الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجع
وحيث انتهينا إلى هذا المقدار من الخروج عن أصل الترجمة فلنثن العنان إلى ما ألممنا به أولا مع ذكر سبتة أعادها الله فنقول:
إنَّ بعض الفقهاء يذكر في شأن سبتة حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف الناس في أمره وقد حدث به الفقيه أبو عبد الله محمّد بن محمّد أبن يحيى السراج عن جده العلامة أبي زكريا السراج قال أخبرنا أبو البركات محمّد بن إبراهيم قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد الغافقي حدثنا محمّد بن عبد الله بن أحمد الأزدي حدثنا محمّد بن حسن بن عطية هو أبن غازي حدثنا أبو الفضل عياض حدثنا أحمد بن قاسم أبو العباس الصنهاجي شيخ لا بأي به أنبأنا أبو علي بن خالد وأبو عبد الله محمّد بن عيسى قالا حدثنا عبد الله محمّد بن علي بن الشيخ حدثنا وهب بن ميسرة عن محمّد بن وضاح عن محنون عن أبي القاسم عن مالك عن نافع عن أبن عمر قال: " مدينة بالمغرب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها على مجمع بحري المغرب وهذا مدينة بناها سبت بن سام بن نوح عليه السلام واشتق لها اسما من اسمه فهي سبتة ودعا لها بالبركة والنصر فلا يريد أحد بها سوءا إلاّ رد الله دائرة السوء عليه ".
هكذا ذكره الشيخ الإمام الحافظ سيدي أبو عبد الله محمّد أبن الشيخ العالم الرباني سيدي الحسن بن مخلوف التلمساني رحمه الله في شرحه للشفاء ورواه عن شيخه أبي عبد الله السراج المذكور بالسند المذكور وقال إثره: تردد رأي القاضي عياض في هذا الحديث ففي الغنية: " أنا براء من عهدة هذا الحديث ". وفيه: " هذا حديث موضوع. وأبن الشيخ لا يتهم ولا أدري من أين دخل عليه هذا ". وفي المدارك: " هو حديث رواه أبن الشيخ عن وهب بن ميسرة يرفعه إلى مالك عن نافع عن أبن عمر: أنَّ في أقصى المغرب على ساحل من سواحل البحر مدينة تسمى سبتة أسسها رجل صالح اسمه سبت واشتق لها اسما من اسمه ودعا لها بالنصر والظفر فما رامها أحد بسؤ إلاّ رد الله بأسه عليه ".
وذكر أشياء على من رامها بسوء ثم قال: وهكذا كله يصدق هذا الحديث. انتهى.
وكانت سبتة مطمح همم ملوك العدوتين وقد كان للناصر المرواني صاحب الأندلس عناية واهتم بدخولها في إيالته حتى حصل له ذلك ومنها ملك المغرب حسبما هو مذكور في أخباره وكان تملكه إياها سنة تسع عشرة وثلاث مائة وبها أشتد سلطته وملك البحر بعدوانيته وصار المجاز في يده وتوطدت طاعته لأرض المغرب وكان أول من سما إلى ذلك من أملاك
الأندلس مذ سكنها الإسلام فاستظهر بها على أمره وخلقها ميراثا لمن بعده من ولاة الأندلس وأكرم وجوه أهل سبتة الذين جنحوا إلى طاعته ورفع منازلهم وقضى حوائجهم ووصلهم وخلع عليهم وعلى قاضيهم حسين أبن فتح.
والناصر أوّل من تسمى بأمير المؤمنين من بني أمية بالأندلس لأن الدولة عظمت في أيامه حين أختل نظام ملك العباسيين بالمشرق وتغلبت عليه الأعاجم ولم يتسم أحد من سلفه بالأندلس إلاّ بالأمير وكان ملكه بالأندلس في غاية ما يكون من الضخامة ورفعة الشأن وهادته الروم وأزدلفت إليه تطلب مهادنتها ومتافحته بعظيم الذخائر ولم تبق أمة سمعت به من ملوك الروم والأفرنج والمجوس وسائر الأمم إلاّ وجرت إليه أو وفدت خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية. وقد سرد الإمام أبن حيان من ذلك في تاريخه الكبير ما هو معلوم وذكر هو وغيره أنَّ صاحب مدينة القسطنطينية العظمى هاداه ورغب في موادعته.
وكان وصول أرسال صاحب القسطنطينية عظيم الروم قسطنطين بن ليون في شهر صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاث مائة وتأهب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقوا أعظم تلق وأفخمه وأحسن قبول وأكرامه وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمّد بن الليث وغيره لخدمة أسباب الطريق فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة
والتبعية فتلقوهم قائدا بعد قائد وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفاء بهم فلقياهم بعد القواد فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصير بعدوة قرطبة في الربض ومنعوا وحموا من لقاء الخاصة والعامة وملابسة الناس جملة ورتب لحاجتهم رجال تخيروا من الموالي ووجه الحشم فصيروا على باب قصر هذه المنية ستّة عشر رجلاً لأربع دول لكل دولة أربعة منهم ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر فقعودا حسنا نبيلا فقعد عن يمينه من بنيه ولي العهد الحكم ثم عبد الله ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سلمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع السور فوصل رسل ملك الروم حائرين مما رأوه
من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية وهو في رق مصبوغ لونا سماويا ومكتوب بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة اياضا مكتوب بفضة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده. وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسو بالديباج وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه: " قسطنطين ورومانس المؤمن بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم ".
وفي سطر آخر: " العظيم الاستحقاق للفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله تعالى بقاءه ".
وفي خمس بقين من نقل هؤلاء الرسل من منلهم بمنيطة نصير بالربض إلى دار إبراهيم الفتى بداخل قرطبة.
وفي آخر هذا الشهر أعاد الناصر لين الله القعود الثاني لرسل ملك الروم بقصر الزهراء فاحتفل لذلك أيضاً واستكم له الأهبة وبالغ في الزينة وقعد على باب السدة صحب المدينة مع من ضم إليه من العرفاء والشرط والحرس وهم صنوف قيام وقام مع سور القصر سماط من المولى في
الملابس الحسان والسلاح وألزم الفصلان كلها جملا من العبيد والحشم والبوادبين وغيرهم في أشكال زينهم.
ثم أعاد العقود لهم بالزهراء وهذا العقود الثالث كان يوم الخميس لثلاث بقين منه على ما تقدم في الأهبة والاحتفال في الزينة.
وفي النصف من جمادي الأولى منها أدخل الناصر لدين الله هؤلاء الرسل على نفسه في مجلس خاص قعد بهم فيه بقصر الزهراء في المجلس المشرف على الرياض فلما خرجوا من عنده أدخلوا في ديار الصناعات والعدة بأكناف الزهراء ودار السكة وطيف بهم بأرجائها ثم صرفوا إلى دار نزولهم فاتصل مقامهم بقرطبة في كرامة موصلة وعطايا متوالية إلى أن كملت الهدية التي كوفئ بها الطاغية مرسلهم وأسلمت إليهم مع أجوبتهم وأمروا بالرحيل.
وجلس لهم الناصر لدين الله في النصف من شوال من السنة بعدها فدخلوا للوداع وجددت لهم الخلع وانطلقوا لسبيلهم متعجبين مما رأوه من عز الإسلام وفي سنة سبع وعشرين وثلاث مائة لثمان خلون من شهر جمادي الأولى وردت على ناصر لدين الله هدية وزيره أحمد بن عبد الملك بن شهيد العظيمة الشأن التي اشتهر ذكرها إلى الآن ووقع الإجماع على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها فأعجب الناصر وأهل مملكته جميعا وأقروا أنَّ نفسا
لم تسمح بإخراج مثلها ضربة عن يدها وكتب مع هديته هذه رسالة حسنة بالاعتراف للناصر لدين الله بالنعمة والشكر عليها واستحسنها الناس وكتبوها. وزاد الناصر وزيره هذا حظوة واختصاص وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعا فأضعف له رزق الوزارة وبلغة ثمانين دينارا في الشهر وبلغ مصروفه إلى ألف دينار في السنة وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق فسماه ذا الوزارتين لذلك وكان أوّل من سمى بذلك بالأندلس امتثالا لاسم صاعد بن مخلد الوزير بني العباس ببغداد وأمر بتصدير فراشه في البيت وتقديم اسمه في زمام الارتزاق في أوّل التسمية فعظم مقداره في الدولة جدا.
وتفسير هديته هذه على ما ثبت في كتابه للناصر: وذلك من المال العين خمس مائة ألف دينار ومن العود المرتفع أربع مائة رطل منها في قطعة واحد مائة وثمانون رطلا ومن المسك الذكي المفضل في جنسه مائتا أوقية واثنتا عشرة أوقية ومن العنبر الأشهب الذي بقي على خلقته ولم تدخله صناعة مائة أوقية منها قطعة عجيبة الشكل أربعون أوقية ومن الكافور المرتفع النقي الذكي ثلاث مائة أوقية ومن أنواع الثياب ثلاثون شقة وبقج خاصية للباسه بيضا وملونة وخمس ظهائر شعيبية خاصية له وعشرة فراء من عالي الفتك منها سبعة بيض خرسانية وثلاثة ملونة وستّة مطارف عراقية خاصية له وثمان وأربعون ملحفة لكسوته ومائة ملحفة زهرية
لرقاده وعشرة قناطير شد فيها مائة جلد سمور وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول وألف رطل من لون الحرير قبض جميع ذلك صاحب الطراز وثلاثون بساطا من صوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعا ومائة مصلى من وجوه الفراش المختلفة الصناعات من جنس البسط وخمس عشر نخا من عمل الخز المقطوع شطرها وسائرها من جنس البسط الوجوه ومن السلاح والعدة مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها وألف تريس سلطانية ومائة ألف سهم ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيرة لركابة خمس عشر فرساو خمسة من عرض هذه الخيل ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خز عراقي وثمانون فرسا مما يصلح للوصفاء والحشم وخمسة أبغل عالية الركاب وأربعون وصيفا وعشرون جارية من متخير الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم.
وفي الكتاب: كان قد أمرني أيده الله بابتياعهم من المال الأخماس قبل فابتعتهم من نعمته عندي وصيرتهم من بيتي ومع ذلك عشرة قناطير سكر طبرزذ لاسحاق فيه.
وفي آخر الكتاب: ولمّا علمت تطوع مولاي أيده الله تعالى إلى قرية كذا بالعقبانية النطقة الغرس في شرفها وترداده أيده الله
تعالى لذكرها لم أهنأ بعيش حتى أعملت الحيلة في أبتياعها وأحوازها وأكتبت وكيلة أبن بقية اللوثيقة فيها باسمه وضمها إلى ضياه وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر الجيان عندما اتصل من وصفه لها وتطلعه إليها فما زلت أتصدى لمسرته بها حتى ابتاعها الآن بأحوازها وجميع منازلها وربوعها واحتاز ذلك كله الوكيلة أبن بقية وصار في يده له أبقاه الله سبحانه وأرجو أنه سيرفع فيها في هذه السنة آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى.
ولمّا علمت نافذ عزمه أبقاه الله تعالى في البنيان به وفكرت في عدد من الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنينها مدينة الله في عمره وأوفى بها على أقصى أمله علمت أنَّ أسه وقوامه الصخر والاستكثار منه فأثارت لي همتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدك اللذان يبعثان ما لا يتوهم علمه حيلة أقيم لك بها في عام واحد عدد ما كان يقوم على يد عبدك أبن عاصم في عشرين عاما وينتهى تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان إن شاء الله تعالى وكذلك ما ثاب إلي في أمر الخشب لهذه المنية المكرمة فإن أبن خليل عبدك المجتهد الدءوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه ثلاث مائة ألف عود ونيف على عشرين ألف عود على أنّه لا يدخل منه في السنة إلاّ نحو الألفي عود ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع الخشب العام على كماله بورود الجلبية لوقتها وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا إلى الستين ألفا.
انتهى ما بث به الوزير أبن شهيد ملخصا.
ومن الغريب ما يحكى أنَّ أمير المؤمنين أراد الفصد فقعد في البهو بالمجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء وأستدعى الطبيب لذلك وأخذ الطبيب المبضع وجس عضد الناسر فبينما هو كذلك إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس وأنشد:
أيها الفاصد رفقا
…
بأمير المؤمنينا
إنما تفصد عرقا
…
فيه محيا العالمينا
وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك عاية الاستظراف وسر به غاية السرور وسأل عمن أهتدى إلى ذلك وعلم الزرزور فذكر له أنَّ السيدة الكبرى مرجانة أم ولده ولي عهد الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك وأعدته لذلك الأمر فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار.
والناصر المذكور هو الباني لمدينة الزهراء العظيمة المقدار. وكان يعمل في جامعها حين شرح فيه من حذاق الفعلة كل يوم ألف نسمة منها ثلاث مائة بناء ومائتا نجار وخمس مائة من الأجراء وسار أهل الصنائع فاستتم بنيانه وإتقانه في مدة ثمانية وأربعين يوما وجاء غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصنعة. وطوله من القبلة إلى الجوف حاشي المقصورة ثلاثون ذراعا وعرض البهو الأوسط من أبهائه من الشرق إلى الغرب ثلاث عشرة ذراعا وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له أثنتا عشرة ذراعا وطول
صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاث وأربعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب إحدى وأربعون ذراعاً، وجميعه مفروش بالرخام الخمري؛ وفي وسطه فوارة يجري فيها الماء؛ فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف سوى المحراب سبع وتسعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب تسع وخمسون ذراعاً، وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعا، وعرضها، عشر أذرع في مثلها. وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد؛ فصنه في نهاية من الحسن، ووضع في مكانه منه، وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة. وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله، وذلك يوم الخميس لسبع بقين من شعبان من سنة تسع وعشرين وثلاث مائة.
وكان في صدر هذه السنة كمل الناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة، التي أجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة، في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة، ويجري ماؤها بتدبير عجيب، وصنعة غريب محكمة، إلى بركة عظيمة، عليها أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة، لم يشاهد أوفى منه ولا أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهريتان، لهما وميض شديد. يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد، فيمجه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره، وثجاجة صبه، فتسقى من مجاجة جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته، ويمد النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها، والتمثال الذهب الذي يصب فيها، من أعظم آثار الملوك في
غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وشموا أبراجها، التي يترقى الماء فيها، ويتصوب من أعاليها.
وكان مدة العمل فيها، من يوم ابتدئت من الجبال إلى أنَّ وصلت أعني القناة إلى هذه البركة، أربعة عشر شهراً. وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر، يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة، أفضل فيها على عامة أهل مملكته، ووصل المهندسين والقوام بصلات حسنة جزيلة. واستمر العمل في مدينة الزهراء من عام خمسة وعشرين وثلاث مائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم، وذلك نحو من أربعين سنة.
ولمّا فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما ذكره آنفاً، كانت أول جماعة صليت فهذا صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان، وكان الإمام لها فيه القاضي أبا عبد الله محمّد بن عبد الله لن أبي عيسى. ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة، وأوّل خطيب خطب به القاضي المذكور. ولمّا بنى الناصر قصر الزهراء. المنتهى في الجلالة والفخامة، وأطبق الناس على أنّه لم يبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد قط من سائر البلاد النائية، والنحل المختلفة، من ملك وارد، ورسول وافد، وتاجر، وجهبذ، وفي هذه الطبقة من الناس تكون المعرفة والفطنة، إلاّ وكلهم قطع أنّه لم ير له شبيها، بل بم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله، حتى أنّه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، وتحدث عنه؛ والأخبار عن هذا تتسع جدا، والأدلة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلاّ السطح الممرد،
المشرف على الروضة، المباهي بمجلس الذهب والقبة وعجائب ما تضمنته من إتقان الصنعة، وفخامة الهمة، وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة، ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون، وعمد كأنما أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها؛ فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجراء الأرض المنحلة، كيما يرى الغافلين عنه من عباده، مثالاً لمّا أعده لأهل السعادة في دار المقامة، التي لا يسلط عليها الفناء، ولا تحتاج إلى الكرم، لا اله إلاّ هو المنفرد بالكرم. وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيان صاحب الشرطة، أنَّ باني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية، ما بين كبيرة وصغيرة، ومحمولة، ونيف على ثلاث مائة سارية زائدة؛ وفسر بعضهم هذا النيف بثلاث عشرة منها ما جلب من دينة رومة، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينية؛ وأنَّ مصاريع أبوابها، وصغارها وكبارها، كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه، والله أعلم، فإنها كانت من أهول ما بناه الإنس، وأجله خطراً، وأعظمه شأناً.
وقال بعض المؤرخين: وكان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبع مائة وخمسين فتى، ودخالتهم من اللحم كل يوم، حاشى أنواع الطير والحوت، ثلاثة عشر ألف رطل؛ وعدة النساء بقصر الزهراء، الصغار والكبار وخدم الخدمة، ستّة آلاف وثلاث مائة امرأة وأربع عشرة. ورأيت في بعض الدواوين
وهو صواب إن شاء الله أنَّ عدد الصقالبة ثلاثة آلاف وسبع مائة وخمسون، وجعل بعضهم مكان الخمسين وثمانين، وعدد النساء بقصر الزهراء مثل ما ذكرنا أوّلاً.
ثم قال بإثره: وكان هؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل، تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحينان. والله تعالى اعلم.
وقال أبن حيان: ألفيت بخط أبن دحون الفقيه، قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس: بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان الزهراء أوّل سنة خمس وعشرين وثلاث مائة، وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستّة آلاف صخرة المنصرف في التبليط، فإنه لم يدخل في هذا العدد. وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربع مائة بغل، منها أربع مائة زوامل الناصر لدين الله، ومن الدواب الأكرية الراتبة للخدمة ألف بغل، لكل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر، يجب لها في الشهر ثلاثة آلاف مثقال. وكان يرد الزهراء من الجير والجص في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل، وكان فيها حمامان، واحدة للقصر والثانية للعامة. وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنّه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاث مائة ألف دينار، مدة خمسة وعشرين عاماً التي بقيت من دولة الناصر، من حين ابتدأها، لأنه توفي سنة خمسين، وحصل جميع الاتفاق فيها، فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال.
قال: وجلب إليها الرخام من قرطاجة وأفريقيا وتونس، وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين وعلى ابنا جعفر الإسكندراني. وكان الناصر يصلهم على كل رخمة، صغيرة أو كبيرة بعشرة دنانير.
وقال بعض المؤرخين الأثبات: كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية، وكان عدد السواري المجلوبة من أفريقيا ألف سارية، وثلاث عشرة سارية، ومن بلاد الإفرنج تسع عشرة سارية. وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية، وسائرها من مقاطع الأندلس: طركونة وغيرها؛ فالرخام المجزع من رية، والأبيض من غيرها، والوردي والأخضر من أفريقيا، من كنيسة سفاقس. وأما الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل، الغالي القيمة، فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية، مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء؛ وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش يتماثيل الإنسان، فجلبه أحمد من الشام، وقيل من القسطنطينية مع ربيع الأسقف أيضاً وقالوا أنّه لا قيمة له، لفرط غرابته وجماله، وحمل من مكان إلى مكان، حنى وصل في البحر، ونصبه الناصر في بيت المنام، في المجلس المستشرف الشرقي، المعروف بالمؤنس، وجعل عليه أثنى عشر تمثالاً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي، مما عمل بدار الصناعة بقرطبة: صورة أسد إلى جانبه صورة غزال، إلى جانبه صورة تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب، وفي جانبه صورة غزال، إلى جانبه صورة تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب، وفي
المجنبتين حمامة، وشاهين، وطاووس، ودجاجة، وديك، والثاني عشر لم يحضرني اسمه الآن، وكل هذا من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، ويخرج الماء من أوفها. وكان المتولي لهذا البنيان المذكور أنّه الحكم، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيرة، وكان يخبز في أيامه كل يوم برسم حيتان البحيرة ثمان مائة خبزة وقيل أكثر، إلى غير ذلك مما يطول تتبعه.
وكان الناصر قد قسم الجباية أثلاثاً، ثلث للجند وثلث للبناء، وثلث مدخر. وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف، وأربع مائة ألف، وثمانين ألف دينار، ومن الستوق والمستخلص سبع مائة وألف، وخمسة وستين ألف دينار، وأما أخماس الغنائم فلا يحصيها ديوان. وقيل إنَّ مبلغ تحصيل النفقة في بنيان الزهراء مائة مدى من الدراهم القاسمية، بكيل قرطبة. وقيل إنَّ مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وستّة أقفزة، من الدراهم المذكورة. واتصل بناء الزهراء أيام الناصر خمساً وعشرين سنة، شطر خلافته، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها، وكانت خمسة عشر عاما وأشهراً. فسبحان الباقي بعد فناء الخلق، لا اله إلاّ هو.
وكانت قرطبة إذ ذاك أم المدائن، وقاعدة الأندلس، وقرارة الملك، وكان عدد شرطاتها أربعة آلاف وثلاثة مائة، وكانت عدة الدور التي في القصر الكبير أربع مائة دار ونفيا وثلاثين، وكانت عدة دور الرعايا والسواد بها، والواجب على أهل المبيت في السور، مائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار، حاشى دور الوزراء وأكابر الناس والبياض، وعدد أرباضها ثمانية وعشرون، وقيل أحد وعشرون؛ ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمان مائة وسبعة وثلاثون مسجداً؛ وعدد حمامات المبرزة للناس سبع مائة حمام، وقيل ثلاث مائة؛ ووسط الأرباض قصبة قرطبة، التي تختص بالسور دونها. وأما اليتيمة التي كانت في القص في المجلس البديع؛ فإنها كانت من تحف قصر اليونانيين، بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية. وكان القاضي منذر بن سعيد البلوطي ممن يكرمه الناصر ويجله، وولاه قضاء جماعته؛ وكان أوّل الأسباب في معرفته بالناصر، وزلفاه لديه، إنَّ الناصر لمّا احتفل بالجلوس لدخول رسل ملك الروم الأعظم صاحب القسطنطينية عليه بقصر قرطبة، الاحتفال الذي اشتهر ذكره في الناس، حسبما تقدم بعض الإلماع به، أحب أنَّ يفوم الخطباء والشعراء بين يديه، لتذكر جلالة مقعده، وعظيم سلطانه، وتصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة في دولته. وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده، بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد
الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه الكسيباني بالتأهب لذلك وإعداد خطة بين يدي الخليفة وكان يدعى من المقدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر لمجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رآه بهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة بل غشى عليه وسقط إلى الأرض فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام قم فارقع هذا الوهى فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم ثم انقطع به القول فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء قام من ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب وفصل مصيب يسحه سحا كأنما يحفظه قبل ذلك بمدة وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال:
أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشر لنعمائه والصلاة على محمّد صفيه وخاتم أنبيائه فإن لكل حادثة مقام ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلاّ الضلال وإني قمت من مقام كريم بين يدي ملك
عظيم فأصغوا إلى معشر الملأ بأسماعكم والقنوا عني بأفئدتكم إنَّ من الحق يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإنَّ الجليل تعالى في سمائه تقدس بصفاته وأسمائه أمر كليمه موسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا وعلى جميع أنبيائه يذكر قومه بأيام الله عز وجل عندهم وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وأني أذكركم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت قوتكم بعد أن كنتم قليلا فكثرتم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه أمانتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتقتير فاستبدلتم بخلافته من الشدة الرخاء وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيلاء البلاء. أنشدكم بالله معاشر المللأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلافيه جميع كلمتكم بعد افتراقا بإمامتها حتى أذهب الله عنكم غيظكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة
والأولاد واعتزل النسوان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحية وعزيمة صريحة. وبصيرة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لمّا ناله في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنة عند حدتها ولم يبق لها غارب إلاّ جبة ولا نجم لأهلها قرن إلاّ جده فأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " لن يخلف الله وعده ولهذا الأمر وما بعده وتلك أسباب ظاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كم استخلف الذين من قبلهم " الآية. وليس في تصديق ما وعد الله اتياب ولكل نبأ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم في خلافة أمي أيده الله بالعصمة والسداد وألهمه بخالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وانعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وانتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصة
لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم أبن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أنَّ في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حفظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأنَّ بقوم تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " الآية. وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملئكم والآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم وهذا جميع النبيين والمرسلين. أقول قولي هذا وأختتم بالحمد لله رب العالمين وأستغفر الله الغفور الرحيم
فإنه خير الغافرين. هـ خير الغافرين.
فخرج الناس يتحدثون عن حسن مقام المنذر وثبات جنانه وبلاغة لسانه. وكان الخليفة الناصر لدين الله أشدهم تعجبا منه فأقبل على ولي عهده ابنه الحكم يسأله عنه ولم يكن يثبت معرفة عينه وقد سمع باسمه فقال له الحكم: هو منذر بن سعد البلوطي. فقال: والله أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار غفي تلافى الوهى
فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته إنه لأعجب وأغرب فكان سبب اتصاله به واستعماله له.
وذكر أبن أصبغ لهمداني عن منذر القاضي أنه خطب يوما وأراد التواضع فكان من فصول خطبته أن قال: حتى متى وإلى متى أعظ غيري وأتعظ وأزجر ولا أزدجر أدل الطريق على المستدلين وأبقى مقيما مع الحائرين كلا إ هذا لهو البلاء المبين " إن هي إلاّ فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " الآية. اللهم فرغني لمّا خلقتني له ولا تشغلني بما تكفلت لي به ولا تحرمني وأنا أسألك ولا تعذبني وأنا أستغفرك يا أرحم الراحمين قال: وكان الخليفة الناصر لدين الله كلفا بعمارة الأرض وإقامة معالمها وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الذي شاع ذكره واستفرغ وسعه في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفضل الخطاب والحكمة والتذكير بالإنابة والرجوع فأدخل في خطبته فص مبتدئا بقوله تعالى: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعم وبنين.
وجنات وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ". ولا تقولوا: " سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ". " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى " وهي دار القرار ومكان الجزاء.
ووصل ذلك بكلام جزل وقول فصل ومضى في ذم تشييد البنيان والاستغراق في زغرفته والإسراف في الإنفاق عليه فجرى طلقا وانتزع فيه قوله تعالى: " أفمن أسس بنيانه على التقوى من الله ورضوان خير " الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت والتحذير من فجأته والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية والحض على اعتزالها والرفض لها والندب إلى الإعراض عنها والإقصار عن طلب اللذات ونهي النفس عن اتباع هواها فأسهب في ذلك كله وأضاف إليه آي القرآن ما يطابقه وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله أدكر من حضر من الناس وخضعوا ورقوا واعترفوا وبكوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله والتوبة والابتهال في المغفرة وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ وقد علم أنه المقصود فبكى وندم على مثال سلف له من فرطه واستعاذ بالله من سخطه إلاّ أنه وجد على المنذر بن سعيد لغلظ تقرعه به فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد انصرافه وقال: والله قد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري فأسرف علي وأفرط في تقريعي ولم يحسن السياسة في وعضي فزعزع قلبي وكاد بعصاه يقرعني واستشاط غيظا عليه فأقسم إلاّ يصلي
خلفه صلاة الجمعة خاصة فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة ويجانب الصلاة بالزهراء وقال له الحكم: وما الذي يمنعك من عزل المنذر من الصلاة بك والاستبدال منه إذ كرهته؟ فزجره وانتهره وقال له: أمثل منذر بن سعيد في خير وفضله وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في الصلاة الجمعة شقيعا مثل منذر في ورعه وصدقه ولكنه في أحرجني فأقسمت ولو وددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى.
وقحط الناس آخر مدة الناصر فأمر القاضي المذكور منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء بالناس فتأهب لذلك وصام بين يديه أياما ثلاثة تنفلا وإنابة ورهبة فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم وصعد الخليفة مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضراعة له فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا وقام ليخط فلما رأى بدار الناس إلى ارتقابه واستكانتهم من خيفة الله وإخباتهم له وإبتهالهم إليه رقت نفسه وغلبته عيناه فاستعبر وبكى حينا ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس سلام عليكم ثم سكت ووقف شبيه الحصر ولم يك من
عادته فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ثم اندفع تاليا لقوله تعالى " كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سواءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم " استغفروا ربكم أنّه كان غفارا واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه.
قال الحاكي: فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء ومضى على تمام خطبته فقرع النفوس بوعظه وانبعث الإخلاص بتذكريه فلم ينقص النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر روى الثرى وطرد المحل وسكن الأزل والله بعباده.
وكان له في خطبة الاستسقاء استفتاح عجيب ومن أن قال وقد سرح طرفه في ملأ الناس عندما شخصوا إليَّ بأبصارهم فهتف بهم كالمنادي: يا أيها الناس وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم: " أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز ". فاشتد وجه الناس وانطلقت أعينهم بالبكاء ومضى في خطبته.
قال القاضي أبو الحسن: ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء أن الناصر اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد مغشاة ذهبا وفضة أنفق عليها مثال لا جسيما وقرمد
سقفها به وجعل سقفها حمراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة فتستلب الأبصار بأشعة أنوارها وجلس في إثر تمامها يوما لأهل مملكته فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك: هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين وإنك لأوحد في شأنك كله وما سيبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ولا انتهى إلينا خبره فأبهجه قولهم وسره. فبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجما ناكس الرأس فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على ابتداعه فأقبلت دموع القاضي تتحدر على لحيته وقال له: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أنَّ الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله من فضله ونعمته وفضلك به على العالمين حتى ينزلك منازل الكافرين. قال: فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال له: انظر ماذا تقول وكيف أنزلتني منزلتهم. فقال له: نعم أليس الله تعالى يقول: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ". فوجم الخليفة وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشوعا لله سبحانه. ثم أقبل منذر وقال له: جزاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجمل الجزاء وكثر في الناس أمثالك فالذي قلت هو الحق. وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله
تعالى وأمر بنقض سقف القبيبة وأعاد قرمدها ترابا على الصفة غيرها. انتهى.
وحكى غير واحد أنّه وجد بخط الناصر رحمه الله: أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا. وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما.
فأعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بمال الأحوال لأوليائها. هذا الخليفة الناصر حلف السعود المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ملكها خمسين سنة وستّة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام ولم تصف له إلاّ أربعة عشر يوما فسبحان ذي العزة القائمة والمملكة الدائمة تبارك اسمه تعالى لا اله إلاّ هو.
وحكى أنّه اعني الناصر لمّا أعذر لأولاد ابنه أبي مروان الأكبر عبيد الله أتخذ لذلك صنيعا عظيما بقصر الزهراء لم يتخلف عنه أحد من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس فتخلف من بينهم الفقيه المشاور أبو إبراهيم المذكور الذكر في كتب النوادر والأحكام وافتقد مكانه لارتفاع منزلته فساء ذلك الخليفة الناصر ووجد على أبي إبراهيم وأمر ابنه ولي العهد الحكم بالكتاب إليه والتفنيد له فكتب إليه الحكم رقعة نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله وتولاك وسددك ورعاك لمّا امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي أبقاه الله الأولياء الذين يستعد بهم وجدك متقدما في الولاية متأخرا عن الصلة على أن قد أنذرك أبقاه الله خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده لا أعدمه الله توالي المسرة ثم انذرك من قبل إبلاغا في التكرمة فكان على ذلك كله من التخلف ما ضاقت عليه فيه المعذرة واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبته عليه فأعيت عليك عنك الحجة. فعرفني أكرمك الله ما العذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته ومشاهدة السرور الذي سر به ورغب المشاركة فيه لنعرفه أبقاه الله بذلك فتسكن نفسه العزيزة إليه إن شاء الله تعالى ".
فأجابه أبوه إبراهيم: " سلام على الأمير ورحمة الله وبركاته.
رأت أبقى الله سيدي هذا الكتاب وفهمته ولم يكن توقفي لنفسي إنّما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقاه الله ولسلطانه لعلمي بمذهنه ولسكوني إلى تقواه واقتفاره لأثر سلفه الطيب رضوان الله عليهم فإنهم كانوا يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنوها ولا بما يغض منها ويطرق إلى تنقصها فيستعدون بها لدينهم ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم فلهذا تخلفت ولعمي بمذهبه توقفت إن شاء الله تعالى.
قال فلما اقرأ أباه الناصر لين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق
أعجبه واستحسن اعتذاره وزال ما بنفسه عليه. وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظما عند الناصر وابنه الحكم وحق لهما أن يعظماه.
وقد حكى الفقيه أبو القاسم مفرج بن محمّد بن مفرج قال: كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم رحمه الله فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية فإني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي فيه قرب داره بجوفي قصر فرطبة ومجلسه حافل بجماعة الطلبة وذلك بين الصلاتين إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم فوقف وسلم وقال له: يا فقيه أجب أمير المؤمنين أبقاه الله فإن الأمر خرج فيك وها هو قاعد ينتظرك وقد أمرت بإعجالك فالله الله. فقال له: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين ولا عجلة فارجع إليه وفقه الله وعرفه عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله عز وجل مع طلاب العلم أسمعهم حديث أبن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يقيدونه عني وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضاء الله وطاعته فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة فإذا انقضى أمر من اجتماع إليَّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين في مرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى.
ثم أنّه أقبل على شأنه ومضى الخصى يهينم متضاجرا من توقفه فلم يك إلاّ ريثما أدى جوابه وانصرف سريعا ساكن الطيش. فقال له: يا فقيه أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله فأصغى إليه وهو يقول لك جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين
وامتعهم بك وإذا أنت أعبت فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى فقد أمرب أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وأذكرك تمضي معي. فقال له: حسن جميل ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدة ويصعب علي ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي وباب الصناعة الذي يقرب إلي من أبواب القصر المكرم أحوط لي وأرفق بي فإن رأى أمير المؤمنين أيده الله تعالى أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هون علي المشي وودع جسمي وأحب أن تعود فتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه وكذلك تعود إليَّ فإني أراك فتى شديد فكن على الخير معينا.
ومضى عنه الفتى ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله ومنه خرجت إليك وامرت بملازمتك مذكرا بالنهوض عند فراغك وقال: افعل راشدا وجلس جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل وأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مشى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب وقضى حاجته من لقائه ثم صرفه على ذاك الباب فأعيد إغلاقه على إثر خروجه.
قال المفرج: ولقد تعمدنا في تلك العشية إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود إغلاقه بدير القصر لنرى الذي تجشم الحليفة له فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحا قد حفه الخدم والأعوان منزعجين ما بين
كناس وفراس متهيئين لانتظار أبي إبراهيم فاشتد عجبنا لذلك وطال تحدثنا عنه. انتهى.
هكذا هكذا تكون المعالي
…
طرق الجد غير طرق المزاح
وكان الخليفة الحكم المستنصر المذكور قام بأعباء الملك أحسن قيام لمّا توفي والده الناصر في يوم الأربعاء لثالث وقيل لاثنين مضين من شهر رمضان من سنة خمسين وثلاث مائة واستقرت الخلافة به حتى لم يعدم من الناصر إلاّ شخصه واعتلى سرير الملك ثامن وفاة أبيه يوم الخميس وأنفذ الكتب إلى الأفاق بتمام الأمر له ودعا الناس إلى بيعته واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه وتثقيف مملكته وضبط قصوره وترتيب أجناده.
وأول ما أخذ البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر كجعفر صاحب الخيل والطرز وغير من عظمائهم وتكفلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الأكابر من الكتاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء فبايعوه فلما كملت بيعتهم وبيعة أهل القصر تقدم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض في أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف لعلته بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضاً في أبي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني فمضيا اليهما كل واحد منهما في قطيع من الجند وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء ونفذ غيرهما من وجوه المال في الخيل للإتيان بغيرهما من الإخوة وكانوا يومئذ ثمانية فوافى جميعهم الزهراء في الليل فنزلوا في مراتبهم
بفصلان دار الملك وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرد فأول من وصل إليه الإخوة فبايعوه وأنصتوا لصحيفة البيعة والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما أنعقد فيها ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله إلاّ عيسى بن فطيس فانه كان يأخذ البيعة على الناس وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة فاصطاف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهو كل منهم على قدره في المنزلة عليهم الظاهر البيض شعار الحزن قد تقلدوا فوقها السيوف ثم تلاهم الفتيان الوصفاء غليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية صفين منتظمين في السطح وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابس البياض بأيديهم السيوف يتصل بهم من دونهم من طبقات الخصيان الصقالبة ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيهم وجعابهم ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدة الكاملة وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض وعلى رءوسهم البيضات الصقلية وبأيديهم التراس الملونة والأسلحة المزينة انتظموا صفين إلى آخر الفصيل. وعلى باب السدة الأعظم البوابون وأعوانهم ومن خارج باب السدة فرسان العبيد إلى باب الأقباء واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة مواكبا
إثر مواكب إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء فلما تمت البيعة إذن للناس بالنفضاض إلاّ الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر رحمه الله إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء.
وفي ذي الحجة من سنة خمسين المذكورة تكاثرت بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر أبن سعيد والملأ وأخذت عليه البيعة ووقعت الشهادات في نسخها.
وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر مولييه محمدا وزيادا أبني أفلح الناصري في كتيبة من الحشم والخدم لتلقي غالب الناصري صاحب مدينة سالم المورود للطاغية أردون بن أدفنوش الخبيث في الدولة المتملك على طوائف من امم الجلالقة والمنازع لابن عمه المملك قبله شانجه بن ردمير وتبرع هذا اللعين اردوت بالمسير إلى باب المستنصر بالله من ذاته غير طالب أذن ولا مستظهر بعهد وذلك عندما بلغه ن اعتزام المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه وأخذه في التأهب له فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء إليه وخرج قبل أمان يعقد له اوو ذمة تعصمه في عشرين رجلاً من وجوه أصحابه تكنفهم غالب الناصري الذي خرج إليه فجاء بهم نحو مولاه الحكم وتلقاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم ثم تحركا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة فأخرج المستنصر بالله إليهم هشام بن محمّد بن عثمان المصحفي في جيش عظيم كامل التعبية وقدموا إلى باب قرطبة
فمروا باب قصرها فلما انتهى أردون إلى ما بين السدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة فخلع قلنسوته وخضع نحو مكان القبر ودعا ثم رد قلنسوته إلى رأسه.
وأمر المستنصر بإنزال اردون في دار الناعورة وقد كان تقدم في فراشها بأنواع الغطاء والوطاء وانتهى من ذلك إلى الغاية وتوسع له في الكرامة ولأصحابه فأقام بها الخميس والجمعة فلما كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بع إقامة الترتيب وتبعية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة وقعد المسنتصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح وقعد الإخوة ونوهم والوزراء ونظراؤهم صفا في المجلس فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكماء والفقهاء فأتى محمّد بن القاسم بن طملس بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي رومي أبيض وبليوال من جنسه وفي لونه وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة بجوهر وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه فيهم وليد بن حيزران قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة وغيرهما فدخل بين صفي الترتيب يقلب الطرف في نظم الصفوف ويجيل النظر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها وفراعهم ما أبصروه
وطبوا على وجوههم وتأملوا ناكسي رءوسهم غاضين من جفونهم قد سكرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أول قصر الزهراء فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه وتقدم الملك أردون وخاصة قوامسه على دوابها حتى انتهوا إلى باب السدة فأمر القوامس بالترجل هنالك والمشي على الأقدام فترجلوا ودخل الملك أردون وحده راكبا مع محمّد بن طملس فأنزل في برطل البهو الأوسط من الأبهاء الفبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسو الأوصال بالفضة وفي هذا المكان بعينه نزل فبله عدوه ومناوئه شانجا بن ردمير الوافد على الناصر لدين الله رحمه الله تعالى فقعد أردون على الكرسي وقعد أصحابه بين يديه وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح فلما قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرا إعظاما لمّا بان له من الدنو إلى السرير واستنهض فمضى بين الصفين المرتبين في ساحة السطح إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب البهو فلما قابل السرير خر ساجدا سويعة ثم استوى قائما ثم نهض خطوات وعاد إلى السجود ووالى ذلك مرارا إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوي إلى يديه فناوله إياها وكرر راجعا مقهقرا على عقبه إلى وساد الديباج مثقل بالذهب جعل له هنالك ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير فجلس عليه والبهر قد علاه وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأتباعه فدنوا ممتثلين
فعله في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم ووصل بوصولهم وليد بن حيزران قاضي النصارى بقرطبة فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم وأطرق الخليفة الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أماما وقتا ريما يفرخ روعه فلما رأى أنَّ قد خفض عليه افتتح تكليمه فقال: ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته.
فلما ترجم له كلامه إياه تطلق وجه أردون وانحط عن رتبته فقبل البساط وقال: أنا عبد أمير المؤمنين مولاي المتورك على فضله القاصد إلى مجده المحكم في نفسه ورجاله فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته رجوت أن أتقدم فيه بنية صادقة ونصيحة خالصة.
فقال له الخليفة: أنت عندنا بمحل من يستحق حسن رأينا وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك عن أهل ملتك ما يغبطك وتتعرف به فضل جنوحك ألينا واستظلالك بظل سلطاننا.
فعاد اردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة وابتهال داعيه وقال: إنَّ شانجة أبن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي مستجيرا به مني فكان من إعزازه إياه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأملهم وكان قصده قصد مضطر قد شتأته رعيته وأنكرت سيرته واختارني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك ولا دعاء إليه فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرا مضطهدا فتطول عليه رحمة الله بأن صرفه إلى ملكه
وقوى سلطانه واعز نصره. ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه وقصر في أداء المفروض عليه وحقه وحق أمير المؤمنين مولاي من بعده وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة من قرارة سلطاني وموضع احتكامي محكما له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي فشتان ما بيننا من قوة الثقة ومطرح الهمة.
فقال الخليفة: قد سمعنا قولك وفهمنا مغزاك وسوف يظهر من إقراضنا إياك على الخصوصية فوق شأنه ويترادف من إحساننا إليك به أضعاف ما كان من أبينا رضي الله عنه إلى ندك وإن كان له فضل التقدم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا فليس ذلك مما يؤخرك عنه ولا ينقصك مما أنلناه وسنصرفك مغبوطا إلى بلدك ونشد أواخي ملكك ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك ونعقد لك بذلك كتابا يكون بيدك نقرر به حدّ ما بينك وبين أبن عمك ونقبضه من كل ما يصرفه من البلاد إلى يدك وسيرادفك عليك من إفضالنا فوق ما احتسبته. والله على ما نقول وكيل.
فكرر أردون الخضوع وأسهب في الشكر وقام للانصراف مقهقرا لا يولي الخليفة ظهره وقد تكنفه الحفدة من جلة الفتيان فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح وقد علاه البهر وأدهله الروع من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العوة. فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليا منه انحط ساجدا إعظاما له ثم تقدم الفتيان به إلى البهو الذي بجوف هذا المجلس فأجلسوه هناك على وساد مثقل بالذهب وأقبل نحوه الحاجب جعفر فلما بصر به قام إليه وخضع له
وأومأ إلى تقبيل يده، فقبضها الحاجب عنه، وانحنى إليه فعانقه وجلس معه، فغبطه ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره؛ ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر بها الخليفة وكانت دراعة منسوجة بالذهب وبرنسا مثلها، له لوزة مفرعة من خالص التبر مرصعة بالجواهر والياقوت ملأت عين العلج تجلة فخر ساجداً وأعلن بالدعاء؛ ثم دعا الحاجب أصحابه رجلاً فخلع عليهم على قدر استحقاقهم؛ فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم. وخر جميعهم خاضعين شاكرين، ثم انطلق الملك " اردون " وأصحابه وقدم لركابه في أول البهو الأوسط فرس من عتاق خيل الركاب، عليه سرج حلي، ولجام حلي مفرع، وانصرف مع أبن طملس إلى قصر الرصافة، وكان تضييفهن وقد أعد له كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون، واستقر الملك أردون وأصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف، وإرغاد المعاش، واستشعر الناس من مسرة هذا اليوم وعزة الإسلام فيه، ما أفضوا في التبجح به، والتحدث عنه أياماً.
وكانت للخلفاء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان وإنشادات لأشعار محكمة متان يطول القول في اختيارها.
فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المردي من قصيدة طويلة:
ملك الخليفة آية الإقبال
…
وسعوده موصولة بنوال
فالمسلمون بعزة وبرفعة
…
والمشركون بذلة وسفال
القت بأيديها الأعاجم نحوه
…
متوقعين لصولة الرئبال
هذا أميرهم أتاه آخذا
…
منه أواصر ذمة وحبال
متواضعاً لجلاله متخشعاً
…
متبرعاً لمّا يرع بقتال
سينال بالتأميل للملك الرضا
…
عزاً يعم عداه بالإذلال
لا يوم أعظم للولاة مسرة
…
وأشده غيظا على الأقبال
من يوم أردون الذي إقباله
…
أمل المدى ونهاية الإقبال
ملك الأعاجم كلها أبن ملوكها
…
والٍ نكاه الأعاجم وال
إن كان جاء ضرورة فلقد أتى
…
عن عز مملكة وطوع رجال
فالحمد لله المنيل إمامناً
…
حظ الملوك بقدرة المتعالي
هو يوم حشر الناس إلاّ أنهم
…
لم يشألوا فيه عن الأعمال
أضحى الفضاء مفعما بجيوشه
…
والأفق أقتم أغبر السربال
لا يهتدي الساري لليل قتامه
…
إلاّ بضوء صوارم وعوالي
وكأن الأجسام الكماة تسربلت
…
مذ غبرت منه جسوم صلال
وكأنما العقبان الفلا
…
منقصة لتخطف الضلال
وكأن منتصب القنا مهتزه
…
أشطان نازحةٍ بعيدة جال
وكأنما خيل التجافيف اكتست
…
ناراً توهجها بلا إشعال
وتتبع مثل هذه الأخبار لا آخر له؛ والله المستعان.
وكان القاضي منذر بن سعيد السابق ذكره، سمع بالأندلس من عبيد الله أبن يحيى بن يحيى ونظرائه، ثم رحل حاجاً سنة ثمان وثلاث مائة، فسمع من عدة أعلام، منهم محمّد بن المنذر النيسابوري، سمع عليه كتابه المؤلف في
اختلاف العلماء، المسمى بالإشراف، وروى بمصر كتاب العين للخليل عن أبي العباس بن ولاد وروى عن أبي حعفر بن النحاس؛ وكان متفنناً في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني، المعروف بالقياسي وبالظاهري؛ فكان منذر بن سعيد يؤثر مذهبه ويجمع كتبه ويحتج لمقالته ويأخذ به في نفسه وذويه؛ فإذا جلس ببحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه، بالذي استقر عليه العمل في بلدهم، وحمل عليه السلطان أهل مملكته.
وله تواليف مفيدة؛ منها كتاب أحكام القرآن؛ والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك في الفقه والكلام والرد على أهل المذاهب؛ وكان خطيباً بليغاً عالماً بالجدل، حاذقاً فيه، شديد العارضة حاضر الجواب عتيده ثابت الحجة ذا شارة عجيبة ومنظر جميل وخلق حميد وتواضع لأهل الطلب وانحطاط لهم وإقبال عليهم؛ وكان مع وقاره التام فيه دعابة مستملحة وله نوادر مستحسنة لولا السآمة لجلبنا طرفاً. وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، ولبث قاضياً من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته، ثم للخليفة الحكم المستنصر، إلى أن توفى رحمه الله، عقب ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثلاث مائة، رحمه الله ورضى عنه. ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة، أعادها الله، جوفي مسجد السيدة الكبرى بقرب داره.
قال القاضي أبو الحسن: كان شيخنا القاضي أبو عبد الله بن عياش الخزرجي يستحسن من كلام القاضي منذر قوله في التزكية: اعلم إنَّ العدالة من أشد الأشياء تفاوتاً وتبايناً ومتى حصلت ذلك عرفت حالة الشهود لأن بين عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعدالة التابعيين رضي الله عنهم فوتاً عظيماً وتبايناً شديداً وبين عدالة أهل زماننا وعدالة أولئك مثل ما بين السماء والأرض؛ وعدالة أهل زماننا على ما هي عليه بعيدة التباين أيضاً. والأصل في هذا عندي، والله الموفق، أنَّ من كان الخير أغلب عليه من الشر، وكان متنزها عن الكبائر فواجب أن تعمل شهادته، فإنَّ الله تعالى قد أخبرنا بنص الكتاب أنَّ من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وقال في موضع آخر:) فأولئك هم المفلحون (؛ فمن ثقلت موازين حسناته بشيء لم يدخل النار؛ ومن استوت حسناته وسيئاته لم يدخل الجنة في زمرة الداخلين أولاً، وهم أصحاب الأعراف، فذلك عقوبة لهم، إذ تخلفوا عن أن تزيد حسناتهم على سيئاتهم؛ فهذا حكم الله في عباده. ونحن إنما كلفنا الحكم بالظاهر، فمن ظهر لنا أنَّ خيره أغلب عليه من شره حكمنا له بحكم الله في عباده، ولم نطلب له علم الباطن ولا كلفه محمّد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه أنه قال " إنّما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكم له على نحو مما أسمع ". فأحكام الدنيا على ما ظهر، وأحكام الآخرة على ما بطن؛ لأن الله تعالى يعلم الظاهر والباطن، ونحن لا نعلم إلاّ الظاهر؛ وأهل كل قوم قد تراضى عليهم عامتهم فبهم تنعقد منكحهم وبيعهم وقد قدموهم في المساجد ولجمعهم وأعيادهم، فالواجب على من استقصى على
موضع أن يعمل شهادة أمثالهم وفقهائهم، وأصحاب صلواتهم، وإلاّ ضاعت حقوق ضعيفهم وقويهم، وبطلت أحكامه. ويجب عليه أنَّ يسأل إنَّ استراب في بعضهم في بعضهم في الظاهر والباطن عنهم، فمن لم يلبث عنده عليه اشتهار في كبيرة، فهو على عدالة ظاهرة، حتى يثبت غير ذلك. انتهى. قلت: تذكرت هنا ما رأيته بخط الأمام الحافظ سيدي أحمد الونشريشي رحمه الله على ظهر كتاب أبن الخطيب: " مثلى الطريقة في ذم الوثيقة "، وقد مدينة فيه أبن الخطيب الباع في ذم الموثقين، وذكر مثالبهم، ونص ما ألفيته بخط المذكور:
الحمد لله. جامع هذا الكلام المقيد هنا بأول ورقة منه، قد كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعود عليه في القيامة ولا في الدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوي طائفة، بهم تستباح الفروج، وتملك مشيدات الدور والبروج، وجعلهم أضحوكة لذوي الفتك والمجانة، وانتزع عنهم جلباب الصدق والديانة، سامحه الله وغفر له. قال ذلك وخطه بيمنى يديه عبيد ربه أحمد بن يحيى بن محمّد بن على الونشريشي، خار الله سبحان له، انتهى. ولنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار سبتة فنقول: ولنرجع إلى ما كنا فيه من أخبار سبتة، فنقول: كان أهل سبتة في غاية الذكاء والفطنة، والعلم والمعرفة؛ وقد حكي الشيخ النظار أبو إسحاق الشاطبي في شرحه على ألفية أبن مالك، عن شيخه أبي عبد الله الفخار، عن بعض أهل سبتة، أنَّ الشيخ أبا عبد الله بن خميس التلمساني لمّا ورد على سبته بقصد الإقراء بها، اجتمع عليه عيون طلبتها؛ فألقوا عليه
مسائل من غوامض باب الاشتغال، فحاد عن الجواب، بأن قال لهم: انتم عندي كرجل واحد. يعني أنَّ ما ألقوا عليه من المسائل إنّما تلقوا من رجل واحد، وهو أبن أبي الربيع؛ إنّما يخاطب رجلاً واحداً، ازدراء بهم. فاستقبله أصغر القوم سنا وعلما، بأن قال له: إنَّ كنت بالمكان الذي تزعم، فأجبني عن هذه المسائل، من باب معرفة علامات الإعراب، التي أذكرها لك؛ فإنَّ أجبت فيها بالصواب، لم تحظ بذلك في نفوسنا، لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدارك والتحصيل، وإنَّ أخطأت فيها لم يسعك هذا البلد، وهي عشيرة: الأولى: انتم يا زيدون تغزون.
والثانية: انتن يا هندات تغزون.
والثالثة: انتم يا زيدون ويا هندات تغزون.
والرابعة: انتن يا هندات تخشين.
والخامسة: أنت يا هند تخشين.
والسادسة: أنت يا هند تمرين.
والثامنة: انتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول.
والتاسعة: أنت يا هند تمحين أو تمحون كيف تقول.
والعاشرة: أنتما تمحوان أو تمحيان، كيف تقول.
وهل هذه الأفعال كلها مبنية أو معربة؟ أو بعضها مبني وبعضها معرب؟ وهل كلها على وزن واحد أم على أوزان مختلفة؟ علينا السؤال، وعليك التمييز، لنعلم الجواب. فهبت الشيخ وشغل المحل بأن قال: إنما يسأل عن هذا صغار الولدان. فقال له الفتى: فأنت دونهم إنَّ لم تجب. فأنزعج الشيخ وقال هذا سوء أدب، ونهض منصرفا، ولم يصبح إلاّ بمقالة، ومتوجها إلى غرناظة، فلم يزل بها مع الوزير أبن الحكيم، إلى أنَّ مات. تغمده الله برحمته. انتهى. وأورد هذه الحكاية أيضاً عالم الدنيا، سيدي أبو عبد الله بن مرزوق، في شرحه على الألفية لابن مالك، وهو شرح متسع جداً، وقفت منه على بعضه بتلمسان، وكان آخر السفر الأول اسم الإشارة، وذلك السفر أعظم جرما من جميع شرح المرادي؛ ونص محل الحاجة منه: وقد حكي أنَّ بعض طلبة سبتة أورد على أبي عبد الله بن خميس عشر مسائل من هذا النوع، وهي: أنتم يا زيدون تغزون؛ وانتن يا هندات تغزون؛ وانتم يا زيدون ويا هندات تغزون، وانتن يا هندات تخشين؛ وأنت يا هند تخشين؛ وأنت يا هند تمرين، وأنتن يا هنادت تمرين، وانتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول. وأنت يا هند تمحين أو تمحين كيف تقول؛ وأنتما تمحوان أو تمحيان، على لغة من قال محوت كيف تقول؟ وهل هذه الأمثلة كلها مبنية او معربة او مختلفة؟ وهل وزنها واحد أو مختلف؟ قالوا: ولم يجب بشيء. قلت: فلعله استسهل أمرها.
كتنظرون، فاستثقلت ضمة الواو، التي هي لام، فحذفت، ثم حذفت الواو أيضاً، لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكانت أولى بالحذف، لأن واو الضمير فاعل، ولغير ذلك مما تقدم بعضه. وأما الثاني فمبني، ووزنه تفعلن، كتخرجن. وأما الثالث فكالأول إعراباً ووزناً، لأن فيه تغليب المذكر على المؤنث. وأما الرابع فمبني، ووزنه تفعلن، مثل تفرحن لأنه لمّا احتياج إلى تسكين آخر الفعل، لاستناده إلى نون جماعة النسوة، ردت الياء إلى أصلها، لأنها إنّما قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والآن ذهبت حركتها لاستحقاقها السكون. وأما الخامس فمعرب، ووزنه تفعين، وأصله تخشين، كتفرحين، فقبلت الياء ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الضمير، وتركت فتحة الشين دالة على الألف.
وأما السادس فمعرب، ووزنه تفعين. وأصله ترمين، كتضربين، حذفت كسرة الياء لاستثقالها، ثم حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع ياء الضمير. وأما السابع فمبني، ووزنه تفعلن كتضربن.
وأما الثامن والتاسع، فمضارع محي ورد بالأوزان الثلاثة، فمن قال يمحو قال في المضارع من جماعة النسوة: تمحون، مثله من غزا ناء ووزنا، ومن قال يمحى قال فيه: تمحين كترمين، بناء ووزنا. ومن قال يمحى قال
فيه تمحين كتخشين، بناء ووزنا. ويقال في المضارع الواحدة على اللغة الأولى تمحين كتدعين: إعرابا ووزنا وتصريفا. وقد تقدم في كلام المصنف. وعلى الثانية، كما يقال لها من رمى إعراباً ووزناُ وتصريفاً. وعلى الثالثة كما يقال لها من تخشى أيضاً، وقد تقدما.
وليس ما وقع في السؤال كما نقل خط بعض الشارحين أنّه يقال فيها " تمحون " كتفرحن بشيء.
وأمر التثنية ظاهر. انتهى بحروفه.
قلت: وقد جزم واحد بان أبن خميس لا يجهل مثل هذه المبادئ، إذ هو من أكابر الأعلام العارفين بالنحو واللغة وغيرهما وغير من أنواع العلوم؛ وقد نقل بعض من له خبرة بأحوال أنّه كان يحسن علم السيمياء والله اعلم.
وهو محمّد بن عمر بن محمّد بن محمّد بن عمر بن محمّد الحجري بفتح الحاء وسكون اليم، الرعيني، نسبة إلى حجر ذي رعين. وهو من أهل تلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن خميس. قال أبن الخطيب في " عائد الصلة ": كان رحمة الله نسيج وحده زهدا وانقباضاً وأدبا وهمة، وحسن الشيبة، وجميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيداً عن الرياء والهوى، عاملا على السياحة والعزلة، عارفا بالمعارف القديمة، مضطلعا بتفاريق النحل، قائما على العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب.
ثم ذكر أبن الخطيب من أحواله جملة، إلى أنَّ قال: وبلغ الوزير أبا عبد الله
أبن الحكيم أنّه يروم السفر، فشق ذلك عليه، وكلفه تحريك الحديث بحضرته، وجرى ذلك. فقال الشيخ: أنا كالدم بطبعي أتحرك في كل ربيع. انتهى. وقال أبن خاتمة في حقه، بعد إنَّ وصفه بالشاعر المجيد: أنّه رحل من تلمسان بلده إلى سبتة، فأقام بها مدة، ومدح رؤساءها من بني العزفي، ثم أجاز البحر إلى الأندلس، فأحتل بحضرة غرناطة في أواخر سنة ثلاث وسبع مائة، في جوار الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، فتقارضا حلل المجد، وتباريا في الرفد والحمد، فأدنى له ذو الوزارتين أخلاف بره وإكرامه، وخلع عليه أبن خميس أثواب نثره ونظامه، فله فيه القصائد التي حليت بها لبات الآفاق، وتنفست عنها صدور الرفاق. وكان رحمه الله من فحول الشعراء، وأعلام البلغاء، يصرف العويص، ويرتكب مستصعبات القوافي، ويطير في القريض مطار ذوي القوادم الباسقة والخوافي، حافظا لأشعار العرب وأخبارها، له مشاركة في العقليات، واستشراف على الطلب؛ وعقد لإقراء العربية بحضرة غرناطة، وكان ما ينتحله من العلم فوق ما يحصله. ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال، والتحلي بحسن السمت، وعدم الاسترسال، بعد طي بساط ما فرط له في بلده من الأحوال، وكان صنع اليدين. حدثني بعض من لقيه من الشيوخ أنّه صنع قدحا من الشمع على أبدع ما يكون، في شكله، ولطافة جوهره، وإتقان صنعته، وكتب بدائرة شفته:
وما كنت إلا زهرة في حديقةٍ
…
تبسم عني ضاحكات الكمائم
فقبلت من طور لطور فهأنا
…
أقبل أفواه الملوك الأعاظم
وأهداه خدمة للوزير أبي عبد الله بن الحكيم.
وأنشدتا شيخنا أبو البركات أبن الحاج وحكي لنا، قال:
أنشدني أبو عبد الله بن خميس وحكي لي، قال: لمّا وقفت على الجزاء الذي ألفه أبن سبعين، يعني أبا محمّد عبد الحق بن أحمد بن إبراهيم بن نصر، وهو الذي سماه بالفقيرية، كتبت على ظهره:
الفقر عندي لفظ دق
…
معناه من رامه من ذوي الغايات عناه
كم من غبي بعيد عن تصوره
…
أراد كشف معماه فعماه
وأنشدنا شيخنا الأستاذ أبو عثمان بن ليون غير مرة، قال: سمعت أبا عبد الله بن خميس ينشد، وكان يحسب انهما له، ويقال انهما لأبن الرومي:
رب قوم في منازلهم
…
عررٍ صاروا بها غررا
ستر الإحسان ما بهم
…
ستري لو زال ما سترا
ثم قال أبن خاتمة بعد الكلام: وقد جمع شعره ودونه صاحبنا القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الحضرمي في جزء سماه: " الدر النفيس من شعر أبن خميس "، وعرف به صدر الجزء. وقد نقلت منه هنا: وقدم أبو عبد الله بن خميس المرية سنة ست وسبع مائة، فنزل بها في كنف القائد الحاضر بها حينئذ، أبي الحسن بن كماشة، من خدام الوزير أبي عبد الله أبن الحكيم، فوسع له في الإيثار والمبرة، وبسط له وجه الكرامة طلق الأسرة؛ وبها قال في مدح الوزير أبي عبد الله بن الحكيم قصيدته التي أولها:
العشى تعيا والنوابغ
…
عن شكر أنعمك السوابغ
ووجه بها إليه من المرية. ومنها:
ودسائع أبن كماشة
…
مع كل بازغة وبازغ
تأتي بما تهوى النغا
…
نع من شهيات اللغالغ
ويقال إ الوزير أبا عبد الحكيم اقترح عليه أن ينظم له قصيدة هائية فابتدأ منها مطلعها وهو قوله:
لمن المنازل لا تجيب هواها
…
محيت معالمها وصم صدها
وذلك في أواخر شهر رمضان من سنة ثمان وسبع مائة. ثم لم يزد على ذلك إلى معناه وقد آذن أولاه بحضور أخراه فكانت وفاته بحضرة غرناطة قتيلا ضحوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبع مائة وهو أبن نيف وستين سنة وذلك يوم مقتل مخدومة الوزير أبي عبد الله بن الحكيم أصابه قاتله لحقده على مخدومه. ويقال إنه لمّا هم به قاتله قال له: أنا دخيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلتفت إليه وجعل يجهز عليه فقال له: لم لم تقبل الدخيل بيني وبينك؟ فكان آخر ما سمع منه: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم أنّه استفاض بذلك من حال القاتل أنّه هلك قبل أن يكمل سنة من حين قتله من فالج شديد أصابه فكان يصح ويستغيث: أبن خميس يطالبني أبن خميس يعذبني أبن خميس يقتلني. وما زال الأمر يشتد به حتى قضى نحبه على تلك الحال.
نعوذ بالله من المورطات ومواقعات العثرات. انتهى كلام أبن خاتمة.
وحكى غيره أنَّ تلك القصيدة نظمه ليهنئ بها أبن الحكيم في ذلك العيد الذي قتل فيه فلم يقدر على زيادة شيء فلما قتل كتب بعضهم بعد قوله: لمن المنازل لا تجيب هواها لابن الحكيم.
ونقل غير واحد في شأن قاتله خلاف ما حكاه أبن خاتمة. والله أعلم.
ومن مشهور نظمه رحمه الله قصيدته التي أولها:
مشوق زار ربعك يا أماما
…
محا آثار دمنتها الشآما
تتبع ريقه الطل ارتشافا
…
فلا نفعت ولا نقعت أوامها
وهي طويلة ولكنها من غرر القصائد يمدح بها أبا سعيد بن عامر ويذكر الوشحة الواقعة بينه وبين أبي بكر بن خطاب.
ومن بديع شعره قوله مطلع قصيدة:
تراجع من دنياك ما أنت تارك
…
ونسألها العتبى وها هي فارك
تؤمل بعد الترك رجع ودادها
…
وشر وداد ما تود الترائك
حلالك منها ما حلالك في الصبا
…
فأنت على حلوائه متهالك
تظهار بالسلوان عنها تجملا
…
فقلبك محزون وثغرك ضاحك
تنزهت عنها نخوة لا زهادة
…
وشعر عذاري أسود اللون حالك
وهي من القصائد الطنانة وتركتها لطولها وآخرها يقول:
فلا تدعون غيري لدفع ملمة
…
إذا ما دهى من حادث الدهر داهك
فما إن لذاك الصوت غيري سامع
…
وما إن لبيت المجد بعدي سامك
يغص ويشجى نهشل ومجاشع
…
بما أورثتني حمير والسكاسك
تفارقني الروح التي لست غيرها
…
وطيب ثنائي لاصق بي صائك
وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي
…
وقد شمطت مني اللحى والأفانك
يعود لنا شرخ الشباب الذي مضى
…
إذا عاد للدنيا عقيل ومالك
ومما اشتهر من نظمه قوله:
أرق عيني بارق من أثال
…
كأنه في جنح ليلى ذبال
أثار شوقا من صميم الحشى
…
وعبرتي في صحن خدي أسال
حكى فؤادي قلقا واشتعال
…
وجفن عيني أرقا وانهمال
جوانح تلفح نيرانها
…
وأدمع تنهل مثل العزال
قولوا وشاة الحب ما شئتم
…
ما لذة الحب سوى أن يقال
أعذر لوامي ولا عذر لي
…
فزلة العالم ما إن تقال
قم نطرد الهم بمشمولة
…
تقصر الليل إذا الليل طال
وعاطها صفراء ذمية
…
تمنعها الذمة من أن تنال
كالمسك ريحا واللمى مطعما
…
والتبر لونا والهوا في اعتدال
عتقها في الدن خمارها
…
والبكر لا تعرف غير الحجال
لا تثقب المصباح ولا واسقني
…
على سنى البرق وضوء الهلال
فالعيش نوم والردى يقظة
…
والمرء ما بينهما كالخيال
خذها على تنعيم مسطارها
…
بين خوابيها وبين الدوال
في روضة باكر وسميها
…
أخمل دارين وأنسى أوال
كأن فأر المسك مفتوقة
…
فيها إذا هب الصبا أو شمال
من كف ساجي الطرف ألحاظه
…
مفوقات أبداً للنظال
من عذاري والكل لي عاذر
…
من حسن الوجه قبيح الفعال
من خلبي الوعد كذابه
…
ليا لا يعرف غير المطال
كأنه الدهر وأي امرئ
…
يبقى على الدهر إذا الدهر حال
أما تراني آخذا ناقضا
…
عليه ما سوغني من محال
ولم أكن قط له عائبا
…
كمثل ما عابته فبلي رجال
يأبى ثراء المال علمي وهل
…
يجمع الضدان علم ومال
وتأنف الأرض مقامي بها
…
حتى تهاداني ظهور الرحال
لولا بني زيان ما لذلك لي ال
…
عيش ولا هانت علي الليال
هم خوفوا الدهر وهم خففوا
…
على بني الدنيا خطاه الثقال
ألفيت من عامرهم سيدا
…
غمر رداء الحمد جم النوال
وكعبة للجود منصوبة
…
يسعى إليها الناس في كل حال
خذها أبا زيان من شاعر
…
مستعذب النزعة عذب المقال
يلتفظ الألفاظ لفظ النوى
…
وينظم الآلاء نظم الآل
مجاريا مهيار في قوله
…
" ما كنت لولا طمعي في الخيال "
ومقطع قصيدة مهيار التي عارضها أبن خميس هو قوله:
ما كنت لولا طمعي في الخيال
…
أنشد ليلى بين طول الليال
وربما يهجس في خاطر من يرى وصف هؤلاء الأئمة للخمر وغيرها أنَّ ذلك منهم على حقيقته حاشاهم من ذلك وإنما مقصدهم بذلك خلاف ما يتوهم فلا يساء بهم الظن فإن العذر لهم في مثل ذلك بين واعتقاد براءتهم من هذا الشين المتعين ويرحم الله شيخ الشيوخ ولي الله الرباني الشهير البركات سيدي أبا مدين شعيبا أفاض الله علينا من أنواره إذ يقول على ما نسب له بعض الأئمة:
بكت السحاب فأضحكت لبكائها
…
زهر الرياض وفاضت الأنهار
وقد أقبلت شمس النهار بحلة
…
خضراء وفي أسرارها أسرار
وأتى الربيع بخيله وجنوده
…
فتمتعت في حسنه الأبصار
والورد نادي بالورود إلى الجنى
…
فتسابق الأطيار والأشجار
والكأس ترقص والعقار تشعشعت
…
والجو يضحك والحبيب يزار
والعود للغيد الحسان مجاوب
…
والطار أخفى صوته المزمار
لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا
…
مزمارنا التسبيح والأذكار
وشرابنا من لطفه وغناؤنا
…
نعم الحبيب الواحد القهار
والعود عادات الجميل وكاسنا
…
كاس الكياسة والعقار وقار
فتألفوا وتطيبوا واستغنموا
…
قبل الممات فدهركم غدار
والله أرحم بالفقير إذا أتى
…
من والديه فإنه غفار
ثم الصلاة على الشفيع المصلى
…
ما رنمت بلغاتها الأطيار
وقد تذكرت بلامية أبن خميس المذكورة قصيدة على رويها ووزنها أولها قوله:
ما حال من فارق ذاك الجمال
…
وذاق طعم الهجر بعد الوصال
وهي من نظم الشيخ العارف الصالح سيدي إبراهيم التازي رضي الله عنه رأيت أن أذكرها هنا كفارة لمّا يتوهمه السامع في لامية أبن خميس وقد كنت رأيت بتلمستان تخميسا لبعض الأكابر على قصيدة سيدي إبراهيم هذه وأنشدته الشيخ مولانا العم شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رضي الله عنه فانفعل لذلك غاية واهتز وهأنا أذكر القصيدة ضمن التخميس وهو:
بدت كغصن ناعم في اعتدال
وأبدلت وصلي بصاد ودال
قلت كصب عاشق حيث قال
ما حال من فارق ذاك الجمال
…
وذاق طعم الهجر بعد الوصال
صب صبا من وجد لحظ الرشا
من حبه عن لبه ينتشي
وسره بدمعي قد فشا
والعقل منه ذاب والحشى
…
ملتهب والجسم يحكي الخيال
شأني بها ما دمت في رقها
راق ولا رغبة في عتقها
دمت لها عبدا ومن حقها
أبيت أرعى النجم في أفقها
…
وليل أهل الحب رحب طوال
جاء بها التنصيص في جملتي
أقضي بها فرضي وهي ملتي
نأت بصبري صحت واخجلتني
والدمع كالمدرار من مقلتي
…
يجري على الوجنة يا للرجال
ما عمرت لي بالهوى راحة
من بعدها ولا خلت ساحة
من حسنها إذا هي وضاحة
وليس لي عيش ولا راحة
…
والحال يغني ذا الحجا عن سؤال
الوصل قد أبدى لنا حسنة
والبعد قد أبدى لنا شينة
قولوا لمن ليل الهوى جنة
يا قبح الله النوى إنه
…
قتل بلا سيف وداء عضال
إلفي مذ حل بقلبي قضى
أعاد الله لنا بالرضا
بطالع السعد ونور أضا
ويا رعى الله زمانا مضى
…
بالأنس في وارف تلك الظلال
لله أطلال بها خيمت
فكم بها من أمة أحرمت
ويا رعى الله بها ما حمت
ظلال تيماء التي تيمت
…
قلبي وخلت مهجتي في نكال
نلت لذيذ الوصال في تربها
لو دام ما غيبت عن قربها
فكيف لا أعلن من حبها
آها لها من لي بأنس بها
…
خوف الوجى ما بين تلك الجبال
تلك الربوع فاز من حلها
وعقدة الإبعاد قد حلها
من لي بقرب أجتني وصلها
ألزمها أبث أمري لها
…
أنعم الطرف بذاك الجمال
ما فاز إلاّ من غدا خلها
ومن أتاها قاصدا أهلها
يا عاشقين استعطفوا دلها
لله ما أحسن خال لها
…
تقبيله المحظور عين الحلال
نفسي فدا من حل في ركبها
ومرغ الخدين في تربها
ونال ظل الأمن في حزبها
وما ألذ العيش في قربها
…
في ريه بذل العطا والنوال
يأهل ذاك المنصب المولي
عن حبكم قلبي ما يرعوي
لأني من مائكم أرتوي
يا سادتي يا صفوتي يا ذوي
…
برى وشكرى يا كرام الفعال
كم بت ليلى بكم ساهرا
سامرت فيه كوكبا زاهرا
وصرت من شوقي لكم زاهرا
كان سروري بكم وافرا
…
وبدر سعدي مشرقا في كمال
فهأنا اليوم أعاني العنى
وظل أمني كان في المنحنى
وبدر سعدي ناظم شملنا
فانخسف البدر وراح الهنا
…
ما كان ذا يخطر مني ببال
يا من بدا قلبي بهم مغرما
من أجل خود حسنها قد سما
من لي بها أرشف ذاك اللمى
يا جيرة الحي وأهل الحمى
…
انتم منى القلب على كل حال
كانت بكم في الهوى نزهة
فصرت أبكي إذ بدت وحشة
وهأنا لم ترق لي دمعة
وليس بي صبر ولا سلوة
…
عنكم ولو شط المدى واستطال
يا من بهم قلبي غدا مولعا
وحق من طاف ومن قد سعى
ما العبد إلاّ صادق ما ادعى
فارعوا ذمامي واجهدوا في الدعا
…
للمدنف المضنى عسى ذو الجلال
متى أرى ركبي بهم قافلا
وربعكم أضحى به آهلا
فالله أرجو داعياً سائلا
أن يجمع الشمل بكم عاجلا
…
في ذلك المغنى العديم المثال
ومن نظم أبن خميس التلمساني المذكور قوله:
نظرت إليك بمثل عيني جوذر
…
وتبسمت عن مثل يمطي جوهر
عن ناصعٍ كالدر وكالبرق أو
…
كالطلع أو كلأقحوان مؤشر
تجري عليه من لماها نطفة
…
بل خمرة لكنها لم تعصر
لو لم يكن خمراً سلافاً ريقها
…
تزري وتلعب بالنهى لم تحظر
وكذلك ساجي جفنها لو لم يكن
…
فيه مهند لحظها لم يحذر
لو عجت طرفك في حديقة خدها
…
وأمنت سطوة صدها المتنمر
لرتعت من ذاك الحمى في جنةٍ
…
وكرعت من ذاك اللمى في كوثر
طرقتك وهناً والنجوم كأنها
…
حصباء در في بساط أخضر
والركب بين مصعدٍ ومصوبٍ
…
والنوم بين مسكن ومنفر
بيضا إذا أعتكرت ذوائب شعرها
…
سفرت فأزرت بالصبح المسفر
سرحت غلائلها فقلت سبيكة
…
من فضة أو دمية من مرمر
منحتك ما منعتك يقظاناً فلم
…
تخلف مواعيدها ولم تتغير
وكأنما خاف بغاة وشاتها
…
فأتتك من أردافها في عسكر
ويجزع ذاك المنحنى إدمانه
…
تعطو فتسطو بالهزير القسور
وتحية جاءتك في طي الصبا
…
أزكى وأعطر من شمم العنبر
جرت على واديك فضل ردائها
…
فعرفت فيها عرف ذاك الإذخر
هاجت بلابل نازحٍ عن إلفه
…
متشوقٍ ذاكي الحشى متسعر
وإذا نسيت ليالي العهد التي
…
سلفت لنا فتذكريها تذكري
رحنا تغنينا ونرشف ثغرها
…
والشمس تنظر مثل عين الأخزر
والروض بين مفضضًو معسجدٍ
…
والجو بين ممسك ومعصفر
وقد تذكرت بهذه القصيدة قول الأديب أبن مرج الكحل:
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر
…
بين الفرات وبين شط الكوثرِ
ولتغتبقها قهوةٍ ذهبيةً
…
من راحي أحوى المراشف أحور
وعشيةٍ قد كنت أرقب وقتها
…
سمحت بها الأيام بعد تعذر
نلنا بها آمالنا في روضةٍ
…
تهدي لناشقها شميم العنبر
والدهر من قدم يسفه رأيه
…
فيما مضى منه بغير تكدر
والورق تشدو والأرائكة تنثني
…
والشمس ترفل في قميص اصفر
والروض بين مفضضٍ ومعسجدٍ
…
والزهر بين مدهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربا
…
بمصندل من زهره ومعصفر
وكأنه خضرة شطه
…
سيف يسل على بساط أخضر
وكأنما ذاك الحباب فرنده
…
مهما طفا في صفحه كالجوهرِ
وكأنه وجهاته محفوفة
…
بالآس والنعمان خد معذرِ
نهر يهيم بحسنه من لم يهم
…
ويجيد فيه الشعر من لم يشعرِ
ما أصفر وجه الشمس عند غروبها
…
إلاّ لفرقة حسن ذاك المنظرِ
وما أحسن قول أبن الكحل المذكور:
رأوا بالجزع برقاً فاستهاموا
…
ونام العاذلون ولم يناموا
وعندي من مراشفها حديث
…
يخبر أنَّ ريقها مدام
وفي أجفانها السكرى دليل
…
وما ذقنا ولا زعم الهمامُ
تعالى الله ما أجرى دموعي
…
إذا عرضت لمقلتي الخيامُ
واشجاني إذا لاحت بروق
…
وأطربني إذا غنى الحمامُ
وكان السلطان أبو عنان المربني رحمه الله كثير الاعتناء بنظم الشيخ أبي عبد الله بن خميس وحفظه وروايته. قال رحمه الله: أنشدني بلفظه الشيخ الفقيه القاضي المحدث، الراوية العالم المدرس، خطيب حضرتنا العلمية، أبو عبد الله محمّد بن الشيخ الأجل، الصالح المبارك الراوية، المرحوم أبي الحسن بن عبد الرزاق وذلك بقصر المصارة يمنه الله في يوم الأثنين خامس عشر من شهر المحرم المبارك مقتتح عام خمسة وخمسون وسبع منه؛ قال أنشدنا شيخ الأدباء، وفحل الشعراء، أبو عبد الله محمّد بن عمر بن محمّد بن خميس الحميري، ثم الحجري: حجر ذي رعين، لنفسه، رحمه الله تعالى:
أنبت ولكن بعد طول عتاب
…
وفرط لجاجٍ ضاع فيه شبابي
وما زلت والعليا تغني غريمها
…
أعلل نفسي دائماً بمتابِ
وهيهات من بعد الشباب وشرخه
…
يلذ طعامي أو يسوغ شرابي
خدعت بهذا العيش قبل بلائه
…
كما يخدع الصادي بلمع سرابِ
تقول هو الشهد المشور جهالةً
…
وما هو إلاّ السم شيب بصابِ
وما صاحب الدنيا كبكرٍ وتغلبٍ
…
ولا ككليب رىء فحل ضرابِ
إذا كعت الأبطال عنها تقدموا
…
أعاريب غراء في متون عرابِ
وإن ناب خطب أو تفاقم معضل
…
تلقاه منهم كل اصيد نابِ
تراءت لجالسٍ مخيلة فرصةٍ
…
تأتت له في جيئة وذهابِ
فجاء بها شوهاء تنذر قومها
…
بتشييد أرحامٍ وهدم قبابِ
وكان رغاء السقب في قوم صالح
…
حديثاً فأنساه رغاء سرابِ
فما سمع الآذان في عرصاتهم
…
سوى نوح ثكلى أو نعيب غرابِ
وسل عروة الرحال عن صدق بأسه
…
وعن بيته في جعفر بن كلابِ
وكانت على الأملاك منه وفادةٌ
…
إذا آب منها آب خير مآبِ
يجير الحيين قيس وخنف
…
بفضل يسار أو بفضل خطابِ
زعامة مرجو النوال مؤل
…
وعزمة مسموع الدعاء مجيبِ
فمر يزجيها حواسر ظلعاً
…
بما حملوها من منى ورغابِ
إلى فدكٍ والموت أقرب غايةً
…
وهذا المنى يأتي بكل عجابِ
تبرض صفو العيش حتى استسفه
…
فداف له البرض فشب حبابِ
فأصبح في تلك المعاطف نهزةً
…
لنهب ضباع أو لنهش ذئابِ
وما سمه عند النضال بأهزعٍ
…
ولا سيفه عند المصاع بنابي
ولكنها الدنيا تكر على الفتى
…
وإن كان منها في أعز نصابِ
وعادتها ألا توسط عندها
…
فإما سماء أو تخوم ترابِ
فلا ترج من دنياك وداً وإن يكن
…
فما هو إلاّ مثل ظل سحابِ
ومثال الحزم كل الحزم إلاّ اجتنابها
…
فأشقى الورى من تصطفي وتحابي
أبيت لها ما دام شخصي أن ترى
…
تمر ببابي أو تطور جنابي
فكم عطلت من أربع وملاعبٍ
…
وكم فرحت من أسرةٍ وصحابِ
وكم عفرت حاسر ومدجج
…
وكم أثكلت من معصر وكعابِ
إليك بني الدنا نصيحة مشفق
…
عليكم بصيرٍ بالأمور نقابِ
طويل مراس الدهر جزلٍ مماحك
…
عريض مجال الهم حلس ركابِ
تأتت له الأوهام أدهم سابقاً
…
وغصت به الأيام أشهب كابي
ولا تحسبوا أني على الدهر عاتب
…
فأعظم ما بي منه أيسر مابي
وما أسفي إلاّ شباب خلعته
…
وشيب أبى إلاّ نصول خضابِ
وعمر مضى لم أحل منه بطائل
…
سوى ما حلا من لوعة وتصابي
ليالي شيطاني على الغي قادرٌ
…
وأعذب ما عندي أليم عذابِ
عكسنا قضايانا على حكم عادنا
…
وما عكسها عند النهى بصوابِ
على المصطفى المختار أزكى تحيني
…
فتلك التي أعتد يوم حسابي
فتلك عتادي أو ثناء أصوغه
…
كدر سحاب أو كدر سخابِ
ومن مشهور نظم أبي خميس رحمه الله تعالى:
عجباً لها أيذوق طعم وصالها
…
من ليس يأمل أن يمر ببابها
وأنا الفقير إلى تعلة ساعةٍ
…
منها وتمنعني زكاة جمالها
كم ذاد عن عيني الكرى متألق
…
يبدو ويخفي في خفي مطالها
يسمو له بدر الدجى متضاءلا
…
كتضائل الحسناء في أسمالها
وأين السبيل يجيء يقبس نارها
…
ليلا فتمنحني عقيلة مالها
يعتادني في النوم طيف خيالها
…
فتصبني ألحاظها بنبالها
كم ليلةٍ جاءت به فكأنما
…
زفت على ذكاء وقت زوالها
أسرى فعطلها وعطل شهبها
…
بأبي شذا المعطار من معطارها
وسواد طرته كجنح ظلامها
…
وبياض غرته كضوء هلالها
دعني أشم بالوهم أدنى لمعةٍ
…
من ثغرها وأشم مسكة خالها
ما راد طرفي حقيقة خدها
…
إلاّ لفتنتة بحسن دلالها
أنسيب شعري رق مثل نسيمها
…
فشمول راحك مثل ريح شمالها
وأنقل أحاديث الهوى وأشرح غريب لغاتها واذكر ثقات رجالها
وإذا مررت برامةٍ فتوق من
…
أطلائها وتمس في أطلالها
وانصب لغزلها حبالة قانصٍ
…
ودع الكرى شر كالصيد غزالها
وأسل جداولها بفيض دموعها
…
وانضح جوانحا بفضل سجالها
أنا من بقية معشر عركتهم
…
هذى النوى عرك الرحى بثفاله
أكرم بها فئة أريق نجيعها
…
بغيا فراق العين حسن مألها
حلت مدامة وصلها وحلت لهم
…
فإن انتشوا فبحلوها وحلالها
بلغت بهرمس غاية ما نالها
…
أحد وناء لها لبعد منالها
وعدت على سقراط سورة كأسها
…
فهرق ما في الدن من جريالها
وسرت إلى فارات منها نفحة
…
قدسية جاءت بنخبة آلها
ليصوغ من ألحانه في حانها
…
ما سوغ القسيس من أرمالها
وتغلغلت في سهر ورد فأسهرت
…
عيناً يؤرقها طوق خيالها
فخبا شهاب الدين لمّا أشرفت
…
وخوى فلم يثبت لنور جلالها
ما جن مثل جنونه أحد ولا
…
سمحت يد بيضا بمثل نوالها
وبدت على الشوذى منها نشوة
…
ما لاح منها غير لمعة آلها
بطلت حقيقته وحالت حاله
…
فيما يعبر عن حقيقة حالها
هذى صبابتهم ترق صبابةً
…
قيروق شاربها صفاء زلالها
اعلم أبا الفضل بن يحيى أنني
…
من بعدها أحرى على آمالها
فإذا رأيت مدلها مثلي فخذ
…
في عذله إن كنت من عذالها
لا تعجبن لمّا ترى من شأنها
…
في حلها إن كان أو ترحالها
فصلاحها بفسادها ونعيمها
…
بعذابها ورشدها بضلالها
ومن العجائب أن اقيم ببلدةٍ
…
يوماً وأسلم من أذى جهالها
شغلوا بدنياهم أما شغلتهم
…
عني فكم ضيعت من اشغالها
حجبوا بجهلهم فإن لاحت لهم
…
شمس الهدى عبثوا بضوء ذبالها
وإن انتسبت فإنني من دوحة
…
يتفيأ الإنسان برد ظلالها
من حمير من ذي رعين من ذوي
…
حجر من العظماء من أقيالها
وإذا رجعت لطينتي معنى فما
…
سلساله بأرق من صلصالها
لله درك أي نجل كريمةٍ
…
ولدت فاس منك بعد حيالها
ولأنت لا عدمتك والد فخرها
…
وسماك سؤددها وبدر كمالها
اغلظ على عاث من أنذالها
…
واخشع لمن تلقاه من أبدالها
والبس بما أوليتها من نعمةٍ
…
حلل الثناء وجر من اذيالها
خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة
…
جاءتك لم ينسج على منوالها
ما جاء في مضمارها شعر ولا
…
سمعت قريحة شاعرٍ بمثالها
وأنل أبا البركات من بركاتها
…
وادفع محال شكوكه من آلها
قال السلطان أبو عنان رحمه الله: أخبرنا شيخنا الإمام العالم العلامة، وحيد زمانه، أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم الآبلي رحمه الله قال: لمّا توجه الشيخ الصالح الشهير أبو إسحاق التنسي من تلمسان إلى بلاد المشرق اجتمع هناك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، فكان من قوله له: كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله بن خميس؟ وجعل يحليه بأحسن الأوصاف ويطنب في ذكر فضله فبقى السيخ أبو إسحاق متعجباً، وقال: من يكون هذا الذي حليتموه بهذا الحلى ولا أعرفه ببلدي؟ فقال له هو القائل: " عجباً لها أيذق طعم وصالها " قال: فقلت له: إنَّ هذا الرجل ليس هو عندنا بهذه الحالة التي وصفتم، إنّما هو عندنا شاعر فقط. فقال له: إنكم لم تنصفوه، أنّه لحقيق بما وصفناه.
قال السلطان أبو عنان: وأخبرنا شيخنا أبو عبد الله المذكور إنَّ قاضي القضاة أبن دقيق العيد كان قد جعل القصيدة المذكورة بخزانته كانت له، تعلو موضع جلوسه للمطالعة وكان يخرجها من تلك الخزانة ويكثر تأمله والنظر فيها.
ثم قال السلطان أبو عنان: قال لنا شيخنا أبو عبد الله الآبلي المذكور:
وقد تعرفت أنّه لمّا وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة تقي الدين المذكور لم يقرأها حتى قام إجلالا لها. انتهى.
وقد وصل أبي خميس رحمه الله هذه القصيدة إلى قاضي القضاة بنثر لم أثبته هنا لطوله، ولمّا قيل إنَّ هذا الرجل معري النزعة أي نظمه أحسن من نثره؛ وقد أوردها أبن الخطيب في الإحاطة وأوردها السلطان أبو عنان في مروياته.
وكان أبي خميس بعد مفارقته بلده تلمسان، سقى الله أرجاءها أنواء نيسان كثيرا ما يتشوق لمشاهدها ويتأوه عند تذكره لمعاهدها، وهي شيمة الأحرار في حنينهم إلى أوطانهم وللدهر إحلاء وإمرار.
فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى:
تلمسان لو أنَّ الزمان بها يسخو
…
منى النفس لا دار السلام ولا الكرخُ
وداري بها الأءلى التي حيل دونها
…
مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخُ
وعهدي بها والعمر في عنفوانه
…
وماء شبابي لا أجين ولا مطخُ
قرارة تهيام ومغنى صبابةٍ
…
ومعهد أنس لا يلذ به لطخُ
إذ الدهر مثنى العنان منهنه
…
ولا ردع يثني من عنان ولا ردخُ
ليالي لا أضغي إلى عذل عاذل
…
كأن وقوع العذل في اذني صمخُ
معاهد أنس عطلت فكأنها
…
ظواهر ألفاظٍ تعمدها النسخُ
وأربع آلاف عفا بعض آيها
…
كما كان يعرو بعض ألواحنا اللطخُ
فمن يك سكراناً من الوجد مرةً
…
فإني منه طول دهري لملتخ
أأنسى وقوفي لاهيا في عراصها
…
ولا شاغل إلاّ التودع والسبخ
وإلاّ اختبالي ماشيا في سماطها
…
رخيا كما يمشي بطرته الرخ
وإلاّ فعدوي مثل ما ينفر الطلا
…
وليدا وحجلي مثل ما ينهض الفرخ
كأني فيها أردشير بت بابك
…
وملك لي إلاّ الشبيبة والشرخ
وإخوان صدق من لداتي كأنهم
…
جآدر رمل لا عجاف ولا بزخ
وعاة لمّا يلقى إليهم من الهدى
…
وعن كل فحشاء ومنكر صلخ
هم القوم كل القيوم سيان في العلا
…
شبابهم الفرعان والشيخة السلخ
مضوا ومضى ذاك الزمان وأنسه
…
ومر الصبا والمال والأهل والبذخ
كأنهم لم يكن يوما لأقلامهم بها
…
صرير ولم يسمع لأكعابهم جبخ
ولم يك من أرواحها من ثنائهم
…
شيم ولا في القضب من لينهم ملخ
ولا في محيا الشمس من هديهم سنى
…
ولا في جبين البدر من طيهم ضمخ
سعيتم بني عمور في شت شملنا
…
فما تجركم ربح ولا عيشنا ربخ
دعيتم إلى ما يرتجى من صلاحكم
…
فردكم عنه التعجرف والجمخ
تعاليتم عجبا فطم عليكم
…
عباب له في رأس عليائكم جلخ
وهي طويلة جدا ألم فيها بمدح سبتة وملوكها بني العزفي فقال:
تركت لمينا سبتة كل نجمة
…
كما تركت للعز أهضابها الشمخ
وآليت إلاّ أرتوي غير مائها
…
ولو حل لي في غيره المن والمذخ
وألا أحط الدهر إلاّ بعقرها
…
ولو بوأتني دار إمرتها بلخ
فكم نقعت من غلة تلكم الأضا
…
وكم أبرأت من علة تلكم اللبخ
وحسبي منها عدلها واعتدالها
…
وأبحرها العظمى وأريافها النفخ
وأملاكها الصيد المقاولة الألى
…
لعزهم تعنو الطراخمة البلخ
كواكب هدى في سماء رياسة
…
تضئ فما يدجوا ظلال ولا يطخو
ثواقب أنوارها ترى كل غامض
…
إذا الناس في طخياء غبها التخوا
وروضات آداب إذا ما تأرجت
…
تضاءل في أفياء أفنانها الرمخ
مجامر ند في حدائق نرجس
…
تنم ولا لفح يصيب ولا دخ
وأبحر علم لا حياض رواية
…
فيكبر منها النضح أو يعظم النظج
بنو العزفيين الألى من صدورهم
…
وأيديهم تملا القراطيس والرخ
إذا مثال الفتى منهم تصدى لغاية
…
تأخرت من ينحو وأقصر من ينخو
رياسة أخيار وملك أفاضل
…
كرام لهم في كل صالحة رضخ
إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا
…
علينا وإن حلت بنا شدة رخوا
نزورهم حذا نحافي فننثني
…
وأجمالنا دلح وأبداننا دلخ
يربوننا بالعلم والحلم والنهى
…
فما خرجنا بز ولا حدنا برخ
والزهد في أملاك التقى
…
ببدع وللدنيا لزوق بمن يرخو
وإلاّ ففي رب الخورنق غنية
…
فما يومه سر ولا صيته رضخ
تطلع يوما والسدير أمامه
…
وقد نال العجب ما شاء والجفخ
وعن له من شيعة الحق قائم
…
بحجة صدق لا عبام ولا وشخ
فأصبح يجتاب المسوح زهادة
…
وقد كان يؤذى بطن أخمصه النخ
وفي واحد الدنيا أبي حاتم لنا
…
دواء ولكن ما لأدوائنا نتخ
تخلى عن الدنيا تخلى عارف
…
يرى أنها في ثوب نخوته لتخ
وأعرض عنها مستهينا بقدرها
…
فلم يثنه منها اجتذاب ولا مصخ
فكان له من قلبها الحب والهوى
…
وكان لها من كفه الطرح والطخ
وما الغرض عنها وهي في طلابه
…
كمن في يديه من معاناتها نبخ
ولا مدرك ما شاء من شهواتها
…
كمن حظه منها التمجع والنجخ
ولكننا نعمى مرار عن الهدى
…
ونصلج حتى ما لآذاننا صمخ
وما لامري عما قضى الله مزحل
…
ولا لقضاء الله نقض ولا نسخ
أبا طالب لم تبق شيمة شؤدد
…
يساد بها إلاّ وأنت لها سنخ
لسوغت أبناء الزمان أياديا
…
لدرتها في كل سامعة شخ
وأجريتها فيهم عوائد سؤدد
…
فما لهم كسب سواها ولا نخ
غذتهم غواديها فهي في عروقهم
…
دماء وفي أعماق أعظمهم مخ
وعمتهم حزنا وسهلا فأصبحوا
…
ومرعاهم وزخ ومرعيهم ولخ
بني العزفيين أبلغوا ما أردتم
…
فما دون ما تبلغون وحل ولا زلخ
ولا تقعدوا عمن أراد سجالكم
…
فما غربكم جف ولا غرفكم وضخ
وخلوا وراء كل طالب غاية
…
وتيهو على من رام شأوكم وانخوا
ولا تذروا الجوزاء تعلو عليكم
…
ففي رأسها من وطء أسلافكم شدخ
لأفواه أعدائي وأعين حسدي
…
إذا جليت خائيتي الغص والفضخ
دعواها تهادي في ملاءة حسنها
…
ففي نفسها من مدح أملاكها مدخ
يمانية زارت يماني فانثنت
…
وقد جد فيها الزهو واستحكم الزمخ
ومن مطلع قصيدة لابن خميس رحمه الله في مدح بلدة تلمستان حاطها الله تعالى قوله:
تلمستان جادتها الغوادي الروائح
…
وأرست بواديها الرياخ اللواقح
وسح على ساحات باب جيادها
…
ملث يصافي تربها ويصافح
يطير فؤادي كلما لاح بارق
…
ويزداد شوقي كلما مر سانح
ولم يعلق بحفظي من هذه القصيدة سوى ما ذكرت. وكنت تركتها بتلمستان ولم أرها الآن بفاس حماها الله.
وباب جياد التي أشار إليها هي إحدى أبواب تلمسان المحروسة وفيها يقول الفقيه العلامة الناظظم الناثر أبو عبد الله محمّد بن يوسف الثغري من قصيدة رفعها للسلطان أبي حمو رحم الله الجميع:
أيها الحافظون عهد الوداد
…
جددوا أنسنا بباب الجياد
وصلوها أصائلا بليال
…
كلآل نظمن في الأجياد
في رياض منضدات المجاني
…
بين تلك الربا وتلك الوهاد
وبورج مشيدات المباني
…
باديات السنى كمشهب بوادي
رق فيها النسيم مثل نسيبي
…
وصفا النهر مثل صفو دوادي
ورها الزهر والغصون ثثنت
…
وتغنت عليه ورق شوادي
وانبرى كل جدول كحسام
…
عاري الغمد سندسي النجاد
وظلال الغصون تكتب فيه
…
أحرفا سطرت بعير مداد
تذكر الوشم في معاصم خود
…
قضب فوقه ذوات امتداد
وكئوس المنى تدار علينا
…
بجنى عفة ونقل اعتقاد
واصفرار الأصيل فيها مدام
…
وصفير الطيور نغمة شادي
كان غدونا بها لانس روحنا
…
جادها رائح من المزن غادي
ولكم روحة على الدوح كادت
…
أن تربح الصبا لنا وهو غادي
ورقت الشمس في عشاياها حتى
…
أحدثت منه رقة في الجماد
جددت بالغروب شجو غريب
…
هاجه الشوق بعد طول البعاد
يا حيا المزن حيها من بلاد
…
غرس الحب غرسها في فؤادي
وتعاهد معاهد الأنس منها
…
غرس الصبا بصوب العهاد
حيث مغنى الهوى وملهى الغواني
…
ومراد المنى ونيل المراد
ومقر العلا ومرقى الأماني
…
ومجرى القنى ومجرى الجياد
كل حسن على تلمستان وقف
…
وخصوصا على ربا العباد
ضحك النور في رباها وأربى
…
كهف ضحاكها على كل نادي
وسما تاجها على كل تاج
…
وسطا على كل وادي
يدعى غيرها الجمال فيقضي
…
حسنها أنَّ تلك دعوى زياد
وبشعري فهمت معنى علاها
…
من حلاها فهمت من كل وادي
حضرة زانها الخليفة موسى
…
زينة الحلي عاطل الأجياد
وحبها بكل عذل وعدل
…
وحماها من كل باغ وعادي
ملك جاوز المدى في المعالي
…
فالنهايات عنده كالمبادي
معقل للهدى منيع النواحي
…
مظهر للعلا رفيع العماد
قاتل المحل والأعادي جميعا
…
بغرار الظبا وغر الأيادي
كلما ضنت السحائب أغنت
…
راجتاه عن السحاب الغوادي
كم هبات له وكم صدقات
…
عائدات على العفاة بوادي
فأيادي خليفة الله موسى
…
أبحرت عذبة على الوراد
ركب الجود في بسيط يديه
…
فتلافى به تلاف العباد
جل باريه ملجأ للبرايا
…
كالحيا ضامنا حيا البلاد
جل من خصه بتلك المزايا
…
باهرات من طارف وتلاد
شيم حلوة الجنى وسجايا
…
يشيد المحد أنها كالشهاد
يا إمام الهدى وشمس المعالي
…
وغمام الندى وبدر النوادي
لك بين الملوك سر خفي
…
ليس معناه للعقول ببادي
فكأن البلاد كفك مهما
…
كان فيها من ينتمي للعباد
قبض كفك البنان عليه
…
فانثنى بالإذعان حلف انقياد
وبكم تصلح البلاد جميعا
…
إن آراءكم صلاح البلاد
لم نزل دائما تحن إليكم
…
كحنين السقيم للعواد
لو أعينت بمنطق شطرتكم
…
مثل شكر العفاة للأجواد
قد أطاعتكم البلاد جميعا
…
طاعة أرغمت أنوف الأعادي
فأريحوا الجياد أتعبتموها
…
وأقروا السيوف في الأغماد
واهنئوا خالدين في عز ملك
…
قائم السعد دائم الإسعاد
وإليكم من مذهبات القوافي
…
حكما سهلت ليان المقاد
كل بيت من النظام مشيد
…
عطر الأفق بالثناء المشاد
ذو ابتسام كزهر روض مجود
…
وانتظام كسلك در مجاد
ومن قول الثغري المذكور في تلمستان وسلطانه أيضاً:
تاهت تلمستان بحسن شبابها
…
وبدا طراز الحسن في جلبابها
فالبشر يبدو من حباب ثغورها
…
متبسما أو من ثغور حبابها
قد قابلت زهر النجوم بزهرها
…
وبروجها ببروجها وقبابها
حسنت بحسن مليكها المولى أبي
…
حمو الذي يحمي حمى أربابها
ملك شمائله كزهر رياضها
…
ونداه فاض بها كفيض عبابها