الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي عَلَوه، وقيل: ليَهْدِمُوه كقوله:
303 -
6- وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ
…
يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ
ويجوز فيها أَنْ تكونَ ظرفيةً، أي: مدةَ استعلائِهم وهذا مُحْوجٌ إلى حذفِ مفعولٍ، اللهم إلا أَنْ يكونَ القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعلِ نحو: هو يعطي ويمنع.
قوله تعالى: {حَصِيراً} : يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى فاعِل، اي: حاصرةً لهم، مُحيطةً بهم، وعلى هذا فكان ينبغي أن يؤنَّثَ بالتاء كخبيرة. وأُجيب: بأنَّها على النسَب، أي ذات حَصْرٍ كقولِه:{السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 1
8]
، أي ذاتُ انفطارٍ. وقيل: الحَصِيْرُ: الحَبْسُ، قال لبيد:
303 -
7- ومَقامَةٍ غُلْبِ الرجالِ كأنَّهمْ
…
جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ
وقال أبو البقاء: «لم يؤنِّثْه لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل» وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّ إلى أن تكونَ الصفةُ التي على فعيل إذا كانَتْ بمعنى فاعِل جاز حَذْفُ التاءِ منها، وليس كذلك لِما تقدَّم مِنْ أنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل يَلْزَمُ تأنيثه، وبمعنى مَفْعول يجب تذكيرُه، وما جاء شاذَّاً مِنَ النوعين يُؤَوَّل. وقيل: إنما لم يُؤَنَّثْ لأنَّ تأنيث «جهنَّم» مجازيٌّ، وقيل: لأنها في معنى السِّجْن والمَحْبَس، وقيل: لأنها بمعنى فِرَاش.
قوله تعالى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : أي: للحالةِ أو للمِلَّة أو للطريقة. قال الزمخشري: «وأَيَّتَما قدَّرْتَ لم تَجِدْ مع الإِثباتِ ذَوْقَ البلاغةِ الذي تجده مع الحذف؛ لِما في إبهام الموصوفِ بحذفِه مِنْ فخامةٍ تُفْقَدُ مع إيضاحِه» .
قوله تعالى: {وأَنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أن يكونَ عطفاً على «أنَّ» الأولى، أي: يُبَشِّرُ المؤمنين بشيئين: بأجرٍ كبيرٍ وبتعذيبِ أعدائهم، ولا شكَّ أنَّ ما يُصيبُ عَدُوَّك سُرورٌ لك. وقال الزمخشري:«ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخبر بأنَّ الذين» .
قال الشيخ: «فلا يكونُ إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ» . قلتُ: قولُ الزمخشريِّ يَحْتمل أمرين، أحدُهما: أن يكونَ قولُه «ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخْبِرُ بأنَّ» أنه من باب الحذف، أي: حَذَف «ويُخْبِرُ» وأبقى معموله، وعلى هذا فيكون «أنَّ الذين» غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة بلا شك، ويحتمل أن يكونَ قصدَه: أنه أُريد بالبِشارة مجرَّدُ الإِخبار سواءً كان بخيرٍ أم بِشَرّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدِهما، وحينئذٍ يكون جمعاً بين الحقيقةِ والمجاز، أو استعمالاً للمشترك في معنييه، وفي المسألتين خلافٌ مشهور، وعلى هذا فلا يكون قولُه {وأَنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ} غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة، إلا أنَّ الظاهرَ مِنْ حالِ الزمخشري أنه لا يُجيز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجازِ ولا استعمالَ المشتركِ في مَعْنَيَيْه.
قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} : في الباءين ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنهما متعلِّقتان بالدعاءِ على بابهما نحو: «دَعَوْتُ بكذا» والمعنى: أنَّ الإِنسانَ في حالِ ضَجَرِه قد يَدْعُو بالشرِّ ويُلِحُّ فيه، كما يَدْعُو ويُلِحُّ فيه.
والثاني: أنهما بمعنى «في» بمعنى أنَّ الإِنسانَ إذا أصابه ضرٌّ دعا وألَحَّ في الدعاءِ واستعجل الفرجَ، مثلَ الدعاءِ الذي كان يحبُّ أَنْ يدعوَه في حالة الخير، وعلى هذا فالمَدْعُوُّ به ليس الشرَّ ولا الخيرَ. وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونَ للسببِ، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يُساعده، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه.
قوله تعالى: {آيَتَيْنِ} : يجوز أن يكونَ هو المفعولَ الأولَ، و {الليل والنهار} ظرفان في موضع الثاني قُدِّما على الأول، والتقدير: وجَعَلْنا آيتين في الليلِ والنهار، والمرادُ بالآيتين: إمَّا الشمسُ والقمرُ، وإمَّا تكويرُ هذا على هذا، وهذا على هذا، ويجوز أنْ يكونَ «آيَتَيْن» هو الثاني، و {الليل والنهار} هما الأول. ثم فيه احتمالان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ: / إمَّا من الأولِ، أي: نَيَّرَي الليل والنهار، وهما القمرُ والشمسُ، وإمَّا من الثاني، أي: ذَوِي آيتين. والثاني: أنه لا حَذْفَ، وأنهما علامتان في أنفسِهما، لهما دلالةٌ على شيءٍ آخرَ. قال أبو البقاء:«فلذلك أضافَ في موضعٍ، وَوَصف في آخر» يعني أنه أضافَ الآيةَ إليهما في قولِه {آيَةَ الليل} و {الليل والنهار} ووصفَهما في موضعٍ آخرَ بأنهما اثنان لقولِه: «وجَعَلْنا الليلَ والنهارَ آيتين» . هذا كلُّه إذا جَعَلْنَا الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين، فإن جَعَلْناه بمعنى «خَلَقْنا» كان «آيتين» حالاً، وتكونُ حالاً مقدرة.
واستشكل بعضُهم أَنْ يكونَ «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر قال: «لأنه يَسْتَدْعِيْ أن يكونَ الليلُ والنهارُ موجودَيْن على حالةٍ، ثم انتقل عنها إلى أخرى» .
قوله: «مُبْصِرَةً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مِنْ الإِسنادِ المجازيِّ، لأنَّ الإِبصارَ فيها لأهلِها، كقولِه:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} [الإِسراء: 59] لمَّا كانت سبباً للإِبْصار. وقيل: «مُبْصِرة» : مضيئةً، وقيل: هي من بابِ اَفْعَل، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم:«أَضْعَفَ الرجلُ» ، أي: ضَعُفَتْ ماشِيتُه، و «أَجْبن» إذا كان أهلُه جبناء، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء.
وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنة نحو:«مَذْأَبَة» .
قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الاشتغال، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية. وكذلك {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ} [الإِسراء: 13] . والثاني: - وهو بعيد - أنه منصوبٌ نَسَقاً على «الحِسابَ» ، أي: لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً، ويكون «فَصَّلْناه» على هذا صفةً.
وقرئ «في عُنْقِه» وهو تخفيفٌ شائعٌ.
قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ} : العامَّةُ على «نُخْرِجُ» بنونِ
العظمة مضارع «اَخْرَجَ» ، و «كتاباً» فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من المفعول المحذوف، إذ التقديرُ: ونُخْرِجُه إليه كتاباً، ونُخْرِجُ الطائرَ.
ورُوِي عن أبي جعفر: «ويُخْرَجُ» مبنيَّاً للمفعول، «كتاباً» نصبٌ على الحال، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ الطائرِ، وعنه أنَّه رَفَع «كتاباً» . وخُرِّج على أنَّه مرفوعٌ بالفعلِ المبنيِّ للمفعول، والأولى قراءة قلقةٌ.
وقرأ الحسن: «ويَخْرُجُ» بفتحِ الياءِ وضمِّ الراءِ مضارعَ «خَرَجَ» ، «كتابٌ» فاعلٌ به، وابن محيصن ومجاهد كذلك، إلا أنهما نَصَبا «كتاباً» على الحال، والفاعلُ ضميرُ الطائرِ، أي: ويَخْرُجُ له طائرُه في هذه الحالِ. وقرئ «ويُخْرِجُ» بضمِّ الياء وكسرِ الراء مضارعَ «اَخْرَجَ» ، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى، «كتاباً» مفعولٌ.
قوله: «يَلْقَاْه» صفةٌ ل «كتاباً» ، و «مَنْشُوراً» حالٌ من هاء «يَلْقاه» . وجوَّز الزمخشري والشيخ وأبو البقاء أن يكونَ نعتاً لكتاب. وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ تقدُّم الصفةِ غير الصريحة على الصريحةِ، وقد تقدَّم ما فيه.
وقرأ ابنُ عامر «يُلَقَّاه» بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف، مضارعَ «
لَقَّى» بالتشديد، والباقون: بالفتح والسكونِ والتخفيف مضارع لَقِي.
قوله تعالى: {اقرأ} : على إضمارِ القولِ، أي: يُقال له: اقرأْ، وهذا القولُ: إمَّا صفةٌ أو حالٌ كما في الجملةِ قبله.
قوله/ {كفى بِنَفْسِكَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ، المشهورُ عند المُعْرِبين: أنَّ «كفى» فعلٌ ماضٍ، والفاعلُ هو المجرورُ بالباء، وهي فيه مزيدةٌ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع، كقوله:
303 -
8- ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه
…
كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وقولِ الآخر:
303 -
9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهيا
وعلى هذا فكان ينبغي أن يُؤَنَّثَ الفعلُ لتأنيث فاعلِه، وإن كان مجروراً كقوله:{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 6] و {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} [الأنعام: 4] . وقد يقال: إنه جاء على أحد الجائزين فإن التأنيثَ مجازيٌّ. والثاني: أنَّ الفاعلَ/ ضميرُ المخاطبِ، و «كفى» على هذا اسمُ فعلٍ أمرٍ، أي: اكْتَفِ، وهو ضعيفٌ لقَبولِ «كَفَى» علاماتِ الأفعالِ. الثالث: أنَّ فاعلَ «كَفَى» ضميرٌ يعودُ على
الاكتفاء، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا مستوفى. و «اليومَ» نصبٌ ب «كفى» .
قوله: «حَسِيْبا» فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: «وهو بمعنى حاسِب، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها، وصَرِيْم بمعنى صارِم، ذكرهما سيبويه، و» على «متعلقةٌ به مِنْ قولك: حَسِب عيله كذا، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد، فعُدِّي ب» على «لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه. فإن قلت: لِمَ ذَكَرَ» حسيباً «؟ قلت: لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين، وهذه الأمور يَتَوَلَاّها الرجالُ فكأنَّه قيل: كفى بنفسِك رجلاً حسيباً، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ، كما يقال: ثلاثة أنفس» . قلت: ومنه قولُ الشاعر:
304 -
0- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ
…
لقد جارَ الزمانُ على عيالي
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، وذُكِرَ لِما تقدَّم. وقيل: حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى: مُخالِط ومُجالس.
قوله تعالى: {أَمَرْنَا} : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ
طويلٍ، حاصلُه: أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ: الفسق، أي: أَمَرْناهم بالفسق قال: «أي: أَمَرْناهم بالفِسْق، فعملوا، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم: افْسُقوا، وهذا لا يكونُ، فبقي أن يكونَ مجازاً. ووجهُ المجازِ: أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا» .
ثم قال: «فإنْ قلت: فهلَاّ زَعَمْتَ أنَّ معناه: أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا. قلت: لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ» فَفَسَقُوا «يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال:» أَمَرْتُه فَقام «، و» أَمَرْتُه فَقَرأ «، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ، ولا يَلْزَمُ [على] هذا قولُهم: و» أَمَرْتُه فعصاني «أو» فلم يمتثلْ «لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به، فكأنه يقول: كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ، كما أنَّ مَنْ يقول: [» فلان] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع «لا يَقْصِدُ مفعولاً. فإن قلت: هلَاّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد: أَمَرْناهم بالخيرِ، قلت: لأنَّ قوله»
فَفَسَقوا «يدافعه، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه، ونظيرُ» أمر «:» شاء «في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه. تقول: لو شاءَ لأحسنَ إليك، ولو شاءَ لأساءَ إليك، تريد: لو شاء الإِحسانَ، ولو شاء الإِساءةَ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ، وقلت: قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ، لم تكنْ على سَدادٍ» .
وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال: «أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً، وأمَّا قولُه:» لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ «فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه.
وقوله: «فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ» إلى «عِلْم/ الغيب» فنقول: حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه، ومنه ما مَثَّل به في قولِه «أَمَرْتُه فقامَ» ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى:{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار} [الأنعام: 13]، أي: ما سَكَنَ وتحرَّك، وقوله:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]، أي: والبردَ، وقول الشاعر:
304 -
1- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً
…
أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي
أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ
…
أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني
أي: وأَجْتَنِبُ الشرَّ، وتقول:«أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ» فليس المعنى: أمرتُه بعدم الإِحسانِ، بل المعنى: أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ، والآيةُ من هذا
القبيل، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره، وكذلك «أَمَرْتُه فأساء إليَّ» ليس المعنى: أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان. وقوله: «ولا يَلْزم هذا قولَهم:» أَمَرْتُه فعصاني «. نقول: بل يَلْزَمُ. وقوله:» لأنَّ ذلك منافٍ «، أي: لأنَّ العِصْيانَ منافٍ. وهو كلامٌ صحيح. وقوله:» فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ «لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض، كما بَيَّنَّا. وقوله:» لا يَنْوِي مأموراً به «لا يُسَلَّم. وقوله:» لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه، إلى آخره «قلنا: نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه،» لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه. وقولُه:«ونظيرُ» أمر «» شاء «ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ» أمر «كَثُر التصريحُ به. قال الله [تعالى] : {إِنَّ الله لَا يَأْمُرُ بالفحشآء} [الأعراف: 28]{أَمَرَ أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40]{يَأْمُرُ بالعدل} [النحل: 67]{أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29]{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بهاذآ} [الطور: 32] وقال الشاعر:
304 -
2- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت: والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ.
والوجه الثاني: أنَّ» أَمَرْنا «بمعنى كَثَّرْنا، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال:» وفسَّرَ بعضُهم «أَمَرْنا» ب «كَثَّرْنا» ، وجَعَلَه من بابِ: فَعَّلْتُه فَفَعَلَ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر. وفي الحديثِ:«خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة» ، أي: كثيرةُ النِّتاج «. قلت: وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ، يقال: أَمِر القومُ، وأَمَرهم اللهُ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة، وقال أبو علي:» الجيِّد في «أَمَرْنا» أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا «.
واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره. يقال: أَمَرَ اللهُ المُهْرَة، أي: كَثَّر ولدَها. قال» ومَن أنكر «أمرَ اللهُ القومَ» أي: كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «.
ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال: أَمِر القومُ كَثُروا، وأَمَرَهم الله كثَّرهم، وهو من بابِ المطاوعة: أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك: شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ: «أَمِرْنا» بكسر الميم بمعنى «أَمَرْنا» بالفتح. حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال: «أَمَرَ اللهُ مالَه،
وأَمِرَه» بفتح الميم وكسرِها، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في «لوامِحه» فكيف تُرَدُّ؟
وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين «آمَرْنا» بالمَدِّ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ، واختارها يعقوبُ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي: «أمَّرْنا» بالتشديد. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ التضعيفَ للتعديةِ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين، كأَخْرَجْته وخَرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ، واللازمُ من ذلك «أُمِّر» . قال الفارسيُّ، «لا وجهَ لكون» أَمَّرْنا «/ من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلَاّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة» . وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» نصبٌ بأَهْلكنا، و {مِنَ القرون} تمييزٌ ل «كم» ، و {مِن بَعْدِ نُوحٍ} :«مِنْ» لابتداء الغاية،
والأُوْلى للبيان فلذلك اتَّحد متعلَّقُها. وقال الحوفي: «الثانية بدلٌ مِن الأولى، وليس كذلك لاختلاف معنييهما. والباءُ بعد» كَفَى «تقدَّم الكلامُ عليها. وقال ابن عطية:» إنما يُجاءُ بهذه الباءِ في موضعِ مَدْحٍ أو ذم «. والباء في» بذنوب «متعلقةٌ ب» خبيراً «، وعَلَّقها الحوفيُّ ب» كَفَى «. قال الشيخ:» وهو وهمٌ «. قلت: إنما جَعَلَه وهماً لأنه لا يَتَعَدَّى بالباء، ولا يليق به المعنى.
قوله تعالى: {مَّن كَانَ} : «مَنْ» شرطيةٌ، و «عَجََّلْنا» جوابُه، و «ما يشاء» مفعولُه، و «لِمَنْ نريدُ» بدلُ بعضٍ من كل، من الضمير في «له» بإعادةِ العاملِ، و «لِمَنْ نريد» تقديرُه: لمَنْ نريدُ تعجيلَه له.
قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} «جَعَلَ» هنا تصييريةٌ.
قوله: «يَصْلاها» الجملةُ حالٌ: إمَّا من الضمير في «له» وإمَّا مِنْ «جهنَّم» ، و «مَذْمُوماً» حالٌ مِنْ فاعلِ «يَصْلاها» . قيل: وفي الكلامِ حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل: مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه. وقيل: بل الأصل: مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق.
قوله تعالى: {سَعْيَهَا} : فيه وجهان، أحدُهُما: أنه مفعولٌ به لأنَّ المعنى: وعَمِل لها عملَها. والثاني: أنه مصدرٌ، و «لها» ، أي: مِنْ أجلِها.
قوله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل «سعى» .
قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء} : «كُلاًّ» منصوب ب «نُمِدُّ» و «هؤلاء» بدلٌ، «وهؤلاء» عطفٌ عليه، أي: كلَّ فريق نُمِدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا تقديرٌ جيد. وقال الزمخشري في تقديرِه:«كلَّ واحد من الفريقين نُمِدُّ» . قال الشيخ: «كذا قَدَّره الزمخشريُّ، وأعربوا» هؤلاء «بدلاً مِنْ» كُلاًّ «ولا يَصِحُّ أن يكونَ بدلاً مِنْ» كل «على تقدير: كلَّ واحد، لأنه إذ ذاك بدلُ من بعض، فينبغي أن يكونَ التقدير: كلَّ الفريقين.
و {مِنْ عَطَآءِ} متعلقٌ ب» نُمِدُّ «. والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول.
والمَحْظور: الممنوعُ، وأصله مِن الحَظْر وهو: جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة، والحَظيرة: ما يُعْمل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم، والمُحْتَظِر: مَنْ يعمل الحظيرة.
قوله تعالى: {كَيْفَ فَضَّلْنَا} : «كيف» نصبٌ: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على الحال، وهي معلِّقَةٌ «انظرْ» بمعنى فَكِّرْ، أو بمعنى أبصرْ.
قوله: «وأكثر تَفْصيلاً» ، أي: من درجاتِ الدنيا، ومِنْ تفضيلِ الدنيا.
قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ} : يجوز أن تكونَ على بابها، فينتصِبَ ما بعدها على الحال، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى «صار» فينتصبَ على الخبرية، وإليه ذهب الفراء والزمخشري، وأنشدوا في ذلك:
304 -
3- لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ
…
ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ
من دون أن تلتقي الأَرْكابُ
…
ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ
أي: ويَصير. والبصريون لا يَقيسون هذا، بل يَقْتَصِرون به على المَثَل في قولهم:«شَحَذَ شفرتَه حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبَةٌ» .
قوله تعالى: {أَلَاّ تعبدوا إِلَاّ إِيَّاهُ} : يجوز أَنْ تكونَ «أنْ» مفسِّرةً؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول، و «لا» ناهيةٌ. ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ، و «لا» نافيةٌ، أي: بأنْ لا، ويجوزُ أن تكونَ المخففةَ، واسمُها ضميرُ الشأن، و «لا» ناهيةٌ أيضاً، والجملةُ في مثل هذا إشكالُ: من حيث وقوعُ الطلبِ خبراً لهذا الباب. ومثلُه في هذا الإشكالِ قولُه: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8]، وقوله:{أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} [النور: 9] لكونِه دعاءً وهو طَلَبٌ أيضاً، ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ و «لا» زائدة. قال أبو البقاء: ويجوز أَنْ يكونَ
في موضع نصبٍ، [أي:] أَلْزَمَ ربُّك عبادَته و «لا» زائدةٌ «. قال الشيخ:» وهذا وهمٌ لدخولِ «إلا» على مفعولِ «تَعْبدوا» فَلَزِم أن يكونَ نَفْياًً أو نهياً «.
وقرأ الجمهور» قَضَى «فعلاً ماضياً، فقيل: هي على موضوعِها الأصلي: قال ابنُ عطية:» ويكون الضمير في «تَعْبُدوا» للمؤمنين من الناسِ إلى يومِ القيامةِ «وقيل: هي بمعنى أَمَر. وقيل: بمعنى أَوْحَى، وقيل: بمعنى حَكَم، وقيل: بمعنى أَوْجَبَ أو ألزم.
وقرأ بعضُ وَلَد معاذِ بن جَبَل» وقضاء «/ اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء، و {أَلَاّ تعبدوا} خبرُه.
قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قد تقدَّم نظيرُه في البقرة. وقال الحوفي: الباءُ متعلقةٌ ب» قضى «، ويجوز أن تكونَ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: واَوْصى بالوالدين إحساناً، وإحساناً مصدر، أي: يُحْسِنون بالوالدين إحساناً» .
وقال الواحديُّ: «الباءُ مِنْ صلة الإِحسانِ فَقُدِّمَتْ عليه كما تقول: بزيدٍ فانْزِلْ» . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ هذا الوجهَ قال: «لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه» . قلت: والذي ينبغي أن يُقال: إن هذا المصدرَ إنْ عَنَى به أنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ فالأمرُ على ما ذَكَرَ الزمخشريُّ، وإن كان بدلاً مِنَ اللفظ بالفعلِ فالأمرُ على ما قال الواحديُّ، فالجوازُ والمنعُ بهذين الاعتبارين.
وقال ابنُ عطية: «قوله وبالوالدَيْن إحساناً عطف على» أنْ «الأولى، أي: أَمَر اللهُ أَنْ لا تعبدوا إلا إياه، وأن تُحْسِنوا بالوالدَيْن إحساناً» . واختار الشيخُ أَنْ يكون «إحساناً» مصدراً واقعاً موقعَ الفعلِ، وأنَّ «أنْ» مفسرةٌ، و «لا» ناهيةٌ. قال: فيكون قد عَطَفَ ما هو بمعنى الأمرِ على نَهْيٍ كقولِه:
304 -
4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يقولون: لا تَهْلِكْ أَسَىً وتَجَمَّلِ
قلت: وأَحْسَنَ «و» أساء «يتعدِّيان ب إلى وبالباء. قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} [يوسف: 100] وقال كثِّير عَزِّة:
304 -
5- أسِيْئي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكأنه ضُمِّن «أَحْسَن» لمعنى «لَطُف» فتعدَّى تعديتَه.
قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ الأخَوان «يَبْلُغانِّ» بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ، أحدها: أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما، و «أَحَدُهما» بدلٌ منه، و «أو كِلاهما» عطفٌ عليه. وإليه نحا الزمخشريُّ
وغيرُه. واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه «أحدُهما» بدلُ بعضٍ مِنْ كل، لا كلٍّ من كل، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك «أو كِلاهما» عطفٌ على البدلِ، فيكونُ بدلاً، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية. لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ «كِلاهما» فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه.
قلت: هذا معنى قولِ الشيخِ. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً. وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ «وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ:
304 -
5- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ
…
ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال:» أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله: «وكنتُ. . . .» فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو، وأيضاً فشرطُه: ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو «كلاهما» فليس من البدلِ المقسِّم «. ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله.
الثاني: أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و» أحدُهما «فاعلٌ بالفعلِ قبلَه، و» أو كلاهما «عطفٌ عليه. وقد رُدَّ هذا الوجهُ: بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو: قاما أخواك،
أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو:» قاما زيد وعمرو «، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً كقوله:
304 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم
والفعلُ هنا مسندٌ إلى» أحدُهما «وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ.
الثالث: نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/» كلاهما «توكيدٌ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ، وهو أن يُجْعَلَ» أحدُهما «بدلَ بعضٍ من كل، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع» كلاهما «توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه: أو يَبْلُغا كلاهما، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد، وفيها خلافٌ، أجازها الخليل وسيبويه نحو:» مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما «بالرفع والنصب، فالرفعُ على تقديرِ: هما أنفسُهما، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما، ولكنْ في هذا نظرٌ: من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟
وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال: فإنْ قلت: لو قيل:» إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما «كان» كلاهما «توكيداً لا بدلاً، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمِه، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه» .
قلت: يعني أنَّ «أحدُهما: لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه.
ثم قال:» فإنْ قلتَ: ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت: لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل: «كلاهما» فحسبُ، فلمَّا قيل:«أحدهما أو كلاهما» عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول «.
الرابع: أَنْ يرتفعَ» كلاهما «بفعلٍ مقدَّر تقديرُه: أو يبلغُ كلاهما، ويكون» إحداهما «بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل. والمعنى: إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما.
وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ، و» إن ما «: هي» إنْ «الشرطية زِيْدَتْ عليها» ما «توكيداً، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه، وهو إدغامٌ واجب. قال الزمخشري:» هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها «ما» توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون، ولو أُفْرِدَتْ «إنْ» لم يَصِحُّ دخولُها، لا تقول: إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ، ولكن: إمَّا تُكْرِمنَّه.
وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه، قال سيبويه:«وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب» ما «. قال الشيخ:» يعني مع النون وعَدَمِها «. وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد» أمَّا «، وإن كان أبو إسحاقَ قال
بوجوبِ ذلك. وقوله بعد ذلك» كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب «ما» ، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها.
و «عندك» ظرفٌ ل «يَبْلُغَنَّ» و «كِلا» مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً: فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً، ووزنُها على فِعَل ك «مِعَى» وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في «كِلْتا» مؤنثَ «كِلا» هذا هو المشهور.
وقيل: ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ. وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله:
304 -
7- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَنَطَق بمفرِدها-: هي مثنَّاة لفظاً، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف «الزيدان» ، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة.
وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون: رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع
المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في «شرح التسهيل» .
ومن أحكامِها: أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو: «كِلا الرجلين» ، أو معنىً لا لفظاً نحو:، «كِلانا» ، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو:«كِلا زيد وعمرو» إلا في ضرورةٍ كقوله:
304 -
8- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به
…
على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ
وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ كقوله:
304 -
9- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى
…
وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو: كلاهما قائمٌ، وكلاهما ضربتُه، ويجوزُ في قليل: قائمان، وضربتُهما، اعتباراً بمعناها، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله:
305 -
0- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما
…
قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي
وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو: كِلانا كفيلُ صاحبِهِ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى، ويُستعمل تابعاً توكيداً، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً. و «كلتا» في جميعِ ما ذُكِرَ ك «كِلا» ، وتاؤُها بدلُ عن واو، وألفُها للتأنيث، ووزنُها فِعْلى كذكرى. وقال يونس: ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ، ووزنُها فِعْتَل.
وقد رَدَّ عليه الناس، وله موضعٌ غيرُ هذا. والنسب إليها عند سيبويه: كِلْوِيّ كمذكَّرِها، وعند يونس: كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين.
قوله: «أُفٍّ» «أُفّ» اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك «أُفّ» وأَوَّه، أي: أتوجَّع، ووَيْ، أي: أَعْجَبُ. وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطية لفظةً، بها تمت الأربعون، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ: أُفُّ، أُفَّ، أُفِّ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه، أُفُ، أُفَ، أُفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أُفُّه أَفَّه أُفِّه، أفَّا من غير إمالة، وبالإِمالة المحضة، وبالإِمالة بين بين، أُفُّو أُفِّي: بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ: بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه، إفَّا بالإِمالة.
وستٌ مع فتح الهمزة: أَفَّ أَفِّ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، أَفْ بالسكون، أفا بالألف. فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً، وتمامُ الأربعين «أَفاهْ» بهاء السكت. وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة، ومن كلامِ أهلِها، إلى
تتبُّع كثيرٍ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ:«ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها» فذكرها، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحمدُ.
وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ: ثلاثٍ في المتواتر، وأربعٍ في الشاذ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء. وقرأ نافعٌ في روايةٍ: أُفٌ بالرفع والتنوين، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين، وابنُ عباس:«أفْ» بالسكون.
وقوله: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} ، أي: لا تَزْجُرْهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ، ومنه «النَّهْر» لظهوره. وقال الزمخشري:«النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ» .
قوله تعالى: {جَنَاحَ الذل} : هذه استِعارةٌ بليغة، قيل: وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت: فيه وجهان،
أحدُهما: أن يكونَ المعنى: واخفِضْ لهما جناحَك كما قال:» واخفِضْ جناحَك للمؤمنين «فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى: واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ. والثاني: أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله:
305 -
1- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ
…
إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ ِ زِمامُها
مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما» انتهى. يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ، ثم استعار له جناحاً، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح.
ومِنْ طريفِ ما يُحكى: أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله:
305 -
2- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني
…
صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي
جاءه رجلٌ بقَصْعةٍ وقال له: أَعْطني شيئاً من ماء المَلام. فقال: حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ «يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك. وقال بعضهم:
305 -
3- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى
…
فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا
وقرأ العامَّةُ» الذُّلِّ «بضم الذَّال، وابن عباس في آخرين بكسرها،
وهي استعارةٌ؛ لأنَّ الذِّلَّ في الدوابِّ لأنه ضدُّ الصعوبة، فاستعير للأناسيِّ، كما أن الذُّلَّ بالضمَّ ضدُّ العِزِّ.
قوله: {مِنَ الرحمة} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للتعليل فتتعلق ب» اخفِضْ «، أي: اخفِضْ مِن أجل الرحمة. والثاني: أنها لبيانِ الجنس. قال ابنُ عطية:» أي: إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس «. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ» جَناح «. الرابع: أنها لابتداءِ الغاية. قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي} في هذه الكافِ قولان، أحدهما: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، فقدَّره الحوفيُّ:» ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي «. وقدَّره أبو البقاء:» رحمةً مثلَ رحمتِهما «، كأنه جعل التربيةَ رحمةً. الثاني: أنها للتعليل، أي: ارْحَمْهما لأجلِ تربيتِهما كقولِه: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] .
قوله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ} : التَّبْذِيرُ: التفريق ومنه: البَذْرُ «لأنه يُفَرِّق في الأرض للزراعة. قال:
305 -
4- ترائبُ يَسْتَضِيءُ الحَلْيُ فيها
…
كجَمْر النارِ بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غَلَبَ في الإِسرافِ في النفقةِ.
قوله تعالى: {ابتغآء رَحْمَةٍ} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله، ناصبُه «تُعْرِضَنَّ» وهو مِنْ وَضْعِ المُسَبَّب موضعَ السببِ، وذلك أن
الأصل: وإمَّا تُعْرِضَنَّ عنهم لإِعسارِك. وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجوابِ الشرطِ، أي: فقل لهم قولاً سهلاً ابتغاء رحمةٍ. وردَّ عليه الشيخ: بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها نحو: «إن يَقُمْ زيدٌ عمراً فاضرِبْ» فإنْ حَذَفْتَ الفاءَ جاز عند سيبويهِ والكسائي نحو: «إنْ يَقُمْ زيدٌ عمراً يَضْرِبْ» . فإن كان الاسمُ مرفوعاً نحو «إن تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ» جاز ذلك عند سيبويهِ على أنَّه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعده، أي: إنْ تَقُمْ يَقُمْ زيدٌ يقمْ. ومنع مِنْ ذلك الفراءُ وشيخُه.
وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك، لقولِه تعالى:{فَأَمَّا اليتيم فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] الآية. لأنَّ «اليتيمَ» وما بعده منصوبان بما بعدَ فاءِ الجوابِ.
الثاني: أنه موضعِ الحالِ مِنْ فاعلِ «تُعْرِضَنَّ» .
قوله: «من ربِّك» يجوز أن يكونَ/ صفة ل «رحمةٍ» ، وأَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «تَرْجُوها» ، أي: تَرْجُوها مِنْ جهةِ ربِّك، على المجاز.
قوله: «تَرْجُوها» يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «تُعْرِضَنَّ» ، وأَنْ يكونَ صفةً ل «رحمةٍ» .
قوله تعالى: {كُلَّ البسط} : نصبٌ على المصدرِ
لإِضافتِها إليه. و «فَتَقْعُدَ» نصبُه على جواب النهي. و «مَلُوماً» : إمَّا حالٌ، وإمَّا خبرٌ، كما تقدَّم.
قوله تعالى: {خِطْئاً} : قرأ ابن ذكوان: «خَطَّأً» بفتح الخاءِ والطاءِ مِنْ غيرِ مَدّ، وابنُ كثير بكسرِ الخاء والمدّ، ويلزمُ منه فتحُ الطاء، والباقون بالكسرِ وسكونِ الطاء.
فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين: أحدهما: أن يكونَ مصدرٍ مِنْ أَخطأ يُخْطِىء خَطَأً، أي: إخطاءً، إذا لم يُصِبْ. والثاني: أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إذا لم يُصِبْ أيضاً، وأنشد:
305 -
5- والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ
…
خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين: أنَّ قَتْلهم كان غيرَ صواب. واستبعد قومٌ هذه القراءةَ قالوا: لأن الخطأ ما لم يُتَعَمَّدْ فلا يَصِحُّ معناه ههنا.
قلت: وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ، أو أنه يقال:«خَطِئ» إذا لَمْ يُصِبْ.
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل: قاتَلَ يُقاتِل قِتالاً. قال أبو علي: «هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ، وإنْ كنَّا لم نجدْ» خاطَأَ «
ولكنْ وَجَدْنا تخاطَأَ وهو مطاوِعُ» خاطَأَ «فَدَلَّنا عليه، ومنه قولُ الشاعر:
305 -
6- تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه
…
وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ
وقال الآخر:
305 -
7- تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه
…
وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذين يَقْتُلون أولادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدل.
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر:» لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهاً «، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطاً. قلت: قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ.
وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْماً، إذا تَعَمَّد الكذبَ.
وقرأ الحسن:» خَطاء «بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر» أَخْطَأَ «كالعَطاء اسمٌ للإِعطاء.
وقرأ أيضاً» خَطا «بالقصرِ، وأصلُه» خَطَأ «كقراءةِ ابن ذَكْوان، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفاً فَحُذِفت كعَصا.
وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك، إلا أنهما كسرا الخاء ك» زِنَى «وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين، وأَخْطأ في الرأي، وقد يُقام كلٌّ منهما مقامَ الآخرَ.
وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ» خَطْئَاً «بالفتح والسكون والهمزِ، مصدرُ» خَطِئ «بالكسرِ.
وقرأ ابنُ وثاب والأعمشُ» تُقَتِّلوا «، و» خِشْية «بكسرِ الخاء.
قوله تعالى: {الزنى} : العامَّةُ على قصرِه وهي اللغة الفاشية، وقُرِئ بالمدِّ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه لغةٌ في المقصور. والثاني: أنه مصدر زاني يُزاني، كقاتل يُقاتل قِتالاً؛ لأنَّه يكونُ بين اثنتين، وعلى المدِّ قولُ الفرزدق:
305 -
8- أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه
…
ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّراً
وقول الآخر:
305 -
9- كانت فريضةُ ما تقولُ كما
…
كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك من بابِ الضرورةِ لثبوتِه قراءةً في الجملة.
قوله: {وَسَآءَ سَبِيلاً} تقدَّم نظيره. قال ابنُ عطيةَ: «وسبيلاً: نصبٌ
على التمييز، أي: وساء سبيلاً سبيلُه» . ورَدَّ الشيخ: هذا: بأنَّ قولَه «منصوبٌ على التمييز» ينبغي أن يكونَ الفاعلُ ضميراً مُفَسَّراً بما بعده من التمييز فلا يصحُّ تقديرُه: ساء سبيلُه سبيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم جنس.
قوله تعالى: {إِلَاّ بالحق} : أي: إلا بسببِ الحق، فيتعلَّقُ ب {لَا تَقْتُلُواْ} ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل {لَا تَقْتُلُواْ} أو مِنْ مفعولِه، أو: لا تَقْتُلُوا إلا ملتبسين بالحق أو إلا ملتبسةً بالحقِّ، ويجوز أن يكونَ نعتاً/ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا قَتْلاً ملتبساً بالحق.
قوله: «مَظْلُوماً» حالٌ مِنْ مرفوع «قُتِل» .
قوله: {فَلَا يُسْرِف} [قرأ] الأخَوان بالخطاب، على إرادةِ الوليِّ، وكان الوليُّ [يَقْتُل] الجماعةَ بالواحد، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائباً.
والباقون بالغَيْبة، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب.
وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه: {
فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] . وقيل: «في» بمعنى الباء، أي: بسبب القتلِ.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ} ، أي: إنَّ الوليَّ، أو إنَّ السلطان، أو إنَّ القاتل، أي: أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة، أو إلى المقتولِ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق.
قوله تعالى: {إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الأصلَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: إن ذا العهدِ كان مسؤولاً عن الوفاءِ بعهده. والثاني: أن الضميرَ يعود على العهدِ، ونَسَبَ السؤالَ إليه مجازاً كقولِه:{وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} [التكوير: 8] .
قوله تعالى: {بالقسطاس} : قرأ الأخوانِ وحفصٌ بكسر القافِ هنا وفي سورة الشعراء بكسر القاف، والباقون بضمِّها فيهما، وهما لغتان مشهورتان، وهو القَرَسْطُون. وقيل: هو كل ميزان. قال ابن عطية: «واللفظةُ للمبالغة من القِسْط» . ورَدَّه الشيخ باختلافِ المادتين، ثم قال:«إلا أَنْ يَدَّعيَ زيادةَ السين آخراً كقُدْْموس، وليس من مواضع زيادتها» . ويقال بالسين والصاد. قال بعضُهم: هو روميٌّ معرَّبٌ.
والمَحْسُور: المنقطعُ السيرِ، حَسَرْتُ الدابة: قَطَعْتُ سيرَها، وحَسير: أي: كليل تعبانُ بمعنى مَحْسُور، والجمع «حَسْرى قال:
306 -
0- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظَامُها
…
فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
وحَسَر عن كذا: كشف عنه، كقوله:
306 -
1-. . . . . . . . . . . يَحْسِرُ الماءُ تارةً
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله:» تأويلاً «منصوب على التفسير. والتأويلُ: المَرْجِعُ مِنْ آلَ يؤولُ، أي: أحسن عاقبةً.
قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ} : العامَّةُ على هذه القراءةِ، أي: لا تَتَّبِعْ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه، قال النابغة:
306 -
2- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ
…
بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا
وقال الكميت:
306 -
3- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ
…
ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا
وقرأ زيدُ بن عليّ: «ولا تَقْفُو» بإثباتِ الواو، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ
العلةِ جزماً لغةُ قوم، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله:
306 -
4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقرأ معاذ القارئ «ولا تَقُفْ» بزنةِ تَقُلْ، مِنْ قاف يَقُوف، أي: تَتَبَّع أيضاً، وفيه قولان: أحدُهما: أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو، والثاني - وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب، لكثرة الاستعمالين، ومثله: قَعا الفحلُ الناقةَ وقاعَها.
قوله: «والفُؤادَ» قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة. وتوجيهُها: أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد، يقال: فُؤَاد وفَآد، وأنكرها أبو حاتمٍ، أعني القراءةَ، وهو معذورٌ.
والباء في «به» متعلقةٌ بما تَعَلَّق به «لك» ولا تتعلَّق ب «عِلْم» لأنه مصدر، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ.
قوله: «أولئك» إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله:
306 -
5-
ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى
…
والعيشَ بعد أولئك الأيامِ
ف «أولئك» يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع. واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإِشارةِ به لغير العقلاءِ فقال: «وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد ب» أولئك «لأنها حواسُّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] إنما قال» رأيتُهم «في نحوم؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود - وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل - عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ. وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل ب» أولئك «، وأنشد هو والطبري:
- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى
…
والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ
وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه» الأقوامِ «. ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ. وأمَّا قولُه: إنَّ الروايةَ:» الأقوامِ «فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو» الأيَّام «.
قوله: {كُلُّ أولئك} مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ» كان «خبرُه، وفي اسمِ» كان «وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على» كل «باعتبارِ لفظِها، وكذا الضميرُ
في» عنه «، و» عنه «متعلقٌ ب» مَسْؤولاً «، و» مسؤولاً «خبرُها.
والثاني: أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي، وفي «عنه» يعودُ على «كل» وهو من الالتفاتِ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل: كنتَ عنه مسؤولاً. وقال الزمخشريُّ: و «عنه» في موضع الرفع بالفاعلية/، أي: كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله:{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] . انتهى. وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح.
وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه: بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه. وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ: يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ؛ لأنَّ النحاس حكى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً، فليس هو نظيرَ قولِه {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على «كل» أو على القافي.
قوله تعالى: {مَرَحاً} : العامَّةُ على فتحِ الراء وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، أي: مَرِحاً بكسر الراء، ويدلُّ عليه قراءةُ بعضِهم فيما حكاه يعقوبُ «مَرِحاً» بالكسر. الثاني: أنَّه حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا مَرَحٍ، الثالث: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.
والمَرَحُ: شِدَّةُ السرورِ والفرحِ. مَرِح يَمْرَح مَرَحاً فهو مَرِحٌ كفَرِح يَفْرَح فَرَحاً فهو فَرِحٌ.
قوله: «طُوْلاً» يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «تَبْلُغ» أو مِنْ مفعولِه، أو مصدراً مِنْ معنى «تَبْلُغ» أو تمييزاً أو مفعولاً له. وهذان ضعيفان جداً لعدمِ المعنى.
وقرأ أبو الجرَّاح: «لن تَخْرُق» بضمِّ الراءِ، وأنكرها أبو حاتمٍ، وقال «لا نَعْرِفُها لغةً البتةَ» .
قوله تعالى: {كَانَ سَيِّئُهُ} : قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون بضمِّ الهمزةِ والهاء، والتذكيرِ، وتَرْكِ التنوين. والباقون بفتح الهمزة وتاءِ التأنيث منصوبةً منونةً. فالقراءةُ الأُولى أشير فيها بذلك إلى جميعِ ما تقدَّم، ومنه السَّيِّىءُ والحَسَنُ، فأضاف السَّيِّىءَ إلى ضميرِ ما تقدَّم، ويؤيِّدها ما قرأ به عبدُ الله:«كلُّ ذلك كان سَيِّآته» بالجمعِ مضافاً للضمير، وقراءةُ اُبَيّ «خبيثُهُ» والمعنى: كلُّ ما تقدَّم ذِكْرُه ممَّا أُمِرْتُمْ به ونُهِيْتُمْ [عنه] كان سَيِّئُه - وهو ما نُهِيْتُمْ عنه خاصةً - أمراً مكروهاً. هذا أحسنُ ما يُقَدَّر في هذا المكان.
وأمَّا ما استشكله بعضُهم من أنَّه يصير المعنى: كلُّ ما ذُكِرَ كان سَيِّئةً، ومِنْ جملةِ كلِّ ما ذُكِر: المأمورُ به، فَيَلْزَمُ أن يكونَ فيه سيِّءٌ، فهو استشكالٌ واهٍ؛ لِما ذكرْتُ من تقدير معناه.
و «مكروهاً» خبر «كان» ، وحُمِل الكلامُ كلُّه على لفظِ «كل» فلذلك ذكَّر الضميرَ في «سَيِّئُهُ» ، والخبرُ وهو: مكروه.
وأمَّا قراءةُ الباقين: فتحتمل أن تقعَ الإِشارةُ فيها ب «ذلك» إلى مصدري النَّهْيَيْنِ المتقدِّمَيْن قريباً وهما: قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحاً. والثاني: أنه أُشيرَ به إلى جميعِ ما تقدَّم مِنَ المناهي. و «سَيِّئَةً» خبرُ كان، وأُنِّثَ حَمْلاً على معنى «كُل» ، ثم قال «مَكْروهاً» حَمْلاً على لفظها.
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً وهو: أنَّ «السيئة في حكمِ الأسماءِ بمنزلةِ الذَّنْبِ والإِثمِ زال عنه حكمُ الصفاتِ، فلا اعتبارَ بتأنيثِه، ولا فرقَ بين مَنْ قرأ» سَيِّئة «ومَنْ قرأ» سَيِّئاً «ألا ترى أنَّك تقولُ: الزِّنَى سيئة، كما تقول: السرقةُ سيئةٌ، فلا تُفَرِّقُ بين إسنادِها إلى مذكر ومؤنث» .
وفي نَصْبِ «مكروهاً» أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ ثانٍ ل «كان» ، وتعدادُ خبرِها جائزٌ على الصحيح. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ «سيئة» . وضعِّف هذا: بأنَّ البدلَ بالمشتقِ قليلٌ. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في {عِنْدَ رَبِّكَ} لوقوعِه صفةً ل «سَيِّئة» . الرابع: أنه نعتٌ ل «سيئةٍ» ، وإنما ذكِّر لأن تأنيثَ موصوفِه مجازيٌّ. وقد رُدَّ هذا: بأن ذلك إنَّما يجوزُ حيث اُسْنِد إلى المؤنثِ المجازيِّ، أمَّا إذا أُسْنِدَ إلى ضميرِهِ فلا، نحو:«الشمسُ طالعةٌ» ، لا يجوز:«طالعٌ» إلا في ضرورةٍ كقوله:
306 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ولا أرض أبقلَ إبقالها
وهذا عند غيرِ ابنِ كَيْسان، وأمَّا ابنُ كَيْسان فيُجيز في الكلام:«الشمسُ طَلَع، وطالعٌ» .
وأمَّا قراءةُ عبدِ الله فهي ممَّا أُخْبر فيها عن الجمعِ إخبارَ الواحدِ لسَدِّ الواحدِ مَسَدَّه كقوله:
306 -
7- فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ
…
فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها
لو قال: فإنَّ الحَدَثان/ لصَحَّ من حيث المعنى، فَعَدَلَ عنه لِيَصِحَّ الوزنُُ.
وقرأ عبدُ اللهِ أيضاً «كان سَيِّئاتٍ» بالجمعِ من غير إضافةٍ وهو خبرُ «كان» ، وهي تؤيد قراءةَ الحَرَميِّين وأبي عمرو.
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى} : مبتدأ أو خبر، و «ذلك» إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من التكاليفِ وهي أربعةٌ وعشرون نوعاً، أولُها قولُه:{لَاّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإِسراء: 22]، وآخرُها:{وَلَا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} [الإِسراء: 37] . {مِمَّآ أوحى} «مِنْ» للتبعيضِ؛ لأنَّ هذه بعضُ ما أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه.
قوله: {مِنَ الحكمة} يحوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً مِنْ عائدِ الموصولِ المحذوف تقديرُهُ: مِن الذي أوحاه حالَ كونِهِ من الحكمة،
أو حالٌ من نفسِ الموصولِ. الثاني: أنه متعلق بأَوْحى، و «مِنْ» إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعضُ الحكمةِ وإمَّا للابتداءِ، وإمَّا للبيان. وحينئذٍ تتعلَّق بمحذوفٍ. الثالث: أنها مع مجرورِها بدلٌ مِنْ {مِمَّآ أوحى} .
قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} ألفُ «أَصْفى» عن واوٍ، لأنَّه من صفا يَصْفو، وهو استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ.
قوله: «واتَّخَذَ» يجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَصْفاكم» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحالِ، و «قد» مقدرةٌ عند قومٍ. و «اتَّخذ» يجوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لاثنين، فقال أبو البقاء:«إنَّ ثانيَهما محذوفٌ، أي: أولاداً، والمفعولُ الأولُ هو» إناثاً «. وهذا ليس بشيءٍ، بل المفعولُ الثاني هو {مِنَ الملائكة} قُدِّم على الأولِ، ولولا ذلك لَزِمَ أن يُبتدأ بالنكرةِ من غير مسوِّغ، لأنَّ ما صَلُح أن يكونَ مبتدأً صَلُح أن يكونَ مفعولاً أول في هذا الباب، وما لا فلا. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ كقولِه: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] ، و {مِنَ الملائكة} متعلِّقٌ ب» اتَّخذ «أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النكرةِ بعده.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : العامَّةُ على تشديد الراء، وفي مفعول «صَرَّفْنا» وجهان، أحدُهما: أنه مذكورٌ، و «في» مزيدةٌ فيه،
أي: ولقد صَرَّفْنا هذا القرآنَ، كقولِه:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50]، ومثله:
306 -
8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . يَجْرَحْ في عَراقيبِها نَصْلِيْ
وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} [الأحقاف: 15]، أي: يَجْرَحْ عراقيبَها، وأَصْلح لي ذريتي. ورُدَّ هذا بأنَّ «في» لا تُزاد، وما ذُكِرَ متأول، وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى في الأحقاف.
الثاني: أنَّه محذوفٌ تقديرُه: ولقد صَرَّفْنا أمثالَه ومواعظَه وقصصَه وأخبارَه وأوامره.
وقال الزمخشري في تقدير ذلك: «ويجوز أن يُراد ب» هذا القرآن «إبطالُ إضافتِهم إلى الله البناتِ؛ لأنه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذِكْرَه، والمعنى: ولقد صَرَّفْنا القولَ في هذا المعنى، وأوقَعْنا التصريفَ فيه، وجَعَلْناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد ب {هذا القرآن} التنزيلَ، ويريد: ولقد صَرَّفناه، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضميرَ لنه معلومٌ» . قلت: وهذا التقديرُ الذي قدَّره الزمخشريُّ أحسنُ؛ لأنه مناسِبٌ لما دَلَّتْ عليه الآيةُ وسِيْقَتْ
لأجلِه، فقدَّرَ المفعولَ خاصَّاً، وهو: إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضميرُ الذي قدَّره في «صَرَّفْناه» بخلافِ تقديرِ غيرِه، فإنَّ جَعَلَه عامَّاً.
وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلْه مرةً واحدة بل نجوماً، والمعنى: أَكْثَرْنا صَرْفَ جبريلَ إليك، فالمفعولُ جبريل عليه السلام.
وقرأ الحسن بتخفيفِ الراء فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفَعَل وفَعَّل قد يَشْتركان. وقال ابنُ عطية:«أي: صَرَفْنا الناسَ فيه إلى الهدى» .
قوله: «لِيَتَذَّكَّروا» متعلقٌ ب «صَرَّفْنا» . وقرأ الأخَوان هنا وفي الفرقان بسكون الذال وضمِّ الكاف مخففةً مضارع «ذكر» من الذِّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال والكافُ مشددةٌ، والأصلُ: يتذكَّروا، فأدغم التاءَ في الذال، وهو من الاعتبار والتدبُّر.
قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ} ، أي: التصريفُ، و «نُفوراً» مفعولٌ ثانٍ.
قوله تعالى: {كَمَا يَقُولُونَ} : الكافُ في موضعِ نصبٍ، وفيهما وجهان: أحدُهما: أنها متعلقةٌ بما تعلَّقَتْ به «مع» من الاستقرار، قاله الحوفي. والثاني: أنها/ نعتٌ لمصدر محذوف، أي: كوناً كقولكم قاله أبو البقاء.
وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ «يقولون» بالياءِ مِنْ تحت، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وكذا قولُه بعد هذا {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ} [الإِسراء: 43] ، قرأه بالخطابِ الأخَوان، والباقون بالغيب، فتحصَّل من مجموع الأمر أنَّ ابنَ كثير وحفصاً يَقْرآنهما بالغيب، وأن الأخوين قرآ بالخطاب فيهما، وأن الباقين قرؤوا بالغيب في الأول، وبالخطاب في الثاني.
فالوجهُ في قراءةِ الغيبِ فيهما أنه: حَمَل الأولَ على قولِهِ: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً} [الإِسراء: 41]، وحَمَل الثاني عليه. وفي الخطاب فيهما أنه حمل الأولَ على معنى: قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون، وحَمَل الثاني عليه. وفي قراءة الغيبِ في الأولِ أنَّه حَمَله على قوله «وما يزيدهم» والثاني التفت فيه إلى خطابهم.
قوله: «إذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ. قال الزمخشري: «وإذن دالَّةٌ على أنَّ ما بعدها وهو» لابتَغَوا «جوابٌ لمقالةِ المشركين وجزاءٌ ل» لو «. وأدغم أبو عمروٍ الشينَ في السين، واستضعفها النحاةُ لقوةِ الشين.
قوله تعالى: {وتعالى} : عطفٌ على ما تضمَّنه المصدرُ، تقديرُه: تنزَّه وتعالى. و «عن» متعلقة به. أو ب «سبحان» على
الإِعمال لأنَّ «عن» تعلَّقت به في قوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] و «عُلُوّاً» مصدرٌ واقع موقعَ التعالي، كقولِه:{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] في كونِه على غيرِ الصدرِ.
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ} : قرأ أبو عمروٍ والأخَوان وحفصٌ بالتاء، والباقون بالياء مِنْ تحت، وهما واضحتان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ولوجودِ الفصلِ أيضاً.
وقال ابن عطية: «ثم أعاد على السماواتِ والأرض ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إليها فعلَ العاقلِ وهو التسبيحُ» ، وهذا بناءً منه على أنَّ «هُنَّ» مختصٌّ بالعاقلات، وليس كما زَعَمَ، وهذا نظيرُ اعتذارِه عن الإِشارة ب «أولئك» في قوله {كُلُّ أولئك} وقد تقدَّم. وقرأ عبدُ الله والأعمشُ «سبَّحَتْ» ماضياً بتاء التأنيث.
قوله تعالى: {مَّسْتُوراً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه على بابه بمعنى: مستور عن أعينِ الكفار فلا يَرَوْنه. وقيل: هو على النسب، أي: ذو سِتْرٍ كقولِهم: مكان مَهُول وجاريةٌ مَغْنُوجة، أي: ذو هَوْل وذات غُنْجٍ، ولا يُقال فيهما: هُلْتُ المكانَ ولا غَنَجْتُ الجارية. وقيل:
هو وصفٌ على جهة المبالغة كقولهم: «شِعْرٌ شاعِر» . ورُدَّ هذا: بأنَّ ذلك إنما يكون في اسمِ الفاعلِ ومِنْ لفظِ الأولِ.
والثاني: أنَّه بمعنى فاعِل كقولهم: مَشْؤُوم ومَيْمون بمعنى: شائِم ويامِن، وهذا كما جاء اسمُ الفاعلِ بمعنى مفعول كماء دافِق، وهذا قولُ الأخفش في آخرين.
قوله تعالى: {وَحْدَهُ} : فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الحال، وإن كان معرفةً لفظاً، لأنه في قوةِ النكرة؛ إذ هو في معنى «منفرداً» ، وهل هو مصدرٌ أو اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ الموضوعِ موضعَ الحال، ف «وَحْدَه» وُضِعَ موضعَ «إيحاد» و «إيحاد» وُضع موضعَ «مَوْحَد» وهو مذهب سيبويه، أو هو مصدرٌ على حَذْف الزوائد، إذ يقال: أَوْحَدَه يُوْحِدُه إيحاداً، أو هو مصدرٌ بنفسِه ل «وَحَد» ثلاثياً. قال الزمخشري:«وَحَدَ يَحِدُ وَحْداً وحِدَة نحو: وَعَد يَعِد وَعْداً وعِدَة، و» وَحْدَه «من باب:» رَجَع عَوْدَه على بَدْئه، و «افعَلْه جهدَك وطاقتَك» في أنه مصدرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحال، أصلُه يَحِدُ وَحْدَه، بمعنى واحداً «. قلت: وقد عرفْتُ أن هذا ليس مذهبَ سيبويه.
والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ، وهو قولُ يونس. واعلمْ أنَّ هذه الحالَ بخصوصِها -أعني لفظة» وحده «- إذا وَقَعَتْ بعد فاعلٍ ومفعولٍ نحو: ضَرَبَ زيدٌ عمراً وَحْده» فمذهبُ سيبويه: أنه حالٌ من الفاعل، أي:
مُوَحِّداً له بالضرب. ومذهبُ المبردِ: أنه يجوز أن يكونَ حالاً من المفعول. قال الشيخ: «فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير: وإذا ذكرْتَ ربَّك مُوَحِّداً لله، وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكونَ التقديرُ: مُوَحَّداً بالذِّكْر» .
قوله: نُفوراً «فيه وجهان: أحدُهما: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر؛ لأنَّ التولِّيَ والنفور بمعنى. والثاني: أنه حال مِنْ فاعل» وَلَّوا «وهو حينئذ جمع نافرٍ، كقاعِد وقُعود وجالس وجلوس. والضميرُ في» وَلَّوا «الظاهر/ عودُه على الكفارِ. وقيل: يعود على الشياطين، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ.
قوله تعالى: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} : متعلقٌ ب «أَعْلَمُ» . وما كان من باب العلمِ والجهلِ في أَفْعَلِ التفضيلِ وأفعلَ في التعجب تعدَّى بالباء نحو: أنت أعلمُ به، وما أعلمك به!! وهو أجهلُ به، وما أجهلَه به!! ومن غيرِهما يتعدَّى في البابين باللام نحو: أنت أَكْسَى للفقراء. و «ما» بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإِعراض فكأنه قال: نحن أعلمُ بالاستخفافِ والاستهزاءِ الذي يستمعون به. قاله ابنُ عطية.
قوله: «به» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري:«وبه في موضع الحالِ كما [تقول:] يستمعون بالهُزْء، أي: هازئين» . الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له. الثالث:
أنَّهما على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهرِ أسماعهم، قالهما أبو البقاء. الرابع: قال الحوفيُّ: «لم يَقُلْ يَسْتعونه ولا يستمعونك؛ لَمَّا كان الغرضُ ليس الإِخبارَ عن الاستماعِ فقط، وكان مُضَمَّناً أنَّ الاستماعَ كان على طريق الهُزْء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى، لِيُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المرادُ به تَفَهُّمَ المسموعِ دون هذا المقصد» ، فعلى هذا أيضاً تتعلق الباء ب «يستمعون» .
قوله: «إذ يستمعون» فيه وجهان: أحدُهما: أنه معمولٌ ل «أَعْلَمُ» . قال الزمخشريُّ: «إذ يستمعون نصبٌ ب» أَعْلَمُ «، أي: اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون، وبما يتناجَوْن به، إذ هم ذَوُو نجوى» . والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَستمعون» الأولى. قال ابن عطية: «والعاملُ في» إذ «الأولى وفي المعطوف» يستمعون «الأول. وقال الحوفي:» ف إذ الأولى تتعلق ب «يستمعون» وكذا {وَإِذْ هُمْ نجوى} لأنَّ المعنى: نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنما يستمعون لسَقْطِك، وتتبُّعِ عيبِك، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و «إلى» .
قوله: «نَجْوى» يجوز أن يكونَ مصدراً فيكونَ من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حَذْفِ مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشريُّ. ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى. قاله أبو البقاء.
قوله: {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ مِنْ «إذ» الأولى في أحَد القولين، والقولُ الآخر: أنها معمولةٌ ل «اذكُر» مقدراً.
قوله: «مَسْحوراً» الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من «السِّحْر» بكسرِ السين، أي: مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه. وقال أبو عبيدة: «معناه أن له سَحْراً» أي: رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ، فهو بشرٌ مثلُكم.
وتقول العرب للجبان: «قد انتفخ سَحْره» بفتح السين، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب: مَسْحُور، ومُسْحَر. فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس:
306 -
9- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ
…
ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ
أي: نُغَذَّى ونُعَلَّلُ. ومِن الثاني قول لبيد:
307 -
0- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا
…
عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ
ورَدَّ الناسُ على أبي عبيدة قولَه لبُعْدِه لفظاً ومعنى. قال ابن قتيبة: «لا أَدْري ما الذي حَمَل أبا عبيدةَ على هذا التفسيرِ المستكرَهِ مع ما فسَّره السلفُ بالوجوهِ الواضحةِ» . قلت: وأيضاً فإن «السَّحْر» الذي هو الرِّئَة لم يُضْرَبْ له فيه مَثَلٌ بخلاف «السَّحْر» ، فإنهم ضربوا له فيه المَثَلَ، فما بعد الآيةِ مِنْ قولِه «انظر كيف ضَرَبُوا لك الأمثالَ» لا يناسِبُ إلا «السِّحْر» بالكسرِ.
قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا} : قد تقدَّم خلافُ القراء في الاستفهامين كهذه الايةِ في سورة الرعد، وتحقيقُ ذلك. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ تقديرُه: أنُبْعَثُ أو أنُحْشَرُ إذا كنَّا، دلَّ عليه «لمَبْعوثون» ، ولا يعملُ فيها «مَبْعوثون» هذا؛ لأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يعملُ فيما قبلها، وكذا ما بعدَ الاستفهامِ لا يعملُ فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، وعلى هذا التقديرِ الذي ذَكرْتُه تكون «إذا» متمحِّضةً للظرفيةِ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً فَيُقَدَّرُ العاملُ فيها جوابَها، تقديرُه: أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً نُبْعَثُ أو نُعادُ، ونحو ذلك، فهذا المحذوفُ جوابُ الشرطِ عند سيبويه والذي انصبَّ عليه/ الاستفهامُ عند يونس.
قوله: «ورُفاتاً» الرُّفات: ما بُوْلِغَ في دَقِّه وتَفْتِيتِه وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيءِ المُفَتَّتِ. وقال الفراء: «هو التراب» . ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن «تُرابا وعظاماً» . ويقال رََفَتَ الشيءَ يَرْفِت بالكسرِ، أي: كَسرَه. والفُعال يغلب في التفريق كالحُطام والدُّقاق والفُتات.
قوله: «خَلْقاً» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ من معنى الفعلِ لا مِنْ لفظِه، أي: نُبْعَثُ بَعْثاً جديداً. والثاني: أنه في موضع الحالِ، أي: مَخْلوقين.
قوله تعالى: {الذي فَطَرَكُمْ} : فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوف، أي: الذي فطركم يعيدُكم. وهذا التقديرُ فيه مطابقةٌ بين السؤالِ والجوابِ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: مُعِيْدُكم.
الذي فطركم. الثالث: أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر، أي: يعيدُكم الذي فطركم، ولهذا صُرِّح بالفعل في نظيره عند قولِه:{لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] .
و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ظرفُ زمان ناصبُه «فَطَركم» .
قوله: «فسَيُنْغِضُون» ، أي: يُحَرِّكونها استهزاءً. يقال: أَنْغَضَ رأسَه يُنْغِضها، أي: حَرَّكها إلى فوقُ، وإلى أسفلَ إنغاضاً، فهو مُنْغِضٌ، قال:
307 -
1- أَنَغَضَ نحوي رأسَه وأَقْنَعا
…
كأنه يطلُبُ شيئاً أَطْمعا
وقال آخر:
307 -
2- لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي الرَّأْسا
…
وقال أبو الهيثم: «إذا أُخْبِرَ بشيءٍ فَحَرَّك رأسَه إنكاراً له فقد أَنْغَضَ» . قال ذو الرمة:
307 -
3- ظَعائِنُ لم يَسْكُنَّ أَكْنافَ قريةٍ
…
بِسِيْفٍ ولم تَنْغُضْ بهنَّ القَنَاطِرُ
أي: لم تُحَرَّك، وأمَّا نَغَضَ ثلاثياً، يَنْغَضُ ويَنْغُضُ بالفتح والضم، فبمعنى تَحَرَّك، لا يتعدَّى يقال: نَغَضَتْ سِنَّه، أي: تَحَرَّكت، تَنْغُضُ نَغْضاً
ونُغوضاً. قال:
307 -
4- ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها
…
قوله: {عسى أَن يَكُونَ} يجوز أن تكونَ الناقصة، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على البعثِ والحشرِ المدلولِ عليهما بقوة الكلام، أو لتضمُّنِه في قوله «مَبْعوثون» ، و «أن يكونَ» خبرُها، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ مسندةً إلى «أنَّ» وما في حيِّزها، واسمُ «يكونَ» ضميرُ البعثِ كما تقدَّم.
وفي «قريباً» وجهان، أحدُهما: أنه خبر «كان» وهو وصفٌ على بابِه. والثاني: أنه ظرفٌ، أي: زماناً قريباً، وأن يكونَ «على هذا تامةٌ، أي: عسى أن يقع العَوْد في زمانٍ قريب.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنه بدلٌ من «قريباً» ، إذا اَعْرَبْنا «قريباً» ظرفَ زمان كما تقدم. الثاني: أنه منصوبٌ ب «يَكونَ» قاله أبو البقاء، وهذا مَنْ يُجيز إعمالَ الناقصةِ في الظرفِ، وإذا جَعَلْناها تامَّةً فهو معمولٌ لها عند الجميع. الثالث: أنه منصوبٌ بضميرِ المصدرِ الذي هو اسمُ «يكون» أي: عسى أن يكونَ العَوْدُ يوم يَدْعوكم. وقد منعه أبو البقاء قال: «لأنَّ الضميرَ لا يعمل» يعني عند البصريين، وأمَّا الكوفيون فيُعملون ضميرَ المصدرِ كمُظْهِرِه فيقولون: مروري بزيدٍ حَسَنٌ، وهو بعمروٍ قبيحٌ «وعندهم متعلِّق ب» هو «لأنَّه ضمير المرور، وأنشدوا قول زهير على ذلك:
307 -
5-
وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ
…
وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
ف» هو «ضميرُ المصدرِ، وقد تَعَلَّق به الجارُّ بعده، والبصريون يُؤَوِّلونه. الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر، أي: اذكُرْ يومَ يَدْعوكم. الخامس: أنه منصوبٌ بالبعثِ المقدَّر، قالهما أبو البقاء.
قوله: بحَمْدِه» فيه قولان، أحدُهما: أنها حالٌ، أي: تستجيبون حامِدِين، أي: منقادين طائعين. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يَدْعوكم» قاله أبو البقاء وفيه قَلَقٌ.
قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ} «إنْ» نافيةٌ، وهي معلِّقَةٌ للظنِّ عن العمل، وقلَّ مَنْ يذكرُ «إنْ» النافيةَ، في أدواتِ تعليق هذا الباب. و «قليلاً» يجوز أن يكونَ نعتَ زمانٍ أو مصدرٌ محذوفٌ، أي: إلا زماناً قليلاً، أو إلا لُبْثاً قليلاً.
قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي} : تقدَّم نظيرُه في إبراهيم.
قوله: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ} يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر، وذلك أنَّ قولَه:{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} وَقَعَ تفسيراً لقوله {التي هِيَ أَحْسَنُ} وبياناً لها، ويجوز أن لا تكونَ معترِضَةً بل مستأنفةٌ.
وقرأ طلحة «يَنْزِغ» بكسر الزاي وعما لغتان، كيَعرِشون ويَعْرُشون، قاله الزمخشري. قال الشيخ:«ولو مَثَّل ب» يَنْطَح «و» يَنْطِح «/ كأنه يعني من حيث إن لامَ كلٍ منهما حرفُ حَلْقٍ، وليس بطائلٍ.
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات} : في هذه الباءِ قولان، أظهرُهما: أنها تتعلَّقُ ب «أَعْلَمُ» كما تَعَلَّقَتْ الباءُ ب «أَعْلَمُ» قبلها، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تخصيصُ علمِه بمَنْ في السماوات والأرض فقط. والثاني: أنها متعلِّقَةٌ ب «يَعْلَمُ» مقدراً. قاله الفارسي محتجاً بأنه يَلْزَمُ مِنْ ذلك تخصيصُ عِلْمِه بمَنْ في السماوات والأرض، وهو وَهْمٌ، لأنه لا يَلْزَمُ من ذِكْرِ الشيءِ نَفْيُ الحكمِ عَمَّا عداه. وهذا هو الذي يقول الأصوليون: إنه مفهومُ اللقَب، ولم يَقُلْ به إلا أبو بكر الدقاق في طائفةٍ قليلة.
قوله: «زَبُورا» قد تقدَّم خلافُ القراءِ فيه، ونكَّره هنا دلالةً على التبعيضِ، أي: زَبُوراً من الزُّبُر، أو زَبُوراً فيه ذِكْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأُطْلِقَ على القطعةِ منه زَبورٌ، كما يُطْلَقُ على بعضِ القرآن، ويجوزُ أَنْ يكونَ «زَبُور» عَلَماً، فإذا دَخَلَتْ عليه أل كقولِه:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} [الأنبياء: 105]
كانت لِلَمْحِ الأصلِ كعبَّاس والعبَّاس، وفَضْل والفضل.
قوله تعالى: {الذين زَعَمْتُم} : مفعولا الزُّعم محذوفان لفَهْمِ المعنى، أي: زَعَمْتوهم آلهةً، وحَذْفُهما اختصاراً جائزٌ، واقتصاراً فيه خلافٌ.
قوله تعالى: {أولئك الذين يَدْعُونَ} : «أولئك» مبتدأٌ، وفي خبره وجهان، أظهرُهما: أنه الجملةُ مِنْ «يبتغون» ويكون الموصولُ نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمرادُ باسم الإِشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله. والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم، ويكون العائدُ على «الذين» محذوفاً، والمعنى: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم - أو يَدْعُونهم آلهةً، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يَبْتَغون.
ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون، فمفعولُ «يَدْعُون» محذوف.
والثاني: أن الخبرَ نفسُ الموصولِ، و «يَبْتَغُون» على هذا حالٌ مِنْ فاعل «يَدْعُون» أو بدلٌ منه. وقرأ العامَّةُ «يَدْعُون» بالغيبِ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو: هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم. وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول. وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب. وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة.
قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في «أيُّ» هذه وجهان، أحدُهما: أنها استفهاميةٌ.
والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ. فقال الزمخشري:«وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو» يَبْتغون «و» أيُّ «موصولةٌ، أي: يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ، أو ضُمِّن [يَبْتَغُون] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون، فكأنه قيل: يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ» . قلت: فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها، و «أَقْرَبُ» خبرُ «هو» واحتملت «أيُّ» حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً، وهو الأكثرُ فيها، وأن تكونَ مُعْرَبةً، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم. وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو «يَحْرُصون» ، فيكون «أيُّهم» مبتدأً و «أقربُ» خبرَه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ «يَحْرِص» يتعدَّى ب «على» قال تعالى:{إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} [النحل: 37]{أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] .
وقال أبو البقاء: «أيُّهم» مبتدأ، و «أقربُ» خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب ب «يدْعُونَ» ، ويجوز أن يكونَ «أيُّهم» بمعنى الذي، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في «يَدْعُوْن» .
قال الشيخ: «علًّق» يَدْعُون «وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فَصَلَ
بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة» . قلت: أمَّا كونُ «يَدْعُون» لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور.
وقال يونس: يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً، القلبيةِ وغيرِها. وأمَّا قولُه «فَصَل بالجملة الحالية» يعني بها «يَبْتَغُون» فَصَل بها بين «يَدْعون» الذي هو صلةُ «الذين» وبين معمولِه وهو {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ «يبتغون» حالاً، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول، وهذا قريب.
وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولة بدلاً من واو «يَدْعُون» ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو «يَبْتَغون» وهو الظاهر.
وقال الحوفي: «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» ابتداءٌ وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكونَ «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» / بدلاً من واو «يَبْتغون» . قلت: فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو «ينظرون» ، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى ب «إلى» ، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى ب «في» ، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه.
وقال ابن عطية: «وأيُّهم ابتداءٌ، و» أقربُ «خبرُه، والتقدير: نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه:» فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها «، أي: يتبارَوْن في القُرْبِ» . قال الشيخ: «
فَجَعَل المحذوفَ» نَظَرُهم ووَكْدُهم «وهذا مبتدأ، فإن جعلْتَ {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في موضعِ نصبٍ ب» نَظَرُهم «بقي المبتدأ بلا خبر، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [هو] الخبر لم يَصِحَّ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب، وإنْ جَعَلْتَ التقدير: نَظَرُهم في أيهم أقربُ، أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يُعَلِّق» .
قلت: فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ «أيّ» استفهاماً. الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري. الثاني: أنها مُعَلَّقَةٌ ل «يَدْعُون» كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها مُعَلِّقَةٌ ل «يَنْظرون» مقدَّراً، كما قاله الحوفيُّ. الرابع: أنها مُعَلَّقةٌ ل «نَظَرُهُمْ» كما قدَّره ابن عطية. واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً، الأول: البدلُ مِنْ واو «يَدْعُون» كما قاله أبو البقاء. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ واو «يَبْتَغون» كما قاله الجمهور.
قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} : «إن» نافيةٌ و «مِنْ» مزيدةٌ في المبتدأ لاستغراقِ الجنس. وقال ابنُ عطية: «هي لبيانِ الجنسِ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما قال الشيخ:» لأنَّ التي للبيان لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما، تُفَسّره كقوله:{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ، وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ «. ثم قال» ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس، ألا ترى أنه قال بعد ذلك:«وقيل: المرادُ الخصوصُ» .
وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه: {إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} .
والثاني: أنَّ شَرْطَ ذلك أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بأل الجنسية، وأن يَقَعَ موقعَها «الذي» كقولِه:{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] .
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلَاّ أَن كَذَّبَ} : «أنْ» الأولى وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍ على اختلاف القولين؛ لأنها على حَذْفِ الجارِّ، أي: مِنْ أَنْ نُرسل، والثانية وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بالفاعلية، أي: وما مَنَعَنا مِنْ إرسال الرسلِ بالآياتِ إلا تكذيبُ الأوَّلين، أي: لو أَرْسلنا الآياتِ المقترحةَ لقريش لأُهْلِكوا عند تذكيبِهم كعادةِ مَنْ قبلَهم، لكنْ عَلِمَ الله أنه يُؤْمِنُ بعضُهم، ويكذِّبُ بعضُهم مَنْ يومن، فلذلك لم يُرْسِلِ الآياتِ لهذه المصلحةِ.
وقَدَّر أبو البقاء مضافاً قبل الفاعلِ فقال: «تقديرُه: إلا إهلاكُ التكذيب، كأنه يعني أنَّ التكذيبَ نفسَه لم يمنعْ من ذلك، وإنما مَنَعَ منه ما يترتَّبُ على التكذيبِ وهو الإِهلاك، ولا حاجةَ إلى ذلك لاستقلالِ المعنى بدونه.
قوله:» مُبْصِرَة «حالٌ، وزيدُ بن علي يرفعُها على إضمارِ مبتدأ، اي: هي، وهو إسنادٌ مجازيٌّ، إذ المرادُ إبصارُ أهلِها، ولكنها لمَّا كانت سبباً في
الإِبصار نُسِب إليها. وقرأ قومٌ بفتحٍ الصاد، مفعولٌ على الإِسناد الحقيقي. وقتادة بفتح الميم والصاد، أي: مَحَلُّ إبصارٍ كقوله عليه السلام:» الولدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة «وكقوله:
307 -
6-. . . . . . . . .
…
والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفسِ المُنْعِمِ
أجرى هذه الأشياءَ مُجْرى الأمكنةِ نحو: أرضٌ مَسْبَعَة ومَذْأبَة.
قوله: {إِلَاّ تَخْوِيفاً} يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له، وأن يكونَ مصدراً في موضع الحال: إمَّا من الفاعل، أي: مُخَوِّفين أو من المفعولِ، أي: مُخَوِّفاً بها.
قوله تعالى: {والشجرة} : العامَّة على نصبِها نَسَقاً على «الرؤيا» ، و «الملعونةَ» نعت، قيل: هو مجازٌ؛ إذ المُراد: الملعونُ طاعِموها؛ لأنَّ الشجرةَ لا ذَنْبَ لها وهي شجرةُ الزقُّوم. وقيل: بل على الحقيقة، ولَعْنُها: إبعادُها مِنْ رحمة الله، لأنها تخرجُ في أصلِ الجحيم. وزيد بن علي برفعِها على الابتداء. وفي الخبر احتمالان، أحدُهما: هو محذوفٌ، أي: فتنة. والثاني: - قاله أبو البقاء- أنه قولُه {فِي القرآن} وليس بذاك.
قوله: «ونُخَوِّفُهم» قراءةُ العامَّةِ بنون العظمة. والأعمش بياء الغيبة.
قوله تعالى: {طِيناً} : فيه أوجهُ، أحدُها: أنه حالٌ من «لِمَنْ» فالعاملُ فيها «أَاَسْجُدُ» ، أو مِنْ عائد هذا الموصولِ، أي: خلقَته طِيْناً، فالعاملُ فيها «خَلَقْتَ» ، وجاز وقوعُ طين حالاً، وإن كان جامداً، لدلالتِه على الأصالةِ كأنه قال: متأصِّلاً من طين. الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ، أي: مِنْ طين، كما صَرَّح به في الآية الأخرى: / {وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] . الثالث: أن منتصبٌ على التمييز، قاله الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، ولا يظهرُ ذلك إذ لم يتقدَّم إيهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ.
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ} : قد ذُكِرَتْ مستوفاةً في الأنعام. وقال الزمخشري: «الكافُ ُللخطاب، و» هذا «مفعول به، والمعنى: أَخْبِرْني عن هذا الذي كَرَّمْتَه علي، أي: فَضَّلْتَه لِمَ كَرَّمْتَه وأن خيرٌ منه؟ فاختصر الكلامَ» . وهذا قريبٌ من كلام الحوفي.
وقال ابنُ عطية: «والكافُ في» أَرَأَيْتُكَ «حرفُ خطابٍ لا موضعَ لها من الإِعراب، ومعنى» أَرَأَيْتَ «أتأمَّلْتَ ونحوه، كأنَّ المخاطِبَ يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [بعدُ] . وقال سيبويه:» وهي بمعنى أَخْبِرْني، ومَثَّل بقوله:«أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو؟» وقولُ سيبويهِ صحيحٌ، حيث يكون
بعدها استفهامٌ كمثالِه، وأمَّا في الآية فهي كما قلتُ، وليست التي ذكر سيبويهِ «. قلت: وهذا الذي ذكره ليس بمُسَلَّمٍ، بل الآيةُ كمثالِه، غايةُ ما في البابِ أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ وهو الجملةُ الاستفهاميةُ المقدَّرةُ، لانعقادِ الكلام مِنْ مبتدأ وخبر، لو قلت: هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ لِمَ كرَّمته؟
وقال الفراء:» الكافُ في محلِّ نصب، أي «أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك: أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ» .
وقال أبو البقاء: «والمفعولُ الثاني محذوفٌ، تقديرُه: تفضيلَه أو تكريمه» . قلت. وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام «.
قال الشيخ:» ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً «. قلت: يَرُدُّ ذلك التزامُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا.
قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، هذا كلُّه في حرفِ هذه
السورةِ، أمَّا الذي في المنافقين في قولِه {لولا أخرتني} [الآية: 10] فأثبتَه الكلُّ لثبوتِها في الرسمِ الكريم.
قوله:» لأحْتَنِكَنَّ «جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام. ومعنى» لأحْتَنِكَنَّ «لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه. يقال: حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها، أي: فَعَل بها ذلك، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض: أكلَ نباتها قال:
307 -
7- نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ
…
جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ
واحتنكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ
…
وحكى سيبويه:» أحْنَكُ الشاتَيْن، أي: آكَلُهما، أي: أكثرُهما أَكْلاً.
قوله تعالى: {اذهب فَمَن} : تقدَّم أنَّ الباءَ تُدْغَمُ في الفاءِ في ألفاظٍ منها هذه، عند أبي عمروٍ والكسائيِّ وحمزةَ في رواية خلَاّدٍ عنه بخلافٍ في قوله:{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك} [الحجرات: 11] .
قوله: «جزاؤُكم» يجوز أن يكونَ الخطابُ التغليبَ لأنه تقدَّم غائبٌ ومخاطبٌ في قولِه: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فغلَّب المخاطَب، ويجوز أن يكونَ الخطابُ مراداً به «مَنْ» خاصةً ويكونُ ذلك على سبيل الالتفات.
قوله: «جَزاءً» في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ،
الناصبُ له المصدرُ قبله، وهو مصدرٌ مبيِّن لنوعِ المصدرِ الأول. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ أيضاً لكن بمضمرٍ، أي: يُجازَوْن جزاءً. الثالث: أنه حالٌ موطِّئة كجاء زيد رجلاً صالحاً. الرابع: أنه تمييزٌ وهو غيرُ مُتَعَقَّل.
و «مَوْفُوراً» اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه، ووفَرَ يُستعمل متعدِّياً، ومنه قولُ زهير:
307 -
8- ومن يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ
…
يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشتم يُشْتَمِ
والآيةُ الكريمةُ من هذا، ويُستعمل لازماً يقال: وَفَرَ المالُ.
قوله تعالى: {واستفزز} : جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه «اذهَبْ» . و {مَنِ استطعت} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم. والثاني: أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ ب «استطعْتَ» قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ لأنَّ «اسْتَفْزِزْ» يطلبه مفعولاً به، فلا يُطقع عنه، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق.
والاسْتِفْزاز: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده. قال:
307 -
9- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه
…
ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ
ومنه سُمِّي ولدُ البقرة «فزَّاً» . قال الشاعر:
308 -
0- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ
…
خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
وأصلُ الفَزِّ: القَطْعُ، يقال: تَفَزَّز الثوبُ، أي: تقطَّع.
قوله: «وأَجْلِبْ» ، أي: اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال: أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ، أي: جَمَعَ عليه الجموعَ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: توعَّده بشرٍّ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: أعان، وأجلب، أي: صاح صِياحاً شديداً، ومنه الجَلَبَة، أي: الصِّياح.
قوله: «وَرَجِلِك» قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ، والباقون بسكونها، فقراءة حفصٍ «رَجِل» فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال: رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً، فيكون مثل: حَذِر وحَذُر، ونَدِس ونَدُس، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ. وقال ابن عطية: هي صفةٌ يقال: فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ، ومنه قولُ الشاعر:
308 -
1-. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . رَجِلاً إلا بأصحابي
قلت: يشير إلى البيتِ المشهور وهو:
فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي
…
إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي
أراد: فارساً ولا راجلاً.
وقال الزمخشريُّ: «على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: وجَمْعك الرَّجِلُ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ: حَذُر وحَذِر، ونَدُس ونَدِس، وأخواتٍ لهما» .
وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ «رَجِل» بكسر الجيم أو ضمِّها، والمشهورُ: أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب. والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً.
وقرأ عكرمةُ «ورِجالك» جمع رَجِل بمعنى راجِل، أو جمع راجِل كقائم وقيام. وقُرِئ «ورُجَّالك» بضمِّ الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب.
والباء في «بخَيْلِك» يجوز أن تكونَ الحالية، أي: مصاحَباً بخيلك، وأن تكون مزيدةً كقوله:
308 -
2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وقد تقدَّم في البقرة.
قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان} من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال: وما تَعِدُهم، بالتاء من فوق.
قوله: {إِلَاّ غُرُوراً} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ، الأصل: إلا وَعْداً غروراً، فيجيء فيه ما في «رجلٌ عَدْلٌ» ، أي: إلا وَعْداً ذا غرور، أو على المبالغة أو على: وعداً غارَّاً، ونسب الغرورَ إليه مجازاً. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور. الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساع، أي: ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه.
قوله تعالى: {إِلَاّ إِيَّاهُ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لم يَنْدَرِجْ فيما ذُكِر، إذ المرادُ به آلهتُهم من دون الله. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنهم كانوا يَلْجَؤون إلى آلهتِهم وإلى اللهِ تعالى.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ} : استفهامُ توبيخٍ وتقريعٍ. وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه، أي: أَنَجَوْتم فَأَمِنْتُمْ.
قوله: {جَانِبَ البر} فيه وجهان أظهرهما: أنه مفعولٌ به كقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] . والثاني: أنه منصوبٌ على الظرف. و «بكم» يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: مصحوباً بكم، وأَنْ تكونَ للسببية. قيل: ولا يَلْزَمُ مِنْ
خَسْفِه بسببهم أن يَهْلَكوا. وأُجيب بأنَّ المعنى: جانبَ البر الذي أنتم فيه فيلزم بخَسْفِه هلاكُهم، ولولا هذا التقديرُ لم يكنْ في التوعُّدِ به فائدةٌ.
قوله: {أَن يَخْسِفَ} «أو يُرْسِلَ» «أن يُعِيْدَكم» فَيُرْسِلَ «» فَيُغرْقكم «قرأ هذه [جميعَها] بنون العظمة ابنُ كثير وأبو عمروٍ، والباقون بالياءِ فيها على الغيبة. فالقراءةُ الأولى على سبيل الالتفاتِ مِن الغائبِ في قولِه {رَّبُّكُمُ} [الإِسراء: 66] إلى آخر، والقراءةُ الثانيةُ على سَنَنِ ما تقدَّم من الغَيْبَةِ المذكورة.
قوله:» حاصِباً «، أي: ريحاً حاصِباً، ولم يؤنِّثْه: إمَّا لأنه مجازيٌّ، أو على النسَبِ، أي: ذاتَ حَصْبٍ. والحَصْبُ: الرميُ بالحَصَى وهي الحجارةُ الصغار. قال الفرزدق:
308 -
3- مُسْتَقْبِلين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُهم
…
حَصْباءُ مثلُ نَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
والحاصِبُ أيضاً: العارِضُ الذي يَرْمِي البَرَد.
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ} /: يجوز أَنْ تكونَ المتصلة، أي: أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أَنْ تكونَ المنقطعةَ، و {أَن يُعِيدَكُمْ} مفعولٌ به ك {أَن يَخْسِفَ} .
قوله «تارةً» بمعنى مرةً وكَرَّة، فهي مصدرٌ، ويُجمع على تِيَرٍ وتاراتٍ. قال الشاعر:
308 -
4- وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً
…
فَيَبْدُ وتارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
وألفُها تحتمل أن تكونَ عن واوٍ أو ياء. وقال الراغب: وهو فيما قيل: مِنْ تارَ الجُرْحُ: التأَمَ «.
قوله:» قاصِفاً «القاصِفُ يحتمل أن يكون مِنْ قَصَفَ متعدياً، يقال: قَصَفَتِ الريحُ الشجرَ تَقْصِفها قَصْفاً. قال أبو تمام:
308 -
5- إنَّ الرياحَ إذا ما أَعْصَفتْ قَصَفَتْ
…
عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتَمِ
فالمعنى: أنها لا تُلْفِي شيئاً إلا قَصَفَتْه وكَسَرَتْه. والثاني: أن يكون مِنْ قَصِفَ قاصراً، أي: صار له قَصِيف يقال: قَصِفَتِ الريحُ تَقْصَفُ، أي: صَوَّتَتْ. و {مِّنَ الريح} نعت.
قوله: {بِمَا كَفَرْتُمْ} يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي، والباءُ للسببية، أي: بسببِ كفرِكم، أو بسبب الذي كفَرْتم به، ثم اتُّسِع فيه فَحَذِفت الباءُ فوصل الفعلُ إلى الضميرِ، وإنما احتيج إلى ذلك لاختلافِ المتعلق.
وقرأ أبو جعفرٍ ومجاهد» فَتُغْرِقَكم «بالتاء من فوقُ أُسْند الفعلُ لضمير الريح. وفي كتاب الشيخ» «فتُغْرِقَكم بتاء الخطاب مسنداً إلى»
الريح «. والحسنُ وأبو رجاء بياء الغيبة وفتح الغين وشدِّ الراء، عَدَّاه بالتضعيف والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب» . قلت: وهذا: إمَّا سهوٌ، وإمَّا تصحيفٌ من النسَّاخ عليه؛ كيف يَسْتقيم أن يقولَ بتاءِ الخطاب وهو مسندٌ إلى ضمير الريح، وكأنه أراد بتاء التأنيث فسبقه قلمُه أو صَحَّف عليه غيرُه.
وقرأ العامَّة «الريحِ» بالإِفراد، وأبو جعفر:«الرياح» بالجمع.
قوله: {بِهِ تَبِيعاً} يجوز في «به» أن يَتَعَلَّق ب «تَجِدوا» ، وأن يتعلَّقَ بتبيع، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ تبيع. والتَّبِيْع: المطالِبُ بحقّ، المُلازِمُ، قال الشمَّاخ:
308 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كما لاذَ الغَريمُ من التَّبيعِ
وقال آخر:
308 -
7- غَدَوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فكأنَّها
…
ضوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهنَّ تَبيعُ
قوله تعالى: {كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} : عَدَّاه بالتضعيفِ، وهو مِنْ كَرُم بالضمِّ كشَرُف، وليس المرادُ من الكرمِ في المال.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ «فَضَّلْناهم» ، أي: فَضَّلْناهم بالثوابِ يوم نَدْعُو. قال ابن عطية في تقريره: «وذلك أنَّ فَضْلَ البشرِ على سائرِ الحيوان يوم القيامةِ بيِّنٌ؛ إذ هم المُكَلَّفون المُنَعَّمون المحاسَبون الذين لهم القَدْرُ. إلا أنَّ هذا يَرُدُّه أن الكفار [يومئذٍ] أَخْسَرُ مِنْ كلِّ حيوان، لقولِهم:{ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] .
الثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ فيه اذكر، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية. قلت: وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ.
الثالث: أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وإنما بُنِيَ لإِضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية، والخبرُ الجملةُ بعده. قال ابنُ عطية في تقريره:» ويَصِحُّ أَنْ يكونَ «يوم» منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} إلى قوله {وَمَن كَانَ} . قال الشيخ:«قوله منصوبٌ على البناء» كان ينبغي أن يقول: مبنيَّاً على الفتح، وقوله «لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن» ليس بجيدٍ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ، والكوفيون يُجيزون بناءَه. وقوله:«والخبر في التقسيم» إلى آخره، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء «. قلت: الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به، أي: فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه.
الرابع: أنه منصوبٌ بقولِه» ثم لا تجدوا «قاله الزجَّاج. الخامس: أنه
منصوبٌ ب» يُعيدكم «مضمرةً، أي: يُعيدكم يومَ نَدْعو. السادس: أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه {وَلَا يُظْلَمُونَ} بعده، أي: ولا يُظْلَمون يوم ندعو، قاله ابن عطية وأبو البقاء. السابع: أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه {متى هُوَ} [الإِسراء: 51] . الثامن: أنه منصوبٌ بما تقدَّمه مِنْ قولِه تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإِسراء: 52] . التاسع: أنه بدلٌ مِنْ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإِسراء: 52] . وهذان القولان ضعيفان جداً لكثرة الفواصل. العاشر: أنه مفعولٌ به بإضمار» اذكر «، وهذا -وإن كان أسهلَ التقاديرِ- أظهرُ ممَّا تقدم؛ إذ لا بُعْدَ فيه ولا إضمارَ كثيرٌ.
وقرأ العامَّة» نَدْعو «بنون العظمة، ومجاهدٌ» يَدْعُو «بياء الغيبة، أي: الله تعالى أو المَلَك. و» كلَّ «نصبٌ مفعولاً به على القراءتين.
وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه» يُدْعَى «مبنياً للمفعول،» كلُّ «مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ، وفيما نقله عنه غيرُه» يُدْعَو «بضمِّ الياء وفتح العين، بعدها واوٌ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: أن الأصلَ: يُدْعَوْن فَحُذِفت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام:» لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا، ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا «
وقوله:
308 -
8-
أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ
…
وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي
و «كلٌّ» مرفوعٌ بالبدلِ من الواوِ التي هي ضميرٌ، أو بالفاعليةِ والواوُ علامةٌ على لغةِ «يتعاقبون فيكمْ ملائكةٌ» .
والتخريجُ الثاني: أنَّ الأصلَ «يُدْعَى» كما نَقَله عنه الدانيُّ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً، وهي لغةٌ لقومٍ، يقولون: هذه أفْعَوْ وعَصَوْ، يريدون: أَفْعى وعَصا، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. و «كلُّ» مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا.
قوله: «بإمامِهم» يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء، أي: باسمِ إمامهم، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: نَدْعُوهم مصاحبين لكتابهم. والإِمام: مَنْ يُقْتَدَى به. وقال الزمخشري «» ومن بِدَع التفاسير: أن الإِمامَ جمع «أُمّ» وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى «قال:» وليت شعري أيهما أَبْدَعُ: أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه؟ «.
قلت: وهو معذورٌ لأن» أُمّ «لا يُجْمع على» إمام «، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله {ياعيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 110] ، وأَخْبرعنه كذلك نحو:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الصف: 6] ، وفي ذلك
غَضاضةٌ من أميرِالمؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَه.
قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ} يجوز أن تكونَ شرطيةً، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهه بالشرط. وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله {أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فَأُفْرِد، وعلى المعنى ثانياً في قولِه:» فأولئك «فَجُمِع.
قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه} : يجوز في «مَنْ» ما جاز في «مَنْ» قبلها. وأمال الأخَوان وأبو بكر «أعمى» في الموضعين من هذه السورة، وأبو عمروٍ أمال الأولَ دون الثاني، والباقون فتحوهما، فالإِمالةُ لكونِهما من ذوات الياء، والتفخيمُ لأنه الأصل. وأمَّا أبو عمروٍ فإنه أمال الأولَ لأنه ليس أفعلَ تفضيلٍ فألفُه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً، والأطرافُ محلُّ التغيير غالباً، وأمَّا الثاني فإنه للتفضيلِ ولذلك عَطَف عليه «وأَضَلَّ» فألفُه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ «مِنْ» الجارَّةَ للمفضول كالملفوظ بها، وهي شديدةُ الاتصالِ بأَفْعَلِ التفضيلِ فكأنَّ وقعت حَشْواً فتحصَّنَتْ عن التغيير.
قلت: كذا قرَّره الفارسيُّ والزمخشري، وقد رُدَّ هذا بأنهم أمالوا {وَلَا أدنى مِن ذَلِكَ} [المجادلة: 7] مع التصريح ب «مِنْ» فَلأَنْ يُميلوا «أَعْمى» مقدَّراً معه «مِن» أَوْلَى وأَحْرَى.
وأمَّا «أَعْمى» في طه فأماله الأخَوان وأبو عمرو، ولم يُمِلْه أبو بكر، وإن كان يُمليه هنا، وكأنه جَمَعَ بين الأمرين وهو مقيَّدٌ باتِّباع الأثر. وقد فَرَّق
بعضُهم: بأنَّ «أعمى» فيه طه مِنْ عَمَى البصرِ، وفي الإِسراء مِنْ عَمَى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجَهْل فأُمِيلَ هنا، ولم يُمَلْ هناك للفرقِ بين المعنيين. قلت: والسؤال باقٍ؛/ إذ لقائلٍ أن يقولَ: فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإِمالةِ، ولو عُكِسَ الأمرُ كان الفارقُ قائماً.
قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} : «إنْ» هذه فيها المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين: أنها مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ بينها وبين «إنْ» النافية، ولهذا دَخَلَتْ على فعلٍ ناسخٍ، ومذهبُ الكوفيين أنها بمعنى «ما» النافيةِ، واللامُ بمعنى «إلا» . وضُمِّنَ «يَفْتِنُونَك» معنى يَصْرِفُونك «فلهذا عُدِّي ب» عن «تقديرُه: لَيَصْرِفُونَكَ بفتنتِهم. و» لتفترِيَ «متعلِّقٌ بالفتنةِ.
قوله: {وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ} » إذن «حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها، و» لاتَّخذوك «جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: إذن واللهِ لاتَّخذوك، وهو مستقبلٌ في المعنى، لأنَّ» إذَنْ «تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ. وهذا كقولِه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ} [الروم: 51] ، أي: ليَظَلُّنَّ. وقولُ الزمخشري:» أي: ولو اتَّبَعْتَ مرادَهم لاتَّخذُوك «تفسيرُ معنى لا إعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ» لاتَّخَذُوك «جوابٌ ل» لو «محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه.
قوله تعالى: {تَرْكَنُ} : العامَّة على فتح الكاف مضارع رَكِنَ بالكسر، وقتادة وابنُ مُصَرِّف وابنُ أبي إسحاق «تَرْكُن» بالضمِّ مضارعَ رَكَنَ بالفتح، وهذا من التداخل، وقد تقدَّم تحقيقه في أواخر هود.
وقوله: «شيئاً» : منصوبٌ على المصدر، وصفتُه محذوفة، أي: شيئاً قليلاً من الرُّكون.
قوله تعالى: {ضِعْفَ الحياة} : قال الزمخشري: فإن قلت «كيف حقيقةُ هذا الكلام؟ قلت: أصلُه: لأَذَقْناك عذابَ الحياةِ وعذابَ المماتِ؛ لأنَّ العذابَ عذابان، عذابٌ في المماتِ وهو عذابُ القبرِ، وعذابٌ في حياةِ الآخرةِ وهو عذاب النار، والضِّعْفُ يُوصَفَ به، نحوَ قولِه تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} [الأعراف: 38] يعني عذاباً مُضاعَفاً، فكأنَّ أصلَ الكلامِ: لأَذَقْناك عذاباً ضِعْفاً في الحياة، وعذاباً ضِعْفاً في المَمَات، ثم حُذِف الموصوفُ، وأُقيمت الصفةُ مُقامه وهو الضَّعْف، ثم أُضِيْفَتِ الصفة إضافةَ الموصوف فقيل: ضِعْفَ الحياة، وضِعْفَ المماتِ، كما لو قيل: أليمَ الحياةِ، وأليم الممات» . والكلامُ في «إذن» و «لأَذَقْناك» كما تقدَّم في نظيره.
قوله تعالى: {وَإِذاً لَاّ يَلْبَثُونَ} : قرأ العامَّةُ برفع الفعل بعد «إذَنْ» ثابتَ النون، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامَّة. ورفعُهُ وعدمُ
إعمالِ «إذن» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أنها توسَّطَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه. قال الزمخشري:«فإن قلت» ما وجهُ القراءتين؟ قلت: أمَّا الشائعةُ -يعني برفعِ الفعلِ - فقد عُطِف فيها الفعلُ على الفعلِ، وهو مرفوعٌ لوقوعِه خبرَ كاد، وخبرُ «كاد» واقعٌ موقعَ الاسم «. قلت: فيكون» لا يَلْبِثُون «عطفاً على قولِه» لِيَسْتَفِزُّونك «.
الثاني: أنها متوسطةٌ بين قسمٍ محذوفٍ وجوابِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: ووالله إذن لا يلبثون.
الثالث: أنها متوسطةٌ بين مبتدأ محذوفٍ وخبرِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون.
وقرأ اُبَيٌّ بحذفِ النون، فَنَصْبُه بإذن عند الجمهور، وب» أَنْ «مضمرةً بعدها من غيرِهم، وفي مصحف عبد الله» لا يَلْبَثُوا «بحذفِها. ووجهُ النصبِ أنه لم يُجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ولا جواباً ولا خبراً. قال الزمخشري:» وأمَّا قراءةُ اُبَيّ ففيها الجملةُ برأسها التي هي: إذاً لا يَلْبثوا، عَطَفَ على جملة قوله {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} .
وقرأ عطاء {لَاّ يَلَبَثُونَ} بضمِّ الياء وفتحِ اللام والباء، مشددةً مبنياً للمفعول، مِنْ لَبَّثَه بالتشديد. وقرأها يعقوب كذلك إلا أنه كسرَ الباءَ، جَعَلَه مبنياً للفاعل.
قوله: «خِلافَك» قرأ الأخَوان وابنُ عامر وحفصٌ: «خِلافَك» بكسر الخاء وألفٍ بعد اللام، والباقون بفتح الخاء وسكونِ اللام. والقراءتان بمعنى
واحدٍ. وأنشدوا في ذلك:
308 -
9- عَفَتِ الديارُ خِلافَهم فكأنما
…
بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهنَّ حََصِيْراً
وقال تعالى: {خِلَافَ رَسُولِ الله} [التوبة: 81] والمعنى: بعد خروجك. وكثُر إضافةُ قبل وبعد ونحوِهما إلى أسماءِ الأعيان على حَذْفِ مضافٍ، فيُقَدَّر من قولك: جاء زيدٌ قبل عمروٍ: أي: قبل مجيئِه.
قوله: {إِلَاّ قَلِيلاً} يجوز أن تكونَ صفةً لمصدرٍ أو لزمانٍ محذوف، أي: لُبْثاً قليلاً، أو إلا زماناً قليلاً.
قوله تعالى: {سُنَّةَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن ينتصِبَ على المصدرِ المؤكَّد، أي: سَنَّ الله ذلك سُنَّةَ، أو سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ. الثاني: - قاله الفراء - أنه على إسقاطِ الخافضِ، أي: كسُنَّةِ اللهِ، وعلى هذا لا يُوقف على قولِه «إلا قليلاً» . الثالث: أن ينتصبَ على المفعول به، أي: اتبعْ سُنَّةَ.
قوله تعالى: {لِدُلُوكِ} : في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى «بَعْد» ، أي: بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ، ومثلُه قول متمم بن نويرة:
309 -
0-
فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً
…
لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً
ومثلُه قولُهم: «كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ» . والثاني: أنها على بابها، أي: لأجلِ دُلُوك. قال الواحدي: «لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس» .
والدُّلوك: مصدرُ دَلَكت الشمسُ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ، أشهرُها: أنه الزوالُ، وهو نِصْفُ النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب. قال الزمخشري: «واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها» . قلت: وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ. والثالث: أنه الغروبُ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه:
309 -
1- هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ
…
ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ
أي: غَرَبَتْ بَراحِ، وهي الشمسُ. وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة:
309 -
2- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها
…
نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ
أي: الغارِبات: وقال الراغب: دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب، وهو مِنْ قولِهم: دَلَكْتُ الشمسَ: دفعتُها بالرَّاح، ومنه: دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ، ودَلَكْتُ الرجلَ: ماطَلْتُه، والدَّلُوك: ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ، والدَّلِيْكُ: طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر «.
قوله: {إلى غَسَقِ اليل} في هذا الجارِّ وجهان، أحدٌهما: أنه متعلِّقٌ ب أَقِمْ» فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ، وكذلك اللامُ في «لِدُلوك» متعلقةٌ به أيضاً. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الصلاة» ، أي: أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ.
والغَسَقُ: دخولُ أولِ الليل، قاله ابنُ شميل. وأنشد:
309 -
3- إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا
…
واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا
وقيل: هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه، وأصلُه من السَّيَلان: غَسَقَتِ العين، أي: سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال:
309 -
4- ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ
…
حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ
ويُقال: غَسَقَتِ العينُ: امتلأَتْ دَمْعاً، وغَسَقَ الجرحُ: امتلأَ دَماً، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ. والغاسِقُ في قوله:{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3] قيل: المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ. وقيل: الليل. والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار. ويُقال: غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ، ودَجَى وأَدْجَى، وغَبَشَ وأَغْبَشَ، نقله الفرَّاء.
قوله: {قُرْآنَ الفجر} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على «الصلاة» ، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.
قوله تعالى: {وَمِنَ اليل} : في «منْ» هذه وجهان، أحدُهما: أنها متعلقةٌ ب «تَهَجَّدْ» ، أي: تَهَجَّدْ بالقرآنِ بعضَ الليل، والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: وقُمْ قَوْمةً من الليل، أو واسهرْ من الليل، ذَكَرهما الحوفيُّ. وقال الزمخشري:«وعليك بعضَ الليل فتهَجَّدْ به» فإنْ كان أراد تفسيرَ المعنى فقريبٌ، وإن أراد تفسيرَ الإِعراب فلا يَصِحُّ لأنَّ المُغْرَى به لا يكون حرفاً، وجَعْلُه «مِنْ» بمعنى بعض لا يَقْتضي اسميَّتَها، بدليل أنَّ واوَ «مع» ليسَتْ اسماً بإجماعٍ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو «مع» . /
والضميرُ في «به» الظاهرُ عَوْدُه على القرآنِ من حيث هو، لا بقيد إضافتِه إلى الفجر. والثاني: أنها تعودُ على الوقت المقدَّرِ، أي: وقُمْ وقتاً من الليل فتهَجَّدْ بذلك الوقتِ، فتكونُ الباءُ بمعنى «في» .
قوله «نافِلَةً» فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مصدرٌ، أي: تَتَنَفَّلُ نافلةً لك على الصلواتِ المفروضةِ. والثاني: أنها منصوبةٌ ب «تَهَجَّدْ» لأنَّه في معنى تَنَفَّلْ، فكأنه قيل: تنفَّل نافلة. والنَّافِلَةُ، مصدرٌ كالعاقِبة والعافِية. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحالِ، أي: صلاةَ نافِلَةٍ، قاله أبو البقاء وتكون حالاً من الهاء في «به» إذا جَعَلْتَها عائدةً على القرآن لا على وقتٍ مقدر. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ بها، وهو ظاهرُ قولِ الحوفيِّ فإنه قال:«ويجوز أن ينتصِبَ» نافلةً «بتهجَّدْ، إذا ذَهَبْتَ بذلك على معنى: صَلِّ به نافلةً، أي: صَلِّ نافِلَةً لك» .
والتهَجُّدُ: تَرْكُ الهُجُودِ وهو النَّوْمُ، وتَفَعَّل يأتي للسَّلْب نحو: تَحَرَّجَ وتَأَثَّمَ، وفي الحديث:«كان يَتَحَنَّثُ بغارِ حراءٍ» وفي الهُجود خلافٌ بين أهل اللغةِ فقيل: هو النوم. قال:
309 -
5-
وبَرْكُ هُجودٍ قد أثارَتْ مَخافتي
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر:
309 -
6- ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجودُ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر:
309 -
7- ألا زارَتْ وأهلُ مِنَىً هُجودُ
…
وليت خيالَها بمِنَىً يعودُ
فَهُجُودٌ: نيامٌ، جمعُ «هاجِد» كساجِد وسُجود. وقيل: الهُجود: مشتركٌ بين النائِمِ والمُصَلِّي. قال ابن الأعرابي: «تَهَجَّدَ: صلَّى من الليل، وتَهَجَّدَ: نامَ» ، وهو قول أبي عبيدةَ واللَّيْث.
قوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً} في نصب «مَقاماً» أربعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثُك في مَقام. الثاني: أن ينتصِبَ بمعنى «يَبْعَثُك» لأنه في معنى يُقيمك، يقال: أُقِيم مِنْ قبرِه وبُعِث منه، بمعنىً فهو نحو: قعد جلوساً. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يَبْعَثُك ذا مقامٍ محمودٍ. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه مقدَّرٌ، أي: فيقوم مقاماً.
و «عَسَى» على الأوجهِ الثلاثةِ دونَ الرابع يتعيَّن فيها أن تكونَ
التامَّةَ، فتكونَ مسندةً إلى «أنْ» وما في حَيِّزها إذ لو كانت ناقصةً على أَنْ يكونَ {أَن يَبْعَثَكَ} خبراً مقدماً، و «ربُّك» اسماً مؤخراً، لَزِمَ من ذلك محذورٌ: وهو الفصلُ بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولِها، فإنَّ «مَقاماً» على الأوجه الثلاثةِ الأُوَلِ منصوبٌ ب «يَبْعَثُكَ» وهو صلةٌ ل «أَنْ» فإذا جَعَلْتَ «رَبُّك» اسمَها كان أجنبياً من الصلة فلا يُفْصَلُ به، وإذا جَعَلْتَه فاعِلاً لم يكن أجنبياً فلا يُبالَى بالفصلِ به.
وأمَّا على الوجه الرابع فيجوز أن تكونَ التامَّةَ والناقصةَ بالتقديم والتأخير لعدم المحذورِ؛ لأنَّ «مقاماً» معمولٌ لغير الصلة، وهذا من محاسِنِ صناعة النحو، وتقدَّم لك قريبٌ مِنْ هذا في سورةِ إبراهيم عليه السلام في قولِه تعالى:{أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ} [إبراهيم: 10] .
قوله تعالى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} : يحتمل أن يكونَ مصدراً، وأن يكونَ ظرفَ مكان وهو الظاهر. والعامَّةُ على ضم الميم فيهما لسَبْقهما فعلٌ رباعي. وقرأ قتادة وأبو حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة وحميد بفتحِ الميمِ فيهما: إمَّا لأنهما مصدران على حَذْفِ الزوائد ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]، وإمَّا لأنهما منصوبان بمقدَّرٍ موافقٍ لهما تقديره: فادْخُلْ مَدْخَلَ واخرُجْ مَخْرَج. وقد تقدَّم هذا مستوفى في قراءةِ نافع في سورة النساء، وأنه قَرَأ كذلك في سورة الحج.
ومُدْخَلُ صِدْقٍ ومُخْرَجُ صِدْقٍ من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من
إضافةِ الموصوف لصفته، لأنه يُوصف به مبالغةً.
قوله: «سُلْطاناً» هو المفعولُ الأول للجَعْلِ، والثاني أحدُ الجارَّيْن المتقدَّمين، والآخرُ متعلِّقٌ باستقراره. و «نصيراً» يجوز أن يكون مُحَوَّلاً مِنْ فاعِل للمبالغةِ، وأن يكونَ بمعنى مفعول.
والزُّهُوق: الذَّهابُ والاضمحلال قال:
309 -
8- ولقد شَفَى نَفْسي وأبرَأَ سُقْمَها
…
إقدامُه بمَزَالَةٍ لم يَزْهَقِ
يقال: زَهَقَتْ نَفْسي تَزْهَقُ زُهوقاً بالضم. وأمَّا الزَّهوق بالفتح فمثالُ مبالَغَةٍ كقوله:
309 -
9- ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله تعالى: {مِنَ القرآن} : في «مِنْ» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله الزمخشري، وابنُ عطية وأبو البقاء. ورَدَّ الشيخُ عليهم: بأنَّ التي للبيان لا بد أن يتقدَّمَها ما تُبَيِّنُه، لا أَنْ تتقدَّمَ هي عليه، وهنا قد وُجِدَ تقديمُها عليه.
الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي قال: «لأنه يَلْزَمُ أن لا يكونَ بعضُه
شفاءً» . وأُجيب عنه: بأنَّ إنزالَه إنما هو مُبَعَّضٌ. وهذا الجوابُ ليس بظاهرٍ. وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يَشْفي من المرضِ. قلت: وهذا قد وُجِد بدليل رُقْيَةِ بعضِ الصحابةِ سَيِّدَ الحيِّ الذي لُدِغ، بالفاتحةِ فشُفي.
الثالث: أنها لابتداءِ الغاية وهو واضح.
والجمهور على رفع «شِفاءٌ/ ورحمةٌ» خبرين ل «هو» ، والجملةُ صلةٌ ل «ما» وزيدُ بن علي بنصبهما، وخُرِّجَتْ قراءتُه على نصبِهما على الحال، والصلةُ حينئذٍ «للمؤمنين» وقُدِّمَتْ الحالُ على عاملها المعنويِّ كقولِه {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] في قراءةِ مَنْ نصب «مَطْوِيَّاتٍ» . وقولِ النابغة:
310 -
0- رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقِبي أَدراعَهم
…
فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذارِ
وقيل: منصوبان بإضمارِ فعلٍ، وهذا [عند] مَنْ يمنع تقديمَها على عاملِها المعنوي. وقال أبو البقاء:«وأجاز الكسائيُّ:» ورحمةً «بالنصب عطفاً على» ما «. فظاهرُ هذا أن الكسائيَّ بَقَّى» شفاء «على رفعِه، ونَصَبَ» رحمة «فقط عطفاً على» ما «الموصولة كأنه قيل: ونُنَزِّل من القرآن رحمةً، وليس في نَقْله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً. وتقدَّم الخلاف [في] » وننزل «
تخفيفاً وتشديداً. والعامَّة على نونِ العظمة. ومجاهد» ويُنْزِل «بياء الغيبة، أي: الله.
قوله تعالى: {وَنَأَى} : قرأ العامَّةُ بتقديمِ الهمزةِ على حرف العلة مِن النَّأْي وهو البُعْدُ. وابن ذكوان - ونقلها الشيخ عن ابن عامر بكمالِه-: «ناءَ» بتقديم الألف على الهمزة. وفيها تخريجان أحدُهما: أنها مِنْ ناء يَنُوْءُ أي نهض. قال الشاعر:
310 -
1- حتى إذا ما التأَمَتْ مَفاصِلُهْ
…
وناءَ في شِقِّ الشِّمالِ كاهلُهْ
والثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ نأى، ووزنُه فَلَع كقولهم في «رأى» راءَ، إلى غيرِ ذلك، ولكن متى أمكن عدمُ القلبِ فهو أَوْلَى. وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في سورة حم السجدة.
وأمال الألفَ إمالةً محضةً الأخَوان وأبو بكر عن عاصم، وبينَ بينَ بخلافٍ عنه السوسيُّ، وكذلك في فُصِّلت، إلا أبا بكرٍ فإنه لم يُمِلْه.
وأمال فتحةَ النونِ في السورتين خَلَف، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائي.
قوله تعالى: {على شَاكِلَتِهِ} : متعلِّقٌ ب «يَعْمل» . والشَّاكِلَةُ: أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ: أنها مذهبه الذي يُِشاكل حالَه في الهدى والضلالة مِنْ قولهم: «طريقٌ ذو شواكل» وهي الطرقُ التي تَشَعَّبَتْ منه، والدليلُ عليه قولُه {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} . وقيل: على دينه. وقيل: خُلُقه. وقال ابن عباس: «جانبه» . وقال الفراء: «هي الطريقةُ والمذهب الذي جُبِلَ عليه» .
وهو من «الشَّكْلِ» وهو المِثْل، يقال: لستَ على شَكْلي ولا شاكلتي. وأمَّا «الشَّكْلُ» بالكسر فهو الهيئة. يقال: جاريةٌ حسنةُ الشَّكْل. وقال امرؤ القيس:
310 -
2- حَيِّ الحُمولَ بجانب العَزْلِ
…
إذ لا يُلائم شَكلُها شَكْلي
أي: لا يلائمُ مثلُها مثلي.
قوله: «أَهْدى» يجوز أن يكونَ مِنْ «اهْتَدى» ، على حذفِ الزوائد، وأن يكونَ مِنْ «هَدَى» المتعدِّي. وأن يكونَ مِنْ «هدى» القاصر بمعنى اهتدى. و «سبيلاً» تمييز.
قوله تعالى: {مِّن العلم} : متعلِّقٌ ب «أُوْتِيْتُم» ، ولا يجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ «قليلاً» ؛ لأنه لو تأخَّر لكان صفةً؛ لأنَّ ما في حَيِّز «إلَاّ» لا يتقدم عليها.
وقرأ عبد الله والأعمش «وما أُوْتُوا» بضمير الغيبة.
قوله تعالى: {إِلَاّ رَحْمَةً} : فيها قولان، أحدُهما: أنها استثناء متصلٌ لأنها تَنْدَرِجُ في قولِه «وكيلا» . والثاني: أنها استثناء منقطعٌ فتتقدر ب «لكن» عند البصريين، و «بل» عند الكوفيين. و «مِنْ ربِّك» : يجوز أن يتعلَّقَ ب «رحمة» وأن يتعلَّقَ بمحذوف، صفةً لها.
قوله تعالى: {لَا يَأْتُونَ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام. والثاني: أنه جواب الشرط، واعتذروا به عن رفعِه بأنَّ الشرطَ ماضٍ فهو كقوله:
310 -
3- وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ
…
يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حِرِمُ
واستشهدوا عليه بقولِ الأعشى:
310 -
4-
لئِنْ مُنِيْتَ بنا عن غِبِّ معركةٍ
…
لا تُلْفِنا مِنْ دماءِ القومِ نَنْتَفِلُ
فأجاب الشرطَ مع تقدُّمِ لامِ التوطئة، وهو دليلٌ للفراء ومَنْ تبعه على ذلك. وفيه رَدٌّ على البصريين، حيث يُحَتِّمون جوابَ القسمِ عند عدمِ تقدُّم ذي خبرٍ.
وأجاب بعضهم بأنَّ اللامَ في البيت ليست للتوطِئةِ بل مزيدةٌ، وهذا ليس/ بشيء لأنه لا دليلَ عليه. وقال الزمخشري: «ولولا اللامُ الموطِّئة لجاز أن يكونَ جواباً للشرط كقولِه:
310 -
5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يقولُ لا غائبٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنَّ الشرطَ وقع ماضياً. وناقشه الشيخُ: بأنَّ هذا ليس مذهبَ سيبويه ولا الكوفيين والمبرد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثلِه أن النيةَ به التقديمُ، ومذهبَ الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء، وهذا
مذهبٌ ثالثٌ قال بعضُ الناس.
قوله: {وَلَوْ كَانَ} جملةٌ حاليةٌ، وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأنه كقولِه عليه السلام» أَعطُوا السائل ولو جاء على فرس «و» لبعضٍ «متعلِّقٌ ب» ظَهير «.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : مفعولُه محذوف. وقيل: «مِنْ» زائدة في {مِن كُلِّ مَثَلٍ} وهو المفعولُ، قاله ابن عطية وهو مذهبُ الكوفيين والأخفش.
وقرأ الحسن «صَرَفْنا» بتخفيفِ الراء، وقد تقدَّم نظيرُه.
قوله: {إِلَاّ كُفُوراً} مفعولٌ به، وهو استثناءٌ مفرغ لأنه في قوة: لم يَفْعلوا إلا الكُفور.
قوله تعالى: {حتى تَفْجُرَ} : قرأ الكوفيون «تَفْجُرَ» بفتح التاء وسكونِ الفاء وضمِّ الجيم خفيفةً، مضارعَ «فَجَر» . والباقون بضمِّ التاءِ وفتحِ الفاء وكسرِ الجيم شديدةً، مضارع فَجَّر للتكثير. ولم يختلفوا في الثانية أنها بالتثقيلِ للتصريحِ بمصدرِها. وقرأ الأعمش «تُفْجِرَ» بضمِّ
التاءِ وسكونِ الفاء وكسر الجيم خفيفةً، مضارعَ أَفْجر بمعنى فَجَرَ، فليس التضعيفُ ولا الهمزةُ مُعَدِّيَيْنِ.
و «يَنْبوعاً» مفعولٌ به، ووزنُه يَفْعُول لأنَّه مِنْ النَّبْعِ، واليَنْبُوعُ: العَيْنُ تفورُ من الأرض.
قوله تعالى: {خِلالَهَا} نصبٌ على الظرفِ، وتقدَّم تحقيقُه أول السورة.
قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ} : العامَّةُ على إسناد الفعل للمخاطب. و «السماءَ» مفعولٌ بها. ومجاهد على إسنادِه إلى «السماء» فَرَفْعُها به.
قوله: «كِسْفاً» قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ هنا بفتح السين، وفَعَل ذلك حفصٌ في الشعراء وفي سبأ. والباقون بسكونها في المواضعِ الثلاثةِ. وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم بلا خلافٍ، وهشامٌ عنه الوجهان، والباقون بفتحها.
فمَنْ فتح السينَ جعله جمعَ كِسْفة نحو: قِطْعَة وقِطَع، وكِسْرة
وكِسَر، ومَنْ سَكَّن جعله جمع كِسْفَة أيضاً على حَدِّ سِدْرة وسِدْر، وقَمْحة وقَمْح.
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه جمعٌ على فَعَل بفتح العينِ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ يحتملُها حرفُ العلة، حيث يُقَدَّر فيه غيرُها فكيف بالحرف الصحيح؟ . قال:«والثاني: أنه فَعْل بمعنى مَفْعول» كالطَّحْن بمعنى مَطْحون، فصار في السكون ثلاثةُ أوجهٍ.
وأصل الكَسْفِ القَطْع. يقال: كَسَفْتُ الثوبَ قطعتُه. وفي الحديثِ في قصة سليمان مع الصافنات الجياد: أنه «كَسَفَ عراقيبَها» أي: قطعها. وقال الزجاج «كَسَفَ الشيء بمعنى غَطَّاه» . وقيل: ولا يُعرفُ هذا لغيرِه.
وانتصابُه على الحالِ، فإنْ جَعَلْناه جمعاً كان على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذات كِسَفٍ، وإنْ جعلناه فِعْلاً بمعنى مَفْعول لم يَحْتَج إلى تقدير، وحينئذ فيقال: لِمَ لَمْ يؤنَّث؟ ويجاب: بأنَّ تأنيثَ السماء غيرُ حقيقي، أو بأنها في معنى السقف.
قوله: «كما زَعَمْتَ» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: إسقاطاً مثلَ
مَزْعُومِك، كذا قدَّره أبو البقاء.
قوله: «قَبِيْلاً» حالٌ من «الله والملائكة» أو مِنْ أحدِهما، والآخرُ محذوفةٌ حالُه، أي: بالله قبيلاً والملائكةِ قبيلاً. كقوله:
310 -
6-. . . . . . . . . . . . . . كنتُ منه ووالدي
…
بريئاً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[وكقولِهِ]
310 -
7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ
ذكرَه الزمخشريُ، هذا إذا جَعَلْنا «قبيلاً» بمعنى كفيلاً، أي: ضامِناً، أو بمعنى معايَنة كما قاله الفارسيُّ. وإنْ جعلناه بمعنى جماعةً كان حالاً من «الملائكة» .
وقرأ الأعرج «قِبَلاً» من المقابلة.
قوله تعالى: {أَوْ ترقى} : فعل مضارعٌ منصوبٌ تقديراً، لأنه معطوفٌ على «تَفَجُّرَ» ، أي: أو حتى تَرْقَى في السماء، أي: في معارجِها، والرُّقِيُّ: الصُّعودُ. يقال: رَقِي بالكسرِ يَرْقى بالفتح رُقَيَّاً على فُعول، والأصل رُقُوْي، فَأُدْغم بعد قلبِ الواو ياءً، ورَقْياً بزنة ضَرْب. قال الراجز:
310 -
8-
أنتَ الذي كلَّفْتني رَقْيَ الدَّرجْ
…
على الكَلالِ والمَشِيْبِ والعَرَجْ
قوله: «نَقْرَؤُه» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نعتاً ل «كتاباً» . والثاني: أن يكونَ [حالاً] مِنْ «ن» في «علينا» قاله أبو البقاء، وهي حالٌ مقدرةٌ، لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزالِه لا في حالِ إنزالِه.
قوله: {قُلْ سُبْحَانَ} قرأ ابنُ كثير وابنُ عامر «قال» فعلاً ماضياً إخباراً عن الرسولِ عليه السلام بذلك، والباقون «قُلْ» على الأمر/ أمراً منه تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بذلك، وهي مرسومةٌ في مصاحف المكيين والشاميين:«قال» بألف، وفي مصاحِفِ غيرِهم «قُلْ» بدونها، فكلٌ وافق مصحفَه.
قوله: {إَلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} يجوزُ أَنْ يكونَ «بشراً» خبرَ «كنتُ» و «رسولاً» صفتُه، ويجوز أن يكون «رسولاً» هو الخبر، و «بَشَراً» حالٌ مقدمةٌ عليه.
قوله تعالى: {أَن يؤمنوا} : «أَنْ يُؤْمِنُوا» مفعولٌ ثانٍ ل «مَنَع» ، أي/ ما مَنَعَهم إيمانَهم أو مِنْ إيمانهم، و «أنْ قالوا» هو الفاعلُ، و «إذ» ظرفٌ ل «مَنَعَ» ، والتقدير: وما مَنَعَ الناسَ من الإِيمانِ وقتَ مجيءِ الهُدى إياهم إلا قولُهم «أَبَعَثَ الله.
وهذه الجملةُ المنفيَّةُ يُحتمل أَنْ تكونَ مِنْ كلام الله، فتكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ الرسولِ فتكونَ منصوبةَ المحلِّ لاندراجِها تحت القولِ في كلتا القراءتين.
قوله: {بَشَراً رَّسُولاً} كما تقدَّم مِنَ الوجهين في نظيره، وكذلك قولُه {لَنَزَّلْنَا [عَلَيْهِم] مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} .
قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الأرض} : يجوز في «كان» هذه التمامُ، أي: لو وُجِد وحَصَل، و «يمشون» صفةٌ ل «ملائكةٌ» و {فِي الأرض} متعلقٌ به، و «مطمئنين» حالٌ من فاعل «يَمْشُون» . ويجوز أن تكونَ الناقصةَ، وفي خبرها أوجهٌ، أظهرُها: أنه الجارُّ، و «يَمْشُون» و «مطمئنين» على ما تقدَّم. وقيل: الخبر «يَمْشُون» و {فِي الأرض} متعلِّق به. وقيل: الخبرُ «مطمئنين» و «يَمْشُون» صفةٌ. وهذان الوجهان ضعيفان لأنَّ المعنى على الأول.
قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله} : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مندرجةً تحت المَقُولِ، فيكون محلُّها نصباً، وأن تكونَ مِنْ كلامِ اللهِ، فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، ويكون في الكلامِ التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إلى تكلُّم في قوله «ونَحْشُرهم» .
وحُمِل على لفظِ «مَنْ» في قولِه «فهو المهتدِ» فَأُفْرِد، وحُمِل على معنى «مَنْ» الثانيةِ في قولِه {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ} . فجُمعَ. ووجهُ المناسبةِ في ذلك -والله أعلم -: أنه لمَّا كان الهَدْي شيئاً واحداً غيرَ متشعبِ السبلِ ناسَبَه التوحيدُ، ولمَّا كان الضلالُ له طرقٌ نحو: {وَلَا تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ناسب الجمعُ الجمعَ، وهذا الحملُ الثاني مِمَّا حُمِل فيه على المعنى، وإن لم يتقدَّمْه حَمْلٌ على اللفظ. قال الشيخُ:«وهو قليلٌ في القرآن» . يعني بالنسبةِ إلى غيرِه. ومثلُه قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ويمكن أن يكونَ المُحَسِّنَ لهذا كونُه تقدَّمَه حَمْلٌ على اللفظِ وإنْ كان في جملةٍ أخرى غيرِ جملتِه.
وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ بإثباتِ ياء «المُهْتدي» وصلاً وحَذْفْها وقفاً، وكذلك في التي تحت هذه السورة، وحَذَفها الباقون في الحالين.
قوله: {على وُجُوهِهِمْ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالحشر، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول، أي: كائنين ومَسْحوبين على وجوههم.
قوله: «عُمْياً» يجوز أن تكونَ حالاً ثانية، أو بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأنه تَظْهَرُ أنواعُ البدلِ وهي: كلٌّ من كل، ولا بعضٌ من كل، ولا اشتمالٌ، وأن تكونَ حالاً من الضمير المرفوع في الجارِّ لوقوعِهِ حالاً، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ المجرورِ في «وجوهِهم» .
قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يجوزُ في هذه الجملةِ الاستئنافُ والحاليةُ: إمَّا من الضميرِ المنصوبِ أو المجرورِ.
قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} يجوز فيها الاستئنافُ والحاليةُ مِنْ «جهنم» ، والعاملُ فيها معنى المَأْوَى.
وخَبَتِ النار تَخْبُو: إذا سكن لهَبُها، فإذا ضَعُفَ جَمْرُها قيل: خَمَدَتْ، فإذا طُفِئَتْ بالجملةِ قيل: هَمَدَت. قال:
301 -
9- وَسْطُه كاليَراعِ أو سُرُجِ المِجْ
…
دَلِ حِيْناً يَخْبُو وحِيناً ينيرُ
وقال آخر:
310 -
0- لِمَنْ نارٌ قبيل الصُّبْ
…
حِ عند البيتِ ما تَخْبُو
إذا ما أُخْمِدَتْ اُلْقِيْ
…
عليها المَنْدَلُ الرَّطْبُ
وأَدْغَم التاءَ في زاي «زِدْناهم» وأبو عمروٍ والأخَوان وورشٌ، وأظهرها الباقون.
قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ} : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً، و «بأنَّهم» متعلِّقٌ بالجزاء، أي: ذلك العذابُ المتقدَّمُ جزاؤهم
بسببِ أنهم، ويجوز أَنْ يكونَ «جزاؤهم» مبتدأ ثانياً، والجارُّ خبرُه، والجملةُ خبرُ «ذلك» ، ويجوز أن يكونَ «جزاؤهم» بدلاً أو بياناً، و «بأنَّهم» الخبرُ.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَهُمْ} : معطوفٌ على قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} لأنه في قوة: قد رَأَوْا، فليس داخلاً في حَيَّز الإِنكار، بل معطوفاً على جملته برأسها.
قوله: {لَاّ رَيْبَ فِيهِ} صفةٌ ل «أجَلاً» ، أي: أجلاً غيرَ مرتابٍ فيه. فإن أريد به يومُ القيامة فالإِفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموتُ فهو اسم جنسٍ/ إذ لكلِّ إنسان أجلٌ يَخُصه.
قوله: {إَلَاّ كُفُوراً} قد تقدَّم قريباً.
قوله تعالى: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: - وإليه ذهب الزمخشري والحوفي وابن عطية وأبو البقاء ومكي - أن المسألة من بابِ الاشتغال، ف «أنتم» مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ، لأنَّ «لو» لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، فهي ك «إنْ» في قولِه تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} [التوبة: 6] وفي قوله:
311 -
1-
وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها
…
فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ
والأصل: لو تملكون، فحذف الفعلَ لدلالةِ ما بعده عليه فانفصل الضميرُ وهو الواوُ؛ إذ لا يمكن بقاؤُه متصلاً بعد حَذْف رافِعِه. ومثلُه:«وإن هو لم يَحْمِلْ» الأصلُ: وإن لم يَحْمل، فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل ذلك الضميرُ المستتر وبَرَزَ، ومثلُه فيما نحن فيه قولُ الشاعر: لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْني «، وقولُ المتلمس:
311 -
2- ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ف» ذاتُ سوار «مرفوعةٌ بفعلٍ مفسَّرٍ بالظاهرِ بعده.
الثاني: أنه مرفوعٌ ب» كان «وقد كَثُر حَذْفُها بعد» لو «والتقدير: لو كنتم تملكون، فَحُذِفَتْ» كان «فانفصل الضمير، و» تملكون «في محلِّ نصبٍ ب» كان «وهو قولُ ابنِ الصائغِ. وقريبٌ منه قولُه:
311 -
3-
أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنَّ الأصلَ: لأَنْ كنتَ، فحُذِفَتْ» كان «فانفصل الضمير إلا أنَّ هنا عُوِّض مِنْ» كان «» ما «، وفي» لو «لم يُعَوَّض منها.
الثالث: أنَّ» أنتم «توكيدٌ لاسمِ» كان «المقدرِ معها، والأصلُ» لو كنتم أنتم تملِكُون «فَحُذِفَتْ» كان «واسمها وبقي المؤكِّد، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي. وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد، وإن كان سيبويه يُجيزه.
وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك: كونُ مذهب البصريين في» لو «أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله:» لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني «. فإن قيل: هذان الوجهان: أيضاً فيهما إضمار فعلٍ. قيل: ليس هو الإِضمارَ المَعْنِيَّ؛ فإنَّ الإِضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير» كان «، وأمَّا» كان «فقد كَثُر حَذْفُها بعد» لو «في مواضعَ كثيرةٍ. وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد» لو «غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ، أنشد الفارسي:
311 -
4- لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ
…
كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري
إلا أنه خرَّجه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره الوصفُ مِنْ قولِه» شَرِقٌ «. وقد تقدَّم تحقيق القول في» لو «فلنقتصِرْ على هذا.
قوله: {لأمْسَكْتُمْ} يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ، وأن يكونَ متعدِّياً، ومفعولُه محذوفٌ، لأَمْسَكْتُم المال، ويجوز أن يكونَ كقولِه {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] .
قوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.
والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشِين الإِنفاقَ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو:» جَهْدَك «و» طاقتَك «و [كقوله:]
311 -
5- وأرسلها العِراك. . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يُقاسُ عليه. والإِنفاقُ مصدرُ أنفق، أي: أَخْرَجَ المالَ. وقال أبو عبيدة:» وهو بمعنى الافتقار والإِقتار «.
قوله تعالى: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : يجوز في «بيِّنات» النصبُ صفةً للعددِ، والجرُّ صفةً للمعدود.
قوله: {إِذْ جَآءَهُمْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ معمولاً ل «آتَيْنا» ، ويكون قولُه {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اعتراضاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمار اذكُرْ. والثالث: أنه منصوبٌ ب يُخْبرونك مقدَّراً. الرابع: أنه منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ، إذ التقديرُ: فَقُلْنا له: سَلْ بني إسرائيل حين جاءهم. وقد ذكر هذه الأوجهَ الزمخشريُّ مرتبةً على مقدمةٍ ذكرها قبل ذلك فلنذكُرْها. قال: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، أي: فقلنا له: سَلْ بني [إسرائيل]، أي: سَلْهُمْ عن فرعونَ، وقل/ له: أرسلْ معي بني إسرائيل، أو سَلْهُم عن إيمانهم وحالِ دينهم، أو سَلْهُمْ أن يُعاضِدوك، وتَدُلُّ عليه قراءةُ رسول الله «فسال» على لفظ الماضي بغير همزٍ وهي لغةُ قريش.
وقيل: فَسَلْ يا رسول اللهِ المُؤْمِنَ من بني إسرائيل كعبدِ الله بن سلام وأصحابِه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطُمَأنينة كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . ثم قال: «فإن قلتَ بمَ تعلَّق» إذ جاءهم «؟ قلت: أمَّا على الوجهِ الأولِ فبالقولِ المحذوفِ، أي: فقلنا له: سَلْهُمْ حين جاءهم، أو ب» سال «في القراءة الثانية. وأمَّا على الأخير فب» آتَيْنا «أو بإضمار اذْكُرْ، أو بيُخْبرونك. ومعنى إذ جاءهم: إذ جاء آباءهم» . انتهى.
قال الشيخ: «ولا يتأتَّى تَعَلُّقه ب» اذكر «ولا ب يُخبرونك لأنه ظرفٌ ماضٍ» . قلت: إذا جعله معمولاً ل «اذكُرْ» ، أو ل يُخْبرونك لم يَجْعَلْه ظرفاً بل مفعولاً به، كما تقرَّر ذلك غيرَ مرة.
الخامس: أنه مفعولٌ به والعاملُ فيه «فَسَلْ» . قال أبو البقاء: «فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعولٌ به باسْأَلْ على المعنى لأنَّ المعنى: اذْكرْ لبني إسرائيل [إذ جاءهم] وقيل: التقديرُ اذكر إذ جاءهم وهي غيرُ» اذكر «الذي قَدَّرْتَ به اسْأَلْ» . يعني أن اذكرْ المقدرةَ غيرُ «اذكر» الذي فَسَّرْتَ «اسأَلْ» بها، وهذا يؤيد ما ذكرْتُه لك مِنْ أنَّهم إذا قدَّروا «اذكر» جعلوا «إذ» مفعولاً به لا ظرفاً.
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر حالَ كونِه ظرفاً ما يقتضي أنْ يعملَ فيه فعلٌ مستقبلٌ فقال: «والثاني: أن يكونَ ظرفاً. وفي العامل فيه أوجهٌ، أحدُها:» آتَيْنا «. والثاني:» قلنا «مضمرة. والثالث:» قُلْ «، تقديرُه قل لخصمِك: سَلْ. والمرادُ به فرعونُ، أي: قُلْ يا موسى، وكان الوجهُ أن يُقال: إذ جئتهم بالفتح، فرجع من الخطاب إلى الغيبة» .
قلت: فظاهرُ الوجهِ الثالثِ أنَّ العاملَ فيه «قُلْ» وهو ظرفٌ ماضٍ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيءٍ؛ إذ يرجع إلى: يا موسى قُلْ لفرعونَ: سَلْ بني إسرائيل، فيعودُ فرعون هو السائلَ لبني إسرائيل، وليس المرادُ ذلك قطعاً، وعلى التقدير الذي قَدَّمْتُه عن الزمخشريِّ - وهو أنَّ
المعنى: يا موسى سَلْ بني إسرائيل، أي: اطْلُبْهم من فرعونَ - يكون المفعولُ الأول للسؤال محذوفاً، والثاني هو «بني إسرائيل» ، والتقدير: سَلْ فرعونَ بني إسرائيل، وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع، وأعمل الثانيَ، إذ التقديرُ: سَلْ فرعونَ فقال فرعونُ، فأعمل الثانيَ فَرَفَع به الفاعلَ، وحَذَفَ المفعولَ مِنَ الأول وهو المختار من المذهبين.
والظاهرُ غيرُ ذلك كلِّه، وأنَّ المأمورَ بالسؤال إنما هو سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه، وبنو إسرائيل كانوا معاصِرِيه.
والضميرُ في {إِذْ جَآءَهُمْ} : إمَّا للآباء، وإمَّا لهم على حَذْفِ مضافٍ، أي: جاء آباءهم.
قوله: «مَسْحُوراً» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه بمعناه الأصلي، أي: إنك سُحِرْتَ، فمِنْ ثَمَّ اختلَّ كلامُك، قال ذلك حين جاءَه بما لا تَهْوَى نفسُه الخبيثةُ. الثاني: أنه بمعنى فاعِل كمَيْمون ومَشْؤوم، أي: أنت ساحرٌ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيبِ، يشير لانقلابِ عصاه حيةً وغيرِ ذلك.
قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ} : قرأ الكسائيُّ بضم التاء أَسْند الفعلَ لضمير موسى عليه السلام، أي: إني متحققٌ أني ما جئت به هو مُنَزَّلٌ مِنْ عندِ الله. والباقون بالفتح على إسناده لضميرِ فرعونَ، أي: أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئتُ به هو مُنَزَّل من عند الله وإنما كفرُك عِنادٌ، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه أنكر الفتحَ، وقال:«ما عَلِم عدوُّ اللهِ قط، وإنما عَلِم موسى» ، والجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ لأنها معلِّقةٌ للعِلْم قبلها.
قوله: «بَصائر» حالٌ وفي عاملها قولان، أحدُهما: أنه «أَنْزَلَ» هذا
الملفوظُ به، وصاحبُ الحال هؤلاء، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطيةَ وأبو البقاء، وهؤلاء يُجيزون أن يَعْمل ما قبلَ «إلا» فيما بعدها، وإنْ لم يكنْ مستثنى، ولا مستثنى منه، ولا تابعاً له. والثاني: وهو مذهب الجمهور أنَّ ما بعد «إلا» لا يكون معمولاً لما قبله، فيُقدَّر لها عاملٌ تقديرُه: أَنْزَلها بصائِرَ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه في «هود» عند قولِه {إِلَاّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} [هود: 27] .
قوله: «مَثْبورا» «مَثْبوراً» مفعولٌ ثانٍ، واعترض بين المفعولين بالنداء. والمَثْبُور: المُهْلَكُ. يقال: ثَبَره اللهُ، أي: أَهْلكه، قال ابن الزَّبْعَرى:
311 -
6- إذ أُجاريْ الشيطانَ في سَنَنِ الغَيْ
…
يِ ومَنْ مالَ مَيْلَه مَثْبورُ
والثُّبُور: الهَلاكُ قال تعالى: {لَاّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً} [الفرقان: 14] .
قوله تعالى: {لَفِيفاً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ، وأن أصلَه مصدرُ لفَّ يَلُفُّ لفيفاً نحو: النَّذير والنكير، أي: جِئْنا بكم منضمَّاً بعضُكم إلى بعض، مِنْ لفَّ الشيءَ يَلُفُّه لَفَّاً، والأَلَفُّ: المتداني الفَخْذَيْنِ، وقيل: العظيمُ البطن. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه، والمعنى: جئنا بكم جميعاً فهو في قوةِ التأكيدِ.
قوله تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} : في الجارِّ ثلاثةُ
أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلق بأَنْزَلْناه، والباء سببية، أي: أنزلناه بسبب الحق. والثاني: أنه حالٌ من مفعول «أنزلناه» ، أي: ومعه الحق. والثالث: أنه حالٌ من فاعِله، أي: ملتبسين بالحقِّ. وعلى هذين الوجهين يتعلَّقُ بمحذوفٍ.
والضمير في «أَنْزَلْناه» الظاهرُ عَوْدُه للقرآن: إمَّا الملفوظِ به في قولِه قبل ذلك {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإِسراء: 88] ، ويكون ذلك جَرْياً على قاعدةِ أساليب كلامِهِم، وهو أَنْ يستطردَ المتكلمُ في ذِكْر شيءٍ لم يَسْبِقْ له كلامُه أولاً، ثم يعودُ إلى كلامِه الأولِ، وإمَّا للقرآنِ غيرِ الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحالِ عليه كقولِه تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقيل: يعودُ على موسى كقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] . وقيل: على الوعد. وقيل: على الآيات التسعِ، وذكَّر الضميرَ وأفرده حملاً على معنى الدليل والبرهان.
قوله: {وبالحق نَزَلَ} فيه الوجهان الأوَّلان دونَ الثالث لعدمِ ضميرٍ آخرَ غيرِ ضمير القرآن. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها للتأكيد، وذلك أنه يُقال: أنزلْتُه فَنَزَل، وأنزلْتُه فلا يَنْزِلْ، فجيْءَ بقولِه {وبالحق نَزَلَ} دَفْعاً لهذا الوهم. وقيل: ليست للتأكيد، والمغايرةُ تَحْصُل بالتغاير بين الحقِّيْنِ، فالحقُّ الأول التوحيد، والثاني الوعدُ والوعيدُ والأمر والنهي. وقال الزمخشري: «وما أَنْزَلْنَا القرآنَ إلا بالحكمةِ المقتضية لإنزاله، وما نَزَلَ إلا ملتبساً بالحق والحكمةِ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خير، أو ما أَنْزَلْنَاه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصْدِ من الملائكةِ، وما نَزَلَ على الرسول إلا محفوظاً
قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} : في نصبه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: وآتَيْناك قرآناً «يدلُّ عليه قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى} [الإِسراء: 101] . الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على الكافِ في» أَرْسَلْناك «. قال ابنُ عطية:» من حيث كان إرسالُ هذا وإنزال هذا معنى واحداً «.
الثالث: أنه منصوبٌ عطفاً على {مُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال الفراء: هو منصوبٌ ب» أَرْسَلْناك «، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً، كما تقول: ورحمة لأنَّ القرآنَ رحمةً» . قلت: يعني أنه جُعِل نفسُ القرآن مُراداً به الرحمةُ مبالغةً، ولو ادَّعى ذلك على حَذْفِ مضافٍ كان أقربَ، أي: وذا قرآنٍ. وهذان الوجهان متكلِّفان.
الرابع: أن ينتصِبَ على الاشتغال، أي: وفَرَقْنا قرآناً فرقناه. واعتذر الشيخُ عن ذلك، أي: عن كونِه لا يَصِحُّ الابتداءُ به لو جَعَلْناه مبتدأً لعدم مُسَوِّغٍ؛ لأنه لا يجوزُ الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسمِ الابتداءُ، بأنَّ ثمَّ محذوفةً، تقديرُه: وقرآناً أيَّ قرآنٍ، بمعنى عظيم. و «فَرَقْناه» على
هذا لا محلَّ له بخلاف الأوجهِ المتقدمةِ؛ فإن محلِّه النصبُ لأنَّه نعتٌ ل «قرآناً» .
والعامَّةُ «فَرَقْناه» بالتخفيف، أي: بَيَّنَا حلالَه وحرامَه، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ علي بن أبي طالب - كرَّم اللهُ وجهَه - واُبَيّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير، أي: فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ. والثاني: أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشري: «وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً، وقال: لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً، يعني أنَّ» فَرَقَ «بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ» .
قال الشيخ: «وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيمَ - لم يَنْزِلْ في يومٍ ولا يومين ولا شهرٍ ولا شَهْرَيْن، ولا سنةٍ ولا سنتين. قال ابنُ عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ عن ابن عباس» . قلت: وظاهرُ/ هذا أنَّ القولَ بالتنجيم ليس مرويَّاً عن ابن عباس ولا سيما وقد فَصَل قولَه «قال ابن عباس» مِنْ قولِه «وقال بعضُ مَنْ اختار ذلك» ، ومقصودُه أنه لم يُسْنِده لابن عباس لِيَتِمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ فَعَّل بالتشديد لا يَدُلُّ على التفريق، وقد تقدَّم له معه هذا المبحثُ أولَ هذا الموضوع.
قوله: «لتقرأَه» متعلقٌ ب «فَرَقْناه» . و «على مُكْثٍ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول في «لتقرأه» ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً.
والثاني: أنه بدلٌ مِنْ «على الناس» قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ، لأنَّ قوله «على مُكْثٍ» من صفاتِ القارئ أو المقروء من جهةِ المعنى، لا من صفاتِ الناس حتى يكون بدلاً منهم. الثالث: أنه متعلِّقٌ ب «فَرَقْناه» .
وقال الشيخ: «والظاهرُ تَعَلُّق» على مُكْث «بقوله» لتقرأه «، ولا يُبالَى بكونِ الفعلِ يتعلَّق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحدٍ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأنَّ الأولَ في موضعِ المفعول به، والثاني في موضعِ الحالِ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً» .
قلت: قولُه أولاً إنه متعلقٌ بقوله «لتقرأَه» ينافي قولَه في موضع الحال؛ لأنه متى كان حالاً تعلَّق بمحذوف. لا يُقال: أراد التعلق المعنوي لا الصناعي لأنه قال: ولا يُبالَى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرّ من جنسِ [واحد «] ، وهذا تفسيرُ إعرابٍ لا تفسيرُ معنى.
والمُكْثُ: التطاولُ في المدة وفيه ثلاثةُ لغاتٍ: الضمُّ والفتحُ - ونقل القراءةَ بهما الحوفي وأبو البقاء - والكسرُ، ولم يُقرأ به فيما علمتُ. وفي فعله الفتحُ والضم وسيأتيان إن شاء الله تعالى في النمل.
قوله تعالى: {لِلأَذْقَانِ} في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها بمعنى «على» ، أي: على الأذقان كقولِهم: خرَّ على وجهِه. والثاني: أنها للاختصاص، قال الزمخشري:«فإن قُلْتَ: حرفُ الاستعلاءِ ظاهرُ المعنى إذا قلت: خَرَّ على وجهه وعلى ذَقَنه فما معنى اللام في» خِرَّ لذَقْنَه ولوجهه «؟ قال:
311 -
7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ
قلت: معناه: جَعَلَ ذقَنَه ووجهَه للخُرور، واختصَّ به؛ لأنَّ اللامَ للاختصاص. وقال أبو البقاء:» والثاني هي متعلقةٌ ب «يَخِرُّون» واللامُ على بابها، أي: مُذِلُّون للأذقان «.
والأَذْقان: جمعُ ذَقَنٍ وهو مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْن. قال الشاعر:
311 -
8- فَخَرُّوا لأَذْقانِ الوجوه تنوشُهُمْ
…
سِباعٌ من الطير العوادِي وتَنْتِفُ
و» سُجَّداً «حال. وجوَّز أبو البقاء في» للأَذقان «أن يكونَ حالاً. قال:» أي: ساجدين للأذقان «وكأنه يعني به» للأذقان «الثانية؛ لأنه يصير المعنى: ساجدين للأذقان سُجَّداً، ولذلك قال:» والثالث: أنها - يعني اللامَ - بمعنى «على» ، فعلى هذا تكون حالاً مِنْ «يَبْكُون» و «يَبْكُون» حال «.
قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ} : فاعلُ «يزيد» : إمَّا القرآنُ، أو البكاءُ أو السجودُ أو المتلوُّ، لدلالةِ قوله:«إذ يتْلى» . وتكرَّر الخُرور لاختلافِ حالتِه بالبكاء والسجود، وجاءتِ الحالُ الأولى اسماً لدلالتِه على الاستقرار، والثانية فعلاً لدلالتِه على التجدُّدِ والحدوث.
قوله تعالى: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} : «أيَّاً» منصوب ب «تَدْعُوا» على المفعول به، والمضافُ إليه محذوفٌ، أي: أيَّ الاسمين. و «تَدْعوا» مجزوم بها فهي عاملةٌ معمولةٌ، وكذلك الفعلُ، والجوابُ الجملةُ الاسمية مِنْ قوله {فَلَهُ الأسمآء الحسنى} . وقيل: هو محذوفٌ تقديرُه: جاز، ثم استأنفَ فقال: فله الأسماءُ الحسنى «. وليس بشيءٍ.
والتنوين في» أَيَّاً «عوضٌ من المضافِ إليه. وفي» ما «قولان، أحدهما: أنها مزيدةٌ للتاكيد. والثاني: أنها شرطيةٌ جُمِعَ بينهما تأكيداً كما جُمِع بين حَرْفَيْ الجرِّ للتاكيد، وحَسَّنه اختلافُ اللفظ كقوله:
311 -
9- فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤَيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرف» أياً مَنْ تَدْعُوا «فقيل:» مَنْ «تحتمل الزيادة على رأيِ الكسائي كقوله في قوله:
31 -
0-
يا شاةَ مَنْ قنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ له
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واحتُمِل أن تكونَ شرطيةً، وجُمِع بينهما تأكيداً لِما تقدم. و» تَدْعُوا «هنا يحتمل أن يَكونَ من الدعاء وهو النداء فيتعدَّى لواحدٍ، وأن يَكونَ بمعنى التسمية فيتعدَّى لاثنين، إلى الأولِ بنفسه، وإلى الثاني بحرفِ الجر، ثم يُتَّسَعُ في الجارِّ فيُحذف كقوله:
312 -
1- دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ. . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتقدير: قل: ادعُوا معبودَكم بالله أو بالرحمن/ بأيِّ الاسمين سَمَّيتموه. وممَّن ذهب إلى كونها بمعنى» سَمَّى «الزمخشري.
ووقف الأخوان على» أيّا «بإبدال التنوين ألفاً، ولم يقفا على» ما «تبييناً لانفصالِ،» أيَّ «مِنْ» ما «. ووقف غيرُهما على» ما «لامتزاجها ب» أيّ «، ولهذا فُصِل بها بين» أيّ «وبين ما أُضيفت إليه في قوله تعالى {أَيَّمَا الأجلين} [القصص: 28] . وقيل:» ما «شرطيةٌ عند مَنْ وقف على» أياً «وجعل المعنى: أيَّ الاسمينِ دَعَوْتموه به جاز ثم استأنف {مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} يعني أنَّ» ما «شرطٌ ثانٍ، و» فله الأسماءُ «جوابُه، وجوابُ الأول مقدِّرٌ. وهذا مردودٌ بأنَّ» ما «لا تُطْلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرطَ يقتضي عموماً، ولا يَصِحُّ هنا، وبأن فيه حَذْفَ الشرط والجزاء معاً.
قوله تعالى: {مَّنَ الذل} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها:
أنها صفةٌ ل «وليّ» ، والتقدير: وليّ من أهلِ الذل، والمرادُ بهم: اليهودُ والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناسِ. والثاني: أنها تبعيضية. الثالث: أنها للتعليل، أي: مِنْ أجل الذُّلِّ. وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «وليٌّ من الذل: ناصرٌ من الذل، ومانعٌ له منه، لاعتزازه به، أو لم يُوالِ أحداً لأَجْلِ مَذَلَّةٍ به ليدفعَها بموالاتِه» .
وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل في أولِ هذه السورة.
والمخافَتَةُ: المُسَارَّةُُ بحيث لا يُسْمَعُ الكلامُ. وضَرَبْتُه حتى خَفَتَ، أي: لم يُسْمَعْ له حِسٌّ.
قوله: {وَلَمْ يَجْعَل} : في هذه الجملةِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها معطوفةٌ على الصلةِ قبلَها. والثاني: أنها اعتراضيةٌ بين الحالِ وهي «قَيِّماً» وبين صاحبِها وهو «الكتابَ» والثالث: أنَّها حالٌ من «الكتابَ» ، ويترتَّبُ على الأوجهِ القولُ في «قَيِّماً» .
قوله: {قَيِّماً} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ من «الكتاب» . والجملةُ مِنْ قولِه «ولم يَجْعَلْ» اعتراضٌ بينهما. وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال: «فإنْ قُلْتَ: بم انتصَبَ» قَيِّماً «؟ قلت: الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ، ولم يُجْعَلْ حالاً من» الكتابَ «لأنَّ قولَه» ولم يَجْعَلْ «معطوفٌ على» أَنْزَلَ «فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ» . وكذلك قال أبو البقاء. وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ.
الثاني: أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في «له» . قال أبو البقاء: «والحالُ موكِّدةٌ. وقيل: منتقلةٌ» . قلت: القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ.
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: جَعَلَهُ قيِّماً. قال الزمخشريُّ: «تقديرُه: ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، جعله قيماً، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ» . قال: «فإنْ قلتَ: ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر؟ . قلت: فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يَخْلو مِنْ أدنى عِوَجٍ عند السَّبْرِ والتصفُّح» .
الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ. والتقديرُ: أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً.
الخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ. والتقديرُ: وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم: «عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو» .
والضميرُ في «له» فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه للكتاب، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ. والثاني: أنَّه يعود على «عبدِه» ، وليس بواضحٍ.
وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء. وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً. وقد تَقَدَّم القولُ فيها.
ووقف حفصٌ على تنوينِ «عِوَجاً» يُبْدله ألفاً، [ويسكت] سكتةً لطيفةً
من غير قَطْع نَفَسٍ، إشْعاراً بأنَّ «قَيِّماً» ليس متصلاً ب «عِوَجاً» ، وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب. وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى.
قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ: «ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً، لكنْ جَعَلَه قيَّماً» . وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول: يَقِف على «عِوَجا» ، ولم يقولوا: يُبدل التنوين ألفاً، فيُحْتمل ذلك، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ.
ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، أعني الإِطلاقَ. ثم قال:«وفي ذلك نَظَرٌ - أي على إبدالِ التنوين ألفاً - فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ» .
انتهى.
وقال الأهوازيُّ: «ليس هو وَقْفاً مختاراً، لأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً، معناه: أَنْزَلَ على عبدِه الكتاب قيِّماً ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً» . قلت: دَعْوى التقديمِ والتأخيرِ وإنْ كان قاله به غيرُه، إلا أنها مَرْدودةٌ بأنَّها على خلافِ الأصل، وقد تقدَّم تحقيقُه.
وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ. فمنها: أَنَّه كان يقفُ على «مَرْقَدِنا» ، ويَبْتدئ:{هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52] . قال: «لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ» هذا «صفةٌ ل» مَرْقَدِنا «فالوقفُ
يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى، ثم ابتُدِئ بكلامِ/ غيرِهم. قيل: هم الملائكةُ. وقيل: هم المؤمنون. وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ» هذا «صفةً ل» مَرْقَدِنا «فيفوتُ ذلك.
ومنها: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] . كان يقف على نونِ» مَنْ «ويَبْتَدِئ» راقٍ «قال: لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق.
ومنها: {بَلْ رَانَ} [المطففين: 14] كان يقفُ على لام بل، ويَبْتدئ» رانَ «لِما تقدَّم.
قال المهدويُّ:» وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ، وهو لا يَفعلُه، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية «. قال أبو شامة:» أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها: «ولا يَحْزُنْكَ قولُهم. {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] ، الوقفُ على» قَوْلُهم «لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ» ، وكذا {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار * الذين يَحْمِلُونَ العرش} [غافر: 67] ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على «النار» لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ «.
قلت: وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ. وقال أبو شامةَ أيضاً:» ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ «. قلت: يعني في» بَلْ رَان «وفي» مَنْ راقٍ «.
قوله:» لِيُنْذِرَ «في هذه اللامِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب» قَيِّماً «
قاله الحوفيُّ. والثاني: -وهو الظاهرُ- أنها تتعلَّق ب» أَنْزَلَ «. وفاعلُ» لِيُنْذِرَ «يجوز أن يكونَ» الكتابَ «وأن يكونَ الله، وأن يكون الرسول.
و» أَنْذَرَ «يتعدَّى لاثنين: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] . ومفعولُه الأولُ محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ:» ليُنْذِرَ الذين كفروا، وغيره:«ليُنْذِرَ العبادَ» ، أو «لِيُنْذِرَكم» ، أو لِيُنْذِرَ العالَم. وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه {وَيُبَشِّرَ المؤمنين} ، وهو ضِدَّهم.
وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالمُنْذَر في قوله
{وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ} [الكهف: 4] فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه، وهو في غايةِ البلاغةِ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال:{وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً} .
قوله: {مِّن لَّدُنْهُ} قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمَّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ، فيقرأ «مِنْ لَدْنِهِيْ» والباقون يَضُمون الدالَ، ويسكِّنون [النونَ] ويَضُمُّون الهاءَ، وهم على قواعِدهم فيها: فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو: مِنْهو وعَنْهو، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء.
ووَجهُ أبي بكرٍ: أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين «عَضُد» والنونُ
ساكنةٌ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه {وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ} [الآية: 52] في سورة النور، فهناك نتكلَّم فيه، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء. وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة.
والإِشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ، لأنَّ الإِشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ إشارةً إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو:«جاء الرجل» ، وهكذا ذكره النحويون. وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة. وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها، ثم تأتي بباقي الكلمةِ.
فإن قلتَ: إنما اتي بالإِشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها. قيل لك: فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه. ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ. وقد تقدَّم في «يوسف» أن الإِشمامَ في {لَا تَأْمَنَّا} [الآية: 11] إذا فسَّرْناه بالإِشارةِ إلى الضمة: منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإِدغام، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده، وهذا نظيرُه. وتقدَّم أنَّ الإِشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها.
و {مِّن لَّدُنْهُ} متعلق ب «لِيُنْذِرَ» /. ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً ل «بَأْساً» ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «شديداً» .
وقُرِئ «ويُبَشِّرُ» بالرفعِ على الاستئنافِ.
قوله: {مَّاكِثِينَ} : حالٌ: إمَّا من الضميرِ المجرورِ في «لهم» ، أو المرفوعِ المستترِ فيه، أو مِنْ «أجراً» لتخصُّصِه بالصفةِ، إلا أنَّ هذا لا يجيءُ إلا على رَأيِ الكوفيين: فإنهم لا يشترطون بروزَ الضميرِ في الصفةِ الجاريةِ على غير مَنْ هي له إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريين لقال: ماكثين هم فيه. ويجوز على رَأْيِ الكوفيين أن يكونَ صفةً ثانيةً ل «أَجْراً» . قال أبو البقاء: «وقيل: هو صفةٌ ل» أَجْراً «، والعائدُ: الهاءُ مِنْ» فيه «. ولم يَتَعَرَّضْ لبروزِ الضميرِ ولا لعدمِه بالنسبة إلى المذهبين.
و» أبداً «منصوبٌ على الظرفِ ب» ماكثين «.
قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ} : أي: بالولدِ، أو باتخاذه، أو بالقولِ المدلولِ عليه ب «اتَّخذ» وب «قالوا» ، أو بالله.
وهذه الجملةُ المنفيةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها صفةٌ للولدِ، قال المهدويُّ. وردَّه ابنُ عطيةَ: بأنه لا يَصِفُه بذلك إلا القائلون، وهم لم يَقْصِدوا وَصْفَه بذلك. الثالث: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ «قالوا» ، أي: قالوه جاهلين.
و {مِنْ عِلْمٍ} يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ. والجارُّ هو الرافع، أو الخبر. و «مِنْ» مزيدةٌ على كِلا القولين.
قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} في فاعلِ «كَبُرَتْ» وجهان، أحدُهما: أنه مضمرٌ عائدٌ على مقالتِهم المفهومة مِنْ قولِه: «قالوا: اتَّخذ الله» ، أي: كَبُرَ مقالُهم، و «كلمةً» نصبٌ على التمييز، ومعنى الكلامِ على التعجب، أي: ما أكبرَها كلمةً. و «تَخْرُجُ» الجملةُ صفةٌ ل «كلمة» . ودَلَّ استعظامُها لأنَّ بعضَ ما يَهْجِسُ بالخاطرِ لا يَجْسُر الإِنسانُ على إظهاره باللفظ.
والثاني: أن الفاعلَ مضمرٌ مفسِّرٌ بالنكرةِ بعد المنصوبةِ على التمييزِ، ومعناها الذمُّ ك «بِئس رجلاً» ، فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: كَبُرَتْ هي الكلمةُ كلمةً خارجةً مِنْ أفواهِهم تلك المقالةُ الشَّنعاءُ.
وقرأ العامَّةُ «كلمةً» بالنصبِ، وفيها وجهان: النصبُ على التمييز، وقد تقدَّم تحقيقُه في الوجهين السابقين. والثاني: النصبُ على الحالِ. وليس بظاهر.
وقوله: «تَخْرُجُ» في الجملة وجهان، أحدُهما: هي صفةٌ لكلمة. والثاني: أنها صفةٌ للمخصوصِ بالذمِّ المقدَّرِ تقديرُه: كَبُرَت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً.
وقرأ الحسنُ وابنُ محيصن وابنُ يعمرَ وابن كثير - في رواية القَوَّاس عنه - كلمةٌ «بالرفع على الفاعلية،» وتَخْرُج «صفةٌ لها أيضاً. وقُرِئَ» كَبْرَتْ «بسكون الباء وهي لغةُ تميم.
قوله:» كَذِباً «فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعول به لأنه يتضمَّنُ معنى جملة. والثاني: هو نعتٌ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً كذباً.
قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} : العامَّةُ على كسرِ «إنْ» على أنها شرطيةٌ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه:«فَلَعَلَّكَ» ، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ. وقُرِئ:«أَنْ لم» بالفتح على حَذْفِ الجارِّ، أي: لأَِنْ لم يؤمنوا «.
وقُرئ» باخِعُ نَفْسِكَ «بالإِضافة، والأصل النصبُ. وقال الزمخشري:» وقُرئ «باخع نفسك» على الأصل، وعلى الإِضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ «إنْ لم يُؤمنوا» ، وللمضيِّ فيمن قرأ «أن لم تُؤْمنوا» بمعنى: لأَِنْ لم يؤمنوا «. قلت: يعني أنَّ باخِعاً للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ» إنْ «فإنها شرطيةٌ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يجئُ إلا
في قراءةِ الإِضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين. وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ» باخع «، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيف.
ولعلَّك» قيل: للإِشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأي الكوفيين. وقيل: للنهي أي: لا تَبْخَعْ.
والبَخْعُ: الإِهلاك. يقال: بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وَجْداً. قال ذو الرمة:
312 -
2- ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه
…
لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ
يريد: نَحَّته بالتشديد، فخفَّف. / قال الأصمعي:«كان يُنْشِده:» الوجدَ «بالنصب على المفعولِ له، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية ب» الباخع «.
وقيل: البَخْعُ: أن تُضْعِفَ الأرضَ بالزراعة. قاله الكسائي: وقيل: هو جَهْدُ الأرضِ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، عن عمر:» بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ «تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها، وهذا استعارةٌ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري: هنا بغير القَتْلِ والإِهلاك. وقال في سورة الشعراء:»
والبَخْعُ «. أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ» . انتهى. وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول: «تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلاً» . قلت: يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم.
وقال الراغب: «البَخْعُ: قَتْلُ النفسِ غَمَّاً» . ثم قال: «وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ، وبما عليه من الحقِّ: إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه» .
وقوله: «على آثارِهم» متعلقٌ ب «باخعٌ» ، أي: مِنْ بعد هلاكِهم.
قوله: أَسَفَاً «يجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله والعامل فيه» باخعٌ «، وأن يكونَ مصدراً في موضعِ الحال من الضميرِ في» باخعٌ «.
قوله تعالى: {زِينَةً} : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له، وأن يتنصِبَ على الحالِ إنْ جَعَلْتَ «جَعَلْنا» بمعنى خَلَقْنا، ويجوز ان يكونَ مفعولاً ثانياً إنْ كانَتْ «جَعَلَ» تصييريةً و «لها» متعلقٌ ب «زِيْنةً» على العلةِ، ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول، ويجوز أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «زينة» .
قوله: «لِنَبْلُوَهُمْ» متعلقٌ ب «جَعَلْنا» بمعنييه.
قوله: «أيُّهم أحسنُ» يجوز في «أيُّهم» وجهان، أحدهما: أن تكونَ استفهاميةً مرفوعةً بالابتداء، و «أحسنُ» خبرُها. والجملةُ في محلِّ نصبٍ معلَّقَةٌ ل «نَبْلُوَهم» لأنه سببُ العلم كالسؤال والنظر. والثاني: أنها موصولةٌ
بمعنى الذي «وأحسنُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم» ، ويكون هذا الموصولُ في محلِّ نصبٍ بدلاً مِنْ مفعول «لنبلوَهم» تقديرُه: لِنَبْلُوَ الذي هو أحسنُ. وحينئذٍ تحتمِل الضمةُ في «أيُّهم» ، ان تكونَ للبناء كهي في قولِه تعالى:{لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] على أحدِ الأقوالِ، وفي قوله:
312 -
3- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ
…
فَسَلِّمْ على أَيُّهم أَفْضَلُ
وشرطُ البناءِ موجودٌ، وهو الإِضافةُ لفظاً، وحَذْفُ صدرِ الصلةِ، وهذا مذهبُ سيبويه، وأن تكونَ للإِعراب لأنَّ البناءَ جائزٌ لا واجبٌ. ومن الإِعراب ما قُرِئ به شاذاً {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] وسيأتي إنْ شاء الله تحقيقُ هذا في مريم.
والضمير في «لِنَبْلُوَهم» و «أيُّهم» عائدٌ على ما يُفْهَمُ من السِّياق، وهم سكانُ الأرض. وقيل: يعودُ على ما على الأرضِ إذا أُريد بها العقلاء. وفي التفسير: المرادُ بذلك الرُّعاة: وقيل: العلماءُ والصُّلحاءُ والخُلفاء.
قوله تعالى: {صَعِيداً} : مفعولٌ ثانٍ، لأنَّ الجَعْلَ هنا تصييرٌ ليس إلا، والصَّعِيْدُ. الترابُ: والجُرُزُ: الذي لا نباتَ به. يقال: سَنَةٌ جُزُر، وسِنونَ أَجْرازٌ: لا مطَر فيها. وأرض جُزُرٌ وأَرَضُونَ أَجْرازٌ: لا نبات بها. وجَرَزَتِ الأرضُ: إذا ذَهَبَ نباتُها بقَحْطٍ أو جرادٍ وَجَرَز الأرضَ الجرادُ: أكلَ ما فيها. والجَرُوْزُ: المَرْأةُ الأكولةُ: قال:
312 -
4- إنَّ العَجوزَ خَبَّةً جَرُوزا
…
تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ} : «أم» هذه منقطعةٌ فَتُقَدَّرُ ب «بل» التي للانتقال لا للإِبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهورِ النحاة، و «بل» وحدَها، أو بالهمزةِ وحدَها عند غيرِهم. وتقدَّم تحقيقٌ القولِ فيها.
و «انَّ» وما في حَيِّزها سادَّةٌ [مَسَدَّ] المفعولَيْنِ أو أحدِهما على الخلافِ المشهور.
والكَهْفُ: قيل: مُطْلق الغار. وقيل: هو ما اتَّسع في الجبل، فإن لم يَتَّسِعْ فهو غارٌ. والجمعٌ «كُهوفٍ» في الكثرة، و «أَكْهَف» في القِلَّةِ.
والرَّقيم: قيل: بمعنى مَرْقُوم. وقيل: بمعنى راقم. وقيل: هو اسمٌ للكلبِ الذي لأصحاب الكهفِ. وأنشدوا لأميةَ بنِ أبي الصلت:
312 -
5- وليسَ بها إلا الرَّقيمُ مُجاوِراً
…
وصِيدَهُمُ، والقومُ بالكهفِ هُمَّدُ
/قوله: «عَجَبا» يجوز أن تكونَ خبراً، و {مِنْ آيَاتِنَا} حالٌ منه، وأَنْ
يكونَ خبراً ثانياً، و {مِنْ آيَاتِنَا} خبراً أول، وأن يكونَ «عجباً» حالاً من الضميرِ المستتر في {مِنْ آيَاتِنَا} لوقوعه خبراً. ووُحِّدَ وإن كان صفةً في المعنى لجماعة لأنَّ أصلَه المصدرُ. وقيل:«عَجَباً» في الأصلِ صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: آيةً عجبا. وقيل: على حذفِ مضاف، أي: آيةً ذاتَ عَجَبٍ.
قوله تعالى: {إِذْ أَوَى} : يجوز أن ينتصِبَ ب «عَجَباً» وأَنْ ينتصِبَ ب «اذْكُر» .
قوله: «وهَيِّئْ» العامَّةُ على همزةِ بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهري بياءين: الثانيةُ خفيفةٌ، وكأنه أبدل الهمزةَ ياءً، وإن كان سكونُها عارضاً. ورُوي عن عاصم «وَهَيَّ» بياءٍ مشددةٍ فقط. فيحتمل أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ مِنْ أولِ وَهْلَةٍ تخفيفاً، وأن يكونَ أبدلها كما فعل أبو جعفر، ثم أجرى الياءَ مُجْرى حرفِ العلةِ الأصلي فحذفه، وإن كان الكثيرُ خلافَه، ومنه:
312 -
6- جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظُلْمِه
…
سريعاً وإلَاّ يُبْدَ بالظلمِ يَظْلمِ
وقرأ أبو رجاء «رُشْدا» بضمِ الراء وسكونِ الشين، وتقدم تحقيقُ ذلك في الأعراف. وقراءةُ العامَّةِ هنا أليقُ لتوافِقَ الفواصلَ.
قوله: {فَضَرَبْنَا} : مفعولُه محذوفٌ، أي: ضَرَبْنا
الحجابَ المانعَ. و {على آذَانِهِمْ} استعارةٌ للزومِ النوم. كقول الأسود:
312 -
7- ومن الحوادِث لا أبالَكِ أنني
…
ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرضُ بالأَسْدادِ
وقال الفرزدق:
312 -
8- ضَرَبَتْ عليكَ العَنْكَبوتَ بنَسْجِها
…
وقَضَى عليك به الكتاب المُنَزَّلُ
ونصَّ على الآذان لأنَّ بالضرب عليها خصوصاً يَحْصُلُ النومُ.
وأمال «آذانهم» . . . .
و «سنينَ» ظرفٌ ل «ضَرَبْنا» . و «عَدَداً» يجوزُ فيه أن يكونَ مصدراً، وأن يكون فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقَص. فعلى الأولِ يجوز نصبُه مِنْ وجهين: النعتِ ل «سنين» على حَذْفٍ، أي: ذوات عدد، أو على المبالغةِ، والنصبُ بفعلٍ مقدرٍ، أي: تُعَدُّ عدداً. وعلى الثاني: نعت ليس إلا، اي: معدودة.
قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ} : متعلقٌ بالبعث. والعامَّةُ على نون العظمة جرياً على ما تقدم. وقرأ الزُّهْري «لِيَعْلم» بياء الغَيْبَةِ، والفاعلُ اللهُ
تعالى. وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيْبَة. ويجوزُ أن يكونَ الفاعلُ {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} إذا جَعَلْناها موصولةً كما سيأتي.
وقرئ «ليُعْلَمَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامُ الفاعلِ: قال الزمخشري: «مضمونُ الجملة، كما أنه مفعولُ العلمِ» . ورَدَّه الشيخ بأنه ليس مذهبَ البصريين. وتقدَّم تحقيقُ هذه أولَ البقرة.
وللكوفيين في قيامِ الجملة مَقامَ الفاعلِ أو المفعولِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه: الجوازُ مطلقاً، والتفصيلُ بين ما يُعلَّق كهذه الآيةِ فيجوزُ، فالزمخشري نحا نحوَهم على قَوْلَيْهم. وإذا جَعَلْنا {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} موصولةً جاز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إليه في هذه القراءةِ أيضاً كما جاز إسناده إليه في القراءةِ قبلها.
وقُرِئ «ليُعْلِمَ» بضمِّ الياء، والفاعلُ الله تعالى، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ، تقديرُه: ليُعْلِمَ اللهُ الناسَ. و {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} في موضعِ الثاني فقط، إنْ كانت عِرْفانيةً، وفي موضعِ المفعولين إن كانَتْ يقينية.
قوله: «أَحْصَى» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه أفعلُ تفضيلٍ. وهو خبرٌ ل «أيُّهم» ، و «أيُّهم» ، استفهاميةٌ. وهذه الجملةُ معلَّقَةٌ للعلمِ قبلَها. و «لِما
لَبِثُوا» حال مِنْ «أَمَداً» ، لأنه لو تأخَّر عنه لكان نعتاً له. ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ على بابِها من العلَّة، أي: لأجل أبو البقاء. ويجوز أن تكونَ زائدةً، و «ما» مفعولةٌ: إمَّا ب «أَحْصى» على رأيِ مَنْ يُعْمِلُ أفعلَ التفضيل في المفعولِ به، وإمَّا بإضمارِ فعلٍ. و «أمداً» مفعولُ «لَبِثُوا» أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُ عليه أَفْعَلُ عند الجمهور، أو منصوبٌ بنفسِ أفْعَلَ عند مَنْ يَرى ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون «أَحْصَى» فعلاً ماضياً. و «أمَداً» مفعولُه، و «لِمَا لَبثوا» متعلقٌ به، أو حالٌ مِنْ «أَمَداً» أو اللامُ فيه مزيدةٌ، وعلى هذا: فَأَمَداً منصوبٌ ب لَبِثوا. و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي. واختار الأولَ -أعني كونَ «أَحْصى» للتفضيل -/ الزجاجُ والتبريزي، واختار الثاني أبو علي والزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري:«فإن قلتَ: فما تقول فيمَنْ جعله مِنْ أفعلِ التفضيلِ؟ قلت: ليس بالوجهِ السديدِ، وذلك أنَّ بناءَه مِنْ غيرِ الثلاثي ليس بقياسٍ، ونحو» أَعْدَى من الجَرَب «و» أفلس من ابن المُذَلَّق «شاذٌّ، والقياسُ على الشاذِّ في غيرِ القرآن ممتنعٌ فكيف به؟ ولأنَّ» أَمَداً «: إمَّا أَنْ ينتصِبَ بأفعلَ وأفعلُ لا يعملُ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ ب» لبثوا «فلا يَسُدُّ عليه المعنى: فإنْ زعمتَ أني أنصِبُه بفعلٍ مضمرٍ كما أَضْمَرَ في قوله:
3129 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وأَضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا
فقد أبعدْتَ المتناوَلَ، حيث أَبَيْتَ أَنْ يكونَ [ «أحصى» ] فعلاً ثم رجعتَ مضطراً إليه «.
وناقشه الشيخ قال:» أمَّا دعواه أنه شاذٌّ فمذهبُ سيبويهِ خِلافُه، وذلك أنَّ أفعلَ فيه ثلاثةُ مذاهبَ: الجوازُ مطلقاً، ويُعْزى لسيبويه، والمنعُ مطلقاً، وهو مذهب الفارسي، والتفصيلُ: بين أن تكونَ همزتُه للتعديةِ فيمتنعَ، وبين أَنْ لا تكونَ فيجوزَ، وهذا ليسَتِ الهمزةُ فيه للتعدية. وأمَّا قولُه:«أَفْعَلُ لا يعمل» فليس بصحيح لأنه يعملُ في التمييز، و «أَمَداً» تمييزُ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطعُ الناسِ سيفاً، وزيد أقطعُ لِلْهامِ سيفاً «.
قلت: الذي أحوجَ الزمخشريَّ إلى عَدَمِ جَعْلِه تمييزاً مع ظهوره في بادئ الرأي عدمُ صحةِ معناه. وذلك أنَّ التمييزَ شرطُه في هذا الباب أن تَصِحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ويتصفَ به، ألا ترى إلى مثاله في قوله:» زيد أقطعُ الناس سيفاً «كيف يَصِحُّ أن يُسْنَدَ إليه فيقال: زيد قَطَعَ سيفُه، وسيفه قاطع، إلى غيرِ ذلك. وهنا ليس الإِحصاءُ من صفةِ الأمَد، ولا تَصِحُّ نسبتُه إليه، وإنما هو صفات الحزبين، وهو دقيق.
وكان الشيخُ نقل عن أبي البقاء نصبَه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبَه على التمييز حالَ جَعْلِه» أَحْصَى «أفعلَ تفصيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين
ذكر أنه فعلٌ ماضٍ. قال أبو البقاء:» في أحصى وجهان، أحدُهما: هو فعلٌ ماضٍ، «وأَمَداً» مفعوله، و «لِما لَبِثوا» نعتٌ له، قُدِّم فصار حالاً أو مفعولاً له، أي: لأجل لُبْثهم. وقيل: اللامُ زائدةٌ و «ما» بمعنى الذي، و «أَمَداً» مفعولُ «لبثوا» وهو خطأٌ، وإنما الوجهُ أن يكونَ تمييزاً والتقدير: لما لبثوه. والوجه الثاني: هو اسمٌ و «أَمَداً» منصوبٌ بفعلٍ دَلَّ عليه الاسمُ «انتهى. فهذا تصريحٌ بأنَّ» أَمَداً «حالَ جَعْلِه» أحصى «اسماً ليس تمييزاً بل مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ، وأنه جعله تمييزاً عن» لبثوا «كما رأيت.
ثم قال الشيخ:» وأمَّا قولُه «وأمَّا قولُه» وإمَّا أَنْ يُنْصَب ب «لبثوا» فلا يَسُدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبري إلى أنه منصوبٌ ب «لَبِثوا» . قال ابن عطية:«وهو غيرُ متجهٍ» انتهى. وقد يتجه: وذلك أنَّ الأمدَ هو الغاية، ويكون عبارةً عن المدةِ من حيث إنَّ المدَّةَ غايةٌ هي أَمَدُ المدة على الحقيقة، و «ما» بمعنى الذي، و «أمَداً» منصوبٌ على إسقاط الحرفِ، وتقديره: لِما لبثوا مِنْ أمدٍ، مِنْ مدةٍ، ويصيرُ «مِنْ أمدٍ» تفسيراً لما أُبْهِمَ من لفظ «ما» كقوله:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ولمَّا سقط الحرفُ وصل إليه الفعل «.
قلت: يكفيه أنَّ مِثْلَ ابنِ عطية جعله غيرَ متجهٍ، وعلى تقديرِ ذلك فلا نُسَلِّم أنَّ الطبريَّ عنى نصبَه بلبثوا مفعولاً به بل يجوز أَنْ يكونَ على نصبَه تمييزاً كما قاله أبو البقاء.
ثم قال:» وأمَّا قولُه: «فإن زعمت إلى آخره فتقول: لا يُحتاج إلى ذلك، لأنَّ لقائلِ ذلك أَنْ يذهب مذهبَ الكوفيين في أنه ينصِبُ» القوانسَ «بنفس» أَضْرَبُ «ولذلك جعل بعضُ النحاة أنَّ» أعلم «ناصبٌ ل» مَنْ «في قوله:» أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «، وذلك لأنَّ أَفْعَلَ مضمَّنٌ لمعنى المصدر إذ التقدير: يزيد ضربُنا القوانسَ على ضَرْبِ غيرنا» .
قلت: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعلُ التفصيلِ ضعيفٌ ولذلك قَصُرَ عن الصفةِ المشبهةِ باسمِ الفاعلِ، حيث لم يؤنَّثْ ولم يُثنَّ ولم يُجْمع.
وإذا جعلنا «أَحْصَى» اسماً فجوَّز الشيخ في «أيّ» أن تكونَ الموصولةَ، و «أَحْصَى» خبرٌ لمبتدأ محذوف هو عائدُها، وأنَّ الضمةَ للبناء على مذهبِ سيبويهِ لوجودِ / شرطِ البناءِ وهو أضافتُها لفظاً، وحَذْفُ صدرِ صلتِها، وهذا إنما يكون على جَعْلِ العِلْم بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقديرُ آخرُ لا حاجةَ إليه. إلا أنَّ في إسنادِ «عَلِمَ» بمعنى عَرَف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريرُه في الأنفال وغيرِها. وإذا جَعَلْناه فعلاً امتنع أن تكونَ موصولةً إذ لا وجهَ لبنائها حينئذٍ وهو حسن.
قوله تعالى: {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ} : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نَسَقِ الكلامِ لقيل: إنهم فتيةٌ آمنوا بنا. وقوله: «وزِدْناهُم» «وَرَبَطْنا» التفاتٌ من هذه الغَيْبَة إلى التكلم أيضاً.
قوله تعالى: {إِذْ قَامُواْ} : منصوبٌ ب «رَبَطْنا» والرَّبْطُ استعارةٌ لتقويةِ قلوبهم في ذلك المكانِ الدَّحْضِ.
قوله: «إذن» جوابٌ وجزاءٌ، أي: لقد قُلنا قولاً شَطَطاً إنْ دَعَوْنا مِنْ دونِه إلهاً. وشَطَطاً في الأصل مصدرٌ، يقال: شَطَّ شَطَطاً وشُطُوطاً، أي: جارَ وتجاوزَ حَدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوْمِ، وأَشَطَّ، أي: جاوَزَ القَدْرَ. وشَطَّ المنزلُ: بَعُدَ، من ذلك. وشَطَّتِ الجاريةُ شِطاطاًً، طالَتْ، من ذلك. وفي انتصابِه ثلاثةُ أوجهٍ، مذهبُ سيبويهِ النصبُ على الحال من ضميرِ مصدر «قُلْنا» . الثاني: نعتٌ لمصدرٍ، أي: قولاً ذا شَطَطٍ، أو هو الشَّطَطُ نفسُهُ مبالغةً. الثالث: أنه مفعولٌ ب «قُلْنا» لتضمُّنِه معنى الجملة.
قوله تعالى: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا} : يجوز في «قومُنا» أن يكونَ بدلاً أو بياناً، و «اتَّخذوا» هو خبرُ «هؤلاء» ، ويجوز أن يكونَ «قومُنا» هو الخبرَ، و «اتَّخذوا: حالاً. و» اتَّخذ «يجوزُ أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بمعنى عَمِلوا؛ لأنهم نَحَتوها بأيديهم، ويجوز أَنْ تكونَ متعدِّيةً لاثنين بمعنى صَيَّروا، و» مِنْ دونِه «هو الثاني قُدِّمَ، و» آلهةً «هو الأولُ. وعلى الوجهِ الأولِ يجوز في» مِنْ دونِه «أن يتعلَّقَ ب» اتَّخذوا «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ» آلهة «إذ لو تأخَّر لجاز أن يكونَ صفوً ل» آلهةً «.
قوله: {لَّوْلَا يَأْتُونَ} تخصيصٌ فيه معنى الإِنكار. و» عليهم «، أي: على عبادتِهم أو على اتَّخاذهم، فَحُذِفَ المضافُ للعِلْمِ به. ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ التخضيضية صفةً ل» آلهةً «لفساده معنى وصناعةً، لأنها جملةٌ طلبيةٌ. فإنْ قلت: أُضْمِرُ قولاً كقوله:
313 -
0- جاؤُوا بِمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قطّْ
…
لم يساعِدْك المعنى لفسادِه عليه.
قوله تعالى: {وَإِذِ اعتزلتموهم} : «إذا» منصوبٌ بمحذوف، أي: وقال بعضُهم لبعضٍ وقتَ اعتزالِهم. وجَوَّز بعضُهم أَنْ تكونَ «إذ» للتعليل، أي: فَأْووا إلى الكهفِ لاعتزاِلكم إياهم، وهو قولٌ مَقُولٌ لكنَّه لا يَصِحُّ.
قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} يجوز في «ما» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ، أي: واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه. و «إلا الله» يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه، ومنقطعاً، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ، وأن يكون عائدَه، والمعنى واحد.
والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: واعتزلتُمْ عبادَتهم، أي: تركتموها. و «إلا اللهَ» على حَذْفِ مضاف، أي: إلا عبادةَ اللهِ. وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان.
الثالث: أنها نافيةٌ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى، وعلى هذا فهذه الجملةُ
معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري. و {إِلَاّ الله} استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه. وقال أبو البقاء: «والثالث: أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان، أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصلٌ، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ» قلت: فظاهرُ هذا الكلامِ: أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون «ما» نافيةً، وليس الأمرُ كذلك.
قوله: «مِرْفَقا» قرأ بكسرِ الميمِ وفتحِ الفاءِ الجمهورُ. ونافع وابنُ عامر بالعكس، وفيهما اختلافٌ بين أهلِ اللغة، فقيل: هما بمعنى واحد وهو ما يَرْتَفَقُ به، وليس بمصدرٍ. وقيل: هو بالكسر في الميم لليد، وبالفتح للأمر، وقد يُسْتَعْمل كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر، حكاه الأزهري عن ثعلبٍ. وأنشد الفراءُ جمعاً بين الغتين في الجارِحَة:
313 -
1- بِتُّ أُجافي مِرْفقاً عن مَرْفقِ
…
/وقيل: يُسْتعملان معاً في الأمرِ وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
وحكى مكي، عن الفراء أنه قال:«لا أعرِفُ في الأمر ولا في اليد ولا في كل شيءٍ إلا كسرَ الميمِ» .
قلت: وتواترُ قراءةِ نافعٍ والشاميين يَرُدُّ عليه. وأنكر الكسائيُّ كسرَ الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتحَ وهو عكسُ قولِ تلميذِه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال:«هو بفتح الميم: الموضعُ كالمسجد. وقال أبو زيد: هو بفتح الميم مصدرٌ جاء على مَفْعَل» وقال بعضهم: هما لغتان فيما يُرْتَفَقُ به، فأمَّا الجارِحَةُ فبكسرِ الميمِ فقط. وحُكي عن الفرَّاء أنَّه قال:«أهلُ الحجاز يقولون:» مَرْفقا «بفتح الميم وكسرِ الفاءِ فيما ارتفقْتَ به، ويكسِرون مِرْفَق الإِنسان، والعربُ بعدُ يَكْسِرون الميمَ منهما جميعاً» . وأجاز معاذ فتحَ الميم والفاءِ، وهو مصدرٌ كالمَضْرَبِ والمَقْتَلِ.
و {مِّنْ أَمْرِكُمْ} متعلَّقُ بالفعلِ قبلَه، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ أو للتعيض. وقيل: هي بمعنى بَدَلَ، قاله ابن الأنباريِّ وأنشد:
313 -
2- فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمِ شَرْبَةً
…
مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
أي: بَدَلاً. ويجوز أن يكونَ حالاً من «مِرْفَقاً» فيتعلَّقَ بمحذوفٍ.
قوله تعالى: {تَّزَاوَرُ} : قرأ ابن عامر «تَزْوَرُّ» بزنةِ تَحْمَرُّ،
والكوفيون «تَزَاوَرُ» بتخفيفِ الزايِ، والباقون بتثقِيلها. ف «تَزْوَرُّ» بمعنى تميل من الزَّوَر وهو المَيَلُ، وزاره بمعنى مال إليه، وقول الزُّور: مَيّلٌ عن الحق، ومنه الأَزْوَرُ وهو المائلُ بعينه وبغيرها. قال عمر بن أبي ربيعة:
313 -
3-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . وجَنْبي خِيفة القوم أَزْوَرُ
وقيل: تَزْوَرُّ بمعنى تَنْقَبِضُ مِنْ ازْوَرَّ، أي: انقبضَ. ومنه قولُ عنترة:
313 -
4- فازْوَرَّ مَنْ وَقَعَ القَنا بلَبانِه
…
وشكا إليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
وقيل: مال. ومثلُه قولُ بِشْر بن أبي خازم:
313 -
5- يَؤُمُ بها الحداةُ مياهَ نَخْلٍ
…
وفيها عن أبانَيْنِ ازْوِرارُ
أي: مَيْلٌ.
وأما «تزاوَرُ» و «تَّوازَرُ» فأصلهما تَتَزاوَرُ بتاءين، فالكوفيون حذفوا إحدى التائين، وغيرُهم أَدْغم، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في «تَظَاهَرون»
و «تَساءلون» ونحوِهما. ومعنى ذلك الميل أيضاً.
وقرأ أبو رجاء والجحدري وابن أبي عبلة وأيُّوب السُّختياني «تَزْوَارُّ» بزنة تَحْمارُّ. وعبد الله وأبو المتوكل «تَزْوَئِرُّ» بهمزةٍ مكسورةٍ قبل راءٍ مشددة، وأصلُها «تَزْوارُّ» كقراءة أبي رجاء ومَنْ معه، وإنما كَرِهَ الجمعَ بين الساكنين، فأبدل الألفَ همزةً على حدِّ إبدالها في «جَأَنّ» و «الضَّأَلِّين» . وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا التصنيف أخرَ الفاتحة.
و {إِذَا طَلَعَت} معمولٌ ل «تَرَى» أو ل «تَزَاوَرُ» ، وكذا {إِذَا غَرَبَت} معمولٌ للأولِ أو للثاني وهو «تَقْرضهم» . والظاهرُ تمحُّضُه للظرفيةِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً.
ومعنى «تَقْرِضُهم» تَقْطَعهُم لا تُقَرِّبهم، لأنَّ القَرْضَ القَطْعُ، من القَطِيعةِ والصَّرْم. قال ذو الرمة:
313 -
6- إلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أقْواز مُشْرِفٍ
…
شِمالاً، وعن أَيْمَانِهِنَّ الفوارِسُ
والقَرْضُ: القَطْعُ. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة. وقال الفارسي: «معنى تَقْرِضُهم: تُعْطيهم مِنْ ضوئِها شيئاً ثم تزولُ سريعاً كالقَرْضِ يُسْتَرَدُّ» . وقد ضُعِّف قولُه بأنه كان ينبغي أن يُقْرأ «تُقْرِضُهم» بضم التاء لأنه مِنْ أَقْرض.
وقرئ «يَقْرِضهم» بالياء مِنْ تحتُ، أي: الكهف، وفيه مخالَفَةٌ بين الفعلين وفاعلِهما، فالأَوْلى أن يعودَ على الشمس ويكون كقوله:
313 -
7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وهو قولُ ابنِ كَيْسان.
و «ذات اليمين» و «ذات الشِّمال» ظرفا مكانٍ بمعنى جهةِ اليمين وجهةِ الشِّمال.
قوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} جملةٌ حاليةٌ، أي: نفعلُ هذا مع اتساع مكانِهم، وهو أعجبُ لحالِهم، إذ كان ينبغي أَنْ تصيبَهم الشمسُ لاتِّساعِه. والفَجْوَةُ: المُتَّسَعُ، من الفَجا، وهو تباعدُ ما بين الفَخْذَين. يقال: رجلٌ أَفْجَى وامرأة فَجْواء، وجمع الفَجْوَة فِجاءٌ كقَصْعَة وقِصاع.
قوله: «ذلك» مبتدأٌ مُشار به إلى جميعِ ما تقدم مِنْ حديثهم. و «من» آياتِ الله «الخبرُ. ويجوز أن يكونَ» ذلك «خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك. و {مِنْ آيَاتِ الله} حالٌ.
قوله تعالى: {أَيْقَاظاً} : جمعٌ «يَقُظ» بضم القاف، ويُجمع على يِقاظ. ويَقْظ وأيقاظ كعَضُد وأَعْضاد، ويَقُظ ويِقاظ كرَجُل ورِجال. وظاهر كلام الزمخشري أنه يقال:«يَقِظ» بالكسر، لأنه قال:«وأيقاظ جمع» يَقِظ «كأَنْكادِ في» نَكِد «. واليَقَظَةُ: الانتباهُ ضدُّ النوم.
والرُّقود: جمع راقِد كقاعِد وقُعود، ولا حاجةَ إلى إضمارِ شيءٍ كما قال بعضهم: إنَّ التقديرَ: لو رَأَيْتَهم لَحَسِبْتَهُم أيقاظاً.
قوله:» ونُقِلَّبهم «قرأ العامَّةُ» نُقَلِّبهم «مضارعاً مسنداً للمعظِّمِ نفسَه. وقرئ كذلك بالياء مِنْ تحتُ، أي: الله أو المَلَك. وقرأ الحسن:» يُقَلِبُهم «بالياءِ من تحتُ ساكنَ القافِ مخففَ اللامِ، وفاعلُه كما تقدَّم: إمَّا اللهُ أو المَلَكُ. وقرأ أيضاً» وتَقَلُّبَهم «بفتح التاءِ وضمِّ اللامِ مشددةً مصدرَ تَقَلَّبَ» ، كقولِه:{وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] ونصبِ الباء. وخرَّجه أبو الفتحِ على إضمارِ فعلٍ، أي: ونَرَى تقَلُّبَهم أو نشاهِدُ. ورُوِيَ عنه أيضاً رفعُ الباءِ على الابتداءِ، والخبرُ الظرفُ بعدَه. ويجوز أن يكونَ محذوفاً، أي: آيةٌ عظيمة. / وقرأ عكرمةُ «وتَقْلِبُهم» بتاءِ التأنيثِ مضارعَ «قَلَب» مخففاً، وفاعلُه ضميرُ الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياقِ.
قوله: «وكَلْبُهم» العامَّةُ على ذلك. وقرأ جعفر الصادق «كالِبُهم» ، أي: صاحبُ كلبِهم، كلابِن وتامِر. ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلب «وكالِئُهم» بهمزةٍ مضمومةٍ اسمَ فاعلٍ مِنْ كَلأَ يكلأُ: أي: حَفِظَ يَحْفَظُ.
و «باسِط» اسمُ فاعلٍ ماضٍ، وإنما عَمِلَ على حكاية الحال. والكسائيُّ
يُعْمِله ويَسْتشهد بالاية.
والوَصْيدُ: الباب. وقيل: العَتَبة. وقيل: الصَّعيد والتراب. وقيل: الفِناء. وأنشد:
313 -
8- بأرضِ فضاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيْدُها
…
عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنكَرِ
والعامَّةُ على كسرِ الواوِ مِنْ {لَوِ اطلعت} على أصلِ التقاءِ الساكنين. وقرأها مضمومةً أبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ وابنُ وثاب والأعمش تشبيهاً بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقُه.
قوله: فِرارا «يجوز أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ مِنْ معنى الفعل قبلَه، لأنَّ التوليَّ والفِرار مِنْ وادٍ واحدٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال، أي: فارَّاً، وتكونُ حالاً مؤكدة، ويجوز أن يكونَ مفعولاً له.
قوله:» رُعْباً «مفعولٌ ثانٍ. وقيل: تمييز. وقرأ ابنُ كثير ونافعٌ» لَمُلِئْتَ «بالتشديد على التكثيرِ. وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً. والزُّهْري بتخفيف اللام والإِبدال، وهو إبدالٌ قياسيٌّ. وتقدَّم الخلافُ الرعب في آل عمران.
قوله: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ} : الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: كما أَنَمْناهم تلك النَّوْمَةَ كذلك بَعَثْناهم ادِّكاراً بقُدرتِه. والإِشارةُ ب «ذلك» إلى المصدرِ المفهومِ مِنْ قوله «فَضَرَبْنا» ، أي: مثلَ جَعْلِنا إنامتَهم هذه المدة المتطاولةَ آيةً جَعَلْنا بَعْثَهم آيةً. قاله الزجاج والزمخشري.
قوله: «ليتساءَلُوا» اللامُ متعلقةٌ بالبعث، فقيل: هي للصَّيْرورة، لأنَّ البَعْثَ لم يكنْ للتساؤلِ. قاله ابنُ عطيةَ. والصحيحُ أنَّها على بابِها مِن السببية.
قوله: {كَم لَبِثْتُمْ} «كم» منصوبةٌ على الظرف، والمُمَيِّزُ محذوفٌ، تقديرُه: كم يوماً، لدلالةِ الجواب عليه. و «أَوْ» في قولِه:«أو بعضَ يوم» للشكِّ فيهم، وقيل: للتفصيل، أي: قال بعضُهم كذا وبعضُهم كذا.
قوله: «بِوَرِقِكم» حال ِمنْ «أحدَكم» ، أي: مصاحباً لها، وملتبساً بها. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وأبو بكر بفتحِ الواوِ وسكونِ الراءِ والفَكِّ. وباقي السبعة بكسر الراء، والكسرُ هو الأصلُ، والتسكينُ تحفيفٌ ك «نَبْق» في نَبِق. وحكى الزجاج كسرَ الواوِ وسكونِ الراء وهو نَقْلٌ، وهذا كما يقال: كَبِدْ وكَبْد وكِبْد.
وقرأ أبو رجاء وابن محيصن كذلك، إلا أنه بإدغام القاف. واستضعفوها مِنْ حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدِّيهما وقد تقدَّم لك في المتواترِ ما يُشبه هذه مِنْ نحوِ {فَنِعِمَّا} {لَا تَعْدُّواْ فِي السبت} [النساء: 154] . . . ورُوِيَ عن ابنِ محيصن أنَّه أَدْغَمَ كسرَ الراءَ فِراراً مِمَّا ذَكَرْتَ.
وقرأ أميرُ المؤمنين «بوارِقِكم» اسمَ فاعلٍ، أي: صاحب وَرِقٍ ك «لابِن» . وقيل: هو اسمُ جمعٍ كجاملٍ وباقر.
والوَرِقُ: الفِضَّةُ المضروبةُ. وقيل: الفضةُ مطلقاً. ويقال لها: «الرِّقَةُ» بحذفِ الفاء. وفي الحديث: «في الرِّقَةِ رُبْع العُشْر» وجُمعت شذوذاً جَمْعَ المذكرِ السالم، قالوا:«حُبُّ الرِّقَيْنِ يغطِّي أَفْن الأَفِين» .
قوله: أيُّها أَزْكَى: يجوز في «أيّ» أن تكونَ استفهاميةً، وأن تكونَ موصولةً. وقد عَرَفْتَ ذلك ممَّا تقدَّم لك في قوله:{أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] فالعملُ واحدٌ. ولا بد مِنْ حذفٍ: «أيُّ أهْلِها أزْكَى» . وطعاماً: تمييز. وقيل: لا حَذْفَ، والضميرُ على الأطعمة المدلول عليها من السياق.
قوله: «ولِيَتَلَطَّفْ» قرأ العامَّةُ بسكونِ لامِ الأمر، والحسنُ بكسرِها على الأصل. وقتيبة المَيَّال «ولِيَتَلَطَّفْ» مبنياً للمفعول. وأبو جعفر وأبو صالحٍ وقتيبة «ولا يَشْعُرَن» بفتحِ الياءِ وضمِّ العين، «أحدٌ» فاعلٌ به.
قوله: {إِنَّهُمْ} هذا الضميرُ يجوز أن يعودَ على «أحد» لأنه في معنى الجمع، وأنْ يكونَ عائداً على «أهل» المضاف لضمير المدينة، قاله الزمخشري. ويجوز أَنْ يعودَ على قومِهم لدلالةِ السِّياقِ عليهم. وقرأ زيدُ بن علي «يُظْهِروا» مبنيّاً للمفعول و «إذن» جوابٌ وجزاءٌ، أي: إنْ ظَهَروا فلن تُفْلِحوا.
قوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا} : أي: وكما أَنَمْناهم وبَعَثْناهم أَعْثَرْنا، أي: أَطْلَعْنا. وقد تقدَّم الكلامُ على مادة «عثر» في المائدة
و «لِيَعْلَموا» متعلقٌ بأَعْثَرْنا. والضمير: قيل: يعود على مفعول «أَعْثَرْنا» المحذوفِ تقديرُه: أَعْثَرْنا الناسَ. وقيل: يعود على أهل الكهف.
قوله: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ} يجوز أَنْ يعملَ فيه «أَعْثَرنا» أو «لِيَعْلَموا» أو لمعنى «حَقٌّ» أو ل «وَعْدَ» عند مَنْ «يَتَّسع في الظرف. وأمَّا مَنْ لا يَتَّسعُ، فلا يجوز الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صِلَتِه.
قوله:» بُنْياناً «يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به، جمعَ يُنْيَانَه، وأن يكونَ مصدراً.
قوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يجوز أن يكونَ مِنْ كلام الباري تعالى، وأن يكونَ من كلامِ المتنازِعَيْنِ فيهم.
قوله:» غَلَبوا «قرأ عيسى الثقفي والحسن بضم الغين وكسرِ اللام.
قوله: {سَيَقُولُونَ} : قيل: إنما أُتي بالسِّينِ في هذا لأنَّ في الكلامِ طَيَّاً وإدْماجاً تقديرُه: فإذا أَجَبْتَهم عن سؤالِهم عن قصةِ أهلِ الكهفِ فَسَلْهُمْ عددِهم فإنهم سيقولون. ولم يأتِ بها في باقيةِ الأفعالِ لأنها معطوفةٌ على ما فيه السينُ فأُعْطِيَتْ حُكْمَه من الاستقبَال.
وقرأ ابنُ محيصن «ثَلاثٌّ» بإدغامِ الثاءِ المثلثةِ في تاء التأنيث لقربِ مَخْرَجَيْهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكنٍ معتلٍّ.
قوله: {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الجملةُ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «ثلاثة» .
قوله: «خَمْسَةٌ» قرأ ابن كثير في روايةٍ بفتحِ الميم، وهي لغةٌ كعشَرَة. وقرأ ابن محيصن بكسرِ الخاءِ والميمِ، وبإدغامِ التاءِ في السين، يعني تاءَ «خمسة» في سين «سادسهم» وعي قراءةٌ ثقيلةٌ جداً، تتوالى كسرتان وثلاثُ سيناتٍ، ولا أظنُّ مثلَ هذا إلا غلطاً على مثلِه. ورُوِيَ عنه إدغامُ التنوينِ في السين مِنْ غيرِ غُنَّة.
و «ثلاثةٌ» و «خمسةٌ» و «سبعةٌ» إخبارٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هم ثلاثةٌ، وهم خمسةٌ، وهم سبعةٌ. وما بعد «ثلاثة» و «خمسة» من الجملةِ صفةٌ لهما، كما تقدَّم. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً لعدم عاملٍ فيها، ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هؤلاء ثلاثةٌ، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العاملُ اسمَ الإِشارة أو التنبيه. قال أبو البقاء:«لأنَّها إشارةٌ إلى حاضرٍ، ولم يُشيروا إلى حاضر» .
قوله: {رَجْماً بالغيب} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغَيْب. والثاني: أنه في موضعِ الحال، أي:
ظانِّين. والثالث: أنَّه منصوبٌ ب «يقولون» لأنه بمعناه. والرابع: أنه منصوبٌ بمقدَّرٍ مِنْ لفظه، أي: يَرْجُمون بذلك رَجْماً.
والرَّجْمُ في الأصلِ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ وهي الحجارةُ الصِّغارُ، ثم عُبِّر به عن الظنِّ. قال زهير:
313 -
9- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ
…
وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
أي: المَظْنُون.
قوله: «وثامِنُهُم» في هذه الواوِ أوجهٌ، أحدُها: أنها عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذه الجملةَ على جملةِ قولِه «هم سبعة» فيكونون قد أَخبَرو بخبرين، أحدُهما: أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ. والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم. الثاني: أنَّ الواوَ للاستئنافِ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك. قال هذا القائلُ: وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله. الثالث: أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيداً، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ. وإليه ذهب الزمخشري، ونَظَّره بقولِه:{مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] .
ورَدَّ الشيخ عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يَقُلْه، وقد تقدَّم القولُ في ذلك.
الرابع: أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة، فيُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الآية: 73] في الزمر فقال: دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله.
وقُرِئ: «كالبُهم» ، أي: صاحبُ كلبِهم. ولهذه القراءةِ قدَّرَ بعضُهم في قراءةِ العامة: وثامنُهم صاحبُ كلبِهم.
وثلاثة وخمسة وسبعة مضافةٌ لمعدودٍ محذوفٍ فقدَّره الشيخ: ثلاثة أشخاص، قال:«وإنما قدَّرْنا أشخاصاً لأنَّ رابعَهم اسمُ فاعلٍ أُضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه رَبَعَهم، أي: جَعَلَهم أربعةً، وصَيَّرهم إلى هذا العددِ، فلو قدَّرْناه رجالاً استحال أن يُصَيِّر ثلاثةَ رجالٍ أربعةً لاختلافِ الجنسين» . وهو كلامٌ حسنٌ.
وقال أبو البقاء: «ولا يَعْمل اسمُ الفاعلِ هنا لأنه ماضٍ» . قلت: يعني أن رابعَهم فيما مضى، فلا يعمل النصبَ تقديراً، والإِضافة محضة. وليس كما زعم فإنَّ المعنى على: يَصير الكلبُ لهم أربعةً، فهو ناصبٌ تقديراً، وإنما عَمِلَ وهو ماضٍ لحكاية الحالِ كباسِط.
قوله تعالى: {إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} : قاله أبو البقاء: «في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: هو مِنَ النَّهْيِ. والمعنى: لا تقولَنَّ: أفعل غداً، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول. الثاني: هو من» فاعلٌ «، أي: لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ» إن شاء الله «. والثالث: أنه منقطعٌ. وموضعُ» أَنْ يشاء اللهُ «نصبٌ على وجهين، أحدُهما على الاستثناءِ، والتقدير: لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله، أي: يَأْذَنَ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ. والثاني: هو حالٌ والتقدير: لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً: إن شاء الله، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى: إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى. وقيل: التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ، أي: ملتبساً بقولِ:» إن شاء الله «.
قلت: قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني، فقال:» إلا أَنْ يشاء «متعلقٌ بالنهي لا بقولِه» إنِّي فاعلٌ «لأنَّه لو قال: إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه: إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي» . قلت: يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن.
ثم قال: «وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين، أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه. والثاني: ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي: إلا بمشيئته، وهو في موضعِ الحال، أي: ملتبساً بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله. وفيه وجهٌ ثالث: وهو أَنْ يكونَ» إلا أَنْ يشاء «في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل: ولا تقولَنَّه أبداً، ونحوُه: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَاّ
أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله» .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ.
وقال الشيخ: «وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول: إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ. فقال ابن عطية:» في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ، ويُحَسِّنه الإيجازُ، تقديرُه: إلا أَنْ تقولَ: إلا أَنْ يشاءَ الله، أو إلا أَنْ تقولَ: إنْ شاء الله. والمعنى: إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله، فليس «إلا أن يشاءَ اللهُ» من القولِ الذي نَهَى عنه «.
قوله: {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} : قرأ الأخَوان بإضافة «مِئَةِ» إلى سنين. والباقون بتنوين «مِئَةٍ» . فأمَّا الأولى فأوقع فيها الجمعَ موقعَ المفردِ كقولِه: {بالأخسرين أَعْمَالاً} [الكهف: 103] . قاله الزمخشري يعني أنه أوقع «أَعْمالاً» موقعَ «عَمَلاً» . وقد أنحى أبو حاتم على هذه القراءةِ ولا يُلْتَفَتُ إليه. وفي مصحفِ عبد الله «سَنَة» بالإِفراد. وبها قرأ أُبَيّ. وقرأ الضحاك «سِنُون» بالواو على أنها خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُون.
وأمَّا الباقون: فلمَّا لم يَرَوا إضافةَ «مِئَة» إلى جمعٍ نَوَّنُوا، وجعلوا «سِنين» بدلاً مِنْ «ثلثمئة» أو عطفَ بيان. ونَقَل أبو البقاء أنَّه بدلٌ مِنْ «مِئَة» لأنها في معنى الجمع. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ «سنين» في هذه القراءةِ مميِّزاً، لأنَّ ذلك إنما يجيءُ في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز، كقوله:
314 -
0- إذا عاش الفَتَى مِئَتين عاماً
…
[فقد] ذَهَب اللَّذاذَةُ والفَتاءُ
قوله: «تِسْعاً» ، أي: تسعَ سنين، حَذَفَ المُمَيَّزَ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، إذ لا يُقال: عندي ثلثمئة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أَرَدْتَ ثياباً ونحوَها لم يَجُزْ لأنه إلغازٌ. و «تِسْعاً» مفعولٌ به. وازداد: افتَعَلَ، أُبْدِلَتِ التاءُ دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين نحو:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، فلمَّا بُنِي على الافتعال نَقَص واحداً.
وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في وراية «تَسْعا» بفتح التاء كعَشْر.
قوله: {أَبْصِرْ بِهِ} : صيغةُ تعجبٍ بمعنى ما أبصرَه، على سبيل المجاز، والهاءُ للهِ تعالى. وفي مثلِ هذا ثلاثةُ مذاهبَ: الأصحُّ أنه بلفظِ الأمرِ ومعناه الخبرُ، والباءُ مزيدةٌ في الفاعل إصلاحاً للَّفْظ. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ المصدرِ. والثالث: أنه ضميرُ المخاطبِ، أي: أَوْقِعْ أيها المخاطبُ. وقيل: هو أمرٌ حقيقةً لا تعجبٌ، وأن الهاءَ تعودُ على الهُدَى المفهوم من الكلام.
وقرأ عيسى: «أَسْمَعَ» و «أَبْصَرَ» فعلاً ماضياً، والفاعلُ الله تعالى، وكذلك الهاءُ في «به» ، أي: أبصرَ عبادَه وأَسْمعهم.
قوله: «مِنْ وليّ» يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً، وأَنْ يكونَ مبتدأً.
قوله: «ولا يُشْرك» ، قرأ ابن عامر بالتاءِ والجزم، أي: ولا تُشْرِكْ أنت أيها الإِنسانُ. والباقون بالياء من تحتُ ورفعِ الفعلِ، أي: ولا يُشْرك اللهُ في حكمِه أحداً، فهو نفيٌ مَحْضٌ.
وقرأ مجاهد: «ولا يُشْرِكْ» بالتاء من تحتُ والجزم.
قال يعقوب: «لا أعرفُ وجهه» . قلت: وجهُه أنَّ الفاعلَ ضميرُ الإِنسانِ، أُضْمِرَ للعِلْمِ به.
والضميرُ في قولِه/ «مالهم» يعود على معاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: «وتكون الآيةُ اعتراضاً بتهديد» . كأنَّه يعني بالاعتراضِ أنهم ليسوا ممَّن سَبَق الكلامُ لأجلهم، ولا يريد الاعتراضَ الصناعيِّ.
قوله: {واصبر نَفْسَكَ} : أي: احبِسْها وثَبِّتْها، قال أبو ذؤيب:
314 -
1- فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة
…
تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ
وقوله: «بالغَداة» تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام.
قوله: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ مفعولَه محذوفٌ، تقديرُه: ولا تَعْدُ عيناك النظرَ. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب «عَنْ» . قال الزمخشري: «وإنما عُدِّيَ ب» عَنْ «لتضمين» عَدا «معنى نبا وعلا في قولِك: نَبَتْ عنه عيْنُه، وعلَتْ عنه عَيْنُه، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به. فإن قلت: أيُّ غرضٍ في هذا التضمين؟ وهَلَاّ قيل: ولا تَعْدُهم عيناك، أو: ولا تَعْلُ عيناك عنهم؟ قلت: الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ. ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك: ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم. ونحوه {وَلَا تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، أي: ولا تَضُمُّوها إليها آكلين لها» .
ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس، وإنما يُصار إليه عند الضرورة. فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه.
وقرأ الحسن «ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ» مِنْ أَعْدى رباعياً. وقرأ هو وعيسى والأعمش «ولا تُعَدِّ» بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّي مُضَعَّفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ، كقولِ النابغة:
314 -
2-
فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له
…
وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ
كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ. ورَدَّ عليهما الشيخ: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه. وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال:«يقال: عَدَاه إذا جاوزه، وإنما عُدِّي ب عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ» وهو اعتراضٌ حسنٌ.
قوله: «تُريد» جملةٌ حالية. ويجوز أن يكونَ فاعلُ «تريد» المخاطبَ، أي: تريد أنت. ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد. ومنه قولُ امرئ القيس:
314 -
3- لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ
…
بها العَيْنان تَنْهَلُّ
وقولُ الآخر:
314 -
4- وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ
…
أو سُنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ
وفيه غيرُ ذلك. ونسبةُ الإِرادةِ إلى العينين مجازٌ. وقال الزمخشري: «
الجملةُ في موضعِ الحال» . قال الشيخ: «وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ» عَيْناك «فكان يكون التركيبُ: تريدان» . قلت: غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ. ثم قال: «وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإِضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال.
وقد أجاز ذلك بعضُهم إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزءِ، وحَسَّن ذلك أنَّ المقصودَ نهيُه هو عليه السلام. وإنما جِيْءَ بقوله:«عيناك» والمقصودُ هو لأنهما بهما تكونُ المراعاةُ للشخصِ والتلفُّتُ له «.
قلت: وقد ظهر لي وَجْهٌ حسنٌ لم أرَ غيري ذَكَرَه: وهو أن يكون» تَعْدُ «مُسنداً لضميرِ المخاطب صلى الله عليه وسلم، و» عيناك «بدلٌ من الضميرِ بدلُ بعضٍ من كل. و» تُرِيدُ «على وَجهَيْها: مِنْ كونها حالاً مِنْ» عيناك «أو من الضمير في تَعُدْ. إلا أنَّ في جَعْلِها حالاً من الضمير في» ولا تَعْدُ «ضَعفاً: من حيث إنَّ مراعاةَ المبدلِ منه بعد ذِكْرِ البدلِ قليلٌ جداً تقول:» الجارية حسنُها فاتِنٌ «ولا يجوز» فاتنةٌ «إلا قليلاً، كقولِه:
314 -
5- فكأنَّه لِهقُ السَّراةِ كأنَّه
…
ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ
فقال:» مُعَيَّنٌ «مراعاةً للهاء في» كأنه «، وكان الفصيحُ أن يقولَ:» مُعَيَّنان «مراعاةً لحاجبَيْه الذي هو البدلُ.
قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} العامَّة على إسنادِ الفعل ل» ن «و» قلبَه «مفعول به.
وقرأ عمرو بن عبيد بن فائد وموسى الأسواري بفتح اللام ورفع» قلبُه «أَسْندوا الإِغفالَ إلى القلبِ. وفيه أوجهٌ. قال ابن جني: مَنْ ظَنَّنَا غافِلين عنه» . وقال الزمخشري: «مَنْ حَسِبْنا قلبُه غافلين، مِنْ أَغْفَلْتُه إذا وَجَدْتَهُ غافلاً،. وقال أبو البقاء:» فيه وجهان، أحدُهما: وَجَدْنا قلبُه مُعْرِضين عنه. والثاني: أهملَ أَمْرَنا عن تَذَكُّرِنا «.
قوله:» فُرُطاً «يحتمل أَنْ يكون وصفاً/ على فُعُل كقولِهم:» فرسٌ فُرُطُ «، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدَّماً للحقِّ. وأن يكونَ مصدراً بمعنى التفريط أو الإِفراط. قال ابنُ عطية:» الفُرُطُ: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي: أمرَه الذي يجب أن يَلْزَم، ويُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِفراط والإِسراف.
قوله: {وَقُلِ الحق} : يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، أي: القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ. الثاني «أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحقُّ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ، إلَاّ أنَّ الفعلَ لا يُضمر إلا في مواضعَ تقدَّم التنبيهُ عليها، منها: أَنْ
يُجَابَ به استفهامٌ، أو يُرَدَّ به نفيٌ، أو يقعَ فعل مبنيّ للمفعول، لا يَصْلُح إسنادُه لما بعده كقراءة {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو} كما سيأتي إنْ شاء الله تحقيقُه في موضعِه. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ بعده.
وقرأ أبو السَّمَّال قعنب:» وقُلُ الحقَّ «بضمِّ اللامِ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركةِ القاف. وقرأ أيضاً بنصب» الحقَّ «. قال صاحب» اللوامح «:» هو على صفةِ المصدرِ المقدَّر؛ لأن الفعلَ يَدُلُّ على مصدره وإن لم يُذْكَرْ، فتنصِبُه معرفةً كما تنصِبُه نكرةً، وتقديرُه: وقل القولَ الحقَّ وتُعَلَّقُ «مِنْ» بمضمرٍ على ذلك. أي: جاء مِنْ ربكم «انتهى.
وقرأ الحسن والثقفي بكسرِ لامَيْ الأمرِ في قوله:» فَلْيُؤْمِنْ «، و» فَلْيَكْفُرْ «وهو الأصل.
قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} يجوز في» مَنْ «أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهِه بالشرط. وفاعلُ» شاء «الظاهرُ أنه ضميرٌ يعود على» مَنْ «. وقيل: ضميرٌ يعودُ على الله، وبه فَسَّر ابنُ عباس، والجمهورُ على خلافِه.
قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} في محلِّ نصبٍ صفةً ل» ناراً «. والسَّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ كالمَضْرِب والخِباء. وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادِق. قاله الهَرَوِيُّ. وقيل: هو الحُجْرَةُ تكونُ حول الفُسْطاط. وقيل: هو ما يُمَدُّ على صحنِ الدار. وقيل: كلُّ بيتٍ من كُرْسُفِ فهو سُرادِق، قال رؤبة:
314 -
6- يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ
…
سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدودْ
ويُقال: بيت مُسَرْدَق. قال الشاعر:
314 -
7- هو المُدْخِلُ النُّعْمانَ بيتاً سماؤُه
…
صدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسَرْدَقِ
وكان أبرويز ملكُ الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أَرْجُلِ الفِيلة. والفُيول: جمع فِيل. وقيل: السُّرادق: الدِّهليز. قال الفرزدق:
314 -
8- تَمَنَّيْتَهم حتى إذا ما لَقِيْتَهُمْ
…
تركْتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرادقا
والسُّرادق: فارسيٌّ معرَّبٌ أصله: سرادَة، قاله الجواليقي، وقال
الراغب:» فارسيٌّ معرَّبٌ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردٌ، ثالثُ حروفِه ألفٌ بعدها حرفان «.
قوله: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} ، أي: يَطْلُبوا العَوْنَ. والياءُ عن واوٍ، إذ الأصل: يستَغْوِثوا، فقُلبت الواو ياءً لتصريفٍ ذُكِر في الفاتحة عند قوله:{نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وهذا الكلامُ من المشاكلةِ والتجانُسِ، وإلا فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم كقولِه:
314 -
9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
[وكقولِه] :
315 -
0-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تَحِيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
وهو كثير.
و «كالمُهْلِ» صفةٌ ل «ماء» . والمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أُذِيْب من الجواهر كالنُّحاس والرصاص. والمَهَل بفتحتين: التُّؤَدَة والوَقار. قال: {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17] .
قوله: {يَشْوِي الوجوه} يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ثانيةً، أن تكونَ حالاً مِنْ «ماء» لأنه تخصَّصَ بالوصف، ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الجارِّ وهو الكاف.
والشَّيُّ: الإِنضاجُ بالنارِ من غيرِ مَرَقَةٍ تكون مع ذلك الشيءِ المَشْوِيَّ.
قوله: {بِئْسَ الشراب} المخصوصُ محذوفٌ تقديره: هو، أي: ذلك الماءُ المستغاثُ به.
قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} «ساءَتْ» هنا متصرفةٌ على بابها. وفاعلُها ضميرُ النار. ومُرْتَفَقَا تمييز منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء وقَبُحَ مُرْتَفَقُها. والمُرْتَفَقُ: المُتَّكأ. وقيل: المنزل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى الارتفاق، وهو من بابِ المقابلة أيضاً كقوله في وصفِ الجنة بعدُ:{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 31]، وإلَاّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أَنْ يكون من قوله:
315 -
1- إني أَرِقْتُ فَبِتُّ الليلَ مُرْتَفِقا
…
كأنَّ عَيْنِيَ فيها الصابُ مَذْبوحُ
يعني من باب التهكُّم.
قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ} : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ {إِنَّ الذين} والرابطُ: إمَّا تَكَرُّرُ الظاهرِ بمعناه، وهو قولُ الأخفش. ومثلُه في الصلة /
جائزٌ. ويجوز ان يكونَ الرابطُ محذوفاً، أي: منهم، ويجوز أن يكونَ الرابطُ العمومَ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ قولَه:{أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} ، ويكونَ قولُه:{إِنَّا لَا نُضِيعُ} اعتراضاً. قال ابن عطية: ونحوُه في الاعتراض قولُه:
315 -
2- إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ أَلْبَسَه
…
سِرْبالَ مُلْكٍ به تُزْجى الخواتِيمُ
قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ أن يكونَ» إنَّ اللهَ ألبسَه «اعتراضاً لجوازِ أَنْ يكونَ خبراً عن» إنَّ الخليفة «. قلت: وابن عطيةَ لم يَجْعَلْ ذلك متعيِّناً بذلك هو نحوه في أحد الجائزين فيه. ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قولَه {إِنَّا لَا نُضِيعُ} وقولَه {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} - خَبَريْن ل» إنَّ «عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، أعني تعدُّدَ الخبر، وإنْ لم يكونا في معنى خبرٍ واحد.
وقرأ الثقفيُّ» لا نُضَيِّع «بالتشديدِ، عَدَّاه بالتشديد كما عَدَّاه الجمهورُ بالهمزة.
قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} : في «مِنْ» هذه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنَّها للابتداءِ. والثاني: أنها للتعيض. والثالث: أنها لبيان الجنسِ، لأي: شيئاً مِنْ أساور. والرابع: أنها زائدةٌ عند الأخفش، ويَدُلُّ عليه قولُه: {
وحلوا أَسَاوِرَ} [الإِنسان: 21] . ذكر هذه الثلاثةَ الأخيرةَ أبو البقاء.
وأساوِر جمع أَسْوِرة، وأَسْوِرة جمعُ سِوار، كحِمار وأَحْمِرة، فهو جمعُ الجمع. جمع إسْوار. وأنشد:
315 -
3- واللهِ لولا صِبْيَةٌ صِغارُ
…
كأنَّما وجوهُهمْ أَقْمارُ
- أخافُ أَنْ يُصِيبهم إقتارُ
…
أو لاطِمٌ ليسَ له إسْوارُ
- لمَّا رآني مَلِكٌ جَبَّارُ
…
ببابِه ما طَلَعَ النَّهارُ
وقال أبو عبيدة: «هو جمعُ» إسوار «على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرْ.
وقرأ أبان بن عاصم» أَسْوِرة «جمعَ سِوار وستأتي إنْ شاء الله تعالى في الزخرف هاتان القراءتان في المتواتر، وهناك أذكُر إن شاء الله تعالى الفرقَ.
والسَّوارُ يُجمع في القِلَّة على» أَسْوِرة «وفي الكثرة على» سُور «بسكون الواو، وأصلُها كقُذُل وحُمُر، وإنما سُكِّنَتْ لأجلِ حرفِ العلة. وقد يُضَمُّ في الضرورة، وقال:
315 -
4- عن مُبْرِقاتٍ بالبُرِيْنَ وتَبْ
…
دُو في الأكفِّ اللامعاتِ سُوُرْ
وقال أهل اللغة: السَّوار ما جُعِلَ في الذِّراعِ مِنْ ذهبٍ أو فضة أو نُحاس، فإن كان مِنْ عاج فهو قُلْبٌ.
قوله: {مِن ذَهَبٍ} يجوز أن تكونَ للبيان، وأَنْ تكونَ للتبعيض. ويجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لأساوِر فموضعُه جر، وأن تتعلَّقَ بنفس» يُحَلُّوْنَ «فموضعها نصب.
قوله: {وَيَلْبَسُونَ} عطفٌ على» يُحَلَّوْن «. وبُني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتِهم، وأنَّ غيرَهم يَفعل لهم ذلك ويُزَيِّنُهم به، كقولِ امرئِ القيس.
315 -
5- غرائرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمةٍ
…
يُحَلِّيْنَ ياقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّراً
بخلافِ اللَّبس فإنَّ الإِنسان يتعاطاه بنفسه. وقُدِّم التحلِّي على الِّلباس لأنه أَشْهَى للنفسِ.
وقرأ أبان بن عاصم» وَيَلْبِسُونَ «بكسر الباء.
قوله: {مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} » مِنْ «لبيانِ الجنس وهي نعتٌ لثياب.
والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ من الدِّيباج. والإِستبرق: ما غَلُظَ منه وهما جمعُ سُنْدُسة واسْتَبْرَقَة. وقيل: ليسا جمعَيْنِ. وهل» اسْتَبْرق «عربيُّ الأصلِ مشتق من البريق، أو معرِّبٌ أصلُه استبره؟ خلافٌ بين اللغويين. وقيل: الإِستبرق اسم للحرير. وأنشد للمرقش:
315 -
6- تراهُنَّ يَلْبِسْنَ المشاعِرَ مَرَّةً
…
وإستبرقُ الديباجُ طَوْراً لِباسُها
وهو صالحٌ لِما تقدَّم. وقال ابنُ بحر:» الإِستبرق: ما نُسج بالذهب «.
ووَزْنُ سُنْدُس: فُعْلُل ونونُه أصلية.
وقرأ ابن محيصن» واسْتَبرقَ «بوصلِ الهمزة وفتح القافِ غيرَ منونة. فقال ابن جني: هذا سهوٌ أو كالسهوِ» . قلت: كأنه زعم أنَّه مَنَعه الصرفَ ولا وجهَ لمنعِه، لأنَّ شرطَ مَنْعِ الاسمِ الأعجمي أَنْ يكونَ عَلَماً وهذا اسمُ جنسٍ. وقد وجَّهها غيرُه على أنه جَعَلَه فعلاً ماضياً من البريق، واستَفْعَلَ بمعنى فَعَلَ المجرد نحو: قَرَّ واستقرَّ.
وقال الأهوازيُّ في «الإِقناع» : «واستبرق بالوصلِ وفتحِ/ القاف حيث كان لا يَصْرِفُه» فظاهرُ هذا أنه اسمٌ، وليس بفعلٍ وليس لمنعِه وجهٌ، كما تقدَّم عن ابن جني، وصاحب «اللوامح» لمَّا ذكر وَصْلَ الهمزةِ لم يَزِد على ذلك، بل نَصَّ على بقائِه منصرفاً ولم يذكر فتح القاف أيضاً فقال:«ابن محيصن» واستبرق «يوصلِ الهمزة في جميع
القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزةَ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربياً مِنْ بَرِق يَبْرُقُ بَرْيقاً، ووزنُه استفعل، فلمَّا سُمِّي به عامَلَه معاملَةَ الفعل في وَصْلِ الهمزةِ، ومعاملةَ الممتكنةِ من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثرُ التفاسيرِ على أنَّه عربية وليس بمستعربٍ، دَخَل في كلامِهم فاعربوه» .
قوله: «مُتَّكئين» حال والأرائِكُ: جمعُ أَرِيْكَة وهي الأَسِرَّة بشرط أن تكونَ في الحِجالِ فإن لم تكنْ لم تُسَمَّ أَرْيْكَة. وقيل: الأرائِكُ: الفُرُش في الحَجال أيضاً. وقال الارغب: «الأَرِيْكة: حَجَلَةٌ على سريرٍ، وتسميتها بذلك: إمَّا لكونِها في الأرض مُتَّخَذَةً مِنْ أَراك، أو مِنْ كونها مكاناً للإِقامة من قولهم: أَرَك بالمكان أُرُوكاً، وأصل الأُروك الإِقامةُ على رَعْيِ الأَراكِ، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإِقامات» .
وقرأ ابن محيصن: «عَلَّرَائك» وذلك: أنَّه نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى لامِ التعريف فالتقى مِثْلان: لامُ «على» - فإنَّ ألفها حُذفَتْ لالتقاءِ الساكنين- ولامُ التعريف، واعتدَّ بحركة النقل فأدغم اللامَ في اللامِ، فصار اللفظُ كما ترى، ومثلُه قولُ الشاعر:
315 -
7- فما أصبحَتْ عَلَّرْضِ نَفْسٌ بريئةٌ
…
ولا غيرُها إلا سليمانُ نالها
يريد «على الأرض» . وقد تقدَّم قراءةٌ قريبةٌ مِنْ هذه أولَ البقرة: بما أُنْزِلَّيْكَ «، أي: أُنْزِلَ إليك.
قوله: {رَّجُلَيْنِ} : قد تقدَّم أنَّ «ضَرَبَ» مع المَثَلِ، يجوز أن يتعدَّى لاثنين في سورةِ البقرة. وقال أبو البقاء: التقدير: مثلاً مَثَل رجلين، و «جَعَلْنَا» تفسيرٌ ل «مَثَل» فلا موضعَ له، ويجوز أن يكونَ موضعُه نصباً نعتاً ل «رَجُلِيْن» كقولك: مررت برجلين جُعِلَ لأحدِهما جنةٌ «.
قوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا} يقال: حَفَّ بالشيءِ: طاف به من جميع جوانبِه، قال النابغة:
315 -
8- يَحُفُّه جانِباً نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ
…
مِثلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِن الرَّمَدِ
وحَفَّ به القومُ: صاروا طائفين بجوانبِه وحافَّته، وحَفَفْتُه به، أي: جَعَلْتُه مُطِيْفاً به.
قوله: {كِلْتَا} : قد تقدَّم في السورة قبلها حكمُ «كلتا» وهي مبتدأ، و «آتَتْ» خبرُها. وجاء هنا على الكثير: وهو مراعاةُ لفظِها دونَ معناها.
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفِه - «كلا الجَنَّتين» بالتذكير لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. ثم قرأ «آتَتْ» بالتأنيث اعتباراً بلفظ «الجنتين» فهو نظيرُ «طَلَعَ الشمسُ وأشرقَتْ» وروى الفراء عنه قراءةً أخرى: «كلُّ الجنتين آتى أُكُلَه» أعادَ الضميرَ على لفظِه.
قوله: «وفجَّرْنا» العامَّةُ على التشديد وإنما كان كذلك، وهو نهر واحد مبالغةٌ فيه. وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيفِ وهي قراءةُ الأعمش في سورة القمر، والتشديدُ هناك أظهرُ لقولِه «عيوناً» .
والعامَّةُ على فتحِ هاء «نَهَر» وأبو السَّمال والفياض بسكونها.
قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} : قد تقدَّم الكلامُ فيه في الأنعام مستوفى، وتقدَّم أنَّ «الثُّمُرَ» بالضم المالُ. فقال ابنُ عباس: جميع المال مِنْ ذهبٍ وفِضَّةٍ وحيوانٍ وغير ذلك. قال النابغة:
315 -
9- مَهْلاً فداءً لك الأقوامُ كلُّهمُ
…
وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
وقيل: هو الذهب والفضة خاصةٍ.
وقرأ أبو رجاء «بِثَمْرِه» بفتحة وسكون.
قوله: «وهو يحاوِرُه» جملةٌ حالية مُبَيِّنة إذ لا يَلْزَمُ مِنَ القولِ المحاوَرَةُ؛ إذ المحاوَرَةُ مراجعةُ الكلام مِنْ حار، أي: رَجَعَ، قال تعالى:{إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] . وقال امرؤ القيس:
316 -
0-
وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضَوئِه
…
يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هُوَ ساطِعُ
ويجوز أَنْ تكونَ حالاً مِنَ الفاعل أو من المفعول.
قوله: {جَنَّتَهُ} : / إنما أفرد بعد ذِكْرِ التثنية اكتفاءً بالواحدِ للعِلْمِ بالحال. قال أبو البقاء: «كما اكْتُفِيَ بالواحدِ عن الجمعِ في قولِ الهُذَليّ:
316 -
1- فالعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها
…
سُمِلَتْ بشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ
ولقائلٍ أن يقول: إنما جاز ذلك لأنَّ جمعَ التكسيرِ يجري مَجْرى المؤنثة، فالضمير في» سُمِلَتْ «وفي» فهي «يعود على الحِداق لا على حَدَقة واحدة كما تَوَهَّم.
وقال الزمخشري:» فإن قلت: لِمَ أَفْرَدَ الجنَّة بعد التثنية؟ قلت: معناه: ودخل ما هو جنتُه، ماله جنةٌ غيرُها، بمعنى: أنَّه ليس له نصيبٌ في الجنة التي وُعِدَ المتقون. فما ملكه في الدنيا هو جَنَّته لا غير، ولم يَقْصِدْ الجنتين ولا واحدةً منهما «.
قال الشيخ:» ولا يُتَصَوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله: «ودخل جَنَّته» إخبارٌ من الله تعالى بأنَّ هذا الكافرَ دَخَلَ جَنَّته فلا بُدَّ أَنْ قَصَدَ في الإِخبار أنَّه دَخَلَ إحدى جنتيه إذ لا يمكن أَنْ يَدْخُلَهما معاً في وقتٍ واحد: «. قلت: ومتى أدَّعَى
دخولهما في وقتٍ واحدٍ يُلْزِمَه بهذا المستحيل في البداية. وأمَّا قوله» ولم يَقْصِدِ الجنتين ولا واحدةً «معناه لم يَقْصِدْ تعيينَ مفردٍ ولا مثنى لا أنه لم يَقْصِدْ الإِخبارَ بالدخول» .
وقال أبو البقاء: «إنما أفْرَدَ لأنهما جميعاً مِلْكُه فصارا كالشيء الواحد» .
قوله: «وهو ظالمٌ» حالٌ مِنْ فاعل «دَخَلَ» ، و «لنفسِه» مفعولُ «ظالمٌ» واللام مزيدةٌ فيه لكونِ العامل فرعاً.
«قال له صاحبُه» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «ظالم» ، أي: وهو ظالمٌ في حالِ كونِه قائلاً، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً بياناً لسبب الظلمِ، وهو الأحسن.
قوله: «أَنْ تبيد» ، أي: تَهْلَكَ، قال:
316 -
2- فَلَئِنْ باد أهلُه
…
لبِما كان يُوْهَلُ
ويقال: باد يبيدُ بُيُوداً وبَيْدٌودة، مثل «كَيْنُونة» والعملُ فيها معروفٌ وهو أنه حُذِفَت إحدى الياءين، ووزنُها فَيْعَلُولة.
قوله: {خَيْراً مِّنْهَا} : قرأ أبو عمروٍ والكوفيون «منها» بالإِفراد نظراً إلى أقربِ مذكورٍ، وهو قولُه:«جَنَّته» وهي في مصاحفِ العراق دونَ ميمٍ. والباقون «منهما» بالتثنية نظراً إلى الأصل في قوله: «جَنَّتَيْن» و «كِلْتَا الجنتين» ورُسِمَتْ في مصاحف الحرمين والشام بالميم، فكلُّ قد وافق رَسْمَ مصحفِه «.
قوله: {مِن نُّطْفَةٍ} : النُّطْفَةُ في الأصل: القطرةُ من الماء الصافي يقال: نَطَف يَنْطِف، أي: قَطَر يَقْطُر. وفي الحديث: «فخرجَ ورأسُه يَنْطِفُ» وفي رواية: يَقْطُر، وهي مفسِّرةٌ، وأُطْلِق على المَنِّيِّ «نُطْفَةٌ» تشبيهاً بذلك.
قوله: «رَجُلاً» فيه وجهان، أحدهما: أنه حال، وجاز ذلك وإنْ [كان] غير منتقلٍ ولا مشتقٍ لأنه جاء بعد «سَوَّاك» إذ كان مِنَ الجائز أَنْ يُسَوِّيَه غيرَ رجلٍ وهو كقولِهم:«خَلَقَ اللهُ الزَّرافةَ يَدَيْها أطولَ من رجليها» وقول الآخر:
316 -
3- فجائت به سَبْطَ العظام كأنما
…
عِمامتُه بين الرِّجالِ لواءُ
والثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «سَوَّاك» لتضمُّنِه معنى صَيَّرك وجعلك، وهو ظاهرُ قول الحوفي.
قوله: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} : قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ.
والأصلُ في هذه الكلمةِ «» لكنْ أنا «فَنَقَلَ حركةَ همزةِ» أنا «إلى نون» لكن «وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ» أنا «اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ» أنا «وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ.
وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ
إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً.
وإعرابُ ذلك: أن يكونَ» أنا «مبتدأ و» هو «مبتدأ ثانٍ، و» هو «ضمير الشأن، و» اللهُ «مبتدأ ثالث. و» ربي «خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في» ربي «. ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ» هو «أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ» هو «عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه {بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ» هو «مبتدأً، ومابعده خبرُه، وهو خبرُه خبرُ» لكنَّ «. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ» لكنَّ «من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً.
وقرأ أبو عمروٍ» لكنَّهْ «بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون» أنا «، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ. وعن حاتم الطائي:» هكذا فَرْدِي أَنَهْ «.
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو:» رَوَى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لَحِقَ «لكن» . قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكن» وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ
غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ «لكنَّا» لكنَّ واسمَها وهو «ن» ، والأصل:«لكنَّنا» فحذف إحدى النونات نحو: {إِنَّا نَحْنُ} وكان حقُّ التركيبِ أن يكون «ربنا» ، «ولا نُشرك بربِّنا» قال:«ولكنه اعتبر المعنى فأفرد» .
وهو غريب جداً.
وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ «لكنَّ» مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع.
وقرأ عبدُ الله «لكنْ أنا هو» على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه «لكنْ هو الله» بغير «أنا» . وقرئ أيضاً «لكنَنَا» .
وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ «. [وقال:] » ونحوُه -يعني إدغامَ نون «لكن» في نون «ن» بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل:
316 -
4- وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ
…
وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ
ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ» لكنَّ «، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه:
316 -
5- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي
…
ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك» . قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو:
316 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فأدخل اللامَ في خبر «لكنَّ» . وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر «إنَّ» ، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ.
والاستدراكُ مِنْ قوله «أكفرْتَ» ، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه
استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك:«زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً.
قوله: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} : «لولا» تحضيضة داخلةٌ على «قلتَ» و «إذا دَخَلْتَ» منصوبٌ ب «قلتَ» فُصِلَ به بين «لولا» وما دَخَلَتْ عليه، ولم يُبالَ بذلك لأنه ليس بأجنبي، وقد عَرَفْتَ أنَّ حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان للتوبيخ.
قوله: {مَا شَآءَ الله} يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ شرطيةً، فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب «شاء» أي: أيَّ شيءٍ شاء اللهُ. والجواب محذوف، أي: ما شاء الله كان ووقَعَ. والثاني: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، وفيها حينئذٍ وجهان، أحدهما: أن تكونَ مبتدأةً، وخبرُها محذوفٌ، أي: الذي شاءه اللهُ كائنٌ وواقعٌ. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: الأمرُ الذي شاءه الله. وعلى كلِّ تقديرٍ: فهذه الجملة في محلِّ نصب بالقول.
قوله: {إِلَاّ بالله} خبرُ «لا» التبرئةِ، والجملةُ أيضاً منصوبةٌ بالقولِ، أي: لولا قُلْتَ هاتين الجملتين.
قوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ} يجوز في «أنا» وجهان. أحدُهما: أنْ يكونَ مؤكِّداً لياء المتكلم. والثاني: أنه ضميرُ الفصلِ بين المفعولين. و «أَقَلَّ» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ بحسبِ الوجهين في الرؤية: هل هي بَصَريةٌ أو عِلْمِيةٌ؟ إلا أنَّك إذا جعلتَها بَصَريةً تعيَّن في «أنا» أَنْ تكونَ توكيداً لا فصلاً؛ لأنَّ شرطَه أَنْ يقع بين مبتدأ وخبرٍ، أو ما أصلُه المبتدأُ والخبرُ.
وقرأ عيسى بن عمرَ «أَقَلَّ» بالرفع، ويَتَعَيَّن أن يكونَ «أنا» مبتدأ، و «أقلُّ» خبرُه. والجملةُ: إمَّا في موضعِ المفعولِ الثاني، وإمَّا في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية.
و {مَالاً وَوَلَداً} تمييز. وجوابُ الشرطِ قولُه {فعسى رَبِّي} .
قوله: {حُسْبَاناً} : الحُسْبانُ/ مصدرُ حَسَب الشيءَ يَحْسُبه، أي: أَحْصاه. قال الزجاج: «أي عذابَ حُسْبان، أي: حسابَ ما كسبت يداك» . وهو حسن. وقال الراغب: «قيل: معناه ناراً وعذاباً، وإنما هو في الحقيقة ما يُحاسَبُ عليه فيُجَازَى بحَسَبِه» وهذا موافقٌ لِما قاله أبو إسحاق، والزمخشري نحا إليه أيضاً، فقال:«والحُسْبانُ مصدرٌ كالغُفْرانِ والبُطْلانِ بمعنى الحِساب، أي: مقداراً حَسَبه الله وقَدَّرَه، وهو الحُكْمُ بتخريبِها» . وقيل: هو جمع حُسْبانة وهي السَّهْمُ. وفي التفسير: أنها قِطَعٌ مِنْ نارٍ. وفيه: هي الصواعِقُ.
قوله: {أَوْ يُصْبِحَ} : عطفٌ على «يُرْسِلَ» قال الشيخ: «و» أو يُصْبِحَ «عطفٌ على قوله:» ويُرْسِلَ «لأنَّ غُؤُوْرَ الماءِ لا يَتَسَبَّبُ عن الآفةِ السماويةِ، إلا إنْ عَنَى بالحُسْبانِ القضاءَ الإِلهيَّ، فحينئذٍ يتسَبَّبُ عنه إصباحُ الجنة صعيداً زَلَقاً، أو إصباحُ مائِها غَوْراً.
والزَّلَقُ والغَوْرُ في الأصلِ: مصدران وُصِف بهما مبالغةً.
والعامَّة على فتحِ الغين. غار الماءُ يغورُ غَوْراً، غاض وذهب في الأرض. وقرأ البرجميُّ بضمِّ الغين لغةً في المصدر. وقرأتْ طائفةٌ» غُؤْوراً «بضمِّ الغينِ والهمزةِ وواوٍ ساكنة. وهو مصدرٌ أيضاً يُقال: غار الماءُ غُؤْوراً مثل: جَلَسَ جُلوساً.
قوله: {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} : قُرئ «تَقَلَّبُ كَفَّاه» ، أي: تتقلَّب كفَّاه. و «أصبح» : يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها، وأَنْ تكونَ بمعنى صار، وهذا كنايةٌ عن الندمِ لأنَّ النادمَ يَفْعل ذلك.
قوله: {عَلَى مَآ أَنْفَقَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «يُقَلِّب» ، وإنما عُدِّيَ ب «على» لأنَّه ضُمِّن معنى يَنْدَمُ.
وقوله: «فيها» ، أي: في عِمارتها. ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ «يُقَلَّبُ» ، أي: مُتَحَسِّراً. كذا قَدَّره أبو البقاء. وهو تفسيرُ معنى. والتقديرُ الصناعيُّ إنما هو كونٌ مطلقٌ.
قوله: «ويقولُ» يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على «يُقَلَّبُ» ، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً.
مِنْ تحتُ. والباقون مِنْ فوقُ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيثُ مجازيٌّ، وحَسَّن التذكيرَ الفصلُ.
قوله: «يَنْصُرُونه» يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ حالية، والخبرُ الجارُّ المتقدِّمُ، وسوَّغ مجيءَ الحالِ من النكرة تقدُّمُ النفيِ. ويجوز أَنْ تكونَ صفةً ل «فئة» إذا جَعَلْنا الخبرَ الجارَّ.
وقال: «يَنْصُرونه» حَمْلاً على معنى «فِئَة» لأنهم في قوةِ القوم والناس، ولو حُمِل على لفظِها لأُفْرِد كقولِه تعالى:{فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] .
وقرأ ابن أبي عبلة: «تَنْصُرُه» على اللفظ. قال أبو البقاء: «ولو كان» تَنْصُره «لكان على اللفظ» . قلت: قد قرئ بذلك كما عَرَفْتَ.
قوله: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ} : يجوز أَنْ يكونَ الكلامُ تَمَّ على قوله «منتصراً» وهذه جملةٌ منقطعةٌ عمَّا قبلَها، وعلى هذا فيجوز في الكلامِ أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «هنالك الوَلايةُ» مقدَّراً بجملةٍ فعليةٍ، فالولايةُ فاعلٌ بالظرف قبلها، أي: استقرَّتِ الولايةُ لله، و «لله» متعلقٌ بالاستقرار، أو بنفسِ الظرفِ لقيامِه مَقامَ العاملِ أو بنفسِ الوَلاية، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الولاية» ، وهذا إنما يتأتَّى على رَأْيِ الأخفش من حيث إنَّ الظرفَ يرفعُ الفاعلَ مِنْ غيرِ اعتماد.
والثاني: أَنْ يكونَ «هنالك» منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر «الولاية»
وهو «لله» أو بما تعلَّق به «لله» أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ منها، والعاملُ الاستقرار في «لله» عند مَنْ يُجيز تقدُّمَ الحالِ على عاملِها المعنويِّ، أو يتعلَّق بنفس «الولاية» .
والثالث: أَنْ يُجْعَلَ «هنالك» هو الخبر، و «لله» فَضْلةٌ، والعاملُ فيه ما تقدَّم في الوجه الأول.
ويجوز أن يكونَ «هنالك» مِنْ تتمة ما قبلها فلم يَتِمَّ الكلامُ دونَه، وهو معمولٌ ل «منتصِراً» ، أي: وما كان منتصراً في الدار الآخرة، و «هنالك» إشارةٌ إليها. وإليه نحا أبو إسحاق. وعلى هذا فيكون الوقفُ على «هنالِك» تامَّاً، والابتداءُ بقولِه «الوَلايةُ لله» فتكونُ جملةً مِنْ مبتدأ وخبر.
والظاهرُ في «هنالك» : أنَّه على موضوعِه مِنْ ظرفيةِ المكان كما تقدَّم معناه. وتقدَّم أنَّ الأَخَوين يَقْرآن «الوِلاية» بالكسرِ، والفرقُ بينها وبين قراءةِ الباقين بالفتح في سورة الأنفال فلا معنى لإِعادتِه.
وحُكي عن أبي عمروٍ والأصمعيِّ أنَّ كسرَ الواوِ هنا لحنٌ. قالا: لأنَّ فِعالة إنما تجيءُ فيما كان صنعةً أو معنى متقلداً، وليس هناك تَوَلِّي أمورٍ.
قوله: «الحق» قرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ برفع «الحقُّ» والباقون بجرِّه، والرفعُ، من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه صفةٌ للوَلاية. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو، أي: ما أَوْحيناه إليك. الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الحقُّ ذلك. وهو ما قُلْناه.
والجرُّ على أنه صفةٌ للجلالةِ الكريمة.
وقرأ زيدُ بن علي وأبو حيوة وعمرو بن عبيد ويعقوب «الحقَّ» نصباً على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة كقولك: هذا عبدُ اللهِ الحقَّ لا الباطلَ «.
قوله:» عُقباً «عاصمٌ وحمزةُ بسكونِ القافِ، والباقون بضمها. فقيل: لغتان كالقُدُس والقُدْس. وقيل: الأصل الضمُّ، والسكونُ تخفيفٌ. وقيل: بالعكس كالعُسْر واليُسْر، وهو عكسُ معهودِ اللغةِ. ونصبُها ونصبُ» ثواباً «و» أملاً «على التمييز لأفعل التفضيل قبلها. ونقل الزمخشري أنه قُرئ» عُقْبى «بالألف وهي مصدرٌ أيضاً كبُشْرى، وتُروى عن عاصم.
قوله: {كَمَآءٍ} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، فقدَّره ابنُ عطية هي: أي: الحياة الدنيا. والثاني: أنه متعلقٌ
بمعنى المصدر، أي: ضرباً كماء. قاله الحوفي. وهذا بناءً منهما على أن «ضَرَب» هذه متعديةٌ لواحدٍ فقط. والثالث: أنه في موضعِ المفعول الثاني ل «اضْرِبْ» لأنها بمعنى صَيَّرَ. وقد تقدَّم.
قال الشيخ بعدما نقل قولَيْ ابن عطية والحوفي: «وأقولُ: إنَّ» كماء «في موضعِ المفعولِ الثاني لقولِه» واضربْ «، أي: وصَيِّرْ لهم مَثَلَ الحياة، أي: صفتَها شبهَ ماء» . قلت: وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء.
و «أَنْزَلَناه» صفةٌ ل «ماء» .
قوله: {فاختلط بِهِ} يجوز في هذه الباءِ وجهان أحدهما: أن تكونَ سببيةً. الثاني: أَنْ تكونَ معدِّية. قاله الزمخشري: «فالتفَّ بسببِه وتكاثف حتى خالط بعضُه بعضاً. وقيل: نَجَعَ الماءُ في النبات حتى رَوِيَ ورَفَّ رَفِيْفاً. وكان حقُّ اللفظِ على هذا التفسيرِ: فاختلط بنباتِ الأرضِ. ووجه صحتِه: أنَّ كلَّ مختلطَيْنِ موصوفٌ كلُّ واحدٍ منهما بصفةِ الآخرَ» .
قوله: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} «أصبح» يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها؛ فإنَّ أكثرَ ما يَطْرُقُ مِن الآفاتِ صباحاً، كقولِه:{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى صار مِنْ غير تقيُّدٍ بصَباحٍ كقوله:
316 -
7- أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ ولا
…
اَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
والهَشِيمُ: واحدُه هَشِيْمَة وهو اليابس. وقال الزجاج وابن قتيبة: كل ما كان رطباً فَيَبِسَ. ومنه {كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] . ومنه: هَشَمْتُ الفتَّ. ويقال: هَشَمَ الثَّريدَ: إذا فَتَّه.
قوله: «تَذْرُوْه» صفةٌ ل «هَشيماً» والذَّرْوُ: التفريقُ، وقيل: الرفْعُ.
قوله: «تَذَرُوْه» بالواو. وقرأ عبد الله «تَذْرِيه» من الذَّرْي، ففي لامه لغتان: الواوُ والياءُ. وقرأ ابنُ عباس «تُذْرِيه» بضم التاء من الإِذْراء. وهذه تحتمل أَنْ تكونَ من الذَّروِ وأَنْ تكونَ من الذَّرْيِ. والعامَّةُ على «الرياح» جمعاً. وزيد بن علي والحسن والنخعي في آخرين «الرِّيحُ» بالإِفراد.
قوله: {زِينَةُ الحياة} : إنما افرد «زينة» وإن كانت خبراً عن بَنِين لأنَّها مصدرٌ، فالتقدير: ذوا زِيْنة، إذ جُعلا نفسَ المصدر مبالغةً؛ إذ بهما تَحْصُلُ الزينة، أو بمعنى مُزَيِّنَتَيْنِ. وقرئ شاذاً «زينتا الحياة» على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين فَيُتَوَهَّمُ أنه قرئ بنصب «زينة الحياة» .
قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ} : «يومَ» منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ بعده تقديرُه: نقول لهم نُسَيِّر الجبال: لقد جِئْتمونا. وقيل: بإضمار اذكر. وقيل: هو معطوفٌ على «عند ربك» فيكونُ معمولاً لقولِه «خيرٌ» .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّ التاء وفتح الياء مبنياً للمفعول. «الجبالُ» بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعل، وحَذَفَ الفاعلَ للعِلْمِ به وهو الله، أو مَنْ يأمرُه من الملائكة. وهذه القراءةُ موافقةٌ لِما اتُّفق عليه في قوله {وَسُيِّرَتِ الجبال} [النبأ: 20] ، ويؤيِّدها قراءةُ عبدِ الله هنا {وَسُيِّرَتِ الجبال} فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول.
والباقون «نُسَيِّر» بنون العظمة، والياءُ مكسورةٌ مِنْ «سَيَّر» بالتشديد؛ «الجبالَ» بالنصب على المفعول به، وهذه القراءةُ مناسِبةٌ لِما بعدها مِنْ قولِه {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ} .
وقأ الحسنُ كقراءةِ/ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه إلا أنه بالياءِ مِنْ تحتُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوبٌ عن أبي عمرو:«تَسِيْر» بفتحِ التاءِ من فوقُ ساكن الياء مِنْ سارَتْ تسيرُ، و «الجبالُ» بالرفع على الفاعليةِ.
قوله: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} «بارزةً» حالٌ؛ إذ الرؤيةُ بَصَريةٌ. وقرأ عيسى «وتُرى الأرضُ» مبنياً للمفعول، و «الأرضُ» قائمةٌ مقامَ الفاعل.
قوله: «وحَشَرْناهم» فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ماضٍ مُرادٌ به، المستقبلُ، أي: ونَحْشُرهم، وكذلك {وَعُرِضُواْ} [الكهف: 48] {وَوُضِعَ الكتاب} [الكهف: 49] .
والثاني: أن تكونَ الواوُ للحالِ، والجملةُ في محلِّ النصب، أي: نفعل التسييرَ في حال حَشْرِهم ليشاهدوا تلك الأهوالَ. والثالث: قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ جِيْءَ ب» حَشَرْناهم «ماضياً بعد» نُسَيِّر «و» تَرَى «؟ قلت: للدلالة على أنَّ حَشْرَهم قبل التَّسْييرِ وقبل البروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ العِظامَ، كأنه قيل: وحَشَرناهم قبل ذلك» .
قال الشيخ: «والأَوْلَى أَنْ تكونَ الواوُ للحال» فَذَكَرَ نحواً ممَّا قدَّمْتُه.
قوله: «فلم نغادِر» عطفٌ على «حَشَرْناهم» فإنه ماضٍ معنى. والمغادَرَةُ هنا: بمعن الغَذْر وهو الترك، أي: فلم نتركْ. والمفاعلةُ هنا ليس فيها مشاركةٌ. وسُمِّيَ الغَدْرُ غَدْراً لأنَّ به تُرِكَ الوفاءُ. وغَديرُ الماء مِنْ ذلك لأنَّ السيلَ غادَرَه، أي: تَرَكَه فلم يَجِئْهُ أو ترك فيه الماءَ، ويُجْمع على «غُدُر» و «غُدْران» كَرغِيف ورُغْفان، واسْتَغْدَرَ الغَدِيرَ: صار فيه الماء. والغَدِيْرة: الشَّعْرُ الذي تُرِكَ حتى طالَ. والجمع غَدائِر. قال امرؤ القيس:
316 -
8- غَدائِرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ قتادة «فلم تُغادِرْ» بالتاءِ من فوقُ، والفاعلُ ضميرُ الأرض، ِ أو الغَدْرَةِ المفهومةِ من السياق. وأبان «يُغادَرْ» مبنياً للمفعول، «أحدٌ» بالرفع.
والضحاك: «نُغْدِرْ» بضم النونِ وسكونِ العينِ وكسرِ الدالِ مِنْ «أَغْدَرَ بمعنى غَدَرَ.
قوله: {صَفَّاً} : حالٌ من مرفوعِ «عُرِضوا» وأصلُه المصدرية. يُقال منه: صَفَّ يَصِفُّ صَفًّاً، ثم يُطْلَقُ على الجماعة المُصطَفِّين. واخْتُلَِف هنا في «صَفَّاً» : هل هو مفردٌ وقع مَوْقع الجمعِ، إذ المرادُ صفوفاًَ، ويَدُلُّ عليه الحديث الصحيح:«يَجْمَع اللهُ الأوَّلين والآخرين في صَعيدٍ واحدٍ صُفوفاً» وفي حديث آخر: «أهل الجنةِ مئةٌ وعشرون صَفَّاً، أنتم منهم ثمانون» وقيل: ثَمَّ حَذْفٌ، أي: صَفَّاً صَفَّاً. ومثلُه قولُه في موضع: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] . وقال في آخرَ: {يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] يريد: صفاً صفاً، بدليل الآيةِ الأخرى فكذلك هنا. وقيل: بل كلُّ الخلائقِ يكونون صفاً واحداً، وهو أبلغُ في القُدرة. وأمَّا الحديثان فيُحملان على اختلافِ أحوال، لأنه يومٌ طويلٌ كما شهد له بقولِه {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فتارةً يكونون فيه صَفَّاً واحداً وتارةً صفوفاً.
قوله: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمارِ قولٍ، أي: وقُلْنا لهم: كيت وكيت. وتقدَّم أنَّ هذا القولَ هو العاملُ في {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} [الكهف: 47] . ويجوز ان يُضمر هذا القولُ حالاً من مرفوعِ «عُرِضُوا» ، أي: عُرِضُوا مَقُولاً لهم كذا.
قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} ، أي: مجيئاً مُشْبِهاً لخلقِكم الأول حفاةً عُراة غُرْلاً، لا مالَ ولا ولدَ معكم. وقال الزمخشري:«لقد بَعَثْناكم كما أَنْشَأْناكم أولَ مرة» فعلى هذين التقديرين، يكونُ نعتاً للمصدرِ المحذوفِ، وعلى رأي سيبويه يكون حالاً مِنْ ضميرِه.
قوله: {أَلَّن نَّجْعَلَ} «أَنْ» هي المخففةُ، وفُصِل بينها وبين خبرِها لكونِه جملةً متصرفةً غيرَ دعاءٍ بحرفِ النفي. و «لكم» يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير. و «مَوْعِداً» هو الأول. ويجوز أَنْ يكونَ مُعَلَّقاً بالجَعْل، أو يكونَ حالاً مِنْ «مَوْعداً» إذا لم يُجعل الجَعْلُ تصييراً، بل بمعنى لمجردِ الإِيجاد.
و «بل» في قولِه: «بل زَعَمْتُمْ» لمجردِ الانتقال من غيرِ إبطالٍ.
قوله: {وَوُضِعَ الكتاب} : العامَّةُ على بنائه للمفعول. وزيد بن علي على بنائِه للفاعل، وهو الله أو المَلَك. و «الكتابَ» منصوبٌ مفعولاً به. و «الكتابُ» جنسٌ للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً يَخُصُّه. وقد تقدَّم الوقفُ على {مَالِ هذا الكتاب} وكيف فُصِلَتْ لامُ الجرِّ مِنْ مجرورِها خطاً في سورة النساء عند {فَمَا لهؤلاء القوم لَا يَكَادُونَ} [النساء: 78] .
و «لا يغادِرُ» جملةٌ/ حالية من «الكتاب» . والعاملُ الجارُّ والمجرورُ لقيامِه مَقامَ الفعلِ، أو الاستقرارُ الذي تعلَّق به الحالُ.
قوله: «إلا أحْصاها» في محلِّ نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة. ويجوز أن تكونَ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني؛ لأنَّ يُغَادِرُ بمعنى يترك، و «يترك» قد يتعدَّى لاثنين كقوله:
316 -
9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فقد تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشبِ
في أحدِ الوجهين.
قوله: {وَإِذَا قُلْنَا} : أي: اذْكُرْ.
قوله: {كَانَ مِنَ الجن} فيه وجهان، أظهرهما: أنه استئنافٌ يفيد التعليلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّر. والثاني: أنَّ الجملةَ حاليةٌ، و «قد» معها مرادةٌ. قاله أبو البقاء وليس بالجليِّ.
قوله: «فَفَسَقَ» السببيةُ في الفاءِ ظاهرةٌ، تَسَبَّبَ عن كونِه من الجنِّ الفِسْقُ. وقال أبو البقاء: إنما أدخل الفاءَ هنا لأنَّ المعنى: «إلا إبليس امتنع فَفَسَق» . قلت: إنْ عَنَى أنَّ قولَه {كَانَ مِنَ الجن} وُضِعَ موضعَ قولِه «امتنع» فيُحتمل مع بُعْدِه، وإنْ عنَى أنه حُذِفَ فِعْلٌ عُطِفَ عليه هذا فليس بصحيحٍ للاستغناءِ عنه.
قوله: «عَنْ أمر» «عن» على بابها من المجاوزة، وهي متعلِّقَةٌ
ب «فَسَق» ، أي: خرج مجاوزاً أمرَ ربِّه. وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسببِ أمرِه، فإنه فَعَّالٌ لِما يريدُ.
قوله: «وذُرِّيَّتَه» يجوز في الواو أَنْ تكونَ عاطفةً وهو الظاهرُ، وأنْ تكونَ بمعنى مع. و «مِنْ دوني» يجوز تعلُّقُه بالاتخاذ، وبمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأَوْلِياء.
قوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولِ الاتخاذِ أو فاعلِه؛ لأنَّ فيها مصحِّحاً لكلٍ من الوجهين وهو الرابطُ.
قوله: «بِئْسَ» فاعُلها مضمرٌ مفسَّرٌ بتمييزه. والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه: بِئْسَ البَدَلُ إبليسُ وذريتُه و «للظالمين» متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالاً مِنْ «بَدَلاً» . وقيل: متعلِّقٌ بفعل الذَّمِّ.
قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} : أي: إبليسَ وذريتَه، أو ما أشهدْتُ الملائكةَ فكيف تعبدونهم؟ أو ما أشهدْتُ الكفارَ فكيف تَنْسُبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدْتُ جميعَ الخَلْقِ.
وقرأ أبو جعفر وشيبةُ والسختياني في آخرين: «أشهَدْناهم» على التعظيم.
قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} وُضع الظاهرُ موضعَ المضمر؛ إذ المراد بالمُضِلِّين مَنْ نفى عنهم إشهادَ خَلْقِ السماواتِ، وإنما نبَّه بذلك على وَصْفِهم القبيحِ.
وقرأ العامَّةُ «كُنْتُ» بضمِّ التاء إخباراً عنه تعالى. وقرأ الحسن
والجحدري وأبو جعفر بفتحها خطاباً لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {مُتَّخِذَ المضلين} نوَّن اسمَ الفاعلِ ونَصَبَ به، إذ المرادُ به الحالُ أو الاستقبالُ.
وقرأ عيسى «عَضْداً» بفتح العين وسكون الضاد، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم: سَبْع ورَجْل في: سَبْع ورَجْل. وقرأ الحسن «عُضْداً» بالضم والسكون: وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها. وعنه أيضاً «عَضَداً» بفتحتين و «عُضُداً» بضمتين. والضحاك «عِضَداً» بكسر العين وفتحِ الضاد. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ.
والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ. ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال: فلان عَضُدي. ومنه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك.
قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ} : معمولٌ ل «اذكر» أي: ويوم نقولُ يجري كيت وكيت. وقرأ حمزة «نقولُ» بنون العظمة مراعاةً للتكلم في قوله: «ما أَشْهَدْتُهم» إلى أخره. والباقون بياءِ الغَيْبَةِ لتقدُّمِ اسمِ الشريفِ الظاهر.
قوله: «مَوْبِقاً» مفعولٌ أولُ للجَعْلِ، والثاني الظرفُ المُقَدَّم. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ، فيتعلَّق الظرفُ بالجَعْلِ أو بمحذوفٍ على الحال مِنْ «مَوْبَقا» .
والمَوْبِقُ: المَهْلَكُ، يقال: وَبِقَ يَوْبِق وَبَقاً، أي: هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً: هَلَكَ وأَوْبَقه ذنبُه. وعن الفراء: «جَعَلَ اللهُ تواصُلَهم هَلاكاً» فجعل البَيْنَ بمعنى الوَصْلِ، وليس بظرفٍ كقولِه:{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في وجهٍ. وعلى هذا فيكون «بينَهم» مفعولاً أولَ ومَوْبِقاً «مفعولاً ثانياً. والمَوْبِقُ هنا: يجوز أَنْ يكونَ مصدراً وهو الظاهر. ويجوزُ أَنْ يكونَ مكاناً/.
قوله: {مَصْرِفاً} : المَصْرِفُ: المَعْدِل. قال الهذلي:
317 -
0- أزهيرُ هل عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ
…
أم لا خُلُوْدَ لباذِلٍ متكلِّفِ
ويجوز أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو زمانٍ. وقال أبو البقاء: «مَصْرِفاً: أي انْصِرافاً، ويجوز أَنْ يكونَ مكاناً» . قلت: وهذا سَهْوٌ فإنه جَعَلَ المَفْعِل بكسرِ العينِ مصدراً لِما مضارعُه يَفْعِل بالكسرِ من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسمَ مصدر هذا النوعِ مفتوحُ العين، واسمَ زمانِه ومكانِه مكسوراها نحو: المَضْرَب والمَضْرِب.
وقرأ زيدُ بن عليّ رضي الله عنه «مَصْرِفاً» بفتح الراء جعله مصدراً؛
لأنَّه مكسور العين في المضارع فهو كالمَضْرَب بمعنى الضَّرْب، وليت أبا البقاءِ ذكر هذه القراءةَ وَوَجَّهَها بما ذكره قبلُ.
قوله: {مِن كُلِّ مَثَلٍ} : يجوز أَنْ يكونَ «مِنْ كلِّ» صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، وهو مفعولٌ «صَرَّفنا» ، أي: صَرَّفنا مَثَلاً مِنْ كلِّ مَثَل. ويجوز أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً على رَأْيِ الأخفش والكوفيين.
قوله: «جَدَلاً» منصوبٌ على التمييز. وقوله: «أكثرَ شيءٍ» ، أي: أكثر الأشياء التي يتاتَّى منها الجِدال إنْ فَصَّلْتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإِنسانَ أكثرُ جدلاً مِنْ كلِّ شيءٍ يُجادل، فَوَضَعَ «شيءٍ» مَوْضِعَ الأشياء. وهل يجوزُ أَنْ يكونَ جَدَلاً منقولاً مِنْ اسم كان إذ الأصل: وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيء؟ فيه نظرٌ. وكلامُ أبي البقاء مُشْعِرٌ بجوازِهِ فإنه قال: «فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ شيئاً هنا في معنى مُجادِل؛ لأنَّ أَفْعل يُضافٌ إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزُه ب» جَدَلاً «يَقْتَضي أَنْ يكونَ الأكثرَ مُجادلاً. وهذا مِنْ وَضْعِ العامِّ موضعَ الخاصِّ. والثاني: أنَّ في الكلام محذوفاً تقديره: وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيءٍ، ثم مَيَّزه» . فقوله: «تقديرُه: وكان جَدَلُ الإِنسانِ» يفيد أنَّ إسنادَ «كان» إلى الجَدَلِ جائزٌ إلى الجملة، إلا أنه لا بُدَّ من تتميمٍ لذلك: وهو أَنْ تَتَجَوَّزَ فتجعَلَ للجَدَلِ جَدَلاً كقولِهِم: «شِعْرٌ شاعرٌ» يعني أنَّ لجدل الإِنسانِ جَدَلاً وهو أكثرُ من جَدَلَِ سائرِ الأشياءِ.
قوله: {وَمَا مَنَعَ} : وقد تقدَّم في آخرِ السورة قبلها.
وقوله: «قُبُلاً» قد تقدَّم خلافُ القراء فيه وتوجيهُ ذلك.
قوله: {لِيُدْحِضُواْ} : متعلِّقٌ ب «يُجَادِل» والإِدْحاض: الإِزْلاق يقال: أَدْحَضَ قدمَه، أي: أَزْلَقَها وأَزَلَّها عن موضعِها، والحجة الداحضة التي لا ثباتَ لها لزلزلةِ قَدَمِها. والدَّحْضُ: الطينُ لأنه يَزْلِقُ فيه. قال:
317 -
1- أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ وهِبْتَه
…
وحِدْتَ كما حادَ البعيرُ الدَّحْضِ
وقال آخر:
317 -
2- وَرَدْتُ ونَجَّى اليَشْكرِيِّ حِذارُه
…
وحادَ كما حادَ البَعيرُ عن الدَّحْضِ
و «مكانٌ دَحْضٌ» مِنْ هذا.
قوله: {وَمَا أُنْذِرُواْ} يجوزُ في «ما» هذه أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف. وعلى التقديرين فهي عطفٌ على «آياتي» .
و «هُزُوا» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ. وتقدَّم الخلافُ في «هُزُوا» . وتقدَّم إعرابُ ما بعد هذه الآية في الأنعام.
قوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} : يجوز في «المَوْعِد» أَنْ يكونَ مصدراً أو زماناً أو مكاناً.
والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ، أي: رَجَعَ، وهو من التأويل. وقال الفراء:«المَوْئِلُ: المَنْجى، وَأَلَتْ نَفْسُه، أي: نَجَتْ» . قال الأعشى:
313 -
7- وقد أٌخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتَهُ
…
وقد يُحاذِرُ مِنِّي ثم ما يَئِلُ
أي: ما يَنْجُو. وقال ابن قتيبة: «المَوْئل: المَلْجَأ» . يقال: وَأَلَ فلان إلى فلان يَئِل وأَلاً، ووُؤُوْلاً، إذا لَجَأ إليه وهو هنا مصدرٌ.
و «مِنْ دونِه» متعلِّقٌ بالوِجْدان لأنه متعدٍّ لواحدٍ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «مَوْئِلاً» .
وقرأ أبو جعفر «مَوِلا» بواوٍ مسكورةٍ فقط. والزُّهْري: بواوٍ مشددة فقط. والأُوْلَى أقيسُ تخفيفاً.
قوله: {وَتِلْكَ القرى} : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأ وخبراً، و «أهلكناهم» حينئذ: إمَّا خبرٌ ثانٍ أو حالٌ. ويجوز أن تكونَ «تلك» مبتدأ، و «القرى» صفتها أو بيان لها أو بدل منها و «أَهْلكناها» الخبرُ. ويجوز أن يكون «تلك» منصوبَ المحل بفعلٍ مقدر على الاشتغال.
والضميرُ في «أَهْلَكْناهم» عائدٌ على «أهل» المضافِ إلى القرى، إذ التقديرُ: وأهل تلك القُرى، فراعى المحذوفَ فأعاد عليه الضميرَ. وتقدَّم ذلك في أول الأعراف.
و {لَمَّا ظَلَمُواْ} يجوُ أَنْ يكونَ حرفاً، وأن يكونَ ظرفاً وقد عُرِف ما فيها.
قوله: «لِمَهْلِكِهِمْ» قرأ عاصم «مَهْلَك» بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ
قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين.
فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف «مَهْلَك» فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله. وقال: «إنَّ» هَلَك «يتعدَّى دون همز وأنشد:
317 -
4- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا
…
ف» مَنْ «معمولٌ ل» هالكٍ «وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. ف» مَنْ تعرَّج «فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في» هالِك «ضميرَ» مَهْمه «ونَصَبَ» مَنْ تعرَّج «نَصْبَ» الوجهَ «في قولِك:» مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ «ثم أضاف الصفة وهي» هالك «إلى معمولها، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رفعٍ. فهو كقولك:» زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ «، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو:
هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر:
317 -
5- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً
…
والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ
وقال الهذلي:
317 -
6- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها
…
وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ
وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه:» إنه زمانٌ «ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان.
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً. قال:»
وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ «. وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و» مُهْلَك «فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه، وأَنْ يكون زماناً، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم.
والمَوْعِدُ: مصدرٌ أو زمان.
قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى} : «إذ» منصوبٌ ب اذكر، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه.
قوله: «لا أَبْرَحُ» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر. والثاني: أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه. فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ الخبرُ محذوفاً للدلالةِ عليه تقديرُه: لا أبرحُ أسيرُ حتى أبلغَ، إلا انَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة كقوله:
317 -
7- لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ
…
يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ
أي: حين ليس في الدنيا مُجير. والثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ، ثم حذف «مسير» وأقيمت الياء مُقامَه، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً، وبقي «حتى أَبْلُغَ» على حالِه هو الخبر.
وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهاً واحداً، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً، فقال:«فإن قلت» «لا أبرح» إن كان بمعنى «لا أَزُوْل» مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإِقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى «لا أزال» فلا بُدَّ من خبر. قلت: هي بمعنى لا أزال، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معاً يَدُلَاّن عليه: أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قولَه «حتى أَبْلُغَ» غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له، فلا بد أن يكون المعنى:[لا أبرح أسير حتى أبلغَ. ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى:] لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ «حتى أبلغَ» هو الخبرُ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إليه مُقامه وهو ضميرُ المتكلم، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ «.
قلت: وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو: خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً عن» مسيري «في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به. ألا ترى أنه ليس في قوله» حتى أبلغ «ضميرٌ يعودُ على» مَسيري «إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر، ومِثْلُ ذلك لا/ يُكتفى به.
ويمكن أَنْ يُجابَ عنه: بانَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه حتى أبلغَ به، أي: بمسيري.
وإن كانت التامةَ كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ، ولا أفارقه ولا أتركه، حتى أبلغَ، كما تقول: لا أبرحُ المكانَ. قلت: فعلى هذا يُحتاجُ أيضاً إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه، فالحذفُ لا بُدَّ منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان.
وقرأ العامَّة «مَجْمَعَ» بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع، وقيل: مصدر. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها، وهو شاذ، لفتحِ عينِ مضارعِه.
قوله: «حُقُبا» منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر. وقيل: ثمانون سنة. وقيل: سنةٌ واحدة بلغة قريش. وقيل: سبعون. وقرأ الحسن. «حُقْباً» بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفاً، وأن يكونَ لغةً مستقلة. ويُجمع على «أَحْقاب» كعُنُق وأَعْناق. وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر. قال امرؤ القيس:
317 -
8- فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها
…
فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
والحُقْبَة بالضمِّ أيضاً. وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرَب، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب.
وقوله: «أو أَمْضِيَ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه منسوقٌ على «أَبْلُغَ» يعني
بأحد أمرين: إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ، أو بمضيِّه حُقُباً. والثاني: انه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ، فيكون منصوباً بإضمارِ، «أَنْ» بعد «أو» بمعنى «إلى» نحو «لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي» .
قال الشيخ: «فالمعنى: لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ، إلى أن اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواتَ مجمعِ البحرَيْن» قلت: فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكاناً وزماناً، فلا بُدَّ من حصولهِما معاً نحو:«لأسيرَنَّ إلى بيتِك إلى الظهر» فلا بُدَّ من حصولِ الغايتين. والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين.
وجَعَلَ أبو البقاء «أو» هنا بمعنى «إلَاّ» في أحدِ الوجهين، قال:«والثاني: أنَّها بمعنى: إلا أَنْ اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين» . وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى «إلى» المقتضيةِ للغايةِ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإِشكالُ.
قوله: {نَسِيَا} الظاهرُ نسبةُ النِّسْيانِ إلى موسى وفتاه، يعني نَسِيا تفقُّدَ أَمْرِه، فإنه كان علامةً لهما على ما يَطْلبانه. وقيل: نَسِي موسى ان يأمرَه بالإِتيانِ به ونسيَ يوشع أَنْ يفكِّرَه بأمرِه. وقيل: الناس يوشع فقط، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: نَسِيَ أحدُهما كقولِه: «يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرْجان» .
قوله: {فِي البحر سَرَباً} «سَرَبا» مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخذ» . و «في البحر»
يجوز أن يتعلَّق ب «اتَّخَذَ» ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
والهاءُ في «سبيلَه» تعودُ على الحُوْت. وكذا المرفوع في «اتَّخَذَ» .
قوله: {جَاوَزَا} : مفعولُه محذوفٌ، أي: جاوزا الموعدَ. وقيل: جاوزا مجمعَ البحرَيْن.
قوله: «هذا» إشارةٌ إلى السَّفََر الذي وقع بعد مجاوزتِهما المَوْعِدَ، أو مجمعَ البحرين. و «نَصَبا» هو المفعول ب «لَقِيْنا» . والعامَّةُ على فتح النون والصاد. وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما. وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة. كذا قال أبو الفضلِ الرازي في «لوامحه» .
قوله: {أَرَأَيْتَ} : قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعاً في الأنعام. وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً رأيت نَقْلَه وهو «أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية، فقالوا: أَرَأَيْتَك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها. وشَذَّت أيضاً فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى، ولا تقولُ فيها أبداً:» أراني زيداً عمراً ما صَنَعَ «وتقولُ هذا على معنى» اعلَمْ «. وشذَّتْ أيضاً
فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي} فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى: أمَّا أو تنبَّهْ. والمعنى: أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ. وقد أَخْرَجْتَها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا. وإذا كانت/ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ، وقد تَخْرُجُ لمعنى» أمَّا «، ويكون أبداً بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان، فقوله:» فإنِّي نَسِيْتُ «معناه: أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي، أو تَنَبَّه إذ أوينا، وليستِ الفاءُ إلا جواباً لأَرَأَيْتَ لأنَّ» إذْ «لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً ب» ما «بلا خلافٍ» .
وقال الزمخشري: «أرأيتَ بمعنى أخبِرْني. فإن قلتَ: ما وجهُ التئامِ هذا الكلامِ، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ» أرأيت «ومِنْ» إذ أَوَيْنا «، ومِنْ» فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ « [لا متعلِّقَ له] ؟ قلت: لَمَّا طَلَب موسى الحوتَ ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه مِنْ نِسيانه إلى تلك الغايةِ، ودُهِش فَطَفِقَ يسأل موسى عن سبب ذلك كأنَّه قال: أرأيتَ ما دهاني إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نسيتُ الحوت. فحذف ذلك» .
قال الشيخ: «وهذان مَفْقودانِ في تقديرِ الزمخشري» أرأيتَ بمعنى أخبرني «. يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش مِنْ أنَّه لا بُدَّ بعدها من الاسم المستخبَرِ عنه ولزومِ الاستفهامِ الجملةَ التي بعدها.
قوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ} قرأ حفص بضمِّ الهاء. وكذا في قوله: {
عَلَيْهُ الله} [الآية: 10] في سورة الفتح. قيل: لأنَّ الياءَ هنا أصلُها الفتح، والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل. وأمَّا في سورة الفتح فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ اصلُها الألفُ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً؟
والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظِ، فإنها بعد ياءٍ ساكنة. وقد جمع حفص في قراءتِه بين اللغات في هاء الكناية: فإنه ضمَّ الهاء في» أنسانِيْه «في غيرِ صلةٍ، ووصَلَها بياءٍ في قوله:{فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وقرأ كأكثرِ القراء فيما سوى ذلك.
قوله: {أَنْ أَذْكُرَهُ} في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ هاء «أنسانِيْه» بدلِ اشتمال، أي: أَنْساني ذكرَه.
قوله: «عَجَباً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخذ» . و «في البحرِ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
وفي فاعل «اتَّخذ» وجهان، أحدُهما: هو الحوت، كما تقدَّم في «اتَّخذ» الأولى. والثاني: هو موسى.
الوجهُ الثاني مِنْ وجهَيْ «عَجَباً» أنه مفعولٌ به، والعاملُ فيه محذوفٌ، فقال الزمخشري:«أو قال: عَجَباً في آخرِ كلامِه تَعَجُّباً مِنْ حاله. وقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشيطان} اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه» . فظاهرُ هذا أنَّه مفعولٌ ب «قال» ، أي: قال هذا اللفظَ.
الثالث: أنه مصدر، فالعاملُ فيه مقدَّرٌ تقديرُه: فتعجَّب مِنْ ذلك عَجَباً.
الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، ناصبُه «اتَّخذ» ، أي: اتخذ سبيلَه في البحر اتِّخاذاً عَجَباً. وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون «في البحر» مفعولاً ثانياً ل «اتَّخَذَ» إن عَدَّيْناها لمفعولين.
قوله: {نَبْغِ} : حذفَ نافع وأبو عمرو والكسائي ياء «نَبْغي» وقفاً، وأثبتوها وصلاً. وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حَذَفوها في الحالين اتِّباعاً للرسم. وكان مِنْ حَقِّها الثبوتُ، وإنما حُذِفت تشبيهاً بالفواصلِ، أو لأنَّ الحَذْفَ يُؤْنِسُ بالحذفِ فإنَّ «ما» موصولةٌ حُذِفَ عائدُها، وهذه بخلافِ التي في يوسف فإنها ثابتةٌ عند الجميعِ، وقد تقدَّم ذلك في مَوْضِعِه.
قوله: «قَصَصاً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: قاصِّيْن. الثاني: أنه مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مِنْ لفظِه مقدَّرٍ، أي: يَقُصَّان قَصَصاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «ارتَدَّا» لأنه في معنى فَقَصَّا.
وقرأ الكسائيُّ «أنسانِيْهِ» بالإِمالة.
وعبد الله «أَنْ أذكرَكَه» . وأبو حيوة «واتخاذَ سبيلِه» عَطَفَ هذا المصدرَ على مفعول «اذكره» .
قوله: {عِلْماً} : مفعولٌ ثان ل «عَلَّمْناه» ، قال أبو البقاء:«ولو كان مصدراً لكان تعليماً» يعني لأنَّ فعلَه على فَعَّل بالتشديد، وقياسُ مصدرِه التفعيلُ.
و {مِن لَّدُنَّا} يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِلْماً» .
قوله: {على أَن تُعَلِّمَنِ} : في موضعِ / الحال من الكاف في «أَتَّبِعُك» ، أي: أَتَّبِعُك باذلاً لي علمَك.
قوله: «رُشْداً» مفعولٌ ثانٍ ل «تُعَلِّمَني» ، لا لِقوله:«ممَّا عُلِّمْتَ» . قال أبو البقاء: «لأنَّه لا عائد إذن على الذي» يعني أنه إذا تعدَّى لمفعولٍ ثانٍ غيرِ ضميرِ الموصولِ لم يَجُزْ أَنْ يتعدَّى لضميرِ الموصولِ؛ لئلَاّ يتعدَّى إلى
ثلاثةٍ، ولكن لا بُدَّ مِنْ عائدٍ على الموصول.
وقد تقدَّم خلافُ القرَّاء في «رُشْدا» في سورة الأعراف. وهل هما بمعنى واحدٍ أم لا؟
قوله: {خُبْراً} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ لقولِه «تُحِطْ» وهو منقولٌ مِنَ الفاعليةِ، إذ الأصل: مما لم يُحِطْ به خَبَرُك. والثاني: أنه مصدرٌ لمعنى لم تُحِط، إذ هو في قوة: لم يُخْبِرْه خُبْراً. وقرأ الحسن «خُبُراً» بضمتين.
قوله: {وَلَا أَعْصِي} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنََّها لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها. وفيه بُعْدٌ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ عطفاً على «سَتَجِدُني» لأنَّها منصوبةُ المحلِّ بالقول. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» سَتَجِدُني «فلا يكونُ له محلٌّ من الإِعراب؟ وهذا سَهْوٌ؛ فإنَّ» ستجِدُني «منصوبُ المحلِّ لأنه منصوبٌ بالقول، فكذلك ما عُطِفَ عليه، ولكن الذي غَرَّ الشيخَ أنَّه رأى كلامَ الزمخشري كذلك، ولم يتأمَّلْه فتبعه في ذلك، فمن ثَمَّ جاء السهو. قال الزمخشري: ولا أَعْصِي: في محلِّ النصبِ عطفاً على» صابراً «، أي: ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ. أو» لا «في محلِّ عطفاً على» سَتَجِدُني «.
الرابع: أنَّه في محلِّ نصبٍ عطفاً على» صابراً «كما تقدَّم تقريرُه.
قوله: {فَلَا تَسْأَلْني} : قد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في هذا الحرفِ في سورة هود: وقرأ أبو جعفر هنا بفتحِ السينِ واللامِ وتشديدِ النونِ من غيرِ همزٍ.
قوله: {لِتُغْرِقَ} : في اللام وجهان، أحدُهما: هي لامُ العلة. والثاني: هي لامُ الصَّيْرورة. وقرأ الأخَوان: «ليَغْرَقَ» بفتح الياء مِنْ تحتُ وسكونِ الغين وفتحِ الراء، «أهلُها» بالرفع فاعلاً. والباقون بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الراء، أي: لتُغْرِق أنت أهلَها بالنصب مفعولاً به. والحسن وأبو رجاء كذلك، إلا أنَّهما شَدَّدا الراءَ.
والسفينة معروفةٌ، وتُجمع على سُفُن وسَفائن نحو: صحيفة وصُحُف وصحائف. وتُحذف منها التاءُ مراداً بها الجمعُ، فتكونُ اسمَ جنسٍ نحو: ثَمَرَ وبَلَح. إلا أنه هذا المصنوع قليلٌ جداً نحو: جَرَّة وجَرَّ، وعِمامة وعِمام. قال الشاعر:
317 -
9-
متى تَأْتيه تأتي لُجَ بَحْرٍ
…
تقاذَفُ في غوارِبِه السَّفينُ
واشتقاقها مِن السَّفْنِ وهو القَشْر؛ لأنها تقشُر الماءَ. كما سُمِّيَتْ «بِنْتَ مَخْرٍ» لأنها تَمْخُر الماء، أي: تَشُقُّه.
قوله: «إمْراً» شيئاً عظيماً، يقال: أَمِرَ الأَمْرُ، أي: عَظُم وتفاقَمَ. قال:
318 -
0- داهِيَةً دَهْياءَ إمْراً
…
قوله: {عُسْراً} : كفعولٌ ثانٍ ل «تُرْهِقْني» مِنْ أَرْهَقَه كذا إذا حَمَّله إياه وغشَّاه به. و «ما» في «بما نَسِيْتَ» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ.
قوله: {زاكِيَةً} : قرأ «زاكية» بألفٍ وتخفيفِ الياءِ نافعٌ وابنُ كثير وابو عمرو. وبدون الألف وتشديد الياء الباقون. فَمَنْ قَرَأ «زاكية» فهو أسمُ فاعلٍ على أصلِه. ومَنْ قرأ «زَكِيَّة» فقد أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة.
والغُلام: مَنْ لم يَبْلُغْ. وقد يُطْلق على البالغِ الكبيرِ. فقيل: مجازاً باعتبارِ ما كان. ومنه قولُ ليلى:
318 -
1- شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قد أصابها
…
غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
وقال آخر:
318 -
2- تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عني فإنني
…
غلامٌ إذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بشاعرِ
وقيل: بل هو حقيقةٌ لأنه مِن الإِغلام وهو السَّبْق، وذلك إنما يكونُ في الإِنسانِ المحتلِمِ. وقد تقدَّم ترتيبُ أسماءِ الآدمي مِنْ لَدُن هو جنينٌ إلى أن يضير شيخاً ولله الحمد/.
قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ قيل:» حتى إذا رَكِبا في السفينةِ خَرَقَها «بغير فاءٍ، و» حتى إذا لَقِيا غلاماً فَقَتَله «بالفاء؟ قلت» جَعَل «خَرَقَها» جزاءً للشرطِ، وجَعَل «قَتَله» من جملةِ الشرط معطوفاً عليه، والجزاءُ «قال: أَقْتَلْتَ» . فإنْ قلت: لِمَ خُولف بينهما؟ قلت: لأنَّ الخَرْقَ لم يتعقَّبِ الركوبَ، وقد تعقَّبَ القتلُ لقاءَ الغلامِ «.
قوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: انها متعلقةٌ ب» قَتَلْتَ «. الثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنَ الفاعلِ أو من المفعولِ،
أي: قَتَلْتَه ظالماً أو مظلوماً، كذا قَدَّرَه أبو البقاء. وهو بعيدٌ جداً. الثالث: أنها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قَتْلاً بغيرِ نفسٍ.
قوله:» نُكْراً «قرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان بضمتين، والباقون بضمة وسكون. وهما لغتان، أو أحدهما أصل. و» شيئاً «: يجوز أن يُراد به المصدرُ، أي: مَجيئاً نُكْرا، وأن يُراد به المفعولُ به، أي: جِئْتَ أمراً مُنْكَراً. وهل النُّكْرُ أَبْلَغُ من الإِمر أو بالعكس. فقيل: الإِمْرُ أبلغُ؛ لأنَّ قَتْلَ أَنْفُسٍ بسبب الخَرْقِ أعظمُ مِنْ قَتْل نفسٍ واحدة. وقيل: بل النُّكْر أبلغُ لأن معه القَتْلَ الحَتْمَ، بخلاف خَرْقِ السفينة فإنه يمكن تدارُكُه، ولذلك قال:» ألم أَقُلْ لك «ولم يأتِ ب» لك «مع» إمراً «.
قوله: {فَلَا تُصَاحِبْنِي} : العامَّةُ على «تصاحِبْني» من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: «فلا تَصْحَبَنِّي» مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ «فلا تُصْحِبْني عِلْمَك» فأظهر المفعول.
قوله: {مِن لَّدُنِّي} العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم
اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على «لَدُن» لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون «مِنْ» و «عَنْ» فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد.
ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل «لَدُن» . إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: «لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب» لَدُنْ «مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية» . وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ ب «لَدُ» لغةً في «لَدُن» حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون.
والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: «لَدُني» بالتخفيف.
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ «عَنْ» و «مِنْ» في قوله:
318 -
3- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ
…
لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على «لَدْ» الساكنة الدال، لغةً في «لدن» فالتقى ساكنان
فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد «عَضْد» وبابِه.
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه {لَا تَأْمَنَّا} [الآية: 11] ، وفي قوله في هذه السورةِ «مِنْ لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ «عُذُراً» بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً «عُذْرِي» مضافاً لياءِ المتكلم.
و {مِن لَّدُنِّي} متعلقٌ ب «بَلَغْتَ» ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عُذْرا» .
قوله: {استطعمآ أَهْلَهَا} : جواب «إذا» ، أي: سألاهم الطعامَ. وفي تكريرِ «أهلَها» وجهان، أحدهما: أنه توكيدٌ من بابِ إقامةِ الظاهر مُقامِ المضمر كقوله:
318 -
4-
لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ
…
نغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
والثاني: أنَّه للتأسيسِ؛ وذلك أنَّ الأهلَ المَأْتِيِّين ليسوا جميعَ الأهل، إنما هم البعضُ، إذ لا يمكن أَنْ يأتيا جميعَ الأهلِ في العادة في وقتٍ واحد، فلمَّا ذَكَرَ الاستطعامَ ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل كأنهما تَتَبَّعا الأهلَ واحداً واحداً، فلو قيل: استطعماهم لاحتمل أنَّ الضميرَ/ يعودُ على ذلك البعضِ المأتِيِّ دونَ غيرِه، فكرَّر الأهلَ لذلك.
قوله: {أَن يُضَيِّفُوهُمَا} مفعولٌ به لقولِه «أبَوْا» . والعامَّة على التشديد مِنْ ضَيَّفَه يُضَيِّفه. والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف مِنْ: أضافَه يُضيفه وهما مثل: مَيَّله وأماله.
قوله: {أَن يَنقَضَّ} مفعولُ الإِرادة. و «انقَضَّ» يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش «يريد ليُنْقَضَ» مبنياً للمفعول واللامِ، كهي في قولِه {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] . وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه {يُرِيدُ أَن يُنقَضَ} بغير لام كي.
وقرأ الزُّهْري «أنْ يَنْقَاضَ» بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: «هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ» أي: هَدَمْتُه فانهدم «. قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال:» مثل: يَحْمارّ «ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال:» وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «.
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين» يَنْقاص «بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه:» وتقول العرب «انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً» . وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة:
318 -
5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل: إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان. وأُنْشِد لأبي ذؤيب:
3186 -
فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه
…
لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ
مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً.
قوله: «لاتَّحّذْتَ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتَخِذْتَ» بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ. والباقون:: لاتَّخَذْتَ «بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ. واختُلِفَ: هل هما مِن الأَخْذ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال: تَخِذَ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو:
318 -
7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ
أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع. والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب.
قوله: {فِرَاقُ بَيْنِي} : العامَّةُ على الإِضافةِ اتِّساعاً في
الظرف. وقيل: هو بمعنى الوَصْلِ. ومِثلُه قولُه:
318 -
8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وجِلْدَةُ بين العَيْنِ والأَنْفِ سالِمُ
وقرأ ابنُ أبي عبلة «فِراقٌ» بالتنوين على الأصل. وتكريرُ المضافِ إليه عطفاً بالواو هو الذي سَوَّغ إضافةَ «بَيْنَ» إلى غيرِ متعدِّدٍ، ألا ترى أنَّك لو اقتصَرْتَ على قولك:«المالُ بيني» لم يكن كلاماً حتى تقولَ: بيننا، أو بيني وبين فلان. وقرأ ابن وثاب «سَأُنْبِيْكَ» بإخلاص الياء بدلَ الهمزة.
قوله: {لِمَسَاكِينَ} : العامَّةُ على تخفيفِ السِّين، جمعَ «مِسْكين» . وقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين - كرَّم الله وجهَه - بتشديدِها جمع «مَسَّاك» . وفيه قولان، أحدُهما: أنه الذي يُمْسِك سكان السفينة. وفيه بعضُ مناسبة. والثاني: أنه الذي يَدْبَغُ المُسُوك جمعَ «مَسْك» بفتح الميم وهي الجُلود. وهذا بعيدٌ، لقولِه {يَعْمَلُونَ فِي البحر} . ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين. و «يَعْملون» صفةٌ لمساكين.
قوله: {وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} «وراء» هنا قيل: يُراد بها المكانُ. وقيلَ: الزمانُ. واخْتُلِف/ أيضاً فيها: هل هي على حقيقتِها أو بمعنى أمام؟ وأنشدوا على هذا الثاني:
318 -
9-
اليس ورائي أَنْ أَدِبَّ على العَصا
…
فَيَأْمَنَ أعدائي ويَسْأَمَني أَهْلي
وقولَ لبيد:
319 -
0- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي
…
لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ
وقول سَوَّار بن المُضَرِّبِ السَّعْدي:
319 -
1- أَيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي
…
وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا
ومثله قولُه تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16]، أي: بين يديه.
قوله: «غَصْباً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أو منصوبٌ على المصدرِ المبيِّنِ لنوعِ الأَخْذِ، أو منصوبٌ على المفعولِ له. وهو بعيدٌ في المعنى. وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً فقال:«فإنْ قلتَ: قولُه» «فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَها» مُسَبَّبٌ عن خوفِ الغَصْبِ عليها فكان حقُّه أن يتأخرَ عن السبب فلِمَ قُدِّم عليه؟ قلت: النيةُ به التأخيرُ، وإنما قُدِّمَ للعنايةِ به، ولأنَّ خَوْفَ الغَصبِ ليس هو السببَ وحدَه، ولكن مع كونِها للمساكينِ، فكان بمنزلةِ قولِك: زيدٌ ظنَِّي مقيمٌ «.
قوله: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} : التثنيةُ للتغليبِ، يريد: أباه وأمه، فغلَّب المذكرَ، وهو شائعٌ. ومثلُه: القمران والعُمَران. وقد تقدَّم
في يوسف: أنَّ الأبوين يُراد بهما الأبُ والخالَةُ فهذا أقربُ.
والعامَّةُ على «مُؤْمِنَيْنِ» بالياء. وأبو سعيد الخُدريُّ والجحدري «مؤمنان» بالألف. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه على لغة بين الحارث وغيرهم. الثاني: أنَّ في «كان» ضميرَ الشأنِ، و «أبواه مؤمنان» مبتدأ وخبرٌ في محلِّ النصبِ كقوله:
319 -
2-إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفانِ شامِتٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهذا أيضاً محتمِلٌ للوجهين. الثالث: أن في «كان» ضميرَ الغلامِ، أي: فكان الغلامُ والجملةُ بعده الخبرُ. وهو أحسنُ الوجوهِ.
قوله: {أَن يُبْدِلَهُمَا} : قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال مِنْ «بَدَّلَ» هنا، وفي التحريم {أَن يُبْدِلَهُ} وفي القلم {أَنْ يُبْدِلَنا} والباقون بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدالِ مِنْ «أَبْدَلَ» في المواضعِ الثلاثة. فقيل: هما لغتان بمعنىً واحد. وقال ثعلب: الإِبدالُ تَنْحِيَةُ جوهرَةٍ،
واستئنافُ أخرى. وأنشد:
319 -
3- عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ
…
قال: ألا تراه نَحَّى جسماً، وجعل مكانَه آخرَ. والتبديلُ: تغييرُ الصورةِ إلى غيرِها، والجوهرةُ باقيةٌ بعينِها. واحتجَّ الفراء بقولِه تعالى:{يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] قال: «والذي قال ثعلبٌ حسنٌ، إلا أنَّهم يجعلون اَبْدَلْتُ بمعنى بَدَّلْتُ» . قلت: ومِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في قولِه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} [إبراهيم: 48] : هل يتغير الجسمُ والصفةُ، أو الصفةُ دونَ الجسمِ؟
قوله: «رُحْماً» قرأ ابن عامر «رُحُماً» بضمتين. والباقون بضمةٍ وسكونٍ وهما بمعنى الرحمة. قال رؤبة:
319 -
2- يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسا
…
ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إِبْليسا
وقيل: الرُّحْم بمعنى الرَّحِم. وهو لائقٌ هنا مِنْ أجلِ القَرابةِ بالولادة. ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس «رَحِماً» بفتحِ الراءِ وكسرِ الحاءِ. و «زكاة ورُحْماً» منصوبان على التمييز.
قوله: {رَحْمَةً} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أوضحُها: أنَّه مفعولٌ له. الثاني: أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ من الفاعل، أي: أراد ذلك راحماً،
وهي حالٌ لازمةٌ. الثالث: أَنْ ينتصِبَ انتصابَ المصدرِ لأنَّ معنى {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ} معنى «فَرَحِمَهما» .
قوله: تَسْطِعْ «، قيل: أصلُه استطاع، فَحُذِفَتْ تاءُ الافتعالِ. وقيل: المحذوفُ: الطاءُ الأصلية ثم أُبْدِلت تاءُ الافتعال طاءً بعد السِّين. وهذا تكلُّفشٌ بعيدٌ. وقيل: السينُ مزيدةٌ عوضاً من قلبِ الواوِ ألفاً، والأصلُ: أطاع. ولتحقيقِ القولِ فيه موضعٌ غيرُ هذا.
ويقال:» استتاعَ «بتاءين، و» اسْتاعَ «بتاء واحدة، فهذه أربعُ لغاتٍ، حكاها ابن السكيت.
قوله: {مِّنْهُ ذِكْراً} : أي: مِنْ أخبارِهِ وقَصَصِه.
قوله: {فَأَتْبَعَ} : قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو «فَأَتْبَعَ» و «ثم أَتْبَعَ» في المواضعِ الثلاثة بهمزةِ وصلٍ وتشديدِ التاء. والباقون بهمزةِ القطع وسكونِ التاء. فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ. وقيل: «أتبع» بالقطعِ متعدٍ لاثنين حُذِف أحدُهما تقديرُه: فأتبع سبباً سبباً آخرَ، أو فأتبع أمرَه سبباً. ومنه {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} [القصص: 42] فعدَّاه لاثنين/
ومِنْ حَذْفِ أحدِ المفعولين: قولُه تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]، أي: أَتْبعوهم جنودَهم. واختار أبو عبيد «اتَّبع» بالوصل، قال:«لأنه من المسيرِ» قال «تقول» تَبِعْتُ القومَ واتَّبَعْتُهم. فأما الإِتباعُ بالقَطْع فمعناه اللَّحاق، كقولِه تعالى:{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] . وقال يونس وأبو زيد: «أَتْبَعَ» بالقطع عبارةٌ عن المُجِدِّ المُسْرِعِ الحثيثِ الطلبِ. وبالوصل إنما يتضمَّن الاقتفاءَ دونَ هذه الصفات.
قوله: {حامِيَةٍ} : قرأ ابن عامر وأبو بكر والأخَوان بالألف وياءٍ ضريحة بعد الميم. والباقون دون ألفٍ وهمزة بعد الميم. فأمَّا القراءةُ الأولى فإنها اسمُ فاعلٍ مِنْ حَمِي يَحْمِي، والمعنى: في عينٍ حارَّة. واختارها أبو عبيدٍ، قال:«لأنَّ عليها جماعةً من الصحابة» وسمَّاهم. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنَ الحَمْأةِ وهي الطينُ.
وكان ابنُ عباس عند معاويةَ. فقرأ معاويةُ «حاميةٍ» فقال ابن عباس: «حَمِئَةٍ» . فسأل معاويةُ ابنَ عمرَ كيف تقرأ؟ فقال: كقراءةِ أمير المؤمنين. فبعث معاويةُ، فسأل كعباً فقال:«أَجِدُها تغرُب في ماءٍ وطين» . فوافق ابن عباس. وكان رجلٌ حاضرٌ هناك فأنشد قولَ تُبَّع:
319 -
5-
فرأى مغيبَ الشمسِ عند مآبِها
…
في عينِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمِدِ
ولا تناقضَ بين القراءتينِ؛ لأنَّ العينَ جامعةٌ بين الوصفين: الحرارةِ وكونِها مِنْ طين.
قوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} يجوز في {أَن تُعَذِّبَ} الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، أي: إمَّا تعذيبُك واقعٌ، أو الرفعُ على خبرٍ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو تعذيبُك. والنصبُ، أي: إمَّا أَنْ تَفْعَلَ أَنْ تُعَذَّبَ.
قوله: {جَزَآءً الحسنى} : قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب «جزاءً» وتنوينِه. والباقون برفعِه مضافاً. فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ، أي: يَجْزِي جزاء. وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه. وقد يُعْترض على الأولِ: بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها، فكذا لا يَتَوسَّط. وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ، وهو إلى الجوازِ أقربُ.
الثالث: أنه في موضع الحالِ. والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء، والخبرُ الجارُّ قبلَه. و «الحُسْنى» مضاف إليها. والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ. وقيل: الفَعْلَة الحسنى.
الرابع: نصبُه على التفسيرِ. قاله الفراء. يعني التمييزَ. وهو بعيدٌ.
وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنَّ المبتدأَ محذوفٌ، وهو العاملُ في «جزاءَ الحسنى» التقديرُ: فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى. والثاني: أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله:
319 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ولا ذاكرَ اللهَ إلَاّ قليلا
ذكره المهدويُّ.
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق «جزاءً» مرفوعاً منوناً على الابتداء. و «الحُسْنى» بدلٌ أو بيان، أو منصوبةٌ بإضمار «أَعْني» ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ.
و «يُسْراً» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قولاً ذا يُسْرٍ. وقرأ أبو جعفر بضمِّ «اليُسْر» حيث وَرَدَ.
قوله: {مَطْلِعَ} : العامَّةُ على كسر اللام، والمضارعُ يَطْلُع بالضم، فكان القياسُ فتحَ اللامِ في المَفْعَل مطلقاً، ولكنها مع أخواتٍ لها سُمع فيها الكسر، وقياسُها الفتح. وقد قرأ ابن الحسن وعيسى
وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن ابن كثير وأهلِ مكة. قال الكسائي:«هذه اللغةُ قد ماتَتْ» يعني: أي: بكسر اللام من المضارع والمفْعِل. وهذا يُشْعِرُ أنَّ مِن العرب مَنْ كان يقول: طَلَع يَطْلِعُ بالكسرِ في المضارع.
قوله: {كَذَلِكَ} : الكافُ: إمَّا مرفوعةُ المحلِّ، أي: الأمر كذلك. أو منصوبتُه، أي: فَعَلْنا مثلَ ذلك.
قوله: {بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} «بين» هنا يجوز أن يكونَ طرفاً، والمفعولُ محذوفٌ، أي: بلغ غَرَضَه ومقصودَه، وأَنْ يكونَ مفعولاً به على الاتِّساع، أي: بلغ المكانَ الحاجزَ بينهما.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح سين «السَّدَّين» و «سَدَّا» في هذه السورةِ، وحفص فتح الجميع، أعني موضعَيْ هذه السورة وموضعَيْ سورةِ يس. وقرأ الأخَوان بالفتح في «سَدَّاً» في سورتيه وبالضمِّ في «السُّدَّيْن» . والباقون بالضم في الجميع. فقيل: هما بمعنى واحد. / وقيل: المضمومُ ما كان من فِعْلِ اللهِ تعالى، والمفتوحُ ما كان مِنْ فِعْلِ الناس. وهذا مرويٌ عن عكرمةَ والكسائي وأبي عبيد. وهو مردودٌ: بأن السَّدَّيْن في هذه السورة جَبَلان، سَدَّ ذو القرنين بينهما بسَدّ، فهما مِنْ فِعْلِ اللهِ، والسَّدُُّ الذي فعله
ذو القرنين مِنْ فِعْل المخلوق. و «سَدّاً» في يس مِنْ فِعْلِ الله تعالى لقولِه: «وجَعَلْنا» ، ومع ذلك قُرِئ في الجميع بالفتح والضمِّ. فَعُلِم أنهما لغتان كالضَّعْف والضُّعف والفَقْر والفُقْر. وقال الخليل: المضمومُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ. وهذا هو الاختيارُ.
قوله: {يَفْقَهُونَ} : قرأ الأخَوان بضمِّ الياء وكسرِ القافِ مِنْ أَقْفَهَ غيرَه، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: لا يُفْقهون غيرهم قولاً. والباقون بفتحها، أي: لا يَفْهمون كلامَ غيرِهم، وهو بمعنى الأول. وقيل: ليس بمتلازِمٍ؛ إذ قد يَفْقَهُ الإِنسانُ قولَ غيرِه ولا يَفْقَه غيرُه قولَه. وبالعكس.
قوله: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} : قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة، والباقون بألفٍ صريحة. واخْتُلِف في ذلك فقيل: هما أعجميان. لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة. ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية. وقيل: بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما: فقيل: اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها. وقيل: مِنَ الأَجَّة. وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ. وقيل: من الأجِّ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ. ومنه قوله:
319 -
7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ
وقيل: من الأُجاجِ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق. ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ. وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ. ولا ضَيْرَ في ذلك. ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ.
ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج، أي: اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل: مَوْجُوج. قاله أبو حاتم. وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ. وشذوذُه كشذوذِ «طائيّ» في النسب إلى طيِّئ. وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود. ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام. والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد. وقرأ رؤبة وأبوه العجاج «آجوج» .
قوله: «خَراجاً» قرأ ابن عامر «خَرْجاً» هنا وفي المؤمنين بسكون الراء، والأخَوان «خراجاً» «فَخَراج» في السورتين بالألف، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو «
فَخَراج» كقراءة الأخوين. فقيل: هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال. وقيل: الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام، وبغير ألف بمعنى الجُعْل، أي: نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك.
قال مكي رحمه الله: «والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام. وقيل: الخَرْج ما كان على الرؤوس، والخراج ما كان على الأرض، يقال: أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ، وخراجَ أرضِك. قاله ابن الأعرابي. وقيل: الخَرْجُ أخصُّ، والخَراجُ أعَمُّ. قاله ثعلب. وقيل: الخَرْجُ مصدرٌ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق.
قوله: {مَا مَكَّنِّي} : «ما» بمعنى الذي. وقرأ ابن كثير «مكَّنني» بإظهار النون. والباقون بإدغامِها في نون الوقاية للتخفيف.
قوله: {آتُونِي} : قرأ أبو بكر «ايتوني» بهمزةِ وصل مِنْ أتى يَأتي في الموضعين من هذه السورة بخلافٍ عنه في الثاني. وافقه حمزةُ على الثاني من غيرِ خلافٍ عنه. والباقون بهمزةِ القطعِ فيهما.
ف «زُبُرَ» على قراءةِ همزةِ الوصل منصوبةٌ على إسقاط الخافض، أي: جيئوني بزُبُرِ الحديد. وفي قراءة قَطْعِها على المفعول الثاني لأنه يتعدَّى/ بالهمزة إلى اثنين. وعلى قراءة أبي بكر يُحتاج إلى كسر التنوين من «رَدْماً» لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ همزةَ الوصلِ تسقط دَرْجاً فيُقْرأ له بكسر التنوين، وبعده همزةٌ ساكنة هي فاءُ الكلمة. وإذا ابتدأت بكلمتي «ائتوني» في قراءتِه وقراءةِ حمزة تبدأ بهمزةٍ مكسورةٍ للوصل ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزةِ فاء الكلمة، وفي الدَّرْجِ تسقط همزةُ الوصل، فتعود الهمزةُ لزوالِ موجِبِ إبدالها.
والباقون يَبْتَدِئون ويَصِلُون بهمزةٍ مفتوحة لأنها همزة قطع، ويتركون تنوين «رَدْماً» على حاله من السكون، وهذا كلُّه ظاهرٌ لأهلِ النحو، خَفِيٌّ على القُرَّاء.
والزُّبَرُ جمع زُبْرَة كغُرْفَة وغُرَف. وقرأ الحسن بضم الباء.
قوله: «ساوَى» هذه قراءةُ الجمهور، وقتادة «سوَّى» بالتضعيف. وعاصمٌ في رواية «سُوِّيَ» مبنياً للمفعول.
قوله: «الصَّدَفَيْن» قرأ أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال. وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّهما، والباقون بفتحهما. وهذه لغاتٌ قُرِئ بها في السبع. وأبو جعفر وشيبة وحميد بالفتح والإِسكان، والماجِشون بالفتح والضم، وعاصم في روايةٍ بالعكس.
والصَّدَفان: ناحيتا الجبلين. وقيل: أَنْ يتقابلَ جبلان وبينهما طريق، فالناحيتان صَدَفان لتقابُلِهما وتصادُفِهما، مِنْ صادَفْتُ الرجلَ، أي: لاقَيْتُه وقابَلْته. وقال أبو عبيد: «الصَّدَفُ: كل بناءٍ مرتفع وليس بمعروفٍ، والفتح لغة تميم، والضمُّ لغة حِمْير» .
قوله: «قِطْراً» هو المتنازَعُ فيه. وهذه الآيةُ أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع، وهي من إعمالِ الثاني للحذف من الأول. والقِطْر: النُّحاس أو الرَّصاصُ المُذاب.
قوله: {فَمَا اسطاعوا} : قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها. والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي: «لمَّا لم يمكن
إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك» - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن، وإن لم يكن حرف لين. وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو. وقد أنشد سيبويه «ومَسْحِيِ» يعني في قول الشاعر:
319 -
8- كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ
…
ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ
يريد «ومَسْحِه» فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين. وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة. قال الزجاج:«مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ» وقال أبو علي: «هي غيرُ جائزة» .
وقرأ الأعشى، عن أبي بكر «اصْطاعوا» بإبدال السين صاداً. والأعمش «استطاعوا» كالثانية.
قوله: {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} : الظاهرُ ان الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير فتكون «دَكَّاء» مفعولاً ثانياً. وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ حالاً، و «جعل»
بمعنى خلق، وفيه بُعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجودٌ. وقد تقدَّم خلافٌ القراء في «دَكَّاء» في الأعراف.
قوله: {وَعْدُ رَبِّي} الوَعْدُ هنا مصدرٌ بمعنى الموعود أو على بابه.
قوله: {يَمُوجُ} : مفعولٌ ثانٍ ل «تَرَكْنا» والضمير في «بعضَهم» يعودُ على «يَأْجُوج ومَأْجوج» أو على سائر الخلق.
قوله: «يومئذ» التنوينُ عوضٌ من جملةٍ محذوفة. تقديرُها: يوم إذ جاء وَعْدُ ربي، أو إذ حَجَرَ السَّدُّ بينهم.
قوله: {الذين كَانَتْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من «للكافرين» أو بياناً أو نعتاً، وأن يكونَ منصوباً بإضمار أَذُمُّ، وأن يكونَ مرفوعاً خبرَ ابتداءٍ مضمر.
قوله: {أَفَحَسِبَ} : العامَّةُ على كسرِ السين وفتح الباء فعلاً ماضياً. و {أَن يَتَّخِذُواْ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين. وقرأ أمير المؤمنين على بن أبي طالب وزيد علي وابن كثير ويحيى بن يعمر في آخرين،
بسكون السينِ ورفعِ الباءِ على الابتداء، والخبر «أَنْ» وما في حَيَّزها.
وقال الزمخشري: «أو على الفعلِ والفاعلِ لأن اسمَ الفاعلِ إذا اعتمد على الهمزةِ ساوى الفعلَ كقولك:» أقائمٌ الزيدان «وهي قراءةٌ مُحْكَمةٌ جيدةٌ» .
قال الشيخ: والذي يظهرُ أنَّ هذا الإِعرابَ لا يجوزُ لأنَّ حَسْباً ليس باسمِ فاعل فيعمل، ولا يلزم مِنْ تفسير شيءٍ بشيء أن تجريَ عليه / أحكامُه. وقد ذكر سيبويه أشياءَ مِنَ الصفات التي تجري مَجْرى الأسماءِ، وأنَّ الوجهَ فيها الرفعُ. ثم قال: وذلك نحو: مررتُ برجلٍ خيرٌ [منه] أبوه، ومررتُ برجلٍ سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ، ومررت برجلٍ أبٌ له صاحبُه، ومررت برجلٍ حَسْبُك مِنْ رجلٍ هو، ومررت برجلٍ أيُّما رجلٍ هو. ثم قال الشيخ:«ولا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ به الظاهرُ، فقد أجازوا في» مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه «ان يرتفعَ» أبوه «بأبي عشرة لأنه في معنى والدِ عشرة» .
قوله: «نزلاً» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ جمعَ «نازِل» نحوشارِف وشُرُف. الثاني: أنه اسمُ موضعِ النزول. الثالث: أنَّه اسمُ
ما يُعَدُّ للنازلين من الضيوفِ، ويكونُ على سبيلِ التهكُّم بهم، كقولِه تعالى:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وقوله:
319 -
9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تحيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجميعُ
ونصبُه على هذين الوجهين مفعولاً به: أي: صَيَّرنا.
وأبو حيوة «نُزلاً» بسكونِ الزاي، وهو تخفيفُ الشهيرةِ.
قوله: {أَعْمَالاً} : تمييزٌ للأَخْسَرين، وجُمِعَ لاختلافِ الأنواع.
قوله: {الذين ضَلَّ} : يجوز فيه الجرُّ نعتاً وبدلاً وبياناً، والنصبُ على الذمِّ، والرفعُ على خبر ابتداء مضمر.
قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} يُسَمَّى في البديع «تجنيسَ التصحيف» وتجنيس الخَطِّ، وهذا مِنْ أحسنِه. وقال البحتري:
320 -
0- ولم يكن المُغْتَرُّ بالله إذ شَرَى
…
لِيُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طالبُهْ
فالأولُ من الغُرور، والثاني مِن العِزِّ. ومِنْ أحسنِ ما جاء في تجنيس التصحيف قوله:
320 -
1-
سَقَيْنَني رِيِّيْ وغَنِّيْنَنِيْ
…
يُحْتُ بحبِّي حين بِنَّ الخُرُدْ
يصحف بنحو:
320 -
2- شَقَيْتَني ربي وعَنَّيْتِنيْ
…
بحُبِّ يحيى خَتَنِ ابن الجُرُدْ
وفي بعضِ رسائلِ الفصحاء: «قَبَّلَ قبلَ يَدِكَ ثَراك، عبدٌ عند رَخاك رجاك، آمِلٌ أَمَّك» .
وقرأ ابن عباس «فَحَبِطَتْ» بفتح الباء. والعامَّة على «نُقيم» بنون العظمة مِنْ «أقام» . ومجاهد وعبيد بن عمير. «فلا يُقيم» بياءِ الغَيبة لتقدُّم قولِه: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} ، فالضميرُ يعود عليه. ومجاهدٌ أيضاً «فلا يقومُ لهم» مضارع قام، «وزنٌ» بالرفع. وعن عبيد بن عمير أيضاً «فلا يقومُ وزناً» بالنصبِ كأنه تَوَهَّم أنَّ «قام» متعدٍّ. كذا قال الشيخ. والأحسنُ مِنْ هذا أنْ تُعْرَبَ هذه القراءةُ على ما قاله أبو البقاء أَنْ يُجْعَلَ فاعلُ «يقومُ» صنيعُهم أو سَعْيهُم، وينتصِبُ حينئذٍ «وَزْناً» على أحد وجهين: إمَّا على الحال، وإمَّا على التمييز.
أحدُها: أَنْ يكونَ «ذلك» خبرَ مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و «جزاؤُهم جهنَّم» جملةٌ برأسها. الثاني: أن يكون «ذلك» مبتدأ اولَ، و «جزاؤهم» مبتدأٌ ثانٍ و «جهنُم» خبرُه، وهو وخبرُه خبرُ الأول. والعائدُ محذوف، أي: جزاؤهم به، كذا قال أبو البقاء، فالهاء في «به» تعود على «ذلك» ، و «ذلك» مُشارٌ به إلى عدم إقامة الوزن.
قال الشيخ: «ويحتاج هذا التوجيهُ إلى نظر» . قلت: إنْ عَنَى النظرَ من حيث الصناعةُ فَمُسَلَّمٌ. ووجهُ النظر: أنَّ العائدَ حُذِفَ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ إلا بتكليفٍ، فإنَّ العائدَ على المبتدأ إذا كان مجروراً لا يُحْذَفُ إلا إذا جُرَّ بحرفِ تبعيضٍ أو ظرفية، أو يَجُرُّ عائداً جُرَّ قبله بحرفٍ، جُرَّ به المحذوفُ كقولِه:
320 -
2- أَصِخْ فالذي تُدْعَى به أنت مُفْلِحٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: مفلحٌ به. وإنْ عَنَى من حيث المعنى فهو معنى جيدٌ.
الثالث: أن يكون «ذلك» مبتدأً، و «جزاؤهم» بدلٌ أو بيان، و «جهنم» خبره. الرابع: أن يكون «ذلك» مبتدأ أيضاً، و «جزاؤهم» خبره و «جهنمُ» بدلٌ أو بيانٌ أو خبر ابتداء مضمر. الخامس: أن يُجعل «ذلك» مبتدأ و «جزاؤهم» بدلٌ أو بيان و «جهنم» خبر ابتداءٍ مضمرٍ، و «بما كفروا» خبر الأول، والجملة اعتراضٌ. السادس: أن يكون «ذلك» مبتدأً، والجارُّ الخبر، و «جزاؤهم جهنمُ» جملةٌ معترضةٌ وفيه بُعْدٌ. السابع: أن يكون «ذلك» إشارةً إلى جماعة / وهم مذكورون في قوله: «بالأخسرين» ، وأُشير إلى الجمع كإشارة الواحد كأنه قيل: أولئك جزاؤهم جهنَّمُ، والإِعرابُ المتقدمُ يعودُ إلى هذا التقدير.
قوله: «واتَّخذوا» فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على «كفروا» ، فيكونُ محلُّه الرفعَ لعطفِه على خبر «إنَّ» . الثاني: أنه متسأنفٌ فلا مَحَلَّ له.
والباء في قوله: «بما كفروا» لا يجوزُ تعلُّقُها ب «جزاؤهم» للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه.
قوله: {نُزُلاً} : فيه ما تقدَّم: من كونِه اسمَ مكانِ النزولِ، او ما يُعَدُّ للضيفِ. وفي نصبه وجهان، أحدهما: أنه خبر «كانت» ، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حال مِنْ «نُزُلا» ، أو على البيان، أو ب «كانت» عند مَنْ يرى ذلك. والثاني: أنه حالٌ من «جنات» ، أي: ذوات نُزُلٍ، والخبرُ الجارُّ.
قوله: {لَا يَبْغُونَ} : الجملةُ حالٌ: إمَّا مِنْ صاحب «خالدين» ، وإمَّا من الضمير في «خالدين» ، فتكونُ حالاً متداخلة.
والحِوَل: قيل: مصدرٌ بمعنى التحوُّل: يُقال: حال عن مكانه حِوَلاً، فهو مصدرٌ كالعِوَج والعِوَد والصِّغَر قال:
320 -
4- لكلِّ دولةٍ أجلُ
…
ثم يُتاحُ لها حِوَل
وقال الزجاج: «هو عند قومٍ بمعنى الحِيلة في التنقُّل» . وقال ابن عطية: «والحِوَلُ: بمعنى التحوُّل» قال مجاهد: «مُتَحَوَّلاً» وأنشد الرجز المتقدم ثم قال: «وكأنه اسم جمع، وكأنَّ واحدَة حوالة» قلت: وهذا غريب والمشهورُ الأولُ. والتصحيح في فِعَل هو الكثير إن كان مفرداً نحو: الحِوَل وإن كان جمعاً فالعكسُ نحو: «ثِيَرة» و. . . .
قوله: {تَنفَدَ} : قرأ الأَخوان «يَنْفَذَ» بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي. والباقون بالتاء من فوقُ لتأنيثِ اللفظ. وقرأ السُّلمي -
ورُويت عن أبي عمرو وعاصم - تَنَفَّدَ - بتشديدِ الفاءِ، وهو مُطاوَعُ نَفَّدَ بالتشديد نحو: كسَّرته فتكسَّر. وقراءةُ الباقين مطاوعُ أَنْفَدْته.
قوله: «ولو جِئنا» جوابُها محذوف لِفَهْمِ المعنى تقديره: لنفِدَ. والعامَّةُ على «مَدَداً» بفتح الميم. والأعمشُ قرأ بكسرها، ونصبُه على التمييز كقوله:
320 -
5-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فإنَّ الهوى يَكْفِيْكه مثلُه صَبْرا
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس «مِداداً» كالأول. ونصبُه على التمييز أيضاً عند أبي البقاء. وقال غيرُه - كأبي الفضل الرازي -: إنه منصوب على المصدرِ بمعنى الإِمداد نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] قال: والمعنى: ولو أَمْدَدْناه بمثلِه إمداداً.
قوله: {أَنَّمَآ إلهكم} : «أنَّ» هذه مصدرية وإنْ كانت مكفوفةً ب «ما» . وهذا المصدر قائمٌ مقامَ الفاعلِ كأنه قيل: إنما يُوْحَى إليَّ التوحيدُ.
قوله: {وَلَا يُشْرِكْ} العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ، عُطِفَ بها على أمرٍ. ورُوي عن أبي عمروٍ {وَلَا تُشْرِكْ} بالتاءِ مِنْ فوقُ خطاباً على الالتفات من الغَيْبة إلى الخطاب ثم التُفِتَ في قولِه {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} إلى الأول. ولو جيْءَ على
الالتفات الثاني: لقيل: ربك. والباءُ سببية، أي: بسبب. وقيل: بمعنى في.
والفِرْدوس: الجَنَّةُ مِن الكَرْم خاصة. وقيل: بل ما كان غالبُها كَرْماً. وقيل: كل ما حُوِطَ فهو فِرْدوسٌ والجمع فراديس. وقال المبرد: «الفِرْدوس فيما سمعتُ من العرب: الشجرُ الملتفُّ، والأغلبُ عليه أن يكون من العِنَب» . وحكى الزجاج أنها الأَوْدِيَة التي تُنْبِتُ ضُروباً من النَّبْت. واختُلف فيه: فقيل: هو عربيٌّ وقيل: أعجمي. وهل هو روميٌّ أو فارسيٌّ أو سُرْيانيٌّ؟ قيل: ولم يُسْمع في كلام العرب إلا في بيت حَسَّان:
320 -
6- وإنَّ ثوابَ اللهِ كلَّ مُوحِّدِ
…
جِنانٌ من الفردوسِ فيها يُخْلَّدُ
وهذا ليس بصحيح، لأنه سُمع في شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلت:
320 -
7- كانت منازلُهمْ إذ ذاك ظاهرةً
…
فيها الفَراديسُ ثم الثومُ والبَصَلُ
ويقال: كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّشٌ، ولهذا سُمِّيَتِ الروضةُ التي دونَ اليَمامة فِرْدَوساً.
وإضافةُ «جنَّات» إلى الفِرْدوس إضافةٌ تبيينٍ.
قوله: {ذِكْرُ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍِ. أحدُها: أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر، تقديرُه: فيما يُتْلَى عليكم ذِكْرُ. الثاني: أنه خبرٌ محذوفٌ المبتدأ، تقديرُه: المَتْلُوُّ ذِكْرُ، أو هذا ذِكْرُ. الثالث: أنه خبرُ الحروفِ المتقطعةِ، وهو قولُ يحيى بن زياد. قال أبو البقاء:«وفيه بُعْدٌ؛ لأن الخبرَ هو المبتدأُ في المعنى، وليس في الحروفِ المقطَّعةِ ذِكْرُ الرحمةِ، ولا في ذكرِ الرحمة معناها» .
والعامَّةُ على تسكينِ أواخرِ هذه الأحرفِ المقطَّعةِ، وكذلك كان بعضُ القُرِّاءِ يقفُ على كلِّ حرفٍ منها وَقْفَةً يسيرةً مبالغَةً في تمييزِ بعضِها مِنْ بعضٍ.
وقرأ الحسنُ «كافُ» بالضم، كأنه جَعَلها معربةً، ومَنَعها من الصَّرْف للعَلَميَّةِ والتأنيث. وللقُرَّاء خلافٌ في إمالة «يا» و «ها» وتفخيمِهما.
وبعضُهم يُعَبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يُعَبِّر عن الإِمالةِ بالكسرِ، وإنما ذكَرْتُه لأنَّ عبارتَهم في ذلك مُوْهِمَةٌ.
وأظهر دالَ صاد قبل ذال «ذَكْرُ» نافعٌ وابنُ كثير وعاصم لأنه الأصل، وأدغمها فيها الباقون.
والمشهورُ إخفاءُ نونِ «عَيْن» قبل الصاد؛ لأنها تُقاربها، ويشتركان في الفم، وبعضُهم يُظْهِرُها لأنها حروف مقطعة يُقْصَدُ تمييزُ بعضِها [من بعض] .
و «ذِكْرُ» مصدرٌ مضافٌ. قيل: إلى مفعولِه وهو الرحمةُ، والرحمةُ في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعلِه، و «عبدَه» مفعولٌ به. والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكونُ فاعلُ الذِّكْرِ غيرَ مذكورٍ لفظاً، والتقدير: أَنْ ذَكَرَ اللهُ رحمتَه عبدَه. وقيل: بل «ذِكْرُ» مضافٌ إلى فاعلِه على الاتِّساعِ ويكون «عبدَه» منصوباً بنفسِ الذِّكْر، والتقديرُ: أَنْ ذَكَرَتِ الرحمةُ عبدَه، فَجَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً له مجازاً.
و «زكريَّا» بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ، أو مصنوبٌ بإضمار «أَعْني» .
وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريُّ عن الحسنِ - «ذَكَّرَ» فعلاً ماضياً مشدِّدا، و «رحمةَ» بالنصبِ على أنها مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَتْ على
الأولِ، وهو «عبدَه» والفاعلُ: إمَّا ضميرُ القرآنِ، أو ضميرُ الباري تعالى. والتقدير: أَنْ ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذَكَّر اللهُ - عَبْدَه رحمتَه، أي: جَعَلَ العبدَ يَذْكرُ رحمتَه. ويجوز على المجازِ المتقدِّمِ أن تكون «رحمةَ ربك» هو المفعولَ الأولَ، والمعنى: أنَّ اللهَ جَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً للعبدِ. وقيل: الأصلُ: ذكَّرَ برحمةٍ، فلمَّا انْتُزِعَ الجارُّ نُصِب مجرورُه، ولا حاجةَ إليه.
وقرأ الكلبيُّ «ذَكَرَ» بالتخفيفِ ماضياً، «رحمةَ» بالنصبِ على المفعول به، «عبدُه» بالرفع فاعلاً بالفعلِ قبلَه، «زكريَّا» بالرفعِ على البيانِ او البدلِ او على إضمارِ مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى.
وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدانيُّ - «ذَكَّرْ» فعلَ أمرٍ، «رحمةَ» و «عبدةَ» بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم مِنْ كونِ كلِّ واحدٍ يجوز أَنْ يكونَ المفعولَ الأولَ أو الثاني، بالتأويلِ المتقدِّم في جَعْلِ الرحمة ذاكرةً مجازاً.
قوله: {إِذْ نادى} : في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍٍ، أحدُها: أنَّه «ذِكْرُ» ولم يذكر الحوفيُّ غيرَه. والثاني: أنَّه «رحمة» ، وقد ذكر الوجهين أبو البقاء. والثالث: أنَّه بدلٌ مِنْ «زكريَّا» بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الوقتَ مُشْتملٌ عليه وسيأتي مِثْلُ هذا عند قولِه {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} [مريم: 16] ونحوِه.
قوله: {قَالَ رَبِّ} : لا مَحَلَّ لهذهِ الجملةِ لأنها تفسيرٌ
لقولِه «نادى ربَّه» وبيانٌ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ بينهما لشدَّة الوَصْلِ.
قوله: «وَهَنَ» العامَّةُ على فتحِ الهاء. وقرأ الأعمشُ بكسرِها. وقُرِئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. ووَحَّد العظمَ لإِرادةِ الجنسِ، يعني أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عَمُوْدُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه وأَصْلَبُه، قد أصابه الوَهْنُ، ولو جُمع لكان قصداً أخرَ: وهو أنه لم يَهِنْ منه بعضُ عظامه ولكن كلُّها، قاله الزمخشري: وقيل: أُطْلِقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ كقولِه:
320 -
8- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها
…
فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
أي: جلودُها، ومثلُه:
320 -
9- كُلوا في بعضِ بطنِكُم تَعِفُّوا
…
فإنَّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي: بطونكم.
و «مَنَّي» حالٌ من «العَظْمِ» . وفيه رَدُّ على مَنْ يقول: إن الألفَ واللامَ تكونُ عِوَضاً من الضميرِ المضافِ إليه؛ لأنه قد جُمع بينهما هنا وإن كان الأصلُ: وَهَنَ عَظْمِي. ومثلُه في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشدوه شاهداً على ما ذَكَرْتُ:
321 -
0- رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ
…
بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
قوله: «شَيْباً» في نصبه ثلاثةُ اوجهٍ، احدُها: - وهو المشهورُ- أنه
تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصلُ: اشتعلَ شيبُ الرأسِ. قال الزمخشري: «شبَّه الشيبَ بشُواظِ في بياضِه وانتشارِه في الشعر وفُشُوِّه فيه، وأَخْذِه منه كلَّ مَأْخَذٍ باشتعال النار، ثم أخرجه مُخْرَجَ الاستعارةِ، ثم أَسْنَدَ الاشتعالَ إلى مكانِ الشِّعْر ومَنْبَتِه وهو الرأسُ، وأخرج الشَّيْبَ مميَِزاً، ولم يُضِفِ الرأسَ اكتفاءً بعِلْم المخاطب أنه رأسُ زكريا، فمِنْ ثَمَّ / فَصُحَتْ هذه الجملةُ وشُهِد لها بالبلاغةِ» . انتهى. وهذا مِنْ استعارةِ محسوسٍ لمحسوسٍ، ووجهُ الجمع: الانبساطُ والانتشارُ.
والثاني: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ، فإنَّ معنى «اشتعلَ الرأسُ» شابَ.
الثالث: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، اي: شائباً أو ذا شيبٍ.
قوله: «بدُعائِك» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ المصدرَ مضافٌ لمفعولِه، أي: بدعائي إياك. والثاني: أنه مضافُ لفاعلِه، أي: لم أكنْ بدعائِك لي إلى الإِيمانِ شَقِيَّا.
قوله: {خِفْتُ الموالي} : العامَّةُ على «خَفْتُ» بكسر الحاء وسكونِ الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلم. و «المَوالي» مفعولٌ به بمعنى: أنَّ مَوالِيه كانوا شِرارَ بني إسرائيل، فخافَهم على الدِّين. قاله الزمخشري.
قال أبو البقاء: «لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: عَدَمَ المَوالي أو جَوْرَ المَوالي» .
وقرأ الزُّهري كذلك، إلا أنه سَكَّن ياءَ «المَواليْ» وقد تَقَدَّم أنَّه قد تُقَدَّر الفتحةُ في الياء والواو، وعليه قراءةُ زيدِ بنِ عليّ {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وتقدَّم إيضاحُ هذا.
وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن العاص ويحيى بن يعمر وعلي بن الحسين في آخرين: «خَفَّتِ» بفتحِ الخاءِ والفاءِ مشددةً وتاءِ تأنيثٍ، كُسِرَتْ لالتقاءِ السَّاكنين. و «المَوالِيْ» فاعلٌ به، بمعنى دَرَجُوا وانقرضُوا بالموت.
قوله: {مِن وَرَآئِي} هذا متعلِّقٌ في قراءةِ الجُمهورِ بما تضمنَّه المَوالي مِنْ معنى الفِعْلِ، أي: الذين يَلُوْن الأمرَ بعدي. ولا يتعلق ب «خَفْتُ» لفسادِ المعنى، وهذا على أَنْ يُرادَ ب «ورائي» معنى خلفي وبعدي. وأمَّا في قراءةِ «خَفَّتْ» بالتشديد فيتعلَّق الظرفُ بنفسِ الفعل، ويكونُ «ورائي» بمعنى قُدَّامي. والمرادُ: أنهم خفُّوا قدَّامَه ودَرَجُوا، ولم يَبْقَ منهم مَنْ به تَقَوٍّ واعْتِضادٌ. ذكر هذين المعنيين الزمخشري.
والمَوالي: بنو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشاعرِ لهم بذلك في قوله:
321 -
1- مَهْلاً بني عَمَّنا مَهْلاً مَواليَنا
…
لا تَنْبُشوا بَيْنَنا ما كان مَدْفُوْنا
وقال آخر:
321 -
2- ومَوْلَىً قد دَفَعْتُ الضَّيْمَ عنهُ
…
وقد أمْسَى بمنزلةِ المَضِيْمِ
والجمهورُ على «ورائي» بالمدِّ. وقرأ ابنُ كثير - في روايةٍ عنه - «وَرايَ» بالقصر، ولا يَبْعُدُ ذلك عنه فإنه قَصَرَ «شُرَكاي» في النحل كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قَرَأ {أَنْ رَاْه اسْتَغْنى} في العَلَق، كأنه كان يُؤْثِرُ القَصْر على المدِّ لخفَّتِهن ولكنه عند البصريين لا يجوزُ سَعَةً.
و {مِن لَّدُنْكَ} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «هَبْ» . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «وَليَّاً» لأنه في الأصل صفةٌ للنكرةِ فقُدِّمَ عليها.
قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} : قرأ أبو عمروٍ والكسائي بجزمِ الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر إذ تقديرُه: إن يَهَبْ يَرِثْ. والباقون برفِعهما على أنَّهما صفةٌ ل «وليَّاً» .
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وقتادة في آخرين: «يَرِثُني» بياء الغيبة والرفع، وأَرثُ «مُسْنداً لضمير المتكلم. قال صاحب» اللوامح «: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والتقديرُ: يَرِثُ نبوَّتي إن مِتُّ قبلَه وأَرِثُه مالَه إنْ مات قبلي» . ونُقِل هذا عن الحسن.
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والجحدري «يَرِثُني وارثٌ» جعلوه اسمَ فاعلٍ، أي: يَرِثُني به وارِثٌ، ويُسَمى هذا «التجريدَ» في علم البيان.
وقرأ مجاهد «أُوَيْرِثٌ» وهو تصغيرُ «وارِث» ، والأصلُ وُوَيْرِث بواوين. وَجَبَ قَلْبُ أولاهما همزةً لاجتماعهما متحركتين أولَ كلمةٍ، ونحو «أُوُيْصِل» تصغيرَ «واصل» . والواو الثانية بدلٌ عن ألفِ فاعِل. وأُوَيْرِث مصروفٌ. لا يُقال: ينبغي أن يكونَ غيرَ مصروفٍ لأنَّ فيه علتين الوصفيةَ ووزنَ الفعل، فإنه بزنة أُبَيْطِر مضارع بَيْطَر، وهذا مِمَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير. لا يُقال ذلك لأنه غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ «أُوَيْرِثاً» وزنُه فُوَيْعِل لا أُفَيْعِل بخلافِ «أُحَيْمِر» تصعير «أَحْمَر» .
وقرأ الزُّهْري «وارِث» بكسرِ الواو، ويَعْنون بها الإِمالةَ.
قوله: «رَضِيَّا» مفعولٌ ثانٍ، وهو فَعِيْل بمعنى فاعِل، وأصلُه رَضِيْوٌ لأنه مِنَ الرِّضْوان.
قوله: {يحيى} : فيه قولان: أحدُهما: أنه سامٌ أعجميٌّ لا اشتقاقَ له، وهذا هو الظاهرُ، ومَنْعُه من الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمة. وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ كما سَمَّوْا بيَعْمُرَ ويَعيشَ ويَموتَ، وهو يموتُ بنُ المُزَرَّع.
والجملةُ مِنْ قولِه: {اسمه يحيى} في محلِّ جَرٍّ صفةً ل «غُلام» وكذلك {لَمْ نَجْعَل} . و «سَمِيَّا» كقوله: «رَضِيَّا» إعراباً وتصريفاً لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أنَّ الاسمَ من السُّمُوِّ، ولو كان من الوَسْم لقيل: وَسِيما.
قوله: {عِتِيّاً} : فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ، فعلى هذا {مِنَ الكبر} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «بَلَغْتُ» ، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِتِيَّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك. الثاني: أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل، لأنَّ / بلوغَ
الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ» ، أي: عاتياً أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: «وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا» يريد بقوله: «أو بَلَغْتُ» أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ.
والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو:«عِصِيّ» إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه: «وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً» وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو:«إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة» وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ.
وقرا الأخَوان «عِتِيَّا» و «صِلِيَّا» و «بِكِيَّا» و «جِثِيَّا» بكسر الفاء للإِتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ «عَتِيَّا» و «صَلِيَّا» جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل.
وقرأ عبد الله ومجاهد «عُسِيَّا» بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها.
قوله: {كذلك} : في محلِّ هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه رفعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقف على:«كذلك» ثم يُبْتَدَأ بجملة أخرى. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فَقَدَّره أبو البقاء ب «أَفْعَلُ مثلَ ما طلبْتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبِه، فَجَعَلَ ناصبَه مقدَّراً، وظاهرُه أنَّه مفعولٌ به.
وقال الزمخشري:» أو نصبٌ ب «قال» و «ذلك» إشارةٌ إلى مُبْهم
يُفَسِّره {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ، ونحوُه:{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] . وقرأ الحسن {وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ولا يُخَرَّجُ هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يَهُون عليَّ. ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يُشارَ ب «ذلك» إلى ما تقدَّم من وَعْدِ الله، لا إلى قولِ زكريَّا. و «قال» محذوفٌ في كلتا القراءتين. - في كلتا القراءتين: يعني قراءةَ العامة وقراءةَ الحسنِ - أي: قال هو عليَّ هيِّن، قال: وهو عَلَيَّ هَيِّن، وإن شئتَ لم تَنْوِه، لأنَّ اللهَ هو المخاطَبَ، والمعنى أنه قال ذلك، ووَعْدُه وقولُه الحق «.
وفي هذا الكلامِ قَلَقٌ؛ وحاصلُه يَرْجع إلى أنَّ» قال «الثانيةَ هي الناصبةُ للكاف. وقوله:» وقال محذوفٌ «يعني تفريغاً على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند» قال ربك «ويُبْتَدأ بقولِه: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} . وقوله:» وإنْ شِئْتَ لم تَنْوِه «أي: لم تَنْوِ القولَ المقدَّرَ، لأنَّ اللهَ هو المتكلَّمُ بذلك.
وظاهرُ كلامِ بعضهِم: أنَّ» قال «الأولى مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ المَلَكِ، وقد صَرَّح بذلك ابنُ جريرٍ، وتبعه ابن عطية. قال الطبري:» ومعنى قولِه «قال كذلك» ، أي: الأمران اللذان ذكرْتَ مِنَ المرأةِ العاقرِ والكِبَرِ هو كذلك، ولكم قال ربُّكِ، والمعنى عندي: قال المَلَكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربك: هو عليَّ هَيِّنٌ «انتهى.
وقرأ الحسن البصري» عَلَيِّ «بكسر ياء المتكلم كقوله:
321 -
3-
عَلَيَّ لعمروٍ نِعْمَةٌ بعد نِعْمةٍ
…
لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقَارِبِ
أنشدوه بالكسر. وقد أَمْنَعْتُ الكلامَ في هذه المسألة في قراءةِ حمزةَ {بِمُصْرِخِيِّ} .
قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} هذه جملة مستأنفة. وقرأ الأخَوان» خَلَقْناك «أسنده إلى الواحدِ المعظِّمِ نفسَه. والباقون» خَلَقْتُكَ «بتاءِ المتكلم.
وقوله: {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نَفْيِ كونِه شيئاً، أي: شيئاً يُعْتَدُّ به كقوله:
321 -
4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
إذا رَأَى غيرَ شَيْءٍ ظَنَّه رَجُلاً
وقالوا: عَجِبْتُ مِنْ لا شيء. ويجوز أن يكونَ قال ذلك؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.
قوله: {سَوِيّاً} : حالٌ مِنْ فاعل «تُكَلِّمَ» . وعن ابن عباس: أنَّ «سَوِيَّاً» من صفةِ الليالي بمعنى كاملات، فيكونُ نصبُه على النعتِ للظرف. والجمهورُ على نصب ميم «تُكَلَّم» جعلوها الناصبةَ.
وابن أبي عبلة بالرفعِ، جَعَلها المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ شانٍ محذوف، و «لا» فاصلةٌ. وتقدَّم تحقيقُه.
قوله: {أَن سَبِّحُواْ} : يجوز في «أَنْ» أَنْ تكونَ مفسِّرةً لأَوْحى، وأَنْ تكونَ مصدريةًَ مفعولةً بالإِيحاء. و {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ظرفا زمانٍ للتسبيح. وانصرفَتْ «بُكْرَة» لأنه لم يُقْصَد بها العَلَمِيَّةُ، فلو قُصِد بها العَلَميةُ امتنعت عن الصرف. وسواءً قُصد بها وقتٌ بعينه نحو: لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ، أم لم يُقصد نحو: بكرةُ وقتٌ نشاط [لأنَّ عَلَمِيَّتها جنسيَّة كأُسامة] ، ومثلُها في ذلك كله «غدوة» .
وقرأ طلحة «سَبَّحوه» بهاءِ الكناية. وعنه أيضاً: «سَبِّحُنَّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّداً بالثقيلة وهو كقولِه: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] وقد تقدَّم تصريفه.
قوله: {بِقُوَّةٍ} : حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوة. و «صَبِيَّا» حال من هاء «آتيناه» .
{وَحَنَاناً} : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به نَسَقاً على «الحُكْمَ» ، أي: وآتيناهُ تَحَنُّناً. والحنانُ: الرحمةُ واللِّيْن، وأنشد أبو / عبيدة:
321 -
5- تحنَّنْ عليَّ هداك المليكُ
…
فإنَّ لكلِّ مقامٍ مَقالا
قال: «وأكثر استعمالِه مثنَّى كقولِهم: حَنَانَيْكَ، وقولِه:
321 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ
وجوَّز فيه أبو البقاء أَنْ يكونَ مصدراً، كأنَّه يريد به المصدرَ الواقعَ في الدعاء نحو: سَقْياً ورَعْياً، فنصبُه بإضمارِ فِعْلٍ كأخواتِه. ويجوز أَنْ يرتفعَ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ نحو:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الاعراف: 46، الرعد: 24، الزمر: 73] في أحد الوجهين: وأنشد سيبويه:
321 -
7- وقالَتْ حَنانٌ ما أَتَى بك هَهنا
…
أذو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحَيِّ عارِفُ
وقيل لله تعالى: حَنان، كما يقال له» رَحيم «قال الزمخشري:» وذلك على سبيل الاستعارة «.
و {مِّن لَّدُنَّا} صفةٌ له.
قوله: {وَبَرّاً} : يجوز أن يكون نَسَقاً على خبر «كان» ، أي: كان تقيَّاً بَرَّاً. ويجوز أَنْ يكون منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: وجَعَلْناه بَرَّاً. وقرأ الحسن «بِرَّاً» بكسر الباء في الموضعين. وتأويلُه واضح كقوله: {
ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] وتقدَّم تأويلُه. و «بِوالِدَيْهِ» متعلِّقٌ ب «بَرَّاً» .
و «عَصِيَّا» يجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعُولاً، والأصل: عَصُوْيٌ فَفُعِل فيه ما يُفْعَل في نظائره، وفَعُول للمبالغة كصَبُوْر. ويجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعِيلاً، وهو للمبالغة أيضاً.
قوله: {إِذِ انتبذت} : في «إذ» أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ ب «اذكُرْ» على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها. والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال. الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره: واذكر خبرَ مريم، أو نَبَأَها، إذ انْتَبَذَتْ، ف «إذ» منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ. والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره: وبَيَّنَ، أي: اللهُ تعالى، فهو كلامُ آخرُ. وهذا كما قال سيبويه في قوله:{انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولاً به. والرابع: أن يكونَ منصوباً على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر، أي: خبر مريم أو نبأ مريم. وفيه بُعْدٌ. قاله أبو البقاء. والخامس: أنه بدلٌ مِنْ «مريمَ» بدلُ اشتمال. قال الزمخشري: «لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه» .
قال أبو البقاء: - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ - «وهو
بعيدٌ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلاً منها» . وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية، ألا ترى نحو:«سُلِبَ زيدٌ ثوبُه» ف «ثوبُه» لا يَصِحُّ جَعْلُه خبراً عن «زيد» ولا حالاً منه ولا وصفاً له، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ.
السادس: أنَّ «إذ» بمعنى «أَنْ» المصدرية كقولك: «لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني» ، أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال، أي: واذكر مريمَ انتباذَها. ذكره أبو البقاء.
والانْتِباذُ: افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ، وقد تقدَّم بيانُه.
والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ «رُوْحِنا» وهو ما يَحْيَوْن به. وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعباد كقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] . وحكى النقاش أنه قد قُرِئ «رُوْحَنَّا» بتشديدِ النون، وقال: هو اسم مَلَكٍ من الملائكة.
قوله: {بَشَراً سَوِيّاً} حالٌ مِنْ فاعل «تَمَثَّلَ» . وسَوَّغ وقوعَ الحالِ جامدة وَصْفُها، فلمَّا وُصِفَتِ النكرةُ وقعت حالاً.
قوله: {لأَهَبَ} : قرأ نافع وأبو عمرو «لِيَهَبَ» بالياء
والباقون «لأَِهَبَ» بالهمزة. فالأُوْلَى: الظاهرُ فيها أنَّ الضميرَ للربِّ، أي: ليَهَبَ الرَّبُّ. وقيل: الأصلُ: لأَهَبَ بالهمز، وإنما قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ فتتَّفِقُ القراءتان وفيه بُعْدٌ. وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببٌ فيه. ويجوز أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف. ويُقَوِّي الذي قبله أنَّ في بعض المصاحف: أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لك.
وقوله: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] جوابُه محذوفٌ أو متقدم.
قوله: {بَغِيّاً} : في وزنِه قولان، أحدُهما - وهو قولُ المبردِ - أنَّ وزنَه فُعول، والأصل بَغُوْيٌ فاجتمعت الياء والواو فَفُعِل فيه ما هو معروفٌ. قال أبو البقاء:«ولذلك لم تَلْحَقْ تاءُ التأنيث كما لم تَلْحَقْ في صبور وشكور» . ونَقَل الزمخشري عن أبي الفتح أنها فَعِيْل، قال:«ولو كانَتْ فَعُولاً لقيل: بَغُوٌ، كما يقال: فلان نَهُوٌ عن المنكر» ولم يُعْقِبْه بنكير. ومَنْ قال: إنها فَعِيْل فهل هي بمعنى فاعِل او بمعنى مَفعول؟ فإنْ كانَتْ بمعنى فاعِل فينبغي أَنْ تكونَ بتاء التأنيث نحو: امراةٌ قديرةٌ وبَصيرة. وقد أُجيب عن ذلك: بأنها بمعنى النسب كحائِض وطالِق، أي ذات بَغْي. وقال أبو البقاء حين جَعَلَها بمعنى فاعِل:«ولم تَلْحَقِ التاءُ أيضاً لأنها للمبالغة» فجعل العلةَ
في عدم اللِّحاق كونَه للمبالغة. وليس بشيءٍ. وإن قيل بأنها بمعنى مَفْعول فَعَدَمُ الياءِ واضحٌ.
قوله: {كذلك} : تقدَّم نظيرُه.
قوله: «وَلِنَجْعَلَه» يجوز أن يكونَ علةً، ومُعَلَّلُه محذوفٌ تقديره: لنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك. ويجوز أَنْ يكونَ نَسَقاً على علةٍ محذوفةٍ تقديره: لِنُبَيِّنَ به قُدْرَتَنا ولنجعَله آيةً. والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم «كان» مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلامُ، أي: خَلْقُه وإيجادُه أمراً لا بُدَّ منه/.
قوله: {فانتبذت بِهِ} : الجارُّ والمجرورُ في محل نصب على الحال، أي: انتبذَتْ وهو مصاحبٌ لها، كقولِه:
321 -
8-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تَدْوْسُ بنا الجَماجِمَ والتَّرِيْبا
قوله: {فَأَجَآءَهَا} : الأصلُ في «جاء» أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ كان القياسُ يقتضي تَعَدِّيَه لاثنين. قال الزمخشري:«إلا أنَّ استعمالَه قد تغيَّر بعد النقلِ إلى معنى الإِلْجاء، ألا تراكَ لا تقول: جِئْتُ المكانَ وأَجَاْءَنْيهِ زيدٌ، كما تقول: بَلَغْتُه وأَبْلَغَنِيْه، ونظيرُه» آتى «حيث لم يُستعمل إلا في الإِعطاء ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيه فلان» . وقال أبو البقاء: الأصلُ «جاءها» ثم عُدِّيَ بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واسْتُعمل بمعنى أَلْجَأَها «.
قال الشيخ:» قوله وقولُ [غيرِه] : إنَّ «أجاءها» بمعنى أَلْجَأَها يحتاج إلى نَقْلِ أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك مِنْ لسانِ العرب. والإِجاءةُ تدلُّ على المُطلق، فَتَصْلُح لِما هو بمعنى الإِلجاءِ ولِما هو بمعنى الاختيار، كما تقول:«أَقَمْتُ زيداً» فإنه يَصْلُحُ أَنْ تكونَ إقامتُك له قَسْراً أو اختياراً. وأمَّا قوله: «ألا ترك لا تقول» إلى آخره فَمَنْ رَأَى أنَّ التعديةَ بالهمزة قياسٌ أجاز ذلك وإنْ لم يُسْمَعْ، ومَنْ منع فقد سُمِع ذلك في «جاء» فيُجيز ذلك. وأمَّا تنظيرُه ذلك ب «آتى» فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناه على أنَّ همزتَه للتعديةِ، وأنَّ أصلَه «أتى» ، بل «آتى» ممَّا بُني على أَفْعَل، ولو كان منقولاً مِنْ «آتى» المتعدِّي لواحد لكان ذلك الواحدُ هو المفعولَ الثاني، والفاعلُ هو الأولُ، إذا عَدَّيْتَه بالهمزةِ تقولُ:«أتى المالُ زيداً» و «آتى عمروٌ زيداً المالَ» فيختلف التركيب بالتعدية لأنَّ «زيداً» عند النحويين هو المفعولُ الأول، و «المالُ» هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس، فَدَلَّ على أنَّه ليس على ما قاله، وأيضاً فآتى مُرادِفٌ لأَعْطَى، فهو مخالِفٌ من حيث الدَّلالةُ في المعنى. وقوله:«ولم تَقُلْ: أتيت المكانَ وآتانِيْه» هذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تقول: «أتيتُ المكانَ» كما تقول: «جئت المكان» . وقال الشاعر:
321 -
9-
أَتَوْا ناري فقلتُ مَنُوَّنَ أنتُمْ
…
فقالوا: الجنُّ قلتُ عِمُوا ظَلاما
ومَنْ رأى التعديةَ بالهمزةِ قياساً، قال:«آتانيه» وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ معه ظاهرُه الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذِكْرِها.
وقرأ الجمهورُ «فَأَجَاْءَها» ، أي: أَلْجأها وساقَها، ومنه قولُه:
322 -
0- وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليكم
…
أَجَاْءَتْهُ المَخافةُ والرَّجاءُ
وقرأ حَمَّاد بن سَلَمة «فاجَأَها» بألفٍ بعد الفاء وهمزةٍ بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة قابَلَها. ويقرأ بألفين صريحتين كأنهم خفَّفوا الهمزةَ بعد الجيمِ، وكذلك رُوِيَت بينَ بينَ.
والجمهور على فتحِ الميم من «المَخاض» وهو وَجَعُ الوِلادةِ.
ورُوي عن ابن كثير بكسرِ الميمِ، فقيل: هما بمعنى. وقيل: المفتوح اسمُ مصدرٍ كالعَطاء والسَّلام، والمكسورُ مصدرٌ كالقتال واللِّقاء، والفِعال قد جاء مِنْ واحد كالعِقاب والطَّراق. قاله أبو البقاء. والميمُ أصليةٌ لأنه مِنْ تَمَخَّضَتِ الحامِلُ تتمخَّضُ.
و {إلى جِذْعِ} يتعلقُ في قراءة العامَّة ب «أَجاءها» ، أي: ساقَها إليه.
وفي قراءةِ حَمَّاد بمحذوفٍ لأنه حالٌ من المفعولِ، أي: فاجَأَها مستندةً إلى جِذْعِ النخلةِ.
قوله: «نَسْيَاً» الجمهورُ على كسرِ النون وسكون السين وبصريح الياء بعدها. وقرأ حمزةُ وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسورُ فِعْلُ بمعنى مَفْعول كالذَّبْح والطَّحْن، ومعناه الشيءُ الحقيرُ الذي مِنْ شأنه أن يُنْسَى كالوَتِدِ والحَبْلِ وخِرْقةِ الطَّمْثِ ونحوِها.
قال ابن الأنباري: «مَنْ كسر فهو اسمٌ لما يُنْسَى كالنَّقْصُ اسمٌ لما يَنْقص، والمفتوحُ مصدرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الوصفِ» . وقال الفراء: «هما لغتان كالوَتْر والوِتْر، الكسرُ أحَبُّ إليَّ» .
وقرأ محمدُ بن كعب القَرَظيُّ «نِسْئاً» بكسر النون، والهمزةُ بدلُ الياء. ورُوي عنه أيضاً وعن بكر بن حبيب السَّهْمي فتحٌ مع الهمز. قالوا: وهو مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إذا صَبَبْتَ فيه ماءً فاستُهْلِك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيءُ المُسْتَهْلَكُ، والمفتوحُ مصدر كما كان ذلك من النِّسْيان
ونَقَل ابن عطية عن بكر بن حبيب «نَسَا» بفتح النون والسين والقصرِ كعَصَا، كأنه جَعَل فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبَض بمعنى المَقْبُوض.
و «مَنْسِيَّاً» نعتٌ على البمالغةِ، وأصلُه مَنْسُوْي فَأُدْغم. وقرأ أبو جعفر
والأعمش «مِنْسِيَّاً» بكسر الميم للإِتباع لكسرةِ السين، ولم يَعْتَدُّوا بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ كقولهم:«مِنْتِن» و «مِنْخِر» .
قوله: {مِن تَحْتِهَآ} : قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم «مِنْ» ، وجَرَّ «تحتِها» على الجار والمجرور. والباقون بفتحها ونصب «تحتَها» . فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في «نادَى» مضمراً وفيه تأويلان، أحدهما: هو جبريل ومعنى كونِه {مِن تَحْتِهَآ} أنه في مكانٍ أسفلَ منها. ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس «فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها: فَصَرَّح به. و {مِن تَحْتِهَآ} على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالنداء، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها وهو تحتَها.
وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، لأي: فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها. والجارُّ فيه الوجهان: مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والثاني أوضح.
والقراءةُ الثانية: تكون فيها» مَنْ «موصولةً، والظرفُ صلتُها، والمرادُ بالموصولِ: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.
قوله: {أَلَاّ تَحْزَنِي} يجوزُ في» أَنْ «أَنْ تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى
القول، و» لا «على هذا ناهيةٌ، وحَذْفُ النونِ للجزم؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و» لا «حينئذٍ نافيةٌ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ. ومَحَلُّ» أنْ «: إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر، أي: فناداها بكذا. والضمير في» تحتها «: إمَّا لمريمَ عليها السلام، وإمَّا للنخلةِ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين.
قوله:» سَرِيَّا «يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ، و» تحتك «مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر. ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق، فتكون» تحتك «لغواً.
والسَّرِيُّ فيه قولان، أحدهما: أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف، فهو سَرِيٌّ. وأصله سَرِيْوٌ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد، فلامُه واوٌ. والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام، ويُجْمع» سَرِيُّ «على» سَراة «بفتح السين، وسُرَواء كظُرَفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جَمْعِه» أَسْرِياء «، كغنِيِّ وأَغْنِياء. وقيل: السَّرِيُّ: مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ، أي: نَزَعْتُه، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس، أي: نَزَعْتُه. كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل. قاله الراغب.
والثاني: أنه النهرُ الصغير، ويناسِبُه» فكُلي واشربي «واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي، لأن الماءَ يَسْري فيه، فلامُه على هذا ياء، وأنشدوا للبيد:
322 -
1-
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا
…
مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلَاّمُها
قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} : يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في «بِجَذْعِ» زائدةً كهي في قولِه تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195][وقولِه:]
322 -
2-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَر
وأنشد الطبري:
322 -
3- بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه
…
وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ
أي: هُزِّي جِذْعَ النخلةِ. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه: وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة. ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع. وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه:
322 -
4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي
قال الشيخ:» وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى: {واضمم إِلَيْكَ
جَنَاحَكَ} [القصص: 32] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ، لا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ ولَا ضَرَبْتُني، أي: ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هَزَّ إليه، ولذلك جَعَلَ النحويون «عن» و «على» اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس:
322 -
5- دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه
…
ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ
وقول الآخر:
322 -
6- هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ
…
بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها
وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله:
322 -
7- غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها
…
تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الآخر:
322 -
8-
فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ
…
مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك «عَنْ» و «على» . ثم أجاب: بأنَّ «إليك» في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه: أَعْني إليك «. قال:» كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه: {لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] في أحد الأوجه «.
قلت: وفي ذلك جوابان آخران، أحدهما: أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو:» دَعْ عنك «» وهَوِّنْ عليك «وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ. والثاني: أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره: هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك.
قوله:» تُساقِطْ «قرأ حمزة» تَسَاقَطْ «بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف. والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف.
فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص» تَتَساقط «بتاءين، مضارعَ» تساقَطَ «فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو:» تَنَزَّلٌ «و» تَذَكَّرون «، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن.
وقراءةُ حفص مضارع «ساقَطَ» .
وقرأ الأعمش والبراء بن عازب «يَسَّاقَطْ» كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع «اسَّاقط» وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك «ادَّارَأ» في تَدَارَأَ.
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: / وافقه مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِط» بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع «رُطَباً جَنِيَّاً» بالفاعلية.
وقُرِئَ «تَتَساقط» بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله:
322 -
9-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم
وكقراءة «تَلْتَقِطْه بعض السيارة» . ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق.
وأمَّا نَصْبُ «رُطَباً» فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء
إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً: وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «هُزِّيْ» وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
وقرأ طلحة بن سليمان «جَنِيَّاً» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون.
والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ «تُخَم» فإنَّع لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا «الرطب» باعتبار الجنس، وأنَّثوا «التُّخَم» باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على «أَرْطاب» شذوذاً كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى.
والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيَّاً، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك «جَنَى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَم جريمةً» .
قوله: {وَقَرِّي عَيْناً} : «عَيْناً» نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ «قَرِّيْ» أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع.
وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح
العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] .
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ «القُرّ» وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه:«أَسْخَنَ اللهُ عينَه» ، وفي الدعاء له: «أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام:
323 -
0- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ
…
وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره.
قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} دخلت» إنْ «الشرطية على» ما «الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و» تَرَيْنَ «تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية» تَرَئِنَّ «بهمزة مكسورةٍ بدلَ
الياء، وكذلك رُوي عنه» لَتَرَؤُنَّ «بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري:» هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين» . وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: «هو لحنٌ عند أكثر النحويين» .
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: «وهي شاذَّةٌ» . قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه:
323 -
1- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به
…
ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر:
323 -
2- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ
…
يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ «لم» ، وأبقى نونَ الرفعِ.
و «من البشر» حالٌ من «أحداً» لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله.
قوله: فَقُولِيْ «بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا
تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} / كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله» فقُولي «إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ.
وقرأ زيد بن علي» صِياماً «بدل» صوم «، وهما مصدران.
قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} : «به» في محلَِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل «أَتَتْ» ، أي: أتَتْ مصاحِبَةً له نحو: جاء بثيابِه، أي: ملتبساً بها. ويجوز أَنْ تكونَ الباءُ متعلِّقةً بالإِتيان. وأمَّا تَحَمُّلُه فيجوز أن يكونَ حالاً ثانية مِنْ فاعل «أَتَتْ» . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الهاء في «به» . وظاهرُ كلام أبي البقاء أنها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً وفيه نظرٌ.
قوله: «شيئاً» مفعولٌ به، أي: فَعَلْتِ. أو مصدرٌ، أي: نوعاً من المجيء فَرِيَّاً. والفَرِيُّ: العظيم من الأمر، يقالُ في الخير والشرِّ. وقيل: الفَرِيُّ: العجيب. وقيل المُفْتَعَلُ. ومن الأول: الحديثُ في وصفِ عمرَ رضي الله عنه: فلم أرَ عبقَرِيَّاً يَفْرِيْ فَرْيَّة «. والفَرْيُ: قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإِصلاح. والإِفراء: إفسادُه. وفي المثل: جاء يَفْري الفَرِيَّ، أي: يعمل
العملَ العظيم. وقال:
323 -
3- فَلأَنْتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ
…
ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نَقَل عنه ابن خالويه» فَرِيْئاً «بالهمز. وفيما نقل ابن عطية» فَرْياً «بسكون الراء.
وقرأ عُمَرُ بن لجأ {مَا كَانَ أَباكِ امرؤ سَوْءٍ} جَعَلَ النكرةَ الاسمَ، والمعرفةَ الخبرَ، كقوله:
323 -
4-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
يكونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ
[وكقوله:]
3235 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
ولا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاْعا
وهنا أحسنُ بوجودِ الإِضافةِ في الاسم.
قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ} : الإِشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ. وأنشدوا لكثيِّر:
323 -
0-
فقلتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ
…
ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاك التَّشايُرُ
قوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} في «كان» هذه أقوالٌ. أحدُها: أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد، أي: كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد. و «صَبِيَّا» على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً. وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ - أعني كونَها زائدةً - بأنها لو كانَتْ زائدةً لَما نَصَبَتِ الخبرَ، وهذه قد نصَبتْ «صَبيَّا» . وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ.
الثاني: أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد. والتقدير: كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا، و «صَبِيَّاً» حال من الضمير في «كان» .
الثالث: أنها بمعنى صار، أي: كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا، و «صَبِيَّا» على هذا خبرُها، فهو كقوله:
323 -
7-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخاً بُيُوضُها
الرابع: أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96]، ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف «لم تَزَلْ» . قال الزمخشري:«كان» لإِيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد.
وهو هنا لقريبِه خاصةً، والدالُّ عليه معنى الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجب. ووجه آخر: وهو أَنْ يكونَ «نُكَلِّمُ» حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن «؟
وأمَّا» مَنْ «فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة، أي: كيف نُكَلِّم شخصاً أو مولوداً. وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً. و» كان «بمعنى» يكنْ «، وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ وهو» كيف نُكَلِّم «، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، اي: مَنْ يكنْ في المهدِ صبياً فكيف نُكَلِّمه؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله منصوبتُه ب» نكلِّم «. وإذا قيل بأنَّ» كان «زائدةٌ. هل تتحمَّل ضميراً أم لا؟ فيه خلاف، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله:
323 -
8- فكيف إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ
…
وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فرفع بها الواوَ. ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرَها هو» لنا «قُدِّم عليها، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف.
وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد. والأكثرون على أنه إخفاءٌ.
قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُ} : هذه شرطيةٌ. وجوابُها: إمَّا محذوفٌ مَدْلولٌ عليه بما تقدَّمَ، أي: أينما كنتُ جَعَلني مباركاً، وإمَّا متقدِّمٌ
عند مَنْ يرى ذلك. ولا جائزٌ أن تكونَ استفهاميةً؛ لأنه يلزمُ أَنْ يعملَ فيها ما قبلها، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ، فيتعيَّنُ أن تكونَ شرطيةً لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين.
قوله: «ما دُمْتُ» «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ وتقدُّمُ [ما] على «دام» شرطٌ في إعمالها. والتقدير: مدةَ دوامي حياً. ونقل ابن عطية عن عاصمٍ وجماعة أنهم قرؤوا «دُمْتُ» بضم الدال، وعن ابن كثير وأبي عمرو وأهلِ المدينة «دِمت» بكسرها، وهذا لم نَرَه لغيره وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذة التي بين أيدينا، فيجوز أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصحفٍ غريب. ولا شك أنَّ في «دام» لغتين، يقال: دُمْتَ تَدُوْم، وهي اللغةُ العالية، ودِمْتَ تَدام كخِفْتَ تَخاف، وهذا كما تقدم لك/ في مات يموت وماتَ يَمات.
قوله تعالى: {وَبَرّاً} : العامَّةُ بفتحِ الباء، وفيه تأويلان، أحدُهما: أنه منصوبٌ نَسَقاً على «مباركاً» ، أي: وجَعَلَنِي بَرَّاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ. واخْتِير هذا على الأولِ لأنَّ فيه فَصْلاً كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلِّقِها.
وقُرئ «بِرَّاً» بكسرِ الباءِ: إمَّا على حَذْفِ مضاف، وإمَّا على المبالغة في جَعْلِه نفسَ المصدر. وقد تقدَّم في البقرة أنه يجوز أن يكونَ وصفاً على
فِعْل. وحكى الزهراويُّ وأبو البقاء أنه قُرئ بكسر الباء والراء. وتوجيهُه: أنه نَسَقٌ على «الصلاة» ، أي: وأوصاني بالصلاةِ وبالزكاةِ وبالبِرِّ. و «بوالَديَّ» متعلقٌ بالبَرّ أو البِرّ.
قوله: {والسلام} : الألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ لأنه قد تقدَّمَ لفظُه في قولِه: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15]، فهو كقولِه {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 1516] ، أي: ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوَجَّهٌ إليَّ. وقال الزمخشري- بعد ذِكْرِه ما قدَّمْتُه -: «والصحيحُ أن يكونَ هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متهمي مريمَ عليها السلام وأعدائِها من اليهود. وتحقيقُه: أنَّ اللامَ للجنسِ، فإذا قال وجنسُ السَّلامِ عليَّ خاصة فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم. وتنظيرُه:{والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] .
قوله: {يَوْمَ وُلِدْتُّ} منصوبٌ بما تضمنَّه» عليَّ «من الاستقرار. ولا يجوزُ نَصْبُه ب» السَّلام «للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه. وقرأ زيد بن على» وَلَدَتْ «جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ مريمَ، والتاءُ للتأنيث. و» حَيَّاً «حالٌ مؤكِّدَةٌ.
يكونَ «عيسى» خبراً ل «ذلك» ، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ. و «قولُ الحق» خبره. ويجوز أَنْ يكونَ «قولُ الحق» خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو قولُ: و «ابن مريم» يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر «قولَ الحق» بالنصبِ والباقون بالرفع. فالرفعُ على ما تقدَّم. قال الزمخشري: «وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بدلٌ» قال الشيخ: «وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ» .
والنصب: يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك: «هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ، أي: أقولُ قولَ الحق، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه، أي: القول الحق، كقولِه: {وَعْدَ الصدق} [الاحقاف: 16] ، أي: الوعدَ الصدقَ. ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح، أي: أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى، و» الذي «نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار أعني. وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من» عيسى «. ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى.
وقرأ الأعمشُ» قالُ «برفع اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً. وقرأ
الحسن» قُوْلُ «بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر لقال. يقال: قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال أبو البقاء:» والقال: اسمٌ [للمصدرِ] مثل: القيل، وحُكي «قُولُ الحق» بضمِّ القاف مثل «الرُّوْح» وهي لغةٌ فيه «. قلت: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب.
وقرأ طلحةُ والأعمش» قالَ الحقُّ «جعل» قال «فعلاً ماضياً، و» الحقُّ «فاعلٌ به، والمرادُ به الباري تعالى. أي: قال اللهُ الحقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قولُه {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} خبراً لمبتدأ محذوف.
وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما» تَمْتَرون «بتاء الخطاب. والباقون بياءِ الغَيْبة. وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون: إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ.
وتقدَّم الكلامُ على نصبِ «فيكونَ» وما قيل فيه.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الله} : قرأ ابن عامرٍ والكوفيون «وإنَّ» بكسر «إنَّ» على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ {إِنَّ الله} بالكسر دون واو.
وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده، والتقدير: ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه، كقوله تعالى:{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه. وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه.
الثاني: أنها عطفٌ على «الصلاةِ» والتقدير: وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ. وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه. ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ «وبأنَّ اللهَ ربي» بإظهار الباءِ الجارَّة. وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن. وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام.
الثالث: أَنْ تكونَ «أنَّ» وما بعدها نَسَقاً على «أمراً» المنصوبِ ب «قَضَى» والتقدير: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على «أمراً» لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ ب «إذا» ، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ، بل هو ربُّنا على
الإِطلاق. ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.
الرابع: أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم. ذُكِر ذلك عن الكسائي، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ.
الخامس: أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على «الكتاب» في قولِه «قال: إني عبد الله آتاني الكتابَ» على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام، والقائلُ لهم ذلك عيسى. وعن وَهْب: عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. قال هذا القائل: ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ {إِنَّ الله} على قوله «إني عبدُ الله» فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ. وتكون الجملُ من قوله {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} إلى آخرها جملَ اعتراض، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ.
قوله تعالى: {مِن مَّشْهِدِ} : «مَشْهد» مَفْعَل: إمَّا من الشهادة، وإمَّا من الشهود وهو الحضورُ. و «مَشْهد: هنا يجوز أن يُراد به الزمانُ أو المكان أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمراد به الزمان، فتقديره: مِنْ وقتِ شهادة. وإن أريد به المكانُ فتقديره: من مكانِ شهادة يوم. وأنْ أريد به المصدرُ فتقديرُه: من شهادةِ ذلك اليومَ، وأَنْ تشهدَ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم والملائكةُ والأنبياءُ. وإذا كان من الشهود وهو الحضورُ فتقديرُه: مِنْ شهود الحساب والجزاء يوم القيامة، أو من مكانِ الشهود فيه وهو الموقفُ
أو من وقتِ الشهود؟ وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافتُه إلى الظرف من بابِ الاتساعِ، كقوله {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] . ويجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه على أن يُجْعَلَ اليومُ شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة وإمَّا مجازاً.
قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} : هذا لفظُه أمرٌ ومعناه التعجبُ، وأصَحُّ الأعاريبِ فيه كما تقرَّر في علم النحو: أنَّ فاعلَه هو المجرورِ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحاً للَّفظِ، لأنَّ أَفْعِلْ أمراً لا يكون فاعلُه إلا ضميراً مستتراً، ولا يجوزُ حَذْفُ هذه الباءِ إلا مع أَنْ وأنَّ كقوله:
323 -
9- تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها
…
فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا
أي: بأَنْ تَسَرْبَلَ، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ، ولا ضميرِ في أَفْعَلِ. ولنا قولُ ثانٍ: إن الفاعلَ مضمرٌ، والمرادُ به المتكلمُ كأنَّ المتكلمَ يأمر نفسَه بذلك والمجرورُ بعده في محلِّ نصب، ويُعزَى هذا للزجاج.
ولنا قول ثالث: أن الفاعلَ ضميرُ المصدرِ، والمجرورَ منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقديرُ: أحسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ. ولشَبَهِ هذه الفاعلِ عند الجمهور بالفَضْلَة لفظاً جاز حَذْفُه للدلالةِ عليه كهذه الآيةِ فإنَّ تقديرَه: وأَبْصِرْ بهم. وفيه أبحاثٌ موضوعُها كتبُ النحو.
وقوله {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} معمولٌ ل «أَبْصِرْ» . ولا يجوز أن يكونَ معمولاً ل «أَسْمِعْ» لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه، ولذلك كان الصحيحُ أنه لا يجوزُ أن تكونَ المسألة من التنازع. وقد جَوَّزه بعضُهم ملتزِماً إعمالَ الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإِعمال. وقيل بل هو أمرٌ حقيقةً، والمأمورُ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أَسْمِعِ الناسَ وأَبْصِرْهم بهم وبحديثهم: ماذا يُصنع بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
وقوله «اليوم» منصوبٌ بما تضمنَّه الجارُّ مِنْ قولِه «في ضلال مبين» ، أي: لكن الظالمون استقروا في ضلال مبين اليوم. ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يُخْبَر عن الجثةِ بالزمان بخلافِ قولك: القتال اليوم في دارِ زيدٍ، فإنه يجوز الاعتباران.
قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأمر} : يجوز أن يكونَ منصوباً بالحَسْرَةِ، والمصدرُ المعرَّفُ بأل يعملُ في المفعولِ الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف؟ ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «يوم» فيكون معمولاً ل «أَنْذر» كذا قال أبو البقاء والزمخشري وتبعهما الشيخُ، ولم يَذْكر غيرَ البدل.
وهذا لا يجوزُ أن كان الظرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أَنْ يعملَ المستقبل في الماضي، فإن جَعَلْتَ «اليوم» مفعولاً به، أي: خَوِّفْهم نفسَ اليومِ، أي: إنهم يخافون اليومَ نفسَه، صَحَّ ذلك لخروجِ الظرفِ إلى حَيِّزِ المفاعيل الصريحة.
وقوله: {لكن الظالمون} من إيقاعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ.
قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} جملتان حاليتان وفيهما قولان، أحدهما: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في قولِه {فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، أي: استقرُّوا في ضلالٍ مبين على هاتين الحالتين السَّيئتين. والثاني: أنهما حالان مِنْ مفعولِ «أَنْذِرْهُم» أي: أَنْذِرهم على هذه الحالِ وما بعدَها، وعلى الاولِ يكون قولًُه {وَأَنْذِرْهُم} اعتراضاً.
وقرأ العامَّةُ «يُرْجَعون» بالياء من تحت مبنياً للمفعول. والسلمي وابن أبي إسحاق وعيسى مبنياً للفاعل، والأعرج بالتاء مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكونَ التفاتاً وأن لا يكونَ.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأًبِيهِ} : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من «إبراهيم» بدلَ اشتمال كما تقدَّم في {إِذِ انتبذت} [مريم: 16] وعلى هذا فقد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بقولِه: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} نحو: رأيت زيداً - ونِعْم الرجلُ - أخاك «. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلَّقَ «إذ» ب «كان» أو
ب «صِدِّيقاً نبيَّاً» ، أي: كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين طلب خاطب أباه تلك المخاطباتِ «. ولذلك جَوَّز أبو البقاء أن يعمل فيه {صِدِّيقاً نبيَّاً} أو معناه.
قال الشيخ:» الإِعرابُ الأولُ - يعني البدليةَ - يقتضي تصرُّفَ «إذ» وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ «كان» في الظرف وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العاملُ مركباً من مجموع لفظَيْنِ بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ. ولا جائز أن يكونَ معمولاً ل «صِدِّيقاً» لأنه قد وُصِفَ، إلا عند الكوفيين. ويَبْعُدُ أن يكونَ معمولاً ل «نبيَّاً» لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَةَ كانت في وقتِ هذه المقالة «.
قلت: العاملُ فيه ما لخَّصه أبو القاسم ونَضَّده بحسنِ صناعتِه من مجموع اللفظين كما رأيتَ في قوله» أي: كان جامعاً / لخصائصِ الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه «.
وقد تَقَدَّمت قراءةُ ابن عامر «يا أبَتِ» وفي مصحف عبد الله «وا أبتِ» ب «وا» التي للنُّدْبة.
قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنتَ} : يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكون «راغبٌ» مبتدأً لاعتمادِه على همزةِ الاستفهام، و «أنت» فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبر. والثاني: أنه خبر مقدمٌ، و «أنت» مبتدأ مؤخر ورُجِّح الأولُ بوجهين،
أحدهما: أنه ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعلِ التأخيرُ عن رافعِه. والثاني أنه لا يلزم فيه الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك لأنَّ {عَنْ آلِهَتِي} متعلقٌ ب «راغِبٌ» ، فإذا جُعل «أنت» فاعلاً فقد فُصِل بما هو كالجزءِ من العامل، بخلافِ جَعْلِه خبراً فإنه أجنبي إذ ليس معمولاً ل «راغبٌ» .
قوله: «مَلِيَّاً» في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني، أي: زمناً طويلاً، ومنه «المَلَوان» للَّيلِ والنهارِ، وَمَُِلاوةُ الدَّهْر بتثليث الميم قال:
324 -
0- فَعُسْنا بها من الشَّبابِ مَلاوةً
…
فالحجُّ آيات الرسولِ المحبِّبِ
وأنشد السدِّي على ذلك لمهلهل:
324 -
1- فتصَدَّعَتْ صُمُّ الجِبالِ لمَوْتِه
…
وبَكَتْ عليه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
والثاني: أنه منصوبٌ على الحال معناه: سالماً سَويَّاً. كذا فسَّره ابن عباس: فهو حالٌ مِنْ فاعلِ «اهْجُرْني» ، وكذلك فَسَّره ابنُ عطيةَ قال:«معناه: مُسْتَبداً، أي: غنيَّاً من قولهم هو مَلِيٌّ بكذا وكذا» . قال الزمخشري: «أي: مُطيقاً» والثالث: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: هَجْراً مَلِيَّاً يعني: واسعاً متطاولاً كتطاول الزمان الممتد.
وقرأ أبو البرهسم «سَلاماً» بالنصب، وتوجيهُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.
قوله تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} : «وكُلاًّ» مفعولٌ مقدم هو الأول، و «نبيَّا» هو الثاني.
قوله تعالى: {نَجِيّاً} : حالٌ مِنْ مفعولِ «قَرَّبْناه» وأصلُه نَجِيْوا، لأنه مِنْ نجا يَنْجو، والأَيْمَن: الظاهر أنه صفةٌ لجانب بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} [طه: 80] . وقيل: إنه صفةٌ للطور؛ إذ اشتقاقُه من اليُمْن والبركة.
قوله تعالى: {مِن رَّحْمَتِنَآ} : في «مِنْ» هذه وجهان، أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: مِنْ أَجْل رحمتِنا. و «أخاه» على هذا مفعولٌ به، و «هرون» بدلٌ أو عطف بيان، أو منصوبٌ بإضمار أَعْني، و «نَبِيَّاً» حالٌ. والثاني: أنها تبعيضيةٌ، أي: بعض رحمتِنا. قال الزمخشري: «وأخاه على هذا بدلٌ، وهرونَ عطف بيان» . قال الشيخ: «الظاهرُ أنَّ» أخاه «مفعولُ» وَهَبْنَا «، ولا تُرادِفُ» مِنْ «بعضً فَتُبْدِلُ» أخاه «منها» .
قوله تعالى: {مَرْضِيّاً} : العامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ
وأصلُه مَرْضُوْوٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ كهي في مَضْروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرِّضْوان، فأُعِلَّ بقلب الواو ياءً وأُدْغِمَتْ الأخيرة ياءً، واجتمعت الياءُ والواو فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغمت ويجوز النطقُ بالأصلِ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصلِ وهو الأكثرُ، ومن الإِعلالِ قولُه:
324 -
2- لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني
…
أنا المَرْءُ مَعْدِيَّاً عليه وعادِيا
وقالوا: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة، أي: مُسْقاة بالسَّانية.
قوله: {مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ} : «مِن» الأولى للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء مُنَعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ مُحالٌ، والثانيةُ للتبعيض، فمجرورُها بدلٌ مما قبلَه بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كل.
قوله: «وإسرائيلَ» عطفٌ على «إبراهيمَ» .
قوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على {مِّنَ النبيين} ، وأن يكونَ عطفاً على {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} .
قوله: {إِذَا تتلى} جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان، أظهرهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها. والثاني: أنها خبرُ «أولئك» ، والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإِشارة، وعلى الأول يكون الموصولُ نفسَ الخبر. وقرأ العامَّةُ «تُتلى» بتاءين مِنْ فوقُ. وقرأ عبد الله وشيبةُ وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وورشٌ عن نافع في
رواياتٍ شاذة بالياء أولاً مِنْ تحتُ، والتأنيثُ مجازيٌّ فلذلك جاء في الفعلِ الوجهان.
قوله: «سُجَّدا» حالٌ مقدرة. قال الزجاج: «لأنهم وقتَ الخُرورِ ليسوا سُجَّداً» .
و «بُكِيَّا» فيه وجهان، أظهرهما: أنه جمع باكٍ، وليس بقياسِه، بل قياسُ جَمْعِه على فُعَلة، كقاضٍ وقُضاة، ولم يُسمع فيه هذا الأصلُ. وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسِران فاءَه على الإِتباع. والثاني: أنه مصدرٌ على فُعُوْل نحو: جَلَسَ جُلُوْساً، وقَعَدَ قُعوداً. والأصلُ فيه على كِلا القولين بُكُوْي بواوٍ وياء، فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهور في مثله. وقال ابن عطية:«وبكيَّا بكسر [الباء] وهو مصدرٌ لا يحتمل غيرَ ذلك» . قال الشيخ: «وليس بسديدٍ بل الإِتباعُ جائزٌ فيه» . وهو جمعٌ كقولِهم عُصِيّ ودُليّ، جمع عَصا ودَلْو، وعلى هذا فيكون «بكيَّاً» : إمَّا مصدراً مؤكداً لفعلٍ محذوف، أي: وبَكَوْا بُكِيَّاً، أي: بكاءً، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال، أي: باكين أو ذوي بكاءً، أو جُعِلوا [نفس] البكاءِ مبالغةً.
قوله تعالى: {إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ} : فيه وجهان، أظهرهما: أنه استثناءٌ متصلٌ. وقال الزجاج: «هو منقطعٌ» وهذا بناءً منه على أنَّ المُضَيِّعَ للصلاة من الكفار.
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعةٌ «الصلوات» جمعاً. والغَيُّ تقدم.
وقرأ الحسنُ هنا وجميعَ ما في القرآن «يُدْخَلون» مبنياً للمفعول. ونقل الأخفش أنه قُرِئ «يُلَقَّوْن» بضم الياء وفتح اللام وتشديدِ القاف، مِنْ لقَّاه مضعفاً. وستأتي هذه القراءة لبعض السبعة في آخر الفرقان. و «شيئاً» ، إمَّا / مصدرٌ، أي: شيئاً من الظلم، وإمَّا مفعولٌ به.
قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} : العامَّةُ على كسر التاء نصباً على أنها بدل مِن «الجنةَ» ، وعلى هذه القراءةِ يكون قولُه {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} فيه وجهان، أحدهما: أنه اعتراضٌ بين البدلِ والمبدلِ منه. الثاني: أنه حالٌ، كذا قال الشيخ. وفيه نظرٌ: من حيث إن المضارع المنفيِّ ب «لا» كالمُثْبَتِ في أنه لا تباشِرُه واوُ الحالِ.
وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر والأعمش «جناتُ» بالرفع وفيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتد مضمرٍ تقديرُه: تلك، أو هي جناتُ عدنٍ. الثاني: - وبه قال الزمخشري - أنها مبتدأ، يعني ويكون خبرُها {التي وَعَدَ} .
وقرأ الحسن بن حيّ وعلي بن صالح والأعمشُ في روايةٍ «جَنَّةَ عَدْنٍ» نصباً مفرداً. واليماني والحسنُ والأزرقُ عن حمزةَ «جنةُ» رفعاً مفرداً، وتخريجُها واضحٌ ممَّا تقدَّم. قال الزمخشري:«لَمَّا كانت مشتملةٌ على جناتِ عدنٍ أبْدِلَتْ منها كقولِك:» أَبْصَرْتُ دارَكَ القاعةَ والعلاليَّ «، و» عَدْنٍ «معرفةٌ علمٌ بمعنى العَدْنِ وهو الإِقامةُ كما جعلوا فينةَ وسحَر وأمسَ - فيمن لم يَصْرِفْه - أعلاماً لمعاني الفنية والسَّحَر والأمس، فجرى مَجْرى العَدْن لذلك، أو هو عَلَمٌ لأرضِ الجنةِ لكونِها دارَ إقامة، ولولا ذلك لَما ساغَ الإِبدالُ لأنَّ النكرةَ لا تُبْدَلُ من المعرفةِ إلَاّ موصوفةً، ولَما ساغ وصفُها بالتي» .
قال الشيخ: «وما ذكره متعقِّبٌ: أمَّا دعواه أنَّ عَدْناً، عَلَمٌ لمعنى العَدْنِ
فيحتاج إلى تَوْقيفٍ وسَماعٍ من العرب، وكذا دعوى العَلَميةِ الشخصيةِ فيه. وأمَّا قولُه» ولولا ذلك «إلى قوله» موصوفة «فليس مذهبَ البصريين؛ لأنَّ مذهبَهم جوازُ إبدالِ النكرةِ من المعرفةِ وإن لم تكون موصوفةً، وإنما ذلك شيءٌ قاله البغداديون، وهم مَحْجُوْجون بالسَّماعِ على ما بيَّناه، وملازمتُه فاسدةٌ. وأمَّا قولُه» ولَما ساغَ وصفُها ب «التي» فلا يتعيَّن كون «التي» صفةً، وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ إعرابُه بدلاً «.
قلت: الظاهر أنَّ» التي «صفةٌ، والتمسُّكُ بهذا الظاهرِ كافٍ، وأيضاً فإنَّ الموصولَ في قوةِ المشتقات، وقد نَصُّوا على أنَّ البدلَ بالمشتقِّ ضعيفٌ فكذا ما في معناه.
قوله:» بالغيبِ «فيه وجهان: أحدهما: أن الباءَ حاليةٌ. وفي صاحب الحالِ احتمالان، أحدُهما: ضميرُ الجنَّة وهو عائدٌ الموصولِ، أي: وعَدَعا، وهي غائبةٌ عنهم لا يُشاهدونها. والثاني: أن يكونَ مِنْ» عبادَة «، أي: وهم غائبون عنها لا يَرَوْنها، إنما آمنوا بمجردِ الإِخبار منه.
والوجه الثاني: أن الباءَ سببيةٌ، أي: بسببِ تصديقِ الغيب، وبسببِ الإِيمان به.
قوله:» إنه كان «يجوز في هذا الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى يعودُ على الرحمن، أي: إنَّ الرحمن كان موعدُه مَأْتِيَّا.
والثاني: أنه ضميرُ الأمرِ والشأن؛ لأنه مَقامُ تعظيمٍ وتفخيمٍ، وعلى الأول يجوز أَنْ يكونَ في «كان» ضميرٌ هو اسمُها يعودُ على اللهِ تعالى، و «وعدُه» بدلٌ من ذلك الضميرِ بدلُ اشتمال، و «مَأْتِيَّاً» خبرُها. ويجوز أَنْ لا يكون فيها ضميرُ،
بل هي رافعةٌ ل «وَعِدُه» و «مَأْتِيَّاً» ، الخبرُ أيضاً، وهو نظير:«إنَّ زيداً كان أبوه منطلقاً» .
ومَأْتِيَّاً فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ على بابِهِ، والمرادُ بالوعدِ الجنةُ، أُطْلِقَ عليها المصدرُ أي موعوده نحو: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ. وقيل: الوَعْدُ مصدرٌ على بابه ومَأْتِيَّاً مفعولٌ بمعنى فاعِل ولم يَرْتِضِه الزمخشريُّ فإنه قال: «قيل في» مَأْتِيَّاً «مفعولٌ بمعنى فاعِل. والوجهُ: أنَّ الوعدَ هو الجنة، وهم يَأْتونَها، أو هو مِنْ قولِك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعدُه مفعولاً مُنْجِزاً» .
قوله: {إِلَاّ سَلَاماً} : أبدى الزمخشريُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ معناه: إنْ كان تَسْلِيمُ بعضِهم على بعض - أو تسليمُ الملائكة عليهم - لغواً، فلا يسمعون لغواً إلى ذلك فهو مِنْ وادي قولِه:
323 -
4- ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم
…
بهنَّ فُلولٌ من قراعِ الكتائبِ
الثاني: أنهم لا يَسْمعون فيها إلا قولاً يَسْلَمون فيه من العيبِ والنقيصةِ، على الاستثناء المنقطع. الثالث: أنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ، ودارُ السلام هي دارُ السلامةِ، وأهلُها عن الدعاءِ بالسلامةِ أغنياءُ، فكان ظاهرُه من باب اللَّغْوِ وفُضولِ الحديث، لولا ما فيه من فائِدةِ الإكرامِ.
قلت: ظاهرُ هذا أنَّ الاستثناء على الأول وأخر متصلٌ؛ فإنه صَرَّح بالمنقطع في الثاني. أمَّا اتصالُ الثالثِ فواضحٌ، لأنه أَطْلَقَ اللغوَ على السلامِ
بالاعتبارِ الذي ذكره، وأمَّا الاتصالُ في الأولِ فَعَسِرٌ؛ إذ لا يُعَدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول، وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قولِه تعالى {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلَاّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] .
قوله: {نُورِثُ} : قرأ الأعمش «نُورِثها» بإبراز عائدِ الموصول. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة «نُوَرِّثُ» بفتحِ الواوِ وتشديد الراء مِنْ «وَرَّثَ» مضعِّفاً.
قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} : قال ابن عطية: «الواو عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على أخرى، واصلةٌ بين القولين وإن لم يكن / معناهما واحداً» . وقد أغربَ النقاشُ في حكايتِه لقولٍ: وهو أنَّ قولَه {وَمَا نَتَنَزَّلُ} ، متصلٌ بقولِه {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ} [مريم: 19] . وقال أبو البقاء: «وما نَتَنَزَّل، أي: وتقول الملائكةُ» فَجَعَلَه معمولاً لقولٍ مضمر. وقيل: هو من كلامِ أهل الجنة وهو أقربُ ممَّا قبله.
ونَتَنَزَّل مطاوعُ نَزَّل بالتشديدِ ويقتضي العملَ في مُهْلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري: «التَنَزُّلُ على معنيين: معنى النزولِ على مَهْلٍ، ومعنى
النزولِ على الإِطلاق كقوله:
324 -
4- فَلَسْتُ لإِنسيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ
…
تَنَزَّلَ مِنْ جوِّ السَّماءِ يصوبُ
لأنه مطاوع نَزَّل، ونزَّل يكون بمعنى أَنْزَلَ، ويكون بمعنى التدريج، واللائقُ بهذا الموضعِ هو النزولُ على مَهْلٍ، والمراد: أنَّ نزولَنا في الأحايين وقتاً غِبَّ وقتٍ» . قلت: وقد تقدم أنه يُفَرِّق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضع.
وقرأ العامَّةُ «نَتَنَزَّل» بنون الجمع. وقرأ الأعرج «يَتَنزَّل» بياء الغيبة. وفي الفاعل حينئذ قولان، أحدهما: أنه ضميرُ جبريل. قال ابن عطية: «ويَرُدُّه قولُه» له لما بين أيدينا وما خَلْفَنَا «لأنه يَطَّرِدُ معه، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أنَّ القرآن لا يَتَنَزَّل إلا بأمر الله في الأوقات التي يُقَدَّرها» . وقد يُجاب عما قال ابن عطية: بأنَّه على إضمار القول: أي: قائلاً: «له ما بين أيديدنا» .
الثاني: أنه يعود على الوَحْي، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضميرُ للوحي، ولا بد من إضمار هذا القولِ الذي ذكرتُه أيضاً.
قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} استدلَّ بعضُ النحاة على أنَّ الأزمنةَ ثلاثةُ:
ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ بهذه الآية، وهو كقولِ زهير:
324 -
5- وأعلمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبلَه
…
ولكنني عن عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ
قوله: {رَّبُّ السماوات} : فيه ثلاثةُ أقوالٍ، أحدها: كونُه بدلاً مِنْ «ربُّك» . الثاني: كونُه خبرَ مبتدأ، أي: هو ربُّ. الثالث: كونُه مبتدأً، والخبرُ الجملةُ الأمريةُ بعده وهذا ماشٍ على رَأْي الأخفش: أنه يُجَوِّزُ زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً.
قوله: لعبادتِه «متعلَّقٌ ب» اصْطَبِرْ «وكان مِنْ حَقِّه تعديتُه ب» على «لأنها صلتُه كقولِه: {واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] ولكنه ضُمِّن معنى الثبات، لأنَّ العبادةَ ذاتُ تكاليفَ قَلَّ مَنْ يَثْبُتُ لها فكأنه قيل: واثْبُتْ لها مُصْطَبراً.
قوله:» هل تعلم «أدغم الأخَوان وهشام وجماعة لام» هل «في التاء، وأنشدوا على ذلك بيت مزاحم العقيلي.
324 -
6- فدَعْ ذا ولكن هَتُّعِيْنُ مُتَيَّماً
…
على ضوءِ بَرْقٍ آخرَ الليلِ ناصِبِ
عليه بقوله تعالى {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} تقديرُه: إذا مِتُّ أُبْعَثُ أو أُحيا. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ فيه «أُخْرِج» لأنَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها. قال أبو البقاء: «لأنَّ ما بعد اللامِ وسوف لا يَعْمل فيما قبلها كإنَّ» قلت: قد جَعَلَ المانعَ مجموعَ الحرفين: أمَّا اللامُ فمُسَلَّمٌ، وأمَّا حرفُ التنفيسِ فلا مَدْخَلَ له في المنع؛ لأنَّ حرفَ التنفيسِ يَعْمَلُ ما بعده فيما قبله. تقول: زيداً سأضرب، وسوف أضرب، ولكنْ فيه خلافٌ ضعيفٌ، والصحيحُ الجوازُ، وأنشدوا عليه:
324 -
7- فلمَّا رَأَتْع أمُّنا هانَ وَجْدُها
…
وقالت: أبونا هكذا سوف يَفْعَلُ
ف «هكذا» منصوب ب «يَفْعَل» بعد حرف التنفيس.
وقال ابن عطية: واللامُ في قوله: «لَسَوْف» مجلوبةٌ على الحكاية لكلامٍ تقدَّم بهذا المعنى، كأنَّ قائلاً قال للكافر: إذا مِتَّ يا فلان لسوف تُخْرَجُ حَيَّاً، فقرَّر الكلامَ على الكلام على جهةِ الاستبعادِ، وكرَّر اللامَ حكايةً للقول الأول «.
قال الشيخ:» ولا يُحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكايةُ لقولٍ تقدَّمَ، بل هو من كلامِ الكافرِ، وهو استفعامٌ فيه معنى الجحدِ والاستبعادِ «.
وقال الزمخشري:» لامُ الابتداءِ الداخلةُ على المضارع تعطي معنى
الحالِ فكيف جامَعَتْ حرفَ الاستقبال؟ قلت: لم تجامِعْها إلا مُخْلِّصَةً للتوكيد كما أَخْلَصَت الهمزةُ في «يا الله» للتعويض، واضمحلَّ عنها معنى التعريف «. قال الشيخ:» وما ذَكَرَ مِنْ أنَّ اللامَ تعطي الحالَ مخالَفٌ فيه، فعلى مذهبِ مَنْ لا يرى ذلك يُسْقط السؤال. وأمَّا قولُه:«كما أَخْلَصَت الهمزة» فليس ذلك إلا على مذهبِ مَنْ يزعم أنَّ أصلَه إلاه، وأمَّا مِنْ يزعم أنَّ أصله: لاه، فلا تكون الهمزةُ فيه للتعويضِ؛ إذ لم يُحْذَفْ منه شيءٌ، ولو قلنا: إن أصلَه إلاه، وحُذِفَتْ فاءُ الكلمة، لم يتعيَّنْ أنَّ الهمزةَ فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانَتْ عوضاً من المحذوف لَثَبَتَتْ دائماً في النداء وغيرِه، ولَمَات جاز حذفُها في النداء، قالوا:«يا الله» بحَذْفِها، وقد نَصُّوا على أن [قطعَ] همزةِ الوصل في النداء شاذ «.
وقرأ الجمهور» أإذا «بالاستفهامِ وهو استبعادٌ كما تقدَّم. وقرأ ابن ذكوان بخلافٍ عنه وجماعةٌ» إذا «بهمزةٍ واحدة على الخبر، أو للاستفهامِ وحذَف أداتَه للعلمِ بها، ولدلالةِ القراءةِ الأخرى عليها.
وقرأ طلحة بن مصرف» لَسَأَخْرَجُ «بالسين دون سوف، هذا نَقْلُ الزمخشريِّ عنه، وغيرُه نَقَل عنه» سَأَخْرُج «دونَ لامِ ابتداء، وعلى هذه
القراءةِ يكونُ العاملُ في الظرف نفسَ» أُخْرَج «، ولا يمنع حرفُ التنفيسِ على الصحيح.
وقرأ العامَّةُ» أُخْرَجُ «مبنياً للمفعول. والحسن وأبو حيوة» أَخْرِجُ «مبنياً للفاعل. و» حَيَّاً «حالٌ مؤكِّدة لأنَّ مِنْ لازمِ خروجِه أن يكونَ» حَيَّاً «وهو كقولِه: {أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وجماعة» يَذْكُرُ «مخففاً مضارعَ» ذكر «، والباقون بالتشديد مضارعَ تَذَكَّر، والأصل» يتذكَّر «فأُدْغِمَتْ التاءُ في الذال. وقد قرأ بهذا الأصلِ وهو يَتَذَكَّر: أُبَيُّ.
والهمزةُ في قوله {أَوَلَا يَذْكُرُ} مؤخرةٌ عن حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور. وقد رَجَع الزمخشري إلى رأي الجمهورِ هنا فقال: «الواوُ عَطَفَتْ {لَا يَذْكُرُ} على» يقول «/ ووُسِّطَتْ همزةُ الإِنكار بين المعطوف وحرفِ العطف» ومذهبُه أَنْ يُقَدِّرَ بين حرفِ العطفِ وهمزة الاستفهام جملةً يُعْطَف عليها ما بعدها، وقد فعل هذا - أعني الرجوعَ إلى قولِ الجمهور - في سورة الأعراف كما نبَّهت عليه في موضعِه.
قوله: {مِن قَبْلُ} ، أي: مِنْ قبلِ بَعْثه. وقَدَّره الزمخشري «من قبلِ
الحالةِ التي هو فيها وهي حالةُ بقائه» .
قوله: {جِثِيّاً} : حالٌ مقدرةٌ مِنْ مفعولِ «لَنُحْضِرَنَّهُمْ» و «جِثِيّاً» جمعُ جاثٍ جمعٌ على فُعُوْل نحو: قاعِد وقُعود وجالِس وجُلوس. وفي لامِه لغتان، إحداهما الواو، والأخرى الياء يُقال: جثا يَجْثُو جُثُوَّاً، وجَثِيَ يَجْثِي جِثايةً، فعلى التقدير الأول يكون أصلَه «جُثُوْوٌ» بواوين: الأُوْلى زائدةٌ علامةً للجمع، والثانيةُ لامُ الكلمةِ، ثم أُعِلَّتْ إعلالَ عِصِيّ ودُلِيّ، وتقدَّم تحقيقُه في «عِتِيَّاً» . وعلى الثاني يكون الأصلُ جُثُوْياً، فَأُعِلَّ إعلالَ هَيِّن ومَيِّت. وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعاتٍ جماعاتٍ جمعَ جُثْوَة، وهو: المجموعُ من التراب والحجارة. وفي صحتِه عنه نظرٌ من حيث إنَّ فُِعْلَة لا يُجمع على فُعُوْل. ويجوز في «جِثِيَّا» أن يكون مصدراً على فُعول، وأصلُه كما تقدَّم في حالِ كونِه جمعاً: إمَّا جُثُوٌّ، وإمَّا جُثُوْيٌ.
وقد تقدَّم «أنَّ الأخوين يكسران فاءَه، والباقون يَضُمونها.
والجُثُوُّ: القُعُودُ على الرُّكَب.
قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها
عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: أن «أيُّهم» موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و «أَشَدُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم» ، و «أيُّهم» وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله «لَنَنْزِعَنَّ» .
ول «ايّ» أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر:
324 -
8- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ
…
فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم «أيُّهم» وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ «أيُّهم» هنا مبتدأٌ، و «أشدُّ» خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر:
324 -
9- ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ
…
فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وقال تقديره: فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ: لا حَرِجٌ ولا محرومُ.
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ
الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل «نَنْزِعَنَّ» فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور.
وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50] ، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا» . فجعل «أيُّهم» موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ «.
قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين» .
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ {كُلِّ شِيعَةٍ} و «مِنْ» مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ «مِنْ» ، و «أيُّ» استفهامٍ «، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان.
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى» لننزِعَنَّ «لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في» أيّ «. قال المهدوي:» ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ «.
وقال المبرد:» أيُّهم «متعلِّقٌ ب» شيعةٍ «فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا» .
ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل «نَنْزِعَنَّ» محذوفاً. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: «وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا» . قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ «أيُّهم» فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ «شيعة» من معنى الفعلِ، قال:«التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي» .
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ «أيُّهم» في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا.
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ
عن الأعمش «أيُّهم» نصباً. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس:«ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه» قال: «وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول:» ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما «قال» وقد أعرب سيبويه «أيَّاً» وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبنيها مضافةً «؟ وقال الجرميُّ:» خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول: «لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ» بالضمِّ بل يَنْصِبُ «.
و {عَلَى الرحمن} متعلقٌ ب» أشدُّ «، و» عِتِيَّاً «منصوبٌ على / التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه «. قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان ب» أَفْعَل «، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم:» هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا «.
قلت: يعني ب» على «قولَه» على الرحمن «، وبالباء قولَه» بالذين هم «. وقوله» بالمصدر «يعني بهما» عِتيَّا «و» صِلِيَّاً «وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه.
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ» عِتِيَّاً «و» صِلِيَّاً «في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ.
قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ} : في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية « {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:» مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ «قال الشيخ:» وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب «إنْ» والجوابُ هنا على زَعْمه ب «إنْ» النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله:«والواو تَقْتَضِيه» يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: «
نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ» ، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر:
325 -
0- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ
…
أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «.
و» إنْ «حرفُ نفيٍ، و» منكم «صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ.
والخطابُ في قولِه» منكمْ «يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري:» التفاتٌ إلى الإِنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ «وإنْ منهم» أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «.
والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب [وحَتَمَه] حتماً، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى:» هذا خَلْقُ الله «و» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ «. و» على ربِّك «متعلِّقٌ ب» حَتْم «لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه ب» مَقْضِيَّاً «.
وقرأ العامَّةُ {ثُمَّ نُنَجِّيْ} بضمِّ «ثمَّ» على أنَّها العاطفةُ وقرأ عليٌّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباسٍ وأُبيُّ والجحدريُّ ويعقوبُ «ثَمَّ» بفتحها على أنها الظرفيةُ، ويكون منصوباً بما بعده، أي: هناك نُنَجِّي الذين اتَّقَوا.
وقرأ الجمهور «نُنَجِّيْ» بضم النونِ الأولى وفتحِ الثانية وتشديدِ الجيم، مِنْ «نجَّى» مضعفاً. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن «نُنْجِي» مِنْ أَنْجى. والفعلُ على هاتين مضارعٌ.
وقرأَتْ فِرقةٌ «نُجِّيْ» بنونٍ واحدةٍ مضمومةٍ وجيمٍ مشددة. وهو على هذه القراءةِ ماضٍ مبني للمفعول، وكان مِنْ حق قارئها أن يفتحَ الياءَ، ولكنه سكَّنه تخفيفاً. وتحتمل هذه القراءةُ توجيهاً آخرَ سيأتي في قراءة متواترةٍ آخرَ سورةِ الأنبياء. وقرأ عليُّ بن أبي طالب أيضاً «نُنَجِّي» بحاءٍ مهملة، من التَّنْحِيَة.
ومفعول «اتَّقوا» إمَّا محذوفٌ مرادٌ للعلمِ به، أي: اتَّقُوا الشركَ والظلمَ.
قوله: جِثِيَّا «إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كان» نَذَرُ «يتعدَّى لاثنين بمعنى نترك ونُصَيِّر، وإمَّا حالٌ إنْ جَعَلْتَ» نَذَرُ «بمعنى نُخَلِّيْهم. و» جِثِيَّاً «على ما تقدَّم.
و» فيها «يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب» نَذَرُ «، وأَنْ يتعلَّقَ ب» جِثِيَّاً «إنْ كان حالاً، ولا يجوزُ ذلك فيه إنْ كان مصدراً. ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ» جِثِيَّاً «لأنه في الأصلِ صفةٌ لنكرةٍ قُدِّم عليها فَنُصِبَ حالاً.
قوله: {مَّقَاماً} : قرأ ابن كثير «مُقاماً» بالضم، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءةُ ابن محيصن. والباقون بالفتح. وفي كلتا القراءتين يحتمل أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ مصدر، إمَّا من «قام» ثلاثياً، أو مِنْ «أقام» ، أي: خير مكانِ قيامِ أو إقامةٍ.
والنَّدِيُّ: فَعِيل، أصلُه نَدِيْوٌ لأنَّ لامَه واوا، يقال: نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم، أي: أَتَيْتُ ناديَهم، والنادي مثلُه. ومنه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] ، أي: أهل نادية. والنَّدِيُّ والنادي: مجلسُ القومِ ومُتَحَدِّثُهم. وقيل: هو مشتقٌ من النَّدى وهو الكَرَمُ؛
لأن الكرماء يجتمعون فيه، وانْتَدَيْتُ المكانَ والمُنْتدى كذلك. وقال حاتم:
325 -
1- ودُعِيْتُ في أَوْلَى النَّدِيَّ ولم
…
يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ
والمصدرُ: النَّدْوُ. و «مَقاماً» و «نَدِيَّا» منصوبان على التمييز من أفْعل.
وقرأ أبو حيوةَ والأعرجُ وابن محيصن «يُتْلَى» بالياء مِنْ تحتُ، والباقون/ بالتاءِ من فوقُ واللامُ في «للذين» يحتمل أَنْ تكونَ للتبليغِ، وهو الظاهر، وأن تكونَ للتعليلِ.
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : «كم» مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا: استفهاميةٌ أو خبريةٌ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ، و «أَهلَكْنا» مُتَسَلِّطٌ على «كم» أي: كثيراً من القرون أَهْلَكْنا. و «مِنْ قَرنٍ» تمييزٌ ل «كَمْ» مُبَيِّنٌ لها.
قوله: {هُمْ أَحْسَنُ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: - وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء - أنَّها في محلِّ نصب، صفةً ل «كم» . قال الزمخشري:«ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ» هم «لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ» أحسنُ «على الوصفية» . وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَصُّوا: على أنَّ «كم»
استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل «قَرْن» ولا محذورَ في هذا، وإنما جُمِعَ في قوله:«هم» لأنَّ قَرْناً وإن كان لفظُه مفرداً فمعناه جمعٌ، ف «قَرْن» كلفظِ «جميع» و «جميع» يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى:{نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى: {لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] .
قوله: «ورِئْياً» الجمهورُ على «رِئْياً» الجمهورُ على «رِئْيا» بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإِظهارُ اعتباراً بالأصل، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه.
وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر «ورِيَّا» بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزةُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما.
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى «وَرِيْئاً» بياءٍ ساكنةٍ
بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ «رِئْياً» في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْعٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر:
325 -
2- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ
…
مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ «ورِياء» بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة «وَرِيَاً» بياء فقط مخففةٍ. ولها وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير. والثاني: أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد «وَرِيْئا» بالقلب، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل، فصار «وَرِيا» كما ترى. وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْناً، وليس اللاحنُ غيرَه، لخَفَاءِ توجيهِها عليه.
وقرأ ابن عباس أيضاً وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ «وزِيَّا» بزايٍ وياءٍ مشددة، والزَّيُّ: البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه، أي: يَجْمعه، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه.
قوله: {مَن كَانَ فِي الضلالة} : «مَنْ» يجوز ان تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في الخبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ مِنْ معنى الشرط. وقولُه:«فَلْيَمْدُدْ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه طَلَبٌ على بابه، ومعناه الدُّعاءُ. والثاني: لفظُه لفظُ الأمرِ، ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي: مَدَّ له الرحمنُ، بمعنى أَمْعَلَه فأُخْرِجَ على لفظِ الأمرِ إيذاناً بوجوبِ ذلك. أو فَمُدَّ له في معنى الدعاء بأن يُمْهِلَه الله ويُنَفِّسَ في مدةِ حياتِه «.
قوله:» حتى إذا «في» حتى «هذه ما تقدَّمَ في نظائرِها مِنْ كونِها: حرفَ جرٍّ أو حرفَ ابتداءٍ، وإنما الشأنُ فيما هي غايةٌ له على كلا القولين. فقال الزمخشري:» وفي هذه الآيةِ وجهان: أن تكونَ موصولةً، بالآيةِ التي هي رابِعَتُها، والآيتان اعتراضٌ بينهما، أي: قالوا: أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقاماً وأَحْسَنُ نَدِيَّاً، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون، أي: لا يَبْرَحون يقولون هذا القولَ ويَتَوَلَّعُون [به] لا يَتَكَافَوْن عنه إلى أن يُشاهدون الموعودَ رأيَ العينِ «وذكر كلاماً حسناً.
ثم قال:» والثاني: أن تتصلَ بما يليها، والمعنى أنَّ الذينَ في الضلالةِ ممدودٌ لهم «وذكر كلاماً طويلاً. ثم قال:» إلى أَنْ يُعايِنوا نُصْرَةَ / اللهِ للمؤمنين، أو يشاهدوا السَّاعة ومُقَدِّماتها. فإنْ قلت:«حتى» هذه ما هي؟
قلت: هي التي تُحْكى بعدها الجملُ، ألا ترى الجملةَ الشرطيةَ واقعةً بعدها، وهي {إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ. . . فَسَيَعْلَمُونَ} .
قال الشيخ: - مُسْتبعداً للوجه الأول- «وهو في غاية البُعْدِ لطولِ الفَصْلِ بين قولِه:» قالوا أيُّ الفريقينِ «وبين الغايةِ، وفيه الفصلُ بجملتيْ اعتراَس ولا يُجيزه أبو علي» . وهذا الاستبعادُ قريبٌ. وقال أبو البقاء: «حتى» يُحْكَى ما بعدها ههنا، وليست متعلقةً بفعلٍ «.
قوله: {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} قد عَرَفْتَ [ما] في» إمَّا «: من كونِها حرفَ عطفٍ أولا، ولا خلاف أن أحدَ معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة. و» العذابَ «و» الساعةَ «بدلانِ مِنْ قوله: {مَا يُوعَدُونَ} المنصوبةِ ب» رَأَوْا «و» فَسَيَعْلمون «جوابُ الشرط.
و {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} يجوز أَنْ تكونَ» مَنْ «موصولةً بمعنى الذي، وتكونَ مفعولاً ل» يَعْلَمون «. ويجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» هو «مبتدأُ ثانٍ، و» شَرٌّ «خبرُه، والمبتدأُ والخبرُ خبرُ الأول. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُعَلَّقةً لفعل الرؤيةِ فالجملةُ في محلِّ نصبٍ على التعليق.
قوله: {وَيَزِيدُ الله} : في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، فإنها سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقال
الزمخشري: «إنها معطوفةٌ على موضعِ» فَلْيَمْدُدْ «لأنه واقعٌ موقعَ الخبر، تقديرُه:» مَنْ كان في الضلالة مَدَّ - أو يَمُدُّ - له الرحمنُ ويَزيدُ «. قال الشيخ: ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ» ويَزيدُ «معطوفاً على» فَلْيَمْدُدْ «سواءً كان دعاءً أم خبراً بصورةِ الأمر؛ لأنه في موضع الخبرِ إنْ كانت» مَنْ «موصولةً، أو في موضعِ الجوابِ إن كانت» مَنْ «شرطيةً، وعلى كلا التقديرين فالجملةُ مِنْ قولِه:» ويزيدُ اللهُ الذين اهتدَوا هدىً عاريةٌ من ضميرٍ يعود على «مَنْ» يَرْبِطُ جملةَ الخبرِ بالمبتدأ، أو جملةَ الشرطِ بالجزاء الذي هو «فَلْيَمْدُدْ» وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّ المعطوفَ على الخبر خبرٌ، والمعطوفَ على جملةِ الجزاءِ جزاءٌ. وإذا كانت اداةُ الشرطِ اسماً لا ظرفاً تَعَيَّنَ أَنْ يكونَ في جملة الجزاءِ ضميرُه أو ما يقوم مَقامه، وكذا في الجملةِ المعطوفةِ عليها «.
قلت: وقد ذكر أبو البقاء أيضاً كما ذكر الزمخشري. وقد يُجاب عمَّا قالاه: بأنَّا نختار على هذا التقدير أَنْ تكونَ» مَنْ «شرطيةً. قوله:» لا بُدَّ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ غيرِ الظرف «ممنوعٌ لأنَّ فيه خلافاً قدَّمْتُ تحقيقَه وما يُسْتَدَلُّ به عليه في سورة البقرة. فقد يكون الزمخشريُّ وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يُشْتَرَطُ.
قوله: {أَفَرَأَيْتَ} : عطفٌ بالفاء إيذاناً بإفادةِ التعقيبِ كأنه قيل: أَخْبَرَ أيضاً بقصة هذا الكافر عَقِيْبَ قصةِ أولئك. و «أَرَأَيْتَ» بمعنى أَخْبَرَني كما قد عَرَفْتَه. والموصولُ هو المفعول الأول، والثاني هو الجملةُ
الاستفهاميةُ مِنْ قولِه {أَطَّلَعَ الغيب} و «لأُوْتَيَنَّ» جوابُ قسمٍ مضمرٍ، والجملةُ القسميةُ كلُّها في محلِّ نصبٍ بالقول.
وقوله هنا: «وَوَلداً» وفيها {قَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [مريم: 88، 91] . موضعان. وفي الزخرف {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الآية: 81] وفي نوح {مَالُهُ وَوَلَدُهُ} [الآية: 21] . قرأ الأربعةَ الأخَوان بضم الواو وسكونِ اللام. وافقهما ابن كثير وأبو عمرو. . . على الذي في نوحٍ دون السورتين، والباقون وهم نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ قرؤوا ذلك كلَّه بفتح الواو واللام.
فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحةٌ وهو اسمٌ مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع. وأمَّا قراءةُ الضمِّ والإِسكانِ، فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى، يقال: وَلَدَ ووُلْد، كما يقال: عَرَب وعُرْب، وعَدَمَ وعُدْم. وقيل: بل هي جمع لوَلَد نحو: أَسَد وأُسْد، وأَنْشَدوا على ذلك:
325 -
3- ولقد رَأَيْتُ معاشراً
…
قد ثَمَّروا مالاً وَوُلْدا
وأنشدوا شاهداً على أنَّ الوَلَدَ والوُلْد مترادِفان الآخر:
325 -
4- فَلَيْتَ فلاناً كان في بَطْنِ أمِّه
…
وليت فلاناً كان وُلْدَ حمارِ
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ووِلْدا» بكسر الواو، وهي لغةٌ في الوَلَد، ولا يَبْعُدُ أَنْ يكون هذا من باب الذَّبْح والرَّعْي، فيكون وِلْدٌ بمعنى مَوْلود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو: القَبَض بمعنى المَقْبوض.
قوله: {أَطَّلَعَ} : هذه همزةُ استفهامٍ سَقَطَ من أجلها همزةُ الوصل. وقد قُرِئ بسقوطِها دَرْجاً وكَسْرِها ابتداءً على أنَّ همزةَ الاستفهام قد حُذِفَتْ لدلالةِ «أم» عليها كقوله:
325 -
5- لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإن كنتُ دارِيا
…
بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
واطَّلع مِنْ قولِهم: اطَّلَعَ فلانٌ الجبلَ، أي: ارتقى أَعْلاه. قال جرير:
325 -
6-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
لا قَيْتُ مُطَّلَعَ الجِبالِ وُعُوْرا
ف «الغيبَ» ، مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيبِ، كما زعمه بعضُهم.
قوله: {كَلَاّ} : للنحويين في هذه اللفظةِ ستةُ مذاهبَ. أحدها: - وهو مذهبُ جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس - أنها حرفُ رَدْعٍ وزَجْر، وهذا معنىً لائقٌ بها حيث وَقَعَتْ في القرآن، وما أحسنَ ما جاءَتْ في هذه الآيةِ حيث زَجَرَتْ وَرَدَعَتْ ذلك القائلَ/. والثاني: - وهو مذهبُ النَّضْر بن شميل أنها حرفُ تصديقٍ بمعنى نعم، فتكون جواباً، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ أَنْ يتقدَّمَها شيءٌ لفظاً أو تقديراً. وقد تُسْتعمل في القسم. والثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصير بن يوسف وابن واصل - أنها بمعنى حقاً. والرابع - وهو مذهبُ أبي عبد الله محمد بن الباهلي- أنها رَدٌّ لما قبلها وهذا قريبٌ من معنى الرَّدْع. الخامس: أنها صلةٌ في الكلام بمعنى «إي» كذا قيل. وفيه نظرٌ فإنَّ «إي» حرفُ جوابٍ ولكنه مختصٌّ بالقسم. السادس: أنها حرفُ استفتاحٍ وهو قولُ أبي حاتم. ولتقريرِ هذه المواضعِ موضوعٌ هو أليقُ بها قد حققتُها بحمدِ الله تعالى فيه.
وقد قُرِئ هنا بالفتح والتنوين في «كَلَاّ» هذه، وتُرْوى عن أبي نُهَيْك. وسيأتي لك ان الزمخشريَّ يحكي هذه القراءةَ ويَعْزِيْها لابن نُهَيْك في قوله:{كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ} [مريم: 82] ويحكي أيضاً قراءةً بضم الكاف والتنوين، ويَعْزِيْها لابن نهيك أيضاً. فأمَّا قولُه:«ابن نهيك» فليس لهم ابنُ نهيك، إنما لهم ابو نُهَيْك بالكُنْية.
وفي قراءةِ الفتحِ والتنوينِ أربعةُ اوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظها تقديرُه: كَلُّوا كَلاًّ، أي: أَعْيَوْا عن الحق إعْياءً، أو كَلُّوا عن عبادةِ الله لتهاونِهم بها، من قولِ العرب:«كَلَّ السيفُ» إذا نَبا عن الضَّرْب، وكَلَّ زيد، أي: تَعِبَ. وقيل: المعنى: كَلُّوا في دَعْواهم وانقطعوا. والثاني: أنَّه مفعولٌ به بفعلٍ مقدرٍ من معنى الكلام تقديره: حَمَلُوا كَلَاّ، والكَلُّ أيضاً: الثَّقْل. تقول: فلان كَلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} [النحل: 76] والثالث: أنَّ التنوينَ بدلٌ مِنْ ألف «كَلَاّ» وهي التي يُراد بها الرَّدْعُ والزَّجْر، فيكونُ صَرْفاً أيضاً.
قال الزمخشري: «ولقائلٍ أَنْ يقول: إنْ صَحَّتْ هذه الروايةُ فهي» كَلَاّ «التي للردع، قَلَبَ الواقفُ عليها ألفَها نوناً كما في قوله: {قَوَارِيرَاْ} [الإِنسان: 15] . قال الشيخ:» وهذا ليس بجيد لأنه قال: «التي للرَّدْع» والتي للرَّدْعِ حرفٌ
ولا وجهَ لقَلْبِ ألفِها نوناً، وتشبيهُه ب «قواريراً» ليس بجيدٍ لأن «قواريراً» اسمٌ رُجِعَ به إلى أصلِه، فالتنوينُ ليس بدلاً مِنْ ألف بل هو تنوينُ الصَّرْف، وهذا الجمعُ مختلفٌ فيه: أيتحتَّم مَنْعُ صَرْفِه أم يجوز؟ قولان ومنقول أيضاً أنَّ لغةَ بعضِ العرب يصرفون ما لا يَنْصَرِفُ فهذا القولُ: إمَّا على قولِ مَنْ لا يَرَى بالتحتُّم، أو على تلك اللغة «.
والرابع: أنه نعتٌ ل» آلهة «قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ، إذ ليس المعنى على ذلك. وقد يظهر له وجهٌ: أن يكونَ قد وَصَفَ الآلهة بالكَلِّ الذي هو المصدرُ بمعنى الإِعياءُ والعَجْز، كأنه قيل: آلهةً كالَّيْنَ، أي: عاجِزين منقطعين، ولمَّا وَصَفهم بالمصدر وَحَّده.
وروى ابن عطية والدانيُّ وغيرُه عن أبي نهيك أنه قرأ «كُلَاّ» بضم الكافِ والتنوين. وفيها تأويلان، أحدهما: أن ينتصِبَ على الحالِ، أي: سيكفرون جميعاً. كذا قَدَّره أبو البقاء واستبعدَه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، أي: يَرْفُضون أو يَجْحَدون أو يُتْرَكُون كُلاًّ، قاله ابن عطية.
وحكى ابن جرير أنَّ أبا نهيك قرأ «كُلٌّ» بضم الكاف ورفع اللام منونةً على أنَّه مبتدأ، والجملةُ الفعليةُ بعد خبرُه. وظاهرُ عبارةِ هؤلاء أنه لم يُقرأ بذلك إلا في «كُلَاّ» الثانية.
وقرأ عليٌّ بن أبي طالب «ونُمِدُّ» مِنْ أمَدَّ. وقد تقدَّم القولُ في مَدَّه وأمدَّه:
قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] يجوز في «ما» وجهان؛ أحدهما: أَنْ تكونَ مفعولاً بها. والضميرُ في «نَرِثُه» منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه: ونَرِثُ منه ما يقولُه. الثاني: أن تكونَ بدلاً من الضمير في «نَرِثُه» بدلَ الاشتمال. وقدَّر بعضُهم مضافاً قبل الموصولِ، أي: نَرِثُه معنى ما يقول، أو مُسَمَّى ما يقول، وهو المال والولد؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث.
و «فَرْداً: حال: إمَّا مقدَّرةٌ نحو: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] أو مقارنةِ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف.
والضمير في {سَيَكْفُرُونَ} يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ الضميرَ في» يكونون «أيضاً عائدٌ عليهم فقط. ومثلُه:{وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} [النحل: 86] ثم قال: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} . وقيل: يعود على المشركين» . ومثلُه قولُه: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في «يكونون» عائدٌ على الآلهة، و «بعبادتهم» مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في «عبادتهم» على المشركين العابدين، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة.
وقوله: «ضِدَّاً» إنما وَحَّده، وإن كان خبراً عن جَمْع، لأحدِ وجهين: إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع. قال الزمخشري:«والضِّدُّ: العَوْنُ، وُحِّدَ توحيدَ» وهم يَدٌ على مَنْ سواهم «لاتفاق كلمتِهم، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ: العَوْن والمُعاوَنَة. ويقال: مِنْ أضدادكم، أي: أَعْوانكم» . قيل: وسُمِّي العَوْنُ ضِدَّاً لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه. وفي التفسير: أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ. وقيل: القِرْن. وقيل: البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية.
قوله: {أَزّاً} : مصدر مؤكِّدٌ والأَزُّ والأَزيز والهَزُّ والاستفزاز. قال الزمخشري: «أَخَواتٌ، وهو التَّهِييجُ وشِدَّةُ الإِزعاج» . والأزُّ أيضاً: شِدَّة الصوتِ، ومنه «أَزَّ المِرْجَلُ أَزَّاً» وأَزِيْزاً: أي: غلا واشتد غَلَيانُه حتى سُمع له صوتٌ. وفي الحديث: «فكان له أَزِيز» ، أي: للجِذْع حين فارقه النبيُّ [صلى الله] عليه وسلم.
قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ} : منصوبٌ ب «سَيَكْفرون» أو ب «يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أو ب» نَعُدُّ «تَضَمَّن معنى المجازاة، أو بقوله:» لا يَمْلكون «الذي بعده، أو بمضمرٍ وهو» اذْكُرْ «أو احْذَرْ. وقيل: هو معمولٌ لجوابِ سؤالٍ مقدرٍ، كأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: يكون
يوم يُحْشَرُ. وقيل: / تقديرُه: يوم نَحْشُر ونَسُوق نَفْعَلُ بالفريقين ما لا يٌحيط به الوصفُ.
قوله:» وَفْداً «نصبٌ على الحال، وكذلك» وِرْداً «. والوَفْدُ: الجماعة الوافِدُون. يُقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً وَوُفُوداً ووِفادَةً، أي: قَدِمَ على سبيل التَّكرِمة، فهو في الأصل مصدرٌ ثم أُطْلِق على الأشخاصِ كالصَّفِّ. وقال أبو البقاء:» وَفْدُ جُمعُ وافِد مثلَ راكِب ورَكْب وصاحِب وصَحْب «وهذا الذي قاله ليس مَذهبَ سيبويه لأنَّ فاعِلاً لا يُجْمَعُ على فَعْل عند سيبويه. وأجازه الأخفش. فأمَّا رَكْبٌ وصَحْبٌ فأسماءُ جمعٍ لا جَمْعٌ بدليلِ تصغيرها على ألفاظها، قال:
325 -
7- أَخْشَى رُجَيْلاً ورُكَيْباً غادِيا
…
فإن قلت: لعلَّ أبا البقاء أراد الجمعَ اللغويَّ. فالجواب: أنَّه قال بعد قوله:» والوِرْدُ اسمٌ لجمعِ وارِد «فَدَلَّ على أنه قصد الجمعَ صناعةً المقابلَ لاسمِ الجمع.
والوِرْدُ: اسمٌ للجماعةِ العِطاشِ الوارِدينَ للماءِ، وهو في الأصلِ أيضاً مصدرٌ أطْلِقَ على الأشخاص يقال: وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْداً
ووُرُوْداً. قال الشاعر:
325 -
8- رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا
…
كُدْرِيَّةٍ أَعٍجَبَها بَرْدُ المَا
وقال أبو البقاء: «هو اسمٌ لجمعِ وارِد. وقيل: هو بمعنى وارِد. وقيل هو محذوفٌ مِنْ» وارِد «وهو بعيدٌ» يعني أنه يجوز أَنْ يكونَ صفةً على فِعْل.
وقرأ الحسن والجحدريُّ «يُحْشَر المتقون، ويُساق المجرمون» على ما لم يُسَمَّ فاعلُه.
قوله: {لَاّ يَمْلِكُونَ} : في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم. وفي هذه الواوِ قولان، أحدهما: أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتَة، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ «أكلوني البراغيث» والفاعلُ «مِنْ اتَّخَذَ» لأنه في معنى الجمع. قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ، وكأنه قيل: لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً. قال الشيخ: «ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور: إنها لغة ضعيفة» .
قلت: قد قالوا ذلك في قوله تعالى: {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71]{وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ.
والثاني: أن الواوَ ضميرٌ. وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين - عليهم، إذ هما قِسْماه. والثاني: أنه يعودُ على المتقين والمجرمين، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله. والثالث: أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط، وهو تَحَكُّمٌ. قوله:{إِلَاّ مَنِ اتخذ} هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ.
وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران: إمَّا على الرفعُ على البدلِ، وإمَّا النصبُ على
أصلِ الاستثناء. وإنْ قيل: إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل.
وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من «الشفاعة» على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء، نحو:«ما رأيت أحداً إلا زيداً» . وقال بعضُهم: إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ: لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر:
325 -
9- نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ
…
ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا
أي: ولم يَنْجُ شيءٌ.
وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلاً وإن عاد الضميرُ في {لَاّ يَمْلِكُونَ} على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين. قال الشيخ: «وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ» . قلت: ولا بُعْدَ فيه، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه.
قوله: {شَيْئاً إِدَّاً} : العامَّةُ على كسر الهمزة مِنْ «إدَّاً»
وهو الأمرُ العظيمُ المنكَرُ المتعجَّبُ منه. وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخَرَّجوه على حَذْفِ مضاف، أي: شيئاً أدَّاً، لأنَّ الأدَّ بالفتحِ مصدرٌ يُقال: أدَّه الأمرُ، وأدَّني يَؤُدُّني أدَّاً، أي: أَثْقَلني. وكان الشيخ ذكر أنَّ الأَدَّ والإِدَّ بفتح الهمزةِ وكسرِها هو العَجَبُ. وقيل: هو العظيم المُنْكَر، والإِدَّة: الشِّدَّة/. وعلى قوله: «وإن الإِدَّ والأدَّ بمعنى واحد» ينبغي أَنْ لا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف، إلا أَنْ يريدَ أنه أراد بكونِهما بمعنى العَجَب في المعنى لا في المصدرية وعَدَمِها.
قوله: {تَكَادُ} : قرأ نافع والكسائي بالياءِ من تحتُ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ، وهما واضحتان إذ التأنيثُ مجازِيٌّ، وكذلك في سورة الشورى.
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ وحمزةَ «يَنفَطِرْنَ» مضارع انْفَطَرَ. والباقون «يتفطَّرْن» مضارعَ تَفَطَّرَ بالتشديدِ في هذه السورة. وأمَّا التي في الشورى فقرأها حمزة وابنُ عامرٍ بالتاء والياء وتشديد الطاء والباقون على أصولِهم في هذه السورة. فتلَخَّصَ من ذلك أن أبا عمروٍ وأبا بكر يقرآن بالتاء والنون في السورتين، وأن نافعاً وابن كثير والكسائيَّ
وحفصاً عن عاصم يقرؤون بالتاء والياء وتشديد الطاء فيهما، وانَّ حمزة وابن عامر في هذه السورةِ بالتاء والنون، وفي الشورى بالتاء والياء وتشديد الطاء.
فالانفِطارُ مِنْ «فَطَرَه» إذا شَقَّه، والتفطُّر مِنْ «فطَّره» إذا شَقَّقَه، وكَرَّر فيه الفعلَ. قال أبو البقاء:«وهو هنا أَشْبَهُ بالمعنى» . أي: التشديد. و «يَتَفَطَّرْنَ» في محلِّ نصب خبراً ل «تكادُ» وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإِرادة وأنشد:
326 -
0- كادَتْ وكِدْتُ وتلك خيرُ إرادةٍ
…
لو عادَ مِنْ زمنِ الصَّبابةِ ما مَضَى
قوله: «هَدَّاً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرٌ في موضعِ الحال، أي: مَهْدُودَةً وذلك على أن يكونَ هذا المصدرُ مِنْ هدَّ زيدٌ الحائطَ يَهُدُّه هَدَّاً، أي: هَدَمه. والثاني: وهو قولُ أبي جعفر أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ لمَّا كان في معناه لأنَّ الخُرورَ السُّقوطُ والهَدْمُ، وهذا على أن يكون مِنْ هَدَّ الحائطُ يَهِدُّ، أي: انهدمَ، فيكون لازماً. والثالث: أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشريُّ: «أي: لأنَّها تُهَدُّ» .
قوله: {أَن دَعَوْا} : في محلِّه خمسةُ اوجه، أحدها: أنه في محلِّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجله. قاله أبو البقاء والحوفي، ولم يُبَيِّنا: ما العاملُ فيه؟ ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ «تكاد» أو «تَحِزُّ» أو «هَدَّاً» أي: تَهِدُّ لأَنْ دَعَوْا، ولكنَّ شَرْطَ النصبِ فيها مفقودٌ وهو اتِّحادُ الفاعلِ في المفعولِ له والعاملِ فيه، فإن عَنَيَا أنه على إسقاطِ اللامِ - وسقوطُ اللامِ يَطَّرِدُ مع أنْ - فقريبٌ. وقال الزمخشري:«وأَنْ يكونَ منصوباً بتقديرِ سقوطِ اللام وأفضاءِ الفعلِ، أي: هدَّاً لأَنْ دَعَوْا، عَلَّلَ الخرورَ بالهدِّ، والهدِّ بدعاءِ الوَلَدِ للرحمن» . فهذا تصريحٌ منه بأنَّه على إسقاطِ الخافضِ، وليس مفعولاً له صريحاً.
الوجه الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بعد إسقاطِ الخافض، كما هو مذهبُ الخليلِ والكسائي.
والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في «مِنْه» كقولِه:
326 -
1- على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً
…
على جودِهِ لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
بجر «حاتم» الأخير بدلاً من الهاء في «جودِه» . قال الشيخ: «وهو بعيدٌ لكثرةِ الفصلِ بين البدلِ والمبدلِ منه بجملتين» .
الوجه الرابع: أَنْ يكونَ مرفوعاً ب «هَدَّاً» . قال الزمخشري أي: هَدَّها دعاءُ الولدِ للرحمن «. قال الشيخ:» وفيه بُعْدٌ لأنَّ الظاهرَ في «هَدَّاً» أن يكونَ مصدراً توكيدياً، والمصدرُ التوكيديُّ لا يعملُ، ولو فَرَضْناه غيرَ توكيديّ لم يَعْمَلْ بقياسٍ إلا إنْ كان أمراً أو مستفهماً عنه نحو:«ضَرْباً زيداً» و «أضَرْباً زيداً» على خلافٍ فيه. وأمَّا إنْ كان خبراً، كما قدَّره الزمخشري «أي: هَدَّها دعاءُ الوَلَدِ للرحمن» فلا يَنْقاس، بل ما جاءَ من ذلك هو نادرٌ كقولِ امرِئ القيس:
326 -
2- وُقوفاً بها صَحْبِيْ عليَّ مطيَّهم
…
يقولون: لا تَهْلَِكَ أَسَىً وتجمَّلِ
أي: وقف صحبي.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: المٌوْجِبُ لذلك دعاؤهم، كذا قَدَّره أبو البقاء.
و «دَعا» يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويجوز جَرُّ ثانيهما بالباءِ. قال الشاعر:
326 -
3- دَعَتْنِي أخاها أمُّ عمروٍ ولم أكنْ
…
أخاها ولم أَرْضَعْ بلَبانِ
دَعَتْني أخاها بعد ما كان بينَنا
…
من الفعلِ ما لا يَفْعَلُ الأَخَوانِ
وقول الآخر:
326 -
4- ألا رُبَّ من يُدْعَى نَصيحاً وإنْ يَغِبْ
…
تَجِدْه بغَيْبٍ منكَ غيرَ نَصِيْحِ
وأوَّلُهما في الآية محذوفٌ. قال الزمخشري: «طلباً للعموم والإِحاطة بكلِّ ما يُدْعَى له ولداً. ويجوز أن يكونَ مِنْ» دعا «بمعنى نَسَبَ الذي مُطاوِعُه ما في قولِه عليه السلام» مَنِ ادَّعَى إلى غير مَوالِيه «وقول الشاعر:
326 -
5- إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعِيْ لأَبٍ
…
عنه ولا هو بالأَبْناءِ يَشْرِيْنا
أي: لا نَنْتَسِبُ إليه.
و {يَنبَغِي} : مضارع انْبَغَى. وانْبَغَى مطاوعٌ لبَغَى، أي: طَلَبَ، و {أَن يَتَّخِذَ} فاعلُه. وقد عَدَّ ابن مالك «يَنْبَغي» في الأفعالِ التي لا تَتَصَرَّف. وهو مردودٌ عليه، فإنه قد سُمِعَ فيه في الماضي قالوا: انْبَغَى.
قوله: {مَن فِي السماوات} : يجوز في «مَنْ» أن تكونَ نكرةً موصوفة، وصفتُها الجارُّ بعدها. ولم يذكر أبو البقاء غيرَ ذلك، وكذلك الزمخشري. إلا أنَّ ظاهرَ عبارتِه يقتضي أنه لا يجوز / غيرُ ذلك، فإنه قال:«مَنْ موصوفةٌ؛ فإنها وقعَتْ بعد كل نكرةٍ وقوعَها بعد» رُبَّ «في قولِه:
326 -
6- رُبَّ مَنْ أنضجْتُ غيظاً صدرَه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انتهى. ويجوز أن تكونَ موصولةً. قال الشيخ:» أي: ما كلُّ الذي في السماوات، و «كُلٌّ» تدخلُ على «الذي» لأنها تأتي للجنسِ كقولِه تعالى:{والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ونحوه:
326 -
7- وكلُّ الذي حَمَّلْتني أَتَحَمَّلُ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني أنَّه لا بدَّ مِنْ تأويلِ الموصول بالعموم حتى تَصِحَّ إضافةُ «كل» إليه، ومتى أُريد به معهودٌ بعينِه شَخَص واستحال إضافةُ «كل» إليه.
و {آتِي الرحمن} خبرُ «كلُّ» جُعِل مفرداً حَمْلاً على لفظِها ولو جُمع لجاز وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعِ أنها متى أُضيفت لمعرفةٍ جاز الوجهان. وقد
تكلَّم السهيليُّ في ذلك فقال: «كُلٌّ» إذا ابْتُدِئَتْ، وكانتْ مضافةً لفظاً - يعني لمعرفةٍ - فلا يَحْسُنُ إلا إفرادُ الخبرِ حَمْلاً على المعنى. تقول: كلُّكم ذاهبٌ، أي: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، هكذا هذه المسألةُ في القرآنِ والحديثِ والكلامِ الفصيح. فإنْ قلت: في قولِه: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} [مريم: 95] إنما هو حَمْلٌ على اللفظ لأنه اسمٌ مفردٌ. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسمُ الجمع لا يُخْبَرُ عنه بإفراد. تقول:«القومُ ذاهبون» ولا تقولُ: ذاهبٌ، وإن كان لفظُ «القوم» لفظَ المفردِ. وإنما حَسُن «كلُّكم ذاهب» لأنهم يقولون: كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ، فكان الإِفرادُ مراعاةً لهذا المعنى «.
قال الشيخ:» ويَحتاج «كلُّكم ذاهبون» ونحوُه إلى سَماعٍ ونَقْلٍ عن العرب «. يُقَرِّر ما قاله السهيليُّ. قلت: وتسميةُ الإِفرادِ حَمْلاً على المعنى غيرُ الاصطلاحِ، بل ذلك حَمْلٌ على اللفظ، الجمعُ هو الحَمْلُ على المعنى.
وقال أبو البقاء:» وَوُحِّدَ «آتِيْ» حَمْلاً على لفظ «كل» وقد جُمِعَ في موضعٍ آخرَ حَمْلاً على معناها «. قلت: قوله في موضعٍ آخرَ إنْ عَنَى في القرآن فلم يأتِ الجمعُ إلا» وكلٌّ «مقطوعةٌ عن الإِضافة نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] وإنْ عَنَى في غيرِه فيَحْتاج إلى سماعٍ عن العرب كما تقدَّم.
والجمهورُ على إضافة» آتِي «إلى» الرحمن «. وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصبِ» الرحمن «.
وانتصبَ» عَبْداً «و» فَرْداً «على الحال.
قوله: {وُدّاً} : العامَّةُ على ضمِّ الواوِ. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرِها، فَيُحتمل أَنْ يكونَ المفتوحُ مصدراً، والمضمومُ والمكسورُ اسمين.
قوله: {بِلِسَانِكَ} : يجوز أن يكونَ متعلِّقاًَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ. واللِّسان هنا: اللغةُ، أي: نَزَّلناه كائِناً بلسانِكَ. وقيل: هي بمعنى على، وهذا لا حاجةَ إليه بل لا يظهرُ له معنى.
و «لُدَّاً» جمع أَلَدّ «وهو الشديدُ الخصومةِ كالحُمْر جمعَ أَحْمر.
وقرأ الناسُ «تُحِسُّ» بضمِّ التاء وكسرِ الحاء مِنْ أَحَسَّ. وقرأ أبو حيوةَ وأبو جعفرٍ وابن أبي عبلة «تَحُسُّ» بفتح التاء وضم الحاء. وقرأ بعضُهم «تَحِسُّ» بالفتح والكسر، من حَسَّه، أي: شَعَرَ به، ومنه «الحواسُّ الخَمس» .
و «منهم» حالٌ مِنْ «أحد» إذ هو في الأصلِ صفةٌ له، و «مِنْ أحدٍ» مفعولٌ زِيْدَتْ فيه «مِنْ» .
وقرأ حنظلةُ «تُسْمَعُ» مضمومَ التاء، مفتوحَ الميمِ مبنياً للمفعولِ، و «رِكْزاً» مفعولٌ على كلتا القراءتين إلا أنه مفعولٌ ثانٍ في القراءة الشاذة. والرِّكْزُ الصوت الخفي دونَ نطقٍ بحروفٍ ولا فمٍ، ومنه «رَكَزَ الرمحَ» ، أي: غَيَّبَ طَرَفَه في الأرضِ وأَخفاه، ومنه الرِّكازُ، وهو المال المدفونُ لخفائِه واستتارِه. وأنشدوا:
326 -
8- فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الأنيسِ فَرَاعَها
…
عن ظهر غَيْبٍ، والأَنِيْسُ سَقامُها