الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ} : هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من «السماوات» ، أي: رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد. ثم في هذا الكلامِ وجهان، أحدُهما: انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً، أي: لا عَمَدَ فلا رؤيةَ، يعني لا عَمَدَ لها فلا تُرَى. وإليه ذهب الجمهورُ. والثاني: أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ مرئيَّةٍ. وعن ابنِ عباس: «ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى؟» ، وإليه ذهب مجاهدٌ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم: ما رأيت رجلاً صالحاً، ونحوُه:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} [البقرة:
2
73] [وقوله:] .
284 -
0- على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم. هذا إذا قُلْنَا: إنَّ «تَرَوْنها» صفةٌ، أمَّا إذا قلنا: إنها مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ.
والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ، وعبارةُ بعضِهم «إنه جمعٌ» ، نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان، أحدهما: أنه عِماد، ونظيرُه إهاب وأَهَب. والثاني: أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم، كذا قال الشيخ: وقال أبو البقاء: «جمع عِماد،
أو عَمود مثل: أَدِيمْ وأَدَم، وأَفِيْق وأَفَق، وإِهاب وأَهَب، ولا خامسَ لها» . قلت: فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل في ذلك، وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعِيل على كذا أن يُجْمع عليه فَعُول، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على فَعَل.
ثم قول أبي البقاء «ولا خامسَ لها» يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلَاّ هذه الخمسةُ: عِماد، وعَمُود، وأَدِيم، وأَفِيْق، وإِهاب، وهذا الحصرُ ممنوعٌ لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نحو: قَضِيم وقَضَم. ويُجْمعان في القِلَّة على «أَعْمِدة» .
وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب «عُمُد» بضمتين، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً كشِهاب وشُهُب، وكِتاب وكُتُب، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل، وقد قرِئ في السبع:{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: 9] بالوجهين. وقال ابن عطية في عَمَد: «اسم جمعِ عَمُود، والبابُ في جمعه» عُمُد «بضم الحروفِ الثلاثة كرَسُوْل ورُسُل» .
قال الشيخ: «وهذا وهمٌ، وصوابُه بضم الحرفين؛ لأن الثالث هو حرفُ الإِعراب، فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع» .
والعِماد والعَمود: ما يُعَمَّد به، أي: يُسْنَدُ، يقال: عَمَدْتُ الحائطَ
أَعْمِدُه عَمْداً، أي: أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد. والعَمَدُ: الأساطينُ. قال النابغة:
284 -
1- وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ
…
يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
والعَمْدُ: هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه، فهو ضِدُّ السهو، وعمودُ الصبح: ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة، والعُمْدَةُ: ما يُعتمد عليه مِنْ مالٍ وغيرِهِ، والعَميد: السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ، أي: يَقْصِدُونه.
قوله: {تَرَوْنَهَا} في الضميرِ المنصوبِ وجهان، أحدهما: أنه عائدٌ على «عَمَد» وهو أقربُ مذكورٍ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً ل «عَمَد» ، ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان: من كونِ العَمَد موجودةً، لكنها لا تُرى، أو غيرَ موجودةٍ البتةَ.
والثاني: أن الضميرَ عائدٌ على «السماوات» . ثم في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها كذلك، ولم يَذْكر الزمخشريُّ غيرَه. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن «السماوات» ، وتكونُ حالاً مقدرة؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ، والتقدير: رَفَعَها مَرْئيةً لكم.
وقرأ اُبَيٌّ «تَرَوْنَه» مراعاةً للفظ «عَمَدَ» إذ هو اسمُ جمعٍ. وهذه القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً ل «عَمَد» .
وزعم بعضُهم أنَّ «تَرَوْنَها» خبرٌ لفظاً، ومعناه الأمر، أي: رَوْها وانظروا إليها لتعتبروا بها. وهو بعيدٌ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً؛ لأنَّ الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً.
و «ثم» في «ثم استوى» لمجردِ العطفِ لا للترتيب؛ لأنَّ الاستواءَ على العرش غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السماوات.
قوله: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات} قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى، وفيهما وجهان، أحدُهما -وهو الظاهر-: أنهما مستأنفان للإِخبارِ بذلك. والثاني: أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ «سَخَّر» ، والثاني حالٌ مِنْ فاعل «يُدَبِّر» .
وقرأ النخعي وأبان بن تغلب: «نُدَبِّرُ الأمرَ، نُفَصِّل» بالنون فيهما، والحسنُ والأعمشُ «نُفَصِّل» بالنون، «يُدَبِّر» بالياء. قال المهدوي:«لم يُخْتَلَفْ في» يُدَبِّر «، يعني أنه بالياء، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن النخعيِّ وأبان بن تغلب.
والرَّواسِي: الثوابت وهي الجبال، وفَواعِل الوصفُ لا يَطَّرِدُ إلَاّ في الإِناثِ، إلَاّ أن المكسَّر ممَّا لا يَعْقِلُ يجري مَجْرى جمعِ الإِناث، وأيضاً فقد كَثُرَ استعمالُه كالجوامِد فجُمِعَ كحائط وحوائط وكاهِل وكواهل. وقيل: هو جمعُ راسِيَة، والهاء للمبالغة، والرُّسُوُّ: الثبوت قال:
284 -
2-
بهِ خالداتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ
…
وَأشْعَثُ أَرْسَتْهُ الوَليدةُ بالفِهْرِ
قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات} يجوز فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أَنْ يتعلَّقَ ب «جَعَل» بعده، أي: وجعل فيها زوجين اثنين مِنْ كلٍ، وهو ظاهر. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «اثنين» ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له. والثالث: أن يَتِمَّ الكلامُ على قوله {وَمِن كُلِّ الثمرات} فيتعلَّقَ ب «جَعَلَ» الأولى على أنه من عطفِ المفردات، يعني عَطَفَ على معمول «جعل» الأولى، تقديرُه: أنه جَعَلَ في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات. قال أبو البقاء: «ويكون جَعَلَ الثاني مستأنفاً» .
و {يُغْشِي الليل} تقدَّم الكلامُ فيه وهو: إمَّا مستأنفٌ وإمَّا حالٌ مِنْ فاعلِ الافعالِ قبله.
قوله تعالى: {وَفِي الأرض قِطَعٌ} : العامَّة على رفع «قِطَعٌ» و «جنات» : إمَّا على الابتداء، وإمَّا على الفاعلية بالجارِّ قبله. وقرئ {قِطَعاً مُّتَجَاوِرَاتٍ} بالنصب، وكذلك في بعض المصاحف، على إضمار «جَعَلَ» .
وقرأ الحسن «وجناتٍ» بكسر التاء وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنه جرٌ عطفاً على {كُلِّ الثمرات} . الثاني: أنه نصبٌ نَسَقاً على {زَوْجَيْنِ اثنين} قاله الزمخشري. الثالث: نَصْبُه نسقاً على «رواسي» . الرابع: نَصْبُه بإضمار «
جَعَلَ» وهو أَوْلى لكثرةِ الفواصلِ في الأوجهِ قبله. قال أبو البقاء: «ولم يَقْرَأ أحدٌ منهم» وزرعاً «بالنصب» .
قوله: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض. فالرفعُ في {زَرْعٌ وَنَخِيلٌ} للنسقِ على «قِطَعٌ» وفي «صِنْوان» لكونِهِ تابعاً ل «نخيل» ، و «غيرُ» لعطفِهِ عليه.
وعاب الشيخُ على ابن عطية قولَه «عطفاً على» قطع «قال:» وليسَتْ عبارةً محررةً؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطف وهو صِنْوان «قلت: ومثل هذا غيرُ مَعيبٍ لأنه عطفٌ محققٌ، غايةُ ما فيه أنَّ بعضَ ذلك تابعٌ، فلا يُقْدَحُ في هذه العبارة.
والخفضُ مراعاةُ ل» أعناب «. وقال ابن عطية:» عطفاً على أعناب «، وعابَها الشيخ بما تقدَّم، وجوابُه ما تقدَّم.
وقد طعنَ قومٌ على هذه القراءة وقالوا: ليس الزرعُ من الجنات، رُوِيَ ذلك عن أبي عمروٍ. وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنةَ احتَوَتْ على النخيلِ والأعنابِ والزرعِ كقوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] . وقال أبو البقاء:» وقيل: المعنى: ونبات/ زرعٍ فَعَطَفه على المعنى «. قلت: ولا أدري ما هذا الجوابُ؟ لأنَّ الذين يمنع أن تكون الجنةُ من الزرعِ يمنع أن تكونَ من نباتِ الزرع، وأيُّ فرق؟
والصَّنْوانُ: جَمْع صِنْوٍ كقِنْوان جمع قِنْو، وقد تقدم تحقيق هذه البنية في الأنعام. والصِّنْوُ: الفَرْعُ، يَجْمعه وفرعاً آخر أصلٌ واحدٌ، وأصله المِثْلُ، وفي الحديث:» عَمُّ الرجل صِنْوُ أبيه «، أي: مثلُه، أو لأنهما يجمعهما أصلٌ واحد.
والعامَّة على كسرِ الصاد. وقرأ السلمي وابن مصرِّف وزيدُ بن علي بضمِّها، وهي لغةُ قيسٍ وتميم، كذِئْب وذُؤْبان. وقرأ الحسنُ وقتادةُ بفتحها، وهو اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ لأنه ليس مِنْ أبنيتِه فَعْلان، ونظيرُ» صَنْوان «بالفتح» السَّعْدان «. هذا جمعُه في الكثرةِ، وأمَّا في القِلَّة فيُجْمع على أَصْنَاءٍ كحِمْل وأَحْمال.
قوله:» يُسْقَى «قرأه بالياء مِنْ تحتُ ابنُ عامر وعاصمٌ، أي: يُسقى
ما ذُكِرَ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ مراعاةً للفظِ ما تقدم، وللتأنيث في قولِه» بعضَها «.
قوله: «ونُفَضِّل» قرأه بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعل الأخَوان، والباقون بنونِ العظمة. ويحيى بن يعمر وأبو حيوة «يُفَضَّل» بالياء مبنياً للمفعول، «بعضُها» رفعاً. قال أبو حاتم:«وَجَدْتُه كذلك في مصحف يحيى بن يعمر» وهو أولُ مَنْ نَقَّط المصاحفَ. وتقدَّم الخلاف في «الأُكُل» في البقرة.
و {فِي الأكل} فيه وجهان، أظهرُهما: أنه ظرفٌ للتفضيل. والثاني: أنه حال من «بعضها» ، أي: نُفضِّل بعضَها مأكولاً، أي: وفيه الأكلُ، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ مِنْ جهة المعنى والصناعة.
قوله تعالى: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ مقدمٌ، و «قولُهم» مبتدأ مؤخرٌ، ولا بد مِنْ حَذْفِ صفةٍ لتتِمَّ الفائدةُ، أي: فَعَجَبٌ أيُّ عَجَبٍ، أو غريب ونحوه. والثاني: أنه مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءُ ما ذكرتْهُ مِن الوصفِ المقدِّرِ، ولا يَضُرُّ حينئذٍ كونُ خبِرهِ، معرفةً،
وهذا كما اَعْرب سيبويهِ «كم» مِنْ «كم مالُك» و «خيرٌ» مِنْ «اقصِدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه» مبتدأين لمسوِّغِ الابتداء بهما، وخبرُهما معرفةً. قاله الشيخ وللنزاعِ فيه مجالٌ.
على أنَّ هناك عِلَّةً لا تَتَأتَّى ههنا: وهي أن الذي حَمَلَ سيبويهِ على ذلك في المسألتين أنَّ أكثرَ ما يقع موقعَ «كم» و «خير» ما هو مبتدأ، فلذلك حَكَمَ عليهما بحكمِ الغالبِ بخلافِ ما نحن فيه.
الثالث: أنَّ «عجبٌ» مبتدأٌ بمعنى مُعْجِب، و «قولُهم» فاعلٌ به، قاله أبو البقاء، ورَدَّ عليه الشيخُ: بانهم نَصُّوا على أن «فَعَلاً» و «فُعْلَة» و «فِعْلاً» يَنُوب عن مفعولٍ في المعنى ولا يعمل عملَه، فلا تقول: مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كبشُه، ولا غُرْفةٍ ماؤه، ولا قَبَضٍ مالُه «. قلت: وأيضاً فإن الصفاتِ لا تعملُ إلَاّ إذا اعتمَدَتْ على أشياءَ مخصوصةٍ، وليس منها هنا شيءٌ.
قوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يجوز في هذه الجملةِ الاستفهاميةِ وجهان، أحدُهما: -وهو الظاهر- أنها منصوبةُ المحلِّ لحكايتها بالقولِ. والثاني: أنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ قولُهم» ، وبه بدأ الزمخشري، ويكون بدلَ كلٍ مِنْ كل، لأنّ هذا هو نفسُ قولِهم. و «إذا» هنا ظرفٌ محضٌ، وليس فيها معنى الشرطِ، والعاملُ فيها مقدرٌ يُفَسِّره {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تقديرُه: أإذا كنا تراباً نُبْعَثُ أو نُحْشَر، ولا يَعْمل فيها {خَلْقٍ
جَدِيدٍ} لأنَّ ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها أيضاً «كُنَّا» لإِضافتها إليها.
واختلف القرَّاءُ في هذا الاستفهامِ المكررِ اختلافاً منتشراً، وهو في أحدِ عشرَ موضعاً من القرآن، فلا بُدَّ مِنْ تَعيينِها وبيانِ مراتبِ القرَّاء فيها، فإنَّ في ضبطها عُسْراً يَسْهُل بعَوْنِ الله تعالى:
أمَّا المواضعُ المذكورةُ، فأوَّلُها ما في هذه السورة. الثاني والثالث كلاهما في «الإِسراء» وهما:{أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الآيتان: 49، 98] موضعان الرابع: في «المؤمنون» {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الآية: 82] . وفي «النمل» : {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [الآية: 67]، وفي «العنكبوت» :{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال}
[الآيتان: 28، 29] . وفي «ألم، السجدة» {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الآية: 10] . وفي «الصافات» موضعان، وفي الواقعة موضعٌ:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16، 53، الواقعة: 47] . وفي «النازعات» : {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} [الآية: 11] .
هذه هي المواضعُ المختلَفُ فيها، وأمَّا ضبطُ الخلافِ فيها بالنسبةِ إلى القرَّاء ففيه طريقان، أحدهما بالنسبة إلى ذِكْر القُرَّاء، والثاني: بالنسبة إلى ذِكْر السُّوَر وهذا الثاني أقربُ، فلذلك بَدَأْتُ به فأقول: هذه المواضعُ تنقسم قسمين: قسمٌ منها سبعةُ مواضعَ لها حكمٌ واحدٌ، وقسمٌ منها أربعةُ مواضعَ، لكلٍ منها حكمٌ على حِدَته.
أمَّا القسم الأول: فمنه في هذه السورة، والثاني والثالث في سبحان، والرابع في المؤمنين، والخامس في ألم السجدة، والسادس والسابع في الصَّافات، وقد عَرَفْتَ أعيانَها ممَّا تقدَّمَ.
أمَّا حكمُها: فإنَّ نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ويُخْبران في الثاني، وأن ابنَ عامرٍ يُخْبِر في الأول، ويستفهم في الثاني، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون في الأول والثاني.
وأمَّا القسمُ الثاني: فأوَّله [ما في سورة النمل]، وحكمُه: أنَّ نافعاً يُخْبِر في الأول ويستفهم في الثاني، وأن ابنَ عامر والكسائي يعكِسُه، أي: يَسْتفهمان في الأول ويُخْبِران في الثاني، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون فيهما. الثاني: ما في سورة العنكبوت، وحكمُه: أن نافعاً وابنَ كثير وابنَ عامرٍ وحفصاً يُخْبرون في الأول ويستفهمون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما.
الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمُه: أن نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول، ويُخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الرابع ما في سورة النازعات، وحكمه: أنَّ نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني، وأنَّ الباقين يستفهمون فيهما.
وأمَّا الطريقُ الآخرُ بالنسبة إلى القراء فأقول: إن القراء فيها على أربعِ مراتبَ، والأولى: ان نافعاً رحمه الله قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عَكَس. المرتبة الثانية: أن ابن كثير وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني، إلا الأولَ من العنكبوت فقرآه بالخبر. المرتبة الثالثة: أن ابنَ عامر قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، إلا في النمل والواقعة والنازعات، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما. المرتبة الرابعة: الباقون -وهم أبو عمرو وحمزة وأبو بكر- قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني، ولم يخالِفْ أحدٌ منهم أصلَه، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعُسْرهما وصعوبةِ استخراجهما من كتب القراءات.
ثم الوجهُ في قراءةِ مَن، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإِنكار، فاتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، والوجهُ في قراءة منْ أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى، فإذا أنكرَ في إحداهما حَصَل الإِنكار في الأخرى، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من ذلك فلاتِّباعِ الأثَر.
قوله تعالى: {قَبْلَ الحسنة} : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن «السَّيِّئة» قاله أبو البقاء.
قوله: {وَقَدْ خَلَتْ} يجوز أن تكونَ حالاً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً. والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة، الواحدة «مَثُلَة» كسَمُرَة وسَمُرات، وهي العقوبةُ الفاضحة. قال ابن عباس:: العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما «، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من المماثلة كقوله:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص، يقال: أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه وأقْصَصْته، بمعنى واحد، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها.
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء. قيل: وهي لغةُ الحجاز في» مَثْلة «. / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما.
فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما. وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ اصلاً بنفسه لغةً، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو: العُسُرِ في العُسْر، وقد عُرِفَ ما فيه.
قوله: {على ظُلْمِهِمْ} حال من» للناس «. والعامل فيها قال أبو البقاء:» مغفرة «يعني أنه هو العامل في صاحبها.
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن هذا كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌ من مبتدأ وخبر. الثاني: أنَّ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ} متعلقٌ بهادٍ، و «هادٍ» نَسَقٌ على مقدَّر، أي: إنما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم. وفي هذا
الوجهِ الفصلُ بين حرفِ العطفِ والمعطوف بالجارِّ، وفيه خلافٌ تقدَّم. ولمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يذكر هذا الإِشكالَ، ومِنْ عادته ذِكْرُه رادّاً به على الزمخشري. الثالث: أنَّ هادياً خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: [إنما أنت منذرٌ] ، وهو لكلِّ قومٍ هادٍ، ف «لكلِّ» متعلقٌ به أيضاً.
ووقف ابن كثير على «هادٍ» و {وَاقٍ} [الرعد: 34] حيث وقعا، وعلى {وَالٍ} [الرعد: 11] هنا [وباقٍ في التخل بإثبات] الياء، وحَذَفها الباقون. ونقل ابن مجاهد عنه أنه يقف بالياء في جميع الباب، ونَقَل عن ورش أنه خَيَّر في الوقف [بين الياءِ وحَذْفِها، والباب] هو كلُّ منقوصٍ منوَّنٍ غيرِ منصوبٍ.
قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ} : يجوز في الجلالة وجهان، أحدُهما: أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمر، [أي: هو الله، وهذا] على قول مَنْ فَسَّر هادياً بأنه هو الله تعالى، فكأنَّ هذه الجملةَ تفسيرٌ له، وهذا عَنَى الزمخشريُّ بقوله: «وأن يكونَ المعنى: هو الله تفسيراً لهادٍ على الوجه الأخير، ثم ابتدأ
فقال:» يَعْلَم «. والثاني: أن الجلالةَ مبتدأ و» يَعْلَمُ «خبرُها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ.
قال الشيخ:» ويَعْلَمُ هنا متعديةٌ إلى واحدٍ، لأنه لو يُراد هنا النسبةُ، إنما المرادُ تعلُّق العلمِ بالمفردات «. قلت: وإذا كانت كذلك كانت عِرْفانيةً، وقد قدَّمْتُ أنه لا ينبغي أن يجوزَ نسبةُ هذا إلى اللهِ تعالى، وحَقَّقْتُه فيما تقدَّم، فعليك باعتباره في موضعه من سورة الأنفال.
قوله: {مَا تَحْمِلُ} :» ما «تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أن تكون موصولةً اسميةً، والعائدُ محذوف، أي: ما تحمله. والثاني: أن تكونَ مصدريةً فلا عائدَ. والثالث: أن تكونَ استفهاميةً، وفي محلها وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و» تحملُ «خبرُه، والجملة معلِّقةٌ للعلمِ. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ ب» تَحْمل «قاله أبو البقاء، وهو أوْلى، لأنه لا يُحْوِجُ إلى حَذْفِ عائدٍ، ولا سيما عند البصريين فإنهم لا يُجيزون» زيدُ ضربْت «، ولم يذكرِ الشيخُ غيرَ هذا، ولم يتعرَّضْ لهذا الاعتراضِ.
و» ما «في قوله {وَمَا تَغِيضُ. . . وَمَا تَزْدَادُ} محتملةٌ للأوجهِ المتقدمة. وغاض وزاد سُمِع تعدِّيهما ولزومُهما، فلك أن تدَّعيَ حَذْفَ العائدِ على القول بتعدِّيهما، وأن تجعلَها مصدريةً على القولِ بمصدرهما.
قوله:» عندَه «يجوزُ أن يكونَ مجرورَ المحلِّ صفةً لشيءٍ، أو مرفوعَه
صفةً ل» كل «، أو منصوبهَ لقوله» بمقدار «أو ظرفاً للاستقرار الذي تَعَلَّق به الجارُّ لوقوعِه خبراً.
قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب} : يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبرُه {الكبير المتعال} ، وأن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو عالِمٌ. وقرأ زيد بن عليّ «عالِمَ» نصباً على المدح. ووقف ابن كثير وأبو عمرو في روايةٍ على ياء «المتعال» وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهرُ في لسانهم، وحَذَفَها الباقون وصلاً ووقفاً لحَذْفِها في الرسم. واستسهل سيبويه حَذْفَها في الفواصل والقوافي ولأن «أل» تعاقِبُ التنوين، فَحُذِفَتْ معها إجراءً لها مُجْراها.
قوله تعالى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ} : في «سواءٌ» وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ مقدَّمٌ، و {مَّنْ أَسَرَّ} و {وَمَنْ جَهَرَ} هو المبتدأ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ، و «منكم» على هذا حالٌ من الضمير المستتر في «سواءٌ» لأنه بمعنى «مُسْتَوٍ» . قال أبو البقاء:«ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً من الضمير في» أَسَرَّ «أو» جَهَرَ «لوجهين، أحدُهما: تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف، والثاني: تقديمُ الخبرِ على» منكم «،
وحقُّه أن يقعَ بعده» . قلت: [قوله]«وحقُّه أن يقع بعده» يعني بعده وبعد المبتدأ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له.
والثاني: أنه مبتدأ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله «مِنْكم» وأَعْرَبَ سيبويه «سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ» كذلك. وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة، غَلَطٌ عليه.
قوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «مُسْتَخْفٍ» ، ويُرادُ ب «مَنْ» حينئذٍ اثنان، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ «هو» على لفظِها فأفرده، والخبرَ على معناها فثَنَّاه. الوجه الثاني: أن يكونَ عطفاً على « {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه. ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري. قال رحمه الله:» فإنْ قلت: كان حقُّ العبارة أن يُقال: «ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ، وإلَاّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ. قلت: فيه وجهان، أحدٌهما: أنَّ قولَه» وساربٌ «عطفٌ على {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} لا على» مُسْتَخْفٍ «. والثاني: أنه عَطْفٌ على» مُسْتَخْفٍ «، إلا أنَّ» مَنْ «في معنى الاثنين، كقوله:
284 -
3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ
كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان: {مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار} .
قلت: وفي عبارتِه بقوله» كان حقُّ العبارةِ كذا «سوءُ أدب. وقوله: كقولِه» نَكُنْ مثلَ مَنْ «يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني
…
نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان
وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط، وهو مقصودُه. وقوله:» وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ «لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ.
الثالث: أن يكونَ على حذف» مَنْ «الموصولة، أي: ومَنْ هو سارِبٌ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك.
والسَّارِب: اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ، أي: تَصَرَّف كيف شاء. قال:
284 -
4- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ
…
وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
وقال آخر:
284 -
5- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ
…
ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ
أي: متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة.
قوله تعالى: {لَهُ} الضميرُ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه عائدٌ على «مَنْ» المكررة، أي: لِمَنْ أسرَّ القولَ ولِمَنْ جَهَرَ به ولِمَنْ استخفى وسَرَب مُعَقِّبات، أي: جماعة من الملائكة يَعْقُبُ بعضُهم بعضاً. الثاني: أنه يعود على «مَنْ» الأخيرةِ، وهو قولُ ابن عباس. قال ابنُ عطية:«والمُعَقِّبات على هذا: حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُه الذين يحفطونَه. قالوا: والآيةُ على هذا في الرؤساء الكفارِ، واختاره الطبري في آخرين» ، إلا أنَّ الماورديَّ ذكر على التأويلِ أنَّ الكلامَ نفيٌ، والتقدير: لا يحفطونه. وهذا ينبغي أن [لا] يُسْمَعَ البتة، كيف يَبْرُزُ كلامٌ موجَبٌ ويُراد به نفي؟ وحَذْفُ «لا» إنما يجوز إذا كان المنفيُّ مضارعاً في جوابِ قسمٍ نحو:{تَالله تَفْتَؤُاْ} [يوسف: 85] وقد تقدَّم تحريرُه، وإنما معنى الكلام -كما قال المهدوي -يحفظونه مِنْ أمرِ اللهِ في ظنِّه وزعمه.
الثالث: أنَّ الضميرَ في «له» يعود على الله تعالى ذِكْرُه، وفي «يَحْفظونه» للعبد، أي: لله ملائكةٌ يحفظون العبدَ من الآفات، ويحفطون عليه أعمالَه، قاله الحسن.
الرابع: عَوْدُ الضميرين على النبي عليه السلام، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ قريبٌ، ولتقدُّم ما يُشعر به في قوله:{لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ} [الأنعام: 8] .
ومعَقِّبات: جمع «مُعَقِّب» بزنة مُفَعِّل، مِنْ عَقَّب الرجلُ إذا جاء على عَقِب الآخر؛ لأنَّ بعضَهم يعَقِّب بعضاً، أو لأنهم يُعَقِّبون ما يتكلم به. وقال الزمخشري:«والأصلُ معْتَقِبات، فَأُدْغمت التاءُ في القاف كقوله: {وَجَآءَ المعذرون} [التوبة: 90] ، أي:: المُعْتَذِرُون» ، ويَجوز «مُعَقِّبات» بكسر العين ولم يقرأ به. وقال الشيخ:«وهذا وهمٌ فاحشٌ لا تُدْغم التاءُ في القاف، ولا القاف في التاء، لا مِنْ كلمةٍ ولا مِنْ كلمتين، وقد نصَّ التصريفيون على أن القافَ والكاف كلٌ منهما يُدْغم في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يُدْغم غيرهما فيهما. وأمَّا تشبيهُه بقوله: {وَجَآءَ المعذرون} فلا يتعيَّن أن يكونَ أصلُه» المُعْتَذِرون «وقد تقدَّم توجيهُه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه. وأمَّا قوله» ويجوز «مُعَقِّبات» بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناه على أنَّ أصلَه «مُتَعَقِّبات» فأُدْغِمَت التاءُ في القافِ، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك وهمٌ فاحشٌ «/.
وفي» مُعَقِّبات «احتمالان، أحدهما: أن يكون» مُعَقِّبة «بمعنى مُعَقِّب والتاء للمبالغة كعلَاّمَة ونسَّابة، أي: مَلَكٌ مُعَقِّبٌ، ثم جُمِع كعلَاّمات ونسَّابات. والثاني: أن يكون» مُعَقِّبة «صفةً لجماعة، ثم جُمِع هذا الوصفُ. وذكر ابن جرير أنَّ» مُعَقِّبة «جمعُ مُعَقِّب، وشبَّه ذلك برجل ورِجال ورجالات. قال الشيخ:» وليس كما ذَكَر، إنما ذلك كَجَمَل وجِمال
وجِمالات، ومُعَقِّبة ومُعَقِّبات إنما هي كضاربةِ وضاربات.
ويمكن أن يُجابَ عنه بأنه يريد بذلك أنه أُطْلِق مِنْ حيث الاستعمالُ على جمع مُعَقَّب، وإن كان أصلُه أن يُطْلَق على مؤنث «مُعَقِّب» ، فصار مثلَ «الوارِدَة» للجماعة الذين يَرِدُون، وإن كان أصلُه للمؤنثة من جهةِ أن جموعَ التكسير في العقلاء تُعَامَلُ معاملةَ المؤنثة في الإِخبار وعَوْدِ الضمير، ومنه قولهم «الرجال وأعضادُها» ، [و «العلماء ذاهبة إلى كذا» وتشبيهه] ذلك برجل ورجال ورِجالات من حيث المعنى لا الصناعةُ «.
وقرأ أُبَيّ وإبراهيم وعُبيد الله بن زياد» له مَعاقيبُ «. قال الزمخشري: [جمع مُعْقِب أو] مُعْقِبة، والياءُ عوضٌ مِنْ حذف إحدى القافين في التكسير» . قلت: ويوضِّحُ هذا ما قاله ابنُ جني فإنه قال: «معاقيب تكسير [مُعْقِب بسكونِ العين] وكسر القاف كمُطْعِم ومَطاعِيْم، ومُقْدِم ومَقاديم، فكأنَّ مُعْقِباً جُمِع على مَعاقِبَة، ثم جُعِلَتِ الياء في» مَعاقيب «عوضاً من الهاء المحذوفة في مَعاقبة» .
قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مُعَقِّبات» ويجوزُ أَنْ يعتلَّق بمعقِّبات، و «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير الذي هو في الظرف الواقع خبراً. والكلامُ على هذه الأوجهِ تامٌّ عند قوله {وَمِنْ خَلْفِهِ} . وعَبَّر أبو البقاء عن هذه الأوجهِ بعبارةٍ مُشْكلة هذا شَرْحُها، وهي قولُه:{مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يكونَ صفةً لمعَقِّبات، وأن يكون ظرفاً، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضميرِ الذي فيه، فعلى هذا يتم الكلامُ عنده «. انتهى.
ويجوز أَنْ يتعلَّق ب» يحفظونه «، أي: يحفظونه مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه. [فإن قلت: كيف يتعلَّق حرفان] متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحد: وهما» مِنْ «الداخلةُ على» بين «و» مِنْ «الداخلة على» أَمْرِ الله «؟ فالجواب أنَّ» مِنْ «الثانيةَ مغايرةٌ للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله {يَحْفَظُونَهُ} يجوز أن يكونَ صفةً ل» مُعَقِّبات «، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبراً. و {مِنْ أَمْرِ الله} متعلقٌ به، و» مِنْ «: إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله، -ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة» بأَمْرِ الله «. وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء:» مِنْ أَْمْرِ الله، أي: من الجنِّ والإِنس، فتكون «مِنْ» على
بابها «. يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية.
وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى «عن» ، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة.
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه، وبكونها تحفظُه، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ، وهو جائزٌ فصيح. وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره، وأن الأصلَ: له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه.
قوله: {وَإِذَا أَرَادَ} العاملُ في «إذا» محذوفٌ لدلالة جوابِها عليه تقديرُه: لم يُرَدَّ، أو وقع، ونحوُهما، ولا يَعْمل فيها جوابُها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.
قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} : يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوفٌ، أي: يخافون خَوْفاً ويطمعون طَمَعاً. ويجوز أن يكونا مصدرين في موضعِ نصبٍ على الحال، وفي صاحبِ الحال حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه مفعولُ «يُرِيْكم» الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقَه، وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي:
284 -
6- فتىً كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجى
…
يُرَجَّى الحَيا منها وتُخْشى الصَّواعِقُ
والثاني: أنه البرقُ، أي: يريكموه حالَ كونِه ذا خوفٍ وطمع، أو هو في نفسه خوفٌ وطمعٌ على المبالغة، والمعنى كما تقدَّم. ويجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشري بعدمِ اتحاد الفاعلِ، يعني أنَّ فاعلَ الإرادةِ وهو الله تعالى غيرُ فاعلِ الخوف والطمع وهو ضميرُ المخاطبين، فاختلف فاعلُ الفعل المُعَلَّل وفاعلُ العلَّة. وهذا يمكن أن يجابَ عنه: بأنَّ المفعولَ في قوة الفاعل، فإنَّ معنى «يُريكم» يجعلكم رائين، فتخافون وتطمعون، ومثلُه في المعنى قول/ النابغة الذبياني:
284 -
7- وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍِ مُمَنِّعٍ
…
تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا
حِذاراً على أن لا تُنال مَقَادَتي
…
ولا نِسْوتي حتى يَمُتْنَ حَرائِرا
ف «حِذاراً» مفعولٌ من أجله، وفاعلُه هو المتكلم، والفعل المُعَلِّل الذي هو «حَلَّتْ» فاعلُه «بيوتي» ، فقد اختلف الفاعل. قالوا: لكن لمَّا كان التقدير: وأَحْلَلْتُ بيوتي حِذاراً صَحَّ ذلك.
وقد جوَّز الزمخشري: ذلك أيضاً على حَذْفِ مضاف فقال: «إلَاّ على تقدير حَذْفِ المضاف، أي: إرادةَ خوفٍ وطَمَع» . وجوَّزه أيضاً على أنَّ بعضَ المصادر ناب عن بعض، يعني: ان الأصلَ: يُريكم البرقَ إخافةً وإطماعاً؛ فإنَّ المُرْئِيَّ والمُخِيفَ والمُطْمِعَ هو اللهُ تعالى، وناب «خوف» عن
إخافة، و «طمع» عن إطماع نحو:{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، على أنه قد ذهب جماعةٌ منهم ابنُ خروفٍ إلى أنَّ اتحادَ الفاعل ليس بشرطٍ.
قوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ} : يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً أخبر عنهم بذلك، ويجوز أن تكونَ حالاً. وظاهر كلام الزمخشري أنها حالٌ مِنْ مفعول «يُصِيب» ، فإنه قال:«وقيل: الواوُ للحال، [أي: فيصيب بها مِنْ يشاء في حالِ جِدالِهم» ] ، وجعلها غيرُه حالاً من مفعول «يشاء» .
قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} [هذه الجملة حالٌ من الجلالة] الكريمة، ويَضْعُفُ استئنافُها. وقرأ العامَّةُ بكسر الميم، وهو القوة والإِهلاك، قال عبد المطلب:
284 -
8- لا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ
…
ومِحالُهم عَدْواً مِحالَكْ
وقال الأعشى:
284 -
9- فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المَجْ
…
دِ عظيمُ النَّدَى شديد المِحالِ
والمِحال أيضاً: أشدُّ المكايدة والمماكرة، يقال: ماحَلَه مُمَاحَلةً، ومنه:
تَمَحَّلَ فلانٌ لكذا، أي: تكلَّف له استعمالَ الحيلة. وقال أبو زيد: «هو النِّقْمة» . وقال ابنُ عرفةَ، «هو الجِدال» [وفيه على هذا] مقابلةٌ معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله وهو شديدُ الجِدال.
[واختلفوا في ميمه] : فالجمهور على أنها أصليةٌ من المَحْلِ وهو المَكْرُ والكيد، ووزنُه فِعال كمِهاد. وقال القتبي: إنه مِنَ الحيلة، وميمُه مزيدةٌ، كمكان من الكون، ثم يقال: تمكَّنْتُ. وقد غلَّطه الأزهري وقال: لو كان مِفْعَلاً مِنَ الحيلة لظهرت مثل: مِزْوَد ومِحْوَل ومِحْوَر «.
وقرأ الأعرج والضحاك بفتحِها، والظاهر أنه لغةٌ في المكسورِها، وهو مذهبُ ابن عباس، فإنه فسَّره بالحَوْل وفسَّره غيرُه بالحيلة. وقال الزمخشري:» وقرأ الأعرج بفتح الميمِ على أنه مَفْعَل مِنْ حال يحولُ مَحالاً، إذا احتال، ومنه «اَحْوَلُ مِنْ ذئب» ، أي: أشدُّ حِيْلة، ويجوز أن يكونَ المعنى: شديد الفَقار، ويكون مَثَلاً في القوَّة والقدرة، كما جاء «فساعِدُ اللهِ أشدُّ، ومُوْساه أَحَدٌ» ، لأنَّ الحيوانَ إذا اشتدَّ مَحالُه كان منعوتاً بشدةِ القوةِ والاضطلاع بما يَعْجُزُ غيرُه، ألا ترى إلى قولهم:«فَقَرَتْه الفاقِرة» وذلك أنَّ الفَقارَ عمودُ الظهرِ وقِوامُه «.
وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} : من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والأصل: له الدعوةُ الحقُّ كقوله: {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109] على أحدِ الوجهين. وقال الزمخشري: «فيه وجهان، أحدُهما: أن تُضافَ الدعوةُ إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تُضاف الكلمةُ إليه في قوله» كلمة الحق «. والثاني: أن تُضافَ إلى الحق الذي هو اللهُ على معنى دعوةِ المَدْعُوِّ الحق الذي يسمع فيجيب» . قال الشيخ: «وهذا الوجهُ الثاني لا يظهر؛ لأنَّ مآلَه إلى تقدير: لله دعوةُ الله كما تقول: لزيدٍ دعوةُ زيد، وهذا التركيبُ لا يَصِحُّ» . قلت: وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يَرُدَّ عليه به؟
قوله: {والذين يَدْعُونَ} يجوز أن يُرَاد بالذين المشركون، فالواوُ في «يَدْعُون» عائده، ومفعولُه محذوفٌ وهو الأصنام، والواوُ في {لَا يَسْتَجِيبُونَ} عائدٌ على مفعول «يَدْعون» المحذوفِ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتِهم إياه معاملتَهم. والتقدير: والمشركون الذين يَدْعُون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنامُ إلا استجابةً كاستجابةِ باسطِ كَفَّيْه، أي: كاستجابة الماءِ مَنْ بَسَطَ كَفَّيْه إليه، يطلب منه أن يَبْلُغَ فاه، والماءُ جمادٌ لا يَشْعُر ببَسْط كَفَّيْه ولا بعطشِه، ولا يَقْدِرُ أن يُجيبَه ويَبْلُغَ فاه، قال معناه الزمخشري. ولمَّا ذكر أبو البقاء قريباً من ذلك وقدَّر التقديرَ المذكور قال: «والمصدرُ في هذا التقدير مضافٌ
إلى المفعول كقوله: {لَاّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} [فصلت: 49] ، وفاعلُ هذا المصدرِ مضمرٌ هو ضميرُ الماءِ، أي: لا يُجيبونهم إلا كما يُجيب الماءُ باسطَ كفِّه إليه، والإِجابةُ هنا كنايةٌ عن الانقياد» . /
ويجوز أن يُرادَ بالذين الأصنامُ، أي: والآلهة الذين يَدْعونهم مِنْ دونِ الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابةً، والتقديرُ كما تقدَّم في الوجهِ قبلَه. وإنما جَمَعَهم جَمْعَ العقلاء: إمَّا للاختلاطِ؛ لأنَّ الآلهةَ عقلاءُ وجمادٌ، وإمَّا لمعاملتِهم إياها معاملةَ العقلاءِ في زعمهم، فالواوُ في «يَدْعُون» للمشركين، والعائدُ المحذوفُ للأصنام، وكذا واوُ «يستجيبون» .
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمروٍ «تَدْعُونَ» بالخطاب وهو مُقَوِّيَةٌ للوجهِ الثاني: ولم يذكرِ الزمخشريُّ غيرَه.
قوله: «ليَبْلُغَ» اللامُ متعلقةٌ ب «باسِط» وفاعلُ «ليبلُغَ» ضميرُ الماءِ.
قوله: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} في «هو» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ الماء. والهاء في «ببالغِه» للفم، أي: وما الماء ببالغِ فيه. الثاني: أنه ضميرُ الفم، والهاء فيي «ببالِغه» للماء، أي: وما الفمُ ببالغِ الماءِ؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما لا يبلُغُ الآخرَ على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ وعدمُها صحيحتان. الثالث: أن يكون ضميرَ الباسط، والهاء في «ببالغه» للماء، أي: وما باسطُ كَفَّيْهِ إلى الماء ببالغٍ الماءَ.
ولا يجوز أن يكون «هو» ضميرَ الباسط، وفاعلُ «ببالغِه» مضمراً والهاء في «ببالِغه» للماء، لأنه حينئذٍ يكونُ
من باب جَرَيان الصفةِ على غير مَنْ هي] له، ومتى كان كذا لزِم إبرازُ الفاعلِ فكان التركيبُ هكذا: وما هو ببالغِه الماءُ، فإن جَعَلْتَ الهاءَ في «ببالغِه» للماءِ جاز أن يكونَ «هو» ضميرَ الباسط كما تقدَّم تقريرُه.
والكافُ في «كباسطِ» : إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوف، وإمَّا حالٌ من ذلك المصدرِ كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة.
وقال أبو البقاء: «والكاف في» كباسط «إنْ جعلتَها حرفاً كان فيها ضميرٌ يعود على الموصوفِ المحذوفِ، وإنْ جعلْتَها اسماً لم يكن فيها ضميرٌ» . قلت: وكونُ الكافِ اسماً في الكلام لم يَقُلْ به الجمهورُ، بل الأخفشُ، ويعني بالموصوفِ ذلك المصدرَ الذي قدَّره فيما تقدَّم.
قوله تعالى: {طَوْعاً وَكَرْهاً} : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجله، وإمَّا حال، أي: طائعِين وكارهين، وإمَّا منصوبٌ على المصدر المؤكِّد بفعلٍ مضمر. وقرأ ألو مِجْلَز:«والإِيصال» بالياء قبل الصاد. وخرَّجها ابنُ جني على أنه مصدرٌ «آصَلَ» كضارَبَ، أي: دَخل في الأصيل، كأصْبَح، أي: دخل في الصباح.
و «ظلالُهم» عطف على «مَنْ» . و «بالغُدُوِّ» متعلِّقٌ بيَسْجُد، والباء بمعنى في، أي: في هذين الوقتين.
وقرأ الأخَوان وأبو بكر عن عاصم «يَسْتوي» بالياء من تحتُ، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أنَّ الفاعلَ مجازيٌّ التأنيث، فيجوز في فِعْله التذكيرُ والتأنيثُ، كنظائرَ له مرَّتْ.
وقوله: «أَمْ هَلْ» هذه «أم» المنقطعةُ، فتتقدَّر ب «بل» والهمزةِ عند الجمهور، وب «بل» وحدَها عند بعضهم، وقد تقدَّم ذلك محرِّراً، وقد يَتَقَوَّى بهذه الآيةِ مَنْ يرى تقديرَها ب «بل» فقط بوقوع «هَل» بعدها، فلو قَدَّرْناها ب «بل» والهمزةِ لزم اجتماعُ حرفَيْ معنى، فَتُقَدِّرها ب «بل» وحدها ولا تقويةَ له، فإنَّ الهمزةَ قد جامَعَتْ «هل» في اللفظ كقول الشاعر:
285 -
0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
أهلْ رَأَوْنا بوادِي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فَأوْلَى أن يجامِعَها تقديراً. ولقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّمُ أنَّ «هل» هذه استفهاميةٌ بل بمعنى «قد» ، وإليه ذهب جماعةٌ، وإن لم يجامِعْها همزةٌ كقولِه تعالى:{هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ} [الإِنسان: 1]، أي: قد أتى، فهنا أَوْلى، والسماعُ قد رَوَدَ بوقوع «هل» بعد «أم» وبعدمِه. فمِنَ الأوَّلِ هذه الآيةُ، ومن الثاني
وما بعدها مِنْ قولِه: «اَمْ جَعَلوا» ، وقد جمع الشاعرُ أيضاً بين الاستعمالين في قوله:
285 -
1- هل ما عَلِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ
…
أم حَبْلُها إذ نَأَتْكَ اليومَ مَصْرومُ
أَمْ هَلْ كبيرٌ بكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَه
…
إثرَ الأحبَّةِ يومَ البَيْنَ مَشْكُومُ
/ والجملةُ من قوله: خَلَقوا «صفةٌ لشركاء.
قوله تعالى: {أَوْدِيَةٌ} : هو جمعُ وادٍ، وجمعُ فاعِل على أَفْعِلَة، قال أبو البقاء:«شاذٌّ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحرف، ووجهُه: أنَّ فاعِلاً قد جاء بمعنى فَعِيل، وكما جاء فَعِيل وأفْعِلَة كجَرِيْب وأَجْرِبَة، وكذلك فاعِل» ، قلت: قد سُمع فاعِل وأفْعِلة في حرفين آخرين، أحدُهما: قولهم: جائز وأجْوِزَة، والثاني: ناحِية وأَنْحِية.
قوله: «بقَدَرها» فيه وجهان، أحدُهما «أنه متعلِّقٌ ب» سالَتْ «، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل» أَوْدية «. وقرأ العامَّةُ بفتح الدال، وزيد بن علي والأشهب العقيلي وأبو عمرو في روايةٍ بسكونها، وقد تقدَّم ذلك في سورة البقرة.
و» احتمل «بمعنى حَمَل فافْتَعَلَ بمعنى المجرد، وإنما نكَّر الأودية وعَرَّف السيلَ؛ لأنَّ المطر يَنْزِل في البِقاع على المناوبة، فتسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ، وتعريفُ السيل لأنه قد فُهِم من الفعل قبله وهو» فسالَتْ «وهو لو ذُكِرَ لكان نكرةً، فلمَّا اُعيد اُعِيدَ بلفظِ التعريفِ نحو:» رايت رجلاً فأكرمت الرجلَ « [والزَّبَد: وَضَرُ الغَلَيان وخَبَثُه] قال النابغة:
285 -
2- فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له
…
تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
وقيل: هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونحوه، وما يرمي به [على] ضفَّته من الحَباب. وقيل: هو ما يَطْرحُه الوادي إذا جاش ماؤه، وارتفعت أمواجُه. وهي عباراتٌ متقاربة. والزُّبَد: المستخرجُ من اللبن. قيل: مشتقٌّ مِنْ هذا لمشابَهَتِه إياه في اللون، ويقال: زَبَدْتُه زَبْداً، أي: أعطيته مالاً، يُضرب به المثلُ في الكثرةِ، وفي الحديث:» غُفِرَتْ له ذنوبُه وإن كانت مِثْلَ زَبَد البحر «.
قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} هذا الجارُّ [خبر مقدَّمٌ، ومبتدَؤه» زَبَدٌ «] . و» مثلُه «صفةُ المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهرِ التي هي كالنحاس والذهب
والفضة زَبَدٌ، أي: خَبَثٌ مثلُه، أي: مثلُ زَبَدِ الماء، ووجهُ المماثلةِ: أنَّ كلاًّ منهما ناشئٌ مِن الأَكْدار.
وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ» يُوقِدُوْن «بالياء من تحت، أي: الناسُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ على الخطاب.
و» عليه «متعلقٌ ب» يُوْقِدون «. وأمَّا» في النار «ففيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب يوقِدون، وهو قول الفارسيِّ والحوفيِّ وأبي البقاء. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً أو ثابتاً، قاله مكي وغيره. ومنعوا تعلُّقه ب» يُوقِدُون «لأنهم زعموا أنه لا يُوْقَد على شيء إلا وهو في النار، وتعليقُ حرفِ الجر ب» يُوْقِدون «يقتضي تخصيصَ حالٍ من حالٍ أخرى. وهذا غيرُ لازمٍ. قال أبو علي:» قد يُوْقَد على الشيء وإن لم يكنْ في النارِ، كقولِه تعالى:{فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين}
[القصص: 38] والطِّين لم يكن فيها، وإنما يُصيبُه لَهَبُها، وأيضاً فقد يكونُ ذلك على سبيلِ التوكيدِ كقوله تعالى:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .
قوله: «ابتغاءَ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ مِنْ اجله. والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: مُبْتَغِين حِلْية، و «حِلْيةٍ» مفعولٌ معنىً. «أو متاعٍ» نَسَقٌ على «حِلْيةٍ» ، فالحلْيَةُ ما يُتَزَيَّن به، والمَتَاع: مَا يَقْضُون به
حوائِجَهم كالمَساحي من الحديد ونحوِها. و «مِنْ» في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ لابتداءِ الغاية، أي: ومنه ينشأ زَبَدٌ مثلُ زَبَدِ الماء. والثاني: أنها للتبعيضَ، بمعنى: وبَعْضُه زَبَدٌ.
قوله: «جُفاءً» حال. والجُفَاءُ: قال ابن الأنباري: «المتفرِّقُ» . يقال: جَفَأَتِ الريحُ السحابَ، أي: قَطَعَتْه وفَرَّقته. وقيل: الجُفاء: ما يَرْمِي به السَّيْلُ. يُقال: جَفَأَتِ القِدْرُ بزَبَدِها تَجْفَأُ، وجَفَأَ السَّيْلُ بزَبَدِه وأَجْفَأَ وأَجْفَلَ، وباللامِ قرأ رُؤبة بن العجاج. قال أبو حاتم:«لا يُقرأ بقراءةِ رؤبة، لأنه كان يأكلُ الفارَ» يعني أنه أعرابيٌّ جافٍ. قلت: قد تقدَّم ثناءُ الزمخشري عيله أولَ البقرة، وذِكْرُ فصاحتِه. وقد وجَّهوا قراءَتَه بأنها مِنْ أَجْفَلَتِ الريحُ الغنمَ، أي: فَرَّقَتْه قِطَعاً فهي في المعنى كقراءةِ العامَّة بالهمزة.
وفي همزة «جُفاء» وجهان، أظهرهُما: أنها أصلٌ لثبوتِها في تصاريف هذه المادةِ كما رأيتَ. والثاني: بدلٌ من واو، وكأنه مختارُ أبي البقاء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مادة جفا يَجْفو لا يليق معناها هنا، والأصلُ عدمُ الاشتراكِ.
قوله: «كذلك يَضْرِب» / الكافُ في محلِّ نصبٍ، أي: مثلَ ذلك الضَّرْبِ يَضْرِب.
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب «يَضْرِب» وبه بدأ الزمخشريُّ. قال: «أي: كذلك يضرب الأمثالَ للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يَسْتَجيبوا» .
والحُسْنى صفةٌ لمصدرِ «استجابوا» ، اي: استجابوا الاستجابةَ الحُسْنى. وقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} كلامٌ مبتدأٌ في ذِكْر ما أعَدَّ لغيرِ المستجيبين «. قال الشيخ:» والتفسيرُ الأولُ أَوْلى «يعني به أنَّ» للذين «خبرٌ مقدَّم، و» الحُسْنى «مبتدأ مؤخر كما سيأتي إيضاحُه.
قال:» لأن فيه ضَرْبَ الأمثالِ غيرُ مقيَّدٍ بمثل هذين، واللهُ تعالى قد ضَرَبَ أمثالاً كثيرةً في هذين وفي غيرِهما، ولأنَّ فيه ذِكْرَ ثواب المستجيبين، بخلاف قولِ الزمخشريِّ، فكما ذَكَر ما لغير المستجيبين من العقابِ ذَكَر ما للمستجيبين من الثَّواب، ولأنَّ تقديرَه بالاستجابة الحُسْنَى مُشْعِرٌ بتقييدِ الاستجابة، ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابةِ مطلقاً، إنما مقابلُها نفيُ الاستجابةِ الحسنى، واللهُ تعالى قد نفى الاستجابةِ مطلقاً، ولأنَّه على قولِه يكون قولُه {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} مُفْلَتاً أو كالمُفْلَتِ؛ إذ يصير المعنى: كذلك يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للمؤمنين وللكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيبُ بحرفٍ رابطٍ «لو» بما قبلَها زال التفلُّت، وأيضاً فيُوهِمُ الاشتراكَ في الضمير، وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً «.
قلت: قوله» لأنَّ فيه ضرْبَ الأمثال غيرُ مقيَّدٍ «ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التقييدَ. وقوله:» ولأنَّ فيه ذِكْرُ ثوابِ المستجيبين «إلى آخره، ما ذكره الزمخشري ايضاً يُؤْخذ مِنْ فحواه ثوابُهم. وقوله» واللهُ تعالى نفى الاستجابة مطلقاً «ممنوعٌ؛ بل نفى تلك الاستجابةَ الأولى، لا يُقال: فَثَبَتَتْ استجابةٌ غيرُ حسنى؛ لأنَّ هذه الصفةَ لا مفهومَ لها؛ إذ الواقعُ أنَّ الاستجابةَ
لله لا تكون إلا حُسْنى. وقوله:» يصيرُ مُفْلَتاً «كيف يكون مُفْلَتاً مع قول الزمخشري: [كلامٌ] مبتدأٌ في ذِكْر ما أعدَّ لهم؟ وقوله:» وأيضاً فيوهِمُ الاشتراك «كيف يُتَوَهَّمُ هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله» وإنْ كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً «فإذا عُلِم كيف يُتوَهَّم؟
والوجه الثاني: أن يكونَ» للذين «خبراً مقدَّماً، والمبتدأ» الحُسْنَى «، و {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأٌ، وخبرُه الجملةُ الامتناعيةُ بعده. ويجوز على الوجه الأول أن يكون {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأً، وخبره الجملةُ الامتناعية بعده، وإنما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا، لانتفاعِهم دونَ غيرِهم.
قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ} كقولِه: «أَفَلَمْ» وقد تقدَّم تقريرُ القولين فيه، ومذهب الزمخشري فيه بُعْدٌ هنا.
قوله تعالى: {الذين يُوفُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لأولِي أو بدلاً منه أو بياناً له، أو مرفوعاً على إضمار مبتدأ، أو منصوباً على إضمار فِعْلٍ، كلاهما على المدح، أو هو مرفوعٌ بالابتداء، وما بعده عطفٌ عليه. و {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} خبره.
قوله تعالى: {ابتغاء وَجْهِ} يجوز أن يكونَ مفعولاً له وهو الظاهرُ، وأن يكونَ حالاً، أي: مُبْتَغِين، والمصدرُ مضافٌ لمفعوله.
قوله: {عقبى الدار} يجوز أن يكونَ مبتدأً، خبرُه الجارُّ قبله، والجملةُ خبرُ «أولئك» ، ويجوز أنْ يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «عُقْبى» فاعلٌ بالاستقرار.
قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} : يجوز أن يكون بدلاً مِنْ «عقبى» ، وأن يكونَ بياناً، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون مبتدأً خبرُه «يَدْخُلونها» وقرأ النخعيُّ «جنةُ» بالإِفراد. وتقدَّم الخلافُ في «يَدْخُلونها» .
والجملةُ مِنْ «يَدْخُلونها» تحتمل الاستئنافَ او الحاليةَ المقدرةَ.
قوله: {وَمَنْ صَلَحَ} يجوز أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصلُ بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكونَ منصوباً على المفعولِ معه، وهو مرجوحٌ.
وقرأ ابن أبي عبلة «صَلُحَ» بضم اللام، وهي لغةٌ مَرْجوحة.
قوله: {مِنْ آبَائِهِمْ} في محلِّ الحال مِنْ {وَمَنْ صَلَحَ} و «مِنْ» لبيان الجنس. وقرأ عيسى الثقفي «وذُريَّتِهم» بالتوحيد.
قوله: «سلامٌ» الجملةُ محكيَّةٌ بقولٍ مضمر، والقولُ المضمرُ حالٌ مِنْ فاعلِ «يَدْخُلون» ، أي: يَدْخُلون قائلين.
/ قوله: «بما صَبَرتم» متعلِّقٌ بما تعلَّق به «عليكم» ، و «ما» مصدريَّةٌ، أي: بسبب صَبْركم. ولا يتعلَّقُ ب «سلامٌ» لأنه لا يُفْصَل بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر.
قاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلَّق ب» سلام «، أي: نُسَلِّم عليكم ونُكْرمكم بصبركم» ، ولمَّا نقله عنه الشيخ لم يَعْترض عليه بشيء. والظاهرُ أنه لا يُعْترَض عليه بما تقدَّم؛ لأنَّ ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري، وفعل، وهذا المصدرُ ليس من ذلك. والباءُ: إمَّا سببيَّةٌ كما تقدَّم، وإمَّا بمعنى بَدَل، أي: بَدَلَ صبركم، أي: بما احتملتم مَشاقَّ الصبر. وقيل: «بما صَبَرْتُم» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هذا الثوابُ الجزيل بما صبرتم.
وقرأ الجمهور «فنِعْمَ» بكسرِ النونِ وسكونِ العين، وابن يعمر بالفتحِ والكسر، وقد تقدَّم أنها الأصلُ كقوله:
253 -
8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
نَعِمَ السَّاعُون في القومِ الشُّطُرْ
وابنُ وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيفُ الأصلِ، ولغةُ تميم تسكينُ عينِ فَعِل مطلقاً. والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ، أي: الجنة.
قوله تعالى: {والذين يَنقُضُونَ} : مبتدأ، والجملة مِنْ قوله:{أولئك لَهُمُ اللعنة} خبرُه. والكلامُ في اللعنةِ كالكلامِ في {لَهُمْ عقبى الدار} [الرعد: 22] .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ «ويَقْدُر» بضم العين.
قوله «وفَرِحوا» هذا استئنافُ إخبار. وقيل: بل [هو عطفٌ على صلةِ «الذين» ] قبله. وفيه نظرٌ: من حيث الفصلُ بين أبعاضِ الصلةِ بالخبر، وأيضاً فإنَّ هذا ماضٍ وما قبله مستقبلٌ، ولا بد من التوافق في الزمان، إلا أن يُقال: المقصودُ استمرارُهم بذلك، وإنَّ الماضي متى وقع صلةً صَلَحَ للمُضِيِّ والاستقبال.
قوله: {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة} ، أي: في جنب الآخرة. وهذا الجارُّ في موضع الحال تقديرُه: وما الحياةُ القريبةُ كائنةً في جنب الآخرة إلا متاعٌ، ولا يجوز تعلُّقُه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان في الآخرة.
والضميرُ في «عليه» عائدٌ على الله تعالى، أي: إلى دينِهِ وشَرْعه. وقيل: على الرسول. وقيل: على القرآن.
قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ} يجوز فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكون مبتدأً خبرُه الموصولُ الثاني، وما بينهما اعتراضٌ. [الثاني: أنه بدلٌ] مِنْ «مَنْ أناب» . الثالث: أنه عطفُ بيانٍ له. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أنه منصوبٌ بإضمارِ فعل.
قوله: {بِذِكْرِ الله} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «تطمئنُّ» فتكون الباءُ سببيةً، أي:
بسبب ذِكْرِ الله. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكونَ مفعولاً به، أي: الطمأنينةُ تَحْصُل بذكْر الله، الثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ» قلوبُهم «أي: تطمئنُّ وفيها ذِكْرُ اللهِ» .
قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} : فيه أوجه: أن يكونَ بدلاً من «القلوبُ» على حَذْفِ مضاف، أي: قلوب الذين آمنوا، وأن يكونَ بدلاً مِن «مَنْ أناب» ، وهذا على قولِ مَنْ لم يجعلِ الموصولَ الأول بدلاً مِن «مَنْ أناب» ، وإلا كان يَتَوالَى بدلان. وأن يكونَ مبتدأً، و «طُوْبَى لهم» جملةٌ خبرية، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر. وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ. والجملةُ مِنْ «طُوبَى لهم» على هذين الوجهين حالٌ مقدَّرة، العاملُ فيها «آمَنُوا وعَمِلوا» .
وواوُ «طُوبَى» منقلبةٌ عن ياءٍ لأنها من الطِّيب، وإنما قُلِبَتْ لأجلِ الضمة قبلها كمُوسِر ومُوْقِن من اليُسْر واليقين. واختلفوا فيها: فقيل: هي اسمٌ مفردٌ مصدر كبُشْرى ورُجْعى، مِنْ طاب يطيب. وقيل: بل هي جمعُ «طَيِّبة» كما قالوا: كُوْسَى في جمع كَيِّسَة، وضُوْقَى في جمع ضَيِّقة. ويجوز أن يقال:«طِيْبى» بكسر الفاء وكذلك الكِيْسَى والضِيقَى. وهل هي اسمٌ لشجرةٍ بعينِها أو اسمٌ للجنة بلغةِ الهند أو الحبشة؟ خلافٌ مشهور.
وجاز الابتداءُ ب «طُوبَى» : إمَّا لأنها عَلَمٌ لشيءٍ بعينه، وإمَّا لأنها نكرةٌ في معنى الدعاء كسَلام عليك ووَيْل له، كذا قال سيبويه. وقال ابن مالك: «إنه
يُلزم رَفْعُها بالابتداء، ولا تدخُلُ عليها نواسِخُه» . وهذا يَرُدُّ عليه: أنَّ بعضَهم جعلها في الآيةِ منصوبةً بإضمارِ فِعْلٍ، أي: وجَعَلَ لهم طُوْبَى، وقد يَتَأَيَّد ذلك بقراءةِ عيسى الثقفي «وحُسْنَ مآب» بنصب النون. قال:«إنه معطوفٌ على» طُوْبَى «، وإنها في موضع نَصْبٍ» . قال ثعلب: «وطُوْبَى على هذا مصدرٌ كما قالوا: سُقْياً» . وخَرَّج هذه القراءةَ صاحبُ «اللوامح» على النداء ك {ياأسفى} [يوسف: 84] على الفَوْت، يعني أنَّ «طُوْبَى» تضاف للضمير، واللام/ مقحمةٌ، كقوله:
284 -
5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
و [قوله] :
285 -
5- يا بُوسَ للحَرْبِ التي
…
وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
ولذلك سقط التنوينُ مِنْ «بؤس» كأنه قيل: يا طِيْباهم، أي: ما أَطيبَهم وأحسنَ مآبَهم. قال الزمخشري: «ومعنى طُوْبَى لك: أَصَبْتَ خيراً وطِيباً، ومحلُّها النصبُ أو الرفع كقولك: طِيباً لك وطِيبٌ لك، وسلاماً لك، وسلامٌ لك، والقراءةُ في قوله:» وحُسن مآب «بالنصب والرفع تدلُّك على مَحَلَّيْها، واللامُ في» لهم «للبيان، مثلها في» سَقْياً لك «. فهذا يدلُّ على أنها تتصرَّفُ ولا تلزم الرفعَ بالابتداء.
وقرأ مَكْوَزَةُ الأعرابي» طِيْبَى «بكسرِ الطاء لِتَسْلَمَ الياءُ نحو: بِيْض ومَعِيْشة.
وقُرِئ» وحُسْنَ مآبٌ «بفتح النون ورفع» مآب «على أنه فعلٌ ماضٍ، أصلُه» حَسُن «فَنُقِلَت ضمةُ العينِ إلى الفاءِ قَصْداً للمدح، كقولهم:
285 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . حُسْنَ ذا أَدَبا
و» مَآبٌُ «فاعلُه.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} : الكافُ في محلِّ نصبٍ كنظائرها. قال الزمخشري: «مثلَ ذلك الإِرسالِ أَرْسلناك، يعني: ارسلناك إرسالاً له شأن» . وقيل: الكافُ متعلِّقةٌ بالمعنى الذي في قوله {إِنَّ
الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي} [الرعد: 27]، أي:«كما أنفذ اللهُ هذا كذلك ارسلناك» . وقال ابن عطية: «الذي يظهر لي أن المعنى: كما أَجْرَيْنا العادةَ بأنَّ الله يُضِلُّ ويَهْدِيْ لا الآياتِ المقترحةَ، فكذلك أيضاً فَعَلنا في هذه الأمَّةِ: أرسَلْناك إليها بوحيٍ لا بآيات مقترحة» .
وقال أبو البقاء: «كذلك» [التقديرُ:] الأمر كذلك فجعلها في موضعِ رفعٍ. وقال الحوفي: «الكافُ للتشبيه في موضع نصب، أي: كفِعْلِنا الهدايةَ والإِضلال» . والإِشارةُ ب «ذلك» إلى ما وَصَفَ به نفسَه مِنْ أنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدِي مَنِ يشاء.
قوله: {قَدْ خَلَتْ} جملةٌ [في محلِّ جرٍّ صفةً] . و «للتلُوَ» متعلِّقٌ ب «أَرْسَلْناك» .
قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً وأن تكونَ حاليةً، والضميرُ في «وهم» عائدٌ على «أمة» من حيث المعنى، ولو عاد على لفظِها لكان التركيبُ «وهي تكفر» . وقيل: الضميرُ عائدٌ على «أمَّة» وعلى «أُمَم» . وقيل: على الذين قالوا: {لَوْلَا أُنزِلَ} [الرعد: 27] .
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} : جوابُها محذوفٌ، أي: لكان هذا القرآنُ، لأنه في غاية ما يكونُ من الصحة. وقيل: تقديرُه:
لما آمنوا. ونُقِل عن الفراء أنَّ جوابَ «لو» هي الجملة مِنْ قولِه {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، وما بينهما اعتراضٌ. وهذا في الحقيقة دالٌّ على الجوابِ. وإنما حُذِفَت التاءُ في قوله «وكُلِّم به المَوْتى» وثَبَتَتْ في الفعلَيْن قبله لأنه من باب التغليب؛ لأنَّ «المَوْتى» يشمل المذكرَ والمؤنث.
قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين} أصلُ اليَأْسِ: قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه. واختلف الناسُ فيه ههنا: فقال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الايات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم، قاله الكسائي. وقال الفراء:«أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال: أفلم يَيْئسوا عِلْماً، يقول: أَيْئَسهم العِلْم مضمراً، كما تقول في الكلام: يَئِست منك أن لا تفلح، كأنه قال: عَلِمه علماً» ، قال: فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت، وإنْ لم يكنْ قد سمع، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل «.
وقال ابن عطية:» ويحتمل أن يكونَ «اليأسُ» في هذه الآية على بابه، وذلك: أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه: أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً «.
وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلَّقَ {أَن لَّوْ يَشَآءُ} بآمَنوا على: أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم «وهذا قد سبقه إليه أبو العباس.
وقال الشيخ:» ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه: وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} وهو تقريرٌ، أي: قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، أي: وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ «أنْ» مع «لو» ، كقولِ الشاعر:
285 -
7- أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً
…
وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ
وقول الآخر:
285 -
8- فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ
…
لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وقد ذكر سيبويه أنَّ «أنْ» تأتي بعد القَسَم، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها.
وقال بعضُهم: «بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن. قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين:» هي لغة هوازن «.
وقال ابن الكلبي: «هي لغةُ حيّ من النَّخَع، ومنه قولُ رباح بن عدي:
285 -
9- ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ
…
وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقول سحيم:
286 -
0- أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني
…
ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وقول الآخر:
286 -
1- حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا
…
غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها
وردَّ الفراء هذا وقال:» لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ «. ورُدَّ عليه: بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه
زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة:» أو لم يتبيَّنْ «، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه. وقد افترى مَنْ قال:» إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ، وكان أصله «أفلم يتبيَّن» فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين «.
قال الزمخشري:» وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [كتاب الله الذي لا يأتيه] الباطلُ مِنْ [بينِ] يديه ولا مِنْ خلفِه، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإِمام، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله، المهيمنين عليه، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ، والقاعدةُ التي عليها المبنى، هذه واللهِ فِرْيَةٌ، ما فيها مِرْيَةٌ «. وقال الزمخشري أيضاً:» وقيل: إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك «.
ويُحتمل في» أَنْ «قولان، أحدُهما: أنها المخففةُ من الثقيلة فاسمُها ضميرُ الشأنِ، والجملةُ الامتناعيةُ بعدها خبرُها، وقد وقع الفصلُ ب» لو «، و» أنْ «وما في حَيِّزها إن عَلَّقْناها ب» آمنوا «تكونُ في محلِّ نصبٍ أو جَرّ على
الخلاف بين الخليلِ وسيبويه، إذ أصلُها الجرُّ بالحرفِ، أي: آمَنوا بأن لو يشاءُ الله، وإن عَلَّقْناها ب» يَيْئَس «على أنه بمعنى» عَلِمَ «كانت في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ المفعولين.
والثاني: أنها رابطةٌ بين القًسَمِ والمُقْسِمِ عليه كما تقدم.
قوله: {أَوْ تَحُلُّ} يجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الخطاب [أي:] أو تَحُلُّ أنت يا محمدُ، وأن يكونَ ضميرَ القارعة، وهذا أَبْيَنُ، أي: تُصيبهم قارِعَةٌ، أو تَحُلُّ القارعة.
وقرأ ابن جبير ومجاهد» يَحُلُّ «بالياء مِنْ تحتُ، والفاعلُ على ما تقدم: إمَّا ضميرُ القارعة، وإنما ذكَّر الفعلَ لأنها بمعنى العذاب، أو لأن التاءَ للمبالغة، والمرادُ قارِع، وإمَّا ضميرُ الرسول، أتى به غائباً. وقرآ أيضاً» مِنْ ديارهم «وهي واضحة.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} : «مَنْ» موصولةٌ، صلتُها «هو قائم» والموصولُ مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه: كمَنْ ليس كذلك مِنْ شركائِهم التي لا تَضُرُّ ولا تنفع. ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} ونحوُه قولُه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الزمر: 22] تقديره: كَمَنْ قَسا قلبُه، يَدُلُّ عليه {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} وإنما حَسَّن حَذْفَه كونُ الخبرِ مقابلاً للمبتدأ. وقد جاء منفياً كقولِه {أَفَمَن يَخْلُقُ
كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} [النحل: 17]{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] .
قوله: {وَجَعَلُواْ} يجوز أن يكونَ استئنافاً وهو الظاهرُ، جيءَ به للدلالةِ على الخبرِ المحذوفِ كما تقدم تقريرُه. وقال الزمخشري:«ويجوز أَن يُقَدَّر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويُعْطَفَ عليه و» جعلُوا «، وتمثيلُه: أفَمَنْ هو بهذه الصفةِ لم يوحِّدوه، / وجعلوا له وهو اللهُ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه شركاءَ. قال الشيخ:» وفي هذا التوجيهِ إقامةُ الظاهر مُقامَ المضمر في قوله «وجعلوا لله: أي له» ، وفيه حَذْفُ الخبرِ عن المقابل، وأكثرُ ما جاء هذا الخبرُ مقابلاً «. وقيل: الواو للحال والتقدير: اَفَمَنْ هو قائمٌ على نفسٍ موجودٌ، والحالُ أنهم جعلوا له شركاءَ، فَأُقيم الظاهرُ -وهو الله- مُقامَ المضمرِ، تقريراً للإِلهية وتصريحاً بها.
وقال ابن عطيَّة:» ويظهر أن القولَ مرتبطٌ بقوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كأن التقديرَ: أَفَمَنْ له القدرةُ والوحدانيةُ، ويُجْعَلُ له شريكٌ، أَهْلٌ أن ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا «. وقيل:» وجعلوا «عطفٌ على» استُهزِئ «بمعنى: ولقدِ استهزَؤُوا وجعلوا.
وقال أبو البقاء:» وهو معطوفٌ على «كَسَبَت» ، أي: وبجَعْلِهم لله شركاءَ «.
قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أم هذه منقطعةٌ مقدَّرةٌ ب» بل «والهمزةِ، والاستفهامُ للتوبيخ: بل أتُنَبِّئونه شركاء لا يعلمهم في الأرض، ونحوُه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السماوات وَلَا فِي الأرض} [يونس: 18] ، فجعل الفاعلَ ضميراً عائداً على الله، والعائدُ على» ما «محذوفٌ، تقديرُه: بما لا يعلمُهُ اللهُ، وقد تقدَّم في تلك الآيةِ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على» ما «وهو جائزٌ هنا أيضاً.
قوله: {أَم بِظَاهِرٍ} الظاهرُ أنها منقطعة. و» الظاهر «هنا قيل: الباطلُ. وأنشدوا:
286 -
2- أَعَيَّرْتَنا ألبانَها ولحومَها
…
وذلك عارٌ يا بنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ
أي باطِلٌ، وفَسَّره مجاهدٌ» بكذبٍ «وهو موافقٌ لهذا. وقيل:» أم «متصلةٌ، أي: اتنبئونه بظاهرٍ لا حقيقةَ له.
قوله: {وَصُدُّواْ} قرأ الكوفيون» وصُدُّوا «مبنياً للمفعول، وفي غافر {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [الآية: 37] كذلك. وباقي السبعة مبنيِّين للفاعل. و» صَدَّ «جاء لازماً ومتعدياً فقراءةُ الكوفةِ من المتعدِّي فقط، وقراءةُ الباقين تتحمل أن يكونَ من المتعدِّي ومفعولُه محذوفٌ، أي: وصَدُّوا غيرَهم أو أنفسَهم، وأن يكونَ مِنَ اللازم، أي: أَعْرَضوا وتَوَلَّوا.
وقرأ ابنُ وثاب» وصِدُّوا «و {وصِدَّ عن السبيل} بكسرِ الصاد، وهو
مبنيٌّ للمفعول، اجراه مُجْرى قِيْل وبِيْع، فهو كقراءة {رِدَّت إلينا} ، [وقوله:]
286 -
3- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلَمائِنا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم.
قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة} : مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ تقديره: فيما قَصَصْنا، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة، وعلى هذا فقولُه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} تفسيرٌ لذلك المَثَل. وقال أبو البقاء:«فعلى هذا» تَجري «» حالٌ من العائدِ المحذوف في «وُعِد» ، أي: وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها «. ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله» تجري «. قال:» وهذا خطأٌ عند البصريين «. قال:» لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه، وشُبْهَتُه: انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه «صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ» ، ويجوز أن يكونَ «تجري» مستانَفاً «.
قلت: وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ: ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تاويلين آخرين، أحدُهما: على حذف لفظةِ» أنَّها «والأصلُ: صفةُ الجنَّة أنها تجري، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ، وكيف
يَحْذِفُ» أنها «من غير دليلٍ. والثاني: أنَّ لفظةَ» مثل «زائدةٌ، والأصل: الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار، وزيادةُ» مَثَل «كثيرةٌ في لسانِهم. ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} [البقرة: 137] وقد تقدَّم.
وقال الزمخشري:» وقال غيرُه: -أي سيبويه - الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول: صفةُ زيدٍ أسمرُ «. قال الشيخ:» وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ «تَجْري» خبراً عن الصفةِ، ولا «أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يُتَأَوَّل «تجري» على إسقاطِ «أنْ» ورفعِ الفعل، والتقدير: أَنْ تَجْري، أي: جَرَيانُها.
وقال الزجَّاج: «مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده» . ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال: «لا يَصِحُّ ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ، فهو كقولِه تعالى:{وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة، وقال: معناه الشبه.
وقرأ عليٌّ وابن مسعود» أمثال الجنة «، أي: صفاتها.
و {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} كقوله» تَجْرِي «في الاستئناف التفسيري أو الخبرية أو الحالية. وقد تقدَّم خلافُ القرَّاءِ فيه في البقرة» .
قوله تعالى: [ {ولا أُشْرِكَ} ] : قرأ نافع في روايةٍ عنه برفع {ولا أُشْرِكُ} وهي تحتمل القطع، أي: وأنا لا أُشْرِك، وقيل: هي حالٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المنفيَّ ب «لا» كالمُثْبِتِ في عدمِ مباشرة واوِ الحال له.
و {حُكْماً} حال/ من مفعولِ «أنزلناه» . والكاف في «كذلك» نصب، أي: وكما يَسَّرنا هؤلاء للفرحِ، وهؤلاء لإِنكار البعضِ كذلك اَنْزَلْناه حُكْماً.
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ كثيرٍ وعاصمٌ: «ويُثْبتُ» مخففاً مِنْ اَثْبَتَ، والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ للتعدية. ولا يَصِحُّ ان يكونَ التضعيفُ للتكثير، إذ من شرطِه أن يكون متعدياً قبل ذلك. ومفعولُ «يُثْبِتُ» محذوفٌ، أي: ويُثْبِتُ ما يشاء.
قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} : جوابٌ للشرط قبله. قال الشيخ: «والذي تقدَّم شرطان؛ لأنَّ المعطوفَ على الشرط شرطٌ: فامَّا كونُه جواباً للشرط الأول فليس بظاهرٍ؛ لأنه لا يترتَّب عليه؛ إذ يصير
المعنى: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ ما نَعِدُهم من العذاب فإنَّما عليك البلاغُ، وأمَّا كونُه جواباً للشرطِ الثاني وهو {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فكذلك؛ لأنه يصير التقدير: إنْ ما نَتَوَفَّيَنَّك فإنَّما عليك البلاغُ، ولا يترتَّب جوابُ التبليغِ عليه - على وفاتِه عليه السلام لأنَّ التكليفَ ينقطعُ عند الوفاة فيُحتاج إلى تأويل: وهو أنْ يُقَدَّرَ لكلِّ شرطٍ ما يناسبُ أَنْ يكون جزاءً مترتباً عليه، والتقدير: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذلك شافيك مِنْ أعدائك، أو: إنْ نَتَوَفَّيَنَّك قبل خَلْقِه لهم فلا لَوْمَ عليك ولا عَتَبَ» .
قوله تعالى: {نَنقُصُهَا} : حال: إمَّا مِنْ فاعل «نأتي» أو مِنْ مفعوله. وقرأ «نُنَقِّصُها» بالتضعيف الضحَّاكُ، عدَّاه بالتضعيف.
قوله: {لَا مُعَقِّبَ} جملةٌ حالية، وهي لازمةٌ. والمُعَقِّبُ: الذي يكُرُّ على الشيء، فيُبْطله. قال لبيد.
286 -
4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ
قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ} قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون «الكفَّار» جمعَ تكسير، والباقون «الكافر» بالإِفراد، ذهاباً إلى الجنس. وقرأ عبد الله «الكافرون» جمعَ سلامةٍ.
قوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ} : العامَّة [على فتح ميم]«مَنْ» ، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً.
و {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و «عِلْمُ» فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ ل «مَنْ» .
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: «ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ» . واعترض الشيخُ عليه بأنَّ «مَنْ» لا يُوصَفُ بها
ولا بغيرِها من الموصولات إلَاّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف.
قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ.
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} جعلوا «مِنْ» حرفَ جرّ، و «عندِه» مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و «عِلْم» مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجعلون «مِنْ» جارَّةً، و «عُلِمَ» مبنياً للمفعول، و «الكتابُ» رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلَاّ انه بتشديد «عُلِّم» . والضمير في «عنده» على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً «وبمَن» بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة.
قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} : يجوزُ أَنْ يرتفعَ خبراً ل «ألر» إن قلنا إنها مبتدأٌ، والجملةُ بعده صفةٌ، ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هذا كتابٌ، وأن يرتفعَ بالابتداء، وخبرُه الجملةُ بعده، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنها موصوفةٌ تقديراً. تقديره: كتابٌ أيُّ كتابٍ، يعني عظيماً مِنْ بينِ الكتبِ السماوية.
قوله: «لِتُخْرِجَ» متعلقٌ ب «أَنْزَلْنا» وقُرِئَ «ليَخْرج الناسُ» بفتح الياء وضمَِّ الراء مِنْ خَرَجَ يَخْرُج، «الناس» رفعاً على الفاعلية.
قوله: «بإذنِ» يجوز أن يتعلَّقَ بالإِخراج، أي: بتسهيله وتيسيرِه، ويجوز أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ «تُخْرِجَ» ، أي: مأذوناً لك.
قوله: {إلى صِرَاطِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قوله {إِلَى النور} بإعادةِ العامل، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالجارِّ لأنه من معمولاتِ العاملِ في
المُبْدَلِ منه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه جوابُ سؤالٍ مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نور؟ إلى صراط.
قوله تعالى: {الله الذي} : قرأ نافعٌ وابن عامرٍ برفعِ الجلالةِ والباقون - ورواها الأصمعيُّ عن [نافع]- بالجرِّ.
فأمَّا الرفعُ فعلى وجهين، أحدُهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه الموصولُ بعده، أو محذوفٌ تقديرُه: اللهُ الذي له ما في السماواتِ وما في الأرضِ العزيزُ الحميد، حُذِف لدلالة ما تقدَّم. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، أي: هو اللهُ، وذلك على المدح.
وأمَّا الجرُّ فعلى البدلِ عند أبي البقاء والحوفي وابنِ عطية، والبيان عند الزمخشري قال:«لأنه جَرَى مَجْرَى الأسماءِ الأعلام لغلبتِه على المعبودِ بحق كالنجم للثريا» . قال الشيخ: «وهذا التعليلُ لا يتمُّ إلا أن يكونَ أصلُه الإِله، ثم فُعِل فيه ما تقدَّم أولَ هذا الموضوع» . وقال الأستاذ ابن عصفور: «ولا تُقََدَّمُ صفةٌ على مَوصوفٍ إلا حيث سُمِع، وهو قليلٌ، وللعربِ فيه وجهان، أحدُهما: أنْ تتقدَّمَ الصفةُ بحالها، وفيه
إعرابان للنحويين، أحدُهما: أن تُعْرَبَ صفةً متقدمةً. والثاني: أن يُجعل/ الموصوفُ بدلاً من صفتِه. الثاني من الأولين: أن تُضيفَ الصفةَ إلى الموصوف. فعلى هذا يجوز أن يُعْرَبَ {العزيز الحميد} صفةً متقدِّمة، ومِنْ مجيء تقديمِ الصفةِ قولُه:
286 -
5- والمُؤْمِنِ العائذاتِ الطيرِ يَمْسَحُها
…
رُكْبانُ مكةَ بين الغِيل والسَّنَدِ
وقول الآخر:
286 -
6- وبالطويل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً
…
يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل. قلت: وهذا فيما لم يكنِ الموصوفُ نكرةً، أمَّا إذا كان نكرةً صار لنا عملٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ تلك الصفةُ على الحال.
قوله: {وَوَيْلٌ} جاز الابتداءُ به لأنه دعاء ك» سلامٌ عليكم «. و» للكافرين «خبره. و {مِنْ عَذَابٍ} متعلِّقٌ بالويل. ومنعه الشيخ. لأنه يَلْزَمُ
منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه، وقد تقدَّم لك بحثٌ في ذلك: وهو أنَّ ذلك ممنوعٌ حيث يتقدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ، ولذلك جَوَّزوا تعلُّقَ {بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] ب» سلام «ولم يَعْترضوا عليه بشيء، وقد تقدَّم ذلك في السورةِ قبلها، ولا فرقَ بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ:» فإنْ قلتَ: ما وجهُ اتصالِ قولِه: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يُوَلْوِلون من عذاب شديد «. قال الشيخ:» فظاهره يدلُّ على تقدير عاملٍ يتعلَّقُ به {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . ويجوز أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للمبتدأ، وفيه سَلامةٌ من الاعتراضِ المتقدم، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر.
قوله تعالى: {الذين يَسْتَحِبُّونَ} يجوز أن يكون مبتدأً خبرُه «أولئك» وما بعده، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم الذين، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ على المدح فيهما، وأن يكون مجروراً على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ، قاله الزمخشري وأبو البقاء والحوفيُّ وغيرُهم. وردَّه الشيخ بأنَّ فيه الفَصْلَ بأجنبي وهو قولُه {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال:«ونظيرُه إذا كان صفةً أن تقول:» الدارُ لزيدٍ الحسنةُ القُرَشِيِّ: وهذا لا يجوز، لأنك
فَصَلْتَ بين زيد وصفتِه بأجنبيٍّ منهما وهو صفةُ الدار، وهولا يجوز، والتركيبُ الفصيحُ أن تقول: الدارُ الحسنةُ لزيدٍ القرشيِّ، أو: الدارُ لزيدٍ القرشيِّ الحسنةُ «.
و» يَسْتَحِبُّون «: استفعلَ فيه بمعنى أَفْعَل كاستجاب بمعنى أجاب، أو يكونُ على بابه، وضُمِّن معنى الإِيثار، ولذلك تعدَّى ب على.
وقرأ الحسن» ويُصِدُّون «مِنْ أَصَدَّ، وأَصَدَّ منقولٌ مِنْ صَدَّ اللازمِ، والمفعولُ محذوفٌ، أي: غيرَهم، أو أنفسَهم.
و {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدَّم مثله.
قوله تعالى: {إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} : يجوز أن يكونَ حالاً، أي: إلَاّ متكلِّماً بلغةِ قومِهِ. وقرا العامَّةُ «بلسان» بزِنَةِ «كِتاب» ، أي: بلغةِ قومِه. وأبو الجوزاء وأبو السَّمَّال وأبو عمران الجوني: بِلِسْنِ «بكسر اللام وسكون السين. وفيه قولان، أحدُهما: أنهما بمعنى واحدٍ كالرِّيش والرِّياش. والثاني: أن اللسانَ يُطْلَقُ على العضوِ المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسْنُ فخاصٌّ باللغة، ذكره ابن عطية وصاحب» اللوامح «.
وأبو رجاء وأبو المتوكل والجحدريُّ» بِلُسُن «بضمِّ اللام والسين وهو جمع» لِسان «ككِتاب وكُتُب. وقرئ بسكونِ السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءةِ قبلَه، نحو: رُسُل في رُسُل، وكُتْب في كُتُب.
والهاءُ في» قومه «الظاهرُ عَوْدُها على» رسول «المذكور. وعن
الضحاك: أنها تعودُ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغَلَّطوه في ذلك؛ إذ يصير المعنى: أنَّ التوراةَ وغيرَها أُنْزِلَتْ بلسان العربِ، ليُبَيِّن لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم التوراة.
قوله: {فَيُضِلُّ} استئنافُ إخبارٍ، ولا يجوز نصبُه عطفاً على ما قبله، لأنَّ المعطوفَ كالمعطوف عليه في المعنى، والرسلُ اُرْسِلَتْ للبيانِ لا للإِضلالِ. قال الزجاج: لو قَرِئ بنصبِه على أنًّ اللامَ لامُ العاقبة جاز» .
قوله تعالى: {أَنْ أَخْرِجْ} : يجوز أن تكونَ «أنْ» مصدريةً، أي: بأَنْ أخْرِجْ. والباءُ في «بآياتنا» للحال، وهذه للتعدية. ويجوز أن تكونه مفسرةً للرسالة. وقيل: بل هي زائدةٌ، وهو غلطٌ.
قوله: {وَذَكِّرْهُمْ} يجوز أن يكونَ منسوقاً على «أَخْرِجْ» فيكونَ من التفسير، وأن لا يكونَ منسوقاً، فيكونَ مستأنفاً. و «أيام الله» عبارةٌ عن نِعَمه، كقوله:
286 -
7- وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ
…
عَصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينا
أو نَقَمه، كقوله:
286 -
8- وأيامُنا مشهورةٌ في عَدُوِّنا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ووجهه: أنَّ العرب تتجوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ/ إلى الزمان مجازاً، وتُضيفُه إليها كقولهم: نهارٌ صائمٌ، وليل قائمٌ، ومَكْرُ الليلِ.
قوله تعالى: {إِذْ أَنجَاكُمْ} : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً ب «نِعْمَةَ» . الثاني: أن يكونَ ب «عليكم» ويوضِّح ذلك ما ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: «إذ أنْجاكم ظرفٌ للنعمة بمعنى الإِنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصِبَ ب» عليكم «؟ قلت: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ صلةً للنعمة بمعنى الإِنعام، أو غيرَ صلة إذا أردت بالنعمة العَطِيَّة، فإذا كان صلةً لم يعملْ فيه، وإذا كان غيرَ صلةٍ بمعنى: اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم عَمِلَ فيه. ويتبيَّن الفرقُ بين الوجهين: أنك إذا قلت: {نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فإنْ جَعَلْتَه صلةً لم يكن كلاماً حتى تقول: فائضة أو نحوها، وإلَاّ كان كلاماً. والثالث: أنه بدلٌ من» نعمة «، أي: اذكروا وقتَ إنجائِكم وهو مِنْ بدلِ الاشتمال.
قوله: {وَيُذَبِّحُونَ} حالٌ أُخرى مِنْ {آلِ فِرْعَوْنَ} . وفي البقرة دون واو لأنه قُصِد به التفسيرُ فالسَّوْم هنا غيرُ السَّوْمِ هناك.
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ} يجوزُ أن يكونَ نِسَقاً على {إِذْ أَنجَاكُمْ} ، وأن يكونَ منصوباً ب «اذكروا» مفعولاً لا ظرفاً. وجَوَّز فيه الزمخشري أن يكون نَسَقاً على «نعمة» فهو مِنْ قولِ موسى، والتقدير: وإذ قال موسى: اذكروا نعمةَ الله واذكروا حين تَأَذَّن. وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في الأعراف. وقرأ ابن محيصن «يَذْبَحون» مخففاً.
قوله تعالى: {قَوْمِ نُوحٍ} : بدلٌ أو عطفُ [بيانٍ] .
قوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ} يجوز أن يكونَ عطفاً على الموصولِ الأولِ، او على المبدل منه، وأن يكونَ مبتدأً، خبرُه {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ الله} ، و «جاءَتْهُم» خبر آخر. وعلى ما تقدَّم يكون «لا يعلمهم» حالاً من «الذين» ، أو من الضمير في {مِن بَعْدِهِمْ} لوقوعِه صلةً، وهذا عنى أبو البقاء بقوله: «حال من الضمير في {مِن بَعْدِهِمْ} ، ولا يُريد به الضميرَ المجرورَ، لأنَّ مذهبَه مَنْعُ الحالِ من المضاف إليه، وإن كان بعضُهم جَوَّزه في صورٍ. وجَوَّز أيضاً هو الزمخشري أن تكونَ استئنافاً.
وقال الزمخشري:» والجملةُ مِنْ قولِه {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ الله} اعتراضٌ. ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاعتراضَ إنما يكون بين جُزْأَيْن أحدهما يطلب الآخر، ولذلك لمَّا أَعْرَبَ الزمخشريُّ «والذين» مبتدأً و «لا يَعْلمهم» خبره، قال:«والجملةُ مِنَ المبتدأ والخبر اعتراضٌ» . واعترضه الشيخُ أيضاً بما تقدَّم. ويمكنُ أن يُجابَ عنه في الموضعين: بأنَّ الزمخشريَّ يمكن أن يعتقدَ أنَّ «جاءَتْهم» حالٌ مما تقدَّم، فيكون الاعتراضُ واقعاً بين الحالِ وصاحبِها، وهذا كلامٌ صحيح.
قوله: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} يجوز أن تكونَ الضمائرُ للكفَّارِ،
أي: فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواههم من الغيظ. و «في» على بابِها من الظرفية، أو فَرَدُّوا أيديَهم على أفواههم ضحكاً واستهزاءً. ف «في» بمعنى على، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولِهم: إنَّا كَفَرْنا، فهي بمعنى إلى. ويجوز أن يكونَ المرفوعُ للكفار والآخران للرسل، على أن يُراد بالأيدي النِّعَم، أي: رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُل وهي نصائحُهم في أفواهِ الرسل، لأنهم إذا كَذَّبوها كأنهم رَجَعوا بها من حيث جاءَتْ على سبيل المثل. [ويجوز أن يُراد هذا المعنى، والمرادُ بالأيدي الجوارح] . ويجوز أن يكون الأوَّلان للكفار، والأخيرُ للرسُل، أي: فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواهِ الرسُل، أي: أطبِقُوا أفواهَكم، يشيرون إليهم بالسكوت، أو وَضَعُوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ.
وقيل: «في» هنا بمعنى الباء. قال الفراء: «قد وَجَدْنَا من العرب مَنْ يجعل» في «موضعَ الباء. يُقال: أَدْخَلَكَ بالجنَّة، وفي الجنَّة، وأنشَد:
286 -
9- وأرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورَهْطِهِ
…
ولكنَّني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ
أي: أرغب بها. وقال أبو عبيدةَ:» هذا ضَرْبُ مَثَلٍ، تقول العرب:«رَدَّ يَدَه في فيه» ، إذا أمسكَ عن الجوابِ «، وقاله الأخفش أيضاً. وقال
القتيبي:» لم نسمعْ أحداً يقول: «رَدَّ يده في فيه» إذا تَرَكَ ما أُمِرَ به «. ورُدَّ عليه، فإنَّ مَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ يَحْفَظْ.
وقرأ طلحة» تَدْعُونَّا «بإدغامِ نونِ الرفع في نون الضميرِ، كما تُدْغَم في نونِ الوقاية.
قوله تعالى: {أَفِي الله شَكٌّ} : يجوز في «شَكٌّ» وجهان، أظهرُهما: أنه فاعل بالجارِّ قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام. والثاني: أنه مبتدأٌ وخبره الجارُّ، والأولُ أوْلَى، بل كان ينبغي أن يَتَعَيَّن لأنه يلزمُ مِنَ الثاني الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بأجنبيّ وهو المبتدأ، وهذا بخلاف الأول، فإنَّ الفاصلَ ليسَ أجنبياً؛ إذ هو فاعلٌ، والفاعلُ كالجزء من رافعه. ويدلُّ على ذلك تجويزُهم:«ما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد» بنصب «أحسنَ» صفةً ورفع «الكحلُ» فاعلاً بأَفْعَلَ، ولم يَضُرَّ الفصلُ به بين أَفْعَل وبين «مِنْ» لكونه كالجزء مِنْ رافعِه، ولم يُجيزوا رَفْعَ «أحسن» خبراً مقدَّماً و «الكحلُ» مبتدأ مؤخر، لئلا يلزم الفصلُ بين أَفْعَل وبين «مِنْ» بأجنبي. ووجهُ الاستشهادِ من هذه المسألة: أنهم جعلوا المبتدأَ أجنبياً بخلاف الفاعل، ولهذه المسألةِ موضعٌ غيرُ هذا.
وقرأ العامَّةُ «فاطرِ» بالجرِّ. وفيه وجهان: النعتُ والبدليةُ، قاله أبو البقاء: وفيه نظر؛ فإنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ، ولو جعله عطفَ بيانٍ كان أسهلَ. قال الزمخشريُّ: «أُدْخِلَتْ همزةُ الإِنكارِ على الظرف، لأنَّ
الكلامَ ليس في الشَّكِّ، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشكَّ لظهورِ الأدلَّةِ وشهادتِها عليه/.
وقوله:» لِيَغْفِرَ «اللامُ متعلِّقةٌ بالدعاء، أي: لأجلِ غفران ربِّكم، كقوله:
287 -
0- دَعَوْتُ لِما نابني مِسْور ا
…
فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
ويجوز أن تكونَ اللامُ مُعَدِّيةً كقولِك: دَعَوْتُكَ لِزيدٍ، وقوله:{إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى [الإيمان] } [غافر: 10] . والتقدير: يَدْعُوْكم إلى غفرانِ ذنوبِكم.
وقوله: {أَن تَصُدُّونَا} العامَّة على تخفيفِ النون. وقرأ طلحةُ بتشديدها كما شدَّد» تَدْعُونَّا «. وفيها تخريجان، أحدُهما: ما تقدَّم في نظيرتِها على أَنْ تكونَ» أَنْ «هي المخففةَ لا الناصبةَ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، وشذَّ عَدَمُ الفصلِ بينها وبين الجملة الفعلية. والثاني: أنها الناصبةُ، ولكنْ أُهْمِلَتْ حملاً على» ما «المصدريَّةِ، كقراءةِ» أَنْ يُتِمُّ «برفع» يُتِمُّ «. وقد تقدَّمَ القولُ فيه.
و» مِنْ «في {مِّن ذُنُوبِكُمْ} قيل: مزيدةٌ. وقيل: تبعيضيةٌ. وقيل: بمعنى البدلِ أي: بدلَ عقوبةِ ذنوبكم، كقوله:{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] .
قوله:» تُرِيْدون «يجوز أن يكونَ صفةً ثانيةً ل» بَشَرٌ «، وحُمِل على معناه؛ لأنَّ بمنزلةِ القومِ والرَّهْط، كقوله:{أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وأَنْ يكونَ مُسْتَأنفاً.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ} : يجوز أن يكونَ خبرَ «كان» : «لنا» ، و {أَن نَّأْتِيَكُمْ} اسمَها، أي: وما كان لنا إتيانُكم بسلطانٍ. و {إِلَاّ بِإِذْنِ الله} حالٌ. ويجوز أن يكونَ الخبرُ {إِلَاّ بِإِذْنِ الله} و «لنا» تبيينٌ.
قوله تعالى: {وَمَا لَنَآ أَلَاّ} : كقوله: {وَمَا لَنَآ أَلَاّ نُقَاتِلَ} [البقرة: 246] وقد تقدَّم و «لَنَصْبِرَنَّ» جوابُ قسمٍ. وقوله: «ما آذَيْتُمونا» يجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، وهو الأرجحُ لعدم الحاجةِ إلى رابطٍ ادُّعِيَ حَذْفُه على غير قياس والثاني أنها موصولةٌ اسميةٌ، والعائدُ محذوفٌ على التدريج، إذ الأصل: آذيْتُمونا به، ثم حُذِفَت الباءُ، فَوَصَلَ الفعلُ إليه بنفسِه.
وقرأ الحسن بكسرِ لامِ الأمرِ في «فَلْيَتَوَكَّلْ» وهو الأصلُ.
و {لَنُخْرِجَنَّكُمْ} : جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ، كقوله:«ولَنَصْبِرَنَّ» .
قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} في «أوْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها على بابِها مِنْ كونِها لأحدِ الشيئين. والثاني: أنها بمعنى «حتى» . والثالث: أنها بمعنى «إلا» ، كقولهم:«لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَني حقي» . والقولان الأخيران مَرْدُودان؛ إذ
لا يَصِحُّ تركيبُ «حتى» ولا تركيبُ «إلا» مع قولِه «لَتَعُودُونَّ» بخلافِ المثال المتقدم.
والعَوْدُ هنا: يُحتمل أن يكونَ على بابِه، أي: لَتَرْجِعُنَّ. و {فِي مِلَّتِنَا} متعلقٌ به، وأن يكونَ بمعنى الصيرورةِ، فيكونَ الجارُّ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. [قال:] «فإنْ قلتَ: كأنَّهم على مِلَّتهم حتى يَعُودوا فيها. قلت: مَعاذَ اللهِ، ولكنَّ العَوْدَ بمعنى الصيرورة، وهو كثيرٌ في كلام العرب كثرةً فاشيةً، لا تكاد تسمعهم يستعملون» صار «، ولكن» عاد «: ما عُدْتُ أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مالٌ، أو خاطبوا به كلَّ رسولٍ ومَنْ آمن به، فَغَلَّبوا في الخطاب الجماعةَ على الواحد» . فقوله «أو خاطبوا» إلى آخره هو الوجهُ الأولُ بالتأويلِ المذكورِ، وهون تأويلٌ حسنٌ.
قوله: {لَنُهْلِكَنَّ} جوابُ قسمٍ مضمر، وذلك القسمُ وجوابُه فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على إضمارِ القول، أي: قال: لَنُهْلِكَنَّ. والثاني: أنه أجرى الإِيحاءَ مُجْرى القول لأه ضَرْبٌ منه.
وقرأ أبو حَيْوَةَ «لَيُهْلِكَنَّ» ، و «لَيُسْكِنَنَّكم» بياءِ الغَيْبة مناسَبَةً لقوله «ربُّهم» .
قوله تعالى: {ذلك} : مبتدأٌ، وهو مُشارٌ به إلى توريثِ الأرضِ. و «لِمَنْ خاف» الخبر. و «مَقامي» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مُقْحمٌ وهو بعيدٌ؛ إذ الأسماءُ لا تُقْحم. الثاني: أنه مصدرٌ مضافٌ للفاعل.
قال الفراء: «مَقامي: مصدرٌ [مضافٌ] لفاعِله، أي: قيامي عليه بالحِفْظ» . الثالث: أنه اسمُ مكانٍ. قال الزجاج: «مكان وقوفِه بين يَدَي الحسابِ، كقولِه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] .
قوله:» وَعِيْد «أثبت الياءَ هنا وفي (ق) في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [الآية: 14]{فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [الآية: 45] وصلاً وحَذَفَها وَقْفاً ورشٌ عن نافع، وحذفها الباقون وَصْلاً ووقفاً.
قوله تعالى: {واستفتحوا} : العامَّةُ على «استفتحوا» فعلاً ماضياً، وفي ضميرِه أقوالٌ، أحدُها: أنه عائدٌ على الرسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاحِ: الاستنصارُ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] . وقيل: طَلَبُ الحكم من الفُتاحة. الثاني: أن يعودَ على الكفَّار، أي: استفتح أُمَمُ الرسلِ عليهم، كقولِه:{فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] . وقيل: عائدٌ على الفريقين لأنَّ كُلاًّ طلبَ النصرَ على صاحبِه. وقيل: يعودُ على قريشٍ لأنهم في سِنِي الجَدْبِ اسْتَمْطَرُوْا فلم يُمْطِروا، وهو على هذا مستأنفٌ، وأمَّا على غيرِه من الأقوال فهو عطفٌ على قولِه {فأوحى إِلَيْهِمْ} .
وقرأ ابنُ/ عباسٍ ومجاهدٌ وابنُ محيصن «واسْتَفْتِحوا» على لفظِ الأمر، أمراً للرسل بطلبِ النُّصرة، وهي مقوِّيةٌ لعَوْدَهِ في المشهورةِ على الرسل. والتقدير: قال لهم: لنهلكنَّ وقال لهم: اسْتَفْتِحُوا.
قوله: «وخابَ» هو في قراءةِ العامَّةِ عطفٌ على محذوفٍ تقديرُه: انتَصروا وظَفِرُوا وخاب. ويجوز أن يكونَ عطفاً على «اسْتَفْتحوا» على انَّ الضميرَ فيه للكفار. وفي غيرها على القولِ المحذوف، وقد تقدَّم أنه يُعْطَفُ الطلبُ على الخبر وبالعكس.
و {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} : جملةٌ في محل جَرٍّ صفةً ل «جبارٍ» . ويجوز أَنْ تكونَ الصفةُ وحدَها الجارِّ، و «جهنمُ» فاعلٌ به. وقوله:«ويُسْقََى» صفةٌ معطوفةٌ على الصفةِ قبلَها، جملةٌ فعلية على اسمية. وإنْ جَعَلْتَ الصفةَ من الجارِّ وحدَه، وعَلَّقْته بفعلٍ كان من عطفِ فعليةٍ على فعلية. وقيل: عطفٌ على محذوفٍ، أي: يُلْقَى فيها ويُسْقَى.
و «وراء» هنا على بابها. وقيل: بمعنى «أمام» فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله:«منْ بين يديه» وأنشد:
287 -
1- عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه
…
يكون وراءَه فَرَجٌ قريبُ
وهو قولُ أبي عبيدة وقطرب وابن جرير. وقال الآخَرُ في
ذلك:
287 -
2- أيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي
…
وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائِيا
أي: قُدَّامي. وقال آخر:
287 -
3- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي
…
لُزومُ العَصَا تُحْنى عليها الأَصابعُ
وقال ثعلب: «هو اسمٌ لِما توارَى عنك، سواءً كان خلفَكَ أم قدَّامك» .
قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} في «صديد» ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه نعتٌ ل «ماء» وفيه تأويلان، أحدهما: أنه على حَذْفِ أداة التشبيه، أي: ماءٍ مثلِ صديد، وعلى هذا فليس الماءُ الذي يَشْرَبونه صَديداً، بل مثلُه. والثاني: أنَّ الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ، وليس هو ماءً حقيقةً، وعلى هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء. وهو قول ابن عطية. وإلى كونِه صفةً ذَهَبَ الحوفيُّ وغيره. وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتقٍ، إلا على مَنْ فسَّره بأنه صَدِيدٌ بمعنى مَصْدود، أخذه مِن الصَّدِّ، فكأنه لكراهيِتِه مَصْدودٌ عنه، أي: يَمْتنع عنه كلُّ أحدٍ.
الثاني: أنه عطفُ بيانٍ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، وليس مذهبَ البصريين جريانُه في النكرات، إنما قال به الكوفيون، وتَبعهم الفارسيُّ أيضاً.
الثالث: أن يكونَ بدلاً. وأعرب الفارسيُّ «زَيتونةٍ» مِنْ قولِه: « [بُوْقَدُ] مِنْ
شجرةٍ مباركةٍ زَيْتُونةٍ» عطفَ بيان أيضاً.
والصَّديدُ: ماءٌ يسيل مِنْ أجساد أهل النار. وقيل: ما حالَ بين الجلدِ واللحمِ مِنَ القَيْحِ.
قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ} : يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً ل «ماءٍ» ، وان تكونَ حالاً من الضمير في «يُسْقَى» ، وأن تكونَ مستأنفةً. و «تَجَرَّع» تَفَعَّل وفيه احتمالاتٌ، أحدُها: أنه مطاوعٌ لجَرَّعْتُه نحو: عَلَّمْتُه فَتَعَلَّمْ.
والثاني: أن يكونَ للتكلُّف نحو: تَحَلَّم، أي، يتكلَّفُ جَرْعَه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه: الثالث: أنه دالٌّ على المُهْلة نحو: فَهَّمته، أي: يتناوله شيئاً فشيئاً بالجَرْع، كما يَفْهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم. الرابع: أنه بمعنى جَرَع المجرد نحو: «عَدَوْت الشيءَ» و «تَعَدَّيْتُه» .
{وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} ، أي: لم يقارِبْ إساغَته فكيف بحصولها؟ كقوله: «لَمْ يَكَدْ يَرَاها» وستأتي إن شاء الله.
قوله: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في الضمير وجهان، أظهرُهما: أنه عائدٌ على «كل جبار» . والثاني: أنه عائدٌ على العذابِ المتقدِّمِ.
قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ} : فيه أوجه، أحدُها: - وهو مذهبُ سيبويه - أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفةً جواباً
لسؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مَثَلُهم؟ فقيل: كيت وكيت. والمَثَلُ استعارةٌ للصفةِ التي فيها غرابةٌ كقولِكََ، صفةُ زيدٍ، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مبذول.
الثاني: أن يكونَ «مَثَلَ» مبتدأً، و «أعمالُهم» مبتدأ ثانٍ، و «كرمادٍ» خبرُ الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول. قال ابن عطية:«وهذا عندي أرجحُ الأقوالِ، وكأنك قلت: المتحصِّلُ في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملةُ المذكورةُ» . وإليه نحا الحوفي. قال الشيخ: «وهو لا يجوزُ لأنَّ الجملةَ التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابطَ فيها يربُطها بالمبتدأ، وليست نفسَ المبتدأ فَتَسْتَغْني عن رابطٍ» . قلت: بل الجملةُ نفسُ المبتدأ، فإنَّ نفسَ مَثَلِهم هو نفسُ أعمالِهم كرمادٍ في أنَّ كلاًّ منها لا يفيد شيئاً، ولا يَبْقَى له أثرٌ، فهو نظيرُ قولك / «هَجِّيْرى أبي لا إله إلا اللهُ» .
الثالث: أنَّ «مَثَلَ» مزيدةٌ، قاله الكسائيُّ والفراء: أي: الذين كفروا أعمالُهم كرَمادٍ، فالذين مبتدأ «أعمالُهم» مبتدأٌ ثانٍ و «كرمادٍ» خبرُه. وزيادة الأسماءِ ممنوعةٌ.
الرابع: أن يكونَ «مَثَلَ» مبتدأً، و «أعمالُهم» بدلٌ منه، على تقدير: مَثَلُ أعمالِهم، و «كرمادٍ» الخبرُ. قاله الزمخشريُّ:، وعلى هذا فهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، على حَذْفِ المضافِ كما تقدَّم.
الخامس: أن يكونَ «مَثَل» مبتدأً، و «أعمالُهم» بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ،
و «كرمادٍ» الخبر، كقول الزَّبَّاء:
287 -
4- ما للجِمال مَشْيِها وئيدا
…
أجَنْدَلاً يَحْمِلْن أم حديدا
والسادس: أن يكونَ «مَثَل» مبتدأً، و «أعمالُهم» خبرَه، أي: مَثَلُ أعمالِهم، فحذف المضاف. و «كرماد» على هذا خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وقال أبو البقاء حين ذكر وجهَ البدل:«ولو كان القرآن لجاز إبدالُ» أعمالهم «من» الذين «وهو بدلُ اشتمال» ، يعني أنه كان يُقْرَأُ «أعمالِهم» مجرورةً، لكنه لم يُقرأْ به.
و «الرمادُ» معروفٌ «وهو ما سَحَقَتْه النارُ من الأَجْرام، وجمعُه في الكثرة على رُمُد، وفي القلَّة على أرْمِدَة كجَماد وجُمُد وأَجْمِدَة، وجمعُه على» أَرْمِدَاء «شاذٌّ. والرِّماد: السَّنَةُ أيضاً، السَّنةُ: المَحْل، أَرْمَدَ الماءُ، أي: صار بلون الرماد، والأَرْمَدُ: ما كان على لونِ الرَّماد. وقيل للبعوض» رُمْد «لذلك، ويقال: رَمادٌ رِمْدِدٌ، صار هباءً.
قوله: {اشتدت بِهِ الريح} في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد، و» في يوم «متعلِّقٌ ب» اشْتَدَّت «.
قوله: «عاصفٍ» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه على تقدير: عاصفٍ ريحُه، أو عاصفِ الريح، ثم حُذِفَ «الريح» وجُعلت الصفةُ لليوم مجازاً كقولهم:«يومٌ ماطر» و «ليلُ نائم» . قال الهرويُّ: «فَحُذِفَتْ لتقدُّم ذِكْرِهَا، كما قال:
287 -
5-
إذا جاء يومٌ مظلِمُ الشمسِ كاسفُ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: كاسِفُ الشمسِ.
الثاني: أنه على النَّسَبِ، أي: ذي عُصُوفٍ كلابِن وتامِر.
الثالث: أنه خُفِض على الجِوار، أي: كان الأصلُ أن يَتْبع العاصفُ الريحَ في الإِعراب فيُقال: اشتدَّتْ به الريحُ العاصفُ في يوم، فلمَّا وقع بعد اليوم أُعْرِبَ بإعرابه، كقولهم:» جُحرُ ضَبّ خَربٍ «. وفي جَعْلِ هذا من باب الخفضِ على الجوارِ نظرٌ، لأنَّ مِنْ شرطِه: أن يكون بحيث لو جُعِل صفةُ لِما قُطع عن إعرابه لَصَحَّ كالمثال المذكورِ، وهنا لو جَعَلْتَه صفةً للريح لم يَصِحَّ لتخالفِهما تعريفا وتنكيراً في هذا التركيبِ الخاصِّ.
وقرأ الحسن وابنُ أبي إسحاق بإضافة» يوم «ل» عاصِفٍ «. وهي على حَذْفِ الموصوفِ، أي: في يومِ ريحٍ عاصِف، فَحُذِفَ لفَهْم المعنى الدالِّ على ذلك. ويجوز أن يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوف إلى صفته عند مَنْ يَرَى ذلك نحو: بَقْلَةُ الحَمْقَاء.
ويقال: ريحٌ عاصِفٌ ومُعْصِفٌ، وأصلُه من العَصْفِ، وهو ما يُكْسَرُ مِن الزِّرْع فقيل ذلك للريحِ الشديدة لأنها تَعْصِفُ، أي: تكسِرُ ما تَمُرُّ عليه.
قوله: {لَاّ يَقْدِرُونَ} مستأنفٌ، ويَضْعُفُ أن يكونَ صفةً ليوم على حَذْفِ العائد، أي: لا يَقْدِرُون فيه، و» مِمَّا كَسَبُوا «متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنَّه حالٌ من» شيء «إذ لو تأخَّر لكانَ صفةً. والتقديرُ: على شيءٍ مِمَّا كسبوا.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} : قرأ أبو عبد الرحمن بسكونِ
الراء وفيه وجهان، أحدُهما: أنه أَجْرَى الوصلَ مُجْرى الوقف. والثاني: أنَّ العربَ حَذَفَتْ لامَ الكلمة عند عدمِ الجازمِ فقالوا: «ولو تَرَ ما الصبيانُ» فلما دخل الجازمُ تخيَّلوا أن الراءَ محلُّ الجزم، ونظيرُه: لم أُبَلْ فإنَّ أصلَه أبالي، ثم حذفوا لامَه رفعاً فلمَّا جزموه لم يَعْتَدُّوا بلامِه، وتوهَّموا الجزم في اللام.
والرؤية هنا قلبيةٌ ف «أنَّ» في محلِّ المفعولَيْن أو أحدهما على الخلاف. وقرأ الأخَوان هنا {خالقَ السماوات والأرض} «خالق» اسمُ فاعلٍ مضافاً لِما بعده، فلذلك خفضوا ما عُطِفَ عليه وهو الأرض. وفي النور:{خَالقُ كُلِّ دَآبَّةٍ} [الآية: 45] اسمُ فاعل مضافاً لما بعده. والباقون «خَلَقَ» فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا «الأرضَ» و {كُلِّ دَآبَّةٍ} ، فكسرُه «السماواتِ» في قراءة الأخوين خفضٌ، وفي قراءةِ غيرِهما نصبٌ. / ولو قيل بأنه في قراءة الأخوين يجوزُ نَصْبُ «الأرضَّ» على أحدِ وجهين: إمَّا على المحلِّ، وإمَّا على حَذْفِ التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون «السماواتِ» منصوبةً لفظاً وموضعاً، لم يمتنعْ، ولكن لم يُقْرأْ به.
و «بالحقِّ: متعلِّقٌ ب» خلق «على أن الباءَ سببيةٌ، وبمحذوفٍ على أنها حاليةٌ: إمّا من الفاعلِ، أي: مُحِقَّاً، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسةً بالحق.
قوله تعالى: {تَبَعًا} : يجوز أن يكونَ جمع «تابِع» كخادِم وخَدَم وغائِب وغَيَب، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً نحو: قومٌ عَدْلٌ، ففيه ثلاثةُ التأويلاتِ المشهورةِ.
قوله: {مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} في «مِنْ» أوجهٌ: أحدُها: أنَّ:
مِنْ «الأولى للتبيين، والثانيةَ للتبعيض، تقديرُه: مُغْنون عنا بعضَ الشيءِِ الذي هو عذابُ الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ:» هذا يقتضي التقديمَ في قوله «مِن شَيْءٍ» على قوله {مِنْ عَذَابِ الله} ؛ لأنه جَعَلَ {مِن شَيْءٍ} هو المُبَيِّنَ بقولِهِ من عذاب، و «مِنْ» التبيينيةُ مقدَّمٌ عليها ما تُبَيِّنه ولا يتأخَّر «. قلتُ: كلامُ الزمخشري صحيحٌ من حيث المعنى، فإنَّ {مِنْ عَذَابِ الله} لو تأخَّر عن» شيء «كان صفةً له ومُبَيِّناً، فلمَّا تقدَّم انقلب إعرابُه من الصفة إلى الحال، وأمَّا معناه وهو البيانُ فباقٍ لم يتغيَّرْ.
الثاني: أن تكونا للتبعيضِ معاً بمعنى: هل أنتم مُغْنُوْن عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ الله؟ أي: بعض عذاب الله، قاله الزمخشري. قال الشيخ:» وهذا يقتضي أن يكونَ بدلاً، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ الشيء مطلقةٌ، فلا يكون لها بعضٌ «. قلت: لا نزاعَ أنه يقالُ: بعضُ البعض، وهي عبارةٌ متداولةٌ، وذلك البعضُ المُتَبَعِّضُ هو كلُّ لأبعاضِه بعضٌ لكلِّه، وهذا كالجنسِ المتوسط هو نوعٌ لِما فوقَه، جنسٌ لِما تحته.
الثالث: أنَّ» مِنْ «في {مِن شَيْءٍ} مزيدةٌ، و» مِنْ «في {مِنْ عَذَابِ} فيها وجهان، أحدُهما: أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها في الأصل صفةٌ لشيء، فلمَّا تقدَّمَتْ نُصِبت على الحال. والثاني: أنها تتعلَّق بنفس» مُغْنُوْنَ «على أن يكون» من شيء «واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنى. ويوضح هذا ما قاله
أبو البقاء، قال:» ومِنْ زائدةٌ، أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكونَ «شيء» واقعاً موقعَ المصدر، أي: غِنَى، فيكون {مِنْ عَذَابِ الله} متعلقاً ب «مُغْنُوْن» . وقال الحوفيُّ أيضاً:{ومِنْ عَذَابِ الله} متعلٌ ب «مُغْنُون» ، و «مِنْ» في {مِن شَيْءٍ} لاستغراقِ الجنسِ زائدةٌ للتوكيد «.
قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} إلى آخرِه، فيه قولان، أحدُهما: أنه مِنْ كلام المستكبرين. والثاني: أنه من كلام المستكبرين والضعفاءِ معاً. وجاءَتْ كلٌّ جملةٍ مستقلةٍ من غيرِ عاطف دلالةً على أنَّ كلاًّ من المعاني مستقلٌّ بنفسه كافٍ في الإِخبار. وقد تقدَّم الكلامُ في التسويةِ والهمزةِ بعده في أول البقرة.
والجَزَعُ: عدمُ احتمالِ الشِّدَّةِ. قال امرؤ القيس:
287 -
6- جَزِعْتُ ولم أَجْزَعْ من البَيْنِ مَجْزِعاً
…
وعَزَّيْتَ قلباً بالكواعب مُولَعا
وقال الراغب:» أصلُ الجَزَعِ: قَطْعُ الحَبْل مِنْ نصفه يقال: جَزَعْتُه فانْجَزَعْ، ولتصَوُّرِ الانقطاع فيه قيل: جَزْعُ الوادي لمُنْقَطَعِه، ولانقطاعِ اللونِ بتغيُّره. قيل للخرزِ المتلوِّن: جَزْعٌ، واللحمُ المُجَزَّع ما كان ذا لونين، والبُسْرَة المُجَزَّعَة أن يَبْلغَ الإِرطابُ نصفَها، والجازِع خشبةٌ تُجعل في وسط البيت تلْقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين، وكأنه سُمِّي بذلك تَصَوُّراً لجَزَعِهِ لِما حُمِل عليه من العِبْء أو لقطعِه وسطَ البيت «والجَزَعُ أخصُّ من الحزن، فإنَّ الجَزَعَ حُزْنٌ يَصْرِف الإِنسان عمَّا هو بصددِه.