهم» و «عليهم» على المشركين كما هو المفهوم من قوله ههنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك.
قوله تعالى: {وكذلك فَتَنَّا} : الكاف في محصل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون المتقدِّم الذي فُهم من سِياق أخبار الأمم الماضية فَتَنَّا بعضَ هذه الأمةِ ببعض، فالإِشارةُ بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله:{فَتَنَّا} ولذلك قال الزمخشري: «ومِثْل ذلك الفَتْن العظيم فُتِن بعض الناس ببعض» فجعلَ الإِشارة لمصدر «فتنَّا» ،
وانظر كيف لم يتلفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله تعالى في كلامه، وإن كان الباري تعالى قد أَسْندها، بل قال:«فُتِن بعضُ الناس» فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة.
وجعل ابنُ عطية الإِشارةَ إلى طلب الطرد فإنه قال بعد كلام يتعلق بالتفسير: «والإِشارة بذلك إلا ما ذُكِرَ مِنْ طلبهم أنْ يطرد الضعفة» . قال الشيخ: «ولا ينتظم هذا التشبيه، إذ يصير التقدير: مثل طلب الطرف فتنَّا بعضهم [ببعض] ، والمتبادر إلى الذهن من قولك:» ضربْتُ مثل ذلك «المماثلةُ في الضرب، أي: مثل ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضرب، وقد تقدم غير مرة أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المصدر المقدر.
قوله: {ليقولوا} في هذه اللام وجهان، أظهرهما: - وعليه أكثر المعربين والمفسِّرين - أنها لام كي، والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً منا وامتحانا. والثاني: أنها لام الصيرورة أي العاقبة كقوله:
193 -
2- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخراب
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} [القصص: 8] ويكونُ قولهم» أهؤلاء «إلى آخره، صادراً على سبيل الاستخفاف.
قوله: {أهؤلاء} يجوز في وجهان، أظهرهما: أنه منصوب المحل على الاشتغال بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره الفعل الظاهر، العامل في ضميره بوساطة» على «، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفَضَّلَ الله هؤلاء منَّ عليهم، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم، ولا محلَّ لقوله: {مَنَّ الله عَلَيْهِم} لكونها مفسرة، وإنما رجَّح هنا إضمار الفعل لأنه وقع بعد أداةٍ يغلب إيلاءُ الفعلِ لها. والثاني: أنَّه مرفوع لامحل على أنه مبتدأ والخبر: مَنَّ الله عليهم، وهذا وإن كان سالماً من الإِضمار الموجود في الوجه الذي قبله، إلا أنه مرجوحٌ لما تقدم، و» عليهم «متعلِّقٌ ب» مَنَّ «.
و {مِّن بَيْنِنَآ} يجوز أن يتعلَّق به أيضاً، قال أبو البقاء:» أي: ميَّزهم علينا، ويجوز أن يكون حالاً «قال أبو البقاء أيضاً:» أي: مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب، إلا أنه لم يَسُقْهما إلا تفسيرَيْ إعراب، والجملة من قوله:{أهؤلاء مَنَّ الله} في محلِّ نصب بالقول.
وقوله: {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} الفرق بين التاءين أو الأولى لا تعلُّق لها لكونها زائدةً في خبر ليس، والثانية متعلقة بأعلم، وتَعدِّي العِلْم بها لِما ضُمِّن من معنى الإِحاطة، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء فيقولون: عَلِم بكذا، والعِلْم بكذا، لما تقدم.
قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ} : «إذا» منصوب بجوابه أي: فقلْ: سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي: أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح. وقال أبو البقاء:«العامل في» إذا «معنى الجواب
أي: إذا جاؤوك سلِّمْ عليهم» ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى، لأن كونه يبلَّغهم السلام والإِخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة، وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط، وتقديره يُفْضي إلى ذلك.
وقوله: {سَلَامٌ} مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ، والدعاء من المسوِّغات. وقال أبو البقاء:«لما فيه من معنى الفعل» وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو: قائمٌ أبواك، ونَقَل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه، واستدل الأخفش بقوله:
193 -
3- خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً
…
مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ
ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره، ف «خبير» خبرٌ مقدَّمٌ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر:
193 -
4- فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ
…
إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا
فخير مبتدأ، و «نحن» فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر،
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون «خير» خبراً مقدماً، «ونحن» مبتدأ
مؤخر؟ قيل: لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و «مِنْ» بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً، فإن الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد قرَّرتُها في غير هذا الموضوع، و «عليكم» خبرُه، و «سلام عليكم» أبلغُ من «سلاماً عليكم» . بالنصب، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة «الحمدُ» و «الحمدَ» .
وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ} في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} .
قوله {أنَّه، فأنَّه} قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني. وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع، فيحتمل أن يكون عن روايتان. فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه، أحدها: أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير: كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة. والثاني: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف أي: عليه أنه من عمل إلى آخره.
والثالث: أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر، والتقدير: لأنه مَنْ عمل، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور. الرابع: أنها مفول ب «كتب» و «الرحمة» مفعول من أجله، أي: كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم. قال الشيخ: «
وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه» .
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه، أحدها: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي: فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله:{أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه} [الحج: 4] كما أجمعوا على كسرها في قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] الثاني: أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم. الثالث: أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلام وعُطِفت عليها بالفاء، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس. وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب، وبيان ذلك أن «مِنْ» في قوله:{أَنَّهُ مَن عَمِلَ} لا تخلو: إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، فلو جعلنا «أن» الثانية، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط، وهو لا يجوز.
قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال: «ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] ودخلت الفاء في»
فأنه غفورٌ «على حَدِّ دخولها في {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} [آل عمران: 188] على قول مَنْ جعله تكريراً لقولَه: {لَا تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] إلا أن هذا ليس مثلَ» أيعدكم أنَّكم «؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم» انتهى. وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك.
الرابع: أنها بدل من «أنَّ» الأولى، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين، أحدهما: أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف، فامتنع أن يكون بدلاً. فإن قيل: نجعل الفاء زائدةً. فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة، وهي شيء قال به الأخفش، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر: وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب.
والثاني من الشيئين: خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب، كما تقدَّم تقريره: فإن قيل: نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل: هذا بعيدٌ عن الفَهْم.
الخامس: أنها مرفوعةٌ بالفاعلية، تقديره: فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي: استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره: فعليه أنه غفور، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة.
وأما القراءة الثانية: فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله:{كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} والثاني: أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله. والثالث: أنه أجرى «كتب» مُجْرى «قال» فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين. وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين، أحدهما: أنها على الاستئناف، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً ل «مَنْ» الموصولة، أو جواباً لها إن كانت شرطاً. والثاني: أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جزاء، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين.
وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر «مَنْ» محذوفٌ دلَّ عليه الكلام، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها، ثم قال:«ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي: فإنه غفورٌ له» قلت: قوله «ويجوز» ليس بجيدٍ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ.
وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك، وهو ظاهر.
وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة: «وأجاز الزجاجُ كَسْرَ
الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به» قلت: قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج، وأما أبو شامة فإنه متأخر، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب.
والهاء في «أنَّه» ضمير الأمر والقصة. و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن كانت شرطاً، وإلَاّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة، والعائد محذوف أي: غفول له.
والهاء في «بعده» يجوز أن تعود على «السوء» وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] ، والأولى أولى لأنه أصرح، و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل «عمل» ، ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان فيعمل فيها «أعني» مقدراً.
وقوله {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه يتعلَّق ب «عمل» على أن الباءَ للسببيةِ أي: عملُه بسبب الجهل. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح. والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي: عملُه مصاحباً للجهالة. «ومِنْ» في «مِنْ بعده» لابتداء الغاية.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ} : الكاف أمرُها واضحٌ من كونها نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، والإِشارة ب «ذلك» إلى التفصيل السابق، تقديره: مثل ذلك
التفصيل البيِّنِ، وهو ما سَبَقَ من أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن. وقال ابن عطية:«والإِشارة بقوله» وكذلك «إلى ما تقدَّم، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك، وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها» . وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله: {وكذلك فَتَنَّا} [الأنعام: 53] وتقدَّم أنه غير ظاهر.
قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ} قرأ الأخوان وأبو بكر: «وليستبين» بالياء من تحت، «سبيلُ» بالرفع ونافع:«ولتستبين» بالتاء من فوق، «سبيلَ» بالنصب، والباقون: بالتاء من فوق، «سبيل» بالرفع. وهذه القراءات دائرة على تذكير «السبيل» وتأنيثه وتَعَدَّي «استبان» ولُزِومه. وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير «السبيل» وعليه قوله تعالى:{وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] ، لغةُ الحجاز التأنيث، وعليه:{قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] وقوله:
193 -
5- خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأمَّا «استبانَ» فيكونُ متعدِّياً نحو: استَبَنْتُ الشيءَ «ويكون لازماً نحو:» استبان الصبح «بمعنى بأن، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل إلى» السبيل «فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم، ومن قرأ بالتاء من فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث. ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب» السبيلَ «فإنه أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب» السبيل «على المفعولية وذلك على
تعدية الفعل أي: ولتستبين أنت سبيل المجرمين، فالتاء في» لتستبينَ «مختلفةُ المعنى، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث، وهي في كلا الحالين للمضارعة، و» تستبين «منصوب بإضمار» أن «بعد لام كي، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها معطوفة على علة محذوفة، وتلك العلة معمولةٌ لقوله:{نفَصِّلُ} والمعنى: وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين.
والثاني: أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي: ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها ذلك التفصيل. وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيٍ، أي: وسبيل المؤمنين، كقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] . وقيل: لا يُحتاج إلى ذلك، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم ذِكْره.
قوله تعالى: {أَنْ أَعْبُدَ} : في محل «أَنْ» الخلاف المشهور، إذ هي على حَذْفِ حرف تقديره: نُهِيْتُ عن أن أعبدَ. وقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} «إذن» حرف جواب وجزاء لا عمل لها هنا لعدم فعلٍ تعمل فيه، والمعنى:«إن اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت» فهي في قوة شرط وجزاء.
والجمهور: {ضَلَلْتَ} بفتح اللام الأولى. وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى وطلحة بكسرها، وقد تقدَّم أنها لغة. ونقل صاحب التحرير [عن يحيى وابن أبي ليلى أنها قرآ] هنا وفي ألم السجدة:{أَإِذَا ضَلَلْنَا} بصاد غير
معجمة. يقال: صَلَّ اللحمُ أي: أنتن، وهذا له بعض مناسبة في آية السجدة، وأما هنا فمعناه بعيدٌ أو ممتنعٌ. وروى العباس عن ابن مجاهد في «الشواذ» له:«صُلِلْنا في الأرض» أي دُفِنَّا في الصَّلَّة وهي الأرضُ الصُلْبة. وقوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} تأكيد لقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ} وأتى بالأولى جملةً فعلية ليدلَّ على تجدد الفعل وحُدوثهِ، وبالثانية اسميةً ليدلَّ على الثبوت.
قوله تعالى: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} : في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محصل نصب على الحال، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ والهاء في «به» يجوز أن تعود على «ربي» وهو الظاهر. وقيل: على القرآن لأنه كالمذكور. وقيل على «بَيِّنَة» لأنها في معنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي، و «من ربي» في محل جر صفة ل «بينة»
قوله: {يَقُصُّ الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم: «يقص» بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة:«يقضي بالحق» من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: «يقضي بالحق وهو خير القاضين» فأمَّا قراءة «يقضي» فمِن القضاء. ويؤيده قوله: «وهو خير الفاصلين» فإنَّ الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو:{فَمَا تُغْنِ النذر} [القمر: 5] ، وكما حُذِفَتْ الواو في {سَنَدْعُ
الزبانية} [العلق: 18]{وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] لما تقدم.
وأمَّا نصب «الحق» بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن «يقضي» معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن «قضى» بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله:
193 -
6- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما
…
داودُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله:
193 -
7- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل.
وأما قراءة «يَقُصُّ» فمِنْ «قَصَّ الحديث» أو مِنْ «قصَّ الأثر» أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] . ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: «الفاصلين» ، وحُكي عنه أنَّه قال:«أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق» فقالوا: «يقصُّ» فقال: «لو كان» يقص «لقال:» وهو خير القاصِّين «اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} فالفصل إنما يكون في القضاء» وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه «وهو خير القاصِّين»
قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: «القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [طارق: 13] وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] . وقال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيات} [التوبة: 11] فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم» من الفاصلين «أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.
وقوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بالظالمين} : من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على استحقاقهم ذلك بصفةِ الظلم، إذا لو جاء على الأصل لقال:«والله أعملُ بكم» .
قوله تعالى: {مَفَاتِحُ} : فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنه جمعُ مِفْتح بكسر الميم والقصر، وهو الآلة التي يُفتح بها نحو: مُنْخُل ومَنَاخل. والثاني: أنه جمع مَفْتَح بفتح الميم، وهو المكان، ويؤيده تفسير ابن عباس هي خزائن المطر. والثالث: أنه جمع مِفتاح بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضاً، إلا أنَّ هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقلب ألف المفرد ياء فيقال: مفاتيح كدنانير، ولكنه قد نُقِل في جمع مصباح مصابح، وفي جمع مِحْراب مَحارِب، وفي جمع قُرْقُرر قراقِر، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مَدَّةَ في مفرده كقولهم: دراهيم وصياريف في جمع دِرْهَم وصَيْرَف، قال:
193 -
8- تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ
…
نَفْيَ الدارهيمِ تَنْقادُ الصَّياريفِ
وقالوا: عيِّل وعَياييل. قال:
193 -
9- فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ
…
الأصل: عيايل ونمور، فزاد في ذلك ونَقَّصَ مِنْ هذا.
وقد قُرِئ «مفاتيح» بالياء وهي تؤيد أنَّ مفاتح جمع مفتاح، وإنما حُذِفَتْ مدَّتْه. وجَوَّز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم على أنه مصدر، قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق:«فعلى هذا مفاتح جمع المَفْتح بمعنى الفتح» ، كأن المعنى:«وعنده فتوح الغيب» أي: هو يفتح الغيب على مَنْ يشاء من عباده. وقال أبو البقاء: «مفاتح جمع مَفْتَح، والمَفْتَحُ الخزانة، فأمَّا ما يُفتح به فهو المفتاحُ، وجمعه مفاتيح وقد قيل مَفْتح أيضاً» انتهى. يريد جمع مَفتح أي بفتح الميم. وقوله: «وقد قيل: مَفْتَح يعني أنها لغة قليلة في الآلة والكثير فيها المدُّ، وكان ينبغي أن يوضِّح عبارته فإنها موهمة ولذلك شرحتها.
قوله: {لَا يَعْلَمُهَآ إِلَاّ هُوَ} في محل نصب على الحال من» مفاتح «، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمَّنه حرف الجر لوقوعه خبراً. وقال أبو البقاء:» نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ به مفاتح «أي: إنْ رفعته به فاعلاً، وذلك على رأي الأخفش، وتضمُّنه للاستقرار لا بد منه على كل قول، فلا فرق بين أن ترفعَ به الفاعل أو تجعله خبراً.
قوله: {مِن وَرَقَةٍ} فاعل» تَسْقُط «و» مِنْ «زائدة لاستغراق الجنس، وقوله: {إِلَاّ يَعْلَمُهَا} حالٌ من» ورقة «وجاءت الحال من النكرة لاعتمادِها على النفي، والتقدير: ما تسقط من ورقة إلا عالماً هو بها كقولك:» ما أكرمْتُ أحداً إلا صالحاً «ويجوز عندي أن تكونَ الجملة نعتاً ل» ورقة «وإذا كانوا أجازوا في قوله {إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أن تكون نعتاً لقرية في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة الواو، فأَنْ يجيزوا ذلك هنا أولى، وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جر على اللفظ أو رفع على المَحَلَّ.
قوله: {وَلَا حَبَّةٍ} عطفٌ على لفظ «ورقةٍ» ولو قُرِئ بالرفع لكان على الموضع. و «في ظلمات» صفة لحبة. وقوله: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} معطوفان أيضاً على لفظ «ورقة» وقرأهما ابن السميفع والحسن وابن أبي إسحاق بالرفع على المحل، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة أعني قوله:«ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ» وذكر وجهي الرفع المتقدِّمين، ونظَّر الوجه الثاني بقولك:«لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار» .
قوله: {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} في هذا الاستثناء غموض، فقال الزمخشري:«وقوله: {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} كالتكرير لقوله: {إِلَاّ يَعْلَمُهَا} لأن معنى» إلَاّ يعلمها «ومعنى» إلا في كتاب مبين «واحد، والكتاب علم الله
أو اللوح» وأبرزه الشيخ في عبارة قريبة من هذه فقال: «وهذا الاستثناء جارٍ مجرى التوكيد لأن قوله:» ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس «معطوف على» مِنْ ورقة «والاستثناءُ الأولُ منسحبٌ عليها كما تقول:» ماجاءني من رجلٍ إلا أكرمته ولا أمرأةٍ «فالمعنى: إلا أكرمتها، ولكنه لَمَّا طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحَسَّنه كونُه فاصلة» انتهى. وجعل صاحب «النظم» الكلامَ تاماً عند قوله: {ولا يابس} ثم استأنف خبراً آخر بقوله {إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بمعنى: وهو في كتاب مبين أيضاً. قال: «لأنك لو جَعَلْتَ قوله {إِلَاّ فِي كِتَابٍ} متصلاً بالكلام الأول لفسَدَ المعنى، وبيان فساده في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله:» ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين «انتهى. قلت: إنما كان فاسدَ المعنى من حيث اعتقد أنه استثناءٌ آخرُ مستقلٌّ، وسيأتي كيف فسادُه، أمَّا لو جعله استثناء مؤكداً للأول كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى، وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى: {وَلَا يَابِسٍ} ويُبْتَدَأ ب» إلا «وكيف تقع» إلا «هكذا؟
وقد نحا أبو البقاء لشيءٍ مِمَّا قاله الجرجاني فقال:» إلا في كتاب مبين «أي: إلا هو في كتاب مبين، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه» يَعْلمها «؛ لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإِثبات أي: لا يعلمها في كتاب، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاستثاءُ الثاني بدلاً من الأول أي: وما تسقط من ورقة إلا هي في كتاب وما يَعْلَمُها» انتهى. وجوابه ما تقدم من
جَعْلِ الاستثناء تأكيداً، وسيأتي هذا مقرَّراً إن شاء الله في سورة يونس لأنَّ له بحثاً يخصُّه.
قوله تعالى: {بالليل} : متعلق بما قبله على أنه ظرف له، والباء تأتي بمعنى «في، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة. وقال أبو البقاء هنا:» وجاز ذلك لأنَّ الباء للإِلصاق، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما «يعني فهذه العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر، بل نقول: هي هنا للإِلصاق مجازاً نحو ما قالوه في» مررت بزيد «وأسند التوفِّيَ هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة، وأسنده إلى غيره في قوله تعالى:{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]{يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] لأنه يُنْفَرُ منه، إذ المرادُ به الموت.
وقوله: {مَا جَرَحْتُم} الظاهر أنها مصدريةٌ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً أكثرَ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول. و» بالنهار «كقوله:{بالليل} والضمير في» فيه «عائد على النهار. هذا هو الظاهر قال الشيخ:» عاد عليه لفظاً «والمعنى: في يوم آخر، كما تقول: عندي درهم ونصفه» قلت: ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور، إذ عَوْدُه على المذكور لا محذورَ فيه، وأمَّا من نحو:«درهم ونصفه» فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام، قالوا: لأنك إذا قلت: «عندي درهم» عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً، فقولك بعد ذلك:«ونصفه» تضطر إلى
عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه. وقيل: يعود على الليل. وقيل: يعود على التوفِّي وهو النوم أي: يُوقظكم في خلال النوم. وقال الزمخشري: «ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار» انتهى. وهو حسن.
وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا، ويُكسَبُ في الآخر اعتباراً بالحال الأغلب. وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم، ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير.
قوله: {ليقضى أَجَلٌ} الجمهور على «لِيُقْضَى» مبنياً للمفعول و «أجلٌ» رفع به، وفي الفاعل المحذوف احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير المخاطبين، أي: لتقضوا أي: لتستوفوا آجالكم. وقرأ أبو رجاء وطلحة: «ليقضي» مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «أجلاً» مفعول به، و «مُسَمَّى» صفة، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة ألفهِ قد أوضحته في «شرح القصيد» واللام في «لِيُقْضَى» متعلقةٌ بما قبلها من مجموعِ الفعلين أي: يتوفَّاكم ثم يبعثكم لأجل ذلك.
قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ} : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على اسم الفاعل الواقع صلة لأل، لأنه في معنى يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله، ومثلُه عند بعضهم:{إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] قالوا: فأقرضوا عطف على «مصدقين» الواقعِ صلةً لأل، لأنه في معنى: إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا،
وهذا ليس بشيء، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن «وأقرضوا» من تمام صلة أل في «المصِّدِّقين» وقد عطف على الموصول قوله «المصدقات» وهو أجنبي، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته. وأمَّا قوله تعالى:{فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] فيقبضن في تأويل اسم أي: وقابضات. ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قولُه تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت} [الأنعام: 95] وقوله:
194 -
0- فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ
…
ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا
والثاني: أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله: {وَهُوَ القاهر} والثالث: أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله: يتوفَّاكم ويعلم، وما بعده، أي: وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل. الرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أظهرهما: أنه الضميرُ المستكنُّ في «القاهر» والثاني: أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف، كذا قال أبو البقاء، ونقله عن الشيخ وقال:«وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريب» وقولهما «الضمير الذي في الظرف» ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا قولَه «فوق عباده» ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً؟
والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن «فوق عباده» فيه خمسة أوجه، ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي: كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من
الخبر أو حالاً، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل «يُرْسِلُ» لأن المضارعَ المثبتَ إذا وقع حالاً لم يقترنْ بالواو، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة. والخامس: أنها مستأنفةٌ سِيقت للإِخبار بذلك، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني.
وقوله: {عَلَيْكُم} يحتمل ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلق بيرسل، ومنه:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} [الرحمن: 35]{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف: 133]{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً} [الفيل: 3] إلى غير ذلك. والثاني: أنه متعلق ب «حَفَظَة» . يقال: حَفِظْتُ عليه عمله، فالتقدير: ويُرْسل حَفَظَة عليكم. قال الشيخ: «أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] كما تقول: حَفِظْتُ عليك ما تعمل» فقوله: «كما قال: إن عليكم لحافظين» تشبيه من حيث المعنى لا أن «عليكم» تعلق بحافظين؛ لأن «عليكم» هو الخبر ل «إن» فيتعلق بمحذوف.
والثالث: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من «حفظة» إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صفةً لها.
قال أبو البقاء: «عليكم» فيه وجهان أحدهما: هو متعلِّق بيرسل، والثاني: أن يكون في نية التأخير وفيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفس «حَفَظة» والمفعول محذوف أي: يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم. والثاني: أن يكون صفةً ل «حَفَظة» قُدِّمَتْ فصارت حالاً «انتهى. قوله:» المفعول محذوف «يعني مفعول» حفظة «إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك بل لا بد من تقديره على كل وجه، و» حَفَظَة «إنما
عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف، تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حفظة، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف.
و» حَفَظَة «جمع حافظ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام، لعاقل مذكر ك» بارّ «و» بَرَة «و» فاجِر «و» فَجَرة «و» كامل «و» كَمَلة «، ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم: غراب ناعق وغربان نَعَقَه. وتقدَّم مثل قوله:» حتى إذا جاء «
قوله: {تَوَفَّتْهُ} قرأ الجمهور: {توفَّتْه} ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع. وقرأ حمزة: {توفَّاه} من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين أظهرهما: أنه ماضٍ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين، أحدهما: كونه تأنيثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول. والثاني: أنه مضارع، وأصله: تتوفاه بتاءين، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما ك» تَنَزَّلُ «وبابه. وحمزةُ على بابه في إمالة مثل هذه الألف. وقرأ الأعمش:{يتوفَّاه} مضارعاً بياء الغَيْبة، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من حيث تذكيرُ الفعل، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً. وقال أبو البقاء:» وقرئ شاذاً: {تتوفَّاه} على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء.
قوله: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} هذه الجملة تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها حال من «رسلنا» والثاني: أنها استئنافية سيقت للإِخبار عنهم بهذه الصفة، والجمهور على التشديد في «يُفْرِّطون» ومعناه لا يُقَصِّرون. وقرأ عمرو بن
عبيد والأعرج: «يُفْرِطون» مخففاً من أفرط، وفيها تأويلان أحدهما: أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به. قال الزمخشري: «فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدِّ، والإِفراط: مجاوزة الحدِّ أي: لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون» والثاني: أن معناه لا يتقدمون على أمر الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم. وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال:«معنى لا يُفْرِطون: لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي: يَسْبقهم ويفوتهم» وقال أبو البقاء: «ويُقرأ بالتخفيف أي: لا يزيدون على ما أُمِروا به» وهو قريب مِمَّا تقدم.
قوله تعالى: {مَوْلَاهُمُ الحق} : صفتان لله. وقرأ الحسن والأعمش: «الحقَّ» نصباً، وفيه تاويلان، أظهرهما: أنه نعت مقطوع. والثاني: أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي: رَدُّوا الردَّ الحقَّ لا الباطل. وقرئ: {رِدُّوا} بكسر الراء، وتقدَّم تخريجها مستوفى. والضمير في «مولاهم» فيه ثلاثة أوجه، أظهرهما: أنه للعباد في قوله {فَوْقَ عِبَادِهِ} فقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} التفاتٌ، إذا الأصل: ويرسل عليهم وفائدة هذا الالتفات التنبيهُ والإِيقاظ. والثاني: أنه يعود على الملائكة المعنيِّين بقوله: «رسلنا» ، يعني أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ويُرَدُّون إلى ربهم. والثالث: أنه يعود على «أحد» في قوله: {إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} إذ المراد به الجمع لا الإِفراد.
قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ} : قرأ السبعة هذه مشددة، {قل الله ينجيكم} : قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة
كالأولى، وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من «أنجى» حميدُ بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه يُخَففون فيهما، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكوان عن ابن عامر يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالتضعيف، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين كقوله تعالى:{فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] . والاستفهام للتقرير والتوبيخ، وفي الكلام حذف مضاف أي: مِنْ مَهالِك ظلمات أو من مخاوفها، والظلمات كناية عن الشدائد.
قوله: {تَدْعُونَهُ} في محل نصب على الحال: إمَّا من مفعول «ينجيكم» وهو الظاهر، أي: يُنَجيكم داعين إياه، وإمَّا من فاعله أي: مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم.
قوله: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} يجوز فيهما وجهان، أحدهما: أنها مصدران في موضع الحال أي: تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين. والثاني: أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقوله: قَعَدْتُ جلوساً. وقرأ الجمهور: {خُفْية} بضم الخاء. وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدوة والعِدوة، والأُسوة والإِسوة. وقرأ الأعمش:{وخيفة} كالتي في الأعراف وهي من الخوف، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه «تضرُّعاً» من المعنى.
قوله: {لَّئِنْ أَنجَانَا} الظاهر أن هذه الجملةَ القسمية تفسير للدعاء قبلها، ويجوز أن تكون منصوبةَ المحلِّ على إضمار القول، ويكونه ذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل «تَدْعُونه» أي: تدعونه قائلين ذلك، وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم. وقرأ الكوفيون:«أَنْجانا» بلفظ الغيبة مراعاةً لقوله: {تَدْعُونَهُ} والباقون «» أَنْجَيْتنا «بالخطاب حكايةً لخطابهم في حالة الدعاء، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه، فإنَّ في مصاحف الكوفة:» أنجانا «، وفي غيرِها:» أَنْجَيْتنا «.
قوله: {مِنْ هذه} متعلِّقٌ بالفعل قبله، و» مِنْ «لابتداء الغاية، و» هذه «إشارةٌ إلى الظلمات؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في» منها «تعود على الظلمات لِما تقدم.
وقوله: {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} : عطف على الضمير المجرور بإعادة حرف الجر وهو واجبٌ عند البصريين وقد تقدم.
قوله: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} : يجوز أن يكون الظرف متعلقاً ب «نبعث» ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «عذاباً» أي: عذاباً كائناً من هاتين الجهيتن.
قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} عطف على «يَبْعَث» والجمهور على فتح الياء من «يَلْبسكم» وفيه وجهان، أحدهما: أنه بمعنى يخلطكم فِرَقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة مشايعة لإِمام، ومعنى خَلْطِهم إنشابُ القتال بينهم فيختلطوا في ملاحكم القتال كقول الحماسي:
194 -
1-
وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ
…
حتى إذا التبسَتْ نَفَضْتُ لها يدي
فَتَرَكْتُهمْ تَقِصُ الرماحُ ظهورَهم
…
ما بين مُنْعَفِرٍ وآخرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري، فجعله من اللَّبس الذي هو الخلط، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي «يلبس» إلى المفعول. و «شيعاً» نصب على الحال. وهي جمع شِيْعة كسِدْرة وسِدَر. وقيل:«شيعاً» منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول أي: إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً. قال الشيخ: «ويحتاج في جعله مصدراً إلى نَقْلٍ من اللغة» . ويجوز على هذا أيضاً أن يكونَ حالاً كأتيته ركضاً أي: راكضاً أو ذا ركض. وقال أبو البقاء: «والجمهور على فتح الياء أي: يلبس عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجودُ أن يكون التقدير: أو يلبس أموركم، فحُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه» ، وهذا كلُّه لاحاجةَ إليه لِما عَرَفْتَ من كلام الزمخشري.
وقرأ ابو عبد الله المدني: «يُلبسكم» بضم الياء من «ألبس» رباعياً، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: أو يلبسكم الفتنة. و «شيعاً» على هذا حال أي: يُلْبِسكم الفتنة في حال تفرُّقكم وشتاتكم. والثاني: أن يكون «شِيعاً» هو المفعولُ الثاني كأنه جعل الناسَ يلبسون بعضَهم مجازاً كقوله:
194 -
2- لَبِسْتُ أناساً فَأَفْنَيْتُهمْ
…
وأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
والشيعة: مَنْ يتقوَّى بهم الإِنسان، والجمع:«شِيَع» كما تقدم، وأشياع كذا قاله الراغب، والظاهر أن أشياعاً جمع شِيَع كعِنَب وأعناب وضِلَع وأضلاع، وشِيَع جمع شِيْعة، فهو جمع الجمع.
قوله: {وَيُذِيقَ} نسق على «يَبْعَث» والإِذاقة: استعارة، وهي فاشية:{ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]{ذُقْ إِنَّكَ} [الدخان: 49]{فَذُوقُواْ العذاب} [الأنعام: 30]، وقال:
194 -
3- أَذَقْناهُمْ كؤوسَ الموت صِرْفاً
…
وذاقوا من أَسِنَّتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش: {ونذيق} بنون العظمة، وهو التفاتٌ فائدتُه تعظيم الأمر والتحذير من سطوته.
قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ} : الهاء في «به» تعود على العذاب المتقدم في قوله {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قاله الزمخشري، وقيل: تعود على القرآن، وقيل: تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة. وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بعيدٌ لأنه خوطب بالكاف عَقِيبَه، فلو كان كذلك لقال: «وكذَّب به قومك، وادِّعاء الالتفات فيه أبعدُ وقيل: لا بد من حذف صفة هنا أي: وكذَّب به قومك المعاندون، أو الكافرون، لأن قومه كلهم لم يكذِّبوه كقوله:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، أي: الناجين. وحَذْفُ الصفة وبقاءُ الموصوف قليل جداً بخلاف العكس. وقرأ ابن عبلة.
{وكَذِّبَتْ} بتاء التأنيث، كقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105]{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [القمر: 33] . باعتبار الجماعمة
قوله: {وَهُوَ الحق} في هذه الجملةِ وجهان، الظاهر منهما: أنها استئناف، والثاني: أنها حال من الهاء في» به «أي: كذَّبوا به في حال كونه حقاً، وهو أعزم في القبح.
قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلق بما بعده وهو توكيد وقدَّم لأجل الفواصل، ويجوز أن يكون حالاً من قوله» بوكيل «؛ لأنه لو تأخر لجاز أن يكون صفةً له، وهذا عند مَنْ يُجيز تقديمَ الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو اختيار جماعة، وأنشدوا عليه:
194 -
4- غافلاً تُعْرَضُ المَنِيَّةُ للمَرْ
…
ءِ فيُدْعَى ولات حين إباءُ
فقدَّم» غافلاً «على صاحبها وهو» المرء «وعلى عاملها وهو» تُعرض «فهذا أَوْلى. ومنه:
194 -
5- لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادياً
…
إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
أي: إليَّ هيمان صادِياً، ومثله:
194 -
6- فإن يك أذوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ
…
فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقتل حبالِ
»
فرغاً «حال من» بقتل «و» حبال «بالمهملة اسم رجل، مع أن حرف الجر هنا زائدة فجوازه أولى من ما ذكرنا.
قوله تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} : يجوز رفع «نبأ» بالابتدائية وخبرُه الجارُّ قبله، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكونَ «مستقر» اسمَ مصدرٍ أي استقرار، أو مكان أو زمان.
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ} : «إذا» منصوب بجوابها وهو «فأعرضْ» أي: أعرضْ عنهم في هذا الوقت، و «رأيت» هنا تحتمل أن تكون البَصرية وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد. قال الشيخ:«ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي: رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها، أي: وإذا رأيتم ملتبسين بالخوض فيها» انتهى. قلت: ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله «يخوضون» مضارع والراجح حاليَّتُه، وأيضاً فإن «الذين يخوضون» في قوة الخائضين، واسم الفاعل حقيقةٌ في الحال بلا خلاف، فيُحمل هذا على حقيقته، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي قَدَّرها وهي حال مؤكدة. ويحتمل أن تكون عِلْميَّة، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه حَذْفُ المفعول الثاني، وحذفه: إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار، فإن كان الأول فممنوعٌ انفاقاً، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين.
قوله: {غَيْرِهِ} الهاء فيها وجهان، أحدهما: أنه تعود على الآيات، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن. وقيل: إنها تعود على الخوض أي: المدلول عليه بالفعل كقوله:
194 -
7- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه
…
وخالف والسفيهُ إلى خلافِ
أي: جرى إلى السَّفه، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي:
حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض.
قوله: {يُنسِيَنَّكَ} قراءة العامة: «يُنْسِيَنَّك» بتخفيف السين من «أنساه» كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشيطان} [الكهف: 63]{فَأَنْسَاهُ الشيطان} [يوسف: 42] . وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ «نَسَّاه» والتعدّي جاء في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقدم في أنجى ونجَّى، وأمهل ومهَّل. والمفعول الثاني محذوف في القراءتين، تقديره: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان الذكرَ أو الحق. والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي: وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد بعد ذلك معهم، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم، وجاء الشرط الأول ب «إذا» لأنَّ خوضهم في الآيات محقق، وفي الشرط الثاني ب «إنْ» لأنَّ إنساءَ الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه.
ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ «ذكرى» وقال ابن عطية: «وإمَّا» شرط، ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة، وقد لا تلزم، كقوله:
194 -
8- إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الذي ذكره مِنْ لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج، والناس على خلافه وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في «شرح التسهيل» كقوله:
194 -
9-
إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ
…
على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه المسألة في أوائل البقرة، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك.
قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الذين} : يجوز أن تقدِّر «ما» حجازية فيكون «من شيء» اسمَها، و «من» مزيدة فيه لتأكيد الاستغراق، و {عَلَى الذين يَتَّقُونَ} خبرها عند مَنْ يُجيز إعمالَها مقدَّمَةَ الخبر مطلقاً أو يرى ذلك في الظرف وعديله. و {مِنْ حِسَابِهِم} حال من «شيء» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له، ويجوز أن تكون مهملةً: إمَّا على لغة تميم وإمَّا على لغة الحجاز لفواتِ شرطٍ وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفاً، وتحقيق ذلك ممَّا تقدم في قوله:{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 52] .
قوله: {ولكن ذكرى} فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدر بفعلٍ مضمر، فقدَّره بعضهم أمراً أي: ولكن ذكِّروهم ذكرى، وبعضهم قدَّره خبراً أي: ولكن يذكرونهم ذكرى. الثاني: أنه مبتدأ خبره محذوف اي: ولكن عليهم ذكرى، أو عليكم ذكرى أي: تذكيرهم. الثالث: أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هو ذكرى اي: النهي عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى الرابع: أنه عطف على موضع «شيء» المجرور ب «مِنْ» أي: ما على المتِّقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات، وأما على الأوجه السابقة فمن عطف الجمل، وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ، وردَّه عليه الشيخ، فلا بد من إيراد قولهما. قال أبو القاسم: «ولا يجوز أن
يكون عطفاً على محل» من شيء «كقولك:» ما في الدار من أحد ولكن زيد «لأن قوله» من حسابهم «يأبى ذلك.
قال الشيخ:» كأنه تخيَّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو «من حسابهم» فهو قيد في «شيء» ، فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على «من شيء» على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تخيَّله ليس بشيء، لا يلزم في العطف ب «ولكن» ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجلُ صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدَّم، وأن يكون من عطف المفردات، والعطف بالواو، و «لكن» جيء بها للاستدراك «.
قلت: قوله» تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق «إلى آخر الأمثلة التي ذكرَها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأنَّ الزمخشري وغيرَه من أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيدٌ فالظاهر تقيُّد المعطوف بذلك القيد، إلا أن تجيء قرينةٌ صارفة فيُحال الأمر عليها.
فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة فإن قلت:«وعمرا يوم السبت» لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول أي: لم يؤت مع المعطوف بقرينةٍ تُخْرِجه؛ فالظاهر مشاركته للأول في قيده، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري، وأمَّا الأمثلةُ التي أوردها فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيِّد به الأول، وإنما كان ينبغي أن يأتي بأمثلةٍ هكذا فيقول: ما عندما رجل سوء ولكن امرأة، وماعندنا رجل من تميم ولكن
صبيُّ، فالظاهر من هذا أن المعنى: ولكنْ امرأة سوء، ولكن صبي من قريش، وقول الزمخشري «عطفاً على محل» من شيء «ولم يقل عطفاً على لفظه لفائدة حسنة يَعْسُر معرفتها: وهو أن» لكن «حرف إيجاب، فلو عطف ما بعدها على المجرور ب» مِنْ «لفظاً لزم زيادة» من «في الواجب، وجمهورُ البصريين على عدم زيادتها فيه، ويدلُّ على اعتبار الإِيجاب في» لكن «أنهم إذا عطفوا بعد خبر ما الحجازية، أبطلوا النصب؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي، و» بل «ك» لكن «فيما ذكرت لك.
قوله تعالى: {اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} : «اتخذوا» يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا، و «لهواً ولعباً» على هذا مفعول من أجله أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب. والثاني: أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما «دينهم» وثانيهما «لعباً ولهواً» قال الشيخ: «ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن» لعباً ولهواً «هو المفعول الأول، و» دينهم «هو المفعول الثاني. قال الزمخشري:» أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من جنس الهَزْل لا الجد، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإِسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال:«فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا» .
وقال ابن عطية: «وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى: اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً
ولهواً، فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه» انتهى. قلت: وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسيرَ معنى لا إعراب، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير داعية إلى ذلك مع أنهما من أكابر أهل هذا الشأن، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام العرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدَّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟
وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن، يدلُّ له قوله:{فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقيل: يعود على حسابهم. وقيل: على الذين وقيل: هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه.
وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الحياوة} تحتمل وجهين. أحدهما: أنها مستأنفةٌ والثاني: أنها عطفٌ على صلةِ الذين أي: الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في آخر آل عمران وقيل: هنا غَرَّتهم من «الغَرّ» بفتح العين أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر:
195 -
0- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني
…
بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ
قوله: {أَن تُبْسَلَ} : في هذا وجهان، المشهور- بل الإِجماع - على أنه مفعول من أجله وتقديره: مخافة أن تُبْسَل، أو كراهة أن تُبْسَلَ، أو أن لا تبسل والثاني: قال الشيخ: - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - «ويجوز عندي أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير،
والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل، ويُضْمر الإِبسالُ لما في الإِضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن، والتقدير: وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا:» اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ «وقد أجاز ذلك سيبويه قال:» فإن قلت: «ضربت وضربوني قومك» نصبت، إلا في قول مَنْ قال: أكلوني البراغيث، أوتحملُه على البدل من المضمر.
وقال أيضاً: «فإن قلتَ:» ضربني وضربتُهم قومُك «رَفَعْتَ على التقديم والتأخير، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البدل كم جعلته في الرفع» انتهى. وقد روي قوله:
195 -
1-. . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . فاستاكَتْ به عُودِ إسْحِلِ
بجر «عُود» على البدل من الضمير. قلت: أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع بالبدل فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله:
إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِ أراكةٍ
…
تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ
والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ، يُروى برَفْع «عود» وهذا هو المشهور عند النحاة، ورفعُهُ على إعمالِ الأولِ وهو «تُنُخِّل» وإهمال الثاني وهو «فاستاكَتْ» فأعطاه ضميرَه، ولو أَعْمَلَه لقال:«فاستاكَتْ بعود إسحل» ولا يمكن لانكسار البيت، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين، ولو استشهد بما لا خلاف فيه كقوله:
195 -
2- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً
…
على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ
بجرِّ «حاتم» بدلاً من الهاء في «بجوده» والقوافي مجورة لكان أَوْلَى والإِبسال: الارتهان، ويقال: أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال:
195 -
3- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق
…
بَعَوْنا: جَنَيْناَ، والبَعْوُ: الجناية. وقيل: الإِبسال: أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهلكة.
وقال الراغب: «البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومَنْعُه، ولتضمُّنهِ معنى الضمِّ استُعير لتقطُّب الوجه فقيل: هو: باسل ومُتْبَسِلُ الوجه، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن:» بَسْلٌ «ثم قال:» والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقهر، وقيل للشجاعة بسالة: إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوسِ وجهه أو لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه، والبُسْلَةُ أجرة الراقي، مأخوذة من قول الراقي: أَبْسَلْتُ زيداً أي: جَعَلْتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلْتُه شجاعاً قوياً على مدافعته، وبَسَل في معنى أَجَلْ وبَسْ «أي: فيكون حرفَ جواب كأجل، واسمَ فعل بمعنى اكتف ك» بس «.
وقوله: {بِمَا} متعلّقٌ ب» تُبْسَل «أي: بسبب، و» ما «مصدرية أو بمعنى الذي، او نكرة، وأمرها واضح.
قوله: {لَيْسَ لَهَا} هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه، أحدها: وهوالظاهر أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محل رفع صفة ل» نفس «والثالث: أنها في محل نصب حالاً من الضمير في» كسبت «.
قوله: {مِن دُونِ} في «مِنْ» وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية، والثاني: أنها زائدةٌ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية ففي ما يتعلَّق به وجهان، أحدهما: أنها حال مِنْ «وليّ» لأنها لو تأخَّرَتْ لكانَتْ صفةً له، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال. والثاني: أنها خبر «ليس» فتتعلق بمحذوف أيضاً هو خبر ل «ليس» وعلى هذا فيكون «لها» متعلقاً بمحذوف على البيان. وقد مرَّ نظائره، و {مِن دُونِ الله} فيه حذفُ مضافٍ أي: من دون عذابِهِ وجزائه.
قوله: {كُلَّ عَدْلٍ} منصوبٌ على المصدرية لأنَّ «كل» بحسب ما تُضاف إليه، هذا هو المشهور، ويجوز نصبُه على المفعول به أي: وإن تَفْدِ يداها كلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ، فالضميرُ في «لا يُؤْخَذُ» على الأول: قال الشيخ: «عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر، لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخذ، وأمَّا في {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح» انتهى.
أي: إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة، لأنه ليس المرادُ المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به، وعلى الثاني يعود على «كل عدل» لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة «
قوله: {أولئك الذين أُبْسِلُواْ} يجوز أن يكون» الذين «خبراً» ولهم شراب «خبراً ثانياً، وأن يكون» لهم شراب «حالاً: إمَّا من الضمير في» أُبْسِلوا «وإمَّا من الموصول نفسه، و» شرابٌ «فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال، ويجوز أن يكون» لهم شراب «مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في» لهم شراب «ويجوز أن يكون» الذين «بدلاً من» أولئك «أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من» لهم شرابٌ «خيراً للمبتدأ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة
أوجه: كونه خبراً أو بدلاً أو نعتاً، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية.
و» شراب «يجوز رفعُه مِنْ وجهين: الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون» لهم «هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً، و» شراب «مرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم، و» من حميمٍ «صفةٌ ل» شراب «فهو في محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف.
و» شراب «فَعَال بمعنى مَفْعول، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال: أَكال بمعنى مأكول، ولا ضَراب بمعنى مضروب. والإِشارة ب» ذلك «في قول الزمخشري والحوفي إلى الذين اتخذوا، فلذلك أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله» أن تُبْسَلَ نَفْسٌ «إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع.
قول تعالى: {أَنَدْعُواْ} : استفهام توبيخ وإنكار، والجملة في محل نصب بالقول، و «ما» مفعولةٌ ب «ندعو» وهي موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة، و «مِنْ دون الله» متعلِّقٌ ب «ندعو» قال أبو البقاء:«ولا يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في» يَنْفَعنا «ولا معمولاً ل» ينفعنا «لتقدُّمِه على» ما «والصلةُ والصفةُ لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف،» قوله «من الضمير في يَنْفعنا» يعني به المرفوعَ العائدَ على «ما» وقوله: «لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف» يعني أن «ما» لا تخرج عن هذين القسمين، ولكن يجوز أن يكون «من دون» حالاً من «ما» نفسها على قوله: إذ لم يجعل المانعَ
من جَعْلِه حالاً من ضميره الذي في «ينفعنا» إلا صناعياً لا معنوياً، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جاز أن يكون حالاً من ظاهر جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مانع.
قوله: {وَنُرَدُّ} فيه وجهان أظهرهما: أنه نسقٌ على «ندعو» فهو داخلٌ في حيِّز الاستفهام المتسلط عليه القول. والثاني: أنه حال على إضمار مبتدأ أي: ونحن نُرَدُّ. قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء: «وهو ضعيفٌ لإِضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكدة» وفي كونها مؤكِّدةً نظر، لأنَّ المؤكِّدةَ، ما فُهِم معناها من الأول وكأنه يقول مِنْ لازم الدعاء «من دون الله» الارتداد على العَقِب.
قوله: {على أَعْقَابِنَا} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «نُرَدٌّ» والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من مرفوع «نُرَدُّ» أي: نُرَدٌّ راجعين على أَعقابنا أو منقلبين أو متأخرين، كذا قدَّره وهو تفسيرُ معنى، إذ المقدَّر في مثله كون مطلق، وهذا يحتمل أن يُقال فيه إنه حال مؤكدة، و «بعد إذ» متعلق ب «نُرَدٌّ» .
قوله: {كالذي استهوته} في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه نعت مصدر محذوف أي: نُرَدٌّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من مرفوع «نرد» أي: نُرَدُّ مشبهين الذي استهوته الشياطين، فمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جَعَلَها حالاً ثانية إن جعل «على أعقابنا» حالاً، ومَنْ لم يُجَوِّزْ ذلك جَعَلَ هذه الحالَ بدلاً من الحالِ الأولى، ألم يجعل «على أعقابنا» حالاً بل متعلقاً ب «نُرَدٌّ»
والجمهورُ على «اسْتَهْوَتْهُ» بتاء التأنيث وحمزة «استهواه» وهو على
قاعدِته من الإِمالة، الوجهان معروفان ممَّا تقدَّم في:
{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] . وقرأ ابو عبد الرحمن والأعمش: «استهوَتْه الشيطان» بتأنيث الفعل والشيطان مفردٌ قال الكسائي: «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود» وتوجيهُ هذه القراءة أنها نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم: «أتته كتابي فاحترقها» أي: صحيفتي، وتقدم له نظائر. وقرأ الحسن البصري:«الشياطون» وجعلوها لحناً ولا تصل إلى اللحن، إلا أنها لُغَيَّةٌ رديئةٌ، سُمِع: حول بستان فلانٍ بساتون، وله سَلاطون، ويحكى أنه لمَّا حُكِيَتْ قراءة الحسن لحَّنه بعضهم، فقال الفراء:«أَيْ والله يُلحِّنون الشيخ، ويستشدون بقول رؤبة» ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك. والمراد بالذي الجنس، ويحتمل أن يُراد به الواحدُ الفذُّ.
قوله: {فِي الأرض} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بقوله: {استهوته} الثاني: أنه حال من مفعول «استهوته» الثالث: أنه حال من «حَيْران» الرابع: أنه حال من الضمير المستكنّ في «حيران» و «حَيْران» حال: إمَّا من هاء «اسْتَهْوَتْه» على أنها بدل من الأولى أو عند مَنْ يُجيز تَعَدُّدها، وإمَّا من «الذي» وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف، وحيران مؤنَّثُه حَيْرى، ولذلك لم ينصرف والفعل حار يحار حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورة.
قوله: {لَهُ أَصْحَابٌ} جملة في محصل نصب صفة لحيران، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في حيران وأن تكون مستأنفةً و «إلى الهدى» متعلِّقٌ ب «يَدْعُونه» وفي مصحف ابن مسعود وقراءته:«أتينا» بصيغة الماضي، و «إلى الهدى» على هذه القراءة متعلِّقٌ به، وعلى قراءة الجمهورِ: الجملة
الأمريَّة في محل نصب بقول مضمر اي: يقولون ائتنا، والقول المضمر في محلِّ صفةٍ لأصحاب وكذلك «يدعونه» .
قوله: {لِنُسْلِمَ} في هذه اللام أقوال، أحدها: - وهو مذهب سيبويه - أن هذه اللامَ بعد الإِرادة والأمر وشبهِهِما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتدأ وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم، فإذا قلت: أردْتَ لتقوم، وأمرت زيداً ليذهب كان التقدير: الإِرادة للقيام والأمر للذهاب، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه وأصحابه وفيه ضعفٌ قد قَدَّمْتُه في سورة النساء عند قوله:{يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [الآية: 26] . الثاني: أن مفعول الأمر والإِرادة محذوف، وتقديره: وأُمِرْنا بالإِخلاص لنُسْلِمَ
الثالث: قال الزمخشري: «هي تعليل للأمر بمعنى: أُمِرْنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نُسْلم» الرابع: أن اللام زائدة أي: أُمِرْنا أن نُسِلمَ الخامس: أنها معنى الباء أي: بأَنْ نُسْلِمَ. السادس: أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع «أن» أي أنهما يتعاقبان فتقول: أمرتُك لتقومَ وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين. وقال ابن عطية:«ومذهبُ سيبويه أنَّ» لنُسْلِمَ «في موضع المفعول وأنَّ قولك:» أُمِرْت لأقومَ وأَنْ أقومَ «يجريان سواء وقال الشاعر:
195 -
4- أُريد لأَنْسى حبَّها فكأنَّما
…
تَمثَّلُ لي ليلى بكل طريقِ
وهذا ليس مَذْهَبَ سيبويه إنما مذهبُه ما تقدَّم، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة في السورةِ المشارِ إليها قبلُ.
قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ} : فيه أقوال أحدها: أنها في محل نصب بالقول نسقاً على قوله: إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي: قل هذين الشيئين. والثاني: أنه نسقٌ على «لِنُسْلَم» والتقدير: وأمرنا بكذا للإِسلام ولنقيم الصلاة، و «أن» توصل بالأمر كقولهم:«كتبت إليه بأن قم» حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج، والثالث: أنه نسق على «ائتنا» قال مكي: «لأن معناه أن ائتنا» وهو غير ظاهر. والرابع: أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير: وأُمِرْنا بالإِيمان وبإقامة الصلاة، قاله ابن عيطة.
قال الشيخ: «وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني ل» أُمِرْنا «ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى، تقول: أضربت زيداً؟ فيجيب: نعم وعمراً، التقدير: ضربته وعمراً. وقد أجاز الفراء:» جاءني الذي وزيد قائمان «التقدير: الذي هو وزيدٌ قائمان، فحذف» هو «لدلالة المعنى عليه» وهذا الذي قال إنه لا بأس به ليس من أصول البصريين. وأمَّا «نَعَمْ وعَمْراً» فلا دلالة فيه لأنَّ «نَعَمْ» قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة. وقال مكي قريباً من هذا القول إلا أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه فإنه قال: «وأن في موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه: وبأَنْ أَقيموا» فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عطف قوله {وَأَنْ أَقِيمُواْ} ؟ قلت: على موضع» لِنُسْلِمَ «كأنه قيل: وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا» قال الشيخ: «وظاهر هذا التقدير أنَّ» لنسلم «في موضع المفعول الثاني ل» أُمِرْنا «وعُطِفَ عليه» وأَنْ أقيموا «فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله:» أن نسلَم في موضع المفعول الثاني «قوله بعد ذلك» ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإِسلام ولإِقامة الصلاة، وهذا قول الزجاج، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف «.
وقال الزجاج:» أن أقيموا عطف على قوله «لِنُسْلِمَ» تقديره: وأُمِرْنا لأن نُسْلِمَ وأن أقيموا «قال ابن عطية:» واللفظ يمانعه لأنَّ «نُسْلِمَ» مُعْربٌ و «أقيموا» مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك في العامل «.
قال الشيخ» وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو:«قام زيد وهذا» وقال تعالى:
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] ، غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني، وتقول:«إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه» ف «إن» لم تؤثر في «قام» لأنه مبنيٌّ وأثَّرت في «يقصِدْني» لأنه معرب «ثم قال ابن عطية:» اللَّهم إلا أن
تجعل العطف في «إنْ» وحدها، وذلك قلق، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله «وأن أقيموا» بمعنى «ولنقم» ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ اللفظ، فجاز العطف على أن يُلغى حكم اللفظ ويُعَوَّلَ على المعنى، ويُشْبه هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن العرب:«ادخلوا الأول فالأول» وإلَاّ فلا يجوز إلا: الأولَ فالأولَ بالنصب «
قال الشيخ:» وهذا الذي استدركه بقوله «اللهم إلا» إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه، وهو أنَّ «أَنْ أقيموا» معطوفٌ على «أن نُسْلِمَ» وأنَّ كليهما علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء «أن أقيموا» على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك، لأنَّ «أَنْ» إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي والأمر. قال سيبويه:«وتقول: كتبت إليه بأَنْ قم، أي بالقيام» فإذا كان الحكم كذا كان قوله «لنُسْلِمَ و» أَنْ أقيموا «في تقدير: للإِسلام ولإِقامة الصلاة، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله:» ادخلوا الأولُ فالأولُ «بالرفع فليس بشبيهٍ لأن» ادخلوا «لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف» أَنْ «فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما» انتهى.
أمَّا قولُ الشيخ «وإنما قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء» أَنْ أقيموا «على معناها من موضوع الأمر» فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ، بل لأمرٍ آخر من جهة اللفظ وهو أنَّ السِّياقَ التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج
أن يكون «لنسلم» وأن نقيم، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية «بمعنى ولنقم، ثم خرجت بلفظ الأمر» إلا آخره.
والخامس: أنه محمول على المعنى، إذ المعنى: قيل لنا: أسْلِموا وأن أقيموا.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن} : في «يوم» ثمانية أوجه أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في «اتقوه» أي: واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر:{واتقوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي} [البقرة: 48] على المشهور في إعرابه. الثاني: أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على «السماوات والأرض» أي: وهو الذي خلق يوم يقول. الثالث: أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً. الرابع: أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإِعادة يوم يقول: كن أي: يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً. الخامس: أنه عطف على موضع قوله «بالحق» فإنَّ موضعه نصب ويكون «يقول» بمعنى «قال» ماضياً كأنه قيل: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن.
السادس: أن يكون «يوم يقول» خبراً مقدماً، والمبتدأ «قوله» و «الحق» صفته، أي: قوله الحق في يوم يقول كن فيكون، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال:«قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك» يوم الجمعة القتال «واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق
السماوات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة. السابع: أنه منصوب على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي» قوله الحق «أي: حق قوله في يوم يقول كن الثامن: أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه» بالحق «
قال الزمخشري:» وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله «بالحق» كأنه قيل: وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق «قال الشيخ:» وهذا إعراب متكلف «.
قوله: {فَيَكُونُ} هي هنا تامة، وكذلك قوله:{كن} فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه، أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة. وقال مكي:» وقيل: تقدير المضمر في «فيكون» جميع ما أراد «فأطلق ولم يقيِّدْه، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال. الثاني: أنه ضمير الصور المنفوخ فيها، ودلَّ عليه قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} الثالث: هو ضمير اليوم أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. الرابع: أن الفاعل هو» قولُه «و» الحق «صفته أي: فيوجَدُ قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تاماً على» الحق «.
قوله: {قَوْلُهُ الحق} فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ و» الحق «نعته، وخبره قوله» يوم يقول «والثاني: أنه فاعل لقوله» فيكون «» والحق «نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان،.
الثالث: أنَّ «قولُه» مبتدأ، و «الحقٌّ» خبره، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً. الرابع: أنه مبتدأ أيضاً و «ألحق» نعته، و «يوم يُنْفخ» خبره، وعلى هذا ففي قوله «وله الملك» ثلاثة أوجه أحدها: أن
تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: ان يكون «الملك» عطفاً على «قوله» وأل فيه عوضٌ عن الضمير، «وله» في محل نصب على الحال من «الملك» العامل فيه الاستقرار والتقدير: قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور. الثالث: أنَّ الجملة من «وله الملك» في محل نصب على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين، أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكدة، والأصل: أن تكون مؤسسةً. الثاني: أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه. وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله.
قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} فيه ثمانية أوجه، أحدها: أنه خبر لقوله «قول الحق» وقد تقدَّم هذا بتحقيقه، الثاني: أنه بدل من «يوم يقول» فيكون حكمه حكمَ ذاك. الثالث: أنه ظرف ل «تُحْشَرون» أي: وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس الملك أي: وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت: يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت. فالجواب ما أُجيب به في قوله {لِّمَنِ الملك اليوم؟ لله} [غافر: 16] وقوله: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا. الخامس: أنه حال من الملك، والعامل فيه «له» تضمَّنه من معنى الفعل. السادس: انه منصوبٌ بقوله «يقول» السابع: أنه منصوب بعالم الغيب بعده. الثامن: أنه منصوب بقوله «قول الحق» فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه، ولله الحمد.
والجمهور على «يُنْفَخُ» مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل
الجارُّ بعده. وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث: «ننفخ» بنون العظمة مبنياً للفاعل. والصُّور: الجمهورُ على قراءته ساكنَ [العين] وقرأه الحسن البصري بفتحها، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها، فقال جماعة: الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة، والثُّوم جمع ثومة، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة.
وقال جماعةٌ: إن الصُّور هو القَرْن، قال بعضهم: هي لغة اليمنِ وأنشد:
195 -
5- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ
…
بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ
نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن
…
وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة، قال عليه السلام:«كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه» وقيل: في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش. وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال: «وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] {وَنُفِخَ
فِي الصور} [الكهف: 99] فَمَنْ قرأها:» ونُفِخ في الصُّوَرِ «أي بالفتح، وقرأ» فَأَحْسَنَ صُوْرَكم «أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو» قال الأزهري: «قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة» أنتهى، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم. وقال الفراء:«يُقال: نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ» وأنشد:
195 -
6- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ
…
ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ
وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار.
قوله: {عَالِمُ الغيب} في رفعه أربعةُ أوجه، أحدها: أن يكون صفةً للذي في قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ} وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو عالم. الثالث: أنه فاعلٌ لقوله: {يقول} أي: يوم يقول عالم الغيب. الرابع: أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛ لأنه لمَّا قال «يُنفخ في الصور» سأل سائِلٌ فقال: من الذي يَنْفُخ؟ فقيل: «عالم الغيب» أي: «يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي: يأمر بالنفخ فيه، كقوله:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 3637] أي يُسَبِّحُه، ومثله أيضاً قول الآخر:
195 -
7-
ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ
…
ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح
أي: مَنْ يَبْكيه؟ فقيل: ضارع، أي: يبكيه ضارع ومثله:» وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم «في قراءة مَنْ بني» زُيِّن «للمفعول ورفع» قَتْلُ «و» شركاؤهم «كأنه قيل: مَنْ زيَّنه لهم؟ فقيل: زيَّنه شركاؤهم. والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور، وقرأ الحسن البصري والأعمش:» عالمِ «بالجر وفيها ثلاثة أوجه، أحسنها: أنه بدل من الهاء في» له «الثاني: أنه بدل من» رب العالمين «وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. الثالث: أنه نعت للهاء في» له «وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ} : «إذ» منصوبٌ بفعل محذوف أي: اذكر، وهو معطوفٌ على «أقيموا» قاله أبو البقاء. و «قال» في محل خفض بالظرف «.
قوله: {آزَرَ} الجمهور: آزرَ بزنة آدم، مفتوح الزاي والراء، وإعرابه حينئذ على أوجه، أحدها: أنه بدل من» أبيه «أو عطف بيان له إن كان آزر لقباً له، وإن كان صفةً بمعنى المخطئ كما قال الزجاج، أو المعوجّ كما قاله الفراء، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك، فيكون نعتاً ل» ابيه «أو حالاً منه بمعنى: وهو في حالة اعوجاج أو خطأ، ويُنْسَبُ للزجاج. وإن قيل: إن آزر
اسم صنم كان يعبده أبوه، فيكون إذ ذاك عطفَ بيان لأبيه أو بدلاً منه، ووجهُ ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ وصار لَقَباً له كما قال بعض المُحْدَثين.
195 -
8- أُدْعى بأسماءَ نَبْزاً في قبائِلها
…
كأنَّ أسماءَ أَضْحَتْ بعضَ أسمائي
كذا نسبه الزمخشري: إلى بعض المُحْدَثين، ونسبه الشيخ لبعض النحويين، قال الزمخشري:» كما نُبِزَ ابن قيس بالرُّقَيَّات اللاتي كان يشبِّبُ بهنَّ فقيل: ابن قيس الرُّقَيَّات «أو يكون على حذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، ثم حُذِفَ المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامَه، وعلى هذا فيكون عابد صفة لأبيه أُعْرِبَ هذا بإعرابه أو يكون منصوباً على الذمّ.
وآزر ممنوع الصرف واختلف في علةِ مَنْعِه فقال الزمخشري:» والأقربُ أن يكون وزن آزر فاعَل كعابَر وشالَخ وفالَغ، فعلى هذا هو ممنوع للعلمية والعجمة. وقال أبو البقاء:«ووزنه أفعل ولم ينصرف للعجمة والتعريف على قول من لم يشتقَّه من الأزر أو الوزر، ومَن اشتقَّه من واحدٍ منهما قال: هو عربيٌّ ولم يَصْرِفْه للتعريف ووزن الفعل» وهذا الخلاف يشبه الخلاف في آدم، وقد تقدم ذلك وأن اختيار الزمخشري فيه أنه فاعلَ كعابَر، وما جرى على ذاك، وإذا قلنا بكونِه صفةً على ما قاله الزجاج بمنى المخطئ أو بمعنى المعوجّ أو بمعنى الهَرِم، كما قاله الفراء والضحاك فَيُشْكل مَنْعُ صرفِه، ويَشْكل ايضاً وقوعُه صفة للمعرفة.
وقد يُجاب عن الأول بأن الإِشكال يندفع بادِّعاء وزنه على أَفْعَل فيمتنع حينئذ للوزن والصفة كأحمر وبابه، وأمَّا على قول الزمخشري فلا يتمشَّى ذلك، وعن الثاني بأنه لا نُسَلِّم أنه نعت ل «أبيه» حتى يلزم وصفُ المعارف بالنكرات بل هو منصوبٌ على الذم أو أنه على نية الألف واللام، قالهما الزجاج والثاني ضعيف، لأنَّ حذف أل وإرادة معناها إمَّا أن يؤثر مَنْعَ صرف [كما] في «سحر» ليوم بعينه ويسمَّى عَدْلاً، وإمَّا أن يؤثر بناءً ويسمى تضمُّناً كأمس، وفي سحر وأمس كلامٌ طويلٌ ليس هذا مقامه، ولا يمكن أن يقال إن «آزَر» امتنع من الصرف كما امتنع «سحر» أي للعدل عن أل، لأن العدلَ يُمْنع فيه مع التعريف، فإنه لوقتٍ بعينه، بخلاف هذا فإنه وصفٌ كما قرضتم.
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب وعبد الله بن عباس والحسن ومجاهد في آخرين بضمِّ الراء على أنه منادى حُذِفَ حرفُ ندائِه كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يوسف: 29] وكقوله:
195 -
9- ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحد الوجهين أي: يا يزيد، ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ: يا آزر بإثبات حرفه، وهذا إنما يَتَمشَّى على دعوى أنه عَلَم، وأمَّا على دعوى وصفيَِّتِه فيضعف؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ النداء يَقِلُّ فيها كقولهم:«افتدِ مخنوقُ» و «صاحِ شَمِّرْ»
وقرأ ابن عباس في روايةٍ: «أَأَزْراً تتخذ» بهمزتين مفتوحتين وزاي ساكنة
وراء منونة منصوبة، «تتخذ» بدون همزة استفهام، ولمَّا حكى الزمخشري هذه القراءة لم يُسْقط همزة الاستفهام من «أتتخذ» فأمَّا على القراءة الأولى فقال ابن عطية مفسراً لمعناها:«أعضداً وقوة ومظاهرةً على الله تتخذ، وهو من قوله {اشدد بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] انتهى. وعلى هذا فيحتمل» أزراً «أن ينتصب من ثلاثة اوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، و» اصناماً آلهة «منصوب بتتخذ على ما سيأتي بيانه، والمعنى أتَّتخذ أصناماً آلهةً لأجل القوة والمظاهرة. والثاني: أن ينتصبَ على الحال لأنها في الأصل صفةُ لأصناماً، فلما قُدِّمَتْ عليها وعلى عاملها انتصَبْت على الحال. والثالث: أنْ ينتصب على أنه مفعول ثان قُدِّم على عامله، والأصل: أتتخذ أصناماً آلهة أزْراً أي قوة ومظاهرة.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقال الزمخشري:» هو اسم صنم ومعناه: أتعبد أزْراً، على الإِنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخلٌ في حكم الإِنكارِ لأنه كالبيان له «فعلى هذا» أزْراً «منصوب بفعل محذوف يدل عليه المعنى، ولكن قوله» وهو داخلٌ في حكم الإِنكار «يقوِّي أنه لم يُقرأ:» أَتَتَّخِذُ «بهمزة الاستفهام لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإِنكار، ولم يحتج أن يقول: هو داخلٌ في حكمِ الإِنكارِ لأنه كالبيان له.
وقرأ ابن عباس ايضاً وأبو إسماعيل الشامي:» أَإزراً «بهمزة استفهام بعدها همزةٌ مكسورة ونصب الراء منونةً، فجعلها ابن عطية بدلاً من واو
اشتقاقاً من الوزر كإسادة وإشاح في: وسادة ووشاح. وقال أبو البقاء:» وفيه وجهان، أحدهما: أن الهمزة الثانية فاء الكلمة وليست بدلاً من شيء ومعناه الثقل «وجعله الزمخشري اسمَ صنم، والكلامُ فيه كالكلام في» أزراً «المفتوح الهمزة وقد تقدم.
وقرأ الأعمش:» إزْراً تَتَّخِذُ «بدون همزةِ استفهام، ولكن بكسر الهمزة وسكونِ الزاي ونصب الراء منونة، ونصبُه واضح مما تقدم، و» تتخذ «يُحتمل أن تكونَ المتعدية لاثنين بمعنى التصييرية، وأن تكون المتعديةَ لواحدٍ لأنَّها بمعنى عمل، ويحكى في التفسير أن أباه كان ينحتها ويصنعها، والجملة الاستفهامية في محل نصب بالقول، وكذلك قوله {إني أَرَاكَ} و» أراك «يحتمل أن تكون العِلْميَّة وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين وأن تكون بصرية وليس بذاك، ف» في ضلال «حالٌ، وعلى كلا التقديرين يتعلَّق بمحذف إلا أنه في الأول أحدُ جُزْأَي الكلام، وفي الثاني فَضْلة.
و «مبين» اسم فاعل من «أبان» لازماً بمعنى ظهر، ويجوز أن يكون من المتعدِّي والمفعول محذوف، أي: مبين كفرُكم بخالقكم، وعلى هذا فقولُ ابن عطية «وليس بالفعلِ المتعدِّي المنقول من بان يبين» غيرُ مُسَلَّم، وجعلَ الضلالَ ظرفاً محيطاً بهم مبالغةً في اتِّصافهم به فهو أبلغُ مِنْ قوله «أراكم ضالين» .