الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد التاسع: (القسم الثاني من: كتاب الجهاد، وأول كتاب حكم المرتد)
تابع كتاب الجهاد
فصل: (في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة)
…
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل [في الإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة]
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم.
وقال أيضا: اختلفوا في الجماعة والافتراق، فذهب الصحابة ومن معهم إلى وجوبها، وأن الإسلام لا يتم إلا بها، وذهبت الخوارج ومن معهم إلى الأخرى وإنكار الجماعة، ففصل الكتاب بينهم، بقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] الآية.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
تعالى: الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا، فبين - أي الكتاب - هذا بيانا شائعا ذائعا، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف بالعمل به؟
وقال أيضا: وبعد يجيئنا من العلوم، أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة، وهذا شيء ما يستقيم عليه دين، والدين هو الحب في الله والبغض فيه، فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين، صار بطانته أهل الشر; وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم، والتغاضي عن زلته؛ وهذا أمر لا بد منه من أهل الدين، يتغاضون عن أميرهم، وكذلك الأمير يتغاضى عنهم، ويجعلهم مشورته وأهل مجلسه، ولا يسمع فيهم كلام العدوان، وترى الكل: من أهل الدين والأمير، ما يعبد الله أحد منهم إلا برفيقه، فأنتم توكلوا على الله، واستعينوا بالله على الائتلاف والمحبة واجتماع الكلمة، فإن العدو يفرح إذا رأى أن الكل ناقم على رفيقه، والسبب يرجو عود الباطل.
[الإمامة في غير قريش]
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله تعالى، هل تصح الإمامة في غير قريش؟
فأجاب: الذي عليه أكثر العلماء، أنها لا تصح في غير قريش إذا أمكن ذلك وأما إذا لم يمكن ذلك واتفقت الأمة على مبايعة الإمام، أو اتفق
أهل الحل والعقد عليه، صحت إمامته، ووجبت مبايعته، ولم يصح الخروج عليه، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي
…
" الحديث.
[فرضية نصب الإمام]
وسئل: أبناء الشيخ محمد وحمد بن ناصر رحمهم الله؛ هل نصب الإمام فرض على الناس أم لا؟
فأجابوا: الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن الإمام يجب نصبه على الناس، وذلك أن أمور الإسلام لا تتم إلا بذلك، كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإنصاف الضعيف من القوي، وغير ذلك من أمور الدين، ولهذا أوجب الله طاعة أولي الأمر، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59.] وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة "1، وفي حديث العرباض بن سارية، أنه قال عليه السلام: " أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وعليكم بسنتي وسنة
1 البخاري: الأحكام (7144)، ومسلم: الإمارة (1839)، والترمذي: الجهاد (1707)، وأبو داود: الجهاد (2626)، وابن ماجه: الجهاد (2864) ، وأحمد (2/17 ،2/142) .
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "1. ولا يستقيم الدين إلا بإمام، ولهذا قال علي رضي الله عنه: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، قالوا: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال يقام بها الحدود، ويؤمن بها السبل ".
وأما العبد إذا اجتمعت فيه شروط الإمامة، فالذي عليه أهل العلم: أن العبد لا تجوز إمامته إذا أمكن، ولم يقهر الناس بسلطانه، وأما إذا قهر الناس واجتمع عليه أهل الحل والعقد، وجبت طاعته وحرمت مخالفته، كما في حديث العرباض المتقدم " وإن تأمر عليكم عبد حبشي "2؛ وإذا أمكن كون الإمام من قريش، فهو أولى، كما في الحديث الصحيح.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال بعض الجهال: إن من شروط الإمام أن يكون قرشيا، ولم يقل عارضيا، يشير إلى أنه قد ادعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ومن قام معه وبعده بما دعا إليه; وأيضا: إن البغاة تحل دماؤهم دون أموالهم، وقد استحل الأموال والدماء من العلماء وغيرهم
…
إلى آخره؟
فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم
1 الترمذي: العلم (2676)، وأبو داود: السنة (4607)، وابن ماجه: المقدمة (42 ،44) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .
2 البخاري: الأذان (693)، وابن ماجه: الجهاد (2860) ، وأحمد (3/171) .
يقل تركيا، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك، ولهذا ليس التركي كفوا للعربية، ولو تزوج تركي عربية كان لمن لم يرض من الأولياء فسخ هذا النكاح؛ وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغيا على قريش، ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما ادعى إمامة الأمة، وإنما هو عالم دعا إلى الهدى، وقاتل عليه ولم يلقب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن سعود، ما كان أحد في حياته منهم يسمى إماما، وإنما حدث تسمية من تولى إماما بعد موتهما.
وأيضا: فالألقاب أمرها سهل، وهذا كل من صار وليا في صنعا يسمى إماما، وصاحب مسكة، يلقب كذلك.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتل من قاتله، ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على ترك الشرك وإزالة المنكرات، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة لأجل منع الزكاة، ولم يفرقوا بينهم وبين المرتدين في القتل وأخذ المال.
قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائعه،
كما قاتل الصديق مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، إلى أن قال: فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات، والصيام، والحج، وعن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنى والميسر، وعن التزام جهاد الكفار، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، لوجوبها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، إلى أن قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، والخارجون عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، انتهى.
وأيضا: فالمشار إليهم في السؤال، لا نقول إنهم معصومون، بل يقع منهم أشياء تخالف الشرع، ولولا ما يحدث من المخالفات، لم يسلط عليهم عدوهم، ولكن عوقبوا بأن سلط عليهم من ليس خيرا منهم وأحسن. "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني". والذي أدركنا من سيرة هذه الطائفة المشار إليها، ما بقي منها اليوم إلا الاسم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
[قوله صلى الله عليه وسلم من مات وليس في عنقه بيعة]
وسئل: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية "
فأجاب: أرجو أنه لا يجب على كل إنسان المبايعة، وأنه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد، ورأى أنه لا يجوز الخروج على الإمام، ولا معصيته في غير معصية الله، أن ذلك كاف، وإنما وصف صلى الله عليه وسلم ميتته بالميتة الجاهلية، لأن أهل الجاهلية كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم، ولا يرضون بالدخول في طاعة واحد؛ فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهلية في هذا المعنى، والله أعلم.
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن: إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بفهمون أن الجماعة فرض على أهل الإسلام، وعلى من دان بالإسلام، كما قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ولا تحصل الجماعة إلا بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وفي الحديث الصحيح، عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها
العيون، فقلنا يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ".
وقد جمع الله أوائل الأمة على نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الجهاد، وكذلك الخلفاء، رد الله بهم إلى الجماعة من خرج وفتح الله لهم الفتوح، وجمع الله الناس عليهم.
وتفهمون: أن الله سبحانه وتعالى جمعكم على إمامكم: عبد الله بن فيصل بعد وفاة والده فيصل رحمه الله، فالذي بايع بايع وهم الأكثرون، والذين لم يبايعوا بايع لهم كبارهم، واجتمع عليه أهل نجد باديهم وحاضرهم، وسمعوا وأطاعوا، ولا اختلف عليه أحد منهم، حتى سعود بن فيصل، بايع أخاه وهو ما صار له مدخال في أمر المسلمين، لا في حياة والده ولا بعده، ولا التفت له أحد من المسلمين.
ونقض البيعة، وتبين لكم أمره أنه ساع في شق العصا، واختلاف المسلمين على إمامهم، وساع في نقض بيعة الإمام، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [سورة النحل آية: 91،92] .
وسعى سعود في ثلاثة أمور كلها منكرة، نقض البيعة بنفسه، وفارق الجماعة، ودعا الناس إلى نقض بيعة الإمام؛ فعلى هذا: يجب قتاله، وقتال من أعانه، وفي الحديث " من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية " وفي الحديث الآخر "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" فإن كان أحد مشكل عليه وجوب قتاله، لما في الحديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار " فظاهر الحديث: أن المراد ما يجري بين القبائل من العصبية، إما عند ضربة عصا من قبيلتين أو فخذين، أو طعنة، فكل قبيلة أو فخذ يكون منهم حمية لمن كان منهم، من غير خروج على الإمام، ونقض لبيعة الإسلام، ولا شق عصا المسلمين.
وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم، ذكروا قتال العصبية، وحكمه؛ وقتال البغي وحكمه؛ فذكروا أنه يجب على الإمام في قتال العصبية، أن يحملهم على الشريعة؛ وأما البغاة فحكمهم: أنهم يقاتلون حتى يفيئوا ويرجعوا، ويدخلوا في جماعة المسلمين، فالفرق ظاهر بين ولله الحمد، فاستعينوا بالله على قتال من بغى وطغى، وسعى في البلاد بالفساد، وهذا أمر فساده ظاهر لا يخفى على من له عقل،
واحتسبوا جهادكم وأجركم على الله، والسلام.
وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن محمد بن علي، كشف الله عنه كل ريب وغمة، وسلك بنا وبه سبيل سلف الأمة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما اختصنا به من سوابغ إنعامه، وما ألبسناه من ملابس إكرامه؛ والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما. فأما ما أجرى الله من الفتن والامتحان، فلله سبحانه فيه حكم يستحق عليها الحمد، منها تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وذي البصيرة من الأعمى، كما دل عليه صدر سورة العنكبوت، والآيات من سورة البقرة وآل عمران، وغير ذلك من آي القرآن.
وتذكر أن أباك يوم يركب ما ظن أن لعبد الله ولاية، ولا أن عبد الله سيعود إليه عن قريب، والظن أكذب الحديث، وظن السوء أورد أهله الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة؛ والعجب من فقيه يحكي هذا محتجا به، وقد تربى بحمد الله بين أيدي طلبة العلم وأهل الفتوى، أي حجة في هذا لو كانوا يعلمون؟ ولو دعوت أباك إلى لزوم السنة
والجماعة، والوفاء بالعهد الذي يسأل عنه يوم تنكشف السرائر، لكان هذا من أعظم البر، وأرجحه في ميزانك، لا سيما وقد جاءك من العلم ما لم يؤته.
ثم لو فرض أن هذا الظن متحقق في نفس الأمر، فأي مسوغ للمسارعة إلى الذين تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وسفكوا الدماء بغير بينة ولا سلطان، ينبغي أن يتنْزه عن هذا سوقة الناس وعامتهم؛ وإنما خاطبتكم بلسان العلم لحسن ظني، والأكثر قد تحققت هلاكهم، وأنهم في ظلمة الجهل، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق; وبعض من ينتسب إلى الدين، قد عرف ما هناك، ولكنه آثر العاجلة، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وأبدى من المعاذير ما لا ينجي يوم العرض على الله.
وأما يمينك على أنك تحقق من أبيك أنه لا ينكث عهده ولو يقال له الدنيا ومثلها معها، فعجب لا ينقضي، والله يغفر لك، وهل النكث حقيقة إلا تباين ما وقع، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وقولك: والله غالب على أمره، حق نؤمن به، ولا نحتج به على شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وأما الخط مني له: فخطي لك يكفي، ومثلك لا يخفى عليه وجوب الجهاد، وأنه ركن من أركان الإسلام وذروة سنامه، كما هو مقرر في محله; والآيات القرآنية لا يتسع هذا
الموضع لسياقها، بقي أن يقال: هل الجهاد في هذه القضية جهاد في سبيل الله؟ وهذه المسألة لا يختص بها طالب العلم؛ بل كل من كان له نصيب من نور الفطرة ونور الإسلام، يعرف هذه المسألة ولا تلتبس عليه.
ومن المقرر في عقائد أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر، وأبوك وغيره يعلمون أن المسلمين بايعوا عبد الله، وسعود من جملة من بايع، وأن البيعة صدرت عن مشورة من المسلمين، على يد شيخهم وإمامهم في الدين والدنيا، قدس الله روحه ونور ضريحه، فأي شيء نسخ هذا؟ وأنت وأبوك تعرفون حال عبد الله معنا فيما سلف، والمؤمن يعامل ربه ولا يتشفى بما يفسد دينه؛ نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، ونعوذ بالله من اتباع خطوات الشيطان، والرغبة عن سبيل أهل السنة والقرآن.
وذكّر أباك حديث ابن عباس، في استفتاحه صلى الله عليه وسلم صلاته إذا قام من الليل، وذاكره بما ظهر لك فيه من حقائق العلم والإيمان، واعرف جلالة هذا المطلوب وعظيم قدره، وقدر ما توسل به السائل إلى مطلوبه؛ والمقام يقتضي البسط لحاجة السائل وغيره، ولعل الله أن يمن بذلك؛ وصلى الله على محمد.
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، السيخ: إبراهيم، ورشيد بن عوين، وعيسى بن إبراهيم، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن رقيب، وإخوانهم، سلك الله بنا وبهم سبل الاستقامة، وأعذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تفهمون أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، وحصل من التفرق والاختلاف، والخوض في الأهواء المضلة، ما هدم من الدين أصله وفرعه، وطمس من الدين أعلامه الظاهرة وشرعه؛ وهذه الفتنة يحتاج الرجل فيها: إلى بصر ناقد عند ورود الشبهات، وعقل راجح عند حلول الشهوات؛ والقول على الله بغير علم، والخوض في دينه من غير دراية ولا فهم، فوق الشرك، واتخاذ الأنداد معه.
وقد صار لديكم وشاع بينكم، ما يعز حصره واستقصاؤه، فينبغي للمؤمن الوقوف عند كل همة وكلام، فإن كان لله مضى فيه، وإلا فحسبه السكوت، وقد عرفتم حالنا في أول هذه الفتنة، وما صدر إليكم من المكاتبات والنصائح، وفيها الجزم بإمامة عبد الله، ولزوم بيعته،
والتصريح بأن راية أخيه راية جاهلية عمية؛ وأوصيناكم بما ظهر لنا من حكم الله وحكم رسوله، ووجوب السمع والطاعة.
فلما صدر من عبد الله ما صدر، من جلب الدولة إلى البلاد الإسلامية، والجزيرة العربية، وإعطائهم الأحساء والقطيف، والخط؛ تبرأنا مما تبرأ الله منه ورسوله، واشتد، النكير عليه شفاها، ومراسلة لمن يقبل مني ويأخذ عني، وذكرت لكم أن بعض الناس جعله ترسا، تدفع به النصوص والأحاديث والآثار، وما جاء من وجوب جهادهم، والبراءة منهم، وتحريم موادتهم ومواخاتهم، من النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية.
والقول: بأنهم جاؤوا لنصر إمام أو دين، قول يدل على ضعف دين قائله، وعدم بصيرته وضعف عقله، وانقياده لداعي الهوى، وعدم معرفته بالدول والناس، وذلك لا يروج إلا على سوتسية الأعراب، ومن نكب عن طريق الحق والصواب؛ وأعجب من هذا: نسبة جوازه إلى أهل العلم، والجزم بإباحة ذلك؛ والصورة المختلف فيها مع ضعف القول بجوازها وإباحتها، والدفع في صدرها كما هو مبسوط في حديث " إنا لا نستعين بمشرك " هي صورة غير هذه، ومسألة أخرى.
وهذه الصورة، حقيقتها: تولية وتخلية، وخيانة
ظاهرة، كما يعرفه من له أدنى ذوق ونهمة في العلم، لكن بعد أن قدم عبد الله من الأحساء، ادعى التوبة والندم، وأكثر من التأسف والتوجع فيما صدر منه، وبايعه البعض، وكتبت إلى ابن عتيق أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها، فالواجب السعى فيما يصلح الإسلام والمسلمين؛ ويأبى الله إلا ما أراد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] .
والمقصود: كشف حقيقة الحال في أول الأمر وآخره، وقد تغلب سعود على جميع البلاد النجدية، وبايعه الجمهور، وسموه باسم الإمامة، وقد عرفتم: أن أمر المسلمين لايصلح إلا بإمام، وأنه لا إسلام إلا بذلك، ولا تتم المقاصد الدينية، ولا تحصل الأركان الإسلامية، وتظهر الأحكام القرآنية إلا مع الجماعة والإمامة، والفرقة عذاب وذهاب في الدين والدنيا، ولا تأتي شريعة بذلك قط.
ومن عرف القواعد الشرعية، عرف ضرورة الناس وحاجتهم، في أمر دينهم ودنياهم إلى الإمامة والجماعة، وقد تغلب من تغلب في آخر عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطوه حكم الإمامة، ولم ينازعوه كما فعل ابن عمر وغيره، مع أنها أخذت بالقهر والغلبة، وكذلك بعدهم في عصر الطبقة الثالثة، تغلب من تغلب، وجرت أحكام الإمامة والجماعة،
ولم يختلف أحد في ذلك، وعالب الأئمة بعدهم على هذا القبيل وهذا النمط.
ومع ذلك: فأهل العلم والدين: يأتمرون بما أمروا به من المعروف، وينتهون عما نهوا عنه من المنكر، ويجاهدون مع كل إمام، كما هو منصوص عليه في عقائد أهل السنة، ولم يقل أحد منهم بجواز قتال المتغلب والخروج عليه، وترك الأمة تموج في دمائها، وتستبيح الأموال والحرمات، ويجوس العدو الحربي خلال ديارهم، وينزل بحماهم، هذا لا يقول بجوازه وإباحته إلا مصاب في عقله، موتور في دينه وفهمه، وقد قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا
بل هذا الحكم الديني، يؤخذ من قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، لأنه لا يحصل القيام بهذا الواجب إلا بما ذكرنا، وتركه مفسدة محضة ومخالفة صريحة، قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] ، وفي الحديث " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ".
لاسيما وقد نزل العدو بأطرافكم، واستخف الشيطان أكثر الناس، وزين لهم الموالاة واللحاق بالمشركين، وإسناد أمر الرياسة إليهم، وأنهم ولاة أمر، يعزلون ويولون،
وينصرون وينصبون، وأنهم جاؤوا لنصرة فلان، كما ألقاه الشيطان على ألسن المفتونين، وصاروا بعد الترسم بالدين من جملة أعوان المشركين، المبيحين لترك جهاد أعداء رب العالمين، فما أعظمها من مكيدة، وما أكبرها من خطيئة، وما أبعدها عن دين الله ورسوله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وما صدر من بعض الإخوان من الرسائل، المشعرة بجواز الاستنصار بهم، وتهوين فتنتهم، والاعتذار عن بعض أكابرهم، زلة لا يرقى سليمها، وورطة قد هلك وضل زعيمها، وما أحسن قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] فاقبلوا وامتثلوا موعظة ربكم، وجاهدوا في الله حق جهاده.
وقد أجمع المسلمون: على جهاد عدوهم مع الإمام سعود وفقه الله؛ وقد قرر أهل السنة في عقائدهم: أن الجهاد ماض مع كل إمام، وهو فرض على المشهور، أو ركن من أركان الإسلام، لا يبطله جور جائر.
وقد قال بعض السلف – لما لامه بعض الناس على الصلاة خلف المبتدعة – إن دعونا إلى الله أجبنا، وإن دعونا إلى الشيطان أبينا، وفي الحديث " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " وفقنا الله وإياكم للجهاد في سبيله، والإيمان بوعده وقيله، واحذروا المراء والخوض في دين الله
بغير علم، فإنه من أسباب الهلاك، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان من بني تميم، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه، ونسأل الله أن يحسن عزانا وعزاكم، في الأخ الشيخ: عبد الملك بن حسين، غفر الله ذنبه ورحمه، ورفع في المقربين درجته؟
وما ذكرتم من جهة حالكم، مع عبد الله، وصدقكم معه، صار معلوما، نسأل الله لنا ولكم التوفيق؛ وقد بذلنا الاستطاعة في نصرته، حتى نزل بالناس ما لا قبل لهم به، وخشينا على كافة المسلمين من أهل البلد، من السبي وهتك الأستار، وخراب الدين والدنيا والدمار، ونزلنا وسعينا بالصلح، بإذن من عبد الله في الصلح، وألجأتنا إليه الضرورة، ودفعنا عن الإسلام والمسلمين ما لا قبل لهم به، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمنا ومن الشيطان، وفي السير ما يؤيد ما فعلناه، وينصر ما انتحلناه، وقد صالح
أهل الدرعية وآل الشيخ، وعلماؤهم وفقهاؤهم على الدرعية، لما خيف السبي والاستئصال.
وعبد الله ظهر بمرحلة عن البلد، ونزل الحائر ولم يحصل منه نصر ولا دفاع {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] ثم بلغنا أن الدولة ومن والاهم من النصارى وأشباههم، نزلوا على القطيف، يزعمون نصرة عبد الله، وهم يريدون الإسلام وأهله، وحضينا سعودا على جهادهم وغبناه في قتالهم، وكتبنا لبلدان المسلمين بذلك، قال الله تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] والعاقل يدور مع الحق أينما دار، وقتال الدولة والأتراك، والإفرنج وسائر الكفار، من أعظم الذخائر المنجية من النار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الحث على الإجتماع وجهاد أعداء الشريعة]
وله أيضا إليهم ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين من أهل الحوطة، سلمهم الله تعالى وهداهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته، والاعتصام
بحبله، وترك التفرق والاختلاف، ولزوم جماعة المسلمين، فقد قامت الحجة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، وقد أناخ بساحتكم من الفتن والمحن، ما لا نشكوه إلا إلى الله.
فمن ذلك الفتنة الكبرى، والمصيبة العظمى: الفتنة بعساكر المشركين أعداء الملة والدين، وقد اتسعت وأضرت، ولا ينجو المؤمن منها إلا بالاعتصام بحبل الله، وتجريد التوحيد، والتحيز إلى أولياء الله وعباده المؤمنين، والبراءة كل البراءة ممن أشرك بالله، وعدل به غيره، ولم ينْزهه عما انتحله المشركون، وافتراه المكذبون; وأفضل القرب إلى الله: مقت أعدائه المشركين، وبغضهم وعداوتهم وجهادهم، وبهذا ينجو العبد من توليهم من دون المؤمنين، وإن لم يفعل ذلك، فله من ولايتهم بحسب ما أخل به وتركه من ذلك.
فالحذر الحذر، مما يهدم الإسلام ويقلع أساسه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] وانتفاء الشرط يدل على انتفاء الإيمان بحصول الموالاة؛ ونظائر هذه الآية في القرآن كثير.
وكذلك الفتنة بالبغاة والمحاربين، توجب من الاختلاف والتفرق والبغضاء، وسفك الدماء ونهب الأموال، وترك أوامر الله ورسوله، والإفساد في الأرض، ما لا يحصيه إلا الله؛ وذلك مما لا يستقيم معه إسلام؛ ولا يحصل بملابسته من الإيمان ما ينجي العبد من غضب الله وسخطه، وهذه الحالة وتلك الطريقة، بها ذهاب الإسلام وأهله، وتسلط أعداء الله، وتمكنهم من بلاد الإسلام، وهدم بنيانه والأعلام; فكيف يسعى فيها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بالجنة والنار، ويخاف سوء الحساب؟!
فاتقوا الله عباد الله: ولا تذهب بكم الدنيا والأهواء، وشياطين الإنس والجن، إلى ما يوجب الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي، والطرد عن الله وعن بابه، والخروج عن جملة أوليائه وأحبابه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [سورة الزمر آية: 15-16] .
فتدبروا هذه الآيات الكريمات، وسارعوا إلى ما يحبه الرب ويرضاه، من الجماعة والطاعات، وائتموا بالقرآن، وقفوا عند عجائبه، وما فيه من الحجة والبرهان، فإن الله تكفل لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة؛ وهو حبل الله المتين، ونوره المبين،
فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم؛ لا يضل متبعه، ولا يطفأ نوره؛ فما هذه المشاقة، وما هذا الاختلاف والتفرق؟
وقد جاءتكم النصائح وتكررت إليكم المواعظ، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .
وقد خرج الإمام أحمد، من حديث الحارث الأشعري، بعد أن ذكر ما أمر به يحيى بن زكريا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وآمركم بخمس، الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله; فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم. قالوا: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم، على ما سماهم الله عز وجل به؛ المسلمين، المؤمنين، عباد الله "1.
وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها،
1 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/202) .
خلافا لما كانت عليه الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة; نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والاعتصام بحبله، والامتثال لأمره واتقاء غضبه، وسخطه; فاحذروا الاختلاف:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال آية: 1]{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31]{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة النحل آية: 91] وصلى الله على محمد.
وله أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين: علي بن محمد، وابنه محمد بن علي، سلمهما الله تعالى من الأسواء، وحماهما من طوارق المحن والبلوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير؛ والخط وصل وصلكما الله ما يرضيه، وجعلكما ممن يحبه ويتقيه؛ وما ذكرتما صار معلوما، وهذه الحوادث والفتن أكبر مما وصفتم، وأعظم مما إليه أشرتم، كيف لا، وقد تلاعب الشيطان بأكثر المنتسبين، وصار سلما لولاية المشركين،
وسببا لارتداد المرتدين، وموجبا لخفض أعلام الملة والدين، وذريعة إلى تعطيل توحيد رب العالمين، وإلى استباحة دماء المسلمين، وهتك أعراض عباده المؤمنين.
فتنة لا يصل إليها حديث ولا قرآن، ولا يرعوي أبناؤها عما يهدم الإسلام والإيمان، يعرف ذلك من من الله عليه بالعلم والبصيرة، وصار على حظ من أنوار الشريعة المطهرة المنيرة، وعلى نصيب من مراقبة عالم السر والسريرة; وقد عرفتم مبدأ هذه الفتنة وأولها، والحكم في أهلها وجندها، ثم صار لهم دولة بالغلبة والسيف، واستولوا على أكثر بلاد المسلمين وديارهم، وصارت الإمامة لهم بهذا الوجه ومن هذا الطريق، كما عليه العمل عند كافة أهل العلم من أهل الأمصار في أعصار متطاولة.
وأول ذلك: ولاية آل مروان، لم تصدر لا عن بيعة ولا عن رأي، ولا عن رضى من أهل العلم والدين، بل بالغلبة حتى صار على ابن الزبير ما صار، وانقاد لهم سائر أهل القرى والأمصار. وكذلك مبدأ الدولة العباسية، ومخرجها من خراسان، وزعيمها رجل فارسي، يدعى أبا مسلم، صال على من يليه، ودعا إلى الدولة العباسية، وشهر السيف وقتل من امتنع عن ذلك، وقاتل عليه، وقتل ابن هبيرة أمير العراق، وقتل خلقا كثيرا لا يحصيهم إلا الله.
وظهرت الرايات السود العباسية، وجاسوا خلال الديار
قتلا ونهبا في أواخر القرن الأول؛ وشاهد ذلك أهل القرن الثاني، والثالث، من أهل العلم والدين، وأئمة الإسلام، كما لا يخفى على من شم رائحة العلم، وصار على نصيب من معرفة التاريخ وأيام الناس.
وأهل العلم مع هذه الحوادث متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة ظلمة فسقة، ما لم يروا كفرا بواحا؛ ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وأمثالهم ونظرائهم.
إذا عرفت هذا: فالحاصل في هذا العصر بين أهل نجد، له حكم أمثاله من الحوادث السابقة، في زمن أكابر الأئمة كما قدمنا، وصارت ولاية المتغلب ثابتة كما إليه أشرنا، ووقع اتفاق من ينتسب إلى العلم لديكم على هذا، كالشيخ إبراهيم، والشثري في الحوطة، وحسين وزيد في الحريق؛ وخطوطهم عندنا محفوظة معروفة، فيها تقرير إمامة سعود، ووجوب طاعته ودفع الزكاة إليه، والجهاد معه، وترك الاختلاف عليه، كل هذا موجود بخطوطهم؛ فلا جرم قد صار العمل على هذا والاتفاق.
ثم توفى الله سعود واضطرب أمر الناس، وخشينا الفتنة واستباحة المحرمات من باد وحاضر، وتوقعنا حصول ذلك،
وانسلاخ أمر المسلمين، فاستصحبنا ما ذكر، وبنينا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود؛ ومن عندهم ومن يليهم، نصب عبد الرحمن بن فيصل، وذلك صريح في عدم الالتفات منهم إلى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة، والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف، وأن يكون المسلمون يدا واحدة، ذكرناهم قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، ونحو ذلك من الآيات، وبعضا مما ورد من الأحاديث الصحيحات.
وترك بعض من لديكم هذا المنهج، وسلكوا طريقا وعرة، تفضي إلى سفك الدماء، واختلاف الكلمة، وتضليل من خالفهم، ودعا بعضهم إلى ذلك واستحسنه، من غير مشورة ولا بينة، ولم ينصحوا إخوانهم ويوضحوا لهم وجه الإصابة فيما اختاروه وما ارتضوه؛ وكان الواجب على من عنده علم، أن ينصح الأمة، بل وينصح أولا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويكرر الحجة، وينظر في الدليل، ويرشد الجاهل، ويهدي الضال، بحسن البيان وتقرير صواب المقال، لكنهم أحجموا عن ذلك كله، ولم يلتفتوا إلى المحاقة؛ والله هو ولي الهداية، الحافظ الواقي من موجبات الجهل والغواية.
وقد أوجب الله البيان وترك الكتمان، وأخذ الميثاق على
ذلك على من عنده علم وبرهان. هذه صورة الأمر وحقيقة الحال، وقد عرفتموه أولا وآخرا في المكاتبات الواردة عليكم؛ فلا يلتبس عليك الحال، ولا يشتبه سبيل الهدى بالجهل والضلال، واذكر قوله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً الَاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [سورة الأحزاب آية: 39] .
إذا رضي الحبيب فلا أبالي
…
أقام الحي أم جد الرحيل
وأما الصلح بين المسلمين، فهو من واجبات الإيمان والدين، ولكن يحتاج إلى قوة وبصيرة، يحصل بها نفوذ ذلك والإجبار عليه؛ فإن وجدت إلى ذلك سبيلا فاذكره لي أولا، ولا نألو جهدا إن شاء الله فيما يكف الله به الفتن، ويصلح به بين المسلمين؛ وأسأل الله أن يمن بذلك ويوفق لما هنالك، وصلى الله على محمد.
وله أيضا: رفع الله منازله في عليين:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين، زيد بن محمد، وصالح، إلى الأخوين المكرمين، زيد بن محمد، وصالح بن محمد الشثري، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم الله وبركاته وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل، أوصلكم الله إلى ما يرضيه، وما ذكرتموه كان
معلوما، وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد قدوم عبد الله وغزوه، من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع من ذكر تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض، ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انتهكت وهتكت في ذات الله، أعدها لديه جل وعلا ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها.
والقصد: بيان ما أشكل على الخواص، والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك مفارقة سعود لجماعة المسلمين، وخروجه على أخيه؛ وقد صدر منا الرد عليه وبسفيه رأيه، ونصيحة ولد عائض وأمثاله من الرؤساء، عن متابعته والإصغاء إليه ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبويه، والآيات القرآنية بتحريم ما فعل، والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة "جودة" فثل عرش الولاية، وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله شاردا، وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه: وصيته بالاعتصام بالله، وطلب النصر منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة.
ثم قدم علينا سعود بمن معه من العجمان والدواسر، وأهل الفرع، وأهل الحريق وأهل الأفلاج، وأهل الوادي،
ونحن في قلة وضعف، وليس قي بلدنا من يبلغ الأربعين مقاتلا، فخرجت إليه، وبذلت جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت، خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك، ويتفوه بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، وبعض الأعراب يطلقه بانتسابهم إلى عبد الله بن فيصل، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد صلح وعقد.
وما جرى من المظالم والنكث، دون ما كنا نتوقع، وليس الكلام بصدده، وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده، وصارت له ولاية بالغلبة والقهر، تنفذ بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف، كما عليه كافة أهل العلم على تقادم الأعصار ومر الدهور، وما قيل من تكفيره لم يثبت لدي، فسرت على آثار أهل العلم، واقتديت بهم قي الطاعة في المعروفب، وترك الفتنة، وما توجب من الفساد على الدين والدنيا، والله يعلم أني بار راشد في ذلك.
ومن أشكل عليه شئ من ذلك، فليراجع كتب الإجماع، كمصنف ابن حزم، ومصنف ابن هبيرة، وما ذكره الحنابلة وغيرهم، وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسةِ، وقد قيل: سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم.
وأما الإمام عبد الله: فقد نصحت له كما تقدم أشد
النصح، وبعد مجيئه لما أخرج شيعة عبد الله سعودا، وقدم من الأحساء، ذاكرته في النصيحة، وتذكيره بآيات الله وحقه، وإيثار مرضاته، والتباعد عن أعدائه، وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك، والكفر البواح؛ وأظهر التوبة والندم، واضمحل أمر سعود، وصار مع شرذمة من البادية حول المرة والعجمان، وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته، على ما قرره الحنابلة وغيرهم، كما تقدم: أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة.
ثم ابتلينا بسعود، وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد الله وجنوده، ومر بالبلدة منهزما لايلوي على أحد، وخشيت من البادية؛ وعجلت إلى سعود كتابا في طلب الأمان لأهل البلدة، وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي مدافعة الأعراب، مع شرذمة قليلة من أهل البلدة، ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل البلدة، وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصار الغلبة لسعود، والحكم يدور مع علته.
وأما بعد وفاة سعود، فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة، والحضر الطغاة، فخشينا الاختلاف وسفك الدماء، وقطيعة الأرحام بين حمولة آل مقرن، مع غيبة عبد الله، وتعذر مبايعته، بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله، أفيحسن أن يترك المسلمون وضعفاؤهم،
نهبا وسبيا للأعراب والفجار؟ وقد تحدثوا بنهب الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو أشر من عبد الرحمن وأطغى، ولا يمكن ممانعتهم ومراجعتهم.
ومن توهم أني وأمثالي أستطيع دفع ذلك، مع ضعفي وعدم سلطاني وناصري، فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلا وتصورا، ومن عرف قواعد الدين وأصول الفقه، وما يطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد، لم يشكل عليه شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر القضاة والمفاتي، والمتصدرين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت بيعته، وانعقدت، وصار من ينتظر غائبا لا تحصل به المصالح، فيه شبه ممن يقول بوجوب طاعة المنتظر، وأنه لا إمامة إلا به.
ثم إن حمولة آل سعود، صارت بينهم شحناء وعداوة، والكل يرى له الأولوية بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا، وخرج ابن جلوى من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في الصلح، وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آل جهدي في تحصيل ذلك والمشورة عليه، مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته، ولكن رأيته ضعيف العزم لا يستبد برأيه.
فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام، أنه وافق
على تقديم عبد الله وعزل نفسه، بشروط اشترطها، بعضها غير سائغ شرعا، فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا، اجتهدت إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه، ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه، وأهل البلد، وسعيت في فتح الباب، واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام عليه، وإذا أهل الفرع، وجهلة البوادي، ومن معهم من المنافقين، يستأذنونه في نهب نخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئا، ومن ضيع الله ما وجد شيئا.
ولكنه بعد ذلك: أظهر الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، وبئس مطية الرجل زعموا، وتحقق عيدي دعواه التوبة، وأظهر لدي الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على كتاب الله وسنة رسوله، هذا مختصر القضية، ولولا أنكم من طلبة العلم، والممارسين الذين يكتفون بالإشارة وأصول المسائل، لكتبت رسالة مبسوطة، ونقلت من نصوص أهل العلم وإجماعهم، ما يكشف الغمة ويزيل اللبس.
ومن بقي عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله، ولو أنكم أرسلتم بما عندكم، مما يقرر هذا أو يخالفه، وصارت المذاكرة لا نكشف الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة من كان عنده علم، واغتر
الجاهل، ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية، وتكلم بغير علم، ووقع اللبس والخلط والمراء، والاعتداء في دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا بسبب سكوت الفقيه، وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله، واستقلاله بنفسه.
وبالجملة: فهذا الذي نعتقد وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم المعتدي حسابنا وحسابه إلى الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
وأما ما ذكرتم من التنصل، والبراءة مما نسب في حقي إليكم، فالأمر سهل والجروح جبار، ولا حرج ولا عار؛ وأوصيكم بالصدق مع الله، واستدراك ما فرطتم فيه، من الغلظة على المنافقين، الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل منافق كذاب؛ وتأمل قوله بعد نهيه عن موالاة الكافرين {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة آل عمران آية: 30] والسلام.
وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين: سهل بن عبد الله، ومحمد بن عثمان، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقب غدوات الدهر وروحاته؛ والخط وصل، وسرني ما ذكرتما من الدعوة إلى الله، وما حصل بكما من الانتفاع؛ فالحمد لله على ذلك، وفي الحديث " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ".
قلت: وهذا من عاجل ثواب الله لأهل العلم والحديث، المبلغين عن الله وعن رسوله، فإنهم يعطون نضرة في وجوههم، يمتازون بها عن سائر الخلق، وفي صحيح البخاري " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " 1 وتعليمه يتناول: تعليم معانيه وما دل عليه من الأصول الإيمانية، والقواعد الشرعية، فإن المعنى هو المقصود، وفي الحديث:" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا "2 والأحاديث في المعنى كثيرة.
وللحديث الأول بقية، قد سألني سهل عنها، وهي
1 البخاري: فضائل القرآن (5027)، والترمذي: فضائل القرآن (2907 ،2908)، وأبو داود: الصلاة (1452)، وابن ماجه: المقدمة (211) ، وأحمد (1/57 ،1/58 ،1/69)، والدارمي: فضائل القرآن (3338) .
2 مسلم: العلم (2674)، والترمذي: العلم (2674)، وأبو داود: السنة (4609) ، وأحمد (2/397)، والدارمي: المقدمة (513) .
قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 1، ذكر العلامة ابن القيم وغيره، أن المعنى: لا يحمل الغل ويبقى فيه، مع وجود هذه الثلاث، فإنها تنفي الغل والغش، وهو فساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع وجود الغل في قلبه، ويخرجه ويزيله، لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {َذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف آية: 24] ، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، ولما علم إبليس هذا المعنى استثناهم في قوله:{إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر آية: 40] فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان.
ومناصحة المسلمين تنافي الغل أيضا، فإن النصح لا يجامع الغل إذ هو ضده، وكذلك لزوم جماعة المسلمين مما يطهر القلب من الغل، فإن صاحبه للزومه الجماعة يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم.
وهذا بخلاف ما انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم
1 الترمذي: العلم (2658) .
والعيب والذم، كما يفعله الجهال والضلاّل مع شيخ الإسلام وأتباعه، على توحيد الله ودينه، وكما فعله إخوانهم: الرافضة والخوارج، والمعتزلة والجهمية، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجدهم من أبعد الناس عن الإخلاص، وأغشهم للأئمة والأمة، ولا يكونون قط إلا أعوانا على أهل الإسلام، مع أي عدو ناوأهم، وهذا أمر شاهدته الأمة، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان، ويشجي القلوب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "1، هو بكسر الميم وإسكان النون، وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فكانت دعوة الإسلام سورا وحصنا، لمن لزمها تحيط به تلك الدعوة، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته.
هذا: وما ذكرتما من الأخبار، صار معلوما، والجواب من الرأس عن قريب إن شاء الله تعالى، والسلام.
1 ابن ماجه: المناسك (3056) ، وأحمد (4/80 ،4/82)، والدارمي: المقدمة (227) .
وله أيضا: عفا الله عيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، حفظه الله من طوائف الشيطان، وجعلنا وإياه من أوعية العلم والإيمان، وحرسنا وإياه من مضلات الفتن وتلاعب الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركانه.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله اللطف بنا وبكم، وبكافة المسلمين، عند كل كرب عسير، وقد بلغكم خبر الوقعة التي جرت على إخوانكم، وتفاصيلها عن ألسن القادمين، وقد لطف الله بنا، ودفع ما هو أشد وأعظم، من استباحة البيوت والمحارم، حين صارت الهزيمة، وجنب عبد الله البلد، وكتبت لسعود كتابا، ونادى في قومه بالكف عن بلد الرياض، وأن البلد سلمت، فدفع الله بذلك شرا عظيما.
وثاني يوم قدمت عليه، وأكثرت عليه في أمر المسلمين، وأظهر القبول، وكف عنا كثيرا من الناس، وأدخل له طارفة في القصر واستقر أمره، وهذه الفتن أصاب الإسلام منها بلاء عظيم، قلعت قواعده، وانهدمت أركانه، واجتثت بنيانه، وهل عند رسم دارس من معول.
فالواجب مساعدة إخوانكم بصالح الدعاء، ونشر العلم، وبذل النصائح، وتقديم خوف الله على مخافة خلقه، وما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتى الإسلام من قبله، كذلك هذه الشبهة التي حصلت، والمكاتبات التي رسمت في شأن هذه الفتن، ممن ينتسب إلى العلم والدين، لا يسوغ لمثلك السكوت عليها، وعدم التنبيه على ما فيها {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] فاكتب لي بما يسر عن مثلك، وما هو الظن بك؛ ولقولك بحمد الله موقع في نفوس المسلمين، كذلك لاتذخر نصح سعود بالمكاتبة، والنصائح والتذكير وابسط القول.
وله أيضا: أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين المكرمين: عبد الله بن إبراهيم بن علي، وسليمان بن إبراهيم آل سعود، سلمهما الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وهذه الفتنة التي وقعت، ودارت رحاها لديكم، سببها الذنوب، ومعصية الله ورسوله، والتمادي والإهمال فيما سلف من أناس لديكم، هم مفاتيح للشر مغاليق للخير، دخلوا في تميم مدخلا عظيما بالقيل والقال، والكذب والضلال، نسأل الله أن يقينا وإياكم شر هذه الفتنة، وأن لا يشمت بنا الأعداء.
ولا أرى لنا ولكم إلا تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله في موارد النّزاع، فإن حذيفة قد سأل رسول الله عن الشر، فذكر له الفتن وحذره منها، فقال حذيفة:" ما المخرج يا رسول الله؟ قال: " إقرأ كتاب الله واعمل بما فيه؛ كرر ذلك ثلاثا "، فالنجاة تحكيمه في موارد النّزاع، والحق مستبين لولا الهوى ومجانبة الهدى، وعلى الحق منار كمنار الطريق، فاحذروا الفتنة والقطيعة، وخراب الديار، وحلول قوارع
البلاء والبوار: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال آية: 1] ولا تهاونوا بأمر الفتنة، فإن أمرها عظيم وعذاب أليم.
وأما أمر ولاية عبد الرحمن بن فيصل، فسبق إليكم خطوط بعد وفاة سعود، وعرفتكم بعقد البيعة لعبد الرحمن، وحذرت من الفتنة والمشاقة، والرغبة عن جماعة المسلمين، وكتبت لغيركم هذا المضمون، ولا قصد لي إلا اجتماع المسلمين، ودفع الشر والفساد بحسب الطاقة، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ولا جرى مني ما ينقض هذا.
والخط الذي ورد عليكم وأرسلتموه إلينا، لا حقيقة له، ولم يصدر مني ما ذكر فيه، ولو طالبتموه بخطي، لم تجدوا عنده أثرا ولا خبرا، والله يقضي ما يريد بحكمته، وينفذ بقدرته وعزته، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا تغتروا بالحكي وتسويد القرطاس {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [سورة النساء آية: 79] . والله عند لسان كل قائل وقلبه، ولا يستنكر مثل هذا، وأعظم منه في هذه الفتنة، نسأل الله العظيم أن يلطف بأهل الإسلام، وأن يهديهم سبل السلام، وأن يخرجنا وإياهم من الظلمات إلى النور، وينصرهم على عدوهم، وصلى الله على محمد.
سئل بعضهم: ما معنى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ} [سورة آل عمران آية 159] وما يلزم الإمام في ذلك؟ أوضحوا لنا رحمكم الله؟.
فأجاب: قال الله تعالى لصفوته من خلقه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، وقرأ ابن عباس: في بعض الأمر; قال الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان في تفسيره المسمى "البحر المحيط" على هذه الآية الكريمة: أمر الله تعالى بمشاورتهم.
وفيها فوائد: تطييب نفوسهم، ورفع مقدارهم بصفاء قلبه لهم، حيث أهلهم للمشاورة، وتشريع المشاورة لمن بعده، والاستظهار برأيهم فيما لم ينْزل فيه وحي، فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به، واختبار عقولهم، فتنْزلهم منْزلة لهم، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح، وجرى على منهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور.
وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء، ولذلك عز على علي وأهل البيت كونهم لم يتشاوروا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه إلى أن قال: إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة الصادقة والعقل والتجربة، قال رحمه الله: وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه، والفكر فيه، وأن ذلك مطلوب شرعا، ولهذا كان كثير المشاورة صلى الله عليه وسلم لأصحابه انتهى.
وفي الحديث: " ما خاب من استخار، ولا ندم من
استشار " ولولي الأمر كتمان بعض الأمر لمصلحة يراها، كفعله صلى الله عليه وسلم ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي، وينبغي أن يفهم: أن من استشار واحدا أو اثنين وأمره فقد استشارهم، كما صرحت به سنته وهديه، ففي بعض الأمر استشار أم سلمة، ولم يستشير غيرها، وفي مصالحة المشركين استشار السعدين فقط، ولما أراد أن يرجع من الطائف استشار نوفل بن معاوية الديلمي، وهذا باب واسع، وربما فعل أشياء ولم يستشر فيها أحدا، وقد أرسل بعض السرايا، وكتب لهم كتابا إذا بلغتم كذا وكذا، فانظروا كتابي واعملوا به، ولم يطلع عليه غيره، ولم يشاورهم فيه.
والحاصل من الجواب: أن المشاورة مأمور بها، مندوب إليها، وعاقبتها خير، وفوائدها كثيرة، لكن من استشار البعض فقد استشارهم، ولا يشاور إلا أهل الصلاح، والمحبة الصادقة، والعقل، والتجربة، والنصح، ومن علم منه غير هذا فلا يستشار، آخره، والله الموفق والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق، إلى الإمام سعود، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل إلي خطك وتأملته، وكثرت الظنون فيه، حتى إني ظننت أن الذي أملاه غيرك، لأن فيه أمورا ما تصدر من عاقل، وفيه أكاذيب ما تليق بمثلك، وتذكر أنك أشرفت على خط لمبارك بن محمد، وتحققته، فنقول: ذلك ما كنا نبغ، فإنك المقصود به، وتحققنا أن مباركا يوصله إليك، وأردت أنه يكون لي حجة عليك عند الله.
وقد جاءنا خط من مبارك، يقول فيه، ويشهد: أن هذا الكلام الذي فيه، هو الحق الذي ليس بعده حق، وقد رآه كثير من الإخوان، فما أمكروا منه شيئا، فلا يضر الحق جحدك له والأحاديث، فأجب عنها، وإلا فاتق الله ولا تغتر بدعاية ليس لها أصل.
وأما قولك: إنه غيرني طمع الدنيا، فأنا لا أزكي نفسي، وابن آدم على خطر ما دامت روحه في جسده؛ وأما في هذا الأمر، فأنا جازم أني على الحق – ولله الحمد – فإن رجعت إلى ما تعلمه مني، مما كنت أقول لك وأجاهرك به، عرفت أن طمع الدنيا ما يغرني، ولا قوة إلا بالله.
وأما إنكارك موالاة أهل نجران، فهو مكابرة، لأنها أمر قد اشتهر، واحتجاجك: بأن عبد الله يوالي الشريف، نقول: نبرأ إلى الله من موالاة الشريف، وأهل نجران جميعا.
ونقول لك أيضا: لا شك أن عبد الله، وقبله والده، وقبله جدك تركي، رحمهما الله، يكاتبون الشريف، وينهون، ويعتقدون بأنهم يفعلون ذلك مكافأة دون المسلمين، واستدفاعا لشر الدول، ولا نحملهم إلا على الصدق.
وأنتم تكاتبون أهل نجران، وتستصرخون بهم على أهل الإسلام، لتفريق جماعتهم، والإفساد في الأرض، وأنتم تعلمون عداوتهم لهذا الدين وأهله، وما جرى بينهم وبين أهل الإسلام، أفلا يستحي العاقل؟.
وأما قولك: إنكم ما أنكرتم على عبد الله، فنقول لك أولا: إنا لا نقول إن مجرد المكاتبة تستلزم الموالاة الموجبة للإنكار؛ وأيضا: نفيك لإنكارنا رجم بالغيب، فإنه ليس من شرط الإنكار إطلاعك عليه، وأيضا: من الذي قال إن تركنا للإنكار أو غيرنا، يكون حجة لك، في فعل ما هو أكبر وأنكر؟!.
وأما قولك: إن جنودك آل عرجا والمرة، فنقول:
كلهم أعداء، قاتلهم الله، واستعانتك بهم على أهل الإسلام، من أكبر الحجج عليك، ومما يوجب نفرة كل مؤمن عنك.
وأما قولك: إن حكمك ماض عليهم، قبل أن يموت الوالد باثني عشر سنة، فنقول: ما علمنا أن لك حكما تختص به، إلا أنك أمير للإمام من جنس غيرك من الأمراء، ويدل عليه: أن والدك وحمه الله عزلك في حياته، ومات وأنت معزول.
وأما قولك: إن معك ختمه، فنقول: حاشا الإمام فيصل رحمه الله، مع ما أعطاه الله من العقل، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ومعرفة أسباب الفتن، والتحرز مما يقتضيها، حاشاه أن يكتب أن الرعية تكون فرقتين، إلا إن صح ما ذكرته في خطك، من أن عقله اختل في آخر عمره، فيكون هذا صدر في تلك الحال، فيكون وجوده كعدمه.
ولو نقدر أن ما تدعيه صدر في صحة عقله، لكان هذا مردودا عليه، فإنه أمر مستحيل وجوده في مثل تجد وما يتبعها.
وأما قولك: إني منكر عليك تحيزك إلى محمد بن عايض، أنكرنا عليك السعي في الفتنة وسفك الداء، وطلب ما ليس لك؛ ومحمد بن عايض ما نقول فيه إلا الخير؛ والظن فيه: أنه ما يساعدك على ما تحاول، ومعه من العقل
والديانة ما يحجزه عن الخروج عن مقتضى الشرع، ومقابلة إحسان آل الشيخ، وآل مقرن بالإساءة، حاشاه من ذلك.
مع أنه قد علم وتحقق بالعادة الجارية، والأدلة القاطعة: أنه ما من طائفة قامت في عداوة أهل هذا الدين، ونصبت لهم الحرب، إلا أوقع الله بها بأسه، ونوع عليها العقوبات، هذا أمر ثابت يعرفه من نظر واعتبر، ويدل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَاّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 76،77] .
فكيف يظن بمحمد: أنه يعرض نفسه وإخوته، وما أعطاه الله من العز، إلى حلول هذه السنة به؟ أعاذه الله من ذلك؟ والحمد لله الذي أوصل خطى إليه حتى عرفه وتحققه، أن الله قد جعل له نصيبا من العلم، وعنده الكتب: التفسير، والحديث، والتواريخ التي فيها أيام الناس.
وأما قولك: إنك بايعت عبد الله قهرية؛ فنقول: ثبتت إمامة عبد الله، بايعت أم أبيت، فلو أنك امتنعت من بيعة عبد الله، ولم يطلبها منك، هل يثبت لك ما ذكرت؟ أم هل يحل لك أن تفعل ما فعلت؟ سبحان الله وبحمده؟ مع أنك بايعت اختيارا، فإنك خضرت مع المشائخ ومن حضر معهم، وبايعت أخاك طوعا واختيارا، لا قهرا واضطرارا.
وأما قولك: إن أهل نجد بايعوا عبد الله ذلا وقهرا،
فهذا قول معلوم عدم صحته، فإن أهل نجد بايعوا عبد الله، ودخلوا في طاعته طوعا واختيارا، وثبتت الولاية باتفاق الرعية، ولا نعلم أحدا خالف في ذلك ولا نازع فيه، فكان أمرا معلوما عند الخاص والعام، وقد اختاره والده وقدمه في حياته، ورضيه المسلمون بعد وفاة أبيه، فصار من نازع في ذلك باغيا، يجب على المسلمين دفعه وجهاده باليد واللسان والمال، وهذا الذي ندين الله به ونلقى به ربنا، رضيت يا سعود أم غضبت.
وأما جراءتك في حق أخيك، مثل قولك: إن عبد الله أفسد أديان الناس، فهذا كلام مستبشع، لايحل التلفظ بمثله، وحرص عبد الله على صلاح دين الناس ودنياهم أمر معلوم.
وأما الذين هلكوا في المعتلى، فنرجو أن من صلحت نيته منهم شهيد، ولم يموتوا إلا بآجالهم، ونرجو لهم عند الله، لأنهم قتلوا تحت سيف ابن سريعة، ونحوه من الطواغيت.
وأما دعواك على أخيك: فعل كذا وكذا، فلو كان صدقا لم يوجب خروجك عليه، وشق عصا المسلمين، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، أنه يجب على المسلم السمع والطاعة، وإن ضرب ظهره وأخذ ماله؛ وأنت لم يضرب لك ظهر، ولا أخذ لك مال، فإن كان الذي حملك
على ما فعلت: الطمع في بيت مال المسلمين، واستقلالك ما تأخذ منه، فهذا من العدوان الظاهر.
فإن بيت المال مشترك بين المسلمين، عامهم وخاصهم، مع أن أخاك ما قصر في عطائك، يعطيك أشياء لاتستحقها، فإن الواحد منكم كأنه واحد من المسلمين، وما يفعله كثير كم من الملوك، من تفضيل أقاربهم، قد أنكره السلف، وعمل أئمة العدل يخالفه؛ وقد بلغك: أن عمر بن الخطاب نقص ابنه عبد الله عن عطاء المهاجرين خمسمائة درهم.
فلو أن أخاك عاملك بما تقبضيه السنة، وما ذكره مثل شيخ الإسلام في السياسة الشرعية، لم يكن لك عليه حجة، ولكان أحرى بإعانة الله له عليك وعلى من خرج، فكيف وهو يحثو عليك وعلى أشباهك ما لا تستحقونه، والظاهر أن هذا ما يخفى عليك.
وأما قولك: إنك تطلب حكم الله ورسوله، فأخوك ما يمنع حكم الله ورسوله، فما الذي منعك من طلب ذلك، حين كنت بين المشائخ أهل العدل والإنصاف؟ فإن زعمت أنك خائف، فكيف لم تطلب ذلك بعد ما ألفيت على محمد بن عايض؟ ولو أنك كاتبت أخاك أو المشائخ تطلب المحاكمة لم تمنع، فلما لم تفعل فأخوك لم يمنعك إلى اليوم، وأنت الطالب، فإن طلبت من أخيك يعطيك
المواثيق، وتقدم عليه وتجالسه عند آل الشيخ، حصل لك ذلك.
وأما قولك: إن عبد الله يوكلني أخاصمك، فأنا لا أطلب ذلك، وإذا أراد خصومتك فإن قربت منه خاصمك بنفسه، فإن بعدت عنه وجد لها غيري، فإن عين ذلك على وألزمني به، قلت سمعا وطاعة.
وأما قولك: إن عبد الله حال بينك وبين ما تملك في الأحساء والقطيف، فلا نعلم أن عبد الله حال بينك وبين شيء تملكه، وأما خراج الأحساء والقطيف، فهو مشترك بين المسلمين، وحكمه وتدبيره عند من ولاه الله أمرهم.
وأما ما ذكرت: من المزاعيل والتخويفات، فجوابه {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة هود آية: 56] ونصدع بالحق إن شاء الله ولا قوة إلا به، ولا يمنعنا من ذلك تخويف أحد.
وفي خطك أمور تحتاج إلى جواب طويل، واقتصرنا على القليل منه، ليتبين لك ولمن عندك خطؤك، لعل الله أن يردك للحق، وتترك ما هو شر في العاجل والآجل، وفي الكتاب والسنة ما يبين المحق من المبطل، والضلال من الصراط المستقيم؛ كقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [سورة آل عمران آية: 105]
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] .
وفي الأحاديث مثل ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:" من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يفي لذي عهد فليس مني ولست منه " وقوله: " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه كائنا من كان " وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما " وقوله: " اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيية " في أحاديث كثيرة في هذا المعنى، قد قرأتها، وقرئت عليك.
فاتق الله، فإني أخاف عليك من قوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [سورة الصف آية: 5] ومن قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ونحن لا نكره أن يهديك الله إلى صراطه المستقيم، وتكون على ما كان عليه آباؤك الصالحون، وسلفك المهتدون، وفيمن ذكرت ممن مات من إخوتك عبرة للمعتبر، رحمهم الله وعفا عنهم، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
وقال الإمام: عبد الله بن فيصل، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه وحكمه، والوصية الجامعة النافعة لمن عقلها وفهمها، هي وصية الله لعباده، قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه} [سورة النساء آية: 131] وتفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، يجده من طلبه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ َوَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] والآيات بعدها إلى قوله: {مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 108] .
فأمر تعالى بتقواه حق التقوى، وأمر بالتزام الإسلام والتمسك به مدة العمر والمحيا، لأن من عاش على شيء مات عليه، كما جرت به عادة أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأمر بالاعتصام بحبله، وهو كتابه، وقيل هو الجماعة، والمعنى متقارب، لأن الاعتصام بالكتاب لا يحصل على وجه الكمال الواجب، إلا مع الجماعة،
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: " يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أكرمكم به ".
ويشهد له الحديث المرفوع: " من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 1، وعنه صلى الله عليه وسلم:" إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا "2.
وكذلك هذه الآية، فيها النهي عن التفرق، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب.
وإذا وقعت الفرقة فسد الدين، ونبذ الكتاب، وغلبت الأهواء، وذهب سلطان العلم والهدى، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، منفرد بأمره، منتقص لغيره، معرض عن قبول الهدى، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم; وقد ورد مرسلا:" كل رجل من المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " وعن الحسن: " إنما المسلمون على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله ". وإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه، لقام دين الله بالأمر الذي أراد من خلقه; وبالجملة: فشأن الجماعة شأن عظيم، قد عدها كثير من أهل العلم من أركان الإسلام، التي لا يقوم إلا بها.
وقد عرفتم: ما حدث من الاختلاف والتفرق في هذه
1 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/130 ،4/202 ،5/344) .
2 أحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
الأوقات، وظهر من أمور الجاهلية ما يعرفه من عرف حال القوم، وما كانوا عليه قبل النبوة في أصل التوحيد وغيره، مما لا يقوم الإسلام إلا به، فالله الله، تداركوا أمره، وتوبوا إلى ربكم، قبل أن تبسل نفس بما كسبت.
ثم ذكر سبحانه بنعمته بالجماعة، وما من به على أول هذه الأمة، من الاجتماع على دينه الذي ارتضاه، بعد ما كان بينهم من الفرقة والعداوة، فألف بين قلوبهم، وصاروا إخوانا متحابين متواصلين، متناصرين على دينه، متعاونين على جهاد عدوه وعدوهم، فأنقذهم بذلك من النار، بعد أن كانوا على طرف حفرة منها، وهذه هي النعمة العظيمة، والعطية الكريمة، قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [سورة آل عمران آية: 185] .
ثم بين سبحانه مراده وحكمته، بما تقدم من الأمر والبيان، وأن المقصود به هداية عباده المؤمنين، والعمل بما أمر به وشكر نعمه التي أسداها إلى خلقه.
ثم قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] قال بعض المفسرين: المقصود بهذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة، متصدية للقيام بأمر الله، في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقد ورد الوعيد، في الكتاب والسنة على ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " " 1 والأحاديث في المعنى كثيرة.
ثم نهى عن مشابهة الذين تفرقوا، واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهم أهل الكتاب من قبلنا، وذكر الوعيد على ذلك وعظمه.
ثم ذكر الوقت والأجل اللاحق، وما أعد لأهل التفرق والاختلاف، من العذاب والعقاب، فقال:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 106]، قال ابن عباس:" تسود وجوه أهل البدعة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة ".
ومن هنا يعلم: أن من أعظم الفساد ترك الجماعة، والاختلاف في الدين، والإعراض عن كتاب الله، وكثرة المراء والجدال، وإظهار دعوى الجاهلية المفرقة للجماعة، فهذا وأمثاله يعود على أصل الإسلام - معرفة الله وتوحيده - بالهدم والقلع، ولذلك كرر النهي عن هذا الاختلاف في هذه الآيات الكريمات.
وعلى العامة والخاصة أن يعظموا كتاب الله ودينه وشرعه، وأن يقبلوا على ما ينفعهم من تعلم دين الله ومعرفة شرعه، وأن لا يعرضوا عن ذكره الذي أنزله على رسوله،
1 أحمد (5/388) .
وهو كتابه العزيز، فإن الإعراض عن ذلك يؤدي إلى الكفر - والعياذ بالله - وإن لم يجحده وينكره.
وقد عرفتم الجماعة، والمقصود بها، وأنه لا يحصل إلا بالإمامة والطاعة لولي الأمر، فاجتمعوا على ذلك ولا تختلفوا، وكونوا عباد الله إخوانا، على دين الله ومرضاته أعوانا.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والبصيرة في أمره، وأن يجعل لنا ولكم فرقانا، نفرق به بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والغي والرشاد، والضلال والهدى، وأن يجعل لنا نورا نمشي به، وأن يعيذنا من خلط الحق بالباطل، واللبس والالتباس {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، لا زالوا بالعروة الوثقى متمسكين، وفي جهاد أعداء الله مشمرين، آمين; السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعده: قد علمتم - وفقكم الله - ما أوجب الله على المسلمين من حقوق الإمامة والبيعة، وأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا.
وقد من الله على المسلمين بإمامة الإمام عبد العزيز حفظه الله، من آخر هذا الزمان، جمع الله به الكلمة، وحمى به الحوزة، وآمن به السبل، وأنصف به بين الضعيف والقوي، وحصل به - ولله الحمد - انتظام المصالح الدينية والدنيوية.
وقد علمتم حالكم قبل ولايته، من تعطيل سوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبل، وكل هذا نفاه الله تعالى بولايته، قال بعضهم:
لولا الولاية لم تأمن لنا سبل
…
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ويجب أن يعرف: أن ولاية أمور الناس، من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، فإن الله تعالى: أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد، والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم إلا بقوة وإمارة.
ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف الصالح، كأحمد بن حنبل، والفضيل بن عياض وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان، فالواجب: اتخاذ الإمامة قربة ودينا يتقرب بها إلى الله تعالى، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
إذا عرفتم ذلك: فإن الإمام أيده الله تعالى، قد بذل جميع الأسباب مع هذا الرافضي المكار; طلب السلم معه والراحة للمسلمين فأبى وعاند، وبدأ المسلمين بالبغي
والعدوان، فحينئذ لم يسع الإمام إلا جهاده وكف شره عن المسلمين.
فتعين على جميع المسلمين الجهاد مع إمامهم، ومساعدته بالنفس والمال، وقد من الله عليكم - ولله الحمد - بهذا الغيث العام الذي أحيا الله به البلاد، ونرجوه: أن يجعله قوة لهم على ما يرضيه سبحانه، ومن شكر هذه النعمة، وغيرها من النعم: مجاهدة هذا العدو; فإن شكر النعم قيد الموجود، وتحصيل المفقود، وقال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] مع أنه ولله الحمد قد جاءت البشائر بالاستيلاء على كثير من حصونه وذخائره، واستئصال كثير من جنوده، وهتك كثير من قواته وجنوده.
ولكن الاستعداد للعدو، قد أمرنا الله به كما قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال آية: 60] إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 272] .
ومصلحة الجهاد، وتسكين الفتنة عن المسلمين مصلحة عظيمة، فلو خرج المسلمون من نصف أموالهم، وأتم الله مقصودهم، وكفاهم عدوهم لكان ذلك قليلا في تحصيل هذه المصلحة، فكيف وفي الجهاد سعادة الدارين لمن خلصت نيته، وكان قصده وجه الله والدار الآخرة؟
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تكفل الله لمن خرج في الجهاد في سبيله إن توفاه أن يدخلة الجنة، أو يرجعه بما نال من أجر أو غنيمة " 1 وورد أيضا: " الجنة تحت ظلال السيوف "2.
والذي مثلكم من أهل العقول والديانة والحمية للإسلام، والنصرة لله ورسوله وللمؤمنين، يجد في هذا الأمر غيرة لله ولدينه ولحوزة المسلمين، فالله الله يا إخواني: بالتشمير والجد والاجتهاد في مساعدة ولي الأمر، على إطفاء هذه الفتنة، والجهاد معه بالنفس والمال. والإمام - أيده الله تعالى - قد طلب من المسلمين أن يجاهدوا معه، ولو طلب منهم النفير لتعين عليهم ذلك حكما شرعيا، كما قال صلى الله عليه وسلم " وإذا استنفرتم فانفروا "3.
[أدلة فضل الجهاد]
وقد ورد في فضل الجهاد آيات وآحاديث، منها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الصف آية: 10-11] إلى قوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة الصف آية: 12] .
وهذه والله هي التجارة الرابحة، التي تحصل بها النجاة من النار، والفوز بدخول الجنة ونعيمها.
ولم يرض سبحانه للجنة ثمنا لغلائها ونفاستها، إلا نفوس المؤمنين، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
1 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ،7463)، ومسلم: الإمارة (1876)، والنسائي: الجهاد (3122 ،3123) والإيمان وشرائعه (5029 ،5030)، وابن ماجه: الجهاد (2753) ، وأحمد (2/231 ،2/384 ،2/399 ،2/424 ،2/494)، ومالك: الجهاد (974)، والدارمي: الجهاد (2391) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2819)، ومسلم: الجهاد والسير (1742)، وأبو داود: الجهاد (2631) .
3 البخاري: الحج (1834)، ومسلم: الحج (1353)، والترمذي: السير 1590) ، والنسائي: البيعة (4170)، وأبو داود: الجهاد (2480)، وابن ماجه: الجهاد (2773) ، وأحمد (1/226 ،1/315 ،1/355) .
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] فنبهنا الله سبحانه على الإخلاص في الجهاد: {جَاهَدُوا فِينَا} [سورة العنكبوت آية 69] يعني: لله وفي الله، بخلاف من يجاهد لنفسه أو لغرض.
وقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت آية: 6] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 142] يعني: أحسبتم أن دخول الجنة سهل وهو إنما يحصل لأهل الصدق في الجهاد والصبر.
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 146] يعني أن نفوسهم وهممهم لم تضعف، ولم يصبها مسكنة لما أصابهم في سبيل الله، بل قويت هممهم وعزائمهم، وبذلوا نفوسهم وأموالهم لما علموا ما عند الله من الثواب الجزيل للمجاهدين الصابرين، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يبالوا بقريب
ولا بعيد في ذات الله تعالى، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 200] وفي الحديث: " غدوة في سبيل الله أو روحة خير من ألف يوم يقام ليلها، ويصام نهارها ".
وأخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " أن للجنة ثمانية أبواب، أعلاها باب الجهاد، لا يدخل منه إلا المجاهدون في سبيل الله ".
[وصية للغزاة والمجاهدين بالثبات]
ولنختم هذه الرسالة بوصية للغزاة والمجاهدين، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية: 45-46] .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذكر الله سبحانه في هذه الآية خمسة أمور.
الأول: الثبات عند لقاء العدو، وهو في قوله تعالى:{فَاثْبُتُوا} .
الثاني: ذكر الله تعالى، وهو في قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأنفال آية: 45] .
الثالث: طاعة الله ورسوله، فإن طاعة الله ورسوله سبب كل خير في الدنيا والآخرة، وهو في قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة الأنفال آية: 1] .
الرابع: عدم التنازع، فإن التنازع سلاح للعدو، وهو في قوله تعالى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال آية: 46] .
الخامس: الصبر، وهو في قوله تعالى:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال آية: 46] والصابر منصور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " واعلم أن النصر مع الصبر " 1 لكن إن كان الصابر محقا كان له النصر في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وإن كان مبطلا، كان له من النصر في الدنيا على حسب صبره، ولا عاقبة له.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فقبة النصر مضروبة على هذه الأمور الخمسة، ولهذا لما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم، فتحوا البلاد ودان لهم العباد، ولما تفرقت في غيرهم، فاتهم من النصر بحسب ما فاتهم منها; انتهى بمعناه، والله الموفق لمن يشاء، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
1 أحمد (1/307) .
وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الفضلاء الأعلام، والمشائخ الكرام: إبراهيم بن عبد الله، وحمد بن حسين، وزيد بن محمد، وحمد بن عتيق، وصالح الشثري، ومحمد بن علي، وعلي بن إبراهيم الشثري، وإبراهيم بن عميقان، وسعود بن مفلح، وكافة الإخوان من طلبة العلم، حمانا الله وإياهم عن الاستكبار، عن قبول النصائح، ووفقنا وإياهم لاتباع السلف الصالح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن موجب الكتاب، القيام بأوجب واجبات الدين، وأفضل شعائر الموحدين، وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الصالحين، من أداء النصيحة لله، ولكتابه، وللأئمة، والعامة من المسلمين، فقد أرشدنا ربنا تعالى في ذلك، إلى طريق الفلاح المنجي من الخسران، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الر حيم)، {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-3] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46ب] قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: لما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق، حالتان; إحداهما: أن يكون ناظرا مع نفسه; والثانية: أن يكون مناظرا لغيره; أمرهم بخصلة واحدة، وهي: أن يقوموا لله اثنين اثنين، فيتناظران، ويتساءلان بينهما، وواحدا وفردا، يقوم كل واحد مع نفسه، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه، ويستدعي أدلة الصدق والكذب، ويعرض ما جاء به عليهما، ليتبين له حقيقة الحال، فهذا هو الحجاج الجليل، والإنصاف المبين، والنصح العام، انتهى.
وقد عرفتم: أنه لا بد في التوحيد من العلم به والعمل، والدعوة إليه، فهذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، في كل زمان ومكان، وهذا الواجب يجب على كل إنسان بحسبه، وإن كثر جهله وقل علمه واطلاعه، فلو كان ذلك مقصورا على أحد لعلمه وفضله، لتعطلت أمور الدين; أو كان فيه غضاضة للفاضل، ورفع للمفضول لما قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي على ابن أبي وهو كذا وكذا؟ ولما أنكر على أبي بكر رضي الله عنه قتال أهل الردة أولا; ولما أنكر بعض الصحابة على بعض، لما هموا بجمع المصحف، حتى اجتمعوا على ذلك; ولما قال عمر رضي الله عنه " الله أكبر! أصابت امرأة وأخطأ عمر ".
وهكذا شأن العلماء الأخيار، في جميع الأعصار، ومع
ذلك فالأخوة الإسلامية باقية، لا يشوبها هوى ولا استكبار عن اتباع الحق مع من كان معه، فإن أشكل، فالرد بينهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند موارد النّزاع.
وقد علمتم أن الفتن كثيرا ما يلتبس فيها الحق بالباطل، ولكن يجب على المسلم معرفة الحق في ذلك بالبحث والمذاكرة، وإظهار ما يعتقده ويدين به، فإن كان حقا سأل ربه الثبات والاستقامة، وشكره على التوفيق والإصابة; وإلا رده إلى من هو أعلم منه بحجة يجب المصير إليها، ويقف المرشد عليها، والله عند لسان كل قائل وقصده ومجازيه بعمله، فلا بد من زلة قلم وعثرة قدم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 76] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] .
ولا يخفى عليكم: أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال على غير هدى ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غُبَّرِ أهل الكتاب، فصدع بما أوحى الله إليه، وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة; ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح قويم، يصل سالكه إلى جنات النعيم.
وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة، الدالة على صدقه وثبوت رسالته، ما أعجزهم به، فلم يبق لأحد على الله حجة، ومع ذلك كابر المكابر، وعاند المعاند:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5ب] ورأوا أن الانقياد له وترك ما هم عليه من النحل والملل، يجر عليهم من مسبة آبائهم، وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياساتهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم؛ فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة.
وأكثرهم يعلمون أنه محق، وأنه جاء بالهدى ودعا إليه; ولكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ورياسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها، إلا بمخالفته، وترك الاستجابة له، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله، وإسلام الوجه له خصمان.
وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك، حتى أيد الله دينه ونصر الله رسوله، بصفوة أهل الأرض وخيرهم، ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره مراتب الفضل والسيادة، وأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتى من الله على ذلك الحي
من الأنصار، بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة الأقدار، فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة، حصل بهم من العز والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة، فصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون، حتى إذا عز جانبهم، وقويت شوكتهم، أذن لهم في الجهاد بقوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج آية: 39] ثم لما اشتد ساعدهم وكثر الله عددهم، أنزل آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجردوا في حب الله ونصر دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة آية: 24] .
فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه; فأذل بهم أنوفا شامخة عاتية، ورد بهم إليه قلوبا شاردة لاهية، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحوا ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة، وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما
هنالك، واستبان لذوي الألباب والعلوم، في أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرر معلوم.
ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعلم الإسلام في كل جهة من الجهات مرفوع منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع، والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، فضعفت القوة الإسلامية، وغلظت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول، من العلوم والشأن، ورفعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات، وظهرت أسرار قوله تعالى:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة التوبة آية: 69] وقوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1 ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار، من ذلك أن الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها، كيلا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته; فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد سوى الرسول. ولهذا المجدد: علامات يعرفها المؤمنون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأصدقها وأولاها، محبة الرعيل الأول
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل، واسمها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وأن يعبد وحده لا شريك له، ويكفر بما سواه من الأنداد والآلهة، هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها.
وفي بسط هذه الجملة، من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه، ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل، ويتفرع عنه.
ومن طاف البلاد، وخبر أحوال الناس من أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل، وبعدهم عما جاءت به الرسل، فكل بلد وكل قطر وجهة - فيما يبلغنا - فيها الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية، بالعطاء والمنع والتدبير، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خارجي، ينكر الكرامات. وكذلك هم في باب الإيمان بالأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة لذلك، يدينون بالإلحاد والتحريفات، ويظنون أنهم من أهل التنْزيه والمعرفة
باللغات، ثم إذا نظرت إليهم، وسبرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات، هذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات.
وأما من كذب بأصل الرسالة، ولم يرفع بها رأسا، فهؤلاء نوع آخر، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} [سورة الأعراف آية: 179] الآية ومن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ نعمة الله عليه، وما اختصه به، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن.
وقد اختصكم الله من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصة، ومن عليكم بمنة عظيمة صالحة من بين سائر الأمم، وأصناف الناس، في هذه الأزمان، فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حبرا جليلا، وعلما نبيلا فقيها، عارفا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام وتحول.
فتجرد للدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار،
وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار، وجادل في الله، وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله.
وأنكر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له; وصنف في الرد على من عاند أو جادل، وجرى من المخاصمات والمحاربات، ما يطول عده، وأكثركم يعرف ذلك.
ووازره على ذلك: من سبقت له من الله سابقة السعادة، فأقبل على معرفة ما عنده من العلم وأراده، من أسلاف آل مقرن الماضين، وآبائهم المتقدمين، رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا، فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه.
وأظهر لهم من الدولة والصولة، ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة، رتبة تدرس بمجرد السابقة والعادة، لا تزاحمهم فيها العرب العرباء، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهرا، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد، لا يعرف من حاكها ولا درى،
فلم يزل الأمر في مزيد، حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح، رحمهما الله رحمة واسعة.
ثم حدث من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من الابتلاء والتطهير، ما يعرفه الفطن الخبير.
ثم أدرك سبحانه من رحمته وألطافه أهل هذه الدعوة، ما رد لهم به الكرة، ونصرهم ببركته المرة بعد المرة؛ وبعضكم أدرك ذلك ورآه، ومن لم يدركه بلغه كيف كثر الابتلاء والامتحان لأهل هذه الدعوة، ثم تكون لهم العاقبة، وذلك سنة الله سبحانه السابقة في أنبيائه ورسله؛ " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه " 1 وله في ذلك حكمة بالغة، دلنا على بعض أفرادها في محكم كتابه، قال تعالى:{الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2ب] الآية.
وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة آل عمران آية: 179] وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} [سورة الأنفال آية: 37] .
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [سورة البقرة آية: 214] الآية وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا
1 الترمذي: الزهد (2398)، وابن ماجه: الفتن (4023) ، وأحمد (1/172 ،1/173 ،1/180 ،1/185)، والدارمي: الرقاق (2783) .
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [سورة التوبة آية: 16] الآية وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [سورة الحج آية: 11] الآية.
ثم إن الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته، جمع المسلمين على إمام واحد، وحصل لهم من الأمن والراحة والعافية، وكف أيدي الظلمة، ما لا يخفى.
ثم بعد ذلك وقعت المحنة، وخبطتنا فتنة، عم شرها، وطار شررها، وتفرق الناس فيها أحزابا وشيعا، ما بين ناكث لعهده، خالع لبيعة إمامه، بغير حجة ولا برهان، بغضا للجماعة، ومحبة للفرقة والشناعة، وبين مجتهد لما رأى إمامه صدر مكاتبة للدولة، وبين واقف عند حده، يلوح بين عينيه " إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان "1.
والرابع: ضعيف العنان، خوار الجنان، مع هؤلاء تارة، ومع الآخرين تارة، يتبع طمعه. وكل فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى، أو تفسقها، أو تكفرها، بل وتنتسب إلى طالب علم، تأتم به وتقلده، وتحتج بقوله عياذا بالله من ذلك، والمعصوم من عصمه الله، وحساب الجميع على الله، وهو أعلم بسرائرهم، وسيحكم بينهم سبحانه بعلمه.
ثم أذهب الله ذلك بالعود إلى الجماعة، وتجديد الأخوة
1 البخاري: الفتن (7056) .
الإسلامية، وذهاب الشحناء، وعاد الأمر إلى ما كان عليه، من ثبوت الإمامة، والدعوة إلى الجماعة، وتجديد العهود والمواثيق على ذلك، فحمدنا الله تعالى، وسألناه المزيد من فضله ورحمته، وكنا مغتبطين، وأذهب الله عنا هباء الشبهات، وأطفأ نار تلك الضلالات.
ثم خرج من خرج بشق العصا ومفارقة الجماعة، طلبا للفساد في الأرض وفلا لجمع المسلمين عن مجاهدة أعداء الله المشركين، ومن انتظم في سلكهم، من الطغاة والبغاة المفسدين، ثم كان عاقبة ذلك، حدثان عظيم، وضلال مستبين، مضادة لأمر الله ورسوله، ورفضا لفرضية الجماعة، وإقامة لشعار أهل الجاهلية، لأن دينهم الفرقة، ويرون السمع والطاعة مهانة ورذالة.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] وقوله: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن آية: 16] ومن شعارهم: أن مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له فضيلة، وبعضهم يجعله دينا، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة، والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد.
وهذه هي التي ورد فيها ما في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به
شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم، إلا من الإخلال بهذه الوصية، وقوله صلى الله عليه وسلم " لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بسمع وطاعة "2.
فليتأمل: من أراد نجاة نفسه هذا الشرط، الذي لا يوجد الإسلام إلا به؛ ومع ذلك استحسن الواقع من استحسنه، وأجاز نصب إمامين، وأثبت البيعة لاثنين، كأنه لم يسمع في ذلك نص:(إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما; أوفوا ببيعة الأول فالأول) ; وما قاله الفاروق رضي الله عنه في بيعة أبي بكر رضي الله عنهما، لما قال الأنصار - أهل السقيفة -: منا أمير ومنكم أمير; وما ذهب إليه الحكمان، في شأن علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فلو كان جائزا في دينهم نصب إمامين، لأقرا عليا على الحجاز والعراق، وأقرا معاوية على مصر والشام، ولكن لم يجدا مخرجا إلا بخلع أحدهما، مع أن عليا رضي الله عنه لم يقاتل معاوية وأهل الشام، إلا لأجل الجماعة، والدخول في الطاعة، وكان محقا في ذلك رضي الله عنه.
وما ذهب إليه الحسن في خلع نفسه، فلو رأى ذلك جائزا له، لاقتصر على الحجاز والعراق، وترك معاوية وما بيده، لكن لما علم أن ذلك لا يستقيم إلا بخلع أحدهما، آثر
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
2 الدارمي: المقدمة (251) .
الباقي وغض الطرف عن الفاني، وخلع نفسه.
وكذلك ما قاله إمام هذه الدعوة النجدية، الشيخ محمد رحمه الله تعالى، لما أراد عبد العزيز أن يجعل أخاه عبد الله، أميرا في الرياض بعد فتحها، أنكر ذلك وأعظمه، وقال: هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين، وعضده ونصيره; لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة، مع أن عبد الله ما يظن به إلا خيرا، وحسبك به رحمه الله.
فإن كنتم معشر العلماء، تعرفون أن هذا حق وتعتقدونه، وآثرتم المسالمة والسكوت، فهيهات هيهات، أنى لكم الخلاص، وقد كتمتم ما لا يجهل؟ فإن كنتم تعتقدون خلافه، وأن ما ذهبنا إليه واعتقدناه في هذه القضية خطأ، فرحم الله من أرشد جاهلا، وبصر حائرا، فإن أشكل الأمر فهلم، فالحكم والحق مقبول.
فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم
…
ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل كتاب نحن فيه وأنتم؟
…
على ملة نقضي بها ثم نعدل
أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا
…
ويحكم فينا المرزبان المرفل
هذه النصوص من كتاب الله نرجع عند التنازع إليها، وهذه الآثار من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه، مضبوطة محررة، مسطورة في دواوين الإسلام، قال عمر رضي الله عنه:" والله ما توفي محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ".
وقال أبو ذر، رضي الله عنه " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من طائر يطير يقلب جناحيه، إلا أبدى لنا فيه علما ". فاستأنف النهار يا ابن جبير، قبل أن تنفرج ذات البين، بينكم معشر العلماء، ويضلل بعضكم بعضا، أو يفسقه أو يكفره، فتكونوا بذلك فتنة لجاهل مغرور، أو ضحكة لذي دهاء وفجور، تستباح بذلك أعراضكم، ولا ينتفع بعلمكم. فاعقدوا لكم محضرا، ولو طال منا ومن بعضكم لأجله سفر، للنظر فيما يصلح الإسلام، وتقوم به الحجة، ولو لم يعمل به عامل، تسدوا بذلك عنكم باب الفرقة، نصحا لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ فإني والله لا إخال الجرح يندمل، ولا الحية تموت، إلا أن يشاء ربي شيئا، وذلك لكثرة الطلاب لهذا الأمر، فقد وقع والله بكثرتهم، وأعضل البأس، واحتاج العاقل للنظر فيما هو الأصلح لدينه، والأرضى لربه، بالاجتماع على الأسد فالأسد، والأجد فالأجد، والأصلح فالأصلح.
فإن الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، فاتح حصنه لأهله، يدأب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله ولرسوله ولدينه، تأليبا وتأنيبا، يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، يزين بالزور، ويمني أهل الفجور والشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل، دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الأزمان، لا ينجو منه إلا من أحب
الآجل، وغض الطرف عن العاجل، وقطع هامة عدو الله وعدو الدين، باتباع الحق والعمل به، رضي ذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، فإن لهذه الأمور غاية وخيمة، وعاقبة ذميمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقال أيضا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الإخوان: سعد بن مثيب، وعبد الله بن فايز، وكافة إخوانهم، سلمهم الله تعالى، ورزقنا وإياهم الثبات والاستقامة، وجنبنا وإياهم طريق الخزي والندامة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفي عليكم ما امتن الله به علينا وعليكم من معرفة دينه، وأنقذكم بذلك من أسباب الهلكة، وذلك من فضل الله، الذي يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] فضله الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهله، والفرح بذلك والغبطة به، ومحبته والتمسك به، خير من الدنيا بأسرها.
وقد علمتم ما أوجب الله عليكم من معرفة دينه، وإخلاص العبادة له، والبراءة ممن أشرك به، وأن كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" دلت على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة ممن أشرك به، ولا يستقيم إسلام عبد إلا بذلك، فمن شك أو توقف، في كفر من لم يعتقد دين الإسلام، ولم يتكلم به، أو لم يعمل به، فهو لم يأت بالإسلام العاصم لدمه وماله، الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله.
وهؤلاء الذين قاموا في عداوة أهل التوحيد، واستنصروا بالكفار عليكم، وأدخلوهم إلى بلاد نجد، وعادوا التوحيد وأهله أشد العداوة، وهم "الرشيد" ومن انضم إليهم من أعوانهم، لا يشك في كفرهم، ووجوب قتالهم على المسلمين، إلا من لم يشم روائح الدين، أو صاحب نفاق، أو شك في هذه الدعوة الإسلامية.
وجميع أهل الباطل، يحسنون باطلهم بزخرف القول، ولهم من يزخرف لهم، ويجعل باطلهم في صورة حق، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] .
وبلغني: أن عندكم من يتكلم في هذه الأمور بغير علم، بل بمجرد الجهل والهوى، ويجعل حكم هؤلاء حكم
البغاة من المسلمين، وأنتم في غنية عن هذا الكلام والتكلم به، فتفطنوا، لا يفسد عليكم دينكم ومعاشكم، وأنتم في بيعة الإسلام، والإمام لا تفتات عليه الرعية.
ولا يجوز لآحاد الناس، أن يتكلم في الأمور العامة، التي هي متعلقة بالإمامة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بفرضية السمع والطاعة، ولزوم البيعة وعدم الخروج على الأئمة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من فارق الجماعة قيد شبر، فمات، فميتته جاهلية، وحض على السمع والطاعة، في قوله صلى الله عليه وسلم:" عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي "1.
وأصل فتنة الخوارج، ومروقهم من الدين - مع كثرة صلاتهم وصيامهم، فإنهم من أكثر الناس تهليلا وعبادة، حتى إن الصحابة يحتقرون أنفسهم عندهم - هو الخوض والشغب، والكلام في الفتنة، التي وقعت بين علي ومعاوية، حتى قدحوا في الصحابة، مع أن القتال وقع بين الطائفتين، والقاتل والمقتول في الجنة، فكيف بمن يفتات على الإمام، ويقدح في المسلمين في قتال هؤلاء الذين ما بين طواغيت البادية وهم رؤوسهم، وبين سفهاء وجند لم يعرفوا ما خلقوا له، ولم يدينوا بدين الحق، لا في الاعتقادات، ولا في الأعمال والإرادات؟
ومن مال إليهم، وجادل عنهم، فقد شك في الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين; واحذروا خدع الشيطان، فإنه
1 الترمذي: العلم (2676)، وابن ماجه: المقدمة (42 ،44) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .
يدعو إلى الفجور، ويمنى بالغرور، وأخلصوا الخوف والخشية لله، قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] .
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم للعمل بدينه، والثبات عليه، وأنتم بحمد الله في ظل دعوة إيمانية، وإمامة إسلامية، وتأملوا قوله:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [سورة النساء آية: 91] والله أخبرنا أن هذا حال المنافقين، يسعون في طلب الأمن من الكفار، والأمن من المسلمين، فاحذروا أن تقعوا في شيء من ذلك، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد.
[الحث على الاجتماع على قتال العدو]
وله أيضا وغيره:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، وعبد العزيز بن محمد، وحسن بن حسين، ومحمد بن محمود، وعبد الله بن محمد الخرجي، وسعد بن حمد بن عتيق، إلى من يراه من إخواننا أهل الفرع، سلمهم الله، ومن علينا وعليهم بالبصيرة في الدين; ونجانا وإياهم من شهوات الغي، وشبهات المبطلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فتفهمون ما من الله به على عموم المسلمين، وعلينا وعليكم خاصة، من ظهور الدعوة الإسلامية في هذه الأوطان، وإزالة الشرك وشعائره، وذلك بدعوة الشيخ وأنصاره، رحمهم الله تعالى، وعرفتم بالإسلام، وسميتم به من بين سائر أهل الأديان، وهذه من أكبر النعم، كما قال تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الحج آية: 78] ودرج على هذه الدعوة، من اختصهم الله بنصرها، ووسمهم بحمايتها.
ثم حصل الخلل والتفريط في حق الله، والإعراض عنه، وأعظم ذلك التفرق والاختلاف، الذي هو سبب الشر، وسبب تسلط الأعداء، وحصل من الفتن وانحلال عرى الإسلام، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، وذلك بما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] .
والواجب علينا وعليكم، معرفة ذلك على التفصيل، ومعرفة أهله ومن قام به، والاجتماع على ذلك، والتواصي به مثنى وفرادى، ولا يصدكم عن ذلك شبهة ولا شهوة، ولا تغتروا بمن يتكلم بكلام الحق، ليتوصل به إلى الباطل، فإن هذا كثير، وبسببه تنقدح الشبهات في قلوب العوام، الذين لا بصيرة لهم.
وقد عرفتم ما يتعين علينا وعليكم، من الحض على الجهاد، والقيام فيه، ودفع من سعى في هتك حرمتهم، ودينهم، وصيرهم أذلة بين الملأ، والذي لم يكشف له هذا الغطاء، فهو مبخوس الحظ، ومنكوس القلب، عياذا بالله من ذلك، وفي بعض الآثار " إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند حلول الشهوات ".
والخلق بين رجل إما مدخول في اعتقاده، أو منقوص في عقله بطلب الدنيا، وإيثارها على الحق وأهله، والصنف الثالث من عصمه الله، قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] ونحن والمسلمون جميعا: ندعوكم بدعاية الإسلام، وحماية أهله، والذب عنهم، والقيام التام، مع أن المسلمين في أكمل نعمة وأتمها، من ثبات القلوب، وخذلان العدو، وضعفه، ولكن نحب لكم الخير، وأن تكونوا رؤساء فيه، وتعاونوا وتناصروا فيه، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] وأعظم التعاون على البر والتقوى، التعاون على نصر الإسلام والمسلمين، والذب عن حرمه، وجهاد من قصد تشتيتهم وانتدب لعداوتهم، وضد ذلك التعاون على الإثم والعدوان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وله أيضا رحمة الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى من يراه من الإخوان، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء والطرق المفضية بسالكها إلى طريق الجحيم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة، إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل، الذي نيته وقصده طلب الحق، ولكنه ابتلى بالوساوس والغرور; تعلمون - وفقنا الله وإياكم - أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهو ما جاء به صلى الله عليه وسلم من البرهان والنور، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 174] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] الفتنة هي الشرك.
وفرض الله علينا الإخلاص في عبادته، واتباع سنة نبيه، ولا يقبل لأحد شيئا من الأعمال، إلا بالقيام بهذين الركنين، الإخلاص، والمتابعة; فالإخلاص: أن يكون لله; والمتابعة: أن يكون متبعا لأمر رسوله، لأن كل عبادة حدها الشرع: ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير إطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس، وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم: لها حد يقف المؤمن، والخائف من عقاب الله عنده، وهو ما أمر به الرسول، قال صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "1 وقال:" من أحدث شيئا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2 وما خرج أحد عن طريقته، إلا سلك أحد طريقين، إما جفاء وإعراض، وإما غلو وإفراط، وهذه مصائد الشيطان، التي يصطاد بها بني آدم، ولهذا حذر سبحانه عن الغلو، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الَاّ الْحَقَّ} [سورة النساء آية: 171] وفي الآية الأخرى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] .
فلما من الله سبحانه: على المسلمين في آخر هذه الأزمان، التي اشتدت فيها غربة الدين، باجتماع المسلمين
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
ورد لهم الكرة ولم شعثهم، بإمام يدعوهم إلى دين الله وإلى طاعته، بماله ونفسه ولسانه، وهدى الله بسبب ذلك من هدى من البادية، وعرفهم الإسلام ورغبهم فيه ودانوا به، وهي من أعظم النعم عليهم وعلى المسلمين عموما، أن هداهم الله لدينه وعرفهم به، وأخرجهم من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإسلام وطاعة ربهم، وعرفهم دينهم الذي خلقوا له، وتعبدهم الله سبحانه وبحمده به.
وقد كانوا قبل ذلك في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، أشقى الناس في الدنيا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى في النار، فالواجب علينا وعليكم: معرفة هذه النعمة، والقيام بحق الله. تعالى في ذلك، وشكر نعمه عليكم، ولا تكونوا كـ {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم آية: 28] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 100] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [سورة آل آية: 102-103] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة آل عمران آية: 105-107] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والشناعة.
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4] والآيات في النهي عن التفرق في الدين كثيرة، لكن القصد التنبيه على ما يلقيه الشيطان ويزينه للناس، من التفرق والاختلاف; والذي قصده الله والدار الآخرة، يرد ما صدر وما سمع إلى كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ولا عمل إلا بدليل وبرهان، يطلب به صاحب العمل.
وقد بلغني عن بعض من غره الغرور، من الطعن في العلماء، ورميهم بالمداهنة، وأشباه هذه الأقاويل، التي صدت أكثر الخلق عن دين الله، وزين لهم الشيطان بسبب ذلك، الطعن في الولاية بأمور، حقيقتها البهتان، والطعن
بالباطل; وقد علمتم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرضه من السمع والطاعة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء آية: 59] ولم يستثن سبحانه وتعالى برا من فاجر، ونهى صلى الله عليه وسلم عن إنكار المنكر، إذا أفضى إلى الخروج عن طاعة أولي الأمر، ونهى عن قتالهم، لما فيه من الفساد; عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه "قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال:" إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان " 1 أخرجاه في الصحيحين.
وقوله: "أن لا ننازع الأمر أهله" دليل على المنع من قتال الأئمة، إلا أن يروا كفرا بواحا، وهو الظاهر الذي قد باح به صاحبه، فطاعة ولي الأمر، وترك منازعته، طريقة أهل السنة والجماعة، وهذا هو فصل النّزاع بين أهل السنة، وبين الخوارج والرافضة.
وعن حذيفة بن اليمان: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اسمع وأطع للأمير، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " 2 وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد خرج من السلطان شبرا
1 البخاري: الفتن (7056)، والنسائي: البيعة (4149 ،4151 ،4152 ،4153 ،4154)، وابن ماجه: الجهاد (2866) ، وأحمد (3/441 ،5/316 ،5/318 ،5/319 ،5/325)، ومالك: الجهاد (977) .
2 مسلم: الإمارة (1847) ، وأحمد (5/403) .
فمات، مات ميتة جاهلية " 1 وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 2 فذكر في هذا الحديث: البيعة والطاعة; فالخروج عليهم نقض للعهد والبيعة، وترك طاعتهم ترك للطاعة، وبهذه الأحاديث وأمثالها، عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وعرفوا أنها من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية، والحجاج، ومن بعدهم خلا الخليفة الراشد، عمر بن عبد العزيز، أمورا ظاهرة ليست خفية، ونهوا عن الخروج عليهم، والطعن فيهم، ورأوا أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين، إلى طريقة الخوارج.
ولهذا لما حج ابن عمر رضي الله عنهما مع الحجاج، وطعن في رجله، قيل له أنبايعك على الخروج على الحجاج وعزله؟ وهو أمير من أمراء عبد الملك بن مروان، غلظ الإنكار عليهم، وقال:(لا أنزع يدا من طاعة) ، واحتج عليهم بالحديث الذي تقدم ذكره; فإذا فهمتم ذلك، فاشكروا نعمة الله عليكم بما من به من إمامة إسلامية، تدعوكم إليه ظاهرا وباطنا، مما سمعتم وصدقه الفعل، من بذل المال والسلاح والقوة، وإعانة المهاجرين لأجل دينه، لا لقصد
1 البخاري: الفتن (7053)، ومسلم: الإمارة (1849) ، وأحمد (1/275 ،1/297 ،1/310)، والدارمي: السير (2519) .
2 مسلم: الإمارة (1851) ، وأحمد (2/70 ،2/83 ،2/93 ،2/97 ،2/123 ،2/133 ،2/154) .
سوى ذلك، يعرف ذلك من عرفه، ولا يجحده إلا منافق فارق بقلبه ونيته، ما اعتقده المسلمون وقاموا به.
وأما الطعن على العلماء، فالخطأ ما يعصم منه أحد، والحق ضالة المؤمن، فمن كان عنده علم يقتضي الطعن، فليبين لهم جهارا، ولا يخاف في الله لومة لائم، حتى يعرفوا حقيقة الطعن وموجبه، واحذروا التمادي في الضلالة، والخروج عن الجماعة، فالحق عيوف، والباطل شنوف، والشيطان متكئ على شماله، يدأب بين الأمة بالعداوة والشحناء، عياذا بالله من فتنة جاهل مغرور، أو خديعة فاجر ذي دهى وفجور، يميل به الهوى، ويزين له الشيطان طريق الغواية والردى.
والله أسأل أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
وله أيضا، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، إلى جناب عالي الجناب، الإمام المفخم، والرئيس المكرم. عبد العزيز بن الإمام عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله
تعالى، وأكرمه بتقواه، ونظمه في سلك من خافه واتقاه، وبتر من شنأه وقلاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالسبب الداعي لتحريره محض النصيحة، وتفهم حفظك الله: أن الله سبحانه وبحمده، ما أنعم على عباده نعمة أجل وأعظم من نعمة الإسلام، لمن تمسك به، وقام بحقوقه، ورعاه حق رعايته، ومن أعظم فرائض الإسلام، التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم: الجماعة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه:" لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة " 1 وهذا أمر غير خفي عليك، ولا على أحد له معرفة بفرائض الإسلام، ومن الله سبحانه وبحمده في آخر هذا الزمان - الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، وظهر فيه الفساد في البر والبحر ـ بفضله وكرمه بهداية غالب بادية أهل نجد خصوصا رؤساؤهم، وجعل الله سبحانه وبحمده لك حظا وافرا في إعانتهم، ببناء مساجدهم ومدنهم، وفشا الإسلام في نجد جنوبا وشمالا، والله سبحانه وبحمده له حكمة، وله عناية بعباده، لا يعلمها إلا هو.
ورأينا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ودخول التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم، بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك،
1 الدارمي: المقدمة (251) .
إلا بولايته; وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فأخبر بشروطه بقوله صلى الله عليه وسلم:" من أنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فهو المجاهد في سبيل الله ". والذي يعقد له راية، ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله.
وقد علمت حفظك الله: أنه لما صدر من الدويش جهلا منه، واستفتيت عالما من علماء المسلمين، وأفتاكم بالحق والدين، الذي يدان الله به، لم يلتفت إليه، وهذا من أعظم الوهن في دين الله، أن العالم يفتى بالحق، ويعارض بالهوى والجهل، مع أن الذين وقع الأمر عليهم، لم ينبذ إليهم على سواء، واستباحوا غنائمهم من غير أمر شرعي.
فالواجب عليك: حفظ ثغر الإسلام عن التلاعب به، وأنه لا يغزو أحد من أهل الهجر إلا بإذن منك، وأمير منك لو صاحب مطية، وتسد الباب عنهم جملة، لئلا يتمادوا في الأمر، ويقع بسبب تماديهم وتغافلكم خلل كبير، وذكرنا هذا قياما بالواجب من النصيحة لك، وخروجا من كتمان العلم، والله يمدك بمدد من عنده، ويعينك على ما حملك، وصلى الله على محمد، سنة 1338 هـ.
وقال بعضهم، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لتوحيد العبادة، الذي هو أساس الملة والدين، ومفتتح دعوة المرسلين، وقد غلط في مسمى التوحيد، الأذكياء من المتأخرين، والفقهاء، والصوفية، والمتكلمين، وهذا التوحيد هو توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا الله وحده، وأن لا يعبد إلا بما شرع، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] .
والآيات في هذا التوحيد، أكثر من أن تحصر; فوفقنا سبحانه وبحمده، لفهم ما اختلف فيه من الحق بإذنه، وكان بحمد الله عن علم وإخلاص، وصدق ويقين، وجعلنا على ذلك مجتمعين مؤتلفين، متناصرين غير مفترقين، ولا مختلفين، اللهم اجعلنا لنعمك شاكرين ذاكرين، وبالعمل بكتابك معتصمين مستمسكين.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
وبعد: فإن الله تعالى أكمل لنا الدين، وأتم نعمته على
عباده المؤمنين، فيما أوحاه إلى عبده ورسوله الصادق الأمين، فقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] وأوجب على عباده أن يكونوا بحبله معتصمين، وبالعمل به مستمسكين، فقال جل ذكره:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102] وحبله هو القرآن، والتمسك به علما وعملا، يجمع الإسلام والإيمان وشرائع الدين.
وذلك لا يحصل للمسلمين المؤمنين، إلا إذا كانوا على العمل بالحق مجتمعين مؤتلفين، متعاونين متناصرين، فبهذا يكون لهم الظهور، ويقوم به الدين، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] فأمر تعالى عباده بإقامة الدين، الذي أكمله لهم على لسان سيد المرسلين، ونهاهم عن التفرق فيه، لأن التفرق ينافي إقامة الحق الذي شرعه، وبعث به هذا النبي الذي ختم به المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولما كان هذا الاجتماع العظيم، وما يحصل به من المصالح العظيمة، وعدم التفرق والاختلاف، يتوقف على
مشروعية نصب إمام، يبايعه المسلمون على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والأثرة عليهم، ولهذا بايع المهاجرون والأنصار، أبا بكر الصديق رضي الله عنه في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية التفرق والاختلاف، رضي الله عنهم أجمعين، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .
وفي الأحاديث أيضا ما يؤكد ذلك ويوجبه، لما فيه من المصالح، لأن عدمه يفضي إلى التفرق والاختلاف، وذهاب الدين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به " 1، وعن أنس مرفوعا:" اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " 2، وعن عبادة بن الصامت، قال:" بايعنا سول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى الأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كان، لا نخاف في الله لومة لائم ".
وعن أبي هريرة مرفوعا: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا إلا مات ميتة
1 البخاري: الجهاد والسير (2957)، ومسلم: الإمارة (1835 ،1841)، والنسائي: البيعة (4193 ،4196) والاستعاذة (5510)، وابن ماجه: المقدمة (3) والجهاد (2859) ، وأحمد (2/244 ،2/252 ،2/270 ،2/313 ،2/342 ،2/386 ،2/416 ،2/467 ،2/471 ،2/511 ،2/523) .
2 البخاري: الأذان (693)، وابن ماجه: الجهاد (2860) ، وأحمد (3/114 ،3/171) .
جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو أو ينصر عصبية، فيقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي بسيف، يضرب برها وفاجرها، لا يخشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه " 1.
وسأل يزيد بن سلمة الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت يا رسول الله، إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " وعن ابن عمر مرفوعا " من خلع يدا من طاعة أميره، لقي الله ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 2.
وعن الحارث الأشعري مرفوعا " آمركم بخمس، بالجماعة، والسمع، والطاعة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثى جهنم، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم "3. وفي صحيح مسلم مرفوعا: " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه " 4. ولم نذكر من الأحاديث إلا بعضها، وفيما لم نذكر تشديد في حق من خرج عن الجماعة، وعصى الإمام، ولم يسمع ويطع للإمام.
نسأل الله: أن يجعلنا على الحق أعوانا، وعلى طاعته إخوانا، مؤتلفين، آمين، وأن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا
1 مسلم: الإمارة (1848)، والنسائي: تحريم الدم (4114)، وابن ماجه: الفتن (3948) ، وأحمد (2/296 ،2/306 ،2/488) .
2 مسلم: الإمارة (1851) ، وأحمد (2/111) .
3 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/130 ،4/202 ،5/344) .
4 مسلم: الإمارة (1852) .
من دين الإسلام، والاجتماع عليه، والدعوة إليه، والحث على لزومه بذكره، وعدم الغفلة عنه، والقيام بالنصيحة لمن وجبت له، وبالله التوفيق.
وعلى الإمام وفقه الله تعالى: أن يعمل بثلاث آيات من كتاب الله، تجمع له الخير كله، وتدفع عنه الشر كله، ونظائرها في الكتاب والسنة كثيرة جدا، الآية الأولى، قوله:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] فنهاه تعالى عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، لما فيه من مخالفة الشريعة والخروج عنها، إلى ما يسخط الله تعالى، ويحل نقمته وعقوبته، والشريعة: ما أمر الله به رسوله والمؤمنين، وأوجب عليهم أن يفعلوه، وأن يتركوا ما نهاهم عنه، خالصا لوجهه الكريم.
ومن ذلك: الذي أمر الله به نبيه، وأوجبه عليه، وعلى من ولي أمر المسلمين إلى يوم القيامة، قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران آية: 159] وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذه الآية فيما صح عنه، ففي صحيح مسلم وغيره، أنه قال: " اللهم من ولي من أمور
أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه " 1. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراءه وعماله، ويقول: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " ويقول:" إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين " 2 والتيسير دعوة إلى الإسلام، وترغيب للناس في قبوله، والدخول فيه، لأن من صحت سريرته، وحسنت سيرته، أقبلت القلوب إليه، وصغت إليه، وصفت عليه، والضد بالضد، وبالله التوفيق، والعمل بهذه الآيات والأحاديث، من أعظم ما تشكر به النعم، وتستدفع به النقم.
ومما أمر الله به نبيه، ورضيه له واختاره له ولأنبيائه ورسله، ولمن له عقل ودين، قوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] . فما أعظمها من آية، وما انفعها للقلوب لمن عمل بها؟! فذكر الخير وسببه وأمر به، وذكر الشر وسببه ونهى عنه أشد النهي، فتدبر.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أراد الله بالأمير خيرا، جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه "3.
1 مسلم: الإمارة (1828) ، وأحمد (6/257) .
2 البخاري: الوضوء (220)، والترمذي: الطهارة (147)، والنسائي: الطهارة (56) والمياه (330)، وأبو داود: الطهارة (380) ، وأحمد (2/239 ،2/282) .
3 النسائي: البيعة (4204)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2932) .
وعن أبي سعيد مرفوعا: " ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ". وفي الحديث الصحيح: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " 1 وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخوين: فيصل الدويش، وسلطان بن بجاد بن حميد، ومن لديهما من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا الكتاب، والداعي إليه، هو النصح لكم والشفقة عليكم، لأن من حقكم علينا بذل ذلك لكم، وقد بلغنا اجتماعكم، وتزاوركم، فإن كان المراد بذلك التذكر بما من الله به عليكم، من نعمة الإسلام، واجتماع الكلمة، وذهاب العدو، والحرص على التزام هذه الإمامة والولاية، والقيام بحقها، فما أحسن ذلك.
وإن كان الاجتماع إنما هو للتفرق والاختلاف، الذي
1 البخاري: النكاح (5188)، ومسلم: الإمارة (1829)، والترمذي: الجهاد (1705)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) ، وأحمد (2/5 ،2/54 ،2/108 ،2/111 ،2/121) .
هو من دين الجاهلية الأولى، والطعن على من ولاه الله عليكم، وعيبه، وثلبه، وتتبع عثراته للتشنيع عليه، ونسبة علمائه إلى المداهنة والسكوت، فهذه- والله- وصمة عظيمة، وزلة وخيمة، وقاكم الله شرها، وحال بينكم وبين أسبابها. فأذكركم إخواني أولا: نعمة الإسلام، وما من الله به عليكم من الانتقال، عن عوائد الآباء والأجداد، وسوالفهم، التي خالفوا في أكثرها ما جاء في الكتاب والسنة، واتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله بعثته رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على أعداء الملة والدين، فاشكروا مولاكم على ذلك.
واشكروه أيضا: على ما من به في هذا الزمان، من ولاية هذا الإمام، الذي أسبغ الله عليكم على يديه، من النعم العظيمة، ودفع به عنكم من النقم الكثيرة، وخولكم مما أعطاه الله، وتابع عليكم إحسانه، صغيركم وكبيركم، وقام بما أوجب الله عليه، حسب الطاقة والإمكان، ونظره في مصالح المسلمين، وما يعود نفعه عليهم، ودفع المضار عنهم، وحسم مواد الشر أولى من نظركم، والكمال لم يحصل لمن هو أفضل منه.
فالذي يطلب الأمور على الكمال، وأن تكون على سيرة الخلفاء، فهو طالب محالا; فاسمعوا له وأطيعوا، وراعوا حقه وولايته عليكم، واحذروا غرور الشيطان، وتسويله
وخدعه ومكره، فإنه متكئ على شماله، يدأب بين الأمة بإلقاء الشحناء والعداوة، وتفريق الكلمة بين المسلمين عادة له مذ كان، ولا يسلم من مكره إلا من راقب الله في سره وعلانيته، ووقف عند أقواله وأعماله، وحركاته وسكناته، وتفكر في عاقبة ما يصير إليه في ماله، وراجع أهل البصائر والمعرفة من أهل العلم، الذين لهم قدم راسخ في المعرفة والفهم.
فإن كان أحد ممن يدعي العلم زين لكم ذلك، وألقى عليكم التشكيكات والتشبيهات، وحسن لكم طريقة أهل البدع والضلالات، فاعلموا: أنه منفاخ سوء، يبدي لكم ما يخفيه كيره، ويلبس عليكم دينكم، فإن كان يدعي أن معه دليلا، من الكتاب والسنة، في الطعن على الأئمة والولاة وعلمائهم، فليبرز إلينا بما لديه، فنحن له مقابلون ومناظرون بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء المهديين، التي تجلو عن القلب عماه، وترد المعارض عن انتكاسه.
فوالله ثم والله: إنا لا نعلم على وجه الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، شخصا أحق وأولى بالإمامة منه، ونعتقد صحة إمامته وثبوتها، لأن إمامته إمامة إسلامية، وولايته ولاية دينية، فلو نعلم أن عليه من المثالب والمطاعن شيئا يوجب مخالفته ومنابذته، لكنا أولى منكم بالنصح له
وتحذيره ومراجعته، فإنه- ولله الحمد- يقبل الحق ممن جاء به، ولا يستنكف من الناصح، ومقاماته ونصحه، ومدافعته عن الإسلام وأهله، وبذل إحسانه، وعفوه وعدم انتقامه، شهيرة بين الورى، لا يجحدها إلا معاند مماحل.
وأيضا: حرصه على اجتماع المسلمين، وعدم اختلافهم معلوم، لا يخفى على منصف، فأفيقوا عن سكرتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وأقول لكم مثل ما حكاه الله عن مؤمن آل فرعون {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [سورة غافر آية: 44] .
فلا تنسوا عباد الله إحسان إمامكم، ومعروفه عليكم، فإن نعمة الله تترى عليكم باطنا وظاهرا، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت وجحدت فرت، فارجعوا إلى مولاكم بالتوبة والندم، والانطراح بين يدي الله أولا، لأنه مقلب القلوب والأبصار، وبين يدي إمامكم وعلمائه ترشدوا، فهذا الواجب لكم علينا، الذي تعبدنا الله به، وهو الذي نحبه ونرضاه لكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[ما من الله به من هذا الدين والاجتماع عليه]
وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ محمد بن
إبراهيم بن عبد اللطيف، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ونشهد: أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبة، والتابعين، ومن سلك طريقهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه لا يخفى على من نور الله قلبه، وألهمه رشده، ما من الله به على أهل نجد، من معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، والدعوة إليه على بصيرة، والاجتماع على ذلك، والائتلاف عليه، وما حصل بذلك من العز والظهور، وإقامة دين الله، وقهر أعدائه.
وقد كان أهل نجد، قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها على يد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في شر عظيم من التفرق والاختلاف، والفتن العريضة، من الشرك بالله فما دونه، من سفك الدماء، وأخذ الأموال بغير حق، وإخافة السبل، وليس لهم إمامة يجتمعون عليها، ولا عقيدة صحيحة يعولون عليها، بل هم في أمر مريج، حتى أزال الله ذلك بدعوة هذا الشيخ، رحمه الله تعالى.
فإنه قام بهذه الدعوة أتم القيام، ووازره على ذلك، ونصره الإمام محمد بن سعود، وأولاده وإخوانه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، فبسببهم دخل الناس في دين الله أفواجا، ونفذت الدعوة الإسلامية، وشملت كافة أهل نجد، البادية والحاضرة، وقام علم الجهاد، وانقمع أهل الغي والفساد.
ثم لما وقع الخلل من كثير من الناس، من عدم القيام بشكر هذه النعمة ورعايتها، ابتلوا بوقوع التفرق والاختلاف، وتسلط الأعداء، والرجوع إلى كثير من عوائدهم السالفة، حتى من الله في آخر هذا الزمان، بظهور الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أيده الله ووفقه، وما من الله به في ولايته، من انتشار هذه الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، وقمع من خالفها، وإقبال كثير من البادية
والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة.
وكذلك ما حصل بسببه، من هدم القباب، ومحو معاهد الشرك والبدع، وردع أهل المعاصي والمخالفات، وإقامة دين الله في الحرمين الشريفين، زادهما الله تعالى تشريفا وتكريما، وكذلك ما من الله به على قبائل العرب، من الاجتماع بعد الفرقة، والائتلاف بعد العداوة التي كانت بينهم، والأمن والطمأنينة بعد الخوف، حتى صار الراكب يسير من الشام إلى اليمن، لا يخشى إلا الله. وهذه النعم يجب شكرها على جميع المسلمين، والحذر من الأسباب التي توجب زوالها، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك.
إذا علم ذلك فإنه لما رأينا ما وقع من كثير من الناس من الاختلاف، والخوض في دين الله، والقول على الله بلا علم، والتجرؤ على ذلك، من غير مبالاة بالكلام على جهل، وعدم بصيرة فيما يتكلم به الإنسان، خشينا أن تكون هذه الأمور، سببا لزوال النعمة العظيمة، فتعين علينا أن نكتب هذه الكلمات، نصيحة لله ولعباده، أخذا بقوله صلى الله عليه وسلم:" الدين النصيحة "1، قالها ثلاثا.
فنقول: الكلام في هذا المقام، على فصول: الفصل الأول: في القول على الله وعلى رسوله بلا علم، الفصل الثاني: في حقوق الإمامة والبيعة، وما يجب لولي الأمر من الحقوق على رعيته، وما يجب لهم عليه، الفصل الثالث:
1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .
في التحذير من التفرق والاختلاف، وبيان حرمة المسلم، وما يجب له من الحقوق.
الفصل الأول: في القول على الله وعلى رسوله بلا علم
ليعلم الناصح لنفسه: أن القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكامه ودينه، من أعظم المحرمات، كما قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية: 116] .وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يقل علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار "1 رواه البخاري.
قال ابن القيم: رحمه الله تعالى، في "أعلام الموقعين"- في الكلام على الآية الأولى-: إنه سبحانه وتعالى رتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منها، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في
1 البخاري: العلم (109) .
أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه.
وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 116-117] فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم - لما لم يحرمه- هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه: أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال، وهذا حرام، إلا لما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه.
وقال بعض السلف، ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرم كذا، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله، وحرمه الله، بمجرد التقليد، أو التأويل، انتهى.
فتبين مما تقدم: تحريم القول على الله بلا علم، وتحريم الإفتاء في دين الله وشرعه، بمجرد الرأي والهوى، وفاعل ذلك ومنتحله، يبوء بإثمه وإثم من استفتاه، قال تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] .
وقال ابن القيم أيضا، في كتابه "الأعلام": وقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أفتى بغير علم
كان إثم ذلك على الذي أفتاه " 1 وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 2 وفي أثر مرفوع، ذكره أبو الفرج وغيره: " مَن أفتى الناس بغير علم، لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض ".
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها.
وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت الله يقول:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [سورة المزمل آية: 5] فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، وقال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، انتهى.
ومن القول على الله بلا علم: تفسير القرآن بغير معناه، والاستدلال به على غير المراد به، استنادا إلى الآراء والأهواء والشهوات، وهذا يفعله كثير من الجهلة الغوغاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال في القرآن برأيه، أو
1 أبو داود: العلم (3657)، وابن ماجه: المقدمة (53) ، وأحمد (2/365) .
2 البخاري: العلم (100)، ومسلم: العلم (2673)، والترمذي: العلم (2652)، وابن ماجه: المقدمة (52) ، وأحمد (2/162 ،2/190 ،2/203)، والدارمي: المقدمة (239) .
بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار، وأخطأ ولو أصاب " 1.
وقال أبو بكر الصديق لما سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: "أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم " وعن عمر رضي الله عنه قال: " ما أخاف على هذه الأمة، من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا فاسق بين فسقه، ولكن أخاف عليها رجلا قرأ القرآن، حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله " رواه ابن عبد البر.
فالواجب على طالب الحق، إذا أشكل عليه شيء، سؤال العلماء، والرجوع إليهم في الأحكام الشرعية، قال الله تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: أن من اتخذ رؤساء جهالا، فسألهم فأفتوه بغير علم، فقد ضلوا وأضلوه، وفي حديث صاحب الشجة " ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال "2. وقال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ومما ينبغي التنبيه عليه: ما وقع من كثير من الجهلة، من اتهام أهل العلم والدين، بالمداهنة والتقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه، وكتمان ما يعلمون من الحق، والسكوت عن بيانه، ولم يدر هؤلاء الجهلة: أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض
1 الترمذي: تفسير القرآن (2951) ، وأحمد (1/233 ،1/269) .
2 أبو داود: الطهارة (336) .
المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] .
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من
…
اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
فإذا سمع المنصف هذه الآيات، والأحاديث، والآثار، وكلام المحققين من أهل العلم والبصائر، وعلم أنه موقوف بين يدي الله، ومسئول عما يقول ويعمل، وقف عند حده، واكتفى به عن غيره، وأما من غلب عليه الجهل والهوى، وأعجب برأيه، فلا حيلة فيه، نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الفصل الثاني: في حقوق الإمامة والبيعة،
وما يجب لولي الأمر على رعيته، وما يجب لهم عليه.
قد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 58-59] .
قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى في "السياسة الشرعية": قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الآية الثانية في الرعية، من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الامر الفاعلين لذلك، في قسمهم وحكمهم، ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لم يفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأديت حقوقهم إليهم، كما أمر الله ورسوله، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .
وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذا يجمع السياسة العادلة، والولاية
الصالحة، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:" دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان "1.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه "2.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى به وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، فإن نومه ونبهته أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف " 3 رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مرفوعا:" الأمير يسمع له ويطاع فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " 4 أخرجاه.
ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: " تكون بعدي أئمة لا يهتدون
1 البخاري: الفتن (7056)، والنسائي: البيعة (4149 ،4151 ،4152 ،4153 ،4154)، وابن ماجه: الجهاد (2866) ، وأحمد (3/441 ،5/316 ،5/318 ،5/319 ،5/325)، ومالك: الجهاد (977) .
2 مسلم: الإمارة (1848)، والنسائي: تحريم الدم (4114) ، وأحمد (2/296، 2/306، 2/488) .
3 النسائي: الجهاد (3188)، وأبو داود: الجهاد (2515) ، وأحمد (5/234)، والدارمي: الجهاد (2417) .
4 البخاري: الأحكام (7144)، ومسلم: الإمارة (1839)، والترمذي: الجهاد (1707)، وأبو داود: الجهاد (2626)، وابن ماجه: الجهاد (2864) ، وأحمد (2/17 ،2/142) .
بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع "1. وفي حديث الحارث الأشعري، الذي رواه الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن، السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2.
قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى: وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة، انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس، من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم، إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، إلى أن قال: فإن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم،
1 مسلم: الإمارة (1847) .
2 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/130 ،4/202 ،5/344) .
وإقامة الحدود، لا يتم إلا بالقوة والإمارة.
ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان- إلى أن قال- فالواجب اتخاذ الإمارة دينا، وقربه يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال، انتهى.
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح الأربعين" وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد، في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:" إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله ".
وقال الحسن في الأمراء: " هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود؛ والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا؛ والله لما
يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر " انتهى.
إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام العلماء المحققين، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبين أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، بغزو أو غيره، معصية ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.
وأما ما قد يقع من ولاة الأمور، من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر، والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر، الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه، من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى في رسالة له، ذكرناها ههنا لعظم فائدتها، قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن
عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء، حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين ينكر منكرا، وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر، إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان.
وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1. وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه، صابرا على ما جاءه من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه.
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
وأيضا، يذكر العلماء: أن إنكار المنكر، إذا صار يحصل بسببه افتراق، لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا، صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه. وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة، لو صار أهل الدين واجب عليهم إنكار المنكر، فلما غلظوا الكلام، صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار فيه مضرة على الدين والدنيا، وهذا الكلام وإن كان قصيرا، فمعناه طويل، فلازم لازم، تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله.
والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد؛ فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير، ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية. وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم ثم يرسلونها لحرمة والمجمعة، ثم للغاط والزلفى، والله أعلم.
وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين": المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجابا إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان
إنكار منكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة، إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء، الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا أفلا نقاتلهم؟ فقال:" لا، ما أقاموا الصلاة " 1، وقال:" من رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر ولا ينْزعن يدا من طاعة " 2 ومن تأمل ما جرى على الإسلام، في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر طلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، انتهى.
وقال ابن مفلح، في "الآداب": قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق، إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى- وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك - ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولاتخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا- يعني نزع أيديهم من طاعته- صوابا هذا خلاف الآثار، اهـ.
1 مسلم: الإمارة (1855) ، وأحمد (6/24)، والدارمي: الرقاق (2797) .
2 البخاري: الفتن (7054)، ومسلم: الإمارة (1849) ، وأحمد (1/275 ،1/297 ،1/310)، والدارمي: السير (2519) .
إذا تقرر ذلك، فليعلم: أن الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، قد ثبتت بيعته وإمامته، ووجبت طاعته على رعيته فيما أوجب الله من الحقوق، فمن ذلك أمر الجهاد، ومحاربة الكفار ومصالحتهم، وعقد الذمة معهم، فإن هذه الأمور من حقوق الولاية، وليس لآحاد الرعية الافتيات، أو الاعتراض عليه في ذلك، فإن مبنى هذه الأمور، على النظر في مصالح المسلمين العامة والخاصة، وهذا الاجتهاد والنظر، موكول إلى ولي الأمر، وعليه في ذلك تقوى الله، وبذل الجهد في النظر بما هو أصلح للإسلام والمسلمين، ومشاورة أهل الرأي والدين والنصح من المسلمين.
ويجب عليه النصح لرعيته، والشفقه عليهم، والرفق بهم، والنظر في جميع ما تنتظم به مصالح دينهم ودنياهم، من حماية حوزة الإسلام، والذب عنها، وإقامة العدل بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الحقوق اللازمة إلى مستحقيها، فإن قصر عن القيام ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعية أن ينازعه الأمر من أجل ذلك، كما ثبتت بذلك الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بوجوب السمع والطاعة، والوفاء بالبيعة، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان.
الفصل الثالث: في التحذير من التفرق والاختلاف وبيان حرمة المسلم وما يجب له من الحقوق
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102]{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103]{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104]{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105]{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 106] قال بعض المفسرين تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في "المنهاج" في الكلام على هذه الآيات-: فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه وبدينه، وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة، فإن القرآن يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده، وأمره وطاعته، والاعتصام
به جميعا، إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته: الإخلاص لله.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1. والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين، أحياءهم وأمواتهم، وحرم دماءهم وأموالهم، وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: " إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع " 2.
وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] فمن أذى مؤمنا حيا أو ميتا، بغير ذنب يوجب ذلك، فقد دخل في هذه الآيات، ومن كان مجتهدا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه، أو غفر له بسبب آخر، لم يبق عليه عقوبة، فآذاه مؤذ، فقد آذاه بغير ما اكتسب. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
2 البخاري: العلم (67) والحج (1741) والمغازي (4406) والأضاحي (5550) والفتن (7078) والتوحيد (7447)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، وأحمد (5/37 ،5/39 ،5/40 ،5/49)، والدارمي: المناسك (1916) .
" لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه " 1 رواه مسلم.
ولهما عن ابن عمر مرفوعا: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة "2، ولهما عن أنس مرفوعا:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "3.
وهذا الذي ذكرناه في هذه الرسالة، هو الذي نعتقده وندين الله به، وفيه كفاية لمن أراد الله هدايته، وكان قصده طلب الحق، نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة من موجبات سخطه، وأليم عقابه، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجأة نقمته، وجميع سخطه، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[ما من الله به على بادية نجد وما أدخله الشيطان عليهم]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) ، وأحمد (2/277) .
2 البخاري: المظالم والغصب (2442)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2580)، والترمذي: الحدود (1426)، وأبو داود: الأدب (4893) ، وأحمد (2/67 ،2/91) .
3 البخاري: الإيمان (13)، ومسلم: الإيمان (45)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ،5017)، وابن ماجه: المقدمة (66) ، وأحمد (3/176 ،3/206 ،3/251 ،3/272)، والدارمي: الرقاق (2740) .
عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق، على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم المناهج، وأوضح السبل، فشرع الشرائع، وبين الأحكام، ولم يقبضه إليه حتى تم شرعه وكمل، فمن أراد الله سعادته اكتفى بهديه، عن سائر الشرائع والنحل، ومن قضي عليه بالشقاء، صدف عن ذلك وعدل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم العرض من كل كرب ووجل، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الخلق، وخاتم الرسل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين حازوا قصب سبق الفضائل، بالعلم والعمل.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، لما من على بادية نجد، في آخر هذا الزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، والعمل به، وكثر ذلك فيهم وانتشر، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصا على الخير، يئس منهم أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، فأخذ في فتح أبواب من أبواب الشر، حسنها لهم وزينها، وجعلها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهم المتمسكون بملة
إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم.
وهذا هو المعهود من كيد اللعين، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، في "إغاثة اللهفان"، فإنه ذكر: أن الشيطان- لعنة الله- يشم قلب العبد، فإذا رأى فيه كسلا، سعى في رده عن الدين بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعى في حمله على مجاوزة الحق، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله؛ وإذا أخبر بالأمر المشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، الواجب عليك شيء غير هذا، هذا معنى كلامه رحمه الله تعالى.
إذا علم هذا؛ فمن الأمور التي أدخلها على الإخوان- وفقهم الله تعالى- أنه غلظ أمر الأعراب عندهم، حتى صار منهم من يعتقد كفرهم مطلقا، ومنهم من يرى جهادهم، حتى يلتزموا سكنى القرى.
والجواب عن هذا: أن تعلم أيها المنصف، الذي مراده الحق، أن الواجب علينا وعلى جميع المسلمين رد ما تنازعنا فيه، إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى، أو استحسان العقل، والأقيسة الفاسدة، ونحن نطالب من قال ذلك، بدليل من كتاب الله وسنة رسوله، أو نقل من الخلفاء الراشدين، والصحابة المهديين، ومن تبعهم من أئمة الدين.
فإن كان اعتمادهم فيما توهموه، من إلزام البادية
بالسكنى في القرى، على مطلق وجوب الهجرة، فنعرفك عن حقيقة الهجرة الواجبة بالشرع المطهر.
فنقول: الهجرة تجب من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، على من لم يقدر على إظهار دينه، فإن كان المحل الذي فيه الأعراب، تظهر فيه شعائر الشرك، وتفعل فيه المحرمات، وتترك فيه الواجبات، فإن الهجرة تجب من ذلك المحل، إلى بلاد تظهر فيها شعائر الإسلام، سواء كان ذلك في بادية أو حاضرة، وأما البادية الذين هم في ولاية إمام المسلمين، وهم مع ذلك ملتزمون شرائع الإسلام، من الإتيان بأركان الإسلام الخمسة، وترك الشرك والكفر، ولا يظهر فيهم شيء من نواقض الإسلام، فلا تجب عليهم الهجرة إلى القرى، ولا يجوز إلزامهم بذلك.
ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1، وفي رواية " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " 2 أي: من أحدث في ديننا وشرعنا، زيادة لم نشرعها، فمن قال قولا، أو عمل عملا لم يشرعه الله ورسوله، فهو مردود عليه، كائنا من كان، وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240) .
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية: 116] .
ومن نسب إلزام بادية المسلمين بسكنى القرى إلى دين الله ورسوله، فقد افترى وضل، نعم، تستحب الهجرة في حقهم والحالة هذه، لما يترتب على ذلك من حضور الجمع والأعياد، وغير ذلك، من غير إكراه على ذلك، فافهموا حكم الهجرة ومن تجب عليه، وقولوا بعلم، ودعوا الجهل والهوى، واستحسانات العقول، وإن أردتم الدليل على ما قلناه، فانظروا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، وحالهم مع أعرابهم الموجودين في عصر النبوة وما بعده، فإنهم لم يلزموهم بسكنى القرى، فإن كان عند أحد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم فليوجدناه ونقبله على الرأس والعين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي رواه مسلم في صحيحه، في أعراب المسلمين، فإنه قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية " 1 - إلى قوله- " ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله " 2 الحديث ; فدل الحديث على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة.
وقال ابن القيم: رحمه الله تعالى، في الهدي النبوي، في أواخر الوفود:"فصل" في قدوم وفد بني عبس، ” وفد عليه
1 مسلم: الجهاد والسير (1731)، والترمذي: الديات (1408) والسير (1617)، وأبو داود: الجهاد (2612)، وابن ماجه: الجهاد (2858) ، وأحمد (5/352 ،5/358)، والدارمي: السير (2439) .
2 مسلم: الجهاد والسير (1731)، والترمذي: السير (1617) ، وأحمد (5/352 ،5/358) .
بنو عبس، فقالوا يا رسول الله: قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا: أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، وهي معائشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة لة، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا " انتهى.
نعم، يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب شرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وأما إطلاق الكفر على الأعراب بالعموم، فالدليل على منعه قوله تعالى:{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية: 99] الآية.
فإذا علمت أنها لا تجب الهجرة على من كان في بادية المسلمين، تبين لك أنه لا يجوز هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من عرف منهم بالمجاهرة بالمعاصي، والإعلان بها، وهذا ليس خاصا بالأعراب، فإن المجاهر بالمعاصي يشرع هجره، سواء كان ذلك من أهل البادية أو الحاضرة، إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولم يترتب عليه مفسدة، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا كان قد هاجر، وسكن في قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، واعتاش بها هو وعائلته، وخرج لرعيها،
ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل الذي خرج منه، هجر عن السلام في زعم هذا الجاهل: أن خروجه مع إبله وغنمه معصية، وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك مباح، فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم نعم من إبل وغنم، يجعل فيها رعاة يرعونها، وقال الفضل بن العباس:" زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا "1.
وأما من هاجر ثم رجع إلى البادية، منتقلا عن دار هجرته، فإنه عاص ومرتكب كبيرة، إذا لم يكن من نيته الرجوع، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن كان مقصوده الهوى، والتعمق والتكلف، والتضييق على نفسه، وعلى غيره، من غير دليل شرعي، فهو شبيه بمن انحرف عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البدع والضلال.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات". وذلك حين سأل نفر من أصحابه، عن عبادته صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أنا أصوم ولا أفطر، وأصلي ولا أنام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
1 سنن النسائي: كتاب القبلة (753)، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة (718) ، ومسند أحمد (1/211 ،1/212) .
ولما قام أبو إسرائيل في الشمس، أمره أن يستظل ; ومن المعلوم أن مقصود هؤلاء النفر، الحرص على الخير، وطلب الزيادة في العبادة، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الزيادة على المشروع ضرر على صاحبها، وسبب لخروجه عن الصراط المستقيم، ومضاهاته للمغضوب عليهم، والضالين.
[إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له]
ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين: اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع، والعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان، فلا يتلقى العلم إلا عنهم، فمن زهد في الأخذ عنهم، ولم يقبل ما نقلوه، فقد زهد في ميراث سيد المرسلين، واعتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين، الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة.
والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف، أخذ الدين عن أهله، كما قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين، ولم يعرضها على العلماء، بل يعتمد على فهمه، وربما قال: حجتنا مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام، فإن هذا جهل وضلال.
ومن المعلوم: أن أعظم الكلام وأصحه، كلام الله العزيز؛ فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ
لا يعرف معناه، أو أوله على غير تأويله، فقد ضاهى الخوارج المارقين، فإذا كان هذا حال من اكتفى بالقرآن عن السنة، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها، ولا ما يراد بألفاظها؟!
والكتب أيضا فيها من الأحاديث: الصحيح والضعيف، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، فإذا لم يأخذ العامي عن العلماء النقاد، الذين هم للحديث بمنْزلة الصيارفة للذهب والفضة، خبط خبط عشواء، وتاه في وادي جهالة عمياء.
وقد قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في "كتاب أصول الإيمان" باب قبض العلم، ثم ذكر حديث زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال:" ذلك حين أوان ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرئ القرآن أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم، إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك امك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى، يقرؤون التوارة والإنجيل، ولا يعملون بشيء مما فيهما " رواه أحمد وابن ماجه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم ما يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده.
وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق؛ وعليكم بالعتيق " رواه الدارمي بنحوه، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1 انتهى.
إذا عرف هذا تبين أن الذي يدعي أنه يستغنى بمجموعة التوحيد، عن الأخذ عن علماء المسلمين مخطئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن سبب قبض العلم موت العلماء، فإذا ذهب العلماء واتخذ الناس رؤساء جهالا، وسألوهم وأخذوا بفتواهم، ضلوا وأضلوا، عياذا بالله.
ومما أدخل الشيطان أيضا: إساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له، فإن هذا من أعظم المعاصي، وهو من دين الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برأيه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال:" اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ".
فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته، لأنه نائب المسلمين والناظر
1 البخاري: العلم (100)، ومسلم: العلم (2673)، والترمذي: العلم (2652)، وابن ماجه: المقدمة (52) ، وأحمد (2/162 ،2/190 ،2/203)، والدارمي: المقدمة (239) .
في مصالحهم، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم، لأن بولايته يستقيم نظام الدين، وتتفق كلمة المسلمين، لا سيما وقد من الله عليكم بإمام ولايته ولاية دينية، وقد بذل النصح لعامة رعيته من المسلمين، خصوصا المتدينين، بالإحسان إليهم ونفعهم، وبناء مساجدهم وبث الدعاة فيهم، والإغضاء عن زلاتهم وجهالاتهم.
ووجود هذا في آخر هذا الزمان، من أعظم ما أنعم الله به على أهل هذه الجزيرة، فيجب عليهم شكر هذه النعمة ومراعاتها، والقيام بنصرته والنصح له باطنا وظاهرا. فلا يجوز لأحد الافتيات عليه، ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه؛ ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين، وفارق جماعتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله " 1 والمراد بالأمير في هذا الحديث: من ولاه الله أمر المسلمين، وهو الإمام الأعظم.
وقال ابن رجب في "شرح الأربعين" له: وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:(إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله) .
1 البخاري: الأحكام (7137)، ومسلم: الإمارة (1835)، والنسائي: البيعة (4193)، وابن ماجه: الجهاد (2859) ، وأحمد (2/270 ،2/313 ،2/467 ،2/471 ،2/511) .
وقال الحسن في الأمراء: (يلون من أمورنا خمسا، الجمعة والجماعة، والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر) .
وخرج الخلال في كتاب الإمارة، من حديث أبي أمامة، قال:" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حين صلوا العشاء: أن احشدوا، فإن لي إليكم حاجة فلما فرغوا من صلاة الصبح، قال: "هل حشدتم كما أمرتم؟ قالوا: نعم، قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، هل عقلتم هذه؟ ثلاثا، قلنا: نعم، قال: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، هل عقلتم هذه" ثلاثا، قلنا: نعم، قال: اسمعوا وأطيعوا، هل عقلتم هذه؟ ثلاثا، قلنا: نعم. قال: فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتكلم كلاما طويلا، ثم نظرنا في كلامه، فإذا هو قد جمع الأمر كله ".
[التهاجر على غير سبب يوجب ذلك]
ومن الأمور التي أدخلها الشيطان في المسلمين، لينال بها مقصوده من إغوائهم، واختلاف كلمتهم وتفرقهم، ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ينافي ما عقده الله بين المسلمين، من الأخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتواد، والتراحم والتعاطف، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد " 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "2.
وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 53] وقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [سورة الأنفال آية: 46] الآية وقال صلى الله عليه وسلم " لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم " 3 الحديث.
وقد تقدم أن هجر أهل المعاصي يشرع، إذا كانت المصلحة بذلك راجحة على مفسدته، فإذا لم تكن فيه مصلحة راجحة لم يشرع، لما يترتب على ذلك من المفاسد، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، والهجر إنما شرع تأديبا وتعزيرا، بترك السلام عليه، وعدم تكليمه، حتى ينْزجر عن معصيته، وأما ضربه وتعنيفه، فلا أصل له في الشرع.
ومن نسب إلى الشيخ الإمام عبد اللطيف، رحمه الله أنه يضرب كل من سافر إلى بلاد المشركين، فقد افترى؛ والناقل لذلك يطالب بصحة ما نقل عنه، وإن صح من ذلك شيء، فهو محمول على بعض المنتسبين، الذين يقتدى بهم، ويغتر بهم الجهال، والله المسؤول المرجو
1 البخاري: الأدب (6011)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) ، وأحمد (4/270) .
2 البخاري: الصلاة (481) والمظالم والغصب (2446) والأدب (6027)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2585)، والترمذي: البر والصلة (1928)، والنسائي: الزكاة (2560) ، وأحمد (4/405) .
3 البخاري: الأدب (6065)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2559)، والترمذي: البر والصلة (1935)، وأبو داود: الأدب (4910) ، وأحمد (3/110 ،3/165 ،3/199 ،3/209 ،3/225)، ومالك: الجامع (1683) .
الإجابة أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآلة وصحبه وسلم.
[أمر الله بالاجتماع على الدين]
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا من أهل الأرطاوية، والغطغط وغيرهم، من عتيبة، ومطير، وقحطان، وغيرهم من إخواننا المسلمين، نور الله قلوبنا وقلوبهم بنور العلم والإيمان، وجعلنا وإياهم من أتباع السنة والقرآن، وأعاذنا وإياهم من زيغ القلوب ونزغات الشيطان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه الكتاب المبين، وجعله هدى للمتقين، وشفاء ورحمة للمؤمنين، وحجة على المبطلين، وضمن الرحمة والسعادة، والفلاح والهدى، والفوز بالجنة والنجاة من النار، لمن اتبعه وعمل بما فيه.
وتوعد من خالفه أو أعرض عنه، بأنواع من الوعيد قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155] .
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [سورة طه آية: 123-126] قال بعض السلف: تكفل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
ومما أمر الله به في كتابه المبين، وأوحاه إلى رسوله الأمين، الحث على الاجتماع على الدين، والاعتصام بحبله المتين، واتباع سبيل المؤمنين، واجتناب ما ذمه الله سبحانه، من أخلاق من ذمهم في كتابه، من أهل التفرق والاختلاف، والمشاقة له ولرسوله، ومخالفة أهل الصراط المستقيم.
قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] .
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 104-106] قال بعض المفسرين: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف.
وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1.
ومن أعظم: أسباب التفرق والاختلاف، والعدول عن طريق الحق والإنصاف: ما وقع من كثير من الناس، من الإفتاء في دين الله بغير علم، والخوض في مسائل العلم بغير دراية ولا فهم، فإن الله تعالى قد حرم القول عليه بغير علم، في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكام.
وجعل ذلك قرينا للشرك، الذي هو أعظم المحرمات، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل آية: 116] . وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 144] .
وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون فى آخر الزمان، من قبض العلم بذهاب أهله، وظهور الجهل، واتخاذ الناس من الجهلة المفتين بالفتوى المضلة، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
وقال تعالى في هذا الصنف من الناس: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لاينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا "1.
ومما انتحله بعض هؤلاء الجهلة المغرورين: الاستخفاف بولاية المسلمين، والتساهل بمخالفة إمام المسلمين، والخروج عن طاعته، والافتيات عليه بالغزو،
1 مسلم: العلم (1017)، والترمذي: العلم (2675)، والنسائي: الزكاة (2554)، وابن ماجه: المقدمة (203) ، وأحمد (4/357)، والدارمي: المقدمة (512 ،514) .
وغيره، وهذا من الجهل والسعي في الأرض بالفساد بمكان، يعرف ذلك كل ذي عقل وإيمان.
وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد، وقد قيل:
تهدى الأمور بأهل الرشد إن رشدت
…
وإن تولت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا صلاح إذا جهالهم سادوا
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وأنا آمركم بخمس، السمع والطاعة، والجهاد والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 1 وفي الحديث " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم "2.
ومن ذلك: ما وقع من غلاة هؤلاء، من اتهام أهل العلم والدين، ونسبتهم إلى التقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه وتعالى، وكتمان ما يعلمون من الحق، ولم يدر هؤلاء: أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
1 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/130 ،4/202 ،5/344) .
2 الترمذي: العلم (2658) .
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] شعرا:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من
…
اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ومن ذلك: ما التزموه وألزموا به غيرهم من أعراب المسلمين، من ترك سكنى البادية، والتزام الحضر، وإنشاء العمران والبنيان، والتشديد في أمر العمائم، والعدوان على كثير من أهل الإسلام والتوحيد، بالضرب الشديد، والهجر والتهديد، إلى غير ذلك من الأمور التي خرجوا بها عن حكم العقل والعدل والإنصاف، وانتظموا بها في سلك أهل الجهل والظلم والاعتساف، وهم مع ذلك يحسبون أنهم مهتدون، ويزعمون أنهم مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12] .
وهذه الأمور ونحوها، يكفي في ردها مجرد الإشارة والتنبيه، دون بسط القول فيها واستقصاء الأدلة على ردها، فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ولا تكونوا كالذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] ونسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه
المستقيم، ويجنبنا موجبات غضبه، وعذابه الأليم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[يجب الإخلاص ولزوم الجماعة وأخذ العلم من حملته]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من نظر في هذا الكتاب من إخواننا، من أهل الأرطاوية، وغيرهم من أهل البلدان، وفقنا الله وإياهم لصالح العمل، وجنبنا سبل أهل الغواية والضلالة والزلل، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله غيره، على ما أولاه من نعمه العظام، التي أعظمها وأجلها نعمة الإسلام وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، في السر والعلانية، فإنها خير الوصايا، وأعظم الفضائل والمزايا، أوصى بها سبحانه عباده في كتابه، وكرر الأمر بها فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه وخطابة، فقال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] وقال تعالى {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية 71] .
وهذه وصية نافعة، وللحث على اتباع أوامره واجتناب
نواهيه جامعة، وأصل ذلك ما يودعه الله- سبحانه وتعالى في قلب العبد، من معرفته ومحبته، وخشيته والخوف منه، والإنابة إليه، والرضى به ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
ومن أعظم ما يجب علينا وعليكم، مما تضمنته هذه الوصية الإلهية: إخلاص العبادة لله، ومناصحة جميع المسلمين، ولزوم جماعتهم، والتزام السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وترك التفرق والاختلاف، كما جاءت بذلك الآيات المحكمات، وثبتت به الروايات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ الَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 104-106] الآية قال بعض المفسرين: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف.
وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية: 18-19] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 و " قال صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم ".
ولعلكم تعلمون أن أكبر أسباب السعادة والفلاح في المعاش والمعاد: الانتظام في سلك أهل الحق والرشاد، وأعظم أسباب السلامة الهرب من سبل أهل الغي والفساد، واقتباس نور الهدى من محله، والتماس العلم النافع من حملته وأهله، وهم أهل العلم والدين، الذين بذلوا أنفسهم في طلب الحق وهداية الخلق، حتى صاروا شهودا لهم بالهداية والعدالة، وصانوا أنفسهم عن صفات أهل الغي والضلالة.
لا من سواهم من أهل الجهل والضلال، الذين ضلوا وأضلوا كثيرا من العباد، وتكلموا في دين الله بالظن والخرص، وصاروا فتنة للمفتونين، ورؤساء للجاهلين، فكانوا هم وأتباعهم، كالذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أتباع كل ناعق، يميلون
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
مع كل داع لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) .
وقد بلغني عن هذا الجنس، الوقوع في أهل العلم والدين، وإساءة الظن بهم، ونسبتهم إلى ترك ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا من جهلهم، وعدم مبالاتهم بما يقعون فيه من الغيبة لأهل العلم، وثلبهم إياهم، وذمهم وانتقاصهم، ومن وقع في أهل العلم بالعيب والثلب، ابتلاه الله بموت القلب.
وقد ذكرنا لكم في هذه الصحيفة، وما قد سبق لكم منا، ومن غيرنا من إخوانكم، من أهل العلم، من النصائح في الرسائل والمكاتبات، المتضمنة للحث على لزوم جماعة المسلمين، وامتثال أمر من ولاه الله أمرهم، والاقتداء بأهل العلم والدين، وقبول النصيحة منهم، وترك التفرق والاختلاف، واجتناب داعي الهوى والشقاق والخلاف، وذكر أدلة ذلك، والترغيب فيه، وذم من خالفه وأعرض عنه، ما فيه كفاية لمن أراد الله به خيرا، وأما من غلب عليه الهوى، ولم يكن قصده التماس الحق والهدى، فلا حيلة فيه.
تالله ما بعد البيان لمنصف
…
إلا العناد ومركب الخذلان
وحقيق من هذا شأنه أن ينتقل معه بعد الدعوة إلى
الحق والجدال، إلى مرتبة العقوبة والنكال، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ثم إنه ذكر لي: أن بعض هؤلاء الجهلة المغرورين، إذا نصح من عندهم من أهل العلم، انتقل من بلده إلى بلد آخر، قاصدا تحيزه إلى من هو من جنسه، واجتماعه بمن هو على رأيه الفاسد.
وهذا من أسباب الفساد، ووقوع الشر والاختلاف بين العباد؛ فينبغي عدم موافقة هؤلاء على ذلك، وإلزام كل إنسان منهم بسكنى البلد الذي هو فيه، فإن كان قصده طلب الحق والعلم، فعنده من يدله عليه. وعلى أهل البلدان أن ينتبهوا لذلك، وأن يمنعوا من جاءهم من هذا الجنس، من السكنى عندهم، إذا انتقل من بلده لهذا المقصد الرديء.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد.
[حث الإمام الإخوان على لزوم طريقة مجدد الدعوة]
وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فهذه عقيدة شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، الذي أظهر الله به الدين في
نجد، بعد أن كانوا في ضلال مبين، وقوم شرائع الدين، بعدما وهت أركانه بين العالمين، في مراسلاته ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله.
قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم رحمة الله وبركاته.
وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها، وسببها: أن بعض أهل الدين، ينكر منكرا وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر، إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ الَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] الآية وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ".
وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه، صابرا على ما جاءه من الأذى ; وأنتم محتاجون إلى الحرص على فهم هذا والعمل
به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين، من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه.
وأيضا يذكر العلماء: أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه، وسبب هذه القالة التي وقعت بين أهل الحوطة- لو صار أهل الدين واجبا عليهم إنكار المنكر- فلما غلظوا الكلام، صار فيه اختلاف بين أهل الدين، فصار فيه مضرة على الدين والدنيا.
وهذا الكلام وإن كان قصيرا، فمعناه طويل، فلازم، لازم: تأملوه وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن عملتم به صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله.
[كيفية أمر ولي الأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر]
والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية، ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجل يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير، ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية، وهذا الكتاب، كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم، ثم يرسلونها لحرمة، والمجمعة، والغاط،
والزلفى، والله أعلم 1.
إذا تحققتم ذلك، فاعلموا أيها الإخوان: هل أنتم على طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في عقيدته، ومراسلاته، ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله؟ أم أنتم مخالفون له في ذلك، غير متبعين له في أقواله ورسائله ومناصحاته؟ ومتبعون في ذلك أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
فتأملوا رحمكم الله، ما قاله شيخ الإسلام في هذه الرسالة، التي أجاد فيها وأفاد، حيث قال: وسببها أن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب، ولكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] الآية.
إلى قوله: ويذكر العلماء أن إنكار المنكر، إذا صار يحصل بسببة افتراق، لم يجز إنكاره- إلى أن قال- والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره، أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا
1 وتقدمت في صفحة: 119 - 121.
يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا، إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية.
إذا فهمتم ذلك، وتحققتم أنه لا يجوز إنكار المنكر ظاهرا، فالواجب على المسلم: أن ينكر المنكر على من أتى به بخفية، خصوصا إن كان على أمير، فإن إنكار المنكر على الولاة ظاهرا، مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته، فإن لم يقبل المناصحة خفية، فليرد الأمر إلى العلماء، وقد برئت ذمته.
وإنكار المنكر على الولاة ظاهرا من إشاعة الفاحشة، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [سورة النور آية: 19] وإطلاق الفاحشة لفظ عام، يدخل فيه كل ما كان منكرا، وإعمال المطي بين الإخوان، واجتماعاتهم لأجل إنكار المنكر ظاهرا، مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة من العلماء، ولما كان عليه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في هذه الرسالة؛ وهذا منا إعذار وإنذار، لئلا يحتج أحد علينا أنا لم نناصحهم في ذلك، ولم نبين لهم ما عندنا.
وقد سمعنا في الأيام الماضية، ما أجمع عليه الإخوان في هذا الأمر، ولم يمنع المشائخ مناصحتهم في ذلك، إلا ما ذكروه في مراسلاتهم للمشائخ: أنهم على عقيدتهم، وأنه
ليس لهم رأي يخالف رأيهم، وأنهم لا يبدرون في شيء إلا بمراجعتهم، فلما مضوا فيما مضوا فيه، ولم يرفعوا للمشائخ خبرا بذلك، تحققنا أنهم يقولون ما لا يفعلون، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 2-3] .
وأيضا: فها هنا مسألة أخرى، يجب التنبيه عليها، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهي ما ورد في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "1.
ومن سنة الخلفاء الراشدين- أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم أنهم هم الذين بعثوا البعوث، وجندوا الأجناد، وفتحوا الفتوحات العظيمة، كمصر، والشام، والعراق، والفرس، وأنفقوا خزائنها في سبيل الله، كما هو مشهور من سيرتهم، ولم يقل أحد من الصحابه والتابعين رضي الله عنهم: إنا نحن الذين فتحنا هذه الأمصار، بل ذكر العلماء أن الذي فتحها هم الخلفاء الراشدون.
وذكروا أيضا: أن عمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، والخلفاء الراشدون، لم يخرجوا
1 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
من المدينة، ولم يروا هذه الأمصار بأعينهم، إلا ما كان من مسير عمر للشام، لفتح بيت المقدس، وهم الذين تولوا خراجها، ولم يتول خراجها من أرسلهم الخلفاء، إلى هذه الأمصار والأقطار، فهذه سيرة الخلفاء الراشدين.
وآخر من كان على هذه الطريقة المرضية، شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، وآل سعود، رحمهم الله تعالى، فإنه لما سار عثمان المضايفي، وعبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير، وربيع، ومبارك بن روية بالدواسر، وهادي بن قرملة بقحطان، وحصل بينهم الوقعة المشهورة، هم وراجح الشريف، ثم بعد ذلك حاصروا مكة المشرفة، حتى أذعنوا بالصلح، وطلب منهم غالب الشريف الصلح، فلم يقبلوا منه إلا بعد مراجعة الإمام سعود، فأمر بإتمام الصلح، وحج من العام المقبل بجميع المسلمين، ودخلوا مكة آمنين من غير قتال.
ولم يقل أحد من العلماء في تاريخهم، أن الذي فتحها هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وإنما ذكروا أن الذي فتحها سعود، وهو الذي تولى خراجها، ولم يتول خراجها أحد ممن ذكرنا، ولم نسمع في قديم زمان أو حديثه، ممن سلف من الأئمة، ولا من خلف ممن بعدهم، أنهم قالوا بمثل قول هؤلاء. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد.
[مجرد المصالحة لا يكون موالاة]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من تصل إليه هذه النصيحة، من إخواننا المسلمين، جعلهم الله على الحق متعاونين، ولطريق أهل الزيغ والبدع مجانبين، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والموجب لهذه النصيحة، هو ما أخذ الله علينا من الميثاق، في بيان ما علمنا من الحق، وخفي على غيرنا، قال الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، ثلاثا. قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم "1، وقال صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "، وقال عليه الصلاة والسلام:" المؤمن مرآة أخيه "2.
وأيضا: ما بلغني عن بعض الإخوان، من خوض بعضهم في بعض، وكذا في ولي أمرهم، فعن لي أن أذكر كلمات، لعل الله أن ينفع بها، وأسأل الله التوفيق والإعانة،
1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .
2 الترمذي: البر والصلة (1929)، وأبو داود: الأدب (4918) .
وأعوذ به من اتباع الهوى والإهانة، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، ومن قضى عليه بالشقاء فلا حيلة في الأقدار.
فأقول مستمدا من الله الصواب، معتمدا عليه في دفع ما دهى من الحوادث وناب: اعلموا جعلني الله وإياكم ممن علم وعمل، أن القول على الله بغير علم، أعظم من الشرك، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] فجعل القول عليه بغير علم في مرتبة فوق الشرك.
وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم، أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم، بمصالحة ونحوها، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك، أنها هي موالاة المشركين، المنهي عنها في الآيات والأحاديث، وربما فهمتم ذلك من "الدلائل" التي صنف الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، ومن سبيل النجاة للشيخ حمد بن عتيق.
فأولا: نبين لكم سبب تصنيف "الدلائل"، فإن الشيخ سليمان، صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم.
وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل
النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى؛ فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم.
والإمام وفقه الله لم يقع في شيء مما ذكر، فإنه إمام المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولا بد له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول الأجانب، والمشايخ رحمهم الله، كالشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد اللطيف. والشيخ حمد بن عتيق، إذا ذكروا موالاة المشركين، فسروها بالموافقة والنصرة، والمعاونة والرضى بأفعالهم؛ فأنتم وفقكم الله، راجعوا كلامهم، تجدوا ذلك كما ذكرنا.
قال الشيخ حمد بن عتيق، فيما نقله عن الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ، رحمهم الله: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " 1 على ظاهره، وهو: أن الذي يدعى الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنْزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر مثلهم وإن ادعى الإسلام، إلا أن
1 أبو داود: الجهاد (2787) .
يكون يظهر دينه ولا يتولى المشركين، انتهى.
فانظر وفقك الله إلى قوله في هذه العبارة: وكون المشركين يعدونه منهم، يتبين لك أن هذا هو الذي أوجب كفره، وأما مجرد الاجتماع معهم في المنزل، فإن ذلك بدون إظهار الدين معصية، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء آية: 144] يعني: معهم في الحقيقة، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم إنا معكم، فهذا هو الذي أوجب كفرهم لا مجرد المخالطة.
فأنتم وفقكم الله، الواجب عليكم التبصر، وأخذ العلم عن أهله، وأما أخذكم العلم من مجرد أفهامكم، أو من الكتب، فهذا غير نافع، ولأن العلم لا يتلقى إلا من مظانه وأهله، قال تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء آية: 83] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .
وقال شيخ الإسلام، تقي الدين أحمد بن تيمية، رحمه الله، في "المنهاج" بعد كلام سبق: ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بالولاة، وأنه لو تولى من هو دون
هؤلاء، من الملوك الظلمة- يعني يزيد، والحجاج ونحوهما- لكان ذلك خيرا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر، خير من ليلة واحدة بلا إمام.
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لا بد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة. قيل له: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبل، وتقام بها الحدود، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء " ذكره علي بن مهدي في "كتاب الطاعة والمعصية".
وقال فيه أيضا: وأهل السنة يقولون، إنه- أي الإمام- يعاون على البر والتقوى، دون الإثم والعدوان، ويطاع إلى طاعة الله دون معصيته، ولا يخرج عليه بالسيف، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدل على هذا، كما في الصحيحين قال:" من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل، فقتلته جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه ".
فذم الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، وجعل ذلك ميتة جاهلية، لأن أهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، - إلى أن قال -: وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه بعد ذلك يقوم أئمة،
لا يهتدون بهديه، ولا يستنون بسنته، ويقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس، وأمر مع هذا بالسمع والطاعة للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك; فبين: أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلا أو كان ظالما.
وكذلك في الصحيح من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من خلع يدا من طاعة، لقي الله تعالى يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " 1، وفي الصحيحين وغيرهما، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:" دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان "2.
وفي صحيح مسلم، عن عرفجة بن شريح، قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان " 3، وفي لفظ " من أتاكم وأمركم على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه " 4، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا
1 مسلم: الإمارة (1851) ، وأحمد (2/70 ،2/83 ،2/93 ،2/97 ،2/111 ،2/123 ،2/133 ،2/154) .
2 البخاري: الفتن (7056)، والنسائي: البيعة (4149 ،4151 ،4152 ،4153 ،4154)، وابن ماجه: الجهاد (2866) ، وأحمد (3/441 ،5/316 ،5/318 ،5/319 ،5/325)، ومالك: الجهاد (977) .
3 مسلم: الإمارة (1852)، والنسائي: تحريم الدم (4020 ،4021 ،4022)، وأبو داود: السنة (4762) ، وأحمد (4/261 ،4/341 ،5/23) .
4 مسلم: الإمارة (1852)، والنسائي: تحريم الدم (4020 ،4021 ،4022)، وأبو داود: السنة (4762) ، وأحمد (4/261 ،4/341 ،5/23) .
ننابذهم؟ قال: لا، ما صلوا " 1.
وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فلينكر ما يأتي من معصية الله، ولا ينْزعن يدا من طاعة " 2 وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج، هو أصلح الأمور للعباد، في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا، لا يحصل بفعله صلاح، بل فساد، انتهى.
وقال الشيخ: في "السياسة الشرعية": ويجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، لأن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من أمير حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم " 3 رواه أبو داود من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وروى الإمام أحمد في المسند، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض، إلا أمروا عليهم أحدهم "4.
فأوجب على تأمير الواحد في الجمع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم
1 مسلم: الإمارة (1854)، والترمذي: الفتن (2265)، وأبو داود: السنة (4760) ، وأحمد (6/295 ،6/302 ،6/305 ،6/321) .
2 مسلم: الإمارة (1855) ، وأحمد (6/24)، والدارمي: الرقاق (2797) .
3 أبو داود: الجهاد (2608) .
4 أحمد (2/176) .
ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والأعياد، ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة.
ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك؛ ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 1 رواه مسلم، وقال: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2 رواه أهل السنن.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة، ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم "3، فالواجب: اتخاذ الإمارة دينا وقربة، يتقرب بها إلى الله عز وجل، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، أفضل القربات، انتهى.
وقال في "غذاء الألباب": لا ينبغي لأحد أن ينكر على السلطان، إلا وعظا وتخويفا له، وتحذيرا من العاقبة في
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
2 الترمذي: العلم (2658) .
3 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .
الدنيا والآخرة فيجب ; قال القاضي: ويحرم بغير ذلك ; قال ابن مفلح: والمراد ولم يخف منه، بالتخويف والتحذير، وإلا سقط وكان حكم ذلك كغيره.
قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق، إلى أبي عبد الله- يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا- يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك - وما نرضى بإمارته، ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا- يعني نزعهم أيديهم من طاعته- صوابا، هذا خلاف الآثار.
وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يأمر بالكف عن الأمراء، وينكر الخروج إنكارا شديدا، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: الكف، أي: يجب الكف، لأنا نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما صلوا) فلا تنْزع يدا من طاعتهم، مدة ما داموا يصلون، خلافا للمتكلمين في جواز قتالهم، كالبغاة؛ وفرق القاضي بينهما من جهة الظاهر والمعنى، أما الظاهر فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة، بقوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [سورة الحجرات آية: 9] الآية، وفي مسألتنا أمره بالكف عن
الأئمة، بالأخبار المذكورة، وأما المعنى فإن الخوارج يقاتلون بإمام، وفي مسألتنا يحصل قتالهم يغير إمام، انتهى.
قال الإمام: عبد الله بن المبارك، رحمه الله ورضي عنه:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
…
منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة
…
في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل
…
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وفي وصية عمرو بن العاص رضي الله عنه: (يا بني احفظ علي ما أوصيك به، إمام عدل خير من مطر وبل، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم) انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في "المنهاج": ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ومن ممادح أهل العلم: أنهم يخطئون، ولا يكفرون، وسبب ذلك: أن أحدهم قد يظن أن ما ليس بكفر كفرا، انتهى.
فانظروا وفقكم الله، في كلام هؤلاء الأئمة، في حق ولاة الأمر، وحثهم على عدم منازعتهم للأمراء، وتقرير وجوب السمع والطاعة لهم، وإن كان فيهم ما فيهم من الأمور التي ينكرها الشرع، ما لم يظهر منهم كفر بواح; وإمامكم حفظه الله، وأعاذه من مضلات الفتن، وإن كنا لا نعتقد عصمته، فإنه قد أصغى إلى قبول النصيحة من كل
ناصح، وجد في إزالة ما قدر عليه من المنكرات.
ونرجو الله أن يعينه على إزالة كل ما أنكره الشرع المطهر، ولا يكله إلى نفسه طرفة عين؛ وقد انتظم به من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى. هذا، والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم وإياه، لسلوك الصراط المستقيم، ويجنب الجميع طريقة أصحاب الجحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ما من الله به على بادية نجد من الإقبال، وما زين الشيطان لهم من التفرق]
وقال الشيخ: عمر بن محمد بن سليم، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عمر بن محمد بن سليم، إلى كافة الإخوان من أهل الأرطاوية، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء المضلة، والسبل المفضية بسالكها إلى طرق الجحيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة 1 إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل، الذي قصده الحق، فإن الله
1 وتتفق في بعض عباراتها مع رسالة الشيخين: محمد بن عبد اللطيف، وعبد الله العنقري، المتقدمة في الصفحات: 126 - 139.
سبحانه لما من على بادية المسلمين من أهل نجد، في آخر هذه الأزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصا على الخير، وأيس أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، أخذ في فتح أبواب الشر، وحسنها لهم، وزينها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهو المتمسك بملة إبراهيم، ومن تركها فقد ترك ملة إبراهيم.
وهذا من كيد اللعين، كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الشيطان يشم قلب العبد، فإن رأى فيه كسلا، سعى في رده عن دينه بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعى في حمله على مجاوزة الحد، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، فإذا أخبر بالمشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ومن الأمور التي زينها الشيطان: التفرق والاختلاف في الدين ; وسبب ذلك: كلام أهل الجهل بأحكام الشرع، فلو سكت الجاهل سقط الاختلاف؛ والكلام في دين الله بغير علم، وخوض الجاهل في مسائل العلم، قد حرمه الله تعالى في كتابه:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .
ومن كيد الشيطان أيضا، الذي صدهم عن تعلم العلم
وطلبه: إتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع؛ فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، ومن زهد في الأخذ عنهم، فقد زهد في ميراث سيد المرسلين؛ والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف أخذ الدين عن أهله، فإن الفرض الواجب، واللازم لعوام المسلمين، سؤال العلماء وأتباعهم، قال تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنما شفاء العي السؤال " 1 أي: سؤال العلماء، وقال:" يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ".
وأما من رغب عن سؤال العلماء، أو قال: حجتنا الكتاب الفلاني، أو مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك، فإن هذا جهل وضلال. فإن أعظم الكلام كتاب الله، فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ لم يفهم معناه، وأوله على غير تأويله، فقد ضاهى أهل البدع المخالفين للسنة؛ فإذا كان هذا حال من اكتفى بظاهر القرآن، عما بينته السنة، فكيف بمن تعلق بألفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها.
والكتب أيضاً فيها الصحيح والضعيف، والمطلق،
1 أبو داود: الطهارة (336) .
والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ؛ فإذا لم يؤخذ العلم عن العلماء النقاد، الذين من الله عليهم بفهم الكتاب والسنة، ومعرفة ما عليه السلف الصالح والأئمة، وقع في الجهل والضلال، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
إذا عرف هذا، تبين: أن الذي يستغنى بمجموعة التوحيد، أو يقلد من يقرؤها عليه، وهو لا يعرف معناها، قد وقع في جهل وضلال، بل يجب عليه الأخذ عن علماء المسلمين.
ومن كيد الشيطان أيضا: إساءة الظن بولي الأمر، وعدم الطاعة له، وهو من دين أهل الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برأيه وهواه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال " اسمع وأطع، وإن أخذ مالك، وضرب ظهرك ". فتحرم معصية ولي الأمر، والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته، وفي معاقدته ومعاهدته، ومصالحته الكفار.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم حارب وسالم، وصالح قريشا صلح
الحديبية، وهادن اليهود وعاملهم على خيبر، وصالح نصارى نجران، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده؛ ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك، لأنه نائب المسلمين، والناظر في مصالحهم؛ ولا يجوز الافتيات عليه بالغزو، وغيره، وعقد الذمة، والمعاهدة، إلا بإذنه.
فإنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، فإن الخروج عن طاعة ولي الأمر، من أعظم أسباب الفساد، في البلاد والعباد.
ومن كيد الشيطان أنه غلظ أمر الأعراب عند بعض الناس، حتى صار منهم من يتجاوز الحد الشرعي، وحكم عليهم بأحكام مخالفة للكتاب والسنة، فمن الناس من يرى جهادهم حتى يلتزموا سكنى القرى، أو أنهم لا يستقيم لهم دين حتى يهاجروا، فالواجب على كل مسلم رد ما تنازع فيه المتنازعون، إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى.
ومن علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعراب الذين في زمانه، وسيرة الخلفاء الراشدين، تبين له الحق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5]، وقال:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 11] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي في صحيح مسلم، أنه كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، إلى قوله:" ثم ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك لذلك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين "1.
فدل الحديث على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة إلى القرى، ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
وقال ابن القيم رحمه الله في الهدي النبوي، في آخر الوفود- وقدم عليه وفد بني عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئا ".
نعم: يجب على ولي الأمر إلزام الأعراب بشرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وبعث دعاة يعلمونهم شرائع الإسلام. إذا علمت أنه لا يجوز إلزامهم بغير ذلك، تبين لك أنه لا يجوز
1 مسلم: الجهاد والسير (1731)، وأبو داود: الجهاد (2612)، وابن ماجه: الجهاد (2858) ، وأحمد (5/352 ،5/358) .
هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من كان مجاهرا بالمعاصي، وهذا ليس خاصا بالأعراب.
نعم حديث بريدة يدل على استحباب الهجرة لأعراب المسلمين والحالة هذه، وترغيبهم فيها، ولما يترب على الهجرة من تعلم شرائع الإسلام، وشهود الجمع والأعياد. ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا هاجر، وسكن قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، وخرج ليرعاها في وقت من الأوقات، ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل، هجر عن السلام، وفي زعم الذي هجره: أن خروجه مع ماشيته معصية؛ وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك قد أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم نعم من إبل وغنم، يجعل فيها رعاه يرعونها، وقال الفضل بن عباس: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن الأمور التي أدخلها الشيطان على بعض الناس لينال بها مقصوده من إغوائهم، وتفريق كلمتهم، وإلقاء البغضاء بينهم، التي هي الحالقة- أي حالقة الدين- ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف للكتاب والسنة ; وهذا ينافي ما عقده الله بين
المسلمين، من الأخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتراحم، والتواد والتعاطف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " 2 وشبك بين أصابعه، وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [سورة آل عمران آية: 103] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه " 3 الحديث.
ومن كيد الشيطان: ما زينه لبعض الناس من الاستطالة على الناس بالضرب والتعنيف، والكلام السيء، والتوعد للناس، وتعيير الناس وعيبهم، والطعن عليهم، فحسن لهم الشيطان ذلك، وأدخل عليهم أن ذلك من باب الأمر بالمعروف، وإنكار المنكر، وهذه الأفعال من أعظم المنكرات، واستحلالها واعتقاد أنها من الدين أكبر من فعلها. وهؤلاء لم يفهموا إنكار المنكر، الذي جاءت به الشريعة، فإن إنكار المنكر، إزالة المنكر، لا ضرب فاعله،
1 البخاري: الأدب (6011)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) ، وأحمد (4/268 ،4/270 ،4/271 ،4/274 ،4/276 ،4/278 ،4/375) .
2 البخاري: الصلاة (481)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2585)، والترمذي: البر والصلة (1928)، والنسائي: الزكاة (2560) .
3 البخاري: الأدب (6076)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2559)، والترمذي: البر والصلة (1935) ، وأحمد (3/165 ،3/199 ،3/277 ،3/283) .
وأما إقامة الحدود، والتعزير بالضرب والتهديد، والتوعد، فهذا لولي الأمر، دون آحاد الناس، والذي علينا بيان الحق، ونصيحتكم، وإرشادكم إلى ما جاءت به الشريعة. ونسأل الله أن يمن علينا وعليكم، بقبول الحق واتباعه، والثبات عليه، وأن يمن علينا وعليكم بالتوبة إليه، مما يخالف شرعه ودينه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لاتباع السنة والكتاب، وجنبنا طريق أهل الغي والشك والارتياب، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: نظرت في هذه الرسالة الفريدة، والكلمات الطيبة السديدة، التي كتبها أخونا الشيخ عمر بن محمد بن عبد الله آل سليم، سلمنا الله وإياهم من عذاب الجحيم، ووفقنا وإخواننا لسلوك الصراط المستقيم، فوجدتها مشتملة على بيان الحق، جارية على منوال سبيل أهل العلم والنصيحة والصدق، الداعين إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وافية بمقصود الإفادة، مع ذكر الدليل. كافية في تقرير الحق وإيضاحه، والدعوة إلى سواء السبيل، لما تضمنته من الآيات
القرآنية، والأحاديث النبوية، والجمل الصالحة السنية المرضية، المشتملة على النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
فينبغي لمن بلغته هذه الرسالة المفيدة أن يعتبرها، ويعتمد عليها، ويدين الله تعالى بما تضمنته، ويحث من عنده من المسلمين، على الأخذ بها، واتباع ما فيها، وعدم مخالفة ما دلت عليه، من الحق الواضح المستبين:
دعوا كل قول غير قول محمد
…
فما آمن في دينه كمخاطر
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم: إلى الأمير المكرّم، سلطان بن بجاد بن حميد، وعلوش بن خالد، وعبد المحسن بن رجاء، وهندي، وشجاع، وشلويح بن فلاح، سلّمنا الله وإيّاهم من مضلاّت الفتن، السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الكتاب: إبلاغكم السلام، وبيان ما تبرأ به الذمة، وتحصل به النجاة، وتعلمون: أن لي حولا عنكم،
ولم أكتب لكم في هذه المدة مناصحة، لأمرين:
الأول: أني بينت لكم في ذلك مشافهة.
والثاني: أني أخشى عليكم عدم القبول والانتفاع; والآن كتبت لكم نصحا لكم، ومحبة وشفقة عليكم، ولم يطلع على ذلك أحد، واسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
فاعلموا وفقكم الله: أن عقيدتي التي أنا عليها، أني أدين الله بالنصح والمحبة لكم، ولجميع إخواننا المسلمين، إلى أن ألقى الله عز وجل. وأهم شيء أناصحكم فيه، وأعظمه: إجابة داعي الشرع، وأن لا تلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، ومن ذلك إجابة داعي إمام المسلمين، لأنه لم يدع إلى الاجتماع على معصية، وإنما دعا إلى الاجتماع على طاعة الله، وعدم التفرق والاختلاف، وجميع المشايخ يرون ذلك، ويفتون به.
وعدم قدومكم على إمامكم وعلمائكم، من الأمور التي لا يرضى بها لكم، من في قلبه أدنى محبة لكم، أعني المحبة الدينية؛ وهو من أعظم الأمور التي يفرح بها عليكم، وعلى جميع المسلمين، أعداء الدين من الكفار والمنافقين، ومن أعظم أسباب شق العصا؛ وهذا كتاب الله، وتفاسير الأئمة له، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدونة بشروحها، المبينة للمقصود منها، وفي ذلك كله حل المشكل، وكشف
الاشتباه، والشفاء لكل داء، والكفالة بالفلاح والهدى، والنجاة من المهالك والردى.
قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38]{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء آية: 82]{قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 57] وقال صلى الله عليه وسلم " ألا وإني أوتيت القرآن، ومثله معه " 1 وقال صلى الله عليه وسلم " تركتم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "2.
وهؤلاء علماء المسلمين، الذين هم أعلم الناس بمعنى ذلك، ورثوه عن أئمتهم الذين تخرجوا عليهم، وأخذوه عنهم، وربوهم به، كما يربي الوالد الولد، وكتبوا لهم بذلك الشهادات والوثائق، وهم الذين عدلهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ".
وقد عدلهم الله سبحانه، حيث استشهدهم على وحدانيته، في قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] وجعل لهم القول في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] وقال صلى الله عليه وسلم " ألا سألوا إذا لم
1 أبو داود: السنة (4604) ، وأحمد (4/130) .
2 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .
يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال ".
وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 27] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الروم آية: 56] فهؤلاء هم الذين يؤخذ عنهم معاني نصوص الكتاب والسنة، ويرجع إليهم فيها، وأما الجهال فلا يلتفت إليهم، في معاني نصوص الكتاب والسنة، لعدم درايتهم وروايتهم، وتخرجهم على العلماء.
والمقصود: بيان وجوب القدوم على إمام المسلمين، وفرضيته عليكم، وليس لكم عذر في التخلف، ولا حجة، فإن ذلك من السمع والطاعة، التي أوجبها الله ورسوله، لا سيما وهو يدعوكم إلى الشريعة، والرجوع فيما يشكل إلى حملتها، فإن كان عندكم إشكال في بعض المسائل، فالواجب عليكم أحد أمرين: إما القدوم وسؤال طلبة العلم مشافهة، أو مراسلتهم وذكر المسائل المشكلة بأعيانها، وطلب الجواب منهم؛ فإذا أجابوكم فعليكم القبول والإذعان، وحسبكم ذلك، ولا يسعكم سواه.
اللهم اهدنا وإخواننا صراطك المستقيم، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات،
وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم، وأزواجهم ما أبقيتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد.
سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، ومحمد بن الشيخ عبد الله، والشيخ عبد الله بن زاحم، ومحمد بن عثمان الشاوي، والشيخ عبد العزيز الشثري عن مسجد حمزة، وأبا رشيد، والقوانين، ودخول الحاج المصري بالسلاح، إلى آخره؟
فأجابوا بما نصه: أما مسجد حمزة رضي الله عنه وأبا رشيد: فأفتينا الإمام وفقه الله أن يهدمهما على الفور، وأما القوانين: فإن كان شيء منها موجودا في الحجاز، فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر.
وأما دخول الحاج المصري بالسلاح والقوة، في بلد الله الحرام: فأفتينا الإمام بمنعهم من الدخول بالسلاح
والقوة، ومن إظهار الشرك، وجميع المنكرات.
وأما المحمل: فأفتينا بمنعه من دخول المسجد الحرام، ومن تمكين أحد أن يتمسح به أو يقبله، وما يفعله أهله من الملاهي والمنكرات، يمنعون منهاة وأما منعه بالكلية عن مكة، فإن أمكن بلا مفسدة تعين، وإلا فاحتمال أخف المفسدتين، لدفع أعلاها سائغ شرعا.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد بن عبد الله بن الشيخ، والشيخ عبد الله بن بليهد، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن سالم، والشيخ عبد العزيز بن عتيق، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الله السياري، والشيخ حمد آل مزيد، والشيخ محمد آل عثمان الشاوي، والشيخ علي بن زيد، والشيخ مبارك بن باز، والشيخ فالح آل عثمان، والشيخ سعد بن سعود آل مفلح، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ عبد العزيز الشثري، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم، وعمر بن خليفة، وإبراهيم
السياري، وفيصل بن مبارك، وعلي بن داود، ومحمد بن علي البيز:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، محمد وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا جواب عن ثلاث مسائل، أوردها بعض الإخوان..
الأولى: مسألة الجهاد، خصوصا جهاد من بنى هذه القصور، في جزيرة العرب، مما يلي العراق، فنقول: الجواب عن هذه المسألة. أما جهاد من بنى هذه القصور، وساعد على ذلك بحمايته، من بادية العراق أو غيرهم، فجهاده حق واجب على المسلمين، ولا يجوز تركهم، حتى تهدم هذه القصور.
الثانية: مسألة الأتيال1: فالجواب عنها أن نقول: قد تقدم جوابنا فيها مرارا، وليس عندنا إلا ما سبق؛ فمن اعترض فيها ونازع ولي الأمر من جهتها، فهو عاص، ونبرأ إلى الله منه.
1 أي: المبرقات "التلي جراف".
الثالثة: أن من العشائر الذين دخلوا في ولاية المسلمين، طوائف لم يتعلموا دينهم، بل هم باقون على جهلهم، فالجواب: أن مما أوجب الله ورسوله على ولي الأمر: نشر العلم، وإقامة الدين، وإلزام الناس بتعلم ما يجب عليهم من أمر دينهم، وأداء ما أوجب الله عليهم، من توحيد الله، وترك ما يضاده من الشرك، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. والإمام وفقه الله وأعانه: مهتم لهذا الأمر، وقد بعث إلى أكثر القبائل دعاة، يعلمونهم أمر دينهم؛ وإنا نؤمل منه إن شاء الله الاجتهاد التام، وأنه يبعث إلى عموم القبائل، من يقوم بهذا الواجب. وأما الذي ندين الله به، في حقوق الراعي والرعية، فقد بينا ذلك في الرسالة السابقة، المشتملة على ثلاثة فصول، وهي منشورة عند المسلمين. ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وأوصافه العلا أن يمن على الإمام بالقيام بما يجب عليه، وعلى الرعية بالسمع والطاعة. ومن توقف من الرعية، ولم يعمل بما قرره علماء المسلمين، فهو عاص، ونبرأ إلى الله من حاله، والله أعلم، وصلى الله على محمد، سنة 1347 هـ.
وقال أيضا: بعض من تقدم ذكرهم:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، وسليمان سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم:
وبعد: فأشرفنا على كتابكم، الذي أرسلتم إلى الإمام عبد العزيز، سلمه الله تعالى، ذكرتم في آخره: أنا لا نجتمع وإياك إن خالفت شيئا مما ذكرنا، إلا كما يجتمع الماء والنار؛ وهذه كلمة ذميمة، وزلة وخيمة، تدل على أنكم أضمرتم شرا، وعزمتم على الخروج على ولي أمر المسلمين، والتخلف عن سبيل أهل الهدى، وسلوك مسلك أهل الغي والردى، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، وممن فعله أو تسبب فيه، أو أعان عليه، لأنا ما رأينا من الإمام عبد العزيز ما يوجب خروجكم عليه، ونزع اليد من طاعته; وإذا صدر منه شيء من المحرمات، التي لا تسوغها الشريعة، فحسب طالب الحق الدعاء له بالهداية، وبذل النصيحة على الوجه المشروع.
وأما الخروج، ونزع اليد من طاعته، فهذا لا يجوز. وأنتم تزعمون أنكم على طريقة مشائخكم، وأنكم ما تخالفونهم في شيء يرونه لكم؛ ولا ندري من هؤلاء المشائخ، أهم مشائخ المسلمين؟ أم غيرهم، ممن سلك غير سبيلهم، ويريد فتح باب الفتن على الإسلام والمسلمين؟
أين الخط الذي قد شرفتمونا عليه؟ أين السؤال الذي سألتمونا عنه، وأفتيناكم فيه؟ أين الأمر الذي شاورتمونا عليه؟ حتى الخط الذي تدعون أنكم تنصحون الإمام عبد العزيز، عن أمور يفعلها، أنتم مشائخ أنفسكم، تحللون وتحرمون على أنفسكم، ولا ترفعون لنا خبرا في شيء؛ ودعواكم أنكم على طريقة المشائخ، يكذبه ما صدر منكم.
وقد علمتم حقيقة ما عندنا، وما نعتقده من حينما حدث منكم الخوض، وكثرت منكم الخطوط، والمراسلات للإمام، وعرفناكم بما عندنا، وما نعتقد وندين الله به، وهو: وجوب السمع والطاعة، لمن ولاه الله أمر المسلمين، ومجانبة الوثوب عليه، ومحبة اجتماع المسلمين عليه، والبغض لمن رأى الخروج عليه، ومعاداته، اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم:" اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم "1.
والذي نرى لكم: التوبة إلى الله سبحانه، والاستغفار;
1 الترمذي: الجمعة (616) ، وأحمد (5/251) .
وعدم التمادي، والاسترسال، مع دواعي الجهل، والغي والضلال، وأن تلتزموا ما أوجبه الله عليكم، من القيام بالواجبات، واجتناب المحرمات، وملازمة طاعة من ولاه الله أمركم؛ وانظروا وتفكروا في أحوالكم سابقا ولاحقا، واعرفوا نعمة ربكم، واشكروه عليها.
فإنكم كنتم أولا في جاهلية عريضة، وحالة عن الحق بعيدة، رؤساؤكم أكثرهم طواغيت كبار، وعوامكم جفاة أشرار، لا تعرفون حقائق دين الإسلام، ولا تعملون من الحق إلا بما تهوى نفوسكم، مع ما كان بينكم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وتعدي حدود الله، وغير ذلك من المحرمات، وعظيم المنكرات.
ثم هداكم الله لمعرفة دينه، والعمل بتوحيده، وسلوك مسلك أهل الإسلام والتوحيد، وانتشرت بينكم كتب السنن والآثار، ومصنفات علماء الإسلام، ثم أنتم الآن: انتقلت بكم الأحوال، إلى أنكم تحاولون الخروج على الإمام، ومنابذة أهل الإسلام، ومفارقة جماعتهم.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] .
فما أشبه الليلة بالبارحة! وهذا الذي ذكرناه لكم، وأشرنا به عليكم، من السمع والطاعة للإمام، وعدم نزع اليد من طاعته، وعدم الشقاق والخلاف، وترك أسباب التفرق والاختلاف، ومجانبة سبل أهل الغي والضلال، والاعتساف، هو اعتقادنا الذي نحن عليه مقيمون، وله على مر الزمان معتقدون، وبه مستمسكون، وعليه موالون ومعادون، ظاهرا وباطنا، سرا وعلانية.
ومن نسب إلينا غيره، فهو علينا من الكاذبين الظالمين، وسيجزيه الله بما يجزي به الظالمين والمفترين. فإن تبتم إلى ربكم، ورجعتم عما عنّ لكم واستحسنته نفوسكم، فالحمد لله رب العالمين، والمنة لله في ذلك عليكم، وإن أبيتم إلا الشقاق والعناد، وسلكتم مسالك أهل الغي والفساد، فاعلموا: أنا نبرأ إلى الله منكم، ونشهد الله وملائكته وعباده المؤمنين، على خطئكم وضلالكم، وأنكم قد خالفتم ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وعلماء الملة والدين.
وقد قال تعالى: {َمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "1.
1 البخاري: الحج (1870) والجزية (3172 ،3180) والفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300)، ومسلم: الحج (1370)، والترمذي: الولاء والهبة (2127)، والنسائي: القسامة (4734)، وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) ، وأحمد (1/81 ،1/119 ،1/126 ،1/151) .
فنسأل الله: أو يوفقنا وإياكم لسلوك صراطه المستقيم، وأن يجنبنا جميعا مواقع سخطه وعذابه الأليم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[ما يجب من حقوق الإمامة، وأدلة ذلك]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى من يراه من كافة المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم طرق الردى والفضائح، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإني قد أحببت أن أبين لكم، ما رأيت من أمور الإمام أيده الله، مع هذه الطائفة الباغية، نصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإنه ليس الخبر كالعيان، وكنت قبل أظن فيهم بعض المقاصد الحسنة، لما يدعونه من دعوى الجهاد للكفار، فلما بعثني الإمام وفقه الله إليهم، رأيت منهم أمورا ردية، ومقاصد غير مرضية.
ولم أزل أبذل لهم النصيحة، وأحذرهم من أسباب الخزي والفضيحة، وأشير عليهم بالحضور عند الإمام، لأنه نزل معهم إلى غاية، لا تليق بما له من المقام والاحترام، فأبوا الحضور، وتمادوا في العتو والنفور، فلما أعياه
دواهم، وأصروا على متابعة هواهم، أرخى العنان، وأمضى السنان، فعجل حينهم، وفرق ذات بينهم، فنعوذ بالله من الخذلان، ومتابعة الشيطان، فإنه يضل من اتبعه ويغويه، وفي مزلة الهلاك يرميه ويرديه.
هذا، وإني أنصح من كان متابعا لهم اغترارا بدعواهم، أن يراجع الحق، وينظر بعين الإنصاف، ويتوب إلى الله مما جناه من الاقتراف. ويجب على جميع المسلمين نصحهم، والقيام عليهم، حتى يرجعوا إلى الهدى، ويجانبوا طريق الغي والردى، ومن أصر منهم وأبى، فإن على المسلمين زجره وتأديبه، وقمعه وتأنيبه، فإن مرامهم الذي راموا، شق عصا المسلمين، وتفريق جماعتهم، وهذا غاية الخراب لدين المسلمين ودنياهم.
وأنا أذكر ما يجب اعتقاده على كل مسلم، من حقوق الإمامة على المسلمين، حتى يعلم المنصف ما يجب عليه شرعا، فيمتثل المأمور، وتقوم الحجة على كل معاند، وصاحب فجور.
فأقول: اعلم وفقك الله، أنه قد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه، من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "السياسة الشرعية" قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الآية الثانية في الرعية، من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين لذلك، في قسمهم، وحكمهم، ومغازيهم، وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإن تنازعوا في شيء، ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذا يجمع السياسة
العادلة، والولاية الصالحه، انتهى.
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه قال:" دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في مكرهنا ومنشطنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان "1.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية؛ ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عمية، فقتل، فقتلته جاهلية ; ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه "2.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الغزو غزوان: فأما من ابتغى به وجه الله، وأنفق الكريمة، وأطاع الإمام، وياسر الشريك، فإن نومه، ونبهته، أجر كله ; ومن غزا فخرا ورياء، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف " رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مرفوعا:" الأمير يسمع له ويطاع فيما أحب وكره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " 3 أخرجاه.
1 البخاري: الفتن (7056)، والنسائي: البيعة (4149 ،4151 ،4152 ،4153 ،4154)، وابن ماجه: الجهاد (2866) ، وأحمد (3/441 ،5/316 ،5/319 ،5/325)، ومالك: الجهاد (977) .
2 مسلم: الإمارة (1848) ، وأحمد (2/296) .
3 مسلم: الإمارة (1839)، والترمذي: الجهاد (1707)، وأبو داود: الجهاد (2626)، وابن ماجه: الجهاد (2864) ، وأحمد (2/17 ،2/142) .
ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: " تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيكون فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع "1. وفي حديث الأشعري الذي رواه الإمام أحمد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن، السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة؛ فإن من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2.
قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى: وهذه الخمس المذكورة في الحديث، ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه إلا بها، ولا يستقر إلا عليها، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية، من ترك الجماعة والسمع والطاعة، انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس- إلى أن قال- فإن الله تعالى
1 مسلم: الإمارة (1847) .
2 الترمذي: الأمثال (2863) ، وأحمد (4/130 ،4/202 ،5/344) .
أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة.
وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى، من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا يتم ذلك إلا بقوة، وإمارة، ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك.
ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان- إلى أن قال- فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة، يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس، لابتغاء الرياسة والمال، انتهى.
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما السمع والطاعة لولاة المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد، في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيها ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله) .
وقال الحسن في الأمراء: (يلون من أمورنا الجمعة
والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا أو ظلموا. والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغيظ، وأن فرقتهم لكفر) ، انتهى.
إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وكلام المحققين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة، تبين: أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه بغزو أو غيره، معصية ومشاقة لله ولرسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.
وأما ما قد يقع من ولاة الأمور، من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها: مناصحتهم على الوجه الشرعي، برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد؛ وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه، من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح. هذا الذي نعتقده وندين الله به، ونبرأ إلى الله ممن خالفه، واتبع هواه.
ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى: أن يهدينا وإخواننا المسلمين، صراطه المستقيم، ويعيذنا وإياهم من نزغات الشيطان الرجيم، وصلى الله على محمد، سنة 1347 هـ.
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد: فهذه رسالة كتبناها، لقصد نصيحة إخواننا المسلمين، واقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "1.
فنوصي إخواننا، بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] وقال
1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .
قال بعض السلف، التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، وقال ابن جرير، رحمه الله {اتَّقُوا اللَّهَ} خافوا الله، وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه; وقال ابن مسعود في الآية الثانية {حَقَّ تُقَاتِهِ} :(أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر) .
وقال ابن جرير: وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} يعني ذلك جل ثناؤه: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم، في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله؛ وقال ابن مسعود:(حبل الله: الجماعة) ; وقال قتادة: بعهد الله وأمره.
وقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} ، قال قتادة: (إن الله قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة،
فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله) .
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} قال قتادة: " كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم، أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب ".
وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} قال ابن جرير، يعني: بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام، وكلمة الحق والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا صادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " 2.
والآيات والأحاديث في بيان وجوب الاجتماع على الإسلام، والتناصر فيه، والتعاون على إقامته ووجوب طاعة ولي أمر المسلمين، وعدم التخلف عن طاعته والافتيات
1 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
2 الترمذي: العلم (2658) .
عليه، واجتناب التفرق والاختلاف، كثيرة لا نطيل بذكرها.
وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ وهذه الثلاثة متلازمة، لا يتم بعضها ولا يستقيم بدون بعض، وبها قوام الدين والإسلام، وبها صلاح العباد في معاشهم ومعادهم؛ وإذا وقع الإخلال والتقصير فيها، أو في بعضها، حصل من الشر والفساد بحسب ما وقع من ذلك ولا بد، وهكذا حتى يعظم الفساد، ويتتابع الشر، ويتفاقم الأمر، وينحل النظام، وتتخلف أمور الدين، ويتكلم في دين الله وشرعه وأحكامه بغير علم.
وقد حصل بسبب الإخلال بما تضمنته هذه الآيات، وهذه الأحاديث، وعدم العمل بما دلت عليه، وما ذكره علماء الإسلام قديما وحديثا، وجوب الاجتماع على الإسلام، والتعاون والتناصر عليه، وطاعة ولي أمر المسلمين، وعدم الاختلاف عليه والتخلف عن طاعته، ما وقع من هذه الطائفة الباغية، من شق العصا، والخروج عن طاعة ولي الأمر، حتى فعلوا ما فعلوا من الفساد، من سفك الدماء، ونهب الأموال المحرمة.
وقد اجتهد ـ الإمام وفقه الله- في ردهم إلى الحق، وأكثر من مناصحتهم، حتى بعث إليهم الشيخ عبد الله العنقري، يدعوهم إلى تحكيم الشريعة، والرجوع إلى سبيل
الحق، فأصروا على ما كانوا عليه، ولم يلتفتوا إلى نصح ناصح؛ بل ذكر الشيخ عبد الله: أنه اطلع منهم على أمور ردية، ومقاصد غير مرضية؛ وما زالوا على ذلك، حتى أوقع الله بهم ما أوقع، من الفشل والتشتيت، وذلك بما قدمت أيديهم، ونعوذ بالله من أسباب الخذلان.
فالواجب على من نصح نفسه أن لا يغتر بطريقتهم، ولا يستحسن ما فعلوا. ويجب عليهم وعلى من اغتر بهم، واستحسن ما فعلوا: أن يتوب إلى الله، ويقلع مما اقترفه وجناه. ويجب على جميع المسلمين نصحهم، والقيام عليهم، حتى يرجعوا إلى الهدى، ويجانبوا طريق الغي والردى; ومن أصر منهم وأبى، فإن على الإمام والمسلمين زجره وتأديبه، وقمعه وتأنيبه؛ فإنهم شقوا عصا المسلمين، وفرقوا جماعتهم، وسعوا في الأرض بالفساد، ونسأل الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين، صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصلى الله على محمد.
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ: عبد الله بن حسن، والشيخ: عبد العزيز، والشيخ: عمر، والشيخ
عبد الرحمن، بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، وفقهم الله آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله تعالى وهداهم، ووفقهم لما يرضي مولاهم، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موجب الكتاب إبلاع السلام، والنصيحة لجميع المسلمين بما ينفعهم، والتحريض على منعهم عما يضرهم، وهذا من التواصي بالحق الذي أمر الله به، من ذلك: أن كثيرا من الناس يتساهلون بأمور يفعلونها، ويتكلمون بها، فيظنون أنهم مصيبون في ذلك، والحال أنهم غير مصيبين في كثير مما يصدر منهم، فيما يتعلق بهذه الأمور، مثل كون كثير من الناس يطلقون السب على عموم الإخوان، من غير فرق بين من يستحق الذم وبين من لا يستحقه.
ولا يفرقون بين من فعل ما لا يجوز له من الأمور الباطلة، مثل المشاقة لولاة المسلمين، والعدوان على أهل الإسلام، في سفك الدماء، ونهب الأموال، والسعي إلى الأرض بالفساد، والوقيعة في المسلمين بالذم والعيب، وبين غيرهم ممن كان مع المسلمين بالقول والفعل، وجاهد مع المسلمين، ولم يخالف ولي أمر المسلمين؛ فهؤلاء ينبغي
للمتكلم أن يبين في كلامه الثناء عليهم، وبيان عدم استحقاقهم للذم، وهذا الأمر يتعين على كل إنسان يتكلم في هذه الأمور، سواء كان من العلماء، أو من العوام.
وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه يجب على العلماء، وولاة الأمور، التحذير من الخوض، والقيل والقال، والكلام الذي يكون سببا، يحصل به التفرق والاختلاف بين المسلمين، وعدم التمييز بين أهل الحق والباطل؛ فالواجب على طلبة العلم، وولاة الأمور نصح من صدر منه شيء مما يخالف الحق، وردعه عن ذلك، وزجره عنه، فإن أبى أن يرجع عما هو عليه، فيؤدب تأديبا يردع أمثاله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد.
ولهم أيضا، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد سألنا الإمام المكرم، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله، عن حكم من جاء تائبا من هذه الطائفة الخارجة عن سبيل المؤمنين، هل تقبل توبته أم لا؟
فنقول: إذا جاء تائبا قبلت توبته، كما قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة الشورى آية: 25ب] وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " 1 وفيه أيضا " من تاب قبل موته، تاب الله عليه "2، إذا علم هذا، فالتوبة لها شروط; وهي: الإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود.
فلا بد في توبته من إظهار الندم على ما صدر منه، من شق عصا المسلمين، ومفارقة جماعتهم، وسل سيف البغي عليهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، والاعتراف بخطئه وضلاله، في المجالس والمحافل، والبراءة ممن خطأ علماء المسلمين، وضللهم.
ولا بد أيضا في توبته، من البراءة ممن ارتد عن الإسلام، بانحيازه إلى المشركين، ودعوته إلى الدخول تحت ولايتهم، وإظهار عداوة المسلمين؛ بل لا بد من تكفيره، ومجاهدته باليد والمال واللسان؛ فإذا حصل منه ما ذكر، قبلت توبته، ووكلت سريرته إلى الله; وصلى الله على محمد.
1 الترمذي: الدعوات (3537)، وابن ماجه: الزهد (4253) .
2 أحمد (2/206) .
وقال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، حفظه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، سلمهم الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بارك الله فيكم، العمل على نصيحة المشايخ، جزاهم الله خير الدنيا والآخرة، وتفهمون ما منّ الله به علينا، من نعمة الإسلام، وما منّ الله به على المسلمين، من الخير الكثير، في أمور دينهم ودنياهم، ومن أهمها ما حدث في آخر الزمان، من ظهور دين الله، وهو آية الله لهذه البادية، حتى جعل الله فيهم خيرا كثيرا، ونفعهم الله في أنفسهم بالإسلام، ومعرفة ما أوجب الله عليهم، ونفع الله بهم المسلمين في أمور كثيرة.
ولكن من عوائد الله: امتحان الناس، وتبيين غايتهم، كما قال سبحانه في أول سورة العنكبوت (بسم الله الرحمن الر حيم)، {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-3] ولا شك أن الفتنة هي الامتحان، ليميز الله الخبيث من الطيب. فلما منّ الله علينا وعليهم بذلك، صاروا ثلاثة أقسام:
قسم: عرف الحق وادعاه، ولكن عميت بصيرته، وانقلب، بل عكس ما يقول، وجرى منه ما جرى من الأفعال والأقوال؛ ولكن الله سبحانه حكيم قادر، من حكمته أن يعرف الناس بأنفسهم، أنه لا حول لهم ولا قوة إلا به وبتوفيقه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه الله، ولا توفيق إلا لمن وفقه الله; وقول الله سبحانه أبلغ:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] فلما عكسوا الأمر، أوقع الله بهم ما أوقع، وجعلهم عبرة في مبدأهم ومنتهاهم; والحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
وأما القسم الثاني: فهم أتباع كل ناعق، منهم من يريد الحق ولا عرفه، وآخر تدين لقصد، نرجو أن الله يمن على من كان يعلم فيه خيرا، بالهداية والتوفيق، ويكفي المسلمين شر من كان فيه شره.
أما القسم الثالث من الإخوان: فهم الذين من الله عليهم بالثبات، ومعرفة ما أوجب الله عليهم، والاقتداء بسنة سيد المرسلين، والوثوق بعلمائهم، والالتزام بولايتهم، وجرى منهم من الأفعال الأخيرة ما يحمدون به، ونسأل الله لهم الثبات والهداية، وجزاهم الله أحسن الجزاء.
وحدث من الناس الغوغاء - الذين لا يميزون الحق من الباطل - كلام، كما ذكر المشايخ - جزاهم الله أحسن الجزاء - أجملوا الناس جملة، مثل ما إذا تكلم إنسان، إما
جاهل أحمق، أو صاحب غرض فاسد:"هالإخوان، هالبدو، فعل الله بهم كذا وكذا"، وهذا أمر مناف للدين والعقل، والحق: أن سب هذا العدو، ما يكون إلا على قدر فعله.
والناس الذين مضى فيهم أمر الله قسمان: قسم: خرجوا على المسلمين، وجانبوا العلماء، وقسم: ارتدوا عن الدين، ووالوا أعداء الله، ولا شك أن بعضهم متميز عن بعض؛ ثم بعد ذلك الناس الذين امتازوا، وارتدوا عن الدين، وفعلوا الأفعال التي تخرجهم من الإسلام، كما ذكر المشايخ، فهؤلاء يستعان بالله عليهم، باللسان والسنان.
وأما القسم الذين صار منهم ما صار، من مخالفة الولاية والعلماء: فمن تاب منهم وأقلع عن ذنبه، وأقر به، ووالى المسلمين الذين عادوه في ذلك، وجانب أهل الشبه، فهذا حاله حال إخوانه المسلمين، على شرط أن المسلمين يجعلون بالهم على هذا الصنف: فمن وافق عمله قوله، فنرجو أن الله يثبته على الحق، ومن كان عمله يخالف قوله، ويجانب أهل الخير، ويوالي الذين يعلم فيهم الشر، فهذا حق على كل مسلم ينصحه، فإن أبى فيرفع أمره للعلماء، وولاة الأمور.
وأما إطلاق السب مجملا كما ذكرنا، فهذا مناف للدين والعقل، ولا يفعله إلا من لا معرفة له بالدين، أو صاحب
مقصد يحب شقاق المسلمين، فهذا أنهاكم عنه، وأحرض على جميع ولاة الأمور، لا من العلماء ولا من الأمراء، أن يمنعوا ذلك بالنصائح، والتعليم، ومن أبى فيؤدب بما يستحقه.
فالمرجو من جميع المسلمين أن يعملوا بما قرره المشايخ، وما أمرناهم به، وأن العلماء، والأمراء، والوجوه من المسلمين، يجتهدون في ذلك، لأجل جلب المصلحة، باجتماع قلوب المسلمين، والتآلف بينهم، ودرء المفسدة من نفور بعضهم من بعض.
ولا أبيح أحدا يسمع من ذلك شيئا إلا ويقوم بالواجب، على شرط أن لا يعنف، ولا يؤدب أحد لا بلسان ولا بيد، إلا بتعريف العلماء، واستفتائهم في ذلك، وتنفيذ أمر ما أمر به العلماء. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وصلى الله على محمد.
وقال الشيخ: عبد الله بن فيصل بن سلطان، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى كافة أهل المحمل والشعيب، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: هذه نصائح المشايخ والإمام حفظهم الله واصلتكم، فأنتم إن شاء الله تشرفون عليها، وتعملون بما فيها، وفيها لمن تأملها من حال دعوى الإخوان، ومنافرتهم، وإطلاق السب عليهم جملة، وعدم قبول توبتهم من غير تبصر في ذلك، ولا تفريق بين ما يجوز فعله، وما لا يجوز.
وقد أمرني الإمام حفظه الله: أن أقرر عليها; وتعلمون - وفقنا الله وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح - أن هؤلاء الإخوان في مبدإ أمرهم، ودخولهم في الدين، نفع الله بهم أهل الإسلام، وإن كان قد حصل منهم ما حصل في هذا الزمان، من الأمور التي قد حصل بسببها ترويج على من لا بصيرة له ولا علم لديه، فوقع في أعراضهم وسبهم وتأنيبهم جملة، من غير تفصيل ولا نظر فيمن يستحق ذلك، ممن لا يستحقه.
لأنهم قد كانوا طوائف: طائفة قبلت الحق وثبتها الله عليه، وصاروا أعوانا للمسلمين على المارقين المعتدين، فهؤلاء يحمدون على أفعالهم، ويدعى لهم بالقبول والثبات؛ وطائفة الغالب عليهم الجهل، فتبعوا من دعاهم بالقول والفعل، ولا فرق لديهم ولا تمييز، وكل ما مالت إليه أنفسهم عزيز، فاستوى عندهم الغي والرشاد، وعملوا على غير سداد، فيجب على المسلمين الرفق بهم، في التعليم والإرشاد، ويدعون لهم بالهداية والسداد; وطائفة تأولت فأخطأت في تأويلها، فينبغي تنبيهها، وكشف ما يشكل عليها.
فكل هؤلاء يعاملون باللطف واللين، ويوضح لهم ما جهلوه من الدين، ويدعون إلى الحق، ويرغبون فيه، ويوضح لهم الباطل، وينهون عنه، ويحذرون من سوء عاقبة أهله، من غير غلظة ولا تأنيب، لأن ذلك يوجب التنفير وعدم القبول؛ والمطلوب النصح لهم، وتبيين ما يحصل به تأليفهم واستجلابهم، لأن ذلك من المصالح الدينية، التي يجب على أهل الإسلام بذلها، وعدم التعنيف الذي يحصل به الافتراق، ويورث العناد والشقاق؛ فلعل الرفق بهم يصير سببا لردهم إلى ما خرجوا منه، ويتوبون إلى ربهم، الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
وقد قال الله جل جلاله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة التوبة آية: 104] .
والله جل جلاله يقبل توبة عبده ما دامت روحه في جسده، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، ولا يهلك على الله إلا هالك {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات آية: 11] .
وأما الطائفة التي حاربت أهل الإسلام، وكابرت، وعاقدت، وصاروا من حزب الشيطان، فهؤلاء يجب بغضهم والبراءة منهم وما ذهبوا إليه، لأنهم اتبعوا غير سبيل المؤمنين، واستفزتهم الشياطين، واختاروا العمى على الهدى، بعد أن استبصروا، ووقعوا في هوة الردى.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على صراطه المستقيم، وصلى الله على محمد.
[سؤال حول ما يفعله بعض الجهال من الهجرة من مكة إلى الحبشة]
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ: صالح بن عبد العزيز، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة علماء العارض، عن العجمان، والدويش، ومن تبعهم، حيث خرجوا من بلدان المسلمين، يدعون: أنهم مقتدون بجعفر بن أبي طالب وأصحابه، رضي الله عنهم، حيث خرجوا من مكة مهاجرين إلى الحبشة؟
فأجابوا: هؤلاء الذين ذكرهم السائل، وهم العجمان والدويش ومن تبعهم، لا شك في كفرهم وردتهم، لأنهم انحازوا إلى أعداء الله ورسوله، وطلبوا الدخول تحت ولايتهم، واستعانوا بهم، فجمعوا بين الخروج من ديار المسلمين، واللحوق بأعداء الملة والدين، وتكفيرهم لأهل الإسلام، واستحلال دمائهم وأموالهم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في "الاختيارات": من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله; فإذا كان هذا في مجرد اللحوق بالمشركين، فكيف بمن اعتقد مع ذلك أن جهادهم، وقتالهم لأهل الإسلام، دين يدان به، هذا أولى بالكفر والردة.
وأما استدلالهم بقصة جعفر وأصحابه، لما هاجروا إلى الحبشة، فباطل؛ فإن جعفرا وأصحابه، لم يهاجروا من
مكة إلا وهي إذ ذلك بلاد كفر، وقد آذاهم المشركون، وامتحنوهم في ذات الله، وقد عذبوا من عذبوا من الصحابة، كصهيب، وبلال، وخباب، من أجل عبادتهم الله وحده لا شريك له، ومجانبتهم عبادة اللات والعزى، وغيرهما من الأوثان؛ فلما اشتدت عليهم الأذية، أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، ليأمنوا على دينهم.
وأما هؤلاء: فقد خرجوا من بين ظهراني المسلمين، وانحازوا إلى الكفار والمشركين، وجعلوا بلاد المسلمين بلاد كفر، بمنْزلة مكة حين هاجر جعفر وأصحابه منها؛ ولا يستدل بقصة جعفر والحالة هذه، إلا من هو أضل الناس وأعماهم، وأبعدهم عن سواء السبيل.
وأما قول السائل: إنهم يرون أن جميع المسلمين، وولي أمرهم، وعلماءهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام، بعدما انتسبوا إليه، وادعوا أنهم من أنصاره، والمهاجرين إليه، فسبحان من طبع على قلوب أعدائه، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.
وأما قول السائل: إنهم يدعون أنهم رعية الأتراك، ومن الأتراك السابقين، وأنهم لم يدخلوا تحت أمر ابن سعود وطاعته، إلا مغصوبين، فهذا أيضا من أعظم الأدلة على ردتهم، وكفرهم.
وأما قول السائل: إنهم فعلوا ما فعلوا مع المسلمين، من القتل والنهب، مستحلين لذلك.. إلى آخر السؤال؟.
فجوابه: أن من استحل دماء المسلمين، وأموالهم: كما نص عليه العلماء، في "باب حكم المرتد".
وأما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، يدعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم، لأنه صوب رأيهم، واعتقد ما اعتقدوه، لا سيما بعد علمه بما صدر منهم.
وأما الدهينة، والخضري، وولد فيصل بن حميد، وأتباعهم، الذين قدموا من عند ولد الشريف، يدعون إلى ولايته، فهؤلاء لا شك في ردتهم والحال ما ذكر، لأنهم دعاة إلى الدخول تحت ولاية المشركين، فيجب على جميع المسلمين جهادهم وقتالهم، وكذلك من آواهم ونصرهم، فحكمه حكمهم.
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
ورد علينا منك رسالة، تطلب فيها أن نكتب لك قصة الخوارج مستوفاة، من حين خروجهم على علي رضي الله عنه، إلى آخر ما كان من أمرهم؛ فقد ذكر ذلك شيخنا، الشيخ: عبد اللطيف، في رده على داود بن جرجيس، وهذا نص ما ذكر، وبه الكفاية.
قال رحمه الله: إنه لما اشتد القتال يوم صفين، قال عمرو بن العاص، لمعاوية بن أبي سفيان، هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم؛ قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها "هذا حكم بيننا وبينكم" فإن أبى بعضهم أن يقبلها، رأيت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبلها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا، رفعنا القتال عنا إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم؛ من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس، قالوا: نجيب إلى كتاب الله.
فقال لهم علي: عباد الله، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، أنا أعلم
بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة، ووهنا ومكيدة؛ قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله؛ وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده.
قال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء: يا علي: أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلة القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان؛ فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال.
ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره، ممن يرى عدم التحكيم، فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.
فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال علي: ائته.
فأتاه فقال: لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه؛ تبعثون رجلا ترضون به، ونبعث رجلا نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، لا يعدوانه، فعاد إلى علي فأخبره، قال الناس قد رضينا.
قال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث، وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي
موسى الأشعري، فراودهم على غيره، وأراد ابن عباس، قالوا: والله لانبالي، أنت كنت حكمها، أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلا منك، ومن معاوية سواء؛ وأبوا غير أبي موسى، فواقهم علي كرها، وكتب كتاب التحكيم.
فلما قرئ على الناس، سمعه عروة بن أمية أخو أبي بلال، قال: تحكمون في أمر الله الرجال، لاحكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهر الحرورية "الخوارج" وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي وقطعوا الطريق في إيابهم، بالتشاتم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله داهنتم في دين الله؛ ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا، ومزقتم جماعتنا ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئا، ثم انصرف بغير شيء؛ فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد شعرا:
أخوك الذي أن أجرضتك ملمة
…
من الدهر لم يبرح بباك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت
…
عليك الأمور ظل يلحاك لائما
فلما دخل الكوفة، ذهبت الخوارج إلى حروراء، فنزل بها اثنا عشر ألفا على ما ذكره ابن جرير، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن
الكواء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلما سمع علي ذلك وأصحابه، قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت؛ قالت لهم الخوارج؛ استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر، كفرسي رهان – أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب وأنتم بايعتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى - يريدون: أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الطاعة له تعالى.
وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط، إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءت شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه: عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل:{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [سورة النساء آية: 35] فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! قالوا: ما جعل الله حكمه إلى الناس، وأمرهم بالنظر فيه، فهو إليهم، وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا فيه، في الزنا مائة جلدة، وفي السرقة قطع،
فليس للعباد أن ينظروا في هذا.
قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة المائدة آية: 95] قالوا: تجعل الحكم في الصيد، والحرث، وبين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال؛ قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه، أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية.
فجاء علي وابن عباس يخاصمهم، فقال: إني نهيتك عن كلامهم حتى آتيك، ثم تكلم رضي الله عنه، فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه، كان أولى بالفلج يوم القيامة؛ وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا حكومتكم يون ضفين؛ قال أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف، وملتم بجنبهم، قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين؟ وذكرهم مقالته.
ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين: أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برءاء،
قالوا: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، إنما هو خط مسطور بين دفتين، وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فخبرنا عن الأجل، لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة، هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا من عند آخرهم.
فلما جاء الأجل، وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج، زرعة ابن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله؛ فقال علي: لا حكم إلا لله؛ وقالا تب من خطيئتك، واجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم، حتى نلقى الله ربنا، فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني: قد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عهودا، وقد قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [سورة النحل آية: 91] .
فقال: "حرقوص" ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه؛ قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وقد نهيتكم عنه؛ قال زرعة: يا علي لئن حكمت الرجال، لأقاتلنك أطلب وجه الله؛ فقال له علي: بؤسا لك ما أشقاك، كأني بك قتيلا تسفي عليك الرياح؛ قال: وددت لو كان ذلك؛
وخرجا من عنده، يقولان: لا حكم إلا الله.
وخطب علي ذات يوم، فقالوها في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل؛ فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: الحمد لله غير مودع ربنا، ولا مستغني عنه، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله؛ يا علي: أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.
وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم؛ فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا نننتظر فيكم أمر الله؛ ثم عاد إلى مكانه من الخطبة.
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم وزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض كهوف
الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة.
فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تكفنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فقال حمزة بن سنان الأسدي، يا قوم: إن الرأي ما رأيتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، وراية تحفون بها وترجعون إليها.
فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي، وعرضوها على حرقوص بن زهير، فأبياها، وعلى حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي، فأبيا، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرارا من الموت، فبايعوه لعشر خلون من شوال، وكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها، وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق.
قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين تبعوكم، ولكن اخرجوا وحدانا
ومستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولا تسيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكلموا إخوانكم من أهل البصرة، قالوا: هذا الرأي؛ فكتب عبد الله بن وهب، إلى من بالبصرة، ليعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللحاق بهم، فأجابوه.
فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة القصص آية: 21،22] وخرج معهم طرفة بن عدي فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه وأرسل عدي إلى عامل علي على المدائن يحذره، فحذر وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد، وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب، فسار على بغداد، ولحقه ابن مسعود أمير المدائن بالكرخ، في خمسمائة فارس، فانصرف إليه ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب، عبر دجلة، وصار إلى النهروان، ووصل إلى أصحابه، وتفلت رجال من أهل الكوفة، يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة، عاد أصحاب علي وشيعته إليه، فقالوا نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ربيعة بن شداد خثعمي، فقال: أبايع على سنة أبي بكر وعمر، قال علي
ويلك؛ لو أن أبا بكر وعمر، عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله، لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه ونظر إليه علي، فقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج، فقلت، وكأني بك وقد وطأتك الخيل بحوافرها؛ فكان ذلك، وقتل يوم النهروان مع الخوارج.
وأما خوارج البصرة، فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، جعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمي، وعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم بالأسود الدؤلي، ولحقهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز دونهم، وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.
فلما انقضى أمر التحكيم – وخان عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وصرح عمرو بولاية معاوية، بعد أن عزل أبو موسى عليا، خدعه عمرو بذلك، فهرب أبو موسى إلى مكة – قام علي في الكوفة فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
أما بعد: فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين – يعني أبا موسى، وعمرو بن العاص – وفي هذه الحكومة أمري، ونحلتكم رأيي، ولو كان لقصر رأيي، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوزان:
أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى
…
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن هذين الرجلين، اللذين أخرجتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، فاتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة قاضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله، وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام.
وكتب إلى الخوارج، من عبد الله: علي أمير المؤمنين، إلى زيد بن حصين، وعبد الله بن وهب، ومن معهما من الناس.
أما بعد: فإن هذين الرجلين، اللذين ارتضيتما حكمين، قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله، والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا، فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه.
فكتبوا إليه، أما بعد: فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [سورة الأنفال آية: 58] فلما قرأ كتابهم
أيس منهم، ورأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام، فقام في الكوفة فندبهم إلى الخوارج معه، وخرج معه أربعون ألف مقاتل، وسبعة عشر من الأبناء، وثماية آلاف من الموالي والعبيد، وأما أهل البصرة، فتثاقلوا، ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف.
وبلغ عليا: أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، قال لهم علي: دعوا هؤلاء، وسيروا إلى إلى يقاتلونكم، كيفما يكونون جبارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا؛ فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.
ثم إن الخوارج استقر أمرهم، وبدؤوا بسفك الدماء، وأخذوا الأموال، وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوه سائرا بامرأته على حمار، فانتهروه، وأفزعوه، ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا: حدثنا عن أبيك الخباب، حديثا سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنفعنا به؟.
فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا " قالوا: لهذا سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته، وفي
آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها، وآخرها.
قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم، وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة، فأخذها أحدهم فلاكها في فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها؛ ثم مر بهم خنزير فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير – وهو من أهل الذمة – فأرضاه.
فلما رأى ذلك ابن الخباب، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي بأس، ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني؛ فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا إلى امرأته، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله، فبقروا بطنها؛ وقتلوا أم سنان الصيداوية، وثلاثا من النساء، فلما بلغ ذلك عليا، بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر، فلما دنا منهم قتلوه.
فألح الناس على علي في قتالهم، وقالو نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا، فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد
قتالهم، فلقيه منجم في مسيره، فأشار عليه أن يشير في وقت مخصوص، وقال إن سرت في غيره، لقيت وأصحابك ضررا شديدا؛ فخالفه علي في الوقت الذي نهاه عنه.
فلما وصل إليهم، قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم، ونترككم، فلعل الله أن يقبل بقلوبكم، ويردكم إلى خير ما أنتم عليه؛ فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم.
وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين.
فقال له عبد الله بن شجرة السلمى: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر؟ فقال: ما نعلمه غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم: أبو أيوب الأنصاري، فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا عليه؟ فقالوا: إن تابعناكم اليوم حكمتم الرجال غدا؛ فقال: فإني أنشدكم الله، أن تعجلوا
فتنة العام، مخافة ما يأتي في القابل.
وأتاهم علي رضي الله عنه، فقال: أيتها العصابة، التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم، إنني نذير لكم: أن تصبحوا بلعنكم الأمة غدا صرعى، بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان.
ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فعصيتموني، فلما فعلتم: أخذت على الحكمين، واستوثقت أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟.
قالوا: إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم دابر؛ بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
وقيل: كان من كلامه – يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه الحكومة، التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة، ووهنا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم علي عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، رأي معاشر، والله أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فما آتى لا أبالكم هجرا؟!.
والله ما حلت عن أموركم، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوى، ولا أدنيت لكم ضرا، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا فأجمع رأي ملئكم: أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق، ولا يعدوانه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهما، حتى خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف.
فبينوا لنا بم تستحون قتالنا؟ والخروج عن جماعتنا، وتصفون سيوفكم على عواتكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا هو الخسران المبين؛ والله لئن قتلتم على هذا دجاجة، لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟! فتنادوا: أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله الرواح، الرواح، إلى الجنة، فرجع علي عنهم.
ثم إنهم قصدوا جسرا النهر، فظن الناس أنهم عبروه، فقال علي: لم يعبروه، وإن مصارعهم لدون النهر، والله لا يقتلون منكم عشرة، ولايسلم منهم، فتعبأ الفريقان للقتال، فنادهم أبو أيوب فقال: من جاء هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي، في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين.
فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمان مائة، فزحفوا إلى علي، وبدؤوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلت الرماة من جيش علي، بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل، من الميمنة والميسرة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال، وتداعى عليهم الناس، ما لبثوا أن أناموهم فماتوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا.
وقتل ابن وهب، وحرقوص، وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى، والتمس المخدج، الذي وصفه البني صلى الله عليه وسلم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع كثدي الممرأة، وحلته عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذى يده الطولى، فلما رآها، قال: الله أكبر، والله ما كذبت، ولا كذبت،
والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم صرعى: بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم، قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، ونفس أمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.
هذا ملخص أمرهم، وقد عرفت شبهتهم، التي جزموا لأجلها بكفر علي، وشيعته، ومعاوية وأصحابه، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين، بعد هذه الوقعة، وصار غلاتهم يكفرون بالذنوب، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة، فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك، انتهى ما ذكره شيخنا.
فتأمل رحمك الله: ما في هذه القصة من الأمور، التي خاطبوا بها أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما أجابهم به، فمن نصح نفسه وأراد نجاتها، فليتأمل ما في كلامهم من إرادة الخير، وطلبه والعمل به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء رضوان الله.
ولكن: لما كان هذا منهم غلوا في الدين، ومجاوزة
للحد الذي أمروا به، حتى كفروا معاوية رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، والتابعين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه من أفاضل الصحابة والتابعين، لما وافقهم في تحكيم الحكمين.
ثم زعموا: أن تحكيم الرجال في دين الله كفر يخرج من الملة، وأنهم قد أثموا بذلك وكفروا، فتابوا من هذا الأمر، وقالوا لعلي إن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت، فإنأ منابذوك على سواء.
فإذا تبين لك: أن ما فعلوه إنما هو إحسان ظن بقرائهم، الذين غلوا في الدين، وتجاوزوا الحد في الأوامر والنواهي، وأساؤوا الظن بعلماء الصحابة، الذين هم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه.
فلما لم يعرفوا لهم فضلهم، ولم يهتدوا بهديهم، ضلوا عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعموا أنهم داهنوا في الدين، والذي حملهم على ذلك أخذهم بظواهر النصوص في الوعيد، ولم يهتدوا لمعانيها وما دلت عليه، فوضعوها في غير مواضعها، وسلكوا طريقة التشديد، والتعسير والضيق، وتركوا ما وسع الله لهم، من التيسير الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ".
ولهذا كان أمير المؤمنين: علي رضي الله عنه، يسيير فيهم بهذه الطريقة، ويناصحهم لله وفي الله، ويتلطف لهم في القول، لعل الله أن يقبل بقلوبهم، وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه أولا؛ ويراجعهم المرة بعد المرة، كما قاله في خطبته إياهم لما خطبهم، فقالوا: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر، على زعمهم.
فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا، ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله.
ولما قيل له: يا أمير المؤمنين، أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا؛ فقالوا: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا؛ قالوا: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
فهذه سيرته رضي الله عنه، مع هؤلاء المبتدعة الضلال، مع قوله لأصحابه: والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه، ومع علمه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم "ي مرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه " ومع قوله صلى الله عليه وسلم فيهم: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم إنما تعلموا العلم من الصحابة.
فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها: أن يعرف طريقة هؤلاء القوم، وأن يجتنبها، ولا يغتر بكثرة صلاتهم، وصيامهم وقراءتهم، وزهدهم في الدنيا، وأن يعرف سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الهدى ودين الحق، الذي فضلوا به على من بعدهم، وعدم تكلفهم في الأقوال والأفعال، لعله أن يسلم من ورطات هؤلاء الضلال، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[اقتتال طائفتين من المسلمين]
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر: إذ التقى فئتان من المسلمين، وقتل رجل من إحداهما، وعلم قاتله بعينه، ورضوا بالدية، فهل تكون على القاتل؟ أم تكون على جميع الطائفة؟
فأجاب: إذا اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة، ونحو ذلك، فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، صرح بذلك في "الشرح الكبير"، و"الإنصاف"، و"الإقناع"، والشيخ تقي الدين في السياسة الشرعية.
قال في "الإنصاف" - بعد قوله: وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى -: وهذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة تساقطا، كمن
جهل الحرام من ماله، أخرج نصفه، والباقي له.
وقال أيضا: أوجب الأصحاب الضمان على مجموع الطائفة، إن لم يعلم عين المتلف; قال في الإقناع وشرحه: فلو دخل بينهم بصلح، وجهل قاتله، ضمناه; وإن علم قاتله من طائفة، وجهل عينه، ضمنته وحدها; قال ابن عقيل: ويفارق المقتول في زحام الجامع، والطواف، أن الزحام والطواف ليس فيه تعد، بخلاف الأول، انتهى. قال مالك في الموطأ في جماعة اقتتلوا، فانكشفوا وبينهم قتيل أو جريح، لا يدرى من فعل ذلك به، إن أحسن ما سمعه في ذلك العقل، وإن عقله على القوم الذين نازعوه؛ وإن كان القتيل والجريح من غير الفريقين، فعقله على الفريقين جميعا، انتهى.
وقال في "الشرح الكبير": إذا اقتتلت الفئتان، فتفرقوا عن قتيل من إحداهما، فللوارث على الطائفة الأخرى الدية، ذكره القاضي، فإن كانوا بحيث لا يقتله سهام بعضهم بعضا، فللوارث على عاقلة القتيل، وهذا قول الشافعي.
وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم، فيما إذا اقتتلت الفئتان، إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك; وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه، فاستوى الجميع فيه; وعن أحمد في قوم اقتتلوا، فقتل
بعضهم وجرح بعض، فدية المقتولين على المجروحين، تقسط منها دية الجراح، انتهى.
وقال في "الإنصاف" - بعد ما ذكر نص أحمد هذا - قال الإمام أحمد: قضى به علي، وحمله على من ليس به جرح، وهل عليهم من دية القتل شيء؟ فيه وجهان; قال ابن حامد: قلت الصواب على أنهم يشاركونهم في الدية، انتهى; فهذا كلام الفقهاء فيما إذا جهل عين القاتل.
وأما إذا علم القاتل، ففيه تعلق الحكم به؛ فإن كان القتل عمدا، فأولياؤه يخيرون، إن شاءوا اقتصوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، فإن قبلوا الدية، فهو من مال القاتل دون العاقلة، ولا شيء على الطائفة التي هو منها، إلا أن يكونوا قطاع الطريق، لأنهم ردؤهم، وردؤهم ومباشرهم سواء.
وكذا: إن تواطئوا على قتله، فقتله بعضهم وأعانه الآخرون، كالمسك مع القاتل عند مالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فتكون الدية على المباشر والمعين، لأنهم سواء عند الجمهور، ذكره الشيخ تقي الدين.
وسئل أيضا، الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، إذا اقتتلت طائفتان، وادعت إحداهما بالتعدي من الأخرى، وجاؤوا بالشهود، وادعى المشهود عليهم: بأن الشهود من الطائفة المقاتلة لهم، فهل ترد شهادتهم بذلك؟
فأجاب: ينظر في حال الشهود، فإن كانوا عدولا، وادعوا أنهم لم يحضروا القتال، ولم يدخلوا معهم، وعلم صدقهم بقرائن الحال، لم ترد شهادتهم بمجرد دعوى الخصوم، لأن الخصم إذا جرح الشاهد العدل، لا يقبل قوله فيه إلا ببينة; وأما إذا كان الشهود لا يعرفون بالعدالة، أو كانت القرائن تدل على أنهم حاضرون معهم، وأنهم من جملتهم، لم يقبلوا، ولم تسمع شهادتهم.
ومن صور المسألة: ما جرى بين الوداعين، وأهل مرات، فإن الوداعين زعموا أن معهم البينة، على أنهم لم يبدؤوا بقتال، وإنما قتلوا دفعا عن أنفسهم، فلما سألنا عن شهودهم، إذا هم من جملتهم الذين غزوا، فقلنا لهم: هؤلاء من جملتكم، وعليهم من الدية بقدر نصيبهم منها، ولا تقبل شهادتهم، لأنهم يدفعون بها عن أنفسهم، والمسألة واضحة في كلام العلماء، لا تحتاج إلى نقل عبارات الفقهاء، والله أعلم.
سئل بعضهم: ما معنى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 7] ؟
فأجاب: إن هذه الآية نزلت في عهد المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغدرهم، ونقضهم لما عاهدوا عليه، وأعانوا عدوه، قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الَاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا
اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [سورة التوبة آية: 7] الآية. قال البغوي رحمه الله في تفسيره: هذا على وجه التعجب، ومعناه جحد، أي: لا يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد، ثم استثنى فقال جل وعلا:{الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [سورة التوبة آية: 7] .
قال ابن عباس: هم قريش; وقال قتادة: هم أهل مكة الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال الله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} [سورة التوبة آية: 7] أي على العهد {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} انتهى.
ولا يجوز لأحد يقول: هذه الآية نزلت في حق الراعي والرعية، فإنه لم يقل بهذا أحد من أهل العلم وأئمة التفسير، بل هذا تفسير عبد برأيه وهواه، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار; فإن المسلم مأمور بالسمع والطاعة لولاة الأمور، ولو كانوا غير مستقيمين، إلا في معصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة لأحد.
والأحاديث والآثار الدالة على ذلك أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، لكن تركنا ذكرها خشية الإطالة، ونحن في غاية الاستعجال مع تغير الحال وتشوش البال.
والحاصل: فإن الأمراء إن استقاموا على الحق والعدل، فهو الواجب عليهم، وإن تركوا الاستقامة، فأدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم، وفي الصبر على ما