المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العنصر السادس: أدعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية والمداهنة فيها: - أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنه منها

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌العنصر السادس: أدعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية والمداهنة فيها:

‌العنصر السادس: أدعى أهل التحريف والتعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية والمداهنة فيها:

هذا دعوى تلبيس، وتشكيك، وقد نشرت في الصحف نشرها من نشرها وقال: أنتم يا أهل السنة تشنعون علينا تقولون أنتم تأولون، وأنتم يا أهل السنة قد أولتم فما بالكم تشنعون علينا بالتأويل وأنتم تسلكونه؟!

حقيقة إن هذه الحجة حجة قوية إذا ثبتت لأنه لا يحق لأي إنسان أن يتحكم فيما يمكن تأويله أو يجب وفيما لا يمكن،

ولكن أهل السنة والجماعة يقولون هذه دعوى تلبيس، وتشكيك فإننا لسنا على هذه الطريقة وأنتم رميتمونا بذلك إما لإلزامنا أن نسكت عن تحريفكم ونداهن،

ولكنا بعون الله لن نسكت على ما نرمى به ونحن منه بريئون.

وهذا التأويل الذي ادعاه بعض أهل التأويل ورمي به أهل السنة والجماعة لنا عنه جوابان.

ص: 33

إذن: الرسول عليه الصلاة والسلام عبد عابد لله عز وجل وليس له من شئون الربوبية شيء هذا هو قول أهل السنة والجماعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعتقد أهل السنة والجماعة أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر تجوز عليه كل الخصائص البشرية والجسدية فينام ويأكل ويشرب ويمرض ويتألم ويحزن ويرضى ويغضب عليه الصلاة والسلام ويموت كما يموت الناس {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، [30] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر]

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران: 144]

ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ميتة جسدية فارقت روحه جسده فيها وقام أهله وأصحابه بما يقومون به في غيره من شئون الموتى سوى أنه عليه الصلاة والسلام لم يجرد عند تغسيله والمعروف أنه لم يصل عليه جماعة إنما كان الناس يصلون عليه أفرادا لأنه الإمام عليه الصلاة والسلام.

ص: 34

ومن زعم أنه حي في قبره حياة جسدية لا حياة برزخية وأنه يصلي ويصوم ويحج وأنه يعلم ما تقوله الأمة وتفعله فإنه قد قال قولا بلا علم.

فالرسول عليه الصلاة والسلام انقطع عمله بموته كما قال هو نفسه "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"1.

فعمله الذي يعمله بنفسه انقطع بموته.

ولكن ولا شك أن كل علم علمناه من شريعة الله فإنه بواسطته عليه الصلاة والسلام وحينئذ فيكون منتفعا من كل هذه العلوم التي علمناها بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الأعمال الصالحة التي نعملها كانت بدلالته صلى الله عليه وسلم فيكون له مثل أجر العاملين.

1 أخرجه مسلم رقم 1631.

ص: 35

ونحن نضرب لذلك بعض الأمثلة لا كل الأمثلة لأننا لو تتبعنا الأمثلة كلها التي قيل إن أهل السنة والجماعة صرفوها عن ظاهرها لطال بنا الكلام لكننا نذكر عدة أمثلة فقط:

المثال الأول: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قول الله – عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] .

فقلتم إن معنى الاستواء هنا "القصد والإرادة"،وقلتم: إن معنى الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} [الأعراف: 54] ."العلو والارتفاع".

وما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصين لا يمكن أن تخرجوا عنه ومعلوم أن "استوى على كذا" معناها القصد.

إذن أخرجتم كلمة "استوى" عن ظاهرها.

وجوابنا على ذلك أن نقول: "استوى" كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلاً: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} معناها العلو على وجه يليق بجلاله، ولا يشبه استواء المخلوق على المخلوق.

ص: 36

{اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} اختلف الحرف فكان "إلى"، و"إلى للغاية، وليست للعلو، ومعلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل متضمن معنى يدل على الغاية هو القدرة والإرادة، وإلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا:{اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي قصد إلى السماء، والقصد إذا كان تاماً يعبر عنه بالاستواء، لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] .

وجواب آخر أن نقول: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} بمعنى ارتفع.

قال البغوي: وهو مروي عن ابن عباس وأكثر المفسرين.

ولكن هذا يجب أن لا نظن أن الله – سبحانه وتعالى – قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض، بل إنه – سبحانه وتعالى – لم يزل، ولا يزال عالياً، لأن العلو صفة ذاتية ولكن الاستواء هنا وإن كان بمعنى الارتفاع، إلا أننا لا نعلم كيفيته وهذا جواب آخر عن الآية.

والخلاصة الآن أننا إذا فسرنا {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} بمعنى قصد إليها على وجه الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ.

ص: 37

كذلك أيضا أهل السنة والجماعة يقولون: إن بعض الصحابة له مزية ليست لغيرهم فيجب أن ننزلهم في منازلهم.

فإذا كان الصحابي من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام كعلي بن أبي طالب وحمزة والعباس وابن عباس وغيرهم فإننا نحبه أكثر من غيره من حيث قربه من الرسول عليه الصلاة والسلام لا على سبيل الإطلاق.

فنعرف له حقه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهه لا يلزم من ذلك أن نفضله على غيره تفضيلا مطلقا ممن له قدم راسخ في الإسلام أكثر من هذا القريب من الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المراتب والفضائل هي صفات يتميز الإنسان بصفة منها لا يتميز بها الآخر.

وأهل السنة والجماعة في آل البيت لا يغلون غلو الروافض ولا ينصبون العداوة لهم نصب النواصب ولكنهم وسط بين طرفين يعرفون لهم حقهم بقرابتهم من الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنهم لا يتجاوزون بهم منزلتهم.

ص: 38

خامسا: طريقة أهل السنة والجماعة في حق الأولياء والأئمة:

أئمة هذه الشريعة الإسلامية ولله الحمد أئمة مشهورون أثنت عليهم الأمة وعرفت لهم قدرهم ولكنها لا تعتقد فيهم العصمة فليس عند أهل السنة والجماعة أحد معصوم من الخطأ ولا من الإقرار على الخطأ إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه معصوم من الإقرار على الخطأ أما غيره مهما بلغت إمامته فإنه ليس معصوما أبدا كل يخطئ وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله تعالى بطاعته على الإطلاق.

فهم يقولون: لا شك أن في هذه الأمة أئمة ولا شك أن فيها أولياء ولكننا لا نريد بذلك أن نثبت العصمة لأحد من هؤلاء الأئمة ولا أن نثبت لأحد من الأولياء أنه يعلم الغيب أو يتصرف في الكون وهم أيضا لا يجعلون الولي من قال عن نفسه أنه ولي أو أتى بالدعايات الباطلة لأجل أن يجلب الناس إليه يقولون: إن الولي بينه الله تعالى بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]

ص: 39

المثال الثالث: قال أهل التأويل أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم} [الواقعة: 85] إلى أن المراد: أقرب بملائكتنا وهذا تأويل لأنا لو أخذنا بظاهر اللفظ لكان الضمير "نحن" يعود إلى الله وأقرب خبر المبتدأ وفيه ضمير مستتر يعود على الله فيكون القرب لله عز وجل ومعلوم أنكم أهل السنة لا تقولون بذلك ولا تقولون: إن الله يقرب من المحتضر بذاته حتى يكون في مكانه لأن هذا أمر لا يمكن أن يكون إذ إنه قول أهل الحلول الذين ينكرون علو الله عز وجل ويقولون إنه بذاته في كل مكان وأنتم تنكرون ذلك أشد الإنكار.

إذن ماذا تقولون أنتم يا أهل السنة ألستم تقولون نحن أقرب إليه - أي إلى المحتضر - بملائكتنا أي تحضر إلى الميت وتقبض روحه هذا تأويل.

قلنا: الجواب على ذلك سهل ولله الحمد فإن الذي يحضر الميت هم الملائكة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] . {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم} [الأنعام: 93] .

ص: 40

فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة، وأيضاً في نفس الآية ما يدل على أنه ليس المراد قرب الله – سبحانه وتعالى – نفسه فإنه قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] . فهذا يدل على أن هذا القريب الحاضر، لكن لا نبصره، وكذلك لأنك الملائكة عالم غيبي الأصل فيهم الخفاء وعدم الرؤية.

وعلى هذا فنحن لم نخرج بالآية عن ظاهرها لوجود لفظٍ فيها يعين المراد، ونحن على العين والرأس، والقلب نقبل كل شيء كان بدليل من كتاب الله، ومن سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

المثال الرابع: قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] . فقلتم: وهو معكم بعلمه، وهذا تأويل فإن الله تعالى يقول:{وَهُوَ مَعَكُم} [الحديد: 4] . والضمير في قوله: {وَهُوَ مَعَكُم} يعود إلى الله.

فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص وقلتم: إنه معكم بالعلم. فإذا كيف تنكرون علينا التأويل؟

قلنا: نحن لم نؤول الآية، بل إنما فسرناها بلازمها وهو: العلم، وذلك لأن قوله {وَهُوَ مَعَكُم} . لا يمكن لأي إنسان

ص: 41

يعرف قدر الله عز وجل ويعرف عظمته، أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم، فإن هذا أمر مستحيل، كيف يكون الله معك في البيت ومع الآخر في المسجد، ومع الثالث في الطريق، ومع الرابع في البر، ومع الخامس في الجو، ومع السادس في البحر: إلخ؟! لو قلنا بهذا فكم إلها يكون لو قلنا بهذا لزم أن يكون الله إما متعدداً، أو متجزئاً – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وهذا أمر لا يمكن.

ولهذا نقول: من فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك، وكافر إذا بلغه العلم وأصر على قوله، ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم، فإنه بلا شك كاذب عليهم.

إذن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته وأنه مع خلقه كما قال في كتابه، ولكن مع إيماننا بعلوه.

ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علماً، وقدرة، وسلطاناً، وسمعا، وبصراً، وتدبيراً وغير

ص: 42

ذلك من معاني الربوبية إما أن يكون حالاً في أمكنتهم، أو مختلطاً بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد، فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة وعلى هذا فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها، لأن الذي قال عن نفسه {وَهُوَ مَعَكُم} [الحديد: 4] هو الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] . وهو الذي قال عن نفسه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] .

إذن فهو فوق عباده، ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم، ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علماً وقدرة، وسلطاناً، وتدبيراً وغير ذلك.

وإذا أضيفت المعية إلى من يستحق النصر من الرسل وأتباعهم اقتضت معم الإحاطة علماً وقدرة، اقتضت نصراً وتأييداً، فنحن ولله الحمد ما خرجنا بهذا اللفظ عن ظاهره حتى يلزمونا بذلك.

وقد بين شيخ الإسلام – رحمه الله – في كتبه المختصرة والمطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة وبين علو الله سبحانه وتعالى.

ص: 43

قال: لأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، في جميع صفاته فهو على في دنوه قريب في علوه".

وقال: "إن الناس يقولون ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر في السماء، وهم يقولون معنا فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى".

والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا أبداً ولا نقول إن ظاهر الآية هو ما فهمتموه وأننا صرفناه عن ظاهرها، بل نقول: إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقة، معية تليق به، محيط بهم علماً وقدرة، وسلطاناً، وتدبيراً، وغير ذلك لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص العلو إلى على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضاً.

المثال الخامس: قال أهل التأويل: إنه ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: قال الله تعالى: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبه إلا مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"1.

1 أخرجه البخاري رقم 6502.

ص: 44

وأنتم يا أهل السنة هل تقولون أن الله يكون سمع، وبصر، ويد، ورجل من يحبه حقيقة؟ إن لم تقولوا بذلك فقد صرفتم الحديث عن ظاهره، لأن الله يقول:"كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"

وجوابنا: أنه لا أحد يفهم أن ظاهر الحديث هو هذا أي أن الله يكون سمع الإنسان وبصره، ورجله، ويده حقيقة، لا أحد يفهم هذا، إلا من كان بليد الفهم، أو مظلم القلب بالتقليد أو بالدعوة الباطلة.

فالحديث لا يدل على أن حقيقة سمع الإنسان، بصره، ورجله، ويده هو الله عز وجل، وحاشاه عز وجل عن ذلك، لا يدل على هذا بأي وجه من الوجوه.

اقرأ الحديث: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب". "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبه إلا مما افترضته عليه". فأثبت عابداً ومعبوداً، ومتقرباً ومتقرباً إليه، "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" فأثبت محباً ومحبوباً، "ولئن سألني لأعطينه" فأثبت سائلاً ومسئولاً، ومعطي ومعطى "ولئن استعاذني لأعيذنه" فأثبت مستعيذاً ومستعاذاً به، ومن المعلوم أن كل واحد من هذين هو غير الآخر بلا ريب.

ص: 45

إذا تقرر هذا فكيف يمكن أن يفهم أحد من قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: "كنت سمعه" إن الله سيكون جزءاً في هذا المخلوق الذي يتقرب إليه، والذي يستعيذ به، والذي يسأله، هذا لا يمكن أحداً أن يفهمه أحداً من سياق الحديث، وبهذا يكون معنى الحديث وظاهر الحديث وحقيقة الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يسدد هذا الإنسان في سمعه، وبصره، وسعيه، فلا يسمع إلا بالله، ولله، وفي الله، ولا ينظر إلا لله، وبالله، وفي الله ولا يبطش إلا لله، وبالله، ولا يمشي إلا لله، وبالله، وفي الله، هذا هو معنى الحديث، وحقيقته وظاهره، وليس فيه ولله الحمد أي شيء من التأويل.

المثال السادس: قال أهل التأويل: إنكم يا أهل السنة أولتم قول الرسول، صلى الله عليه وسلم:"إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن"1. حيث قلتم: إن المراد أن الله سبحانه وتعالى متصرف في القلوب، ولا يمكن أن تكون القلوب بين أصبعين من أصابع اليد فإن هذا يقتضي الحلول وأن أصابع الله خالة في صدر كل إنسان.

1 أخرجه مسلم رقم 2654.

ص: 46

قلنا: هذا كذب على السلف والسلف ما أولوا هذا التأويل، ولا قالوا إن الحديث كناية عن سلطان الله تعالى، وتصرفه في القلوب بل قالوا: نثبت أن لله تعالى أصابع وأن كل قلب من بني آدم فهو بين أصبعين من أصابعه على وجه الحقيقة، ولا يلزم من ذلك الحلول أبداً، فإن البينية بين شيئين لا يلزم منها المماسة والمباشرة، أرأيتم قول الله تعالى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] .

فهل يلزم من ذلك التعبير أن يكون السحاب لاصقاً بالسماء والأرض؟! لا يمكن.

فقلوب بني آدم كلها، كما قال نبينا، صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بالله:"بين أصبعين من أصابع الرحمن" ولا يلزم من ذلك أن يكون مماساً لهذه القلوب بل نقول كما قال نبينا، ونقول ها على وجه الحقيقة ليس فيه تأويل.

ونثبت مع ذلك أيضاً أن الله تعالى يتصرف في هذه القلوب كما يشاء كما جاء في الحديث ونقول: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.

ص: 47

المثال السابع والأخير: فهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض1.

قال أهل التأويل: إنكم تؤولون هذا الحديث، لأنكم لا يمكن أن تقولوا إن الحجر هو يد الله.

ونقول هذا حق، لا يمكن لأحد أن يقول عن الحجر الأسود هو يد الله عز وجل.

ولكن قبل أن نجيب على هذا نقول: إن هذا الحديث باطل ولا يثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

قال ابن العربي: إنه حديث باطل.

وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": إنه حديث لا يصح.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – "روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بإسناد لا يثبت".

وعلى هذا فإنه ليس وارداً على أهل السنة والجماعة لأنه لا يصح عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

ولكن قال شيخ الإسلام: إنه مشهور عن ابن عباس.

1 انظر/ السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني رحمه الله 1/391.

ص: 48

ولكنه مع ذلك لا يعطي المعنى الذي قاله هؤلاء، وأن الحجر الأسود يمين الله، لأنه قال:"يمين الله في الأرض فقيده"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – والكلام إذا قيد ليس كالكلام المطلق.

ما قال: يمين الله وسكت. قال: في الأرض. ومعلوم أن يمين الله ليست في الأرض، كذلك أيضاً قال في نفس الحديث كما رواه شيخ الإسلام ابن تيمية:"فمن صافحه فكأنما صافح الله"، والتشبيه يدل على أن المشبه به ليس هو المشبه، وإنما هو غيره.

وخلاصة القول: إن أهل السنة والجماعة – ولله الحمد – لا يمكن أن يخرجوا الكلام عن ظاهره، لأن ظاهر الكلام وحقيقته ما دل عليه سياقه وهو مختلف بحسب السياق، وبحسب الأحوال فإن لم يكن ذلك وأبي إنسان إلا أن يجعل معنى الكلمة معنى ذاتياً لها فإننا نقول لا يمكن لأهل السنة والجماعة أن يتركوا هذا المعنى الذي ادعى أنه ذاتي لها إلا بدليل من الكتاب والسنة ومتى دل الكتاب والسنة على شيء وجب القول به سواء وافق ما يقال إنه ظاهر اللفظ، أو

ص: 49

خالفه، ونحن كلنا نلتمس ما قاله الله عن نفسه، وما قاله عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم، ويدلكم لهذا ما ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول:"عبدي جعت فلم تطعمني، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول كيف أطعمك وأنت رب العالمين، كيف أعودك وأنت رب العالمين، فيقول الله عز وجل: أما علمت أن عبدي فلان جاع فلم تطعمه مرض فلم تعده"1.

هذا الحديث يدلنا دلالة ظاهرة على أن ما جاء في الكتاب والسنة ما أضافه إلى نفسه فهو حق على ظاهره، ما لم يرد عن الله ورسوله صرفه عن ذلك، فإن ورد صرفه عن ظاهره فإننا آخذون به، وهذا الحديث الأخير دليل واضح على منع التأويل الذي ليس له دليل من الكتاب والسنة

ولعلنا نقتصر على هذا خوفاً من التطويل،

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد

وعلى آله وأصحابه أجمعين.

1 أخرجه مسلم رقم 2569.

ص: 50