المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: [فصل في قتال من ترك التوحيد] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٩

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌فصل: [فصل في قتال من ترك التوحيد]

تكره خيرا كثيرا؛ والكلام على هذا الباب يستدعي طولا وأبوابا وفصولا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 237

‌فصل: [فصل في قتال من ترك التوحيد]

[فصل في قتال من ترك التوحيد]

فصل قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه:

اعلم وفقنا الله وإياك للإيمان بالله ورسوله: أن الله سبحانه قال في كتابه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] .

فتأمل هذا الكلام: أن الله أمر بقتلهم وحصرهم، والقعود لهم كل مرصد، إلى أن يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة; وأيضا: فقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى "1.

فهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أجمع العلماء عليه من كل مذهب، وخالف ذلك من هؤلاء الجهال، الذين يسمون العلماء، فقالوا: من قال لا إله إلا الله، فهو المسلم حرام الدم والمال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل - لما سأله عن الإسلام - فقال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله

1 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

ص: 237

إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " 1 فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهؤلاء يقولون: إن البدو إسلام، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله. فمن سمع كلامهم، وسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد له من أحد أمرين، إما أن يصدق الله ورسوله، ويتبرأ منهم ويكذبهم; وإما أن يصدقهم، ويكذب الله ورسوله، فنعوذ بالله من ذلك، والله أعلم.

فتأمل أول أصول الدين:

الأولى: أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لبيان الحق من الباطل.

الثانية: بيان ما اختلف فيه الناس.

الثالثة: أن الواجب عليهم اتباع ما أنزل إليهم من ربهم.

الرابعة: أن من لم يرفع به رأسا، فهو منافق جاهل.

الخامسة: رد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنّة.

السادسة: أن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل، لا يضل ولا يشقى.

السابعة: أن من أعرض عن ذلك، حشر أعمى، ضالا شقيا مبعدا.

الثامنة: أن الذين في قلوبهم مرض، يتبعون ما تشابه منه.

وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، الذين أقروا أن التوحيد أكبر كل كبير، واختلفوا هل نقاتل من لم يتركه، وإذا قال لا إله إلا الله وانتسب إلى الملة، فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى

1 مسلم: الإيمان (8)، والترمذي: الإيمان (2610)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990)، وأبو داود: السنة (4695)، وابن ماجه: المقدمة (63) ، وأحمد (1/27 ،1/51) .

ص: 238

لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .

وقال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] الآية.

سئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، عن المشرك إذا قال لا إله إلا الله حال الحرب؟

فأجابوا: هذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان المشرك لا يتلفظ بها في حال شركه وكفره، كحال المشركين الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إذا قال: لا إله إلا الله، وجب الكف عنه، لأنها دليل على إسلامه وإقراره، لأن المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولونها، وإذا قالها أحدهم كانت دالة على إسلامه، وهذا معنى الأحاديث التي جاءت في الكف عمن قال: لا إله إلا الله، كحديث أبي هريرة المتفق عليه:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل "1، وكذلك حديث أسامة، لما قتل الرجل في الحرب بعدما قال: لا إله إلا الله، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه، وقال:" أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا "2، وفي رواية " إنما قالها خوفا من السلاح، فقال: أفلا شققت عن قلبه؟ "3.

قال العلماء: وفي ذلك أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .

2 البخاري: المغازي (4269)، ومسلم: الإيمان (96) ، وأحمد (5/200) .

3 مسلم: الإيمان (96)، وأبو داود: الجهاد (2643) ، وأحمد (5/207) .

ص: 239

إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [سورة النساء آية: 94] الآية؛ فدلت الآية على أنه يجب الكف عن المشرك إذا أظهر الإسلام، ولو ظن أنه إنما قال ذلك خوفا من السيف؛ فإن تبين بعد ذلك أنه إنما أظهر الإسلام تعوذا، قتل، ولهذا قال تعالى:{فَتَبَيَّنُوا} والتبين هو: التثبت، والتأني، حتى يتبين حقيقة الأمر.

وأما إذا كان المشرك يتلفظ بلا إله إلا الله، في حال كفره وردته، ويفعل من الأفعال ما يوجب كفره وأخذ ماله، فهذا يقتل ويباح دمه وماله، كما قال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيهم طائفة يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون، ولكنهم منعوا الزكاة.

فقال عمر لأبي بكر: "كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ".

فقال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق ".

فقاتلهم أبو بكر وسائر

ص: 240

الصحابة، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون.

وأجمع العلماء من أهل المذاهب على كفر من جحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك لأن الدين لا يجوز التفريق فيه، بأن يؤمن الإنسان ببعض ويكفر ببعض، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [سورة النساء آية: 150-151] .

وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] قال العلماء: كل طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام، تقاتل حتى يكون الدين كله لله؛ وهذا مجمع عليه بين العلماء من أهل المذاهب، والله أعلم.

ولهم أيضا، رحمهم الله تعالى:

وأما قولك: إن المسلمين إذا أمسكوا أحدا يشهد أن لا إله إلا الله، أنهم يقتلونه ويأسرونه، فجواب هذه المسألة، نظير الجواب في التي قبلها، ونحن نقول: لا إله إلا الله قول وعمل؛ فمن قال: لا إله إلا الله، ولم يعلم معناها، ولم

ص: 241

يعمل بمقتضاها، لم ينفعه ذلك؛ فإن المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار، يقولون: لا إله إلا الله، ولم ينفعهم ذلك.

وكذلك بنو حنيفة، الذين قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: لا إله إلا الله، ويؤذنون، ويصلون، وهم كفار بالإجماع. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويؤذنون ويصلون. وكذلك الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويؤذنون، ويصلون.

وكذلك عَلِيٌّ حرق الغالية، وهم يقولون: لا إله إلا الله، وكذلك الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:" يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم "، وأخبر أنهم شر قتيل تحت أديم السماء، وقاتلهم علي رضي الله عنه وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويعملون أعمالا شاقة.

وجماع الأمر: أنا نقول: لا إله إلا الله، قول، وعلم، وعمل; وقد ذكر الله ذلك في كتابه بالمعنى، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ الَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ

ص: 242

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28] .

أي: إليها، والكلمة: لا إله إلا الله.

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] فمن أتى بها علما وعملا، لم نكفره ولم نقتله، والمسألة لها بسط طويل، ليس هذا موضعه.

وقال أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ: وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تقتلون، ذا الشيبة، والمرأة، والصغير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر: أن لا يقتل من المشركين لا شيبة عاجز، ولا امرأة، ولا قاصر لم ينبت، فنقول: هذا كذب وزور، وبهتان علينا، فلا نأمر بقتل الشيخ الكبير من المشركين، ولا المرأة، ولا الصغير الذي لم ينبت؛ فإن كان أحد من جهال المسلمين، البعيد عنا، فعل شيئا من ذلك، فهو مخطئ مخالف لشرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك.

وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بمثل ما تقدم 1.

1 أي في صفحة 240 - 242.

ص: 243

وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود; رحمهما الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد العزيز بن محمد، إلى الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:

فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله أن يصلي على حبيبه من خلقه، وخيرته من بريته، محمد عليه أفضل الصلاة، وأزكى السلام والتحيات، ووصل الخط، أوصلك الله إلى رضوانه; وما أشرت إليه من النصيحة، صار عندنا معلوما جزاك الله عنا خيرا، ونسأله المعونة، والتوفيق والتسديد، في جميع الأحوال الظاهرة، والخفية.

وما أشرت إليه في كتابك، من أن بعض القادمين علينا، يأخذون منا أوراقا، يريدون بها الجاه، والترفع على من بينه وبينهم ضغائن جاهلية، فأنت تفهم أن المملوك ليس له اطلاع على السرائر، وإنما عليه الأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ومن خدعنا بالله انخدعنا له.

فإذا جاءنا من يقول: أنا أريد أن أبايعكم على دين الله ورسوله، وافقناه وبايعناه، وبينا له الدين الذي بعث الله به

ص: 244

رسوله صلى الله عليه وسلم، ونأمره بذلك، ونحضه على القيام به في بلده، ودعوة الناس إليه، وجهاد من خالفه، فإذا خالف ذلك وغدر، فالله حسيبه.

وأما الطائفة الثانية: وهم الجنود المنتشرة للجهاد، فكثير منهم لا نشعر بهم، ولا نعرفهم، بل إذا دخل أهل بلد في الإسلام، وعاهدوا، ساروا إلى من حولهم، من غير تحقيق ومعرفة بما يقاتل الكفار عليه. وأما الجيوش والأجناد، الذين نجهزهم من الوادي، وأتباعهم، فنأمرهم بقتال كل من بلغته الدعوة، وأبى عن الدخول في الإسلام، والانقياد لتوحيد الله، وأوامره وفرائضه، واستمسك بما هو عليه من الشرك بالله، وترك الفرائض، والأحكام الجاهلية المخالفة لحكم الله ورسوله؛ ومثل هؤلاء لا يحتاجون إلى الدعوة، إذا كانت الدعوة قد بلغتهم قبل ذلك بسنين، وأبوا وأعرضوا عن دين الإسلام، وإخلاص العبادة لله.

وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم ترعى، فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذرية، والنعم والشاء، مع أن الدعوة قبل القتال مستحبة، ولو كانت الدعوة قد بلغتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي ابن أبي طالب، حين بعثه لقتال أهل خيبر:" فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "1.

1 البخاري: الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406) ، وأحمد (5/333) .

ص: 245

والسلام. وأجاب بعضهم: شرع الله الجهاد، وأمر بالقتال، وبين لنا الحكمة في ذلك، وموجبه، وما يحصل به الكف، قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39]، قال المفسرون: الفتنة الشرك، والدين: اسم عام لكل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله لا يشرك به شيء " 1، وقال:" أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها " 2 وقد عمل بهذا أبو بكر، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم، في قتال مانعي الزكاة؛ فدل الحديث، وعمل الصحابة، على أن من ترك شيئا من شرائع الدين الظاهرة، وكانوا طائفة مجتمعة على ذلك، أنهم يقاتلون.

[موجب شرع الجهاد]

قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، الظاهرة المعلومة، فإنه يجب قتالها; فلو قالوا: نشهد ولا نصلي، قوتلوا حتى يصلوا; ولو قالوا: نصلي ولا نزكي، قوتلوا حتى يزكوا; ولو قالوا: نزكي ولا نصوم، ولا نحج البيت، قوتلوا حتى يصوموا، ويحجوا البيت.

فلو قالوا: نفعل هذا كله، لكن لا ندع الربا،

1 أحمد (2/50) .

2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

ص: 246

ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى، ونحو ذلك، قوتلوا حتى يفعلوا ذلك، كما قال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . انتهى.

فعلم: أن المقاتلين أنواع، منهم من يقاتل على الدخول في الإسلام، وهو الإقرار لله بالوحدانية، والاعتراف له بذلك، والعمل به، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فهذا إذا التزم بذلك التزاما ظاهرا، كف عن قتاله على ذلك، ووكلت سريرته إلى الله، إلا إن قام به ناقض ينقض ما التزمه، وأظهر الناقض، وترك شريعة من شرائعه، كالصلاة، والزكاة، وغيرهما من الشرائع؛ فيجب على ولي الأمر، أن يقاتل هذا، وأن يبعث عماله على هذا المنوال، وما كان من نقص، فهو نقص في الراعي والرعية.

نعم: النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يدعو إلى ثلاثة أركان: الشهادتين، والصلاة، والزكاة; وأخذ بهذا خلفاؤه رضي الله عنهم، لأن غالب عامة الناس، إنما خوطبوا بذلك؛ فالحاضرة المظهرة للإسلام في الظاهر، وكذا البادية، وإن صدر من آحادهم ما هو ناقض، كحال آحاد المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 247

فقد يصدر من الحاضرة نوع استهزاء وغير ذلك، وقد يصدر من آحاد البادية نوع استهزاء، ونوع تحاكم إلى غير ما أنزل الله، لا سيما بادية الجنوب، وهؤلاء الآحاد، إذا أقروا بصدور ما هو ناقض، أمروا بالتوبة منه، وخوطبوا بالشرائع الظاهرة، فإن امتنعوا التزام ذلك، قوتلوا عليه حتى يلتزموه، ويؤدوه، وحسابهم على الله.

وأما البلد التي يحكم عليها بأنها بلد كفر، فقال ابن مفلح: وكل دار غلب عليها أحكام المسلمين، فدار إسلام; وإن غلب عليها أحكام الكفر، فدار كفر؛ ولا دار غيرهما.

وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن " ماردين"، هل هي دار حرب أو دار إسلام؟.

قال: هي مركبة، فيها المعنيان، ليست بمنْزلة دار الإسلام التي تجري فيها أحكام الإسلام، لكون جنودها مسلمين، ولا بمنْزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه؛ والأولى هو الذي ذكره القاضي والأصحاب.

ص: 248

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله، عمن يقول: لا إله إلا الله، ويدعو غير الله، هل يحرم ماله ودمه، بمجرد قولها، أم لا؟

فأجاب: لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، جعلها كلمة باقية في عقبه; وقد تضمنت ثبوت الإلهية لله تعالى، ونفيها عما سواه، والإله هو الذي تألهه القلوب، محبة وإنابة وتوكلا، واستعانة ودعاء، وخوفا، ورجاء، ونحو ذلك.

ومعنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود حق إلا الله، قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج آية: 62] وقال جل ذكره: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .

فدلت هذه الكلمة العظيمة مطابقة، على إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، ونفي كل معبود سواه، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26-28] أي: لا إله إلا الله، فأرجع ضمير هذه الكلمة، إلى ما سبق من مدلولها، وهو قوله: {إِنَّنِي

ص: 249

بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] .

وهذا هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وافترضه على عباده، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه وتقريره، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] الآية وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2] .

وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود أو متبوع أو مطاع، فمن تحقق بمدلول هذه الكلمة العظيمة، من إخلاص العبادة لله تعالى، والبراءة من عبادة ما سواه، بالجنان والأركان، وعمل بما اقتضته من فرائض الإسلام والإيمان، كان معصوم الدم والمال، ومن لا، فلا.

قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] فدلت هذه الآية الكريمة، على أن عصمة الدم والمال، لا تحصل بدون هذه الثلاث، لترتبها

ص: 250

عليها ترتب الجزاء على الشرط; وفي الصحيح عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى "1.

فلا بد لتصحيحها من الإخلاص لله تعالى، ونفي الشرك، كما قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا الَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ الَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 2-3] .

ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] وفي المتفق عليه، من حديث معاذ " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 2 فمن تأله قلبه غير الله، ودعاه من دون الله، فقد أشرك بالله، والله لا يغفر أن يشرك به، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [سورة الأحقاف آية: 5] الآية وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ِإنْ تَدْعُوهُمْ

1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .

2 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/260 ،5/228 ،5/229 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/238 ،5/242) .

ص: 251

لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] .

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65-66] وفي المتفق عليه من حديث ابن مسعود، أنه " قيل: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك "1، وفي رواية لمسلم " أن تدعو لله ندا "2 الحديث. والله المستعان.

سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم؟

فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام، لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى.

1 البخاري: تفسير القرآن (4477 ،4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ،7532)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .

2 البخاري: تفسير القرآن (4477 ،4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ،7532)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .

ص: 252

وأما من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفره ونقاتله، ونشن عليه الغارة، بل بداره; وكل من قاتلناه فقد بلغته دعوتنا، بل الذي نتحقق ونعتقده: أن أهل اليمن وتهامة، والحرمين والشام والعراق، قد بلغتهم دعوتنا، وتحققوا أنا نأمر بإخلاص العبادة لله، وننكر ما عليه أكثر الناس، من الإشراك بالله من دعاء غير الله، والاستغاثة بهم عند الشدائد، وسؤالهم قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات; وأنا نأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر أمور الإسلام; وننهى عن الفحشاء والمنكرات، وسائر الأمور المبتدعات; ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر، لما أعطاه الراية، وقال:" انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام "1، فهو عند أهل العلم على الاستحباب، وأما إذا قدرنا: أن أناسا لم تبلغهم دعوتنا، ولم يعلموا حقيقة أمرنا، فإن الواجب دعوتهم أولا قبل القتال، فيدعون إلى الإسلام، وتكشف شبهتهم إن كان لهم شبهة، فإن أجابوا فإنه يقبل منهم، ثم يكف عنهم، فإن أبوا حلت دماؤهم وأموالهم.

1 البخاري: الجهاد والسير (2942) والمغازي (4210)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406) ، وأحمد (5/333) .

ص: 253

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا كان في البلدة وثن يدعى من دون الله، ولم ينكر، هل يقال هذه بلدة كفر؟ أو بلدة إسلام؟

فأجاب: لا ينبغي الجزم بأحد الأمرين، لاحتمال أن يكون في البلد جماعة على الإسلام مظهرين ذلك، فإن هذه الدعوة التي ظهرت بنجد، ومكنها الله بالجزيرة، قد قبلها أناس، كما بلغنا عن الأفغان، والصومال، أن في كل منهما طائفة تدين بالتوحيد، وتظهره، وقد يكون غيرهم كذلك، لأن هذه الدعوة قد شاعت في كل بلاد، وقرؤوا مصنفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فيما أجاب من عارضه، وقد بلغنا من ذلك عن بعض أهل الأقاليم، ما يوجب التوقف.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك، والشرك فيها ظاهر، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، مع عدم القيام بحقيقتها، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك، هل تسمى دار كفر، أو دار إسلام؟

فهذه المسألة: يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء، في بلدة كل أهلها يهود، أو نصارى، أنهم إذا بذلوا الجزية،

ص: 254

صارت بلادهم بلاد إسلام; وتسمى دار إسلام، فإذا كان أهل بلدة نصارى، يقولون في المسيح أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أنهم إذا بذلوا الجزية سميت بلادهم بلاد إسلام، فبالأولى فيما أرى: أن البلاد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها، أولى بهذا الاسم، ومع هذا يقاتلون لإزالة مشاهد الشرك، والإقرار بالتوحيد والعمل به.

بل لو أن طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام، قوتلوا وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين، ودارهم دار إسلام; قال الشيخ تقي الدين: أجمع العلماء على أن كل طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، تقاتل حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين، وأولى; انتهى. وما ذكرناه عن العلماء من أنهم يسمون البلدة التي أهلها يهود، أو نصارى، دار إسلام، يذكرون ذلك في باب اللقيط وغيره.

ص: 255

[قتل المشرك الحربي]

سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قتل المشرك الحربي.. إلخ. فأجاب:

لا يمنع المسلم من قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق، إلا إذا أعطاه ذمة، أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث:" ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ".

وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، لبعض إخوانه: وما ذكرت من فقد الإخوان، فهو وصمة على الدين والإيمان، ويدل على أن ما أخبر به الصادق المصدوق قد آن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "1.

وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويوضع الجهل " 2 في أحاديث كثيرة في هذا المعنى؛ وقد وقع كما أخبر به الصادق المصدوق.

وبعد ذلك: بلغني ما ساءني، وعسى أن يكون كذبا، وهو: أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء، التي تؤخذ منهم قهرا؛ فإن كان صدقا فلا أدري ما عرض لك؛ والذي عندنا أنه لا ينكر مثل هذا، إلا من يعتقد معتقد

1 البخاري: العلم (100)، ومسلم: العلم (2673)، والترمذي: العلم (2652)، وابن ماجه: المقدمة (52) ، وأحمد (2/162 ،2/190 ،2/203)، والدارمي: المقدمة (239) .

2 البخاري: العلم (80) والحدود (6808)، ومسلم: العلم (2671)، والترمذي: الفتن (2205)، وابن ماجه: الفتن (4045) ، وأحمد (3/98) .

ص: 256

أهل الضلال، القائلين أن من قال: لا إله إلا الله لا يكفر، وأن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضى بذلك، وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام.

وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في أصل هذه الدعوة، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذه البلد، بإظهار المسبة لله ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام.

هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن، من مستضعف ونحوه; وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والعرض، وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء من الكفر والردة، أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك.

فارجع النظر في نصوص الكتاب والسنّة، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا

ص: 257

هالك، ثم فيما ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب، وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلك، ولا يغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات.

فإنه قد بلغني: أن بعض الناس، يقول: في الأحساء من هو مظهر دينه، لا يرد عن المساجد والصلاة، وأن هذا عندهم هو إظهار الدين; وهذه زلة فاحشة، غايتها: أن أهل بغداد، وأهل مَنْبَجْ، وأهل مصر، قد أظهر من هو عندهم دينه، فإنهم لا يمنعون من صلى، ولا يردون عن المساجد.

فيا عباد الله: أين عقولكم؟ فإن النِّزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس هو في الصلاة; وإنما هو في تقرير التوحيد، والأمر به، وتقبيح الشرك، والنهي عنه، والتصريح بذلك، كما قال إمام الدعوة النجدية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:

الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.

الأمر الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله; هذا هو إظهار الدين، يا عبد الله بن حسين.

فتأمل أرشدك الله: مثل قوله تعالى، في السور المكية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى آخر السورة، فهل وصل إلى قلبك: أن الله أمره أن يخاطبهم، بأنهم كافرون، وأخبر بأنه لا يعبد ما يعبدون، أي أنه بريء

ص: 258

من دينهم، ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي أنهم بريئون من التوحيد، ولهذا ختمها بقوله:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] فهنا يتضمن براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه.

وتأمل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] فهل سمعت الله يأمر نبيه أن يقول لهم: إني بريء من دينهم؟ وأنه أمره أن يكون من المؤمنين الذين هم أعداؤهم؟ ونهاه أن يكون من المشركين، الذين هم أولياؤهم وحزبهم؟.

وفي القرآن آيات كثيرة، مثل ما ذكر الله عن خليله، والذين معه {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الممتحنة آية: 4] الآية فأمرنا الله بالتأسي بهم قولا وفعلا، وقصدي أنبهك خوفا من المواخاة على غير طائل في الدين، أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن.

[بلاد الكفر وبلاد الإسلام]

وقال أيضا: رحمه الله، لمن ناظره في أهل مكة {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا الَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر، أم بلد إسلام; فنقول وبالله التوفيق: قد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الذي هو دين جميع الرسل، وحقيقته هو مضمون

ص: 259

شهادة أن لا إله إلا الله، وهو أن يكون الله معبود الخلائق فلا يتعبدون لغيره بنوع من أنواع العبادة; ومخ العبادة هو الدعاء، ومنها الخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والفزع، والصلاة، وأنواع العبادة كثير، وهذا الأصل العظيم، الذي هو شرط في صحة كل عمل.

والأصل الثاني: هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره، وتحكيمه في دقيق الأمور وجليلها، وتعظيم شرعه ودينه، والإذعان لأحكامه في أصول الدين وفروعه.

فالأول: ينافي الشرك، ولا يصح مع وجوده.

والثاني: ينافي البدع، ولا يستقيم مع حدوثها; فإذا تحقق وجود هذين الأصلين، علما وعملا ودعوة، وكان هذا دين أهل البلد، أي بلد كان، بأن عملوا به، ودعوا إليه، وكانوا أولياء لمن دان به، ومُعادين لمن خالفه، فهم موحدون.

وأما إذا كان الشرك فاشيا، مثل دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين، وإفشاء توابع الشرك، مثل الزنى والربا، وأنواع الظلم، ونبذت السنة وراء الظهر، وفشت البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة، ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلوما في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم: أن هذه البلاد، محكوم عليها بأنها بلاد كفر، وشرك; لا سيما إذا كانوا معادين لأهل التوحيد، وساعين في

ص: 260

إزالة دينهم، ومعينين في تخريب بلاد الإسلام; وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك، وجدت القرآن كله فيه، وقد أجمع عليه العلماء، فهو معلوم بالضرورة عند كل عالم.

وأما قول القائل: ما ذكرتم من الشرك، إنما هو من أفقية لا من أهل البلد; فيقال: أوّلاً: هذه إما مكابرة، أو عدم علم بالواقع، فمن المقرر: أن أهل الآفاق تبع لأهل تلك البلاد، في دعاء الكعبة والمقام والحطيم، كما يسمعه كل سامع، ويعرفه كل موحد. ويقال ثانيا: إذا تقرر، وصار هذا معلوما، فذلك كاف في المسألة، ومن الذي فرق في ذلك؟!

فيالله العجب، إذا كنتم تخفون توحيدكم في بلادهم، ولا تقدرون أن تصرحوا بدينكم، وتخافتون بصلاتكم، لأنكم علمتم عداوتهم لهذا الدين، وبغضهم لمن دان به، فكيف يقع لعاقل إشكال؟ أرأيتم لو قال رجل منكم لمن يدعو الكعبة، أو المقام، أو الحطيم، أو يدعو الرسول، أو الصحابة: يا هذا لا تدع غير الله! أو أنت مشرك، هل تراهم يسامحونه؟ أم يكيدونه؟ فليعلم المجادل أنهم ليسوا على توحيد الله; فوالله ما عرف التوحيد، ولا تحقق بدين الرسول صلى الله عليه وسلم.

أرأيت لو أن رجلا عندهم، وقال: يا هؤلاء راجعوا دينكم، واهدموا البنايات التي على القبور، ولا يحل دعاء

ص: 261

غير الله، هل يكفيهم فيه فعل قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ لا والله لا والله; وإذا كانت الدار دار إسلام، لأي شيء لم تدعوهم إلى الإسلام؟ وتأمروهم بهدم القباب، واجتناب الشرك وتوابعه؟ فإن يكن قد غركم أنهم يصلون، أو يحجون، فتأملوا الأمر من أوله; وهو: أن التوحيد قد تقرر في مكة، بدعوة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان، ثم إنه فشا فيهم الشرك، بسبب عمرو بن لحي، فصاروا مشركين، وصارت البلاد بلاد شرك، مع أنه قد بقي معهم أشياء من الدين، كما كانوا يحجون، ويتصدقون على الحاج.

وقد بلغكم شعر عبد المطلب، الذي أخلص فيه في قصة الفيل، وغير ذلك من البقايا، ولم يمنع ذلك الزمان من تكفيرهم وعداوتهم، بل الظاهر عندنا وعند غيرنا: أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان، بل قبل هذا كله، أنه مكث أهل الأرض عشرة قرون على التوحيد، حتى حدث فيهم الغلو في الصالحين، فدعوهم مع الله فكفروا، فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد; فتأمل ما قص الله عنهم; وكذلك ما ذكر الله عن هود: أنه دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، لأنهم لم ينازعوه في أصل العبادة، وكذلك إبراهيم، دعا قومه إلى إخلاص التوحيد; وإلا فقد أقروا لله بالإلهية.

ص: 262

وجماع الأمر: أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله وتوابع ذلك، واستمر أهلها عليه، وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد، وأبوا عن الانقياد للدين، فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر، وأنهم منهم بريئون; من أهل مكة أو غيرهم، مع مسبتهم لأهل التوحيد، وتخطيئتهم لمن دان به، والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة.

وأما القضايا الجزئية، فنقول: قد دل القرآن والسنّة، على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك، والانقياد لهم، ارتد بذلك عن دينه، تأمل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 25] مع قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] وأمعن النظر في قوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] وأدلته كثيرة.

ولا تنس ما ذكر الله، في سورة التوبة {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 66] وقوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 74] واذكر قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ

ص: 263

مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .

وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [سورة الحج آية: 72] وقد علمت حالهم، إذا دعوا إلى التوحيد، انقهروا، والله أعلم.

[الآيات الدالة على عبادة الله وحده]

وقال الإمام: سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليه أتوكل ولا قوة إلا بالله. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ الَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا الَاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [سورة الأنعام آية: 1-7] .

ص: 264

وقال تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 1-3] .

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً الَاّ غُرُوراً} [سورة فاطر آية: 40] وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4-6] .

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة العنكبوت آية: 41-42] وقال تعالى

ص: 265

حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ الَاّ لِلَّهِ أَمَرَ الَاّ تَعْبُدُوا الَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 39-40] .

وقال تعالى مثلا لمن دعا غيره: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ الَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ الَاّ فِي ضَلال} [سورة الرعد آية: 14] وقال تعالى: {ٍقُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ الَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] .

وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة سبأ آية: 40-41] .

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا

ص: 266

يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] .

وقال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [سورة الحج آية: 12-13] .

وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الَاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ الَاّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [سورة النساء آية: 117-118] وقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن عبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون} [سورة يس آية: 60-62] .

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ

ص: 267

لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 39-40] .

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [سورة إبراهيم آية: 18] وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] وأمثال هذا في القرآن كثير، كل ذلك في النهي عن الشرك وتقبيحه، وبيان بطلانه; والتبرؤ منه واجب قبل التوحيد.

وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] وهو معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ

ص: 268

خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 35-36] .

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .

وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .

وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة محمد آية: 19] وأكثر القرآن يدل على هذا، ويقرر عبادة الله وحده لا شريك له، ويحذر من عبادة ما سواه.

ص: 269

والعبادة: هي أفعال العباد، وهي اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فهو مشرك، سواء كان عابدا أو فاسقا، وسواء كان مقصوده صالحا أو فاسدا، ولا يعمي عن هذا إلا طاعة الشيطان، واتباع الهوى، والتكبر عن اتباع الحق، والمجادلة بالباطل، كما قال تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] .

وقال تعالى لعبده داود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26ب] وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] .

وقال تعالى حكاية عن المشركين: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] وفي الآية الأخرى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] وقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 270

فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [سورة غافر آية: 4] . إلى قوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [سورة غافر آية: 5-6] .

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16] وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 7] وقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سورة الجاثية آية: 9-11] .

وقال تعالى في حق القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت آية: 44] وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] وقال تعالى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ

ص: 271

عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} : [سورة الجن آية: 19-21] .

وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [سورة طه آية: 123-124] .

والهدى الذي وعد الله به خلقه: محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ما تحصى ولا تعد.

فمن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ عشر سنين، وبعض الحادية، قبل أن تفرض الفرائض: يدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، وترك عبادة ما سواه، يوافي الناس بالمواسم صلى الله عليه وسلم بعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، يقول:" يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكا في الجنة " فلما قال لعمه أبي طالب، حين حضرته الوفاة " يا عم قل لا إله إلا الله "، قال أبو جهل، وعبد الله ابن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟

ولما قال لقومه: " قولوا لا إله إلا الله " 1 قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] فعرف كفار قريش: أن قول لا إله إلا الله، ليس مجرد اللفظ، وإنما

1 الترمذي: تفسير القرآن (3232) ، وأحمد (1/227) .

ص: 272

معناها نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله تعالى وحده لا شريك له; فلا خير فيمن كفار قريش، أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.

وفي الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " 1 وفي الحديث الثاني: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل " 2 قال أبو بكر رضي الله عنه: "فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالا، وفي رواية عناقا، كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها ".

وفي الحديث الثالث: " أُمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به "3، وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم "4.

وفي الحديث أيضا: " حين سأله جبرائيل عليه السلام، بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم، قال: يا محمد: أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،

1 البخاري: الزكاة (1400) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) والاعتصام بالكتاب والسنة (7285)، ومسلم: الإيمان (20 ،21)، والترمذي: الإيمان (2607)، والنسائي: الجهاد (3094)، وأبو داود: الزكاة (1556)، وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927) ، وأحمد (1/11 ،1/19 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528) .

2 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .

3 مسلم: الإيمان (21) .

4 أحمد (2/92) .

ص: 273

وتحج البيت. قال: صدقت; قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إلى آخر الحديث:" فلما ولَّى، قال لعمر: أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ".

ومن ذلك: مما يرد قولكم، ويبطل أعمالكم، قوله صلى الله عليه وسلم:" كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "1، وفي الحديث الآخر:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2 وفي الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا" وما هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".

وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "3 قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء آية: 80] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .

1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .

2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240 ،6/270) .

3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، وابن ماجه: المقدمة (1 ،2) ، وأحمد (2/258 ،2/313 ،2/428) .

ص: 274

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "1.

فالناصح لنفسه، الطالب نجاتها، المتبع للحق، يأخذ دينه من أصله، من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19ب]{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] وهذا كتاب الله بين أيديكم، وتفاسيره موجودة، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وشروح العلماء الربانيين، وما فسروا به القرآن، والأحاديث.

والقول الذي لا حقيقة له، لا يجدي على قائله شيئا، فدعواك أنك على حق، فمعاذ الله، ووعودك باطلة، ومن أكذب الكذب، وكل من له عقل صحيح، يشهد ببطلان قولك، وافترائك، وكذبك; فإن قلت: إن الله أمر بعبادة غيره، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها، فهذا عين الباطل، وأكذب الكذب، الذي ترده الفطرة، وكتاب الله وسنة رسوله.

وإن قلت: إنكم لم تعبدوا غير الله، ولم ترضوا بذلك، ولم تأمروا به الناس، فأفعالكم تبطل أقوالكم ظاهرا وباطنا، فإذا كان هذه الحضرات الباطلة، والمشاهد الملعونة، والبنايات على القبور، وصرف حق الله تعالى

1 أبو داود: السنة (4607) .

ص: 275

لها، من دعاء وذبح ونذر، وخوف ورجاء، وسؤال ما لا يسأل إلا من الله تعالى، والصلاة عندها، والتمسح بها، والهدايا إليها، وما أشبه ذلك من الأمور الشنيعة القبيحة، كل ذلك موجود عندكم ظاهرا، والذي لم يفعل ذلك فهو راض بفعله، وذاب عن أهله بالمال واللسان واليد.

وكذلك الصلوات الخمس متروكة، وكثير من الناس عندكم لم يصلوا جمعة ولا جماعة، ولا منفردين، والذي يصلي منكم، الكثير منهم يصلي في بيته منفردا، والذي يصلي جماعة قليل الناس، فإذا صلى خرج على الناس وهم في الأسواق، تاركين الصلاة، مقيمين على الفسوق، واللهو، والفجور، والبغي، ولا ينكر عليهم.

وكذلك الزكاة متروكة، لا تخرج من الأموال، ولا تخرص الثمار، ولا يعمل فيها عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجبي زكاتها، ولا تصرف في مصارفها التي صرفها الله من فوق سبع سماوات، كما قال صلى الله عليه وسلم " إن الله لم يرض في الزكاة بقسم نبي ولا غيره، بل جزأها بنفسه، وتولى قسمها، بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] ".

وجميع أعمال البر غير الفرائض، لم تكن لكم شعارا،

ص: 276

ولم تأمروا بها، وجميع القبائح عندكم ظاهرة، وهي سجية كثيركم، الشرك بالله، والزنا، واللواط فعل قوم لوط، أهل المؤتفكات، الذين قال الله فيهم:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [سورة النجم آية: 53-54] نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، من سخطه وعقابه.

وكذلك الربا والسحر، والادعاء يعني ادعاء علم المغيبات، وجميع الآثام، كالخمر وأنواعه من المسكر، كالتنباك وأشباهه، والبغي والظلم والعدوان، وأخذ أموال الضعفاء والفقراء، وأرباب الأموال، وأهل الحرث، تأخذون أموالهم قهرا وظلما وعدوانا، وأشباه ذلك مما يطول عده، ويكثر ذكره، كل ذلك وأمثاله عندكم لم تنكروه.

والذي يدعي أنه لم يفعل من ذلك شيئا، فهو كما قدمنا لم ينكر، ولم يفارق أهله، بل هو قائم بنصرتهم بماله ولسانه، فهو وإن لم يفعل ذلك، فهو وهم سواء، كما قال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] .

وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا

ص: 277

إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] . وفي الحديث: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1 وفي الحديث الثاني: " لا تراءى ناراهما " 2 وها أنتم تعوفون فعلكم، وتعرفون ما عندكم من الشرك والقبائح، وتعرفون أنفسكم، كما قال تعالى:{بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [سورة القيامة آية: 14-15] .

وإن قلت أيها المبطل: إن الذي أنتم عليه، هو الذي أمر الله به ورسوله، فقد كذبت وافتريت على الله ورسوله، وكابرت بالكفر والضلال، ونسبت إلى الله ما لا يليق به، ونسبت إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق بحقه، ويكذبك في ذلك كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وخلفها، كما قال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة الزمر آية: 32] .

واعتمدت في ذلك على قول إخوانك الكفرة، الذين من قبلك، بما ذكر الله عنهم في كتابه، بقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

2 الترمذي: السير (1604)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 278

الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف آية: 28-29] .

وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] . وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك فرعون، حيث قال لما دعاه موسى عليه السلام، قال لقومه:{مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية: 29] فزعم عدو الله أنه وأعظ مذكر، قبحه الله من واعظ ومذكر.

وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك أبو جهل، حين قنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة " 1 قال الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [سورة الأنفال آية: 19] فأحانه الله الغداة، ولله الحمد والمنة، وطأ على رقبته عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في المعركة، وقال عدو الله: لمن الدائرة اليوم؟ فقال: " لله ورسوله، يا عدو الله، جعلك الله كذلك"; ونقول: جعلك الله كذلك، إن شاء الله تعالى.

وأما إنكارك: علينا تحليق الرؤوس، وتقول: إنا نحرم إسبال الشعر، ولم تلق علينا غير ذلك; فنقول: إنك كاذب علينا، ولا نقول إنه حرام إسبال الشعر، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، يسبلون الشعر؛ وها أنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحلق الشوارب، وإرخاء اللحى، وخالفتموه، حلقتم اللحى، وعقدتم الشوارب، وشابهتم النصارى في ذلك.

1 أحمد (5/431) .

ص: 279

فإن كنت تزعم أن كل من حلق رأسه خارجي، فانظر في رعاياك، وتراك ما تلقى في بغداد إلا محلوقا رأسه، وربما أنك محلوق رأسك.

فالذي نفعل ولا ننكر: أنه لما رزقنا الله الإسلام، وقام القتال بيننا وبين أعدائنا، وقع مقاتلة عظيمة ومعركة، واختلط المسلمون والكفار، فحاذر المسلمون على بعضهم من بعض، وكثير منهم اختار التحليق، وبعض منهم ما يحبون الشعر، والشعر إما يحسَّن أو يحلق، ومن شاء التحليق حلق; ومن شاء الإسبال أسبل، ولم نمنع أحدا من ذلك; وأما الذي يسبل الشعر، ويجعله وسيلة إلى الكفر والردة، فنحلق رأسه غما له، وإخلافا لعقيدته الفاسدة، إذا ظننا به الشر.

وأما ما ذكرت: إنا نقتل الكفار، فهذا أمر ما نتعذر عنه، ولم نستخف فيه، ونزيد في ذلك إن شاء الله، ونوصي به أبناءنا من بعدنا، وأبناؤنا يوصون به أبناءهم من بعدهم، كما قال الصحابي: على الجهاد ما بقينا أبدا.

ونرغم أنوف الكفار، ونسفك دماءهم، ونغنم أموالهم بحول الله وقوته، ونفعل ذلك اتباعا لا ابتداعا، طاعة لله ولرسوله، وقربة نتقرب بها إلى الله تعالى، ونرجو بها جزيل الثواب، بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا

ص: 280

الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 5] . وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الأنفال آية: 40] وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [سورة محمد آية: 4] الآية وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 14] الآية.

ونرغب فيما عند الله من جزيل الثواب، حيث قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصف آية: 10-11] والآيات والأحاديث ما تحصى في الجهاد، والترغيب فيه.

ولا لنا دأب إلا الجهاد، ولا لنا مأكل إلا من أموال

ص: 281

الكفار، فيكون عندكم معلوما: أن الدين مبناه وقواعده، على أصل العبادة لله وحده لا شريك له، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، كما قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .

وأما ما ذكرت من مسكننا في أوطان مسيلمة الكذاب، فالأماكن لا تقدس أحدا، ولا تكفره، وأحب البقاع إلى الله وأشرفها عنده مكة، خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي فيها إخوانك أبو جهل، وأبو لهب، ولم يكونوا مسلمين. والله جل ثناؤه جرت عادته بالمداولة، ولو في الأرض، بدّل دين مسيلمة بدين محمد صلى الله عليه وسلم وبدّل تصديق مسيلمة بتكذيبه، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نرجو أن الله يبدّل ذلك في أوطانكم سريعا، ونحن نزيل منها الباطل، ونثبت فيها الحق، إن شاء الله بحول الله وقوته.

وأما ما ذكرتم أنكم مشيتم على الأحساء، فنقول: الحمد لله على ذلك الممشى، فإنه ولله الحمد والمنة، هتك أستاركم به، ونزع به مهابتكم من قلوب المسلمين، وأخزاكم الله به الخزي العظيم الظاهر والباطن، الذي ما عليه مزيد، وقبله الممشى الذي أخذت به مدافعكم، وقتلت فيه عساكركم، يهلكون في كل منهل، ولكن كما قال تعالى:{وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية:

ص: 282

101] .

وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة الرعد آية: 31] .

فلما أتيتم الأحساء، وارتد معكم أهلها، ولم يبق إلا قصران من المسلمين، في كل واحد منهما خمسون رجلا، فيهم أطراف الناس، ما يعرفون من المسلمين، وأعجزكم الله تبارك وتعالى عنهم، وكدتموهم بكل كيد تقدرون عليه، مع وجه الأرض وباطنها، ونحن في ذلك نجمع لكم الجموع، ولا لنا همة غير ذلك، فلما تهيأنا للهجوم عليكم، ولم يبق بيننا وبينكم إلا مسيرة خمس مراحل، قذف الله الرعب في قلوبكم، ووليتم هاربين منهزمين، لا يلوي أحد على أحد، وأشعلتم النار في علف حصنكم، وثقل حملكم وخيامكم، كما قال تعالى:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] .

فلما علمنا بانهزامكم مدبرين، أخذنا لوجهكم طالبين، ورجع من المسلمين قريب ثلثي العسكر، لما عرفوا أن الله أوقع بكم بأسه، ولحقناكم، وأتيناكم من عند وجوهكم، ونوخنا مناخ سوء لكم، ورجونا أن الله قد أمكننا منكم، وأن يمنحنا أكتافكم، ويورثنا أرضكم ودياركم.

فلما حل بكم العطب، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، واستسلمتم لزهوق نفوسكم، توسلتم بابن ثامر،

ص: 283

وأمرته يبدي لنا الرقة والوجاهة، جاءنا، ثم جاءنا ركبك، وكتابك، وتوجهك، وجنحنا لقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنفال آية: 61] وأنت في تلك الساعة متحير برهانك، ضائع رأيك، تتأكى في وسط الناس على المراغة، وتقول: أحطكم في جحر عيني، ولح علينا حمود بن ثامر، ومحمد بيك، بالوجاهة ; وفي حال الحرب وأنت متق عنا بالعربان، جاعلهم بيننا وبينك، ولا خير فيمن جعل الأعراب ذراه. وقولك: إنا أخذنا كربلاء، وذبحنا أهلها، وأخذنا أموالها، فالحمد لله رب العالمين، ولا نتعذر من ذلك، ونقول:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [سورة محمد آية: 10] .

وقولك: إنك طلبتنا أنت وباشتك، فالكذب عيب في أمر الدين والدنيا، قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105] . وجميع الناس يفهمون: أنا لما نزلنا الأخيضر فوق القصر، على ثغبان، أقمنا بها سوق الحراج، على أموال الكفرة عبدة الأوثان، وأقمنا إحدى عشرة ليلة على منْزل واحد، وركابنا كلها عزيب ليست عندنا، وربما عندك من العربان من هو معنا في ذلك المنْزل، اسألهم يخبرونك إن كنت لا تدري.

ونحن ننتظركم في تلك المدة أنكم تظهرون علينا،

ص: 284

ونكر عليكم، ونستأصل عساكركم، ونتغلب على بلدانكم، فلما أيسنا منكم، وفرغ المسلمون من بيع ما أفاء الله عليهم، رحلنا بالعز والسلامة، والمغنم والأجر إن شاء الله تعالى. ثم بعد ذلك مشينا ونزلنا على بلدك البصرة، وأقمنا بها عشرة أيام، وذبحنا ودمرنا ما بلغك علمه.

والممشى الثالث: نحرناك في رأس الهندية، فلم نجدك، وقدمنا إلى المشهد، قواسة يقوسون حفره، فلما قصر الخشب، رجعنا ونزلنا الهندية، وقعدت جموع المسلمين حتى وصلت قريبا من خان ذبلة، وكل من لقوه وضعوا عليه السيف، ومن خان ذبلة إلى البصرة، أقمنا بها قريبا من عشرين ليلة، نأخذ ونقتل من رعاياك الحاضر والبادي، والأثر يدل على المؤثر; انظر ديارك الفلاحين والبوادي، من بغداد إلى البصرة، كم دمرت من الديار، ولم يبق فيها أثر - ولله الحمد والمنة - كل جميع هذه الجهة.

وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم من غير استحلال لحرمتهما.

ص: 285

ونحن - ولله الحمد - أهل احترام لحرمه وتعظيمه، لا أنتم، كما قال الله تعالى:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . فلما ضاق بهم الحال، وقطعنا عليهم السبل، ثم بعد ذلك فاؤوا ورجعوا، وانقادوا إلى أمر الله ورسوله، وأذعنوا للإسلام وأقروا به، وهدمنا الأوثان، وأثبتنا فيها عبادة الرحمن، وأقمنا فيها الفرائض، ونفينا عنها كل قبيح مما حرم الله ورسوله، ولم نكن - ولله الحمد - نسفك فيها دما، ولا نأخذ مالا، ولا ننفر منها صيدا، ولا نعضد شجرا.

فإذا كنت تزعم أنها من ولايتك، فما منعك أن تفك ولايتك، أو تنفع أهلها بِميْرة حين ضاق بهم الحال، بل كنت إلى الآن لم تؤد فريضة حجك، وأرجو أن تموت على ملتك النصرانية، وتكون من خنازير النار، إن شاء الله.

وما ذكرت من افتخارك أنك وزير بغداد، فنعوذ بالله من هذه الوزارة، بل تحملت وزرك، وأوزار من اتبعك، كما قال تعالى {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 25] . وإنما افتخر بمثل ذلك أخوك فرعون، بقوله:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف آية: 51] إلى قوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ

ص: 286

فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [سورة هود آية: 99] .

فلما ولاك الله رعيتك، فما بالك لم تتولها بخير؟ بل توليتها بشر; فعلت بهم من الظلم، وسفك الدماء والعدوان، ما لا يوصف، ولا يفعله من يؤمن بالله واليوم الآخر، وخنت في أمانتك التي استأمنك عليها سيدك سليمان باشا، الذي اشتراك من حر ماله، وجمعك أنت رابع أربعة، حين حضرته الوفاة، يوصيكم على عياله، وأخذ عليكم العهد والميثاق، وخنت بالعهد، وذبحت الثلاثة، ونفيت عيال سيدك من مملكتهم، وتوليت أموالهم.

والعجب كل العجب من رعيتك، الذين يزعمون أنهم أهل ذكاء وفطنة، يرضون أنهم يولون عليهم رجلا، أصله نصراني على غير ملتهم، وفرعه مملوك، وهذا أعظم ما دلنا على ذهابهم إن شاء الله، وتدمير أمرهم بحول الله وقوته.

فإن أردت النجاة وسلام الملك، فأنا أدعوك إلى الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم " أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين " و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً

ص: 287

مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 33] .

[المهادنة والمسابلة على غير الإسلام أمر محال]

وأما المهادنة: والمسابلة على غير الإسلام، فهذا أمر محال بحول الله وقوته، وأنت تفهم أن هذا أمر طلبتموه منا مرة بعد مرة، وأرسلتم لنا عبد العزيز القديمي، ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك وطلبتم المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزية، وفرضتم على أنفسكم كل سنة، ثلاثين ألف مثقال ذهبا، فلم نقبل ذلك منكم، ولم نجبكم للمهادنة. فإن قبلتم الإسلام فخيرتها لكم وهو مطلوبنا، وإن أبيتم فنقول لكم، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 137] ونقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران آية: 173] ونقول: يا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 3] ونقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء آية: 81] ونقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سورة سبأ آية: 49] ونقول كما قال الله

ص: 288

لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة آية: 129] .

وما ذكرته من المواعدة، فالزمط ليس للرجال، ونشيم أنفسنا عن الزمط والكذب، ومتى وصلنا الله وصلناكم عن قريب إن شاء الله تعالى، فإذا سمعت ضرب المدافع والبارود، ورأيت الحريق في بلدانك إن شاء الله، فلا تذخر، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

[ما يوجب الجهاد]

وقال بعضهم، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون.

أما بعد:

فإنه قد بلغني أن بعض الناس قد أشكل عليه جهاد المسلمين لأهل حايل، هل هو شرعي أم لا؟ فأقول وبالله التوفيق: الجهاد مشروع لأحد أمور: منها: الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، فمن خرج عن

ص: 289

طاعته، وجب جهاده على جميع الأمة، ولو كان الخارج مسلما، كما " جاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج، وهو يعتقد إسلامهم; فإنه سئل عن كفرهم، فقال: من الكفر فروا; " وقال مرة أخرى لما سئل عنهم: "إخواننا بغوا علينا".

والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم " من أتاكم وأمركم جميع على رجل، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه كائنا من كان "1. وما زال الأئمة في كل زمان ومكان، يجاهدون من خرج عن طاعة إمام المسلمين، والعلماء يجاهدون معهم ويحضونهم على ذلك، ويصنفون التصانيف في فضل ذلك، وفي فضل من قام فيه، لا يشك أحد منهم في ذلك، إلا أن يأمر الإمام بمعصية الله، فلا تحل طاعته لأحد، بل تحرم طاعة مخلوق في معصية الخالق.

وأهل حائل أمرهم الإمام بالدخول في الطاعة، ولزوم السنّة والجماعة، ومنابذة أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم، فأبوا ذلك وتبرؤوا منه; والإمام يقول - من أول الأمر إلى يومنا هذا - لهم الشريعة، مقدمة بيني وبينكم، نمشي على ما حكمت به، على العين والرأس، فلم يقبلوا ولم ينقادوا، فوجب قتالهم على جميع المسلمين، لخروجهم عن الطاعة، حتى يلتزموا ما أمرهم به الإمام من طاعة الله تعالى.

1 مسلم: الإمارة (1852) .

ص: 290

الأمر الثاني: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحل دمه وماله، ووجب قتاله حتى يكفر المشركين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه "1،علق عصمة المال والدم بأمرين:

الأمر الأول: قول: لا إله إلا الله;.

الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله.

فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين:

الأول: قوله: لا إله إلا الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة.

الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدّل سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين ; فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في

1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .

ص: 291

نواقض الإسلام: الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر; وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر.

الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: ظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارا منه، فقد كفر.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام: لثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] فمن اتصف بشيء من هذه الصفات، مما ينقض الإسلام، أو منع شيئا من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجاهد حتى يقر بذلك ويلتزمه.

وبهذا يتبين لك: أن جهاد أهل حائل، من أفضل الجهاد، ولكن لا يرى ذلك إلا أهل البصائر، وأما من لا بصيرة عنده، فهو لا يرى الجهاد إلا لأهل الأوثان خاصة، وأما من أقر بالشهادتين، فلا يرى جهاده، بل ذلك قد أشكل

ص: 292

على من هو أجل من أهل زماننا، كما قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:" كيف تقاتل الناس؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها فقال أبو بكر رضي الله عنه إن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها "1.

فدل هذا على أن من منع حقا من حقوق الإسلام، أنه يجب جهاده، وأنه من أفضل الأعمال، وأن الذي يرى ذلك حقا هو من أبصر الناس، فيحمد الله على ذلك، والدليل على أنه من أبصر الناس، قصة أبي بكر مع عمر رضي الله عنهما، فإنه فهم أن قتالهم حق، وقد أقروا بالشهادتين، وتركوا الشرك ; وعمر رضي الله عنه لم يفهم ذلك، حتى بين له أبو بكر رضي الله عنه.

وكان العلماء رحمهم الله يعدون فهم أبي بكر لهذا من فضائله، وهذا كاف لمن قصده الحق، وأما من أعمى قلبه الهوى عن الهدى، فلا حيلة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

[الاستعانة بالمشرك]

وتقدم قول الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في شبهة من

1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .

ص: 293

قال بالاستعانة بالمشرك عند الضرورة، والتتمة في ذلك 1.

وقال في موضع آخر: وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة:" إنا لا نستعين بمشرك " 2 وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم; وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة وزلة ذميمة، كيف والإسلام إذ ذاك يعلو أمره، ويقدم أهله؟ ويهدّ ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس؟

وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التتر والنصيرية ونحوهم، كل هذا مستفيض في كلامه، وكلام أمثاله; وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صار الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهلها.

وأما مسألة: الاستنصار، فمسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون، منع ذلك مطلقا، وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن عوف، وهو حديث صحيح مرفوع، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص، والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد

1 أي: في صفحة: 373 و374/ج/8.

2 مسلم: الجهاد والسير (1817)، والترمذي: السير (1558)، وأبو داود: الجهاد (2732)، وابن ماجه: الجهاد (2832) ، وأحمد (6/67 ،6/148)، والدارمي: السير (2496) .

ص: 294

عرفت ما في المراسيل، إذا عارضت كتابا أو سنّة.

ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وأن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وأن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، كل هذا ذكره الفقهاء، وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جدا، وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام.

وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ، واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، المستفاد من حديث الحسن، وحديث النعمان، وما أحسن ما قيل:

والعلم ليس بنافع أربابه ما

لم يفد نظرا وحسن تبصر

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهما الله في أثناء كلام له:

فلو وفق الإمام للاهتمام بالدين، واختار من كل جنس أتقاهم، وأحبهم، وأقربهم إلى الخير، لقام بهم الدين والعدل; فإذا أشكل عليه كلام الناس، رجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 295

" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "1. فإذا ارتاب من رجل، هل كان يحب ما يحبه الله، نظر في أولئك القوم، وسأل أهل الدين: من تعلمونه أمثل القبيلة، أو الجماعة في الدين، وأولاهم بولاية الدين والدنيا؟ فإذا أرشدوه إلى من كان يصلح في ذلك، قدمه فيهم، ويستعين عليه بأن يسأل عنهم من لا يخفاه أحوالهم، من أهل المحلة وغيرها، فلو حصل ذلك لثبت الدين، وبثباته يثبت الملك.

وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم، يزول الملك، ويضعف الدين، ويسود القبيلة شرارها، ويصير على ولاة الأمر كفعل من فعل ذلك; فالسعيد من وعظ بغيره، وبما جرى له وعليه، وأهل الدين هم أوتاد البلاد ورواسيها، فإذا قلعت وكسرت، مادت وتقلبت، كما قال العلامة ابن القيم: ولكن رواسيها وأوتادها هم.

قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.

وسئل أيضا: هو، والشيخ حسين، وإبراهيم وعلي، عن السبي؟

فأجابوا: أما سبي مشركي العرب، فاختلف العلماء في ذلك: فبعضهم لا يرى سبي مشركي العرب جائزا، وبعضهم

1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518)، والنسائي: الأشربة (5711) ، وأحمد (1/200)، والدارمي: البيوع (2532) .

ص: 296

يرى جواز ذلك، وهو الصواب الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما ثبت ذلك، من فعله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن، وغيرهم.

[الغل من الغنيمة]

وقال أيضا: ابنا الشيخ محمد، وحمد بن ناصر بن معمر، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله، وعلي، وحمد، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:

قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] ، فالمؤمن إذا ذكر تذكر، وإذا وُعظ انتفع بالموعظة، وعمل بمقتضاها، وأميركم جزاه الله خيرا: نصحكم، ووعظكم، وأبدى وأعاد، ومع ذلك لم ينتفع بالموعظة إلا القليل، والله تعالى قد ذكر عن الكفار، أنهم لا ينتفعون بالذكر، قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [سورة الصافات آية: 13] ومن سمع المواعظ ولم ينتفع بها، فقد شابه الكفار في بعض أحوالهم، وذلك دليل على عدم معرفة الله وخشيته، لأن المؤمن إذا ذكر انتفع، كما قال تعالى:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] .

والغلول: قد عظم الله أمره، وأخبر في كتابه: أن صاحب الغلول، يأتي به يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَنْ

ص: 297

يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 161] . وجاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتغليظ الشديد، والوعيد الأكيد، على من غل شيئا من المغنم، قليلا كان أو كثيرا.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك ; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته رقاع تخفق، يقول، يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " وعن عبد الله بن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن

ص: 298

الحجر يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل ائت به، فذلك قوله:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ". وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين: " أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة " 1.

وعن أبي هريرة، قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ففتح الله عليه، ثم انطلقنا إلى الوادي- يعني وادي القرى - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، فلما نزلنا قام يحل من رحله، فرمي بسهم كان فيه حتفه، فقلنا هنيئا له الشهادة، يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا، التي أخذها من المغانم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم. قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: أصبته يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك أو شراكان من نار "2.

وعن أبي حازم، قال:" أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنطع من الغنيمة، فقيل: يا رسول الله، هذا لك تستظل به من الشمس، فقال: أتحبون أن يستظل نبيكم بظل من نار "، وعن عبد الله بن عمرو، قال:"كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: "كركرة" فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار. فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها "3. فالأحاديث في النهي عن

1 ابن ماجه: الجهاد (2850) .

2 البخاري: المغازي (4234)، ومسلم: الإيمان (115)، والنسائي: الأيمان والنذور (3827)، وأبو داود: الجهاد (2711)، ومالك: الجهاد (997) .

3 البخاري: الجهاد والسير (3074)، وابن ماجه: الجهاد (2849) ، وأحمد (2/160) .

ص: 299

الغلول، والتشديد على من فعله، كثيرة جدا.

فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وتناصحوا فيما بينكم، واذكروا زوال الدنيا وسرعة انقضائها; وليحذر الناصح لنفسه، أن يلقى الله وقد غذي جسمه بالحرام; ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما لحم نبت على السحت، كانت النار أولى به " 1 والله سبحانه فرض على عباده الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذم من لا يفعل ذلك، فقال تعالى:{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] .

فمن علم عند أحد شيئا من المغنم، فلينصحه وليأمره بأدائه، فإن لم يفعل فليرفع حاله إلى الأمير، فإذا سكت عن الغال، كان شريكا له في الإثم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من كتم غالًّا فإنه مثله "2. ولا عذر لأحد - ولله الحمد - في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; والغلول قد فشا في الناس واشتهر؛ والمعصية إذا خفيت صار وبالها على من فعلها، فإذا ظهرت ولم تنكر ضرت العامة؛ نعوذ بالله وإياكم من زوال نعمه، وحلول نقمه.

والله تعالى - وله الحمد - قد أعطاكم ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، فكونوا ممن يحدث عند النعم شكرا، فإن الله وعد الشاكرين المزيد من فضله، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ

1 الترمذي: الجمعة (614) .

2 أبو داود: الجهاد (2716) .

ص: 300

عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . والمعاصي سبب لتغيير النعم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] وكثير من الناس، يتأول في الغنيمة تأويلات فاسدة، منها استرخاص الإمام، أو طلبه منها، ويظن أن الإمام إذا رخص له، أو طلبه فأعطاه، أن الغنيمة تحل له بذلك والأمير لا يحلل الحرام وربما يجوز للإمام أن يعطي، ولا تحل العطية لمن أخذها، فقد جاء في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إني لأعطي الرجل العطية، فيخرج بها يتأبط بها نارا " أو كما قال.

والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرض على من قدر عليه من جميع الرعية؛ وهو في حق الإمام أعظم، فلا يجوز للإمام ترك الإنكار على أحد من المسلمين، بل يجب عليه القيام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على القريب والبعيد، ويؤدب الغال بما يردعه وأمثاله، عن الغلول من أموال المسلمين.

وقد روى أبو داود، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا وجدتم الرجل قد غل، فاحرقوا متاعه واضربوه "1، وعن عمرو بن شعيب، قال: " إذا وجد عند الرجل الغلول، أخذ وجلد مائة جلدة، وحلق رأسه ولحيته، وأخذ ما كان في رحله من شيء، إلا الحيوان،

1 أبو داود: الجهاد (2713)، والدارمي: السير (2490) .

ص: 301

وأحرق رحله، ولم يأخذ سهما في المسلمين أبدا. قال: وبلغنا أن أبا بكر وعمر كانا يفعلانه". فالواجب على الإمام: القيام على الناس بالآداب البليغة التي تزجر عن المعاصي، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

ومن سمع المواعظ والزواجر، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يرتدع، ولم ينْزجر، استحق العقوبة البليغة التي تزجره، على فعل المنكرات، وتعاطي المحرمات والغلول قد فشا وظهر، واشتهر، وكثير من الناس لا يعده ذنبا، ولا ينقص الغال عند من لا يغل، ولا يسقط من أعين الناس، مثل سقوط السارق ونحوه، ممن يفعل الكبائر. والغلول من الكبائر المحرمة، التي حرمها الله ورسوله.

وقال أيضا الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، أبناء الشيخ بعد كلام سبق: ومنها: ما يجري من بعض الأمراء والعامة من الغلول؛ منهم من يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن، وذلك حرام، قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 161] وفي الحديث " إن الغلول عار، ونار وشنار "1.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وكل من أخذ ما لا يستحقه، من الولاة والأمراء والعمال، فهو غال، كما في الصحيحين، عن أبي هريرة، قال:"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، حتى قال: " لا ألفين أحدكم

1 مالك: الجهاد (994) .

ص: 302

يجيء يوم القيامة على رقبته.."1 الحديث، وأخبرنا أن هدايا العمال غلول، فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري.

وكذلك ما يتبع الزكاة، من النائبة، قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غنى عما منع وحرم. ومن الواجب على ولي الأمر: ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه، إن حصل تسديد من الله، ومن بتوفيق من عنده وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف، من الأعشار، لا يلي، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين، ويلزم ولي الأمر أيده الله أن يلزم التجار الزكاة الشرعيه قهرا، ويدع ما لا يحل.

[مصرف خمس المغنم]

سئل الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله، عن خمس المغنم، هل مصرفه من تضمنته آية الأنفال، ومن المراد بذوي القربى؟ وهل اليتامى والمساكين في الآية منهم؟ أم لا؟ وهل ورد لها ناسخ فللإمام صرفه في نفسه وفيمن شاء؟

فأجاب: أجمع العلماء على أن الآية محكمة غير منسوخة، وإنما اختلفوا في المراد بذوي القربى، فقال كثير فهم: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم مع قرابة الإمام معهم. وأما اليتامى والمساكين المذكورون في الآية فقال كثير

1 البخاري: الجهاد والسير (3073) .

ص: 303

من أهل العلم. إن المراد بهم: فقراء المسلمين ومساكينهم.

وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأما ما ذكرت من جهة " الزر " الذي يأخذه ابن سعود على من ظهر من عندكم، فإن ابن سعود لم يأخذ على أهل نجد وبواديهم شيئا، وأخذه على أهل الأحساء، لأنه لم يثبت عنده إسلامهم على عادته، حال كونهم محاربين، فإذا نفوا الشرك، وهدموا الأوثان، وكفوا عن عداوة الإسلام وأهله، وعملوا بالإسلام لم يأخذ عليهم شيئا.

[المكوس الموضوعة على الناس]

وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله: وقد ذكرنا لك فيما مضى، من جهة هذه المكوس التي وضعت على الناس، وأنها من أعظم المحرمات، لأن الله حرم الظلم على نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل:" إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا "1، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الحج الأكبر، وهو واقف بعرفة " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب " واذكر قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج آية: 41] ومن المعروف الذي أوجبه الله على عباده: اجتناب أسباب الظلم وتحرى العدل في الأقوال والأعمال.

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) ، وأحمد (5/160) .

ص: 304

ومن المنكر الذي حذر الله عنه: تعاطي ما حرمه الله، من الظلم وغيره واذكر قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة النحل آية: 90] قال شيخ الإسلام: هذه الآية جمعت فعل ما أوجبه الله، واجتناب جميع ما حرمه الله، فإنه لا يستقيم للولاة أمر إلا بالعمل بما دلت عليه هذه الآية، ونظيرها قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء آية: 58] فالعدل مطلوب شرعا، في الأقوال والأعمال والأخلاق.

والإحسان شامل للإحسان للناس في معاملتهم، وفي الولاية عليهم، وترك الظلم والتعدي عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، لما أمره بأخذ الصدقة، قال له:" واتق دعوة المظلوم "1.

وقال في "الاقتضاء": وعامة الأمراء، إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة، من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز، لأنهم فرطوا في المشروع، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة لأنفسهم، وأقاموا الحدود المشروعة، على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم، للعدل الذي شرعه الله، لما

1 البخاري: الزكاة (1496)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .

ص: 305

احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم، انتهى.

واذكر أيضا: الديوان الثالث، الذي لا يترك الله منه شيئا، فالحذر الحذر، من أسباب الشر وموجباته! ومن أعظم الأسباب الجالبة للنصر، وخذلان العدو قريبا أو بعيدا: تقوى الله، ورفض هذه المكوس المحرمة، التي لم تعهد في أسلافكم، لأن المعهود عنهم رحمهم الله، رفع المظالم، والمكوس، في كل بلد يتولون عليها، فشكرهم على ذلك أهل الإسلام، وجعلوا ذلك من مآثرهم الحميدة.

وفي الحديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عملها "1. وهذه المكوس هي والله من السيئات المذمومة، فإن من أعظم ما أساء المسلمين: وضع هذه المحرمات. وقد رأيت لبعض العلماء " فائدة " يحسن ذكرها، لعظم نفعها، ومطابقتها للواقع.

قال رحمه الله: العدل إذا كان شاملا، فهو أحد قواعد الدنيا والدين، الذي لا انتظام لهما إلا به، ولا صلاح فيهما إلا معه، وهو الداعي إلى الألفة، والباعث على الطاعة، وبه

1 مسلم: الزكاة (1017)، والنسائي: الزكاة (2554)، وابن ماجه: المقدمة (203) ، وأحمد (4/357 ،4/358) .

ص: 306

تعمر البلاد، وبه تنمو الأموال، ومعه يكثر النسل، وبه يأمن السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق، من الظلم والجور، لأنه ليس يقف على حد، ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد، حتى يستكمل.

والعرب لما استناروا بنور الدين المبين، وجمعت متبدد شملهم كلمة الحق، ودان لهم من دان من الأمم، شملوا الناس بالعدل في أحكامهم، وأعمالهم وأقوالهم، إذ كان من أهم مقاصد الشريعة الغراء، وأعظم مطالبها وأجل قضاياها، وبذلك تعلقت آيات التنْزيل، فمنها قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [سورة النساء آية: 58] وفي الحديث " بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد " إلى غير ذلك من النصوص، التي يضيق عنها الحصر.

ومن وقف على سيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم، من أمراء العدل من العرب تبين له: أن ما كان من استقامة ملكهم، واتساع مملكتهم، إنما هو بالعدل التام، ووضع الأمور في مواضعها والعدل باب واسع، يجري في أمور كثيرة، ومرجعه إلى عدل الإنسان في نفسه، ثم عدله في غيره.

فأما عدله في نفسه، فيكون بحملها على المصالح،

ص: 307

وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف على أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها، فهو على غيره أجور.

وأما عدله في غيره، فهو على أقسام منها: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسلطان في رعيته، والرئيس مع صحابته، ويدخل فيه الرجل مع أهل بيته، والأستاذ مع تلامذته، والسيد مع خدمه وأرقائه، ففي الحديث " كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته " والعدل هاهنا يكون باتباع الميسور، وخوف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق في الميسور، فإن اتباع الميسور أدوم، وترك المعسور أسلم، وعدم التسلط عطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة، وهذه أمور إن لم تسلم للزعيم المدبر، كان الفساد بنظره أكثر، والاختلاف بتدبيره أظهر.

وفي الحديث: " أشد الناس عذابا يوم القيامة، من أشركه الله في سلطانه، فجار في حكمه " وعن بعضهم: ليس للجائر جار، ولا تعمر له دار وقال: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.

ومنها: عدل الإنسان مع من فوقه، كالرعية مع سلطانها، والصحابة مع رئيسها، وعائلة الرجل معه وغير ذلك، فقد يكون بإخلاص الطاعة، وبذل النصرة، وصدق

ص: 308

الولاء فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن، وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء، تسلط عليه من كان يدفع عنه، واضطر إلى اتقاء من يتقي به، قال البحتري:

متى أحوجت ذا كرم تخطى

إليك ببعض أخلاق اللئام

وفي استمرار هذا حل نظام جامع، وفساد صلاح شامل؛ قال بعض الأكابر: أطع من فوقك، يطعك من دونك.

ومنها: عدل الإنسان مع أكفائه، وذلك بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكف الأذى لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكف الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص الأكفاء، أسرع فيهم تقاطع الأعداء، ففسدوا وأفسدوا، انتهى مخلصا.

وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، وعبد العزيز، وعمر ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ محمد بن عثمان، والشيخ عبد العزيز الشثري.

ص: 309

وأما المكوس: فأفتينا الإمام بأنها من المحرمات الظاهرة، فإن تركها فهو الواجب عليه، فإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين، والخروج عن طاعته من أجلها وأما الجهاد: فهو موكول إلى نظر الإمام، وعليه أن ينظر ما هو الأصلح للإسلام والمسلمين، على حسب ما تقتضيه الشريعة.

[نصيحة إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل]

وقال بعضهم أيضا:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الله بن عبد اللطيف، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى وهداه، وأعاذه من شر نفسه وهواه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وموجب الكتاب: السلام، والنصيحة، والمعذرة إلى الله تبارك وتعالى، والإعذار إليك وإلى عباد الله المؤمنين، وأداء ما استؤمنا عليه، والخشية أن نكب على وجوهنا في نار جهنم، ونكون من الغاشين للإسلام والمسلمين. إذا عرفت هذا، فاعلم: أن حقك علينا كبير

ص: 310

وحق رب العالمين علينا أعظم وأكبر، وإذا تعارضا، فالمتعين هو تقديم حق الرب على ما سواه، فنرجوه تعالى أن يعيننا على ذلك، ويحسن لنا الختام وقد ولاك الله على المسلمين، واسترعاك عليهم، فإن قمت بحق تلك الرعاية فهي من أعظم نعم الله عليك، وإن ضيعت وأهملت - أعاذك الله من ذلك - صارت عليك نقمة ووبالا.

واعلم: أن مقصود الولاية، هو إصلاح دين الناس ودنياهم، التي يتوصلون بها إلى إقامة دينهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، انتهى.

وأنت عارف بما كان عليه أهل نجد، قبل هذه الدعوة المباركة، من الشر، في دينهم ودنياهم، ثم إن الله تعالى أنقذهم من ذلك بهذه الدعوة الدينية، قدس الله أرواح من قام بنصرها، وجزاهم عن أهل نجد خصوصا، وعن المسلمين عموما، خير ما جزى به من قام بنصرة دينه، وجاهد في الله حق جهاده. ولم تقم دعوتهم، ولا استقامت ولايتهم، إلا على أمرين: القيام بحق الله تعالى، والقيام بحقوق عباده، ورعاية مصالحهم؛ يعرف ذلك من سيرتهم، كل من له أدنى إلمام بشيء، من العلم بأحوالهم.

ص: 311

ثم لما وقع التقصير منهم، في أشياء دون ما نحن فيه اليوم، حل بهم ما حل، مما نرجو أنه كفارة لهم، وتمحيص، ومحق لأعدائهم، فعاد نجد إلى قريب من حالته الأولى، بسبب ارتكاب بعض المحرمات.

ثم إن الله تعالى من بتجديد الدعوة، وقام بنصرها جدك تركي، وجدك فيصل، جزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خيرا؛ ولهما من السيرة المحمودة، وتقديم الشرع، وترك الظلم والتعدي، وإقامة العدل ما لا يحتاج إلى شرح.

ثم لما توفي جدك فيصل رحمه الله تعالى، وحصل ما حصل، انحلت عرى هذه الولاية، ووقع بأهل نجد ما لا يخفى عليك.

ثم إن الله تعالى من بولايتك، وحصل بها من الإقبال والنصر للمسلمين، وقمع عدوهم، ما هو من أعظم نعم الله عليهم وعليك ولم يزل الله بفضله يرقيك من حالة إلى حالة، وإمامك في هذا كله: الكتاب والسنة، والعدل في الرعية؛ فاستتب لك الأمر، وأعلاك الله، ونصرك على من ناوأك.

ثم آلت بك الحال - هداك الله، وأخذ بناصيتك - إلى الوقوع في أمور كثيرة، هي من أسباب زوال تلك النعمة، ومن موجبات التغيير وحلول النقمة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ

ص: 312

حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] .

منها: إلزام الناس أن يظلم بعضهم بعضا، وأن ترفض الطريقة النبوية، الجارية في أسواق المسلمين، وبياعاتهم، وأن يقام فيها القانون المضارع لقوانين الكفار، الجارية في أسواقهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وذلك هو إلزامكم بحجر الناس، على مقدار من السعر في الصرف، لا يزيد ولا ينقص، وهذا من أعظم الفساد في الأرض، والتعاون على الإثم والعدوان، وأكل الناس بعضهم أموال بعض بالباطل، والحجة في ذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس، وحديث أبي هريرة، وغيرهما من الأحاديث.

قال مجد الدين ابن تيمية في كتابه "منتقى الأخبار"، باب النهي عن التسعير: عن أنس قال: " غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال " رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، انتهى. قال شارحه: وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، قال: " جاء رجل، فقال: يا رسول الله سعر، فقال: بل أدعو الله ثم جاء آخر، فقال: يا رسول الله

ص: 313

سعر، فقال:" بل الله يخفض ويرفع "1، قال الحافظ: وإسناده حسن، وعن أبي سعيد، عند ابن ماجه، والبزار، والطبراني نحو حديث أنس، ورجاله رجال الصحيح، وحسنه الحافظ، وعن علي رضي الله عنه عند البزار نحوه وعن ابن عباس عند الطبراني في الصغير، وعن أبي جحيفة عنده في الكبير، انتهى.

وهذا هو قول أهل العلم، كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم رحمهم الله تعالى؛ قال الوزير أبو المظفر ابن هبيرة، في كتابه "الإفصاح": باب التسعير والاحتكار اتفقوا على كراهة التسعير، وأنه لا يجوز، انتهى.

فيا عبد العزيز اتق الله، تتم لك النعمة، وحكم كتاب الله، وسنة نبيه، واتق الظلم فإنه سبب لحلول النقم وزوال النعم، وحقوق الخلق أمرها عظيم وفي الحديث " الدواوين ثلاثة، ديوان لا يغفر الله منه شيئا، وهو الشرك بالله، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وهو حقوق الخلق، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه "2.

وقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، قال تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة فصلت آية: 46] وقال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] .

1 أبو داود: البيوع (3450) ، وأحمد (2/337) .

2 أحمد (6/240) .

ص: 314

وقال تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [سورة الشعراء آية: 209] وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الشورى آية: 42] وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا " 1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته، في حجة الوداع:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا " 2، وروي عنه: أنه خطب بذلك في يوم النحر، وفي يوم عرفة، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق، وفي رواية: ثم قال: " اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تظالموا! إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " 3 وفي الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الظلم ظلمات يوم القيامة " والأحاديث في ذلك كثيرة.

ومنها: أمر الطويل في الأحساء وتوابعها، هو وأعوانه الذين استجلبهم من الخارج، وسومهم الناس سوء العذاب، مع ما اشتهر من أنواع الفواحش. وقد مضى أزمان والناس يرفعون أكفهم بالدعاء لكم، في السر والعلانية، ولا نأمن الآن أنهم يرفعونها بالدعاء عليكم وفي الحديث " واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "4.

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) ، وأحمد (5/160) .

2 البخاري: العلم (67) والحج (1741) والمغازي (4406) والأضاحي (5550) والفتن (7078) والتوحيد (7447)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، وأحمد (5/37 ،5/39 ،5/40 ،5/49)، والدارمي: المناسك (1916) .

3 أحمد (5/72) .

4 البخاري: الزكاة (1496)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .

ص: 315

ولا يملك الناس إلا أمران: العمل فيهم بالشرع، والتحبب إليهم بالإحسان، أو بترك الظلم ولا تظهر ضغائن الناس، إلا عند سؤالهم أموالهم، قال تعالى:{وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [سورة محمد آية: 37] ونسأل الله أن يأخذ بناصيتك، ويهديك صراطه المستقيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

[الرافضة]

وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد العزيز، والشيخ عمر، ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الله، وعبد الله بن حسن بن إبراهيم، ومحمد بن عثمان، وعبد العزيز الشثري، وفقهم الله تعالى:

أما الرافضة: فأفتينا الإمام، أن يلزموا بالبيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل. وعلى الإمام أيده الله أن يأمر نائبه على الأحساء، يحضرهم عند الشيخ ابن بشر، ويبايعونه على دين الله ورسوله، وترك الشرك، من دعاء الصالحين من أهل البيت، وغيرهم، وعلى ترك سائر البدع، من اجتماعهم على مآتمهم وغيرها،

ص: 316

مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل، ويمنعون من زيارة المشاهد.

وكذلك يلزمون بالاجتماع للصلوات الخمس، هم وغيرهم في المساجد ويرتب فيهم أئمة ومؤذنين، ونوابا من أهل السنة، ويلزمون تعلم ثلاثة الأصول؛ وكذلك إن كان لهم محال بنيت لإقامة البدع فيها، فتهدم، ويمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها؛ ومن أبى قبول ما ذكر فينفى عن بلاد المسلمين.

وأما الرافضة من أهل القطيف، فيأمر الإمام أيده الله الشيخ يسافر إليهم، ويلزمهم ما ذكرنا.

وأما البوادي والقرى التي دخلت في ولاية المسلمين، فأفتينا الإمام يبعث لهم دعاة ومعلمين، ويلزم نوابه من الأمراء في كل ناحية، بمساعدة الدعاة المذكورين، على إلزامهم شرائع الإسلام، ومنعهم من المحرمات.

وأما رافضة العراق، الذين انتشروا، وخالطوا بادية المسلمين، فأفتينا الإمام بكفهم عن مراتع المسلمين، وأرضهم.

[المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، إلى آخره.

فأجاب: المنذور لخدام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، يصرف

ص: 317

لمصالح المسلمين: يصرفها الإمام، إما في الجهاد، أو في تأليف بعض الناس على الإسلام، أو الفقراء، أو المساكين.

وأجاب في موضع آخر: إن كان ذلك في البلد التي تحت ولاية إمام المسلمين، فلا يجوز أخذه إلا بإذن الإمام، لأنه يصير مصرفه في مصالح المسلمين بإذن الإمام، كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي على بيت اللات حيث هدمها في مصالح المسلمين. وأما إن كان المنذور في موضع ليس حكمه تحت حكم إمام المسلمين، فإنه يجوز أخذه لمن وجده، لأنه مال ضائع لا يجوز إبقاؤه.

[مصارف خمس الغنيمة]

سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله عن الخمس.. إلخ.

فأجاب: وما ذكرت من مسألة الخمس، فاعلم: أن الأمر أمران: أمر نأمر به، وأمر: يفعله الغير، ومحتاج إلى الإنكار فيه والثاني فتوسع فيه، إلى أن ترى منكرا صريحا، إذا ثبت هذا، فمسألة الخمس لا أكره إذا أخذ من الخمس، وأما سهم النبي صلى الله عليه وسلم وذوي القربى، ففيه كلام طويل؛ وقد ذكر: أن أبا بكر وعمر، لم يعطيا بني هاشم، ثم فالذي أرى أنه يجرى في المصالح، حتى يتبين فيه حكم.

وأما مصرف المصالح عندكم، فهذا الذي تذكر أنهم يفعلونه، ما علمت فيه خلافا لكن لا يقتصر عليه، بل من

ص: 318

المصالح ما هو أعم منه وأما الغنيمة إذا أخذت قبل الخمس، فإذا لم يفوض فخمسها فيها معها.

سئل ابنه الشيخ عبد الله: إذا قتل مسلم كافرا، وأخذ سلبه، فأصاب فيه دراهم.. إلخ؟. فأجاب: الذي نفهم أن حكمه حكم سلبه يصير له؛ والذي نفهم أنه ما فيه خمس.

[مال المسلم الذي استرده المسلمون مع الغنيمة]

سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: إذا أخذ الكفار مال مسلم، ثم استولى عليه المسلمون قهرا، ولم تقع فيه قسمة، كما لو قتل مسلم كافرا وأخذ سلاحه، وعرفه مسلم، أو أخذه بعض المسلمين من الكفار، واختص به من غير قسمة.

فأجاب: في هذه الصورتين، يأخذه المسلم ممن غنمه بغير شيء، لعدم وقوع القسمة المانعة، وذلك: لما روى مسلم عن عمران بن حصين، " أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأصيبت العضباء، وأسرت امرأة من الأنصار، فكانت المرأة في وثاق، وأقامت عندهم أياما. ثم انفلتت من الوثاق، فأتت الإبل فركبت العضباء، ونذرت إن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة، أخبرت أنها نذرت لتنحرنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد ".

ص: 319

[ما يؤخذ منه أجرة الأجراء في الجيش]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن سبور الغزو، والأجراء، هل أجرتهم من رأس الغنيمة؟ أو في أربعة الأخماس؟

فأجاب الظاهر أنها من رأس الغنيمة، من الخمس وغيره. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر؛ فإن الله ميزها وقسمها، فلا يحل تعدي ذلك وخلطها، بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا، ولهذا مصرفا، ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه: أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء؛ ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى، ويعطون ما فرض الله ورسوله من الحق من الفيء والغنيمة، فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بهم: من عرف التوحيد، والتزمه. وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا

ص: 320

الدين، وهذا الأمر يعرفه كل عالم وفي الحديث:" إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار ". عافانا الله وإياكم من النار، ومن عمل أهل النار.

وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله بعد كلام له: إذا عرف هذا: فلو سلم تسليما صناعيا، أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال، لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه إذا لم يعلم عين المغصوب، وقد ذكر ذلك الشافعية وغيرهم من أهل العلم؛ بل ذكر ابن عبد البر إمام المالكية في وقته: أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يقتدى به من أهل العلم.

وقال في رسالته لمن أنكر عليه ذلك:

قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء

أنت من جهلك بمحل السفهاء

فإن الاقتداء بالسلف الماضي هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكى عنه تركها، كأحمد وابن المبارك، وسفيان وأمثالهم، فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا لاعتقاد التحريم - إلى أن قال - وقد قال عثمان رضي الله عنه " جوائز السلطان لحم ضبى ذكي ".

ص: 321

وقال ابن مسعود - لما سئل عن طعام، من لا يجتنب الربا في مكسبه –:"لك المهنا وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما " وحكي عن أحمد رحمه الله: جوائز السلطان، أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن؟ قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار غير المختار، حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث:" إذا دخل أحدكم بيت أخيه، فأطعمه من طعامه، وسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه " 1، والحديث معروف في السنن.

قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كان معاش عطاء؟ قال صلة الإخوان ونيل السلطان؛ وهذا مشهور بين أهل العلم، وقد قال صالح بن أحمد لأبيه - لما ترك الأكل مما بيد ولده، من أموال الخلفاء -: أحرام هي يا أبت؟ قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟!

وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق، والمشتبه الذي ندب إلى تركه، هو ما لا يعلم حله ولا تحريمه؛ وأما إذا امتاز الحلال وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه.

وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه، بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته،

1 أحمد (2/399) .

ص: 322

وحسنت في المسلمين عقيدته؛ والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه.

وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل، وغيرهما، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا؛ وأموال الكفار لا يبيحها الغصب، لمثل المقوقس، وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة، والاستيلاء للمسلمين.

[رد من الشيخ عبد الرحمن على أحد خصومه]

وقال والده الشيخ عبد الرحمن، أعلى الله منازله في فسيح الجنان:

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. وبعد: فأقول وبالله التوفيق، والهداية إلى أقوم طريق: إنه ورد علي رسالة من الأخ.. بعيد عن منهج الصدق والتحقيق، فنحوت نحو الجواب، متحريا الصواب، عسى أن يتنبه أو يفيق، قال الله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] الآية، وحديث:" إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته "1.

ورسالته مشعرة باشتغاله هو، ويصغي جليس إليه بما

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2589)، والترمذي: البر والصلة (1934)، وأبو داود: الأدب (4874) ، وأحمد (2/384)، والدارمي: الرقاق (2714) .

ص: 323

هو منه قبيل البهتان، والله المستعان. وهذا زمان تناكرت فيه القلوب، وعظمت الذنوب، وطفيت فيه أنوار البصائر، وقل العلم والإيمان، وكثر الجهل والطغيان، فإلى الله أشكو ما ألقاه من أهل هذا الزمان، من البغي والعدوان، وأعوذ بالله من شر اليد والقلم واللسان ; فحق لأهل الإنصاف أن يتأملوا كلامه وملامه، والجواب عنه، فإن كان الجواب حقا فعليهم أن ينصروه، وما فيه من خلل فليصلحوه ويستروه.

قال في رسالته: ويذكر عنك غفلة عظيمة عن الله، وما يقرب إليه من العلم النافع، والدعوة إليه؛ فأقول: عياذا بك اللهم مما قال، أيجوز لأحد من المسلمين أن يقول هذا القول في رجل من عوام المسلمين، يصلي الجمعة والجماعة؟ وما أظن أحدا يقول هذا في أحد، إلا أن يثبت أنه يصر على الكبائر، ويضيع الفرائض؛ اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

ثم كيف يتسجيز سني أو بدعي أن يسمع هذا يقال، فيمن يعلمه الخير سابقا ولاحقا؛ فلو قاله ظالم، أما كان يلزمه الذب عن عرض أخيه، بتكذيب الظالم، والإنكار عليه.

ثم إنه ترك ما وجب، وارتكب ما حرم، فصدق وحق، وجلل ودقق، وورق وعمق، فأشهد من يراه أو قرأه: إني خصمه فيما ادعاه. اللهم إنك تعلم أني

ص: 324

لا أستجيز، بأن أقول مثل هذا القول فيه، ولا فيمن لا يقاربه ولا يوازنه، من عاقل وسفيه؛ وما قلت فيه قط إلا ما يسره ويرضيه، فاغفر لي وكن لي ظهيرا وهاديا ونصيرا، فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى عليهم، وهل إلا عليك المعول.

اللهم إنك تعلم أني لو شئت لعرضت بعيوبه، ولوحت بذنوبه، وإنما أعرضت عن ذلك ابتغاء وجهك، فاغفر لي ما لا يعلمون، وارحم عبيدك، فإن الأكثر لا يرحمون، وإنك قلت في كتابك العزيز {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [سورة الفرقان آية: 20] اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أذنبوا تابوا واستغفروا، ونسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

ثم قال معللا لما تقدم: لأنك استبدلت بهذا الاشتغال بالدنيا وجمعها، وهذا بحمد الله دعوى بلا برهان، ولا يمكنه الخروج مما قال، والله عند لسان كل قائل وقلبه؛ وأنى له إقامة الدليل، والخروج مما قال من التعليل.

ما صادف الحكم المحل ولا هو

استوفى الشروط فصار ذا بطلان

وفي الحديث "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت "1.

1 البخاري: الأدب (5976)، ومسلم: الإيمان (87)، والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) ، وأحمد (5/36) .

ص: 325

ولا أجد لي ولهم مثلا، إلا قول يعقوب عليه السلام {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة يوسف آية: 18] وما قلت ذلك شكوى إلى الخلق، ولكن الشكوى إلى الله، ولكني أطالبهم بإقامة البرهان على هذا العدوان، وما كنت مشتغلا بالدنيا ولا جمعها وما هذا المال الذي جمعته؟ وأين وضعته؟!

وأما جمع المال: فلا يعاب مطلقا بل قد يكون قربة إلى الله تعالى، إما واجبا أو مستحبا، وقد يكون مباحا؛ إنما يعاب التلهف على الدنيا، والحسد على النعمة، والحرص عليها؛ وقد جمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الكثير منهم أهل ثروة.

" وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين "، " وقسم أبو بكر رضي الله عنه أموال بيت المال بالسوية "" ودون عمر الديوان، وفاضل بينهم بالقرابة والسابقة "، فما كره أحد منهم نصيبه من بيت المال، إلا ما كان من حكيم بن حزام، لأمر خصه، سببه معروف.

" وأوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لمن بقي من شهداء بدر، بأربعمائة دينار، لكل رجل، وكانوا مائة، فأخذوها وأخذ عثمان رضي الله عنه فيمن أخذ، وهو خليفة " وأوصى بألف فرس في سبيل الله عز وجل؛ فهذا من

ص: 326

ثلث ماله، وما نقص من فضله شيئا، وقد بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.

فأين ذهب جمعكم للكتب؟ وحرصكم على جمعها؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. أما علمتم أن العلامة ابن القيم رحمه الله عقد المناظرة بين الفقراء والأغنياء، في كتابه " عدة الصابرين " وذكر أدلة كل فريق على أنه أفضل من الآخر، فما عاب الفقراء أهل الغنى بغناهم، ولا الأغنياء أهل الفقر بفقرهم. وفصل الخطاب: أن أفضلهم أتقاهم لله، وأنفعهم لعباده، ومن سلم المسلمون من لسانه ويده، وأكثر الناس سعيا في وجوه الخير.

وأما قوله: واشتغلت بالحراثات، أقول: ما صدقت ولا صدقت، لم أشغل بها قلبا ولا قالبا، قد جعلت فيها من يكفي. أخبرني: ما الذي أثار هذا الضغن؟ وأنت تعلم أني أحرث من حين عرفتني إلى يومي هذا، فما أنكرت حراثتي قبل اليوم؟ وقد كنت أطعمك منها، وأمشي بك فيها، وقد كنت أحتسبها قربة إلى الله تعالى، أستغني بها عن أموال الناس التي بيد السلطان تعففا.

وقد ورد في فضلها أحاديث، منها الحديث المرفوع:" ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فما أكل منه طير أو بهيمة أو إنسان، إلا كان له صدقة " 1 فإذا كنت لا بد محتاجا

1 البخاري: المزارعة (2320)، ومسلم: المساقاة (1553)، والترمذي: الأحكام (1382) ، وأحمد (3/147 ،3/192 ،3/228 ،3/243) .

ص: 327

إلى التكسب لنفسي، ولمن أعول، فالحراثة أحسن شيء من أسباب الرزق، لما فيها من الفضل، وكثرة ما يخرج منها؛ فهي أفضل من التجارة وأسلم، فكيف يذم فاعل شيء يصلح، أن يكون قربة إلى الله من وجوه؟ هذا لا يصدر من عاقل.

وخذ مني " فائدة " في هذا لا تعرفها، أنت ولا قومك: أورد في كتاب "الجليس والأنيس" حديثا، أبو القاسم البجلي، قال: سألت أحمد بن حنبل، ما تقول في رجل جلس في بيته، أو في مسجده، وقال لا أعمل شيئا، يأتيني رزقي؟ فقال أحمد رحمه الله: هذا رجل جهل العلم، أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" وجعل رزقي تحت ظل رمحي " 1 يعني الغنائم، وحديثه الآخر، حين ذكر الطير، فقال:" تغدو خماصا وتروح بطانا " فذكر أنها تغدو في طلب الرزق، قال الله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة المزمل آية: 20] وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة آية: 198] وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم، انتهى.

وأقول: ويحك! قلبت لي ظهر المجن! وأما قوله: وأخذت من الزكاة، ولست من الأصناف الثمانية، أقول: من أخبرك أني لست منهم، فلو تثبت وسألت من يخبر حالي

1 أحمد (2/50) .

ص: 328

كان خيرا لك، وقد غرك مني تعففي وشيمتي، والحمد لله على ذلك، وأظنك لا تجهل حالي، ولكن هاجت الفتنة، وعظمت المحنة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

وأقول: ما بالك أعرضت عن معاتبة نفسك، أما علم أنك من أجلد الرجال، وأقواهم، قليل العائلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجلين الذين سألاه من الصدقة " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب "1 شعرا:

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من

اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا

وأما قوله: وتأخذ مالا فيه ظلم، ولا تسأل، أقول: عجبا لك، كيف تنصب نفسك للإفتاء، وهذا مبلغ علمك وفهمك؟ فإذا لم تفهم هذه المسألة، ولا علمت حكمها، فكيف تفتي الناس؟ لا تدري، ولا تدري بأنك لا تدري.

وأقول أيضا: من أين لك، أني أخذت من مال فيه ظلم؟ ومن هذا الثقة العدل الذي وقف على حقيقته؟ وأوجب لك القطع بما زعمت؟ ولا بد في مثل هذه الدعوى، من شهادة عدلين فأكثر، وقفوا على أن هذا الذي أخذت بعينه، دخل فيه ظلم لو كان، ويلزمهم أيضا أن يخبروني من غير تحدث منهم به، فإن ثبت ما قالوا، فقد أدوا ما عليهم من النصيحة؛ وأما طعنهم، وأكلهم

1 النسائي: الزكاة (2598)، وأبو داود: الزكاة (1633) ، وأحمد (4/224 ،5/362) .

ص: 329

لحوم الغافلين، فلا يحل لهم بحال، وهذه كلها مغالطة في الحقائق، وتصور الأشياء على خلاف ما هي عليه؛ والخطاب بيننا في موقف الحساب.

وكنت سألت قبل هذا، من تولى إخراج بيت المال، فأخبرني بأن الذي أوصل إلى وكيل منه لم يشب بشيء من الظلم، وأنه تحرى لنا ما يحل، فحمدت الله على ذلك، ولم يتبين لي خلاف ما قال.

وأما حكم ما بأيدي الملوك من الأموال، فلا يخفى أن أكثر ملوك بني أمية، فشا فيهم الظلم للرعية في الدماء والأموال، وكذا ملوك بني العباس، مع سعة ملكهم وكثرة عمالهم وأمرائهم، فما قال أحد من العلماء، إن ما يجبى إليهم من ذلك المال الذي أخذوه، لا يجوز لأحد أن يأخذ منه شيئا، بل النص المنصور جوازه، والحكم عليه بأنه حلال لآخذه.

قال في الفروع: وما جاء من مال بلا مسألة، ولا إشراف نفس، وجب أخذه ; ونقل الأثرم: عليه أخذه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذ) وينبغي أخذه ; ونقل عن ابن حزم: وجوب الأخذ، قال في الشرح، الصحيح: إن غلب الحرام فيما بيد السلطان حرم، وإلا أبيح، إن لم يكن في الأخذ مانع من الاستحقاق؛ وأوجب طائفة الأخذ من السلطان وغيره، واستحبه آخرون، انتهى.

ص: 330

قلت: وحاصل هذا، أن الأخذ إما واجب، وهو المنصوص عن الإمام وابن حزم وغيرهما، أو مستحب، أو جائز إن لم يكن الحرام غالبا؛ وعن أحمد أنه قال: دعنا نكون أعزة، نقله في الفروع، وقال: جائزة السلطان أحب إلينا من صلة الإخوان؛ فيكون رد الإمام أحمد رحمه الله من باب الزهد والورع، حتى لا يناقض قوله.

وأما إذا كان الأكثر الحرام، فنقل ابن رجب رحمه الله، عن الإمام أحمد: ينبغي أن يجتنبه، إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، قال: واختلف أصحابنا، هل هو مكروه، أو محرم؟ على وجهين. وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته، والأكل من ماله؛ وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، الورع تركه. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يأكل منه، ما لم يعرف الحرام بعينه؛ فإن لم يعرف مالا حراما بعينه، ولكن علم أن فيه شبهة، فلا بأس أن يأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل.

وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان: "لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال، أكثر مما يعطيكم من الحرام" وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين، وأهل الكتاب، مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله، كما تقدم عن الزهري ومكحول؛ ويروى في ذلك آثار كثيرة عن السلف.

ص: 331

قال ابن مسعود، في إجابة دعوة من يعامل في الربا:"أجيبوه، فإنما الهنا لكم، والوزر عليهم " وعن سلمان مثل قول ابن مسعود، وعن سعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم التيمي، وابن سيرين، وغيرهم، والآثار بذلك في " كتاب الأدب " لحميد بن زنجويه و " كتاب الجامع " للخلال و " مصنف " عبد الرزاق، وابن أبى شيبة وغيرهم، انتهى من شرح الأربعين. والأدلة على جواز الأخذ من هذه الأموال، لا يتسع لها هذا الجواب. فلا يحل لمسلم: أن يطعن على مسلم، بأخذ ما هو حلال، إما واجب الأخذ، أو مستحب، وهكذا حال من يتكلم في أعراض المسلمين بلا علم، وما فطن لنفسه أنه يحكم بالشيء على غيره، ولا يحكم به على نفسه، وغايته أنه أطلعنا على مقدار ما معه من العلم والمعرفة؛ والله المستعان على أهل الزمان، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. وأما ما ذكره في أثناء مسألته من الإزراء، فلا أرى الاشتغال بالجواب عنه، احتسابا للصبر عليه عند الله تعالى، يغفر الله لنا وله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله، وصحبه وسلم.

ص: 332

[إدخال النصارى إلى بلاد المسلمين]

وفي حدود سنة سبع وأربعين، أرسل علماء نجد إلى الإمام، لما بلغهم أنه يحصل شركة للأجانب، في معادن بنجد، بما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري، وصالح بن عبد العزيز، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المبجل: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وألهمه رشده وتقواه، وأعاذه من شر نفسه وهواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: سلمك الله، بلغنا أنه يصير شركة في المعادن، ولا تحققنا خبرها إلا في هذه الأيام، وتفهم أن مشاركة الأجانب الذين تحت ولاية النصارى وإدخالهم في الديار العربية، والولاية الإسلامية، أمر محرم، لا تبيحه الشريعة، مع ما يترتب عليه من المفاسد، الدينية والدنيوية، في العاجل والآجل، وإن كان في بادئ الرأي، أنه يحصل منه مصلحة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وولايتكم ولاية إسلامية دينية، لا تستقيم إلا بالسياسة

ص: 333

الدينية، والوقوف مع الشريعة المحمدية، وفي الحديث:" ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله " ونحن: وإن كانت عقولنا قاصرة، عن الأفكار الدنيوية، فهي إن شاء الله ما تقصر عن الأمور الدينية، وما فيه صلاح للراعي والرعية، وسعادة الدارين وفي المثل المشهور:

وأكيس الناس من لم يرتكب عملا

حتى يميز ما تجني عواقبه

هذا الذي أوجب الله لك علينا، من النصيحة والبيان، خروجا من معرة السكوت والكتمان؛ ونرجو أن الله يأخذ بناصيتك، ويسلك بك الصراط المستقيم، ويعيذك من أسباب الغواية والتأثيم، والسلام.

ص: 334

[الحلف على التعاون]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوم اجتمعوا وعقدوا بينهم العهود، في الموازرة والمناصرة والمدافعة، وأنهم يعقلون في الدماء عمدها وخطأها، فهل يجب الوفاء بها، إذا كان في ذلك صلاح؟ فإذا كان قد صدر منهم في الجاهلية، فهل يلزم؟ لقوله:" كل حلف في الجاهلية.." الحديث، وهل يجوز إحداثه في الإسلام.. إلخ؟.

فأجاب: الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع، لم يجز التزامه، ولا الوفاء به؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، كما ثبت في الصحيحين، في حديث بريرة:" ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط "1. وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه، يخالف حكم الله؛ فإن الحكم الشرعي: أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطأ على العاقلة؛ وهذا الأمر لا خلاف فيه بين العلماء، فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي، بحلف الجاهلية وعقودهم وعهودهم؟

وأما قوله عليه السلام: " كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " 2 فهذا فيما وافق الشرع، ولم يخالفه، كالتحالف على فعل البر والتقوى، وكالتحالف على دفع الظلم ونحو ذلك.

وأما إحداث التحالف بعد الإسلام، فلا يجوز، لقوله

1 البخاري: الشروط (2729)، ومسلم: العتق (1504)، وأبو داود: العتق (3929)، ومالك: العتق والولاء (1519) .

2 مسلم: فضائل الصحابة (2530)، وأبو داود: الفرائض (2925) ، وأحمد (4/83) .

ص: 335

عليه السلام: " لا حلف في الإسلام " 1 وذلك لأن الإسلام، يوجب على المسلمين التعاون والتناصر بلا حلف، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، وقال صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه، ولا يخذله " 2 وقال: " المؤمنون كالبنيان، يشد بعضه بعضا " 3 هذا إذا كان الناس مجتمعين، على إمام واحد.

وأما إذا حصل التفرق والاختلاف - والعياذ بالله - ولا يمكن التعاون والتناصر إلا بالحلف، فهذا لا بأس به إذا لم يخالف أحكام الشرع وقال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهم الله، وما أشرت إليه من أن بعض القادمين علينا، يأخذون منا أوراقا، يريدون بها الجاه، والترفع على من بينه وبينهم ضغائن جاهلية، فأنت تفهم أن المملوك ليس له اطلاع على السرائر، وإنما عليه الأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، ومن خدعنا بالله انخدعنا له، فإذا جاءنا من يقول أنا أبايعكم على دين الله ورسوله، وافقناه وبايعناه، وبينا له الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ونأمره بذلك، ونحضه على القيام في بلده، ودعوة الناس إليه، وجهاد من حالفه، فإذا خالف ذلك وغدر، فالله حسيبه 4.

1 البخاري: الحوالات (2294)، ومسلم: فضائل الصحابة (2529)، وأبو داود: الفرائض (2926) ، وأحمد (3/281) .

2 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) ، وأحمد (2/277) .

3 البخاري: الصلاة (481)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2585)، والترمذي: البر والصلة (1928)، والنسائي: الزكاة (2560) ، وأحمد (4/404) .

4 وتقدم في صفحة: 244 ، و 245.

ص: 336

وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: اعلم: أنه لا حلف في الإسلام، كما وردت بذلك السنة، ولأن الدخول فيه يتضمن التزام أمور تخالف الشرع؛ لكن من أراد أن يعامل بإخاوة ونحوها، كما يفعله بعض أهل البلدان مع البدو، دفعا لشرهم، فلا بأس بذلك، انتهى.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما ما روي عن ابن عباس، أنه قال في الآية:"لا عهد لظالم عليك، وإن عاهدته فانقضه"، فيحتمل أن مراده نحو ما إذا طلب ظالم قادر، مال إنسان ظالم، وعاهده أنه يأتيه به، أو عاهد لصا أنه لا يخبر به، ونحو ذلك، انتهى.

وقال الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله ومنها: التجاسر على إخفار ذمة المسلم، فإذا صح إعطاء أحد من المسلمين أمير أو غيره، أحدا من الكفار ذمة، لم يجز لأحد من المسلمين أن يخفره، لا في ذمته ولا ماله، كما في الحديث:" ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "1.

ومن العجب: أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أن معاداة الكفار، واستحلال المحرم، أعظم من ارتكابه، مع معرفته وتحريمه.

1 أحمد (2/398) .

ص: 337

[أمان الأعراب بعضهم لبعض]

وقال بعضهم، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

وبعد: فقد وقع مذاكرة في حال الأعراب، الذين يوجد فيهم شيء من المكفرات، هل يصلح أمانهم لبعضهم عن بعض؟

فنقول - وبالله التوفيق -: يصح أمان الكفار بعضهم لبعض ولغيرهم، بالكتاب والسنة والاعتبار.

أما الكتاب: فيقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [سورة النحل آية: 91] الآيات، قال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، وآخر السياق يدل على عموم الآية، وهو قوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة المائدة آية: 48] قال المفسرون: على ملة

ص: 338

واحدة وهي الإسلام {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة النحل آية: 93] فدل على أن هذا الخطاب، شامل للمهديين وغيرهم.

وقال تعالى في شأن اليهود: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [سورة البقرة آية: 84] إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] قال أهل التفسير: يقول تعالى منكرا على اليهود، ما كانوا يعانون مع الأوس والخزرج، فكان يهود المدينة ثلاث قبائل، بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قتل كل فريق منهم مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه. وقد يقتل الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم بنص الكتاب، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها، استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة، ولهذا قال:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] فهذه الآية تدل: على أن الله تعالى حرم قتال بعضهم بعضا وإن كان لكل كتاب وقت النّزول، لأن هذا القتل ليس على حق، وإنما هو في سبيل الشيطان.

وأما الأحاديث: فما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي، عن عمرو بن عبسة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 339

يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عهدا ولا يشدنه، حتى يمضي أمره، أو ينبذ إليهم على سواء "1، وهذا الحديث عام ورواه الإمام أحمد والترمذي، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:" أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام "2 قال العلماء في معنى الحديث: إن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف، الذي كانوا يفعلونه أهل الجاهلية، فإن التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه ; وما كانوا منه على نصرة الإسلام، وصلة الأرحام، كحلف " المطيبين " وما جرى مجراهم، فذاك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة "3.

وفي صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان "4، وهذا العقاب لا يختص بالمسلم، بل هو عام المسلم وغيره.

وروى البخاري وغيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة؛ وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا "5، قال ابن الأثير: يجوز أن يقرأ بفتح الهاء وكسرها، على الفاعل

1 الترمذي: السير (1580)، وأبو داود: الجهاد (2759) ، وأحمد (4/111 ،4/113) .

2 الترمذي: السير (1585) ، وأحمد (2/207) .

3 مسلم: فضائل الصحابة (2530)، وأبو داود: الفرائض (2925) ، وأحمد (4/83) .

4 مسلم: الجهاد والسير (1735) ، وأحمد (2/29 ،2/142) .

5 البخاري: الجزية (3166)، والنسائي: القسامة (4750)، وابن ماجه: الديات (2686) ، وأحمد (2/186) .

ص: 340

والمفعول ; والمعاهد من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار، إذا صولحوا على ترك الحرب مدة؛ وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:" قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " 1، وهي من مسلمة الفتح.

وسئل بعضهم: عن أخذ بعض المسلمين، ممن لم يكن له أمان؟

فأجاب: إذا لم يكن بين الإمام وبينهم عقد أمان، أو كان بينه وبينهم ذلك، والأخذ غير داخل في العقد، جاز الأخذ والحالة هذه.

قال في "الإقناع وشرحه": وله، أي: لمن جاءنا منهم مسلما، ولمن أسلم معه، أن يتحيزوا ناحية، ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار، ويأخذوا أموالهم، ولا يدخلون في الصلح؛ فإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار، دخلوا في الصلح، وحرم عليهم قتال الكفار وأخذ أموالهم؛ لأن أبا بصير، لما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله: قد أوفى الله ذمتك، فقد رددتني إليهم، وأنجاني الله منهم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه، بل قال:" ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال "2، فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر، وانحاز إليه أبو جندل

1 البخاري: الصلاة (357)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (336)، ومالك: النداء للصلاة (359)، والدارمي: الصلاة (1453) .

2 البخاري: الشروط (2734)، وأبو داود: الجهاد (2765) .

ص: 341

ابن سهيل، ومن معه من المستضعفين بمكة، فجعلوا لا يمر عليهم عير لقريش، إلا عرضوا لها، وأخذوها، وقتلوا من معها، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، أن يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاءه، ففعل، رواه البخاري مختصرا، انتهى.

قال في "المنتهى وشرحه": فإن تحيز من أسلم منهم، وقتلوا من قدروا عليه منهم، وأخذوا أموالهم جاز، ولا يدخلون في الصلح، حتى يضمهم إليه بإذن الكفار، للخبر، انتهى.

وقال في "مختصر الشرح"، وقولهم: إنهم في أمان منا، قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام، الذين هم في قبضة الإمام، بدليل ما لو خرج العبد، قُبل إسلامه ; ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل، لم ينكر عليه ولم يضمنه، ولما انفرد هو وأصحابه، فقطعوا الطريق عليهم، لم ينكر ذلك، ولم يأمرهم برد ما أخذوه، انتهى.

فعلم بهذا جواز أخذ أموال من لم يكن له عهد ولا أمان؛ وكلامهم هذا في الكافر الأصلي، وأما المرتد فقتله وأخذ ماله، إذا لم يكن له أمان أو عهد، من باب الأولى، والله أعلم.

ص: 342

[قتل الحربي ومن له ذمة]

وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قتل المشرك الحربي؟.

فأجاب: لا يمنع المسلم عن قتل المشرك الحربي، ولو كان جارا للمسلم، أو معه في الطريق، إلا إذا أعطاه ذمة أو أمنه أحد من المسلمين، ففي الحديث " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ".

[الاعتداء على الحجاج المسلمين من اليمن]

وقال المشايخ، وفقهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى ; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والكتاب المكرم وصل، تسأل فيه عما جرى من بعض السرية، على حاج اليمن، من أخذ أموالهم، وسفك دمائهم؟ فاعلم - أطال الله بقاءك - أن الذي فعل هذا الأمر، أناس من جهال العوام، الذين ليس لهم عناية بمدارك الأحكام، ولا معرفة لهم بالحلال والحرام، وهذا لا يحل في

ص: 343

دين الله وشرعه فالواجب عليك: أداء ما أخذوا من أموالهم، وتأديبهم على ما فعلوه من الأمور التي يعود ضررها على الإسلام والمسلمين.

ومعلوم: أنك قد أعدت وأبديت، وبالغت في نصيحتهم، وتحذيرهم من الأمور التي تخالف الشرع، ولكن المقدر كائن لا محالة، ويلزمك المبادرة بالقيام في ذلك، لأن هذا من أهم الأمور، وفيها صيانة لعرضك وأعراض المسلمين، وبراءة لذمتك؛ نرجو أن الله يوفقك، ويسددك ويعينك، والسلام.

ص: 344

[الحث على الوفاء بذمة ولي الأمر]

وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، وفقهما الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد اللطيف، وعبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى كافة إخواننا أهل الأرطاوية، أصلح الله لنا ولهم الطوية، وحمانا وإياهم من كل محنة وبلية، وجعل أعمالنا وأعمالهم مقبولة مرضية؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فالباعث لهذا الكتاب، محض النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومعذرة إلى الله من معرة الكتمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الدين النصيحة.." 1 الحديث. ومما يلزم بيانه لكم: تذكيركم ما من الله به علينا وعليكم، من معرفة دين الإسلام الذي خفي على أكثر الناس، وهو الذي أظهره الله في آخر هذا الزمان، على يد شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقام بنصره أئمة المسلمين من آل سعود، فحصل بهم من اجتماع الكلمة، وظهور الحق، واضمحلال الباطل، ما تنشرح به صدور أهل الإيمان، وتكمد به صدور أهل النفاق والطغيان.

فالواجب علينا وعليكم: مراعاة هذه النعمة، والقيام بشكرها ; واذكروا ما أنتم عليه سابقا، من الظلم والعدوان،

1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .

ص: 345

وسفك الدماء، ونهب الأموال، والتحاكم إلى الطاغوت، واختلاف الكلمة، ثم من الله عليكم بترك ذلك، والإقبال على تعلم أصول الإسلام.

فلما رأى الشيطان منكم ذلك، وأحزنه: أعمل الحيلة في صدكم عما عرفتم من الخير، ودنتم به في فتح أبواب اختلاف الكلمة، وإساءة الظن من بعضكم لبعض، وحملكم على التهاجر والتقاطع، في أمور ما توجب ذلك في أمر الشرع المطهر ; فالواجب عليكم: رد ما تنازعتم فيه إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ولا يعرف ذلك وتفاصيله إلا العلماء، الذين تلقوا العلم عمن لهم قدم راسخ في معرفة أصول الشريعة ; واحذروا أن يقتدي جاهل بجاهل! فإن اقتداء الجاهل بالجاهل، كاقتداء الأعمى بالأعمى.

ومما نبين لكم، وننصحكم به أيضا: بذل الجهد في الوفاء بذمة إمامكم، من جهة نقيصة ابن صباح، التي وقع أخذها باجتهاد منكم، وطلب للخير لكن حملكم على ذلك: ظنكم أنه ليس له ذمة مع الإمام، ولا عماله، والآن بان لكم - وفقكم الله - أن ذمة الأمان لم تزل معقودة له؛ فعلى هذا يكون عندكم معلوما، أن المال المأخوذ على هذا الوجه حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" أيما جسد نبت من مال حرام، فالنار أولى به ".

ومن أراد الدليل على أن العهد يجب الوفاء به، ولو

ص: 346

مع كافر، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، حين عاقدهم بعقد الصلح، فإنه وقع الشرط بينهم على أنه من جاء من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما يرده عليهم، ومن جاءهم من المسلمين مرتدا، لا يرد إلى المسلمين، حتى أشكل ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقالوا: كيف نرد عليهم من جاءنا منهم مسلما، ولا يردون علينا من جاءهم منا مرتدا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من جاءنا منهم مسلما، فسيجعل الله له فرجا، وأما من ذهب إليهم مرتدا فأبعده الله "، فجاء نفر مسلمون، منهم أبو جندل ابن سهيل بن عمرو، فقيدهم النبي صلى الله عليه وسلم وردهم عليهم، محافظة على الوفاء بالذمة، هذا معنى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [سورة النحل آية: 91] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [سورة النحل آية: 92] وهذا حكم عام مع المسلمين والكفار. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] يعني بالعهود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما نقض قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوهم " 1 أعاذنا الله وإياكم من عقوبات الذنوب.

وأما الأدلة الواردة في الأمر بقتال الكفار، فالمراد بها من لا ذمة له منهم ولا عهد، وهم المحاربون، وأما من له

1 مالك: الجهاد (998) .

ص: 347

ذمة أو عهد من الكفار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة " 1 ومقصودنا ببيان هذا: أنه ربما استدل بالأدلة الواردة، في قتال الكفار، من يضعها في غير موضعها الذي وضعت فيه، وهذا الذي نعتقده وندين الله به، ونبرأ إلى الله ممن خالفه كائنا من كان ; نرجو أن الله يمن علينا وعليكم، بقبول الحق والعمل به، والبصيرة فيه، والثبات عليه، وصلى الله على محمد.

[نصيحة إلى الإمام عبد العزيز]

وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عمر بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله العنقري، والشيخ عمر بن سليم، وفقهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الجناب العالي، الإمام عبد العزيز، حفظه الله تعالى، وتولاه آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فالذي نوصيك به وأنفسنا: تقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية، وتدبر كتاب الله العزيز، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ به تداوى أمراض القلوب، ويستعين به من

1 البخاري: الجزية (3166)، والنسائي: القسامة (4750)، وابن ماجه: الديات (2686) ، وأحمد (2/186) .

ص: 348

عمل به على كبت عدوه، والاستعانة على حوائجه، وعندك من ذلك ما فيه الكفاية.

ثم إنك تعلم: أن تعرضنا لمثل ما سنبديه لك يشكل علينا، لكن اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة " 1، كتبنا هذه الأحرف، فإنك تعلم: أنه لا قوام للدين إلا بالله، ثم بالجهاد في سبيل الله، ولا حفظ لوطن ورعية إلا بالله ثم بذلك، ولا نكاية لعدو إلا به واذكر قول الشاعر:

بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما

وبالقتل ينجو الناس من آفة القتل

والدليل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [سورة البقرة آية: 179] وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] ولا شك أن الصبر كله خير، إذا كان وراءه مصلحة، وأما إذا كان آخره شرا فلا يجوز.

وأنت اليوم ولاك الله أمر المسلمين، وأعطاك الله قوة ما أعطاها غيرك؛ ومن أعظمها وأهمها: أن الله أعطاك رعية متمسكة بهذا الدين، باذلة نفسها في الجهاد في سبيل الله، ومفدية نفسها دونك، ودون ما ولاك الله إياه، سامعة مطيعة.

فما عذرك يا عبد العزيز عند الله؟ إذا كان المسلمون في كل زمان، تظهر عليهم نابغة شر، ثم تثبط المسلمين عن

1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .

ص: 349

دفعها، وتقول: هذه مصلحة وسياسة، أما المصلحة والسياسة فلا شك أنك مقدم فيها، ومسؤول عنها، ونحن ساعدناك فيها.

ذكرت لنا حين مجلس الإخوان في الرياض: أن في دخول المحمل مصلحة وسياسة، وقنعنا الناس أن الرأي رأيك في السياسة، ثم حصل ما حصل من الأمر الذي كاد يذهب بحجاج بيت الله الحرام، ورأيت ما قتل من النفوس، وهلك من الأموال، وسدد الله بك، وكفى الله بفضله ثم بك المسألة الحاضرة، وكفيتنا شر المقبل.

ثم صارت مسألة أهل العراق مع الإخوان، وقلت: وجهي وأمانتي ولزمي، وساعدناك فيما هو لازم علينا شرعا وعقلا. ولما تعصب المتعصبون من أهل نجد، الذين يدعون الدين، وأبوا إلا تتميم أمرهم، جاهدناهم، وأمرنا بقتالهم، حتى استراح الناس، ومضى الأمر الذي أنت قمت فيه.

أما الآن، فقد أخذوا يدخلون الدسائس، على أهل النفاق والأوباش، من أطراف نجد، بعمل القلاقل إليه، وفي الحجاز الذي حرم الإلحاد فيه، وهذا كان له دوي من زمن، وقد سار أطما لتشويق الناس للفتن، وتجهيزهم عليها، ومن توليتك الحجاز، وأعداء الله مثخنين أطراف المسلمين، بالغارات، والأخذ والدسائس الخبيثة؛ وأنت تراوز الأمور،

ص: 350

والصبر، وهذا لا يسوغ لك دينا ولا عقلا.

والذي نشير به عليك: أنه لما وقع الغدر منهم، وبان الأمر للبار والفاجر، واضطراب أهل نجد، فتوكل على الله، ومر المسلمين كل من قبله بالسير، وما هي إلا إحدى الحسنيين، فهذا أمر تؤجر به؛ وبحول الله وقوته أن النصر مقرون برايتك، وأن ضدكم مخذول ; ولا يجل في عينيك إلا أمر الله، وأصلح نيتك، وخل عملك طبقا لأمر الله، وأبشر بالخير؛ هذا الذي نشير به عليك، ولا لك عذر فيه عند الله، ولا يمكننا السكوت عليه.

وتعرف أن الذي بذمتنا إذا سئلنا عنه سنؤديه، والذي ندين الله به، ونعاهد الله عليه، أنك عندنا أغلى من أنفسنا وعيالنا وأموالنا، لكن ربنا وديننا أغلى من كل شيء؛ ويأبى الله أن نتكلم في أمر يخالف أمرك، لكن نطيعك فيما أطعت الله فيه.

قد تقول: إن الأمر فيه سياسة ومصلحة، فهذا الأمر عرفناك به سابقا، وعرفناك فيه أول الكتاب؛ ولكن السياسة الغبية ما تسوغ لك، وافطن لقول الصحابي:(فإن عرض بلاء فافد بمالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فافد بنفسك دون دينك) .

فإن كان الأمر سياسي، وظاهر يبين للمسلمين عاجلا غير آجل، يكف المنافق الذي فيه شر، ويكف الأذى عن

ص: 351

المسلمين، فبرهن به، وقم بالواجب، وهذا أمر لك حق فيه، وأنت أعلم بالمصالح؛ فإن كان الأمر خدعة ورجاء فرصة، فهذا لا يجوز شرعا، ونحن لا نوافق عليه، فهذا الذي ندين الله به، وننصحك به، تبرئة لذمتنا، والله يوفقك للصواب، وصلى الله على محمد.

وقال الشيخ: عبد الله بن بليهد، والشيخ عبد الله بن حسن، نوافق على ذلك، وهذا الذي ندين الله به، وصلى الله على محمد.

ص: 352