المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب حكم المرتد [ - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٩

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌كتاب حكم المرتد [

‌كتاب حكم المرتد [

معرفة الدين وما قص الله من قصص الأنبياء]

قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم رحمك الله: أن أفرض ما فرض الله عليك، معرفة دينك: الذي معرفته والعمل به، سبب لدخول الجنة ; والجهل به وإضاعته، سبب لدخول النار. ومن أوضح ما يكون لرديء الفهم: قصص الأولين والآخرين، قصص من أطاعه، وما فعل بهم، وقصص من عصاه، وما فعل بهم ; ومن لم يفهم ذلك، ولم ينتفع به، فلا حيلة فيه، كما قال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 36] .

وقال بعض السلف: القصص جنود الله، يعني أن المعاند لا يقدر يردها: فأول ذلك ما قص الله عن آدم وإبليس، إلى أن قال: اهبطوا في الأرض؛ ففيها من إيضاح المشكلات، ما هو واضح لمن تأمله، كما قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ

ص: 353

هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 38] .

وفي الآية الأخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 123-124] إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [سورة طه آية: 127] .

وهداه الذي وعدنا به: إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقد وفى بما وعد سبحانه؛ فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ فأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فاحرص يا عبد الله، على معرفة هذا الحبل الذي بين الله وبين عباده، الذي من استمسك به سلم، ومن ضيعه عطب. فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم، وعدوه إبليس، وما جرى لنوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، ولوط وقومه، وعيسى وقومه، وموسى وقومه، ومحمد صلى الله عليه وسلم وقومه.

واعرف ما قصه أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه، وما جرى له معهم في مكة، وما جرى له في المدينة ; واعرف ما قص العلماء عن أصحابه، وأحوالهم وأعمالهم، لعلك أن تعرف الإسلام والكفر؛ فإن الإسلام

ص: 354

اليوم غريب، وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.

[قصة آدم وإبليس وسبب الكفر]

فأما قصة آدم وإبليس، فلا زيادة على ما ذكر الله عز وجل في كتابه، ولكن قصة ذريته، فأول ذلك: أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر، وأخذ عليهم العهود أن لا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف آية: 172] ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج.

ورأى رجلا من أنورهم، فسأله عنه، فأعلمه الله أنه داود، فقال: كم عمره؟ قيل ستون ; قال: وهبت له من عمري أربعين سنة، وكان عمر آدم ألف سنة ; ورأى فيهم الأعمى، والأبرص، والمبتلى، فقال يا رب: لم لا سويت بينهم؟ قال: إني أحب أن أشكر; فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين، أتاه ملك الموت، فقال: إنه بقي من عمري أربعين سنة، فقال: التي وهبتها لابنك داود، فنسي فنسيت ذريته، وجحد فجحدت ذريته.

فلما مات آدم، بقيت ذريته من بعده عشرة قرون، على دين أبيهم، دين الإسلام، ثم كفروا بعد ذلك.

وسبب كفرهم هو الغلو في حب الصالحين، كما ذكر الله تعالى في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ

ص: 355

وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [سورة نوح آية: 23] . وذلك: أن هؤلاء الخمسة، قوم صالحون، يأمرونهم وينهونهم، فماتوا في شهر، فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم، فصوروا صورهم، فصوروا صورة لكل رجل في مجلسه، لأجل التذكرة بأقوالهم، وأعمالهم إذا رأوا صورهم، ولم يعبدوهم.

ثم حدث قرن آخر، فعظموهم أشد تعظيما من الذين قبلهم ولم يعبدوهم. ثم طال الزمان ومات أهل العلم؛ فلما خلت الأرض من العلماء، ألقى الشيطان في قلوب الجهال: أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم، إلا ليشفعوا لهم إلى الله عز وجل، فعبدوهم.

فلما فعلوا ذلك؛ أرسل الله إليهم نوحا عليه السلام، ليردهم على دين أبيهم آدم عليه السلام، وذريته الذين مضوا قبل التبديل، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه.

ثم عمر نوح وأهل السفينة الأرض، وبارك الله فيهم، وانتشروا في الأرض أمما، وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها. ثم حدث الشرك، فأرسل الله الرسل، وما من أمة إلا ويبعث الله فيهم رسولا، يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً

ص: 356

رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون آية: 44] .

وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [سورة غافر آية: 78] .

ولما ذكر الله القصص في سورة الشعراء، ختم كل قصة بقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية: 8] فقص الله ما قص في القرآن من القصص لأجلنا، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة يوسف آية: 111] .

ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها، قال:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} [سورة التوبة آية: 70] الآية وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك.

وكذلك أهل العلم، في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له ; وكذلك نقلهم سيرة أصحابه، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوالهم وأقوالهم، وأحوال العلماء بعدهم، كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر.

ص: 357

إذا فهمت هذا، فاعلم: أن كثيرا من الرسل وأممهم، لا نعرفهم، لأن الله لم يخبرنا عنهم، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [سورة غافر آية: 78] لكن أخبرنا عن عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فبعث الله إليهم هودا عليه السلام، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه، ثم بعدهم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فبعث الله إليهم صالحا عليه السلام، فكان من أمرهم ما قص الله علينا في كتابه، وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عدم بعد مدة لا ندري ما هي، وبقي في أصحاب صالح، ثم عدم بعد مدة لا ندري كم هي.

ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم إلا هو، فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة، ثم آمن له لوط عليه السلام، ومع هذا نصره الله ورفع قدره، وجعله إماما للناس.

ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام، لم يعدم التوحيد في ذريته كما قال تعالى:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] فإذا كان هو الإمام، فنذكر شيئا من أحواله، لا يستغنى مسلم عن معرفتها، فنقول: في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله، قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ

ص: 358

كَبِيرُهُمْ هَذَا}

وواحدة في شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن النساء، فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم إنك امراتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه، رآها بعض أهل الجبار، فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها الجبار، فأتى بها فقام إبراهيم يصلي، فلما دخلت عليه، لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، قال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله لا أضرك، ففعلت، فعاد فقبضت قبضة أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله لا أضرك، ففعلت فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها، فقال له إنما جئتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطاها هاجر، فأقبلت، فلما رآها إبراهيم انصرف، وقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا، كفى الله كيد الفاجر، وأخدم خادما " قال أبو هريرة:"تلك أمكم يا بني ماء السماء".

وللبخاري: " أن إبراهيم لما سئل عنها، قال: هي أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذبين حديثي، فإني

ص: 359

أخبرتهم أنك أختي، فوالله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك. فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي يد هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله الأرض، فقالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل في الثانية، والثالثة، وكلما غط قامت إلى الصلاة والدعاء. ثم بعد ذلك، قال: والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانه، أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت يد الفاجر، وأخدم وليدة ".

وكان إبراهيم عليه السلام بأرض العراق، وبعد ما جرى عليه من قومه ما جرى، هاجر إلى الشام واستوطنها إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار، فواقعها، فولدت له إسماعيل عليه السلام، فغارت سارة من الجارية التي أعطتها إبراهيم، فأمره الله بإبعادها عنها، فذهب بها وابنها فأسكنهما مكة ; ثم بعد ذلك وهب الله له، ولسارة إسحاق عليه السلام، كما ذكر الله سبحانه بشارة الملائكة له ولها {بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [سورة هود آية: 71] .

وفي الصحيح: عن ابن عباس، قال: " لما كان بين إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه

ص: 360

شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء. ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فلما بلغ كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت ذلك مرارا، وهو لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم ; قالت: إذاً لا يضيعنا، وفي لفظ: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله ; قالت: رضيت بالله، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . وجعلت أم إسماعيل ترضعه، وتشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليه واستقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت

ص: 361

طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت بعيني ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت، فإذا هو على حاله، كأنه ينشغ للموت، فلم تقر نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت، لعلي أحس أحدا، حتى تمت سبعا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبرائيل عليه السلام، قال: فقال بعقبه على الأرض، فانبث الماء، فدهشت أم إسماعيل. فقال أبو القاسم: فجعلت تحفر، فقال صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال لو لم تغرف من الماء، لكانت زمزم عينا معينا. وفي حديثه: فجعلت تغرف من الماء في سقائها، قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام، وأبوه، إن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول وتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، مقبلين من كداء، فرأوا طيرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر يدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء.

ص: 362

فأرسلوا جريا أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم. فأقبلوا، فقالوا لأم إسماعيل: أتأذنين لنا أن ننْزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء ; قال: نعم ; قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل، وهي تحب الأنيس. فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنْزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حيث شب؛ فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل. فجاء إبراهيم: بعدما تزوج إسماعيل، يطلع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن حالهم وعيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر، ونحن بضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، كأنه أنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا فأخبرته أنا في ضيق وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك ; قال: ذلك أبي، وأمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها.

وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم ما شاء الله، فقال

ص: 363

لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب يصيد لنا ; فقالت: ألا تنْزل وتطعم وتشرب ; قال: وما طعامكم وشرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء; قال: اللهم بارك لهم في طعامهم، وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه. وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله ; قال: إذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عن عيشنا، فأخبرته أنا بخير ; قال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذلك أبي، وأنت العتبة، وأمرني أمسكك. ثم لبث ما شاء الله، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل، وهو يبري نبلا له، تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده، والولد بالوالد ; ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع أمر ربك ; قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.

ص: 364

قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} " هذا آخر حديث ابن عباس.

فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل، ثم لذريته من بعده، وانتشرت ذريته في الحجاز، وكثروا. وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قرونا كثيرة، ولم يزالوا على ذلك، حتى نشأ فيهم عمرو بن لحي، فابتدع الشرك، وغير دين إبراهيم عليه السلام، وتأتي قصته إن شاء الله تعالى.

وأما إسحاق عليه السلام، فإنه نشأ في الشام وذريته، وهم بنو إسرائيل والروم؛ فأما بنو إسرائيل فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل ; وأما الروم فأبوهم عيص بن إسحاق. ومما أكرم الله به نبيه إبراهيم عليه السلام: أن الله ما بعث بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [سورة العنكبوت آية: 27] وكل الأنبياء والرسل، من ذرية إسحاق.

وأما إسماعيل: فلم يبعث من ذريته إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى العالمين كافة، فكان من قبله من الأنبياء

ص: 365

كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وفضله على جميع الأنبياء.

وأما قصة عمرو بن لحي، وتغييره دين إبراهيم: فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة، والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس حبا عظيما، ودانوا له لأجل ذلك، وملكوه عليهم حتى صار ملك مكة له، وولاية البيت بيده، وظنوا أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء.

ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقا، لأن الشام محل الرسل والكتب، فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم، فرجع إلى مكة وقدم معه بهبل، وجعله في جوف الكعبة. ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله، فأجابوه. وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم؛ فتبعهم أهل الحجاز على ذلك ظنا أنه الحق. فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم، وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي؛ وكانت الجاهلية على ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله.

وأيضا يظنون أنهم على دين إبراهيم، وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة، لا تغير دين إبراهيم، وكانت تلبية نزار: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله عز وجل {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا

ص: 366

رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة الروم آية: 28] .

ومن أقدم أصنامهم " مناة " وكان منصوبا على ساحل البحر بقديد، تعظمه العرب كلها، لكن الأوس والخزرج، أشد تعظيما له من غيرهم، وبسبب ذلك أنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 158] ثم اتخذوا اللات بالطائف، قيل إن أصله رجل صالح، يلت السويق للحجاج، فمات فعكفوا على قبره، ثم اتخذوا " العزى " بوادي نخلة، بين مكة والطائف، فهذه الثلاثة أكبر أوثانهم.

ثم كثر الشرك، وكثرت الأوثان في كل بقعة من الحجاز ; وكان لهم أيضا بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانوا كما قال الله عز وجل {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران آية: 164] .

ولما دعا إلى الله، كان أشد الناس إنكارا له: علماؤهم، وعبادهم، وملوكهم، وعامتهم، حتى إنه لما دعا رجلا إلى الإسلام، قال له: من معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) ، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال.

وأعظم فائدة لك أيها الطالب، وأكبر العلم، وأجل المحصول: إن فهمت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام

ص: 367

غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله:" ل تتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "2. وقوله: " ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ". فهذه المسألة هي أجل المسائل، ومن فهمها فهو الفقيه، ومن عمل بها فهو المسلم. نسأل الله الكريم المنان، أن يتفضل علينا بفهمها، والعمل بها.

[قصة البيت وجرهم وبني بكر وغبشان]

وأما قصة البيت: فإن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لما بنياه صارت ولايته في إسماعيل وذريته، ثم غلبهم عليه أخوالهم من جرهم، ولم ينازعهم بنو إسماعيل لقرابتهم، وإعظاما لحرمتها أن يكون بها قتال.

ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من دخلها، فرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك، أجمعوا على حربهم؛ فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان، ونفوهم من مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرج، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك ثم إن غبشان من خزاعة، وليت البيت دون بني بكر، وقريش إذ ذاك حلول، وصرم، وبيوتات، متفرقون في بني كنانة، فوليت خزاعة البيت يتوارثونه؛ وكان آخرهم خليل بن حبيشة، فتزوج ابنة

1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .

2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .

ص: 368

قصي بن كلاب. فلما عظم شرف قصي وكثر بنوه وماله، وهلك خليل، ورأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة، من خزاعة وبني بكر، وأن قريشا رأس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالا من قريش وكنانة، في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان الغوث بن مرة بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر، يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، لأن أمه جرهمية لا تلد، فنذرت لله نذرا إن ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة يخدمها، فولدت الغوث، فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم، فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وكان إذا دفع يقول:

اللهم إني تابع تباعة

إن كان إثم فعلى قضاعة

وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات، وتجيز بهم إذا نفروا من منى، فإذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي لهم، لا يرمون حتى يرمي، فكان المعجلون يأتونه يقولون: ارم حتى نرم، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فإذا زالت رمى ورمى الناس معه، فإذا فرغوا من الرمي، وأرادوا النفر من منى، أخذت صوفة بالجانبين، فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلوا سبيل الناس.

فلما انقرضوا، ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم، وكانت الإفاضة من مزدلفة، في "عدوان" يتوارثونها، حتى

ص: 369

كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة 1 فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة ما كانت تفعل، وقد عرفت العرب ذلك لها وهو دين لهم، من عهد جرهم وولاية خزاعة، فأتاهم قصي ومن معه من قريش، وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه؛ فاقتتل الناس قتالا شديدا، فانهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما بأيديهم.

وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا، أجمع لحربهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. ثم تداعوا إلى الصلح، فحكموا عمرو بن عوف، أحد بني بكر، فقضى بينهم: بأن قصيا أولى بالكعبة ومكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصي منهم موضوع، يشدخه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر، ففيه الدية، وأن يخلي بين قصي وبين الكعبة ومكة؛ فسمي يومئذ الشداخ.

فوليها قصي وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك عليهم فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه، لأنه يراه دينا لهم، فأقر النسأة وآل صفوان، وعدوان ومرة بن عوف، على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم ذلك كله، وفيه يقول الشاعر:

قصي لعمري كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

1 هو عميلة بن الأعزل، كما في السيرة لابن هشام.

ص: 370

فكان أولى بني لؤي، أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، وقطع مكة أرباعا بين قومه، فأنزل لكل قوم منهم منازلهم؛ وقيل إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم، فقطعها بيده وأعوانه، فسمته قريش مجمعا لما جمع أمرهم، وتيمنت بأمره، فلا تنكح امرأة منهم، ولا يتزوج رجل إلا بأمره، ولا يتشاورون فيما نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، فكان أمره في حياته وبعد موته، عندهم، كالدين المتبع، واتخذ لنفسه دار الندوة.

فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وعبد العزى، وعبد - قال لعبد الدار: لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، لا يدخل منهم أحد الكعبة حتى تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك.

فأعطاه دار الندوة، والحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة وهي خراج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي، فيصنع به طعاما للحاج، يأكله من لم يكن له سعة، لأنه فرضه عليهم، أي على قريش، فقال: أنتم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله، وهم أحق الضيف

ص: 371

بالكرامة، فاجعلوا له طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، فلما هلك أقام بنوه أمره، لا نزاع بينهم.

ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار، ورأوا أنهم أولى بذلك، فتفرقت قريش، بعضهم معهم، وبعضهم مع بني عبد الدار، فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس، لأنه أسنهم، وصاحب بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. فعقد كل قوم حلفا مؤكدا؛ فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فغمسوا أيديهم فيها، فمسحوا بها الكعبة، فسموا المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار، وحلفاؤهم، فسموا الأحلاف.

ثم تداعوا إلى الصلح، على أن لبني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار؛ فرضوا، وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" كل حلف في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة "1.

[قصة حلف الفضول وأمر الحمس]

وأما حلف الفضول، فاجتمعوا له في دار ابن جدعان لشرفه وسنه، وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، تعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، أو ممن دخلها إلا قاموا

1 مسلم: فضائل الصحابة (2530)، وأبو داود: الفرائض (2925) ، وأحمد (4/83) .

ص: 372

معه، حتى يردوا إليه مظلمته، فقال الزبير بن عبد المطلب عند ذلك شعرا:

إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا

أن لا يقيم ببطن مكة ظال

أمر عليه تحالفوا وتعاقدوا

فالجار والمعتر فيهم سالم

فولي السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف، لأن عبد شمس كان سفارا، قل ما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد، وكان هاشم موسرا، وكان هو أول من سن الرحلتين، وأول من أطعم الثريد بمكة، فقال بعضهم فيه كلاما منه:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

ولما مات، ولي ذلك عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان ذا شرف فيهم، يسمونه الفياض لسماحته؛ وكان هاشم قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو، من بني النجار، فولدت له عبد المطلب، فلما ترعرع، خرج إليه المطلب ليأتي به، فأبت أمه، فقال: إنه يلي ملك أبيه، فأذنت له. فرحل به وسلم إليه ملك أبيه، فولي عبد المطلب ما كان من آبائه، وأحبوه وعظم خطره فيهم. ثم ذكر قصة حفر زمزم، وما فيها من العجائب، ثم ذكر نذره ذبح ولده، وما جرى فيها من العجائب، ثم ذكر الآيات التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وبعدها، وما جرى له وقت رضاعه، وبعد ذلك ذكر كفالة أمه له، ثم ذكر كفالة جده، ثم ذكر كفالة أبي طالب، ثم ذكر قصة بحيرى الراهب، وغيرها من الآيات،

ص: 373

ثم ذكر تزوجه خديجة، وما ذكر لها غلامها، وما ذكرته لورقة بن نوفل، وقوله: لججت وكنت في الذكرى لجوجا.... إلى آخرها.

ثم ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم بين قريش عند بناء الكعبة من الحجر، وذكر قصة بنائها، وذكر أمر الحمس، قال: إن قريشا ابتدعته رأيا رأوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم وولاة البيت، فليس لأحد من العرب مثال حقنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، لئلا تستخف العرب بحرمتكم؛ فتركوا الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، مع معرفتهم أنها من المشاعر، ومن دين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا بها ويفيضوا منها، لأنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لنا أن نخرج منه، ونحن الحمس والحمس، أهل الحرم.

ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب أهل الحل، مثل ما لهم بولايتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم؛ فكانت كنانة وخزاعة دخلت معهم في ذلك. ثم ابتدعوا أمورا، فقالوا لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط، ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون في بيوت الأدم ما داموا حرما.

[بدء الوحي]

ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحرم أن يأكلوا من طعام، جاؤوا به من الحل إلى الحرم، إذا جاؤوا به حجاجا أو

ص: 374

عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم، إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا ما، طافوا بالبيت عراة، فإن لم يجد ثياب أحمس وطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ، ولم ينتفع بها ولا غيره، فكانت العرب تسميها "اللقى". فحملوا على ذلك العرب، فدانت به؛ أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع المرأة ثيابها كلها، إلا درعها مفرجا، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة وهي تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فأنزل الله عز وجل:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [سورة البقرة آية: 199] وأنزل الله فيما حرموا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 31] إلى قوله: {تعلمون} وذكر حدوث الرجوم، وإنذار الكهان به صلى الله عليه وسلم، ونزول سورة الجن، وقصتهم.

ثم ذكر إنذار اليهود به، وأنه سبب إسلام الأنصار، وما نزل في ذلك من القرآن، وقصة ابن الهيبان، وقوله: ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير، إلى أرض البؤس، والجوع، ثم ذكر قصة إسلام سلمان الفارسي، ثم ذكر الأربعة المتفرقين عن الشرك في طلب الدين، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو.

ص: 375

ثم ذكر وصية عيسى عليه السلام، باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ الله على الأنبياء من الإيمان به، والنصر له، وأن يؤدوه إلى قومهم، فأدوا ذلك، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [سورة آل عمران آية: 81] الآية.

ثم ذكر بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والقصة في الصحيحين، وفيها: أن أول ما أنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق آية: 2] إلى قوله: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق آية: 5] ثم أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 5] فمن فهم: أن هذه أول آية أرسله الله بها، أمره سبحانه أن ينذر عن الشرك، الذي يعتقدون أنه عبادة تقرب إلى الله عز وجل قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات، وعرف أن قوله:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها، عرف قدر الشرك عند الله، وقدر التوحيد. فلما أنذر استجاب له قليل، وأما الأكثر فلم يتبعوا ولم ينكروا، حتى بادأهم بسب دينهم وعيب آلهتهم، فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه، وعذبوهم عذابا شديدا، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. فمن فهم هذا، عرف أن الإسلام لا يستقيم

ص: 376

إلا بالعداوة لمن تركه وسب دينه، وإلا لو كان لأولئك المعذبين رخصة لفعلوا. وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه، وقص الله سبحانه بعضه في كتابه.

[قصة أبي طالب وقراءة سورة النجم]

ومن أشهر ذلك: قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته، وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة وصبر عليها، ومع ذلك أنه مصدق له داع إلى دينه، محب لمن اتبعه معاديا لمن عاداه، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دين آبائه، ويتعذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه، وإلا لولا ذلك لاتبعه.

ولما مات، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له، أنزل الله سبحانه:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113] فيا لها من عبرة ما أبينها! وما أبلغها من موعظة، وبيان ما أوضحه، لما يظن كثير من يدعي اتباع الحق، فيمن أحب الحق وأهله، من غير اتباع، لأجل غرض من أغراض الدنيا.

ومما وقع أيضا: قصته معهم لما قرأ سورة النجم بحضرتهم، فلما وصل إلى قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [سورة النجم آية: 19] ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ففرحوا بذلك فرحا

ص: 377

شديدا، وتلقاه الصغير والكبير منهم، وقالوا كلاما معناه: هذا الذي نريد، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمور، ولكن نريد شفاعتهم عنده، فإذا أقر بذلك فلا بيننا وبينه اختلاف. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه.

وشاع الخبر أنهم صافوه، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة، فركبوا في البحر راجعين، ظانين أن ذلك صدق، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون قاله، فخاف من الله خوفا شديدا عظيما، حتى أنزل الله عز وجل عليه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج آية: 52] إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [سورة الحج آية: 55] فمن عرف هذه القصة، وعرف ما عليه المشركون اليوم، وما قاله علماؤهم، ولم يميز بين الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين دين قريش، الذي أرسله الله ينذرهم عنه، وهو الشرك الأكبر، فأبعده الله.

فإن هذه القصة في غاية الوضوح، إلا من طبع الله على قلبه، فذلك لا حيلة فيه، ولو كان من أفهم الناس، كما قال الله تعالى في أهل الفهم، الذين لم يوفقوا {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا

ص: 378

يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الأحقاف آية: 26] .

ثم لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز المسلمين، أسلم الأنصار أهل المدينة، بسبب العلماء الذين عندهم من اليهود، وذكرهم لهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وأن هذا زمانه، وقدر الله سبحانه أن أولئك العلماء، الذين يتمنون ظهوره، ويتوعدونهم به، لمعرفتهم أن العز لمن اتبعه، يكفرون به، ويعادونه؛ فهو قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] .

فلما أسلم الأنصار، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا إليها، وأعزهم الله تعالى بعد تلك الذلة؛ فهو قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة الأنفال آية: 26] .

[الهجرة ووقوع بدر الكبرى]

وفوائد الهجرة، والمسائل التي فيها كثيرة، لكن نذكر منها مسألة واحدة، وهي: أن أناسا من المسلمين لم يهاجروا، كراهة مفارقة الوطن، والأهل والأقارب؛ فهو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

ص: 379

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] .

فلما خرجت قريش إلى بدر، خرجوا معهم كرها، فقتل بعضهم بالرمي، فلما علموا أن فلانا قتل، وفلانا قتل، وفلانا قتل، تأسفوا على ذلك، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله عز وجل فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 97] .

فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات، فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر، أو فعلوا كفرا يرضون به قومهم، لم يتأسف الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لأن الله بين لهم وهم بمكة، لما عذبوا بقوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] .

فلو سمعوا عنهم كلاما، أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه، لم يقولوا: قتلنا إخواننا، ويوضحه قوله

ص: 380

تعالى: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا} [سورة النساء آية: 97] ولم يقولوا: كيف عقيدتكم؟ أو كيف فعلكم؟ بل قالوا: في أي الفريقين أنتم؟ فاعتذروا لهم: كنا مستضعفين في الأرض، فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا، بل {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] يوضحه إيضاحا تاما قوله: {إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] .

فهذا في غاية الوضوح; فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة، فكيف بغيرهم؟ ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنبا.

فإن فهمت ما أنزل الله فهما جيدا، وفهمت ما عند من يدعي الدين، تبين لك أمور: منها: أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم، فإن هذه وأمثالها لا تعرف إلا بالتنبيه، فإذا أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية، فكيف بغيرهم؟

ومنها: أن تعرف أن الإيمان ليس كما ظنه غالب الناس اليوم، بل كما قال الحسن البصري:" ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال". نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وأن يعيذنا من علم لا ينفع.

قال عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: "يا بني، ليس

ص: 381

الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير: أن تعقل عن الله، ثم تطيعه ".

ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، واجتمع المهاجرون والأنصار، شرع الله لهم الجهاد، وقبل ذلك نهوا عنه و {قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [سورة النساء آية: 77] فأنزل الله عز وجل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] فبذلوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، رضي الله عنهم، فشكر الله لهم ذلك، ونصرهم على من عاداهم، مع قلتهم وضعفهم، وكثرة عدوهم وقوتهم.

فمن الوقائع المشهورة، التي أنزل الله فيها القرآن: وقعة بدر، أنزل الله فيها سورة الأنفال، وبعدها وقعة بني قينقاع، ثم وقعة أحد بعد سنة، وفيها الآيات التي في آل عمران، وبعدها وقعة بني النضير، وفيها الآيات التي في سورة الحشر، ثم وقعة الخندق وبني قريظة، وفيها الآيات التي في سورة الأحزاب، ثم وقعة الحديبية، وفتح خيبر وأنزل الله فيها سورة الفتح، ثم فتح مكة ووقعة حنين، وأنزل الله فيها سورة النصر، وذكر حنين في براءة، ثم غزوة تبوك، وذكرها الله في سورة براءة.

ولما دانت له العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا،

ص: 382

وابتدأ في قتال العجم، اختار الله له ما عنده، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أقام بالمدينة عشر سنين. فوقعت الردة المشهورة، وذلك أنه لما مات صلى الله عليه وسلم ارتد غالب من أسلم، وحصلت فتنة عظيمة، ثبت الله فيها من ثبت، وأنعم الله عليه بالثبات بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

فإنه قام فيها قياما لم يدانه أحد من الصحابة، ذكرهم ما نسوا، وعلمهم ما جهلوا، وشجعهم لما جبنوا، فثبت الله به دين الإسلام، جعلنا الله من أتباعه، وأتباع أصحابه، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة آية: 54] قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه.

[وقوع الردة]

وصورة الردة: أن العرب افترقت في ردتها ; فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبيا ما مات ; وفرقة قالوا: نؤمن بالله ولا نصلي ; وطائفة أقروا بالإسلام، وصلوا، ولكن منعوا الزكاة ; وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لكن صدقوا لمسيلمة أن النبي أشركه في النبوة ; وذلك أنه أقام شهودا شهدوا معه بذلك، وفيهم رجل من الصحابة معروف بالعلم والعبادة، يقال له "الرجّال" فصدقوه لما عرفوا فيه من العلم

ص: 383

والعبادة، وفيه يقول بعضهم، أي بعض من ثبت منهم على دينه، وهو ابن عمرو اليشكري، كلاما، منه:

يا سعاد الفؤاد بنت أثا

طال ليلي بفتنة الرجال

إنها يا سعاد من أحدث الدهـ

ـر عليكم كفتنة الدجال

فتن القوم بالشهادة والله

عزيز ذو قوة ومحال

وقوم من أهل اليمن صدقوا الأسود العنسي في دعوى النبوة وقوم صدقوا طليحة الأسدي. ولم يشك أحد من الصحابة، في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلا مانع الزكاة، لما عزم أبو بكر على قتالهم، قيل له: كيف تقاتلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها "1.

قال أبو بكر: "الزكاة من حق لا إله إلا الله، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، ثم زالت الشبهة عن الصحابة، وعرفوا أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، وعرفوا وجوب قتالهم، فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم، فقتلوا من قتلوا، وسبوا نساءهم وعيالهم.

فمن أهم ما على المسلم اليوم: تأمل هذه القصة، التي جعلها الله من حججه على خلقه إلى يوم القيامة; فمن تأمل هذه تأملا جيدا، خصوصا إذا عرف أن الله شهرها على

1 البخاري: الجهاد والسير (2946)، ومسلم: الإيمان (21)، والترمذي: الإيمان (2606)، والنسائي: الجهاد (3090 ،3095) وتحريم الدم (3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978)، وأبو داود: الجهاد (2640)، وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ،3928) ، وأحمد (1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394) .

ص: 384

ألسنة العامة؛ وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك، وجعلوا من أكبر فضائله وعلمه: أنه لم يتوقف عن قتالهم أول وهلة; وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم، بالدليل الذي أشكل عليهم فرد عليهم بدليلهم بعينه، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة. أما القرآن، فقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] .

وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى "1.

فهذا كتاب الله الصريح للعامي البليد، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع العلماء الذي ذكرت لك، فمن بعدهم تريد؟ فما بعد هذا إلا الضلال البعيد، أو تسويل كل شيطان مريد. والذي يعرفك هذا: معرفة ضده، وهو أن العلماء في زماننا، يقولون: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم، حرام المال والدم، لا يكفر، ولا يقاتل، حتى إنهم يصرحون بذلك في البدو، الذين يكذبون بالبعث، وينكرون الشرائع كلها، ويزعمون أن شرعهم الباطل هو

1 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

ص: 385

حق الله ; ولو يطلب أحد منهم خصمه أن يخاصمه عند شرع الله، لعدوه من أكبر المنكرات.

ومن حيث الجملة: إنهم يكفرون بالقرآن من أوله إلى آخره، ويكفرون بدين الرسول كله، مع إقرارهم بذلك، وإقرارهم أن شرعهم أحدثه آباؤهم لهم، كفر بشرع الله؛ وعلماء الوقت يعترفون بهذا كله، ويقولون: ما فيهم من الإسلام شعرة، لكن من قال: لا إله إلا الله، فهو المسلم، حرام المال والدم، ولو كان ما معه من الإسلام شعرة.

وهذا القول، تلقته العامة عن علمائهم، وأنكروا ما بينه الله ورسوله، بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: من كفر مسلما فقد كفر; والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام شعرة، إلا أنه يقول لا إله إلا الله.

فاعلم رحمك الله: أن هذه المسألة أهم الأشياء عليك، لأنها هي الكفر والإسلام؛ فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل الله على رسوله، كما ذكرنا لك من القرآن والسنة والإجماع، وإن صدقت الله ورسوله، عادوك وكفروك؛ وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول.

فهذه المسألة، قد انتشرت في الأرض، مشرقها ومغربها، ولم يسلم منهم إلا القليل؛ فإن رجوت الجنة، وخفت النار، فاطلب هذه المسألة وحررها، ولا تقصر في

ص: 386

طلبها، لأجل شدة الحاجة إليها، لأنها الإسلام والكفر، وقل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني شر نفسي، وفهمني عنك، وعلمني منك، وأعذني من مضلات الفتن ما أحييتني.

وأكثر الدعاء بالذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعو به في الصلاة، وهو " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".

ونزيد هذه المسألة إيضاحا ودلائل، لشدة الحاجة إليها، فنقول: يتفطن العاقل لقصة واحدة، وهي أن بني حنيفة أشهر أهل الردة؛ وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة، وهم عند الناس من أقبح أهل الردة، وأعظمهم كفرا، وهم مع هذا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون.

ومع هذا، فإن أكثرهم، يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، لأجل الشهود الذين معهم "الرجّال". والذي يعرف هذا ولا يشك فيه، يقول: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم، ولو لم يكن معه من الإسلام شعرة، بل تركه واستهزأ به متعمدا.

فسبحان مقلب القلوب والأبصار كيف يشاء! كيف

ص: 387

يجتمع في قلب من له عقل - ولو كان أجهل الناس - أنه يعرف أن بني حنيفة كفروا، مع أن حالهم ما ذكرنا، وأن البدو إسلام ولو تركوا الإسلام كله، وأنكروه واستهزؤوا به على عمد، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، لكن أشهد أن الله على كل شيء قدير. نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.

الدليل الثاني: قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين، وهي: أن بقايا من بنى حنيفة، لما رجعوا إلى الإسلام، وتبرؤوا من مسيلمة، وأقروا بكذبه، كبر ذنبهم في أنفسهم، وتحملوا بأهليهم إلى الثغر، لأجل الجهاد في سبيل الله، لعل ذلك يمحو عنهم تلك الردة، لأن الله تعالى يقول:{إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان آية: 70] وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [سورة طه آية: 82] .

فنَزلوا الكوفة، وصار لهم بها محلة معروفة، فيها مسجد يسمى مسجد بني حنيفة، فمر بعض المسلمين على مسجدهم، ما بين المغرب والعشاء، فسمع منهم كلاما، معناه: أن مسيلمة على حق، وهم جماعة كثيرون؛ لكن الذي لم يقل لم ينكر على من قال، فرفعوا أمرهم إلى

ص: 388

ابن مسعود، فجمع من عنده من الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم: هل يقتلهم وإن تابوا؟ أو يستتيب؟ فأشار بعض بقتلهم من غير استتابة، وأشار بعضهم باستتابتهم. فاستتاب بعضهم، وقتل بعضهم ولم يستتبه، وقتل عالمهم ابن النواحة. فتأمل رحمك الله: إذا كانوا قد أظهروا من الأعمال الصالحة الشاقة ما أظهروا، لما تبرؤوا من الكفر، وعادوا إلى الإسلام، ولم يظهر منهم إلا كلمة أخفوها في مدح مسيلمة، لكن سمعها بعض المسلمين، ومع هذا لم يتوقف أحد في كفرهم كلهم، المتكلم والحاضر الذي لم ينكر، لكن اختلفوا: هل تقبل توبتهم أم لا؟ والقصة في صحيح البخاري. فأين هذا من كلام من يزعم أنه من العلماء، ويقول: البدو ما معهم من الإسلام شعرة، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وحكم بإسلامهم بذلك؟ أين هذا مما أجمع عليه الصحابة فيمن قال تلك الكلمة، أو حضرها ولم ينكر؟ هيهات ما بين الفريقين، وبعد مسافة ما بين الطريقين:

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

صم وبكم عن حقيقة دينهم

ع عن القول المصيب الطيب

قد أغرقوا في بحر شرك لجة

في ظلمة فيها صواعق صيب

ص: 389

ربنا إننا نعوذ بك أن نكون ممن قلت فيهم: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 17] ولا ممن قلت فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [سورة الأنفال آية: 22] .

الدليل الثالث: ما وقع في زمان الخلفاء الراشدين، من قصة أصحاب علي رضي الله عنه لما اعتقدوا فيه الإلهية - التي تعتقد اليوم في أناس من أكفر بني آدم، وأفسقهم - فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخد لهم الأخاديد، وملأها حطبا، وأضرم فيها النار، وقذفهم فيها وهم أحياء. ومعلوم: أن الكافر، مثل اليهودي والنصراني، إذا أمر الله بقتله، لا يجوز إحراقه بالنار. فاعلم: أنهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، هذا وهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويقرؤون القرآن، آخذين له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما غلوا في علي أنكر الغلو، وحرقهم بالنار وهم أحياء، وأجمع الصحابة والعلماء كلهم على كفرهم. فأين هذا ممن يقول في البدو تلك المقالة مع اعترافه بهذه القصة وأمثالها، واعترافه أن البدو كفروا بالإسلام كله، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله؟ واعلم أن جناية هؤلاء على الإلهية، ولا علمنا فيهم جناية على النبوة،

ص: 390

والذين قبلهم جنايتهم على النبوة، ولا علمنا لهم جناية على الإلهية ; وهذا مما يبين لك شيئا من معنى الشهادتين اللتين هما أصل الإسلام.

الدليل الرابع: ما وقع في زمن الصحابة، وهي قصة المختار بن أبي عبيد، وهو رجل من التابعين، مصاهر لعبد الله بن عمر، ومظهر للصلاح؛ فظهر في العراق، يطلب بدم الحسين وأهل بيته، فقتل ابن زياد ومال إليه من مال لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم. فاستولى على العراق، وأظهر شرائع الإسلام، ونصب القضاة، والأئمة من أصحاب ابن مسعود، وكان هو الذي يصلي بالناس الجماعة والجمعة؛ لكن في آخر أمره، زعم أنه يوحى إليه. فسير عليه عبد الله بن الزبير جيشا، فهزم جيشه وقتلوه، وأمير الجيش مصعب بن الزبير، وتحته امرأة أبوها أحد الصحابة، فدعاها مصعب إلى تكفيره فأبت، فكتب إلى أخيه عبد الله يستفتيه فيها، فكتب إليه إن لم تبرأ منه فاقتلها، فامتنعت فقتلها مصعب.

وأجمع العلماء كلهم على كفر المختار، مع إقامته شعائر الإسلام، لما جنى على النبوة ; فإذا كان الصحابة قتلوا المرأة، التي هي من بنات الصحابة، لما امتنعت من تكفيره، فكيف بمن لم يكفر البدو، مع إقراره بحالهم؟ فكيف بمن زعم أنهم هم أهل الإسلام؟ من دعاهم إلى

ص: 391

الإسلام أنه هو الكافر؟! يا ربنا نسألك العفو والعافية.

الدليل الخامس: ما وقع في زمن التابعين، وذلك قصة الجعد بن درهم، وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة، فلما جحد شيئا من صفات الله عز وجل مع كونها مقالة خفية عند الأكثر، ضحى به خالد القسري يوم عيد الأضحى، فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله منكم ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. ثم نزل فذبحه، ولم نعلم أحدا من العلماء أنكر ذلك عليه، بل ذكر ابن القيم إجماعهم على استحسانه، فقال:

شكر الضحية كل صاحب سنة

لله درك من أخي قربان

فإذا كان رجل من أشهر الناس بالعلم والعبادة، وأخذ العلم عن الصحابة، أجمعوا على استحسان قتله، فأين هذا من اعتقاد أعداء الله في البدو؟.

الدليل السادس: قصة بني عبيد القداح، فإنهم ظهروا على رأس المائة الثالثة، فادعى عبيد الله أنه من آل علي، من ذرية فاطمة، وتزيا بزي الطاعة والجهاد في سبيل الله، فتبعه أقوام من أهل المغرب؛ وصار له دولة كبيرة في المغرب، ولأولاده من بعده، ثم ملكوا مصر والشام، وأظهروا شرائع الإسلام، وإقامة الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين.

ص: 392

لكن أظهروا أشياء من الشرك، ومخالفة الشرع، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم ; فأجمع أهل العلم على أنهم كفار، وأن دارهم دار حرب، مع إظهارهم شعائر الإسلام وشرائعه. وفي مصر من العلماء والعباد ناس كثير، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوه، ومع ذلك أجمع العلماء على ما ذكرنا، حتى إن بعض أكابر العلماء المعروفين بالصلاح، قال: لو أن معي عشرة أسهم، لرميت بواحد النصارى المحاربين، ورميت بالتسعة في بني عبيد.

ولما كان في زمن السلطان محمود بن زنكي، أرسل إليهم جيشا عظيما، فأخذوا مصر من أيديهم، ولم يتركوا جهادهم لأجل من فيها من الصالحين. فلما فتحها السلطان، فرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، وصنف ابن الجوزي كتابا في ذلك سماه "النصر على مصر"، وأكثر العلماء التصنيف والكلام في كفرهم، مع ما ذكرنا من إظهار شرائع الإسلام الظاهرة.

فانظر ما بين هذا، وبين ديننا الأول: البدو إسلام، مع معرفتنا بما هم عليه من البراءة من الإسلام كله، إلا قول لا إله إلا الله، ولا نظن أن أحدا منهم يكفر، إلا إذا انتقل يهوديا أو نصرانيا.

فإذا آمنت بما ذكر الله ورسوله، وأجمع عليه العلماء، وبرئت من دين آبائك في هذه المسألة، وقلت: آمنت بالله،

ص: 393

وبما أنزل الله، وتبرأت مما خالفه باطنا وظاهرا، مخلصا لله الدين في ذلك، وعرف الله ذلك من قلبك، فأبشر، ولكن سل الله سبحانه التثبيت، واعرف أنه مقلب القلوب:

إن القلوب يد الباري تقلبها

فسل من الله توفيقا وتثبيتا

سل الهداية منه أن يمن بها

فإن هداك فللخيرات أوتيتا

فهذه غربة الإسلام أنت بها

فكن صبورا ولو في الله أوذيتا

الدليل السابع: قصة التتار، وذلك أنهم لما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وسكنوا بلدان المسلمين، وعرفوا دين الإسلام، واستحسنوه، وأسلموا، لكن لم يعملوا بما يجب عليهم، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة، لكن يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ليسوا كالبدو، ومع هذا كفرهم العلماء، وقاتلوهم وغزوهم، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين.

وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله سبحانه، وأما من أراد الله فتنته، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك، ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة، من قتل من يظهر شعائر الإسلام، إذا تكلم بكلام الكفر، وقامت عليه البينة، أنه يقتل، مع أن في هؤلاء المقتولين، من هو من أعلم الناس وأزهدهم وأعبدهم، مثل الحلاج وأمثاله، ومن هو من الفقهاء المصنفين، كالفقيه عمارة، فلو ذكرنا قصص هؤلاء، لاحتمل مجلدات، ولا نعرف

ص: 394

فيهم رجلا واحدا بلغ كفره كفر البدو، أو الذي يقول من يزعم إسلامهم: إنه ليس معهم من الإسلام شعرة، إلا قول لا إله إلا الله، ولكن (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] .

والعجب: أن الكتب التي بأيديهم، ويزعمون أنهم يعرفونها، ويعملون بها، فيها مسائل الردة ; وتمام العجب أنهم يعرفون بعض ذلك، ويقرون به، ويقولون: من أنكر البعث كفر، ومن شك فيه كفر، ومن سب الشرع كفر، ومن أنكر فرعا مجمعا عليه كفر، كل هذا يقولونه بألسنتهم.

فإذا كان من أنكر الأكل باليمين، أو أنكر النهي عن إسبال الثياب، أو أنكر سنة الفجر، أو أنكر الوتر، فهو كافر، ويصرحون: أن من أنكر الإسلام كله وكذب به، واستهزأ به، أو استهزأ بمن صدق به، فهو أخوك المسلم، حرام المال والدم، مع أنه ما معه من الإسلام إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، ثم يكفروننا ويستحلون دماءنا وأموالنا، مع أنا نقول: لا إله إلا الله. إذا سئلوا عن ذلك، قالوا: من كفر مسلما فقد كفر، ثم لم يكفهم ذلك، حتى أفتوا لمن عاهدنا بعهد الله ورسوله، أن ينقض العهد، وله في ذلك ثواب عظيم ; ويفتون أن الذي عنده لنا أمانة أو مال يتيم، أنه يجوز له أكل أمانته، ولو كان

ص: 395

مال يتيم بضاعة عنده، أو وديعة.

بل يرسلون الرسائل لمن حارب التوحيد، ونصر عبادة الاوثان، مثل دهام بن دواس وغيره، يقولون: أنت يا فلان، قمت مقام الأنبياء، مع إقرارهم أن التوحيد الذي قلنا، وكفروا به، وصدوا الناس عنه، هو دين الأنبياء، وأن الشرك الذي نهينا عنه الناس، ورغبوهم فيه، وأمروهم بالصبر على آلهتهم، أنه الشرك الذي نهى عنه الأنبياء، ولكن هذه من أكبر آيات الله.

فمن لم يفهمها فليبك على نفسه، فإنها قد ماتت، ولينتبه قبل حلول رمسه؛ فإن دنياه وأخراه قد فاتت، وليتدارك ما بقي من يومه بعد أمسه، فإن ركائب الموت بفنائه قد باتت، والله سبحانه وتعالى أعلم.

اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ويا مزيل العقول والأفكار، ثبت قلوبنا على دينك، واجعلنا من القانتين لك في الأسحار، وأن تتوفانا مسلمين لك، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى على سيدنا محمد وآل محمد وأصحابه، بالعشي والإبكار، آمين والحمد لله رب العالمين وسلم تسليما.

[بداية كتاب "مفيد المستفيد" في أحكام الردة]

وسئل أيضا: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ارتد

ص: 396

طائفة من أهل العيينة، ولما ارتد أهل حريملاء أن يكتب كلاما ينفع الله به.

فأجاب، رحمه الله تعالى: روى مسلم في صحيحة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال:" كنت في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت رجلا بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي حتى قدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة. فقلت له: وما أنت؟ قال: نبي قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له: ومن معك على هذا؟ قال: حر وعبد قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلت: إني متبعك، قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني".

قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسال الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب، فقلت: ما فعل هذا الرجل، الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد

ص: 397

أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: أنت الذي لقيتني بمكة قال: فقلت: يا نبي الله، علمني مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟ قال:" صل صلاة الصبح، ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، وحتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة، فإنها حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة محضورة مشهودة، حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار " وذكر الحديث.

قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، معللا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها، وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار تسجد لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت، حسما لمادة المشابهة.

ومن هذا الباب: أنه إذا صلى إلى عود، أو عمود،

ص: 398

جعله على حاجبه الأيمن، ولم يصمد له صمدا، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، ولهذا نهى عن السجود بين يدي الرجل، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، انتهى كلامه.

فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه، ما في هذا الحديث من العبر، فإن الله سبحانه يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم، ليكون للمؤمن من المتأخرين عبرة، فيقيس حاله بحالهم; وقص قصص الكفار والمنافقين، لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا.

فمما فيه من الاعتبار: أن هذا الأعرابي الجاهلي، لما ذكر له أن رجلا بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس، لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه، وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير، وهذا فسر به قوله تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً} [سورة الأنفال آية: 23] أي حرصا على تعلم الدين {لأسمعهم} أي: لأفهمهم؛ فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم، عدل منه سبحانه، لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين.

فتبين: أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب، هو عدم الحرص على التعلم، فإذا كان هذا الجاهل يطلب هذا الطلب، فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء، وبلغه عنهم ما بلغه، وعنده من يعرض عليه التعليم،

ص: 399

ولا يرفع بذلك رأسا، فإن حضر أو سمع فكما قال تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنبياء آية: 2] .

وفيه من العبر أيضا: أنه لما قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بكذا وكذا، فتبين: أن زبدة الرسالة الإلهية، والدعوة النبوية، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وكسر الأوثان، ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة، وتجريد السيف، فتأمل زبدة الرسالة.

وفيه أيضا: أنه فهم المراد من التوحيد، وفهم أنه أمر كبير غريب، ولأجل هذا قال: من معك؟ قال: (حر وعبد) فأجابه: أنه جميع العلماء والعباد والملوك والعامة، مخالفون له، ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل، وأن الباطل قد يملأ الأرض، ولله در الفضيل بن عياض، حيث يقول: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين.

وأحسن منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَاّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة سبأ آية: 20] وفي الصحيحين " أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون " 1 ولما بكوا من هذا لما سمعوه، قال صلى الله عليه وسلم " إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، فيؤخذ العدد من

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3348)، ومسلم: الإيمان (222) ، وأحمد (3/32) .

ص: 400

الجاهلية، فإن تمت وإلا تم من المنافقين " 1. قال الترمذي: حسن صحيح.

فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث، من صفة بدو الإسلام، ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 2، تبين له الأمر إن هداه الله، وانزاحت عنه الحجة الفرعونية:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [سورة طه آية: 51] والحجة القرشية {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] الآية.

وقال أبو العباس، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"، في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : ظاهره: أن ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ حرام، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور.

والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن

1 الترمذي: تفسير القرآن (3168) .

2 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .

ص: 401

هذا ما يفعل بمكة وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلام الشيخ، وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين، أنه لا يكفر المعين. فانظر أرشدك الله إلى تكفيره، من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافق يصير مرتدا لذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين.

وقال أيضا في الكتاب المذكور: وكانت الطواغيت الكبار، التي تشد إليها الرحال ثلاثة، اللات والعزى ومناة، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب. فكانت اللات لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة، قريبا من عرفات؛ وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.

ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء.

ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: " الله أكبر إنها

ص: 402

السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم " 1.

فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار، في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها أسلحتهم. فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ إلى أن قال: فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق، مثل مسجد يقال له:"مسجد الكف"، فيه تمثال كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن; وهذه الأمكنة كثيرة، موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع.

[تكفير المعين]

ثم ذكر كلاما طويلا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور، فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد، كأبي بكر الأثرم، عللوا بهذه العلة، وقد قال تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] الآية ذكر ابن عباس وغيره من السلف: أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; ذكر هذا البخاري في صحيحه، وأهل التفسير، كابن جرير وغيره.

ومما يبين صحة هذه العلة: أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسا، وقال عن نفسه:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2.

1 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .

2 أحمد (2/246) .

ص: 403

فعلم: أن نهيه عن ذلك، كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، فسد الذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها، والصلاة لها، وكلا الأمرين قد وقع:

فإن من الناس من يسجد للشمس، وغيرها من الكواكب، ويدعوها بأنواع الأدعية، وهذا من أعظم أسباب الشرك، الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام؛ وصنف بعض المشهورين فيه كتابا، على مذهب المشركين، مثل: أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالطاغوت والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] . انتهى كلام الشيخ رحمه الله.

فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام، الذي ينسب عنه - من أزاغ الله قلبه - عدم تكفير المعين، كيف ذكر مثل الفخر الرازي، وهو من أكابر أئمة الشافعية، ومثل أبي معشر، وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهم، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام، والفخر هو الذي ذكره الشيخ، في الرد على المتكلمين، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا، قال: وهذه

ص: 404

ردة صريحة باتفاق المسلمين، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى.

وتأمل أيضا: ما ذكره في اللات والعزى ومناة، وجعله فعل المشركين معها، هو بعينه الذي يفعل بدمشق وغيرها، وتأمل قوله على حديث ذات أنواط؛ هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام؟ وأنا أذكر لك لفظه، الذي احتجوا به على زيغهم.

قال رحمه الله: أنا من أعظم الناس نهيا، عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تبديع، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، انتهى كلامه.

وهذا صفة كلامه في المسألة، في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة، من تكفير أو تفسيق أو معصية.

وصرح رضي الله عنه أيضا: أن كلامه في غير المسائل الظاهرة، فقال في الرد على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا، قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم

ص: 405

تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلامـ ومثل إيجابه للصلوات الخمس، وتعظيم شأنها; ومثل تحريم الفواحش، والزنى والخمر والميسر; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها، فكانوا مرتدين; وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين، انتهى كلامه.

فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة، التي يذكر أعداء الله، لكن {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [سورة المائدة آية: 41] ، على أن الذي نعتقده وندين الله به، ونرجو أن يثبتا عليه: أنه لو غلط هو، أو أجل منه في هذه المسألة، وهي مسألة: المسلم إذا أشرك بعد بلوغ الحجة، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق، وغير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بينه الله ورسوله، وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره، ولو غلط من غلط، فكيف والحمد لله، ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ

ص: 406

الأُولَى} أو حجة قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] الآية.

[المنتسب إلى الإسلام قد يمرق]

وقال الشيخ رحمه الله، في "الرسالة السنية"، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم.

فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة، قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان، وذلك بأسباب; منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث يقول:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [سورة المائدة آية: 77] وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس، كان مذهبه: أن يقتلوا بالسيف بلا تحريف، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء.

وكذلك الغلو في بعض المشائخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أجرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا

ص: 407

شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، لا يجعل معه إله آخر; والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دونة، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة.

[عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين]

ثم ذكر رحمه الله تعالى آيات، ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له

ص: 408

رجل: ما شاء الله وشئت، قال:" أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "، ونهى عن الحلف بغير الله، فقال:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشر ك " 1 وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 يحذر ما صنعوا; وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "، وقال:" لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "3.

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأنه من أكبر أسباب عبادة الأوثان، وتعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء، على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] الآية.

ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام، وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 4 والإله هو الذي تألهه القلوب، عبادة

1 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .

2 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .

3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

4 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .

ص: 409

له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، انتهى كلامه رحمه الله.

فتأمل أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، هل يكون هذا إلا في المعين؟ والله المستعان; وتأمل كلامه في اللات والعزّى ومناة، وما ذكر بعده، يتبين لك الأمر، إن شاء الله تعالى.

[أنواع الشرك]

وقال ابن القيم رحمه الله في "شرح المنازل"، في باب التوبة: وأما الشرك: فهو نوعان، أكبر وأصغر; فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون إذا انتقص معبودهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين.

وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه، إن قام وإن قعد، وأن عثر وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر.

قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ

ص: 410

دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . الآية. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم، أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له.

ثم ذكر الشيخ رحمه الله، فصلا طويلا، في تقرير هذا الشرك الأكبر، ولكن تأمل قوله: وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره; يتبين لك بطلان الشبهة، التي أدلى بها الملحد، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

وذكر في آخر هذا الفصل، أعني الفصل الأول، في الشرك الأكبر، الآية التي في سورة سبأ:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وتكلم عليها ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ".

ص: 411

وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي، يرى ذلك عيانا، فالله المستعان.

فصل: وأما الشرك الأصغر، فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقوله: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا؛ وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده.

ثم قال الشيخ رحمه الله بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر -: ومن أنواع هذا الشرك: السجود للشيخ، ومن أنواعه: التوبة للشيخ، فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه: النذر لغير الله والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وإضافة نعمه إلى غيره.

ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا

ص: 412

لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.

والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقص الأموات؛ وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم.

ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، انتهى كلامه.

والمراد بهذا: أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن

ص: 413

هذا شرك أصغر، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني، الذي ذكر في أوله الأصغر، وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره، في الفصل الأول، والثاني، صريحا لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة: منها: أن دعاء الموتى، والنذر لهم، ليشفعوا له عند الله، هو الشرك الأكبر، الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه، وقاتله وعاداه.

وآخر ما صرح به، قوله آنفا: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره، فهل بعد هذا البيان بيان، إلا العناد، بل الإلحاد؟ ولكن تأمل قوله أرشدك الله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين إلى آخره، وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك الأكبر، وإن لم يعادهم فهو منهم، وإن لم يفعله.

وقد ذكر في "الإقناع"، عن الشيخ تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر، فإذا كان هذا حال من شك في كفره، مع عداوته له ومقته، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم، ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته؟ وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك، وقد قال تعالى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [سورة القصص آية: 57] . فإذا كان هذا قول الله تعالى، فيمن تعذر عن التبين بالعمل بالتوحيد، ومعاداة المشركين بالخوف على أهله

ص: 414

وعياله، فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر:" إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " فلهذا لم يفهم معنى القرآن، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا:{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [سورة القصص آية: 57] الآية.

ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاق، وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون، وأن عبدة الأوثان أهل الحق، والصواب كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه، خطه بيده، يقول: بيني وبينكم أهل الأقطار، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم كذا وكذا؛ فإذا كان يريد التحاكم إليهم، ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف أيضا يصفهم بالشرك، ومخالطتهم للحاجة! وما أحسن قول أصدق القائلين:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [سورة الذاريات آية: 7]{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [سورة ق آية: 5] .

فرحم الله امرأ نظر في نفسه، وتفكر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، من معاداة من أشرك بالله، من قريب أو بعيد، وتكفيرهم، وقتالهم، حتى يكون الدين كله لله، وعلم ما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم فيمن أشرك بالله، مع ادعائه الإسلام، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، لما حرقهم بالنار، مع أن

ص: 415

غيرهم من أهل الأوثان، الذين لم يدخلوا في الإسلام، لا يقتلون بالتحريف، والله الموفق.

وقال أبو العباس ابن تيمية، في الرد على المتكلمين، لما ذكر بعض أحوال أئمتهم، قال: وكل شرك في العالم، إنما حدث برأي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك، والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك، فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا، فإنه نافع جدا.

ولهذا كان رؤساؤهم المتقدمون والمتأخرون، يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام، لا ينهون عن الشرك، ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد، وقد رأيت من مصنفاتهم، في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة، وأنفس الأنبياء، وغيرهم، ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد، إنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل.

والتوحيد الذي جاءت به الرسل، لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه، فلو كانوا موحدين بالقول والكلام، لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبدوا الله وحده، ويتخذوه إلها دون ما سواه،

ص: 416

وهذا معنى قول لا إله إلا الله; انتهى كلام الشيخ.

فتأمل رحمك الله هذا الكلام، فإنه مثل ما قال الشيخ فيه، نافع جدا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد: أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين، وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك، إما بغضا له أو عدم محبته، كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا.

وأما إيثار الدنيا، مثل تجارة أو غيرها، فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الآية وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [سورة النحل آية: 107] . فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، وأن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله، غر هذا الكلام ضعيف البصيرة.

وأعظم من هذا وأطم: أن أهل حريملا ومن والاهم، يصرحون بمسبة الدين، وأن الحق ما عليه أكثر الناس، ويستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها.

فإذا قالوا: التوحيد حق، والشرك باطل، وأيضا لم يحدثوا في بلدهم أوثانا، جادل الملحد عنهم، وقال: إنهم يقرون أن هذا شرك، وأن التوحيد هو الحق، ولا يضرهم،

ص: 417

عنده ما هم عليه، من السب لدين الله، وبغي العوج له، ومدح الشرك، وذبهم دونه بالمال واليد واللسان، فالله المستعان.

[كفر مانعي الزكاة]

وقال أبو العباس أيضا - في الكلام على كفر مانعي الزكاة -: والصحابة لم يقولوا: أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنهما:"والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.

وقد روى: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة; وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم: أن ثبته الله عند قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، انتهى.

فتأمل كلامه في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار، وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين، عدم تكفير المعين.

قال رحمه الله بعد ذلك: وكفر هؤلاء، وإدخالهم في

ص: 418

أهل الردة، قد ثبت باتفاق الصحابة، المستند إلى نصوص الكتاب والسنة; انتهى كلامه.

ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال، عمن قصده اتباع الحق: إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وإدخالهم في أهل الردة، وسبي ذراريهم، وفعلهم فيهم ما صح عنهم، وهو أول قتال وقع في الإسلام، على من ادعى أنه من المسلمين، فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام، على هذا النوع، أعني المدعين للإسلام، وهي أوضح الواقعات، التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة إلى وقتنا هذا.

وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال الطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، فإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه، والمراد منه قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع.

وقال أيضا في كتاب "الفنون": لقد عظم الله الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك،

ص: 419

بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره وزواجره، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته.

وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل، إشفاقا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدا لرمقك، وحفظا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك.

أيحسن لك مع هذا الإكرام، أن يراك على ما نهاك عنه منهمكا، ولما أمرك تاركا، وعلى ما زجرك مرتكبا، وعن داعيه معرضا، ولداعي عدوه فيك مطيعا؟ يعظ وهو هو; وتهمل أمره، وأنت أنت; حط رتبة عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك.

هل عاديت خادما طالت خدمته لك، لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي؟ فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للخالق سبحانه، اقتضاء المكافي المساوي; ما أفحش تلاعب الشيطان بالإنسان! بينا هو بحضرة الحق، وملائكة السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات، إلى أن يوجد ساجدا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر، ما

ص: 420

أوحش زوال النعم، وتغير الأحوال، والحور بعد الكور! لا يليق بهذا الحي الكريم، الفاضل على جميع الحيوانات، أن يرى إلا عابدا لله في دار التكليف، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف؛ وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها، انتهى كلامه.

والمراد منه: أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان، أن يشرك بالله، ومثله بأنواع، منها: السجود للشمس أو للقمر، ومنها: السجود لصورة، كما يسجد للصور التي في القباب على القبور، والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض، كما فسر به قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال ابن عباس: (أي: ركعا) .

[إنكار تعظيم القبور]

وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين، إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا، سماه:"مناسك المشاهد"، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام; انتهى، وهذا الذي ذكره ابن القيم، رجل من المصنفين، يقال له ابن المفيد، فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين؟!

وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير، فنذكر منه قليلا من كثير، أما كلام الحنفية، فكلامهم في هذا من أغلظ

ص: 421

الكلام، حتى إنهم يكفرون المعين، إذا قال: مصيحف، أو مسيجد، أو صلى صلاة بلا وضوء، ونحو ذلك.

وقال في "النهر الفائق": واعلم: أن الشيخ قاسما، قال في "شرح درر البحار": إن النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، فلك من الذهب والفضة، أو الشمع أو الزيت، كذا، باطل إجماعا، لوجوه، إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال - وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد أحمد البدوي، انتهى كلامه; فانظر إلى تصريحه أن هذا كفر، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام، وأن أهل العلم ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته.

وقال القرطبي رحمه الله، لما ذكر سماع الفقراء وصورته، قال: هذا حرام بالإجماع، وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام، جمال الملة: أن مستحل هذا كافر; ولما علم أن حرمته بالإجماع، لزم أن يكفر مستحله، فقد رأيت كلام القرطبي، وكلام الشيخ الذي نقل عنه، في كفر من استحل السماع والرقص، مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير كثير.

وقال أبو العباس، رحمه الله تعالى: حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري، إمام الحنفية في

ص: 422

زمنه، قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرا ذكيا، فهذا إمام الحنفية في زمنه، حكى عن فقهاء بخارى جملة كفر ابن سينا، وهو رجل معين مصنف، يتظاهر بالإسلام.

وأما كلام المالكية في هذا: فهو أكثر من أن يحصر، وقد اشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى، والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس; وقد ذكر القاضي عياض - في آخر كتاب الشفاء - من ذلك طرفا، ومما ذكر: أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر، وكل هذا دون ما نحن فيه، بما لا نسبة بينه وبينه.

وأما كلام الشافعية: فقال "صاحب الروض"، رحمه الله: إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر، وقال أيضا: من شك في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر، وكان هذا دون ما نحن فيه.

[دعاء غير الله]

وقال ابن حجر: في "شرح الأربعين"، على حديث ابن عباس:(إذا سألت فاسأل الله)، ما معناه: أن من دعا غير الله فهو كافر، وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه "الإعلام بقواطع الإسلام" ذكر فيه أنواعا كثيرة، من الأقوال والأفعال، كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام، ويكفر به المعين، وغالبه لا يساوي عشر معشار ما نحن فيه.

ص: 423

وتمام الكلام في هذا، أن يقال: الكلام هنا في مسألتين:

الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين، ومع كثير من الأحياء والأموات والجن، من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم، إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله؟ أم هذا شرك أصغر؟ وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟ فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه، إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل، وابن خالد، مع تناقضهم في ذلك، واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة.

وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقولون: إنه شرك أصغر، وينسبونه لابن القيم في "المدارج"، كما تقدم، وتارة لا يذكرون شيئا من ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند

ص: 424

التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة. وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع; ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر; وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدا من الإقرار به لوضوحه.

المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول، والقرآن، واتبع يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات، وإلا المسألة الأولى قل الجدال فيها - ولله الحمد - لما وقع من إقرار علماء المشركين بها. فاعلم: أن تصور هذه المسألة تصورا حسنا، يكفي في إبطالها من غير دليل خاص، لوجهين:

الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام، لا تأثير لها في التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن، فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان، كاليهود.

فإذا كان من انتسب إلى الإسلام، لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر، لأنه مسلم بقول: لا إله إلا الله، ويصلي،

ص: 425

ويفعل كذا وكذا، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، والعمى والعرج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر؛ وهذه فضيحة عظيمة، كافية في رد هذا القول الفظيع.

الوجه الثاني: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان، بعد بلوغ العلم، كفر صريح بالفطر والعقول، والعلوم الضرورية؛ فلا يتصور أنك تقول لرجل، ولو من أجهل الناس، وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك، ممن يدعي أنه مسلم متبع؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية، إلى القول: بأن هذا كافر، من غير نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء.

ولكن لغلبة الجهل، وغرابة العلم، وكثرة من يتكلم في هذه المسألة، من الملحدين، اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين، الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية، لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت، ويجعلك أيضا من الأئمة الذين يهدون بأمره.

فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينا، ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء بعدهم،

ص: 426

فيمن انتسب إلى الإسلام، كما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث البراء معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله، ويأخذ ماله; ومثل، همه بغزو بني المصطلق، لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، ومثل: قتال الصديق والصحابة، لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين، ومثل: إجماع الصحابة في زمن عمر، على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة المائدة آية: 93] حل الخمر لبعض الخواص.

ومثل: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في زمن عثمان على تكفير أهل المسجد، الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة الكذاب، مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم، ومثل: تحريق علي رضي الله عنه أصحابه، لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين، مع بقية الصحابة، على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه يطلب دم الحسين وأهل البيت.

ومثل: إجماع التابعين ومن بعدهم، على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين؛ وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى، ولم يقل أحد من الأولين والآخرين، لأبي بكر الصديق أو غيره، كيف تقاتل بني

ص: 427

حنيفة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويزكون؟ وكذلك: لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه، لو لم يتوبوا، وهلم جرا، إلى زمن بني عبيد، الذين ملكوا المغرب، ومصر، والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقف فيه، وهم في زمن ابن الجوزي والموفق، وصنف ابن الجوزي كتابا لما أخذت مصر منهم، سماه "النصر على مصر"، ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين، أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله، لأجل ادعائهم الملة، ولأجل قول لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان، مع إقرارهم أن هذا هو الشرك، ولكن من فعله أو حسنه، أو كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله، أنه لا يكفر، لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها الإسلام. هذا لم يسمع قط، إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق، فليذكروه؛

ص: 428

ولكن الأمر، كما قال اليمني في قصيدته:

أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا

تساوى فليسا إن رجعت إلى النقد

ولنختم الكلام في هذا النوع، بما ذكره البخاري في صحيحه، حيث قال: باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ثم ذكر بإسناده: قوله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة " 1 وذو الخلصة: صنم لدوس يعبدونه، فقال صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله:" ألا تريحني من ذي الخلصة "2، فركب إليه بمن معه، فأحرقه وهدمه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال فبَرّك على خيل أحمس، ورجالها خمسا.

وعادة البخاري رحمه الله، إذا لم يكن الحديث على شرطه، ذكره في الترجمة، ثم أتى بما يدل على معناه، مما هو على شرطه، ولفظ الترجمة، وهو قوله:" يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان " لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة; والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة العلم، جملا في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، وموالاة أوليائه، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك، فنقول: باب وجوب عداوة أعداء الله، من الكفار والمرتدين والمنافقين، وقول الله

1 البخاري: الفتن (7116)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) ، وأحمد (2/271) .

2 البخاري: الجهاد والسير (3020) والدعوات (6333)، ومسلم: فضائل الصحابة (2476)، وأبو داود: الجهاد (2772) .

ص: 429

تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] إلى قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية.

وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي، أن ما حملني على الكتاب إليك، إلا ما ذكر أهل بلدك، من صالح ما أعطاك الله، من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين.

فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك، من الصلاة والصيام، والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال، من إقامة كتاب الله، وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

ص: 430

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين "، وضم بين أصبعيه، وقال:" أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه، كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة "1. فمن يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟

واذكر أيضا: أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام، وليا لله يذب عنها، وينطق بعلامتها؛ فاغتنم يا أخي هذا الفضل، وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، وأوصاه، وقال:" لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من كذا وكذا "، وأعظم القول فيه. فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة، حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة، يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء في الأثر.

فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع، المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلقى الله بعمل شبهه؛ وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب، فإنه جاء في الأثر " من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام"، وجاء:" ما من إله يعبد من دون الله، أبغض إلى الله، من صاحب هوى ".

1 مسلم: العلم (2674)، والترمذي: العلم (2674)، وأبو داود: السنة (4609) ، وأحمد (2/397)، والدارمي: المقدمة (513) .

ص: 431

[البدع وما تجر إليه]

وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا، ولا فريضة ولا تطوعا، وكلما زادوا اجتهادا وصوما وصلاة، ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده، انتهى كلام أسد رحمه الله.

واعلم رحمك الله: أن كلامه، وما يأتي من كلام أمثاله من السلف، في معاداة أهل البدع والضلالة، ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك، وحذروا منه لأمرين.

الأمر الأول: غلظ البدعة في الدين، في نفسها، فهي عندهم أجل من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر، كما تجد قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم، ولو كان عالما عابدا، أبغض وأشد ذنبا من السني المجاهر بالكبائر.

الأمر الثاني: أن البدع تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد من كثير من أهل البدع؛ فمثال البدعة التي شدودا فيها، مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، خوفا مما وقع من الشرك الصريح، الذي يصير به المسلم مرتدا، فمن فهم هذا، فهم الفرق بين البدع، وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة، ومجاهدة أهلها، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله.

ص: 432

وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات، مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [سورة المائدة آية: 54] الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [سورة التوبة آية: 73-74] .

قال ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها" بعد حديث ذكره، أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة، قال رحمه الله: إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي ولا الأموال؛ وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلالة، لا يحل فيها السبي ولا الأموال.

قال رحمه الله أيضا: أخبرنا أسد، أخبرنا رجل، عن ابن المبارك، قال: قال ابن مسعود، رضي الله عنه " إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام، وليا من أوليائه، يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله، وكفى بالله وكيلا "، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال:" لأن أرد رجلا عن رأي سيئ، أحب إلي من اعتكافي شهرا ".

أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي،

ص: 433

قال: " كان بعض أهل العلم يقولون، لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة، ولا صياما ولا صدقة، ولا جهادا، ولا حجا ولا عمرة، ولا صرفا ولا عدلا، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم ".

قال: ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك سترا عليهم، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم بها على مصر ملحد.

ثم روى بإسناده، قال:" جاء رجل إلى حذيفة، وأبو موسى الأشعري قاعد، فقال: أرأيت رجلا ضرب بسيفه غضبا لله حتى قتل، أفي الجنه أم في النار؟ فقال: أبو موسى في الجنة; فقال حذيفة: استفهم الرجل، وأفهمه ما تقول، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فلما كان في الثالثة، قال والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة، فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع، فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق، فهو في النار; ثم قال: والذي نفسي بيده، ليدخلن النار في مثل هذا الذي سألت عنه، أكثر من كذا وكذا ".

ثم ذكر بإسناده عن الحسن، قال:" لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، ثم ذكر بإسناده عن سفيان

ص: 434

الثوري، قال:" من جالس صاحب بدعة، لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه ".

ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف، قال:" من أتى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام ". أخبرنا أسد، قال حدثنا كثير أبو سعيد، قال:" من جلس إلى صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه ". أخبرنا أسد بن موسى، قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال أبو قلابة: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإنى لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم ما تعرفون"، قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب.

أخبرنا أسد بن موسى، أخبرنا زيد، عن محمد بن طلحة، قال: قال إبراهيم: " لا تجالسوا أصحاب البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". أخبرنا أسد، بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل "1.

أخبرنا أسد، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن

1 الترمذي: الزهد (2378)، وأبو داود: الأدب (4833) ، وأحمد (2/303 ،2/334) .

ص: 435

زيد، عن أيوب، قال:" دخل على محمد بن سيرين يوما رجل، فقال: يا أبا بكر، أقرأ عليك آية من كتاب الله، لا أزيد على أن أقراها، ثم أخرج. فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرج عليك إن كنت مسلما، لما خرجت من بيتي; قال: فقال: يا أبا بكر، لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج; قال: فقال بإزاره يشده عليه، وتهيأ للقيام. قال: فأقبلنا على الرجل، فقلنا: قد حرج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته؟ قال: فخرج. فقلنا: يا أبا بكر، ما عليك لو قرأ آية ثم خرج; قال: إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه، ما باليت أن يقرأ، ولكني خفت أن يلقي في قلبي شيئا، أجهد أن أخرجه من قلبي، فلا أستطيع".

أخبرنا أسد، أخبرنا ضمرة عن سودة، قال: سمعت عبد الله بن القاسم، وهو يقول:"ما كان عبد على هوى فتركه، إلا إلى ما هو أشر منه"، قال: فذكرت هذا لبعض أصحابنا، فقال: تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، ثم لايرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه "1.

أخبرنا أسد، قال أخبرنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كان عندنا رجل يرى رأيا

1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6932) .

ص: 436

فرجع عنه، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: "انظروا إلى ماذا تحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه ".

ثم روى بإسناده عن حذيفة: أنه " أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئين أقوام يدفنون هذا الدين، كما دفنت هذه الحصاة ".

أخبرنا: محمد بن سعيد، بإسناده عن أبي الدرداء قال:" لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه، إلا الصلاة" قال الأوزاعي، فكيف لو كان اليوم؟ قال: عيسى - يعني: الراوي عن الأوزاعي: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟

وأخبرنا: محمد بن سليمان، بإسناده عن علي رضي الله عنه قال:" تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان، ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم". أخبرنا يحيى بن يحيى، بإسناده عن أبي سهيل ابن مالك، عن أبيه، أنه قال:" ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة ".

حدثني إبراهيم بن محمد، بإسناده عن أنس رضي الله

ص: 437

عنه، قال:" ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس قولكم لا إله إلا الله " أخبر أسد، بإسناده عن الحسن، قال:" لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بعث اليوم، ما عرف من الإسلام شيئا. قال: ووضع يده على خده، ثم قال: إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرى، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعوض أجرا عظيما؛ فكذلك كونوا إن شاء الله ".

وحدثني: عبد الله بن محمد، بإسناده عن ميمون بن مهران، قال:" لو أن رجلا نشر فيكم من السلف، ما عرف فيكم غير هذه القبلة " أخبرنا: محمد بن قدامة، بإسناده عن أم الدرداء، قالت:" دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا " وفي لفظ: " لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمله، ثم تفقده ما عرف منه شيئا ".

حدثني إبراهيم، باسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: " لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة، خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية، لأتيا الناس اليوم، ولا يعرفان شيئا

ص: 438

مما كانا عليه " قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال: " والذي نفس بيده: إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا".

قف تأمل! رحمك الله: إذا كان هذا في زمن التابعين، بحضرة أواخر الصحابة، فكيف يغتر المسلم بالكثرة، أو يشكل عليه، ولا يستدل بها على الباطل.

ثم روى ابن وضاح، بإسناده عن أبي أمية، قال:"أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1 قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع أمر العوام; فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون مثل عمله. قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم ".

ثم روى بإسناده، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله

1 الترمذي: تفسير القرآن (3058)، وابن ماجه: الفتن (4014) .

ص: 439

عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى للغرباء، ثلاثا. قالوا: يا رسول الله، وما الغرباء؟ قال: ناس صالحون قليل، في أناس كثير؛ من يبغضهم أكثر ممن يحبهم "1. أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده، عن المعافري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى للغرباء، الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر، ويعملون بالسنة حين تطفأ ".

أخبرنا أسد، بإسناده عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بدأ الإسلام غريبا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا؛ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس، ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس "2. أخبرنا أسد بإسناده، عن عبد الله: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوباء للغرباء. قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس "3. هذا آخر ما نقلته من كتاب "البدع والنهي عنها" للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله.

فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة، وبعضها في الصحيح، مع كثرتها وشهرتها; وتأمل إجماع العلماء كلهم، أن هذا قد وقع في زمن طويل، حتى قال ابن القيم: الإسلام في زماننا أغرب منه في ظهوره؛ فتأمل هذا تأملا جيدا، لعلك أن تسلم من الهوة الكبيرة، التي هلك فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسواد الأكبر، والنفرة من

1 أحمد (2/177) .

2 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .

3 مسلم: الإيمان (146) .

ص: 440

الأقل، فما أقل من سلم منها، ما أقله! ما أقله! ما أقله!

ولنختم ذلك بالحديث الصحيح، الذي أخرجه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره "1، وفي رواية:" يهتدون بهديه، ويستنون بسنته. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ". انتهى ما نقلته، والحمد لله رب العالمين.

[رسالة الشيخ تقي الدين وهو في السجن]

وقد رأيت للشيخ تقي الدين، رسالة كتبها وهو في السجن، إلى بعض إخوانه، لما أرسلوا إليه، يشيرون عليه بالرفق بخصومه، ليتخلص من السجن؛ أحببت أن أنقل أولها، لعظم منفعته.

قال رحمه الله تعالى: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا; وصلى الله على

1 مسلم: الإيمان (50) ، وأحمد (1/458 ،1/461) .

ص: 441

محمد، وعلى آله وصحيه، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فقد وصلت الورقة، التي فيها رسالة الشيخين، الناسكين، القدوتين، أيدهما الله، وسائر الإخوان، بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان، سلطان العلم والحجة، بالبيان والبرهان، وسلطان القدوة والنصرة، باللسان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهما من الأقران، ومن الأئمة الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السر والإعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن.

لكن بما اقتضته حكمته، ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان، من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل الكتاب على أنه لا بد من الفتنة، لكل من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي الإساءة والطغيان، فقال تعالى:{الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 13] . فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب

ص: 442

الغالب، أو أن مدعي الإيمان، يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب. وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله، فقال تعالى:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [سورة الحجرات آية: 15] الآية.

وأخبر سبحانه: بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة، الذي يعبد الله على حرف، وهو الجانب والطرف، الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان، إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، فقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [سورة الحج آية: 11] إلى قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 142] وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد آية: 31] .

وأخبر سبحانه: أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين، المحبوبين المجاهدين، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية:

ص: 443

54] .

وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 144] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر، كان جميع ما يقضي له من القضاء خيرا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له "1. والصابر الشكور، هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر، فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه، يفضي به إلى قبيح المآل.

فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة، التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وبها تثبت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن، من كيد أهل النفاق، والإلحاد والبهتان؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.

والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه

1 مسلم: الزهد والرقائق (2999) ، وأحمد (6/15) .

ص: 444

الظاهرة والباطنة، وينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، على الكافرين، والمنافقين، الذين أمرنا بجهادهم، والإغلاظ عليهم في كتابه المبين، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس، رحمه الله.

[حكم أكل الحشيشة]

ومن جواب له رحمه الله، لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز؟ فقال: أكل هذه الحشيشة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، سواء أكل منها كثيرا أو قليلا، لكن الكثير المسكر منها، حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن بين المسلمين; وحكم المرتد أشر من اليهود والنصارى، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة، أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر، وأنها تحرك العزم الساكن، وتنفع في الطريق.

وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة، متأولا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [سورة المائدة آية: 93] الآية، فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة، رضي الله عنهم، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا، انتهى ما نقلته من كلام الشيخ.

فتأمل: كلام هذا الذي ينسب عنه عدم تكفير المعين،

ص: 445

إذا جاهر بسب دين الأنبياء، وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق، ويأمر بالمصير معهم، وينكر على من لا يسب التوحيد، ويدخل مع المشركين، لأجل انتسابه إلى الإسلام؟ انظر كيف كفر المعين، ولو كان عابدا باستحلال الحشيشة، ولو زعم حلها للخاصة، الذين تعينهم على الفكرة.

واستدل بإجماع الصحابة، على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا، وكلامه في المعين، وكلام الصحابة في المعين؛ فكيف بما نحن فيه، مما لا يساوي استحلال الحشيشة، جزءاً من ألف جزء منه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

آخر الجزء التاسع ويلبه الجزء العاشر،

وهو بقية كتاب حكم المرتد.

ص: 446