الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه للحسن دوحة وزوايا
…
وانشراح لذي فؤادٍ قريح
وحجار تدعى حجار طبول
…
غير أنَّ التطبيل غير صحيحِ
تنشر الشمس ثم كل غدو
…
زعفراناً مبللا بنضوح
وسبو من هناك يسبي عقولا
…
ويجلي لحاظ طرفٍ طموحِ
وعيون بها تقر عيون
…
وكلام يأسو كلوم الجريحِ
فرشت فوقها طنافس زهر
…
ليس كالعهن نسجها والمسوحِ
كلما مر فوقهن طليح
…
عاد من حسنهن غير طليحِ
فانهضوا أيّها المحبون مثلي
…
لنرى ذات حسنها المملوح
هكذا يربح الزمان وإلاّ
…
كل عيش سواه غير ربيح
نظم ابن خميس
رحمه الله
ومن بديع نظمه قصيدة مدح الوزير أبن الحكيم.
قال أبن الخطيب: وهي من مشاهير أمداحه فيه، وكتب بها إليه من المرية، وألم فيها بذكر بلده تلمسان، وما حل بها من البلاء والحصار في ذلك التاريخ من قبل السلطان أبي يعقوب يوسف أبن السلطان المجاهد الكبير
أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، نفعنا الله ببركاته، في أهل تلمسان المحصورين فلم يقبل شفاعتهم، فقال الشيخ سيدي أبو زيد كلاماٍ معناه: إنَّ سعادة يقضي هذا، ورجع الشيخ إلى فاس، فاتفق هذا العبد كان مع السلطان في الحمام، وكان له عليه حقد، فانتهز فيه الفرصة ووجأه بخنجر، فكان في ذلك حتفه، فنفس الله أهل تلمسان بعد حصارها نحو العشر سنين.
ولمّا وصل الخبر إلى سيدي أبي زيد بموت السلطان قال: وعبد الرحمن يموت، يعني نفسه؛ و " يموت ": بتشديد الميم، على لغة البربر؛ فتوفى رحمه الله ودفن بمسجد الصابرين، وقبره مشهور مقصود الإجابة، نفعنا الله به، وقد زرته مرارا لا أحصيها، ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله.
وقد أشار أبو عبد الله بن خميس في هذه القصيدة إلى ذلك الحصار وكان من الاتفاق الغريب، سرعة وقوع ما تمناه أبن خميس هذه من الخبر، بعد طول المحنة، واشتداد البلاء، ولم يتأخر ذلك عن تاريخ القصيدة غير أربعة أشهر.
ونص القصيدة:
سل الريح لم تسعد السفن أنواء
…
فعند صباها من تلمسان أنباء
وفي خفقان البرق منها إشارة
…
إليك بما تنمى إليك وإيماء
تمر الليالي ليلة بعد ليلة
…
وللأذن إصغاء وللعين إكلاء
وإني لصبوا للصبا كلما سرت
…
وللنجم مهما كان للنجم إسراء
وأهدي إليها كل يوم تحية
…
وفي رد إهداء التحية إهداء
واستجلب النوم الغرار ومضجعي
…
قتاد كما شاءت نواها وسلاء
لعل خيالا من لديها يمر بي
…
ففي مره بي من جوى الشوق إبراء
وكيف خلوص الطيف منها ودونها
…
عيون لها في كل طلعة راء
وإبي لمشتاق إليها ومنبي
…
ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء
وكم قائل تفنى غراما بحبها
…
وقد أخلفت منها ملاء وأملاء
اعشرة أعوام عليها تجرمت
…
إذا ما مضى قيظ بها جاء إهراء
يطنب فيها عائثون وخرب
…
ويرحل عنها قاطعون وتناء
كأن رماح الناهبين أملكها
…
قداح وأموال المنازل ابداء
فلا تبغين فيها مناخاً لراكب
…
فقد قلصت منها ظلال وأفياء
ومن عجبٍ أن طال سقمي ونزعها
…
وقسم أضناء عليها وأطناء
وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجئوا
…
فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء
يرددها عيابها الدهر مثلما
…
يردد حرف الفاء في النطق فأفاء
فيا من لا نال الردى منه ما اشتهى
…
ترى هل لعمر الأنس بعدك إنساء
وهل لي زمان أرتجي فيه عودةً
…
إليك ووجه البشر أزهر وضاء
فياهي مالي إن هلكت ولم أقل
…
لصحبي بها الغر الكرام ألا هاءوا
لم أطرق الدرب الذي كنت طارقاً
…
لعادٍ وبدر الأفق أسمع مشناء
أطيف به حتى تهر كلابه
…
وقد نام عساس وهوم سباء
ولا صاحب إلاّ حسام ولهذم
…
وطرف لخد الليل مذ كان وطاء
واسحم قاري كشعري حلكة
…
تلألأ فيه من سنى الصبح أضواء
فما لشربي في سواك مزازة
…
ولا لطعمي دون مائك إمراء
ويا داري الأولى بدرب مغيلةٍ
…
وقد جد عيث في بلاها وإرداء
أما آن أنَّ يعشو لنارك طارق
…
جنيب له رفع إليك ودئداء
يرجى نوالا أو يؤمل دعوة
…
فما زال قارٍ في ذراك وقراْ
أحن لها ما أطئت النيب حولها
…
وما عاقها عن مورد الماء أظماء
فما فاتها مني نزاع على النوى
…
ولا فاتني منها على القرب إجشاء
كذلك جدى في صحابي وأسرتي
…
ومن لي به من أهل ودي إرفاء
ولولا جوار أبن الحكيم محمّد
…
لمّا فات نفسي من بني الدهر إقماء
حماني فلم تنبت محلي نوائب
…
بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء
وأكفأ بيتي في كفالة جاهه
…
فصاروا عبيدا لي وهم لي أكفاء
يؤمون قصدي طاعة ومحبة
…
فما عفته عافوا وما شئته شاءوا
دعاني إلى المجد الذي كنت آملا
…
فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء
وبواني من هضبة العز تلعةً
…
يناجي السها منها صعود وطأطاء
يشيعني منها إذا سرت حافظ
…
ويكلوني منها إذا نمت كلاء
ولا مثل نومي في كفالة غيره
…
وللذئب إلمام وللصل إلماء
بغيضة ليث أو بمرقاب خارب
…
تبز كسا فيه وتقطع أكساء
إذا كان لي من نائب الملك كافل
…
ففي حيثما هومت كن وإدفاء
وأخوان صدقٍ من صنائع جاهه
…
يبادرني منهم قيام وإيلاء
سراع لمّا يرجى من الخير عندهم
…
ومن كل ما يخشى من الشر أبراء
إليك أبا عبد الإله صنعتها
…
لزومية فيها لوجدي إفشاء
مبرأة مما يعيب لزومها
…
إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء
أذعت بها السر الذي كان قبلها
…
عليه لأحناء الجوانح إضناء
وإنَّ لم يكن الذي كنت آملا
…
وأعوز إكلاء فما عاز إكماء
ومن يتكف مفخما شكر منةٍ
…
فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء
إذا منشد لم عنك ومنشي
…
فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء
وأبن الحكيم المذكور: هو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن أبن إبراهيم بن يحيى بن محمّد بن سعد بن محمّد بن فتوح بن محمّد بن أيوب بن محمّد اللخمي، من أهل رندة، الكاتب الأديب البليغ الشهير الذكر بالأندلس، ويعرف بابن الحكيم
أصل سلفه من أشبيلية، من أعيانها، ثم انتقلوا إلى رندة؛ وأوّل من انتقل منهم إليها جده محمّد بن فتوح، في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم لطبه، وكانوا قديما يعرفون ببني فتوح.
قدم ذو الوزارتين أبو عبد الله على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن نصر، إثر قفوله من الحج، فألحقه بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء، إلى أنَّ توفي هذا السلطان في ثامن شعبان سنة إحدى وسبع مائة، وتقلد الملك بعده ولي عهده أمير المسلمين، أبو عبد الله محمّد المخلوع، فقلده الوزارة والكتابة، وكان مشتركاً معه في الوزارة الوزير الجليل التقي، أبا سلطان عبد العزيز سلطان الداني، فلما توفي أبو سلطان الداني، أفرده سلطانه بالوزارة، ولقبه بذي الوزارتين، وصار صاحب أمره ونهيه، إلى أنَّ توفي بحضرة غرناطة قتيلا، غدوة يوم الفطر، مستهل شوال سنة ثمان وسبع مئة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه، وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه؛ ومولده ببلده رندة في شهر ربيع الأول سنة ستين وست مائة. وكان رحمه الله علماً في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق؛ كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالي الهمة، كاتبا بليغا شاعراً، حسن الخط، يكتب خطوطا على أنواع، كليما جليل الانطباع، خطيبا فصيح القلم، زاكي الشيم، مؤثر لأهل العلم والأدب، برا بأهل الفضل والحسب، نفقت في مدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق. وراحل إلى المشرق، وكانت إجازته البحر من المرية، فتقضى فريضة الحج،
وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ، فمشيخته متوافرة. وكان رفيقه في هذه الوجهة الخطيب أبو عبد الله بن رشيد، فتعاونا على هذا الغرض، وقضيا منه كل نفل ومفترض، واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام، في كل مقام. وكانت له عناية بالرواية، وولوع بالأدب، وصبابة باقتناء الكتب، جمع من امهاتها العتيقة، وأصولها الرائقة الأنيقة، ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه، ولا ظفرت به يداه.
أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق بن أبي العاصي التنوخي، والخطيب أبو عبد الله بن رشيد تدبج معه، وابنه الوزير الكاتب الأديب الفاضل أبو بكر محمّد بن محمّد بن الحكيم، وغيرهم. ومدحه الكاتب العلامة أبو الحسن بن الجياب، ومن بديع ما مدحه به قصيدة رائية رائقة، يهنئه فيها بعيد الفطر، وهي قوله:
يا قادما عنت الدنيا بشائره
…
أهلا بمقدمك الميمون طائره
ومرحبا بك من عيد تحف به
…
من السعادة أجناد تظافره
قدمت فالخلق في نعمي وفي جذل
…
أبدى بك البشر بادبه وحاضره
والأرض قد لبست أثواب سندسها
…
والروض قد بسمت منه أزاهره
حاكت يد الغيث في ساحاته حللا
…
لمّا سقا دراكا منه باكره
فلاح فيها من الأنوار باهرها
…
وفاح من النوار عاطره
وأم فيها خطيب الطير مرتجلا
…
والزهر قد رصعت منه منابره
موشي ثوب طواه الدهر آونة
…
فها هو اليوم للأبصار ناشره
فالغصن من نشوة يثني معاطفه
…
والطير من طرب تشدو مزاهره
وللكمام انشقاق عن أزاهرها
…
كما بدت لك من خل ضمائره
لله يومك ما أزكى فضائله
…
قامت لدين الهدى فيه شعائره!
فكم سريرة فضل فيك قد خبئت
…
وكم جمال بدا للناس ظاهره
فأفخر بحق على الأيام قاطبة
…
فما لفضلك من ندٍ يناظره
فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا
…
قيست بفخر أولى العلياء مفاخره
يلتاح منه بأفق الملك نور هدى
…
تضائل منه الشمس مهما لاح زاهره
مجد صميم على عرش السماك سما
…
طالت مبانيه واستعلت مظاهره
وزاره الدين والعلم الذي رفعت
…
أعلامه والندى الفياض زاخره
وليس هذا ببديع مكارمه
…
ساوت أوائله فيه أواخره
يلقى الأمور بصدر منه منشرحٍ
…
بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعي أمور الرعايا معملاً نظرا
…
كمثل علياه معدوماً نظائره
والملك سير في تدبيره حكماً
…
تنال ما عجزت عنه عسا كره
سياسة الحلم لا بطش يكدرها
…
فهو المهيب وما تخشى بوادره
لا يصدر الملك إلاّ عن إشارته
…
فالرشد لا تتعداه مصايره
تجرى الأمور على أقصى إرادته
…
كأنما دهره فيها يشاوره
وكم مقام له في كل مكرمةٍ
…
أنست موارده فيها مصادره
ففضلها طبق الأفاق أجمعها
…
كأنه مثل قد سار سائره
فليس يجحده إلاّ أخو حسدٍ
…
يرى الصبح فيعشى منه ناظره
لا ملك أكبر من ملك يدبره
…
لا ملك أسعد من ملك يؤازره
يا عز أمر به اشتدت مضاربه
…
يا حسن ملك به أزدانت محاضره
تثنى البلاد وأهلوها بما عرفوا
…
ويشهد الدهر آتيه وغابره
بشرى لآمله الموصول مأمله
…
تعساً لحاسده المقطوع دابره
فالعلم قد أشرقت نوراً مظالعه
…
والجود قد أسبلت سحا مواطره
والناس في يسر والملك في ظفر
…
عالٍ على كل عالي القدر قاهره
والأرض قد ملئت أمنا جوانبها
…
بيمن من خلصت فيها سرائره
وإلى أياديه من مثنى وموحدةٍ
…
تساجل البحر إنَّ فاضت زواخره
فكل يوم تلقنا عوارفه
…
كساه أمواله الطولي دفاتره
فمن يؤدي لمّا أولاه من نعمٍ
…
شكراً ولو أنَّ سحباناً يظاهره
يا أيها العيد بادر لثم راحته
…
فلثمها خير مأمول تبادره
وأفخر بان قد لقيت أبن الحكيم على
…
عصر يباريك أو دهر تفاخره
ولي الصيام وقد عظمت حرمته
…
فأجره لك وافيه ووافره
وأقبل العيد فاستقبل به جذلا
…
وأهنأ به قادما عمت بشائره
ومن أحسن ما رثي له رحمه الله تعالى، ثلاثة أبيات لبعض الأعلام من أهالي ذلك الزمان، وهي:
قتلوك ظلماً واعتدوا
…
في فعلهم حدّثني الوجوب
ورموك أشلاء وذا
…
أمر قضته لك الغيوب
إنَّ لم يكن لك سيدي
…
قبر فقبرك في القلوب
قال أبن خاتمة: ومن شعره ما أنشدني ابنه الوزير أبو بكر، مقدمه على المرية، غازيا مع الجيش المنصور، قال أنشدني أبي رحمه الله تعالى:
ولمّا رأيت الشيب حل بمفرقي
…
نذير بترحال الشباب المفارق
رجعت إلى نفسي لها أنظري
…
إلى ما أرى، هذا ابتداء الحقائق
وأنشدني شيخنا الخطيب أبو إسحاق بن أبي العاصي إذنا، قال أنشدني الوزير أبو عبد الله بن الحكيم إنَّ لم يكن سماعه فإجازة:
فقدت حياتي بالمفارق ومن غدا
…
بحال نوى عمن يحب فقد فقدْ
ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها
…
جحيم فؤادي قد تلظى وقد وقد
وقد سبقه إلى هذا المعنى القائل:
أواري أواريِ بالدموع تجلداً
…
وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد
فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه
…
فمن فقد المحبوب مثلي فقد فقدِ
هكذا رواه أبن خاتمة، ورواه غيره هكذا:
أواري أواريِ والدموع تبينه
…
ون لي بإطفاء الغرام وقد وقد
وهو الصواب.
قال أبن خاتمة: وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ الفاضل، أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، قال: أنشدني رئيس الكتاب الجليل، أبو محمّد عبد المهيمن بن محمّد الحضرمي، قال: أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين، أبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن الحكيم، رحمه الله تعالى:
سح الكتاب وعنه
…
واختم على مكتنه
واحذر عليه من مخا
…
لسة الرقيب بجفنه
واجعل لسانك سجينه
…
كي لا ترى في سجنه
قال ابن خاتمة: وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل. انتهى.
ومن بديع نظم ذي الوزارتين أبن الحكيم قوله رحمه الله:
يا ليت شعري هل تطول حياتي
…
حتى أرى هذا الزمان الآتي؟
يا رب إن قدرت لي ببلوغه
…
فاجعله عصراً بالسرور مواتي
وإن انقضت أيام عمري قبله
…
فاجعل على ما تريضيه مماتي
لا شيء للدنيا وللأخرى معا
…
أرجو إذا ضاقت علي جهاتي
إلاّ يبقني أنَّ جودك فوق ما
…
يرجى وانك غافر الزلات
ومن نثره آخر فصل خاطب به الشيخ أبا علي الجراوي رحمه الله قوله: وهأنا أجري معه على حسن مغتقده وأكلمه في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودده وأجيز له ولولديه، اقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه رواية جميع ما حملته ونقلته وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلعت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه، والله عز وجل يخص أعمالنا لذاته، ويجعلها ابتغاء مرضاته.
قال هذا وكتبه محمّد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمّد اللخمي بن
الحكيم، عفا الله عنه، حامدا الله عز وجل ومصليا على رسوله المصطفى، ومسلماً عليه وعلى آله، في منتصف جمادي الآخرة، عام ثلاث وسبع مائة.
وحكي غير واحد أنَّ ذا الوزارتين أبن الحم المذكور لمّا اجتمع مع الفقيه الجليل الكاتب أبن أبي مدين أنشده أبن مدين رحمه الله تعالى:
عشقتكم بالسمع قبل لقاكم
…
وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه
وحببني ذكر الجليس إليكم
…
فلما التقينا كنتم فوق وصفه
فأنشده ذو الوزارتين:
ما زلت أسمع عن علياك كل سنى
…
أنهى من الشمس أو أجلى من القمرِ
حتى رأى بصري فقوق الذي سمعت
…
أذني فوفق بين السمع والبصرِ
وتذمرت هنا قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي رحمه الله تعالى:
سحر البيان بناني صار يعقده
…
والنفث في عقده من منطقي الحسن
لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني:
…
أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني
وكان الوزير أبن الحكيم المذكور كما أسلفناه رفيق أبن رشيد الفهري في رحلته الحجازية وقد اشتملت رحلة أبن رشيد على رأي وروى.
وهو محمّد بن عمر بن عمر بن محمّد إدريس بن عبد الله بن سعيد أبن مسعود بن حسن بن محمّد الفهري، من أهل سبته، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بأبن رشيد، وكأنه تصغير رشد، الخطيب المحدث الشهير.
رحل إلى المشرق لأداء فريضة الحج ولقاء أهل العلم سنة ثلاث وثمانين
وست مائة، وكانت إجازته البحر من المرية فتلاقى بها هو وذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم المذكور وكان قصدهما واحد ومسعاهما متعاضداً؛ فترافقا في السفر، كما ترافقا في الوطر. فدخل إفريقية ومصر والشام والحجاز وأخذ عمن لقي من الأئمة الأعلام، وأكثر من هذا الشان وأجاد فيه الضبط والإتقان وتوسع في الرواية وذهب في ذلك إلى ابعد غاية. وكان له تحقق بعلوم الحديث وبزجاله، وضبط أسناده، ومعرفة انقطاعه واتصاله، إماماً في هذا الشأن مشار إليه في هذا الفن معتمداً عليه مع كمال اثقة وشهوة العدالة.
قال القاضي أبو البركات أبن الحاج في حقه: أبن رشيد ثقة عدل من أهل هذا الشأن المتحققين به، وكان أيضاً من أهل المعرفة بعلم القراءات وصناعة العربية وعلم البيان والآداب والعروض والقوافي مشاركا في غير ذلك من الفنون من خدام الكتاب والسنة، حسن العهد كريم العشرة براً بأصدقائه، فاضلا في جميع أنحائه، أديباً بليغاً، ذاكراً متأدباً يقرض الشعر على تكلف ويجود النثر ويبصر مواقع حسنه، وأعظم عنايته بعلم الحديث: متنه وسنده ومعرفة رجاله، ولذلك كان جل اشتغاله، وفيه عظم احتماله، حتى حصل منه على غاية قصده ومنتهى آماله.
قرأ بسبتة بلده على الأستاذ أبي الحسن بن أبي الربيع القرآن العزيز بالقراءات السبع بمضمن كتاب التفسير، وتفقه عليه في العربية وقيد عنه
تقيداً حسنا على كتاب سيبويه، وأخذ عنه غير ذلك. وقرأ أيضاً الكتاب العزيز على الأستاذ أبي الحسن علي بن محمّد الكتامي أبن الخضار بالمقارئ السبعة، وأخذ بالمرية في اجتيازه عليها، عن الخطيب أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن الصائغ والوزير الأديب أبي جعفر أحمد بن محمّد أبن سلبطور قيد عنه من شعره. ورحل فأخذ ببجاية عن الحافظ أبي محمّد عبد العزيز بن عمر القيسي أبن كحيلا نزيلها. وبتونس عن قاضي الجماعة بها، أبي القاسم بن أبي بكر بن زيتون. وأخذ بإسكندرية عن العدل المبرز سراج الدين أبي بكر بن أحمد بن إسماعيل أبن فارس التميمي، والعدل الصالح أبي عبد الله محمّد بن عبد الخالق بن طرخان القرشي. وبالقاهرة عن الحافظ أبي محمّد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، والأديب الصوفي شهاب الدين أبي عبد الله محمّد بن عبد المنعم بن محمّد بن يوسف أبن أحمد الأنصاري، أبن الخيمي، نزيل إيوان الحسين رضي الله عنه من القاهرة. وبدمشق عن شيخ الشيوخ عز الدين أبي العز عبد الله بن عبد المنعم أبن علي الحراني، وبقية المسندين فخر الدين أبي الحسن علس بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي والمسند أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك المقدسي. وبالحرم لاشريف عن المحدث الأديب مقيم الحرم الشريف أبي إسحاق عبد لاصمد بن عبد الوهاب بن عساكر الدمشقي، وبقية المحدثين مقيم الحرمين أبي عبد الله محمّد أبي بكر بن خليل بن إبراهيم المكي. وبالمدينة المشرفة المنورة عن الشيخ الإمام النحوي عفيف الدين أبي محمّد عبد السلام بن محمّد
أبن مزروع البصري وغيرهم. وفي أشياخه كثيرة وقد أودمهم رحلته الحافلة التي سماها: " ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين إلى مكة وطيبة ". وهب أربعة أسفار وقفت عليها بتلمستان وقد جمع فيها من الفوائد الحديثية والفرائد الأدبية كل غريبة عجيبة.
من تآليفه " ترجمان التراجم " في إبداء وجه مناسبات تراجم صحيح البخاري لمّا تحتها مما ترجمت عليه. ومنها " السنن الأبين في السند المعنعن " و " المقدمة المعروفة لعلو المسافة والصفة " و " المحاكمة بين البخاري ومسلم "" إحكام التأسيس في أحكام التجنيس " و " الإضاءات والإنارات " في البديع المسماة: " بإيراد المرتع المربع لرائد التسجيع والترصيع " و " وصل القوادم بالخوافي " شرح فيه كتاب القوافي لشيخه أبي الحسن حازم القرطاجني وجزء مختصر في العروض وتقييد على كتاب سيبويه.
وذكر بعضهم أنَّ الإمام أبن رشيد كان ظاهري المذهب والمعروف أنّه كان مالكيا والله اعلم.
وكان يعتمد في شرح كلام البخاري على " المحير الفصيح في شرح البخاري الصحيح " لبي عمرو الصفاقسي المعروف بابن التين لأجل حظور البربر في مجلسه ومعتمد المدونة وأبو عمرو في هذا الكتاب ينقل المونة وكلام شراحها عليها.
وتكلم يوما بعد فراغه من إسماع الشمائل وكانت بالمغرب فتنة على قوله عليه الصلاة واليلام: " بحسب أصحابي القتل " فقال: معنى الحديث أنّه منجيهم من عذاب الله تعالى كما قالوا: بحسبك زيد ثم قال: على أنّه
روى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فعظم أمرها فقالوا: يا رسول الله لئن أدركنا هذا الزمان لنهلكن فقال: كلا غن بحسبكم القتل.
ويدل على صحة هذا التأويل ما خرجه أبو داود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمتى هذه امة محرومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل ". وترجم عليه أبو داود: " باب ما يرجى في القتل " ثم أدخل الحديث تحت الترجمة.
وقال تلميذه أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى: أنّه تكلم يوما على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". فقال: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو مائة نفس من الصحابة فيهم العشرة المشهود لهم بالجنة ولا يعرف حديث مثله وإن كانت ألفاظه تختلف لكن هو متواتر المعنى.
وفي رسمه من حرف الميم من إحاطة أبن الخطيب ما نصه:
حدّثني بعض شيوخنا قال: قعد يوما على المنبر فظن أنَّ المؤذن الثالث قد فرغ فقام يخطب والمؤذن قد رفع صوته بأذانه فاستفظع ذلك بعض الحاضرين وهم آخر بإشعاره وتنبيهه وكلمه آخر فلم يثنه ذلك عما شرع فيه وقال بديهة: أيّها الناس رحمكم الله إنَّ الواجب لا يبطله المندوب وإن الأذان الذي بعد الأول غسر مشروع الوجوب فتأهبوا لطلب العلم
وتنبهوا وتذكروا قوله تعالى:
) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (فقد روينا عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " من قال لأخيه والإمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له ". جعلنا الله وإياكم ممن علم فعمل وعمل فقبل وأخلص فتخلص.
فكان ذلك مما استدل به قوة جنانه وانقياد لسانه لبيانه. انتهى.
وتذكرت بهذه القضية من قام من اثنتين ولم يذكر حتى استقل ومن نسى المضمضة والاستنشاق حتى شرع في غسل الوجه وراجع شرح أبن ناجي على المدونة فانه ذكر أن بعض شيوخه لم يرجع من الخطبة كما فعل أبن رشيد وبعض الأشياخ رجع لمّا سمع المؤذن وفعل الأول أصوب والله اعلم.
وكان رحمه الله تعالى أعني أبن رشيد يقول: ليس بالمغرب عالم إلاّ أبن البنا بمراكش وأبن الشاط بسبتة والقاضي أبا عبد الله محمّد بن محمّد الخمي قرطبي. ومن المشارقة خلق كثير كابن دقيق العيد والشريف أبي الحسين العراقي واخيه أبي إسحاق وجماعة.
وفي تأليف أبن رشيد في التجنيس يقول صاحب الفقيه الأديب البارع الفاضل أبو بكر محمّد بن محمّد القالونسي من نظمه حتى طالعه بغرناطة:
أبدع في التجنيس إنشاءا
…
فليحو فضل السبق إن شاءا
إذ كل من ألف من قبله
…
ما جاء فيه بالذي جاءا
ومن شعر أبن رشيد رحمه الله تعالى ولنا فيه أسانيد قوله:
صيام عاشور أتى ندبة
…
في سنة محكمة قاضية
قال الرسول المصطفى إنه
…
تكفير ذنب السنة الماضية
ومن يوسع يومه لم يزل
…
في عامه في عيشة راضية
ومن ذلك قوله:
تغرب ولا تحفل بفرقة معشر
…
تفز بالمنى في كل ما شئت من حاج
فلولا اعتراب المسك ما حل مفرقا
…
ولولا اغتراب الدر لم يحظ بالتاج
وقوله رحمه الله تعالى في البحر وقد انبسط عليه ضوء القمر في ليلة البدر:
أنظر إلى البدر وقد مدت أشعته
…
على خضارة حتى ابيض أزرقه
والريح قد صنعت درعا مسمارها
…
جباب ماء يروق العين رونقه
وذكر رحمه الله تعالى عن أبي الخير الفضل بن على بن نصير بن عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي أنّه أملئ عليه بمدينة بلبيس بمصر حرسها الله تعالى:
وأرجو إن عجزت عن الأماني
…
أمانا من ذمامك يا إلهي
فلي ظن أحققه يقينا
…
برحمتك التي كل المنى هي
وأسأل منك عونا لي على ما
…
أمرت به وتركي للمناهي
قال رحمه الله: من عمد إلى أحاديث خراش ودينار وأبي هدبة وشبهم الذين يسميهم أهل الرواية والنقل طيور أنس فمثل هؤلاء لا يعرج عليهم ولا يفرح بعلوهم وروايتهم شبه الريح وإنما يكتب حديثهم للتعريف به. وقد جمع الحافظ أبو الطاهر الأصبهاني جماعة منهم في بيتين فأحس أحسن الله إليه. أنشدني المكتسب الخير المقيد أبو عبد الله محمّد أبن أبي العباس أحمد بن حيان الشاطبي صاحبنا بتونس قال أنشدنا الشيخ الخطيب أبو محمّد بن بركات رحمه الله قال: قرأت على الحافظ أبي عمر بن عات قال: سمعت فيما قري على السلفى رحمه الله تعالى من نظمه:
حديث بن نسطور وقيس ويغنم
…
وبعد أشج الغرب ثم خراش
ونسخة دينار نسخة تربه
…
أبى هدبة القيسي شبه فراش
قال لي أبو عبد الله الله إذا فرغ من إنشاده لهما ينفخ في يديه. فمثل هؤلاء لا يلتفت إليه ولو بلغ أقصى الممكن في القرب. انتهى.
ووجد بخط القاضي اليزناسي ما نصه: الحمد لله. وقفت على إجازة أبي عبد الله بن رشيد لست العرب بنت عبد المهيمن الحضرمي مؤرخة بغرة محرم عام إحدى وعشرين الذي توفي فيه وقال أحسن الله افتتاحه واختتامه: ومن لم يكن يعرفني فإني:
أنا المذنب الخطاء والعفو واسع
…
ولو لم يكن ذنب لمّا عرف العفو
انتهى.
ولمّا قفل الشيخ أبن رشيد من المشرق عاد إلى بلدة سبتة فلم يساعده فيها المقدور ولم يعرف له بها مقدار فكتب إليه رفيقه الوزيرابن الحكيم يستدعيه إلى حضرة غرانطة ويعده بنيل كل أمنيه رعيا لمّا سلف له معه من الصداقة المرعية فأعمل الرحلة إليه حتى قدم الحضرة الغرناطية عليه فألفاه من عناية السلطان تحت جاه واسع فأهله من ماليه وقرب إليه من أمانيه كل شاسع وأكرم مثواه وحمد لديه مغبة سراه وتقدم حينئذ للصلاة والخطبة بالجامع الأعظم بغرناطة وخول كل كرامة ومبرة. ثم لمّا توفى الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عن قضاء المناكح خلفه عليها فاتصلت له الأثرة بالأثرة ولم يزل مقيما بحضرة غرناطة منتصبا للإقراء ومركزا لدائرة القراء إلى أن قتل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم فرحل أبو عبد الله بن الحكيم فرحل من غرناطة ولحق بحضرة فاس فحل بها تحت عناية وفي كنف رعاية وجعل له الأمر السلطاني الاختيار حيث اختار أو الاستقرار فاختار التحول إلى مراكش إذ كان قبل قد سكنها واستحسنها فورد عليها ورود الإنامة ونزل بها نزول البر والكرامة وقدم للصلاة والخطبة بجامعها العتيق وأقام بها سنين يبث بها
العلم ليس له شغل غير التدريس والتحقيق. ثم غن المقام السلطاني دعاه منها بعد مدة إلى حضرة فاس فانتقل إليها الإيثار والإيناس فلحق بحاضرة السلطان والتحف من الوجاهة النباهة برداء سابغ الأردان وصار في عداد خواصه وآل مجلسه من الخلصاء إلى أن توفي رحمه الله بفاس في الثالث والعشرين من شهر محرم سنة إحدى وعشرين وسبع مائة قيل ليلة الاثنين الرابع والعشرين من شهر محرم. وأما قول من قال إنه توفي ثامن المحرم فغلط. ودفن خارج باب الفتوح بالروضة المباركة المعروفة بمطرح الجنة حيث تدفن العلماء والصلحاء الواردون في فاس من الغرباء.
ومولده بسبتة في شهر رمضان سنة سبع وقيل تسع وخمسين وست مائة.
وروى عنه الجم الغفير كأبي البركات بن الحاج والأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن أبي العاصي التنوخي وآخرين رحم الله جميعهم ونفعنا بهم.
وقد قدمنا أنَّ أبن الحكيم تدبج معه ومعنى التدبيج: أن يروى كل واحد من القرينين عن صاحبه.
وكان ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم المقدم الذكر محط رحال الأفاضل وكم للناس فيه من أمداح وتآليف وله ألف الشيخ الفقيه المحدث الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي طالب عبد الله العزفي كتاب " الإشادة بذكر المشتهرين من المتأخرين بالإفادة ". وكان أبو القاسم هذا سمع من
أبي جعفر بن الزبير وتوفي رحمه الله يوم الأربعاء الثالث عشر من رجب الفرد من عام سبعة عشر وسبع مائة قرب الزوال بالدرب الطويل من فاس المحروسة وتوفي أخوه الشاعر الجليل أبو العباس أحمد بغرناطة في ذي الحجة من عام ثمانية وستع مائة.
ومن إنشاداته في كتاب الإشادة من شعر أخيه أبي العباس المذكور رحمه الله تعالى:
ملكت رق بالجمال فأجمل
…
وحكمت في قلبي بجورك فاعدل
أنت الأمير على الملاح ومن يجر
…
في حكمه إلاّ جفونك يعزل
إن قيل أنت البدر فالفضل الذي
…
لك بالكمال ونقصه لم يجهل
لولاك الحظوظ لكنت أنت مكانه
…
ولكان دونك في الحضيض الأسفل
عيناك نازلتا القلوب فكلها
…
أما جريح أو مصاب المقتل
هزت ظباها بعد كسر جفونها
…
فأصيب قلبي في الرعيل الأول
ما زلت أعذل في هواك ولم يزل
…
سمعي عن العذال فيك بمعزل
صبحت في شغل بحبك شاغل
…
عن أن أصيخ إلى كلام العذل
لم اهمل الكتمان لكن أدمعي
…
هملت ولو لم تعصي لم تهمل
جمع الصحيحين الوفاء مع الهوى
…
قلبي وأملئ الدمع كشف المشكل
وهي طويلة مدح بها الوزير أبن الحكيم وأجاد.
وله من مطلع قصيدة فيه أيضاً:
هذا الصباح فغادني بصبوح
…
وانهض براحك فهي راحة روحي
لا تكترث لخطوب دهرك واسقني
…
كأس تحسن منه كل قبيح
واسرح سوام اللفظ بين حدائق
…
ما سائم في مثلها بمريح
فتنت بزهرة زهرها فتمايلت
…
تختال في الحبرات نعد مسوح
شقت شقائقها جيوب كمائم
…
أسفا على زق يخر جريح
وعيون نرجسها تلوح شواخصا
…
لوميض برق في الكئوس مليح
والورد تخجله أنامل سوسن
…
تومئ إليه بالسلام وتوحي
وأتى الربيع ربوعها بسواجع
…
عجم تشق فؤاد كل فصيح
سجعت تنشرها بعود شبابها
…
فأصخ إلى شق بها وسطيح
مالي وللأطلال أسأل صامتا
…
منها وأعول في مهامه فيح
في الراح الريحان شغل شاغل
…
لي عن عيافة بارح وسنيح
وأهيم في ورد الخدود وآسها
…
لا في عرار بالفلاة وشيح
وأصون سمعي عن مقلة عاذل
…
لتذللي والحب غير مشيح
كم عرضوا لي بالملام وصرحوا
…
فعصيت في التعويض والنصريح
ومنها أيضاً:
عجبا لهم يلقونني بملامهم
…
في حب من يسلقون بالتسبيح
إن صوح الروض النضير فخذه
…
أزهاره أمنت من التصويح
وتحار أعين مبصريه إذا بدا
…
في ثقل أرداف وخفة روح
قلبي بعذلهم يزيد توقدا
…
لا غرو في نار تشب بريح
وهي طويلة.
ومما أورده في " الإشادة " لبعض الأعلام وأظنه قاضي الموحدين أبا حفص أبن عمر رحمه الله تعالى في وصف الدنيا كلام بديع نصه: هذه الدنيا حفظك الله كما قد علمته فأعرض بحلمك عن جهلها وارغب بنفسك عن أهلها واذكر قبائح أنبائها واصرم وصل أبنائها لا ترتع في روضها ولا تركع في حوضهم وقل الله ثم ذرهم في خوضهم وإذا مررت باللاغين بذكر محاسنها اللاهين بحسن ظاهرها عن قبح باطنها فاله عن لهوهم ومر كريما بلغوهم مر المهتدي في سيره وأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فالسيادة والسعادة في نبذها لا في أخذها وفي تركها لا في دركها وإليك عن وصلها إليك وعليك بهجرها عليك واتل قوله تعالى:) ولا تمدن عينيك (وقوله تعالى:) ولا تعد عيناك عنهم (واحرص أن يكون منهم فزخرت الدنيا في نظر العين زين وفي نظر العقل شين فغمض عينك تبصر ولا تمدها وأقصر جعلنا الله ممن نظر بفلبه وأبصر بلبه فأولو الألباب والفكر المخصوص بالذكر والعلم أرفع المزايا وأوسع العطايا هو غاية المنال والمدراك من ناله أي شيء فاته ومن فاته أي شيء أدركه ولا علم إلاّ علم الكتاب والسنة هما أفضل العطايا والمنة فمن
علمهما ونظر فيهما وعمل بهما نال غاية السعادة وأدرك منتهى السيادة قال الله تعالى لنبيه الكريم:) ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (. هذه المزاية العالية والعطايا الواسعة الباقية لا ما نهت عنه الآية الثانية جعلنا الله ممن أبصر رشده وذكر مراده ووجه إليه قصده ورأى في أول أمره آخره وابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة بمنه وفضله. آمين.
يا راكضا في طلب الدنيا
…
ليس لمن تصرع انتعاش
تتح يا عرضة لرام
…
أسهمه بالرد تراش
تحش نارا هوى لظاها
…
بمن له حولها انحياش
أعذر منك الفراش ألا
…
علمت ما يجهل الفراش
تطلبها لا تنام عين
…
عنها ولا يستقر جاش
من لك بالري من شراب
…
يشتد من شربه العطاش
دها فطلابها رعاع
…
طاشت بألبابهم فطاشوا
واظمأ لتروى وكن كقوم
…
ماتوا بها عفة فعاشوا
لم لم يردوها فهم رواء
…
وواردوها هم العطاش
كأن آمالنا ظباء
…
ونحن من حيرة خراش
لا تأمنن بها انبساطا
…
به لأعمارنا انكماش
كأن آجالنا صقور
…
ونحن من تحتها خشخاش
انتهى.
وأبو حفص بن عمر هذا هو القاضي الجليل أبو حفص عمر بن القاضي الجليل أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عمر السلمي. وذكر الحافظ أبن الأبار أن أصله من جزيرة شقر. قال: وولد بأغمات وسكن مدينة فاس.
روى عن جده لأمه أبي محمّد عبد الله بن علي اللخمي أجاز له في صغره وعن أبي مروان بن مسرة وأبي عبد الله بن الرمامة وأخذ عن أبي بكر بن طاهر كتاب سيبويه تفهما وكان من أهل المعرفة واليقين أديبا شاعرا مجيدا غلب عليه الأدب حتى عرف به وشهر مع جودت الخط وبراعة الأدوات.
وولى قضاء تلمسان ثم نقل إلى قضاء فاس بعد أبيه بزمن وولى قضاء إشبيلية وغيرها ونال دنيا عريضة.
وحكى عن أبي الربيع بن سالم أنه توفي بإشبيلية فجأة في الخامس من ربيع الأول سنة ثلاث وست مائة. ومولده في حدود الثلاثين وخمس مائة. وقد غلط أبن فرقد فذكر أنّه ولد سنة خمس وثلاثين وروايته عن جده أبي محمّد عبد الله بن علي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين مع صحتها تقضي ببطلان ذ. قال أبن فرقد: توفي عام اثنين وسنة ست مائة بإشبيلية وهو يتولى قضاءها بعد صرف محمّد بن حوط الله وكان أبو حفص قد صرف بأبي محمّد بعد ذلك بعام أو أزيد.
ومن مشهور نظمه رحمه الله تعالى يمدح أمير المؤمنين أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي الموحدي رحمهم الله تعالى:
الله حسبك والسبع الحواميم
…
تغزو بها سبعة وهي الأقاليم
سبع المثاني التي لله قمت بها
…
علي من نصرها نص تقديم
وأنت بالسرور السبع الطوال على
…
كل الورى حاكم بالله محكوم
والدهر سبعته سبعة جعلت
…
جواد مالك والمنصور مخدوم
وسبعة الشهب لم تحفل بها ثقة
…
بوعد ربك هيهات التناجيم
تسمو بنفسي على السبع الشداد سمت
…
فينا ثم لنا زلفى وتكريم
أنوار عدلك في الآفاق داعية
…
هل في البسيطة ظلام ومظلوم
أعلى بك الله أعلاما هديت بها
…
فأنت فيمن إكمال وتتميم
عليك أهل الهدى والحق متفق
…
وحبل من فارق الإجماع مصروم
ومنها أيضاً:
فؤاده بضياء العلم منشرح
…
ووجهه بجمال النور موسوم
وكفة بطنها بالخير منهمر
…
وظهرها لعهود الله ملثوم
العلم قيمته والحلم شيمته
…
طابت أرومته والنفس والخيم
لطالبي العلم ما شاءوا بخدمته
…
غنى وعز وإرشاد وتعليم
سحب العلوم عليها من سماحته
…
تهمي فهم في بحرها هم شرع هيم
العين من نظر والأذان في خبر
…
لا تشبعان وباغي العلم منهوم
يغضي أناة وحلما عالما وله
…
في موضع الحق إقدام وتصميم
تشتد فيمن عصى أو خان وطأته
…
وفي الثقاف لذات الزيغ تقويم
إرادة فوق إدراك العقول لها
…
فحسبها منه إيماء وتسليم
حتى إذا ما بدا منها النجاح بدت
…
كالشمس ما دونها في الجو تغييم
انظر خواتمها تفهم مبادئها
…
بالشرح ما ليس بالمفهوم مفهوم
والحظ سماء علاها عبرة وكفى
…
من يسترق سمعها بالشهب مرجوم
إنَّ الخليفة سر الله ظاهرة
…
آياته وهو عند الله معلوم
فسلموا واخلعوا الآراء واتبعوا
…
حكم الإمام فما في الدين تحكيم
الشرق والغرب من عرب ومن عجم
…
في كفه عودهم بالقبض معجوم
والبحر والبر من سهل ومن جبل
…
جميعها بزام الرأي مخطوم
ومنها أيضاً:
وكل حدّثني مفاد من علائك من
…
نسيمه نفس العلياء مشموم
للمسلمين أمير المؤمنين حمى
…
يحله من صروف الدهر تحريم
الدهر في أنفه من حكمة برة
…
بها الزمان على الأبرار مخزوم
العلم والدين والدنيا وساكنها
…
في سلك رأيك يا وسطاه منظوم
جزاء سعيك عند الله مدخر
…
هذا كتابك في الأبرار مرقوم
عطفا على حسن أمداحي وإن عجزت
…
إنَّ الجمال على العلات مرحوم
ما علقوا لو رأوا هذا قفا وألا
…
هبي ولو جاءهم حجر وكلثوم
إذا لقال لرواية علقمية:
…
" هل ما علمت وما استودعت مكتوم "؟
يا سامعي أماديح الإمام ألا
…
فاجثوا على الركب الإعظام أو قوموا
خذ كأس لفظي دهاقا من مدائحه
…
فيها الحقائق لا لغو وتأثيم
ندعو له بدلا من مدحه لقصو
…
رُبَّ المدح عنه وفيه العذر معلوم
عز الإمام فلا تضرب به مثلاً
…
من ذا يقاس به ومثل معدوم
أعطي الورى فضل ما أعطاه خالقه
…
عليه من ربه بشرى وتسليم
صل بالصلاة عليه صدق مدحته
…
ذاك الرحيق بهذا المسك مختوم
وحكى أنّه لمّا قال:
يا سامعي أماديح الإمام ألا
…
فاجثوا على الركب الإعظام أو قوموا
قام جميع من في المجلس وكان فيهم الشاعر المفلق أبو العباس الجراوي فاحتاج إلى مشايعتهم في لذلك وثقل عليه لضخامته فجعل وهو يحاول القيام يسب القاضي أبا حفص عمر ويشير إلى أنّه انتصف منه.
وحكى أيضاً أنّه لمّا أنشد القاضي أبو حفص هذه القصيدة قال فيه الجروي المذكور وكان شديد الحسد له والإذاية لعسفه وكان له تقد في تلك الدولة:
نبغت عمرة بنت أبن عمر
…
هذه فلتعجبوا أم العبر
قل لها عني إذا لاقيتها
…
قولة تترك في الصخر أثر
هبك كالخنساء في أشعارها
…
أو كليلي هل تجارين الذكر
فقال أبو حفص حينئذ:
نهاني حلمى فلا أظلم
…
وعز مكاني فلا أظلم
ولا بد من حاسد قلبه
…
بنور مآثرنا مظلم
رحمت حسودي على أنّه
…
يقاسي العذاب وما يرحم
بغناك الحسود ولسنا ما
…
يقول ولكن كما يعلم
وكان أبو العباس الجراوي المذكور هجاء حاضر البادرة سريع الجواب. ومن أغرب ما صدر عنه في ذلك أنّه هجا قبيلة بني غفجوم استطرادا بهجو أهل فاس وقاضيهم أبن الملجوم والكبير البيت الشهير الأصالة فقال:
يا بن السبيل إذا نزلت بتادلا
…
لا تنزلن على بني غفجوم
أرض أغاربها العدو فلن ترى
…
إلاّ مجاوبة الصدى للبوم
قوم طووا ذكر السماحة بينهم
…
لكنهم نشروا لواء اللوم
لا يملكون إذا استبيح حريمهم
…
إلاّ الصياح بدعوة المظلوم
لا حظ في أموالهم ونوالهم
…
للسائل العافي ولا المحروم
يا ليتني من غيرهم ولو إنني
…
من أرض فاس من بني الملجوم
ومن نظم القاضي أبي حفص المذكور من مطلع قصيدة يمدح أبا يعقوب بن عبد المؤمن ويهنئه ببيعته الثانية:
إلاّ هكذا تبنى العلا والمآثر
…
وتسمو إلى الأمر الكبير الأكابر
نؤم لبيعات الرضا مطلع الهدى
…
وحيث الهدايا تعتلى والأوامر
ومن غزلياته قوله:
هم نظموا لواحظها فهاموا
…
وتشرب عقل شاربها المدام
يخاف الناس مقلتها سواها
…
أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باك
…
وتحت الشمس ينسكب الغمام
وأذكر قدها فأنوح شوقا
…
على الأغصان تنتدب الحمام
وأعقب بينها في الصدر غما
…
إذا اغتربت ذكاء أتى الظلام
وقوله أيضاً رحمه الله:
مها القفر لادمية المرمر
…
وفي العرب لا في بني الأصفر
بنفسي يعافر تلك الخيام
…
ومسرحها في النقا الأعفر
ملاعب يصبو إليها الحكيم
…
ويسلب فيها فؤادي الجري
وفي الضباء بنات الأسود
…
غيارى متى بغم تزأر
فخيس الهزبر كناس الغزال
…
به الشبل ناش مع الجؤذر
تخالسها نظر تحته
…
غرام به الحي لم يشعر
وباللحظ يقدح زند الهوى
…
فطرف غر وفؤاد بري
وكفرها بقوله:
بقلبك يا غافلا فانظر
…
وعينيك غمضهما تبصر
إذا أرسل الطرف هام الفؤاد
…
وبعض المرائي عمى المبصر
وآفة قلب الفتى عينه
…
فإن ترع قلبك لا تنظر
ومن قوله:
أغار على الصب من أنبه
…
هو الحب من يطفه ألهبه
نأى القلب عني وشوقي معه
…
فلله أمري ما أعجبه
يحن فؤادي إلى قاتلي
…
كذلك الهوى عند من جربه
ترق شمائل من ذاقه
…
وتلطف شمأل من هذبه
يجود لمسخطه بالرضا
…
ويطلب راحة من اتعبه
إذا شف قلبي غرام الهوى
…
دعا بالنعيم لمن عذبه
وكان القاضي أبو حفص هذا كريما ممدحا وممن أجاد فيه الشيخ الأديب الفقيه أبو العباس أحمد بن أبي الحكم يعيش بن علي بن شكيل الصدفي من أهل شريش المتوفى سنة خمس وست مائة ومولده سنة ثمان وسبعين وخمس مائة وأمداحه فيه كثير قدم قبلها كلاما نصه:
فيه استغفرت مجهودي وإليه جلبت عدتي وعديدي لأنه كان آدب أهل زمانه غير مدافع وأولاهم بالفضل غير منازع لتحليه بالتواضع في الجلالة والبشاشة في الجزالة ووردت عليه غلاما أحسب زندي سخاما وحدي كهاما فتلقى نزري بالاستكثارو نسب بحري إلى الاستبحار وأولى نضر الله وجهه من البر لجاني والاستطراف لمذاهبي والثناء على أنديته الآهلة ومجالسه الحافلة ما شهدت له بالتبريز وخلص معه فكرى من تخوف النقدة الحسدة خلوص الإبريز فقدحت فيه زند فكري فورى وفجرت فيه ينبوع شعري فجرى وأطلت فيه إطالة المفتن المغرب وجعلت أمداحه نقلة المشرق والمغرب ومع ذلك لم أنهض إلى عزه اعزه الله حيا وهابطا إلى خطة القضاء فأتى مع سن الشيبة إلى رتبة مشيخة العلماء فراسة منه وتوسما واسترواحا
للنجابة توهما إلاّ إنَّ البلد التي فيها كانت خشنة المباركة فكنت اتقلى فيها على جمر الغضى وأخابطها بما لو ألقي على الحجر لا نفجر وكانت الأناة غالبة على طباعه وجائلة على نظره وسمعه وكان مع ذلك مكدودا بالشفاعات ومضيقا عليه في الجهاد والطاعات فخلعت عن عاتقي نجاد تلك الخطة ودار فلك أمري على غير تلك النقطة وهو عفا الله عنه يقابل توقعي ابلنبساط وفترتي بتجديد الإنشاط انبساطا الأمكنة والأزمنة فقطع عليه غرضه تأخره عن الخطة فما قطعت عنه امتداحا ولا نسيت أيامه حنينا وارتياحا. ثم أعيد إلى الولاية فعدت إليه وقد أتى الهرم والسقم عليه فعاقت منيته عن بلوغ الآمال سلبتني علقا نفيسا لمّا تخلف الأيام والليال:
يا من لصبح الشيب كيف تنفسا
…
في لمتي فأجابه ليل الأسى
لا تحسبن سواد شعري نعمة
…
لكن كسته هموم قلبي حندسا
إلاّ يكن شاب العذار ولا انحنى
…
ظهري فقد شاب الفؤاد وقوسا
إني لأغضى مقلتي عن لائمي
…
وأرى ابتسامي من ضميري عبسا
ويلين قلبي للخليل مودة
…
فإذا أحس يوما هضيمة قسا
وأجيل لحظي في المنى شغفا بها
…
واجل شوقي عن لعل وعن عسى
مالي أرى الهالات عدن وهوادجا
…
ولهذه الأضلاع صارت مكنسا
طويت على بيض الدمى فتكانست
…
فيها ظباء يرتعين الأنفسا
فهي الدراري في الهواجر خنسا
…
وهي الجواري في الهوادج كنسا
يطرقن أمواه الفلاة تعربا
…
ويردن نيران الضلوع تمجسا
فيهن جائلة الوشاح تنفست
…
فزها النسيم أريجها فتنفسا
زارت كما زار الخيال تسترا
…
وعطت كما يعلوا الغزال توجسا
حذرت من الرقباء حول طرافها
…
فأتت تجر على التراب السندسا
ملت بطاريق الرجال وشاقها
…
صعلوك حي ليس يبقى منفسا
زعمت فتاة الحي أني مملق
…
أرأيت إملاقي لمجدي مركسا
باتت تهيجها وساوس حليها
…
حتى إذا الصبح المنير تنفسا
بكرت تلمومك في الندى كندية
…
صدفية تنمي السكون وأشراسا
يا بنت عمى هل سمعت بماجد
…
يبكين أوتي الذم أطعم أوكسا
لا تحسبي أكل المرار عميدنا
…
غرثا ولكن عزة وتغطرسا
أذهلت عن عقبي الندى إنَّ الندى
…
ليرد وحشي المنى متأنسا
عقر المطية للعذاري ربها
…
فأبيح ثغرا من عنيزة أومسا
لم ينس ميتا بالطلاب وربما
…
قد ضاق ذرعا أن يفوه فيلبسا
ونسيت حجرا يوم هيج بالعصا
…
أسدا ومن هاج الأسود تفرسا
هبطت كواهل ملكه من كاهل
…
أبدا أصابت منه يوما أنحسا
فلئن أبيرت مالك أو كاهل
…
فلقد أبارت منه قرما أحمسا
قد كان ملك في كنود والندى
…
في ظبية فتفردا وتقيسا
كملوك جيش كلما وطئوا الثرى
…
وأظن أنَّ لها الثرى والأشمسا
ولطودها السلمي قاضيها الرضا
…
كرم وجود ينطقان الأخرسا
شهدت له أصحابه وعداته
…
حتى الغمام إذا همي وتبجيسا
قسما لأندى بالندى وإعتاده
…
فينا فسار مع الركاب وعرسا
وكسا الورى العدل المبين وقبله
…
سلبوا بجور ولاتهم تلك الكسا
وأعد أقدار الأمور بحزمه
…
ورمى به غرض الخطوب فقرطسا
وأتته للبيت الرفيع عماده
…
عمد له مجداً وعزماً أقعسا
قالوا بنو ثعل: نفس مكارماً
…
تعزى لحاتمها، فقلت: وما عسى؟
جيئوا بواحد لحاتم طيء
…
من هذه وعلى ألا أنفسا
أو سائلوني في الأنام سوى أبي
…
حفص فهل تجدون عنه معدسا
أو فاحملوا بعض الذي هو حامل
…
ليردكم منه يلملم قد رسا
الناس أشباه ولكن بينهم
…
في الفضل ما بين الذؤابة والنسا
أحسبتم كل امرئ غمر الندى
…
ما كل بيت بالشآم المقدسا
يا خجلة القمر المنير وقد رأى
…
عمرا بأنواع الجلالة ملبسا
لو يستطيع لجاء مقتبسا لها
…
من أفقه وإذا لصادف مقبسا
خاب امرؤ يرجو نداه غضاضة
…
إلاّ الكفور فانه قد ابلسا
طيبت أفواه الرواة بمدحه
…
فكان عطاراً يضمخ معرسا
وعلوت قدر الناطقين بشكره
…
ولئن تمادى في نداه لأخرسا
يا واحد العرب الذي لو صورت
…
طرفا عتيقا كان منه القونسا
إنى دعوتك للأماني الغر في
…
ظلم الزمان السوء أحكي يونسا
إنَّ يلقم نون الحوادث مطلبي
…
فأمده له يقطين جودك ملبسا
أنت الرواء إذا تعذر مورد
…
والماء إنَّ كدر الرجاء فأيأسا
والعجز أنَّ يرجى سواك وإنّما
…
أخشى نبات الروضة المتخلسا
فلأنت أنفس عقدة مذخورةٍ
…
لم لا أصون عن ابتذالي الأنفسا
انتهى.
قال صاحب الإشادة العزفي المذكور: القاضي أبو حفص من مفاخر المغرب، لم يذكره أحد من لقيه وتعرض لذكره، إلاّ أطنب في الثناء عليه، ووصفه بالعلم والفضل، والعدل في القضاء، مع براعة النظم والنثر؛ ويكفي من ذلك ثناء المحدث أبي عبد الله محمّد أبن عبد الرحمن التجيبي، نزيل تلمسان عليه، وقد ذكره في شيوخه فقال: ونقلته من خط الشيخ الفقيه الأجل، الكاتب المجيد، الحسيب الأديب، الأرفع الأكمل، القاضي المسدد، الموفق الأعدل، أبي حفص. ثم قال: لقيته بتلمسان حرسها الله، قدمها علينا قاضيا، فشمل أهل البلد كلهم أجمعين بفضله وأدبه وعدله، وإجلاله وإكباره وحسن خلقه، لا سيما مع طائفة الطلب، وأهل الأدب والحسب، فجزاه الله عن نفسه وعنهم افضل الجزاء، فلا يعرف الفضل إلاّ فاضل، ولا يكرم الناس إلاّ الكريم، وكل يميل إلى جنسه، وما هو من طبعه، كما قال بعض الأدباء، وأجاد في مقالته، وأحسن
القول: " ما عبر الإنسان عن فضله، بمثيل إلى أهله ".
وذلك منظوم في قول الشاعر:
وما عبر الإنسان عن فضل نفسه
…
بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وإنَّ أخس النقص إنَّ بنفي الفتى
…
قذى النقص عنه بانتقاص الأفاضل
وامتثال رضى الله عنه قول الآخر: " أصحبوا الناس صحبة إنَّ عشتم معها حنوا عليكم، وإنَّ متم بكوا عليكم ". واستعمل ما قاله الشاعر في كلماته، ونظمه في قافيته:
وإنّما المرء حديث بعده
…
فكن حديثا حسنا لمن وعى
ففعل والله ذلك أيام كونه بتلمسان، واستعمله بطبعه وطبيعته، وخلقه وخليقته، إلى أنَّ نقله الخليفة إلى قضاء فاس، فلا تسأل عما أصاب الناس والإخوان من فقده، وفقد أدبه وعلمه، فذكر الطيب، والثناء الجميل، باقيان عليه إلى الآن بتلمسان، وهو مستقر في غيرها من الأوطان.
وكان أبو حفص رحمه الله حسن الخَلقِ والخُلقِ، مليح الخط، فصيح الخطابة والكتابة، وكنت إذا رايته تمثلت عند رؤيته والنظر إليه، باب الرجل أنشدنا شيخنا الحافظ أبو طاهر السلفي الأصبهاني، رضي الله عنه، في مدح هادي بن إسماعيل:
لهادي بن إسماعيل خلات أربع
…
بهن غدا مستوجبا للإمامة
خاطب أبن عبادة، وخط أبن مقلة
…
وخلق أبن يعقوب، وخلق أبن مامة
وأنشدته رضي الله عنه البيتين، فاستحسنهما وشكر لي ذلك، وكان لي من بره وتأنيسه وبشره حظ جزيل، وقسم كبير، ورغب إلى أنَّ كتب له بخطي بعض ما عندي من أخبار الصالحين، وأئمة المتقين، وأولياء الله المطيعين، فكتبت له من الأحاديث الوعظية العلمية، والأشعار الحكمية، ما أمكنني، فسر بذلك، وشكر عليه؛ ولمّا أتى مدينة فاس، صار يرى ذلك أوداءه وأحبابه، ويشكر عليه، ويثني خيراً، وبارك الله تعالى فيه. ثم قدر الله تعالى بوصولي بعد انفصاله عن مدينة فاس، وتوليته لقضاء أغمات، إلى حضرة مراكش، حرسها الله تعالى، وكان بالحضرة المذكورة، فسمع بذلك، وكنت نزلت بفندق من فنادقها، يقال له فندق السكر، فوصل إليه، واجتمع بي، فدعوت له وشكرت، ثم أولاني من بره وتأنيسه ما عهدت قبل منه، وزاد عليه، ورغب في الوصول إليه إلى أغمات، فوصل إليه بعد ذلك، فرحب وسهل وانزل، وأثنى على عند الأصحاب والإخوان خيرا، وقال ما يصدر عن مثله، فالعنصر الطيب لا يخرج منه إلاّ الطيب، وكنت معه في داؤه في خصب وسعة، وطلاقة وجه، وحسن خلق، وطيب حديث، وكريم مشاهدة ومناشدة، لنفسه ولغيره.
انتهى ما قدصت جلبه من كلام صاحب الإشادة، المنقول عن التحيبي نزيل التلمسان، رحم الله الجميع.
لنجعل آخر نظم القاضي أبي حفص رخ قوله:
العلم يكسو الحلل الفاخرة
…
والعلم يحيي الأعظم الناخرة
كم ذنب أصبح رأسا به
…
ومذنب أبحره زاخرة
ما شرف النسبة إلاّ التقي
…
أين تهيم الأنفس الفاخرة
من يطلب العز بغير التقي
…
ترع عنه نفسه داخرة
أعرض عن الدنيا تكن سيدا
…
بل ملكا فيها وفي الآخرة
وبين العزفين، الذين منهم صاحب الشهادة بسبتة أعادها الله مشهور، وكانت لهم الرياسة بها مدة، ثم أعقب الدهر جدتها بالبلى، ثم كل شيء فأن ولا يبقى إلاّ الواحد الذي ليس معه ملكه ثان.
وأبو القاسم منهم هو الذي تأمر ورأس سبتة هو أبو القاسم محمّد بن القاضي المحدث أبي العباس أحمد بن محمّد بن الحسين، بن الفقيه الإمام على المعاصر لابن أبي زيد، بن محمّد بن سليمان بن محمّد، الشهير بابن عزفة اللخمي. ينتهي نسبهم إلى قابوس بن النعمان بن المنذر، وكان قيامه بسبتة ليلة سبع وعشرين من رمضان، من عام سبعة وأربعين وست مائة، في دولة المرتضى الخليفة بمراكش، وقتل والي سبتة أبا عثمان بن خالد تلك الليلة، وملك طنجة، ودخل أصيلا، وهدم سورها، وتوفي بسبتة يوم الخميس الثالث عشر من ذي الحجة من عام سبعة وسبعين وسن مائة وله سبعون سنة، وكانت دولته ثلاثين وشهرين وسنة عشر يوماً، من شهدة بين كتفيه، مرض بها واحد وعشرين يوما، وكان مولده بسبتة في منتصف شوال عام سبعة وست مائة.
وهو الذي اكمل " الدر المنظم، في مولد النبي المعظم ". من تأليف أبيه أبي العباس رحمه الله.
ورأيت على نسخة كتبت في حياته أول الكتاب المذكور ما نصه: قال سالك سنن السنة، القائم من أعمال البر بما يضيق عنه وسع المنة المعتصم بجبل الله القوي المتين، المعتمد على لطفه الشامل وفضله العميم المبين، الشيخ الفقيه الأجل، العلم الأكمل، أبو القاسم بن الشيخ الفقيه الإمام، العارف العالم، علم العلماء العاملين المتقنين، ونخبة الفضلاء الصالحين المتقنين، أبي العباس أحمد بن الشيخ الفقيه القاضي العالم المحدث، أبي عبد الله اللخمي، ثم العزفي، من أهل سبتة حرسها الله وأجزل قسمه من عفوه ورضاه، وأنجح عمله وقوله وقصده، وجعل في ذاته وسبيل مرضاته صدوره ووروده. انتهى.
وفي موضع آخر من هذه النسخة ما نصه: السفر الأول من كتاب " الدر المنظم في مولد النبي المعظم، صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم ".
لمّا شرع في تأليفهن ومات ولم يكمله الشيخ الفقيه الصالح، علم العلماء، ونخبة الصالحين الفضلاء، أبو العباس أحمد، بن الشيخ الإمام الفقيه، الصالح القاضي، العالم المحدث، المقدس المرحوم، أبي عبد الله اللخمي، ثم العزفي السبتي، رحمه الله، ورضي عنه، ونضر وجهه، وأجزل ثوابه، وأكمل بعده، وأوضح فيه قصده، أبنه الشيخ الفقيه الأفضل، العلم الأوحد، السني السبتي، المبارك الأكمل، أبو القاسم، أدام الله عافيته ووفقه، وشرح صدره، وختم بالكتاب والسنة ديوان علمه الصالح وعمره، يذكر فيه بعض ما خص الله تعالى به نبيه)
وفضله على كل من تأخر من خلقه أو تقدم، وما امتن به عليه وعلى أمته، في أنَّ جعله أفضل الأنبياء، وجعلهم أفضل الأمم، من بين ولد آدم، ليتخذوا مولده الكريم موسماً، يتركون به ما كانوا يقيمونه من أعياد النصارى وعوائدهم، التي يجب لمغانيها أنَّ تعطل، ولمبانيها أنَّ تهدم. انتهى.
وكان الرئيس أبو القاسم المذكور كتب خطه بالإجازة في هذا الكتاب للخطيب أبي على، بن الخطيب أبي فارس بن غالب الجمحي، مع جماعة من أهل سبتة وأعيانها، حين قرءوه عليه بالجامع الأعظم من سبتة، في شهر ربيع الثاني، من عام سبعة وخمسين وست مائة، قائلا: أجزت له بحق روايتي لمّا فيه عن أبي، ومشاركتي له في تأليفه، على حكم الإجازة وشرطها، وصحة الرواية، عاشر الربيع المذكور. انتهى. وبعضه بالمعنى. ونسبهم إلى لخم لا مدفع فيها عند الثقات، وبذلك وصفهم الأكابر، غير أنَّ أبن الخطيب في الإحاطة، نقل عن " الكتاب المؤتمن، في أنباء أبناء الزمن " ما نصه: وتزعم بعض أهل سبتة أنَّ أصلهم من مجكسة من البربر، فيقولون: ما للخم ومجكسة؟ وهذا موكول إلى قائلة، إذ لا نعلم حقيقة الأمر فيه. نعم، الإنصاف في المسألة أنَّ كل من عرف بالأصالة في المغرب الأقصى، ولم يعلم لآبائه قدوم من المشرق، حيث جراثيم العرب، ولا قدوم من الأندلس، حيث أبناء العرب، وانتسب مع ذلك إلى قبيلة، فلا بد له من الاستظهار على ذلك، وإلاّ كان ما أتى به مظنة لأحد أمرين: أما لكون سلفه من الموالي، فانتسبوا إلى ساداتهم، إذ يجوز لمن كان مولى عربي أنَّ ينتسب إلى قبيلة سيده؛ وأما للكذب. وهذا أعدل ما يقال. انتهى.
ونقله في الإحاطة في ترجمة الفقيه المشارك في الطلب والأدب أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن أبي عزفة اللخمي. وإلى ترجع الأمور.
وكان الرئيس الفقيه أبو القاسم العزفي المذكور فقيها أصوليا نحويا لغويا محدثا عارفا بالرواية شاعرا مجيدا.
فمن نظمه في آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم:
ذرية المصطفى إني احبكم
…
وحبكم واجب في الدين مفترض
فليس يبغضكم لا كان باغضكم
…
إلاّ امرؤ مارق في قلبه مرض
وحسبكم شرفا في الدهر أنكم
…
خير البرية هذا ليس يعترض
ولست أظالب في حبي لكم ثمنا
…
إلاّ الشفاعة فهي السؤل والغرض
ولمّا توفي رحمه الله تعالى قام بعده بالأمر ابنه أبو الحاتم أحمد ثم خلع وتولى أخوه أبو طالب عبد الله في سنة ثمان وسبعين وست مائة وخلع ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوال سنة خمس وسبع مائة فكانت دولته سبعا وعشرين سنة وتوفي بفاس مخلوعا عام ثلاثة عشر وسبع مائة وله خمس وسبعون سنة. والذي خلعه الأمير فرج بن إسماعيل بن يوسف بن الأحمر دخل عليه سبتة عنوة في الليلة المذكورة وقبض عليه.
ثم تولاه الأمير يحيى بن الأمير أبي طالب أبن أبي القاسم ويكنى أبا عمر وبويع سبتة عام عشرة وسبع مائة وخلع في سنة إحدى عشرة وسبع مائة وكانت دولته الأولى هذه سنة وستّة أشهر. وبويع ثانيا بسبتة في سنة أربع
عشرة وسبع مائة وتوفي بها في ظهر يوم السبت السادس لشعبان سنة تسع عشرة وسبع مائة وكانت ولادته بها في رمضان سنة سبع وسبعين وست مائة. وكان فقيها فاضلا جميل الوجه شجاعا بطلا عافا بالأصول والفقه والمنطق والعربية واللغة والحديث وقيل أنه أول من ركب بالرمح والسيف من بني العزفي وجند الجنود.
ثم تولى بعده ابنه أبو القاسم محمّد بن يحيى وبويع بعد أبيه في شعبان من عام تسعة عشر وسبع مائة وخلع في صفر سنة عشرين وسبع مائة فكانت دولته ستّة أشهر وتوفي بفاس وهو كاتب الحضرة المرينية ليلة السبت حادي عشر صفر عام ثمانية وستين وسبع مائة وله ثمان وستون سنة وولد بسبتة في شوال عام تسعة وتسعين وست مائة. وكان فقيها شاعرا مكثرا مليح الفكاهات وشاحا وقد بز أهل زمانه في الموشحات وقد حكي عنه أنّه أراق الدواة في في محفل جليل فقال بديهية:
ألا يا كرام الناس غضوا
…
فإني من الفعل القبيح مريب
هرقت دواة وهي كالكأس بينكم
…
وللأرض من كأس الكرام نصيب
وكان مولعا بنظمه بالتورية.
وعزم السلطان أبو عنان لمّا أخذ قسطنطينية على استعماله بها فبكى لبعد الشقة عن ولده وبلده فتركه. وهو آخر المذكورين من هذا البيت رحم الله الجميع. وصاحب الإشادة المتذدم الذكر هو عم أبي القاسم محمّد بن يحيى هذا لأنَّ صاحب الإشادة كما أسلفنا هو عبد الرحمن بن أبي طالب عبد الله بن محمّد بن أحمد أبن محمّد بن أحمد وهذا محمّد بن يحيى بن أبي طالب عبد الله بن محمّد بن أحمد. وقد عرف في إشادته بابن خبارة ورأيت أن أذكر بعض ذلك فنقول:
هو أبو عمرو ميمون بن علي بن عبد الخالق الخطابي نسبة إلى قبيل من صنهاجة الذي بقطر فاس ويعرف بابن خبارة نسبة إلى خاله الشاعر المشهور بابن خبارة. عرف به أبو عبد الملك المراكشي فقال: كان بارع الخط وكان من أكبر أعاجيب الدهر في سرعة البديهة ناظما أو ناثرا مع الإجادة التي لا تجاري والتفنن في أساليب الكلام معربه وهزله على اختلاف اللغات. تطور كثيرا وتصوف ونسك ووعظ وكان في أخر عمره جانحا إلى امتداح ملوك عصره فكان يأتي في ذلك بما لم يسمع بمثله ولا يطمع في لحاقه بسرعة ارتجاله وحسن افتنان وسرعة امتثال وله في ذلك أخبار غريبة عريقة. وولى بأخرة حسبة الطعام بمراكش.
وذكر أبو عبد الله بن الأبار في التحفة فيمن لم يجد له غير الهجاء وظلمه كما أثبت أبو بكر بن رفاعة الشريشي وقد شهد فيه في كتاب التكملة له بما يخالف ذلك وكناه أبا سعيد وذكر أنه لقيه بإشبيلية وسمع منه بعض كلام في غير ذلك بمالقة وتوفي برباط الفتح في أول سنة سبع وثلاثين وست مائة.
وأنشد له من قصيدة:
وجد النبوة حلة مطوية
…
لا يستطيع الخلق نسج مثالها
فأسر حسوا في ارتغاؤ يبتغي
…
بمحاله نسجا على منوالها
وذكر أنّه قالها بمراكش. انتهى.
قال صاحب الإشادة: قال هذه القصيدة في المأمون بن المنصور حين تبرأ من إمامهم المهدي وأبدى مساوية. وأسقط اسمه من الخطبة وهو المعنى بقوله: وجد النبوة حلة مطوية.
وقد كتب عن أبي عمرو هذا كثيرا من شعره أبو عمرو بن سالم بن صالح النهرواني المالقي الأديب المقيد الضابط وتاريخ إجازته إياه سنة أربع وست مائة. ومات ابن سالم فبله بست عشرة سنة.
ومن شعره أي أبي همرو المذكور يرثي أبا محمّد عبد الله أحمد بن محمّد أبن عبد الملك بن الحافظ أبي بكر بن الجد ويعزي أباه عنه وهو يومئذ وزير إشبيلية وعظيمها وكانت حينئذ حاضرة الأندلس:
أرجة الصعق يوم النفخ في الصور
…
أم دكة الطود يوم الصعق في الطور
أم هدت الأرض إظهارا لمّا زجرت
…
به الخليفة من إيقاع مخدوع
أم الكواكب في آفاقها انتثرت
…
وباتت الشمس في طي وتكوير
ما للنهار تعرى من ثياب سنى
…
وأشبه الليل في أثواب ديجور
قد كان للصبح طرف زان بلق
…
فقسم الخلق بين الدجن والنور
فما الملم الذي غشى بدهمته
…
أديمه عنبر من بع كافور
أصح لتسمع من أبائها نبأ
…
يطوي من الإنس فيها كل منشور
وانظر فإن بني عدنان ما حشروا
…
إلاّ لرزء عظيم القدر مشعور
وافى مع العيد لا عادت مضاضته
…
فشاب سلساله الأصفي بتكدير
واعتا دارا لها في السبق جمهرة
…
من المفاخر أزرت بالجماهير
رمى قريشا فأصمى سهم حادثه
…
أبناء فهر بتفريق المقادير
فحانه الجد في أبن الجد حين قضى
…
وأثر الخطب فيها أي تأثير
لله المجد ما أبقاه من أثر
…
أخرى الليالي بطيب الذكر مأثور
نوارة عندما راقتبدوحتها
…
أهوت إلى الترب من بين النواوير
جار الذبول عليها بعدما ملأت
…
معاطس الدهر من طيب وتعطير
وسيف بأس الخطب أغمده
…
صرف الحوادث فيها بعد تكسير
ثضى فوافق شهر الصيام مرتجلا
…
ووافق الشهر في فضل وتطهير
واختاره خاطب الخطب الملم به
…
للصهر كفئأ فأمضى العقد للحور
فسار للحين مسرورا وخلفا
…
للحزن فاعجب لمجزون بمسرور
نادته أنجشة الأحزان يوم حدا
…
أظعان فلبي رفقا بالقوارير
فالوجد والدمع من الحزن قد اقتسما
…
قلبي وجفني بمنظوم ومنثور
فالقلب بالغيظ في تصعيد مستعر
…
والجفن بالفيض في تصويب ممطور
وساق الخطاب يشدو الحاملين به
…
يسوقهم سوق حادي العير للعير
وللملائك في آفاقها زجل
…
قد شيعته بتهليل وتكبير
أثنى المصاب على شيخ الجزيرة في
…
عقد وحل وتقديم وتأخير
ز خي طويلة جدا منها:
مقدمات الليالي طالما فضحت
…
نتائج الغدر منها كل مغرور
جمع السلامة معدوم الوجود بها
…
وكم بها للردى من جمع تكسير
وعامل الموت فيد أحصى مهنديه
…
منازل العمر عدا دون تكسير
والأرض طرس وهذا الخلق أحرفه
…
والحرف ما بين ننحو ومبتور
والدهر بالأفعال يظهراها
…
طورا ويعجم منها كل مسطور
وإنما الخلق أسماء تعاورها
…
إعرابه بين مرفوع ومجرور
وكلهم في مدى الأعمار تحسبهم
…
كحالها بين ممدود ومقصور
والموت مثل عروضي يقطع من
…
أبياتهم كل موزون ومكسور
يا من يؤمل أن يبقى وقد نفضت
…
أيدي المقادير من إبرام تقدير
هذي الحقيقة لا ما حدثتك به
…
آمال نفسك عن دنياك من زور
لا تخدعنك الليالي إن فتنتها
…
كادت فكادت ترينا كل محذور
كم بادرت بعبوس الخطب من ملك
…
قد بات بالبشر وضاح الأسارير
سائل كسرى مليك الفرس هل تركت
…
له المنايا جناحا غير مكسور
وانزلا بصنعاء في قصر ذي يزن
…
تلمم بقصر على الأغيار مقصور
اعبر على حيرة النعمان معتبر
…
تعبر بأطلال نعمى ذات تغيير
وأين من كان سجن الجن في يده
…
والإس والجن في قهر وتسخير
وأين مخترق الدنيا بعزمته
…
يطوى البلاد بها طي الطوامير
بادروا فليس باب الرجل باد يحس به
…
منهم وأفناهم ريب الدهارير
هو القضاء أبا بكر أصبت به
…
فاصبر وسلم تسليم مأجور
والله يحرس دنياكم ويدفع عن
…
سامي معاليك أنواع المحاذير
وحكي أنَّ المتصم يحيى بن الناصر بن المنصور الموحدي ضرب بظاهر مراكش قبة حمراء فبادر إليها العرب والنصارى من عسكر عمه المأمون فقطعوا أطنابها فسقطت فقال في ذلك أبو عمرو هذا من قصيدة:
انظر إلى القبة الحمراء ساقطة
…
لمّا رأت مضر الحمراء عن كثب
من كان أولى بها إن كنت ذا بصر
…
لعجم أو معدن العليا من العرب
ونما سجدت لمّا سمت وغدت
…
فوق الضلال وكانت أعجب العجب
ومن رائق نظم أبي عمرو قوله:
هب النسيم ضحى ففاح المندل
…
وتأرجت منه الصبا والشمال
أسرى عليلا فاستحث إلى الصبا
…
صبا بأنفاس الصبا بتعلل
يهوى العذير وساكنيه ومن له
…
لو كان يدنو منه ذاك المبزل
ما شام برقا بالفضا إلاّ انبرى
…
شوقا على جمر الغضى بتمليل
والبرق في نقع السحائب سيفه
…
سيف الكمى إذا يكر ويحمل
فكأن ذاك البرق واش قد مشى
…
بنميمة والرعد لاح يعذل
وأنا الفداء لجيرة نزلوا الحمى
…
وحمى القلوب هو الحمى والمنزل
وتحلوا يوم الفراق وإنما
…
بقلوبنا يوم الفراق تحملوا
قبسوا ومن قلب المعذب موقد
…
وردوا ومن جفن المعنى منهل
ما ضرهم إذ أعرضوا لو عرضوا
…
للوصل أو ذكروا العهود فأقبلوا
حملوا الجمال على الجمال كأنما
…
أفلاكها منها الأهلة تكمل
أبدت لنا حلي الطلى وتبسمت
…
زهرا فراق مقلد ومقبل
ومن العجائب أن أهيم بجنة
…
حلت بقلبي هو نار تشعل
ويهان مرسل ناظري في حبها
…
ومن التناصف أن يعز المرسل
ومن شعره رحمه الله تعالى هذه القصيدة الفريدة التي ندح بها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأشار إلى جملة من مناقبه الربانية ومآثره العرفانية وآياته
الباهرة ومعجزات الظاهرة صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد عظم وبارك انعم وتحنن وترحم وهي قوله:
حقيق علينا أن نجيب المعاليا
…
لنفني في مدح الحبيب المعانيا
ونجمع أشتات الأعاريض حسبة
…
ونحشد في ذات الإله القوافيا
ونقتاد للأشعار كل كتيبة
…
لنصر الهدى والدين تردى الأعاديا
فألسن أرباب البيان صوارم
…
مضاربها تنسي السيوف المواضيا
لنطلع من أمداح أحمد أنجما
…
تلوح فتجلو من سناه الدياجيا
كواكب إيمان تنير فيهتدي
…
بأضوائها من بات للحق ساريا
سهوت بمدح الخلق دهري فهذه
…
لجبري كل ما قلت ساهيا
فلا مدح إلاّ للذي بمديحه
…
تطيع إذا ما كنت بالمدح عاصيا
رسول براه الله من صفو نوره
…
وألبسه برادا من النور ضافيا
وما زال ذاك النور من عهد آدم
…
ينير به الله العصور الخواليا
ثوى في ظهور الطيبين يصونه
…
وديعه سر صار بالبعث فاشيا
وخص بطون الطيبات بحمله
…
ليحمل فرعا بالسيادة زاكيا
به وزن الله الخلائق كلهم
…
فألقاه فيهم راجح الوزن وافيا
وأنقذنا من ناره بظهوره
…
ولولاه كان الكل بالشرك صاليا
وآدم لمّا خاف يجزى بذنبه
…
توسل بالمختار لله داعيا
فتاب عليه الله لمّا دعا به
…
وأدنا منه بعد ما كان نائيا
وقد يهجر المحبوب في حالة الرضا
…
ويأبى إلاّ يصدق واشيا
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وأدرك نوحا في السفينة رعية
…
فخلصه الله كان في الموج داعيا
وما زال سام وهو ثاو بظهره
…
على أخويه بالفضائل ساميا
فخصص حتى بالمكان كرامة
…
وأسكن في أعلى البلاد مراقيا
وأنزل حام بالجنوب مجانيا
…
ويافث في أقصى الشمال مؤازيا
وأنزل سام للفضيلة وحده
…
بأوسط معمور البلاد الأعاليا
وبادر جبريل الخليل لأجله
…
ليحميه إذ أبصر الجمر حاميا
ويخبر في وقت البلاء يقينه
…
فصادف ورد الخلة العذب صافيا
فقال له: هل تسألني كفاية
…
فجاوبه حسبي بربي كافيا
فكانت عيه النار بردا كما أتى
…
به وسلاما وهي نار كما هيا
وجازاه في الإسراء عنها نبينا
…
وألهمنا فوق السموات ساريا
فلما انتهى جبريل عند مقامه
…
بحيث تلقى الأمر ألا تماديا
أشار على المختار أن سر فإنه
…
مقامي لا أعدوه ما دمت باقيا
فناداه يا جبريل: هل لك حاجة
…
إلى الله فأسألها لتعطي الأمانيا
فقال له: سله لأبسط رغبة
…
على النار منى للعصاة جناحيا
فدلي في أفق المهامه رفرف
…
وزج براق العز في النور راقيا
ومن أجله خص الذبيح فداؤه
…
وفد ظهره المختار أصبح ثاويا
فداه بذبح عظيم الله شأنه
…
لأن كان دهرا في الفيراديس راعيا
وثنى بعد الله حامل فضله
…
فكان بذاك الفرع للأصل راقيا
لذلك ما قال الرسول منبها:
…
أنا أبن ذبيحيها بعد المعاليا
وعف أبوه إذا دعته لنفسها
…
فتاة رأت نور النبوة غاديا
مضى ولذلك النور بين جبيته
…
شعاع السنى يعشى العيون الروانيا
فأعرض عنه ثم سار لشأنه
…
وكان له الرحمن بالحفظ واقيا
وعاد وقد أدى أمانة ربه
…
لأمته وعدا من الله ماضيا
ومر على حي الفتاة فنوديت
…
هلمي تصادف لذعة الحب راقيا
فقالت لهم قد كان ذلك مرة
…
لأمر عصينا في هواه النواهيا
أردت بأن أعطي سناه وقد قضى
…
لغيري به من كان بالحق قاضيا
وكم طالب ما لا ينال وقاعد
…
سعادته تبدي له السؤل دانيا
وكم شاهدت من آية أمة به
…
يصيربها جيد الديانة حاليا
رأت في معاليه مرأئي جمة
…
فصدقت الآثار منه المرائيا
وقيل لها بشاك فزت بخير من
…
يرى فوق أكناف البسيطة ماشيا
وحفت به الأملاك في حين وضعه
…
بليلة إفضال تزين اللياليا
وبشر رضوان الجنان بخلقه
…
ففتح جنات النعيم الثمانيا
ونادى منادي العز طوفوا بأحمد
…
جهات الدنا طرا وعموا النواحيا
بدا واضعا كفيه بالأرض رافعا
…
بعينيه نحو الأفق بالطرف ساميا
وأعول إبليس اللعين وقال قد
…
يئست وقدما كنت للكفر راجيا
وصار إلى صنعاء شيبة جده
…
فحل محلا للوفادة قاضيا
وحيا بغمدان أبن ذي يزن بها
…
وهنأه بالملك إذ عاد واليا
فقربه دون الوفود وخصه
…
ليسمع قولا في الرسالة شافيا
وقال له أنا وجدنا بكتبنا
…
نبيا يرى من نحو أرضك آتيا
يموت أبوه ثم تهلك أمه
…
ويكفل بعض العمومة حانيا
وقال له والبيت ذو الحجب زاره
…
وفود الورى جابوا إليه الفيافيا
لأنت على ما يقتضيه الوعد جده
…
فشيد به للمجد ما كنت بانيا
وقال له احفظ ما أقول فإنه
…
سيملك أرضي إذ رأى الملك واهيا
وقول هرقل إذ أظل زمانه
…
فقال أرى ملك الختان مدانيا
وطالع فيه مصحف الأفق ناظرا
…
كما زعمو يستشير الدراريا
فلم تنقض الأيام حتى أتى له
…
كتاب رسول الله للحق داعيا
فباحث عن أهل مكة ائلا
…
وكان بأوصاف النبيين داريا
ولبى الهدى لمّا دعاه اله
…
وهام قليلا ثم ألفى ساليا
وورد الرضا لا يتدي لسبيله
…
فيروي به من كان في الله صاديا
وإيوان كسرى ارتج يوم وضعه
…
وبات عليه قصره متداعيا
وزاد برؤيا الموبذان ارتياعه
…
فأذهله أن يستبين المساعيا
وفسرها شق وشق غباره
…
سطيح بسجع قصَّ ما كان رائيا
فنصا على إرسال أحمد مثبتا
…
لدين الهدى بالرغم للكفر ماحيا
وأخمدت النيران نيران فارس
…
وكانت تلظى ألف عام تواليا
وحمل ذاك الحلم حجر حليمة
…
لترضعه در الفضائل صافيا
أبى حملة النسوان لليتيم وانبرت
…
له فرأت من حينا الرزق ناميا
فحاز به السبق الأتان كرامة
…
وأخصب مرعاها ففاق المراعيا
وشارفها إذ لا تبض بقطرة
…
فصارت به ثجا تروى الصواديا
وفي حياه وافاه جبريل قاصدا
…
وأقبل ميكائيل بالأمر تاليا
فشقا به صدر النبي لشرحه
…
فكان لمّا يلقى له الله واعيا
ورداه في الحين التئاما فما ترى
…
سوى أثر ما زال للشرح باقيا
وجاءا بمنديل وطست ليغسلا
…
بماء الرضا قلبا عن الله راضيا
وعاد أخوه جازعا مخبرا بما
…
جرى من مخوف كان للأمر جاريا
فسارت به من حينه نحو أمه
…
تخاف عليه إن أقام العواديا
وما زال محروسا أمينا مؤمنا
…
سبوقا صدوقا سامي القدر عاليا
حبيبا وفيا خاشعا متواضعا
…
كريما حليما يستفز الرواسيا
وفي سيره للشام شام بقربه
…
بروق الهدى من لم يكن قط رائيا
أكب عليه في طريق مسيره
…
إليها بحيرا للهدى متراميا
ولمّا رأى تلك العلامة لم يزل
…
لمّا وافق الكتب القديمة باكيا
وكانت به من غلة الشوق علة
…
فساق له الله الطبيب المداويا
وقصدته في ذي المجاز وعمه
…
به ظمأ قد صير الصبر فانيا
فأهوى ولا ماء إلى الأرض راكضا
…
ففجر ينبوعا من الماء جاريا
وكم بان من يسر لميسرة به
…
يرد أخا سكر الغواية صاحيا
فكان إذا اشتد الهجير أظله
…
غمام عليه لا يزال مماشيا
وأخبره نسطور بصري ببعثه
…
فأظهر من غيب الرسالة خافيا
وبغضت الأصنام للمصطفى فلم
…
يزل هاجرا فعل الضلالة قاليا
وكان يرى ضوءا يلوح لعينه
…
ويسمع تسليما عليه محاذيا
ويأتي حراء للتعبد قاصدا
…
حبا لأسباب الوصال مراعيا
ويخرج من بيت البيوت لعله
…
يحدث عن نفسه في السر خاليا
وكان رآه الله أكرم خلقه
…
فأرسله الحق للخلق هاديا
وأسرى به ليلا إلى حضرة العلا
…
فما زال فيها للحبيب مناجيا
وسار على ظهر البراق كرامة
…
له راكبا إذ سار جبريل ماشيا
ولمّا أتاه الوحي وارتاع قلبه
…
لشدة ما قد كان منه ملاقيا
فسارت به عمدا خديجة زوجه
…
لتسأل حبرا بالزمانة فانيا
وكان امرأ قد مارس الكتب قارئا
…
وبات لضيفان المعارف قاريا
فبشره أن سوف يطلع صبحه
…
فيكشف من ليل الغواية داجيا
وقال له يا ليتني كنت حاضرا
…
بها جذعا أوليك نفسي وماليا
ووقتك أن يدرك زماني يومه
…
ومن لي به أنصرك نصرا مواليا
وآيته في الغار إذ نزلا به
…
وكان له الصديق بالصدق ثانيا
وقد أرسل الله الحمام لبابه
…
وقارنه بالعنكبوت مضاهيا
فباض على الفور الحمام وشيدا
…
من النسيج أيدب العنكبوت مبانيا
فدافع عن صديقه ورسوله
…
بأضعف أسباب الوجود مقاويا
وكم آية خصت سراقة إذ مشى
…
على أثر المختار للغار قافيا
فشاهد آثارا من الخسف كاد أن
…
يكون لقارون السفاه مؤاخيا
ولمّا دعا بالهاشمي أجاره
…
فأبصر في الحين من ذاك ناجيا
وأصبحه منه ظهيرا مكرما
…
بخط أبي بكر يخيف الدواهيا
وأخبره أن سوف يفتح أمره
…
مدائن كسرى والبلاد الأقاصيا
ويجعل في كفيه من بعد فتحها
…
سواراه مما يحز الدين ساميا
فأنجرها الفاروق في حين فتحها
…
له عدة بالصدق فيها مباهيا
وآيته في خيمتي أم معبد
…
وفي الشاة إذ لم تبق تصحب راعيا
وفي الذئب إذ أقعى وأخبر مفصحا
…
عن المصطفى والذئب ما زال عاويا
وفي الضب لمّا أن دعاه أجابه
…
وقال لبيك داعيا
وآيته إذ فارق الجذع فضله
…
فحن إليه الجذع في الحال شاكيا
وإنَّ انشقاق البدر أعظم آية
…
ترد على من كان للدين زاريا
وفي الجمل الآتي بحضرة صحبه
…
ليشكو تكليف المشقة راغيا
وقصته في المحل لمّا دعا لهم
…
فأبصرت سحبا كالجبال هواميا
وسال به وادي قناة لأجله
…
ثلاثين يوما لم يزل متواليا
وفي قصة الزوراء للخلق آية
…
وذكرى لعبد كان للذكر ناسيا
دعا بإناء ليس ينقع مائه
…
لقتلته بالرى من كان صاديا
ففاض نمير الماء من بين بنانه
…
وكان ضوءا للكتيبة كافيا
وكونه يوم الحديبية التي
…
أفاض بها الله البنان سواقيا
وإشباعهم الجم الغفير بقبضة
…
من التمر حتى شاهدوا التمر باقيا
وإخباره بالشيء من قبل كونه
…
فيأتي على النص الذي قال حاكيا
فأخبره ذا النورين أن ستصيبه
…
على الأمر بلوى تعقب الأجر وافيا
وأخبر عمارا بأن حياته
…
سيقطعها بالبغي من كان باغيا
وقال لذي السبطين أشقى الورى الذي
…
سيخضبها من هامة الرأس عاصيا
يصادف نور الشيب أبيض ناصعا
…
فيسقسه صوب الحتف أحمر قانيا
ونص على السبط الشهيد بكر بلا
…
فقام له الدين الحنيفي ناعيا
وفي الحسن الزاكي أبان بأنه
…
سيصلح بين الناس للأجر ناويا
وقال لقوم إن آخركم بها
…
مماتا سيصلى جاحم الجمر حاميا
وقال إذا ما مات كسرى فما ترى
…
سميا له أخرى الليالي مساميا
وأخبر عن موت النجاشي حينه
…
وبينهما بحر من الموج طاميا
وقال على قرب الحمام لبنته
…
تموتين بعدي فافرحي بلقائيا
وآياته جلت من العد كثرة
…
فما تبلغ الأقوال منها تناهيا
وأعظمها الوحي الذي خصه به
…
فبلغ عنه آمرا فيه ناهيا
تحدى به أهل البين بأسرهم
…
فكلهم ألفاه بالعجز وانيا
وجاء به وحيا صريحا يزيده
…
مرور الليالي جدة وتعاليا
تضم أحكام الوجود بأسرها
…
وحكم القضاء مثبتا فيه نافيا
وأخبر عما كان أو هو كائن
…
يرى ماضيا أو ما يرى بعد آتيا
ووافق أخبار النبيين كلهم
…
وتمم بالغابات منها المباديا
وما كتبت يمناه قط صحيفة
…
ولا رئ يوما للصحائف تاليا
عليه السلام الله زال رائحا
…
عليه مدى الأيام منا وغاديا
ولتكن هذه القصيدة الفريدة النبوية آخر ما أوردناه في روضة الورد فقد طال الكلام واتسع وكثر السرد على أنَّ ما تركناه أكثر مما جلبناه وقد انثالت علينا أشغال شاغلة من خطوب الدهر والله يبلغنا من رضوانه ما طلبناه.
ونسأل الله تعالى حسن الختام وأن يدفع عن قلوبنا القتام بجاه سيدنا ومولانا محمّد المصطفى خير الأنام صلى الله عليه وسلم الذي جعلنا مديحه مسك الختام.