المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[القسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين وتسمى حدود الله] - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - ط الأوقاف السعودية

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌[القسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين وتسمى حدود الله]

[فصل الحكم بين الناس]

[القسم الْأَوَّلُ الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وتسمى حدود الله]

فصل وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58](سورة النساء: من الآية 58) . فَإِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، وَهُمَا قِسْمَانِ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ؛ بَلْ مَنْفَعَتُهَا لِمُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَوْعٍ مِنْهُمْ. وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا. وَتُسَمَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَحُقُوقَ اللَّهِ: مِثْلَ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالسُّرَّاقِ، وَالزُّنَاةِ وَنَحْوِهِمْ، وَمِثْلَ الْحُكْمِ في الأموال السُّلْطَانِيَّةِ، وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا الَّتِي لَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ. فَهَذِهِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إمَارَةٍ: بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا. فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ؛ فَقَالَ: يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ، وَتَأْمَنُ بِهَا السُّبُلُ، وَيُجَاهَدُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَإِقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ تُقَامُ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ: هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِمَالِهِ؛ عَلَى قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لكنهم متفقون عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بالحد، وَقَدْ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَالِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى الشَّرِيفِ، وَالْوَضِيعِ، وَالضَّعِيفِ، وَلَا يَحِلُّ تَعْطِيلُهُ؛ لَا بِشَفَاعَةٍ، وَلَا بِهَدِيَّةٍ، وَلَا بِغَيْرِهِمَا، وَلَا تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فِيهِ. وَمَنْ

ص: 51

عَطَّلَهُ لِذَلِكَ -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَتِهِ- فَعَلَيْهِ لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَهُوَ ممن اشترى؛ بآيات الله ثمنا قليلاً. وروى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ. وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ. وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ دَيِّنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل الناري» . فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكماء وَالشُّهَدَاءَ وَالْخُصَمَاءَ، وَهَؤُلَاءِ أَرْكَانُ الْحُكْمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:«إنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زيد. فقال: يَا أُسَامَةُ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ أَشْرَفَ بَيْتٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَطْنَانِ: بَنُو مَخْزُومٍ، وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا -الَّتِي هِيَ جُحُودُ العارية، على قول بعض العلماء، أو سرقة أخرى غيرها عَلَى قَوْلِ آخَرِينَ- وَكَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِلِ، وَأَشْرَفِ الْبُيُوتِ، وَشَفَعَ فِيهَا حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةُ، غَضِبَ رَسُولُ، صلى الله عليه وسلم، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ دُخُولَهُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثْلَ بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ -وَقَدْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ- فَقَالَ: " لَوْ أَنَّ فاطمة بنت محمد

ص: 52

وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُطِعَتْ يَدُهَا تَابَتْ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَقْضِي حَاجَتَهَا» . فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ السَّارِقَ إذَا تَابَ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى النَّارِ» . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّ جَمَاعَةً أَمْسَكُوا لِصًّا لِيَرْفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه فَتَلَقَّاهُمْ الزُّبَيْرُ فَشَفَعَ فِيهِ فَقَالُوا: إذَا رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ فَاشْفَعْ فِيهِ عِنْدَهُ فَقَالَ: " إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ ". يَعْنِي الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ. «وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ نَائِمًا عَلَى رِدَاءٍ لَهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ لِصٌّ فَسَرَقَهُ، فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْلَى رِدَائِي تُقْطَعُ يَدُهُ؟ أَنَا أَهَبُهُ لَهُ. فَقَالَ: " فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ ! " ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، يَعْنِي صلى الله عليه وسلم أَنَّكَ لَوْ عَفَوْتُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ لَكَانَ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ رفع إلي فلا. فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَدِّ، لَا بِعَفْوٍ، وَلَا بِشَفَاعَةٍ، وَلَا بِهِبَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا اتفق العلماء -فيما أعلم- على أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَاللِّصَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا رُفِعُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ثُمَّ تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُمْ؛ بَلْ تَجِبُ إقَامَتُهُ وإن تابوا فإن كَانُوا صَادِقِينَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ الْحَدُّ كَفَّارَةً لهم، وكان تمكينهم من ذلك من تَمَامُ التَّوْبَةِ -بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا، والتمكين مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَأَصْلُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85](سورة النساء: الآية 85) . فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى يصير مَعَهُ شَفْعًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا، فَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، كَانَتْ

ص: 53

شَفَاعَةً حَسَنَةً، وَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ، كَانَتْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً. وَالْبِرُّ مَا أُمِرْتَ بِهِ، والإِثم مَا نُهِيتَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34](سورة المائدة: الآيتان 33، 34) . فَاسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، فَالتَّائِبُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَاقٍ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِلْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ، وَالتَّعْلِيلِ. هَذَا إذَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِقْرَارٍ، وَجَاءَ مُقِرًّا بِالذَّنْبِ تَائِبًا: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ بَلْ إنْ طَلَبَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ، وَإِنْ ذَهَبَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدٌّ. وَعَلَى هَذَا حَمْلُ حَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا قَالَ:" فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ " وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ " أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ " مَعَ آثَارٍ أُخَرَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عبد الله بن عمرو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي من حد فقد وجب» . وفي سن النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» . وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِنَقْصِ الرِّزْقِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ والسنَّة، فَإِذَا أُقِيمَتْ الْحُدُودُ، ظَهَرَتْ طَاعَةُ اللَّهِ، وَنَقَصَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى،

ص: 54

فَحَصَلَ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الزَّانِي أَوْ السَّارِقِ أَوْ الشَّارِبِ أَوْ قاطع الطريق ونحوهم مَالٌ تُعَطَّلُ بِهِ الْحُدُودُ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ سُحْتٌ خَبِيثٌ، وَإِذَا فَعَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جَمَعَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) : تَعْطِيلُ الْحَدِّ، و (الثاني) : أَكْلُ السُّحْتِ. فَتَرَكَ الْوَاجِبَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ. قَالَ الله تَعَالَى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63](سورة المائدة: الآية 63) . وقال الله تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42](سورة المائدة: من الآية 42) . لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشْوَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْبِرْطِيلَ، وَتُسَمَّى أَحْيَانًا الْهَدِيَّةَ وَغَيْرَهَا. وَمَتَى أَكَلَ السُّحْتَ وَلِيُّ الْأَمْرِ احْتَاجَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ والمرتشي والرائش -الواسطة- الذي بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ صَاحِبُهُ -وَكَانَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بكتاب الله، وائذن لي، فقال: قل. فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أَهْلِ هَذَا -يَعْنِي أَجِيرًا- فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بمائة شاة وخادم. وإني سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتخريب عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ: " والذي نفسي بيده، لأفضي! ن بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ. وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَاسْأَلْهَا، فَإِنْ اعترفت

ص: 55

فَارْجُمْهَا ". فَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ عَنْ الْمُذْنِبِ هَذَا الْمَالَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ. وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَدِّ بِمَالٍ يُؤْخَذُ، أَوْ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الزَّانِي، وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ، وَالْمُحَارِبِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ونحو ذلك لتعطيل الحد، ممال سحت خبيث. وكثير مِمَّا يُوجِدُ مِنْ فَسَادِ أُمُورِ النَّاسِ، إنَّمَا هو لتعطيل الْحَدِّ بِمَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ: مِنْ الْأَعْرَابِ، وَالتُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَقَيْسٍ، وَيَمَنٍ، وَأَهْلِ الْحَاضِرَةِ مِنْ رُؤَسَاءِ الناس وأغنيائهم وَفُقَرَائِهِمْ، وَأُمَرَاءِ النَّاسِ وَمُقَدَّمَيْهِمْ وَجُنْدِهِمْ، وَهُوَ سَبَبُ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْمُتَوَلِّي، وَسُقُوطِ قَدْرِهِ مِنْ الْقُلُوبِ، وَانْحِلَالِ أَمْرِهِ، فَإِذَا ارْتَشَى وَتَبَرْطَلَ عَلَى تَعْطِيلِ حَدٍّ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ حَدًّا آخَرَ، وَصَارَ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ الْمَلْعُونِينَ، وَأَصْلُ الْبِرْطِيلِ هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ، سُمِّيَتْ بِهِ الرِّشْوَةُ، لِأَنَّهَا تَلْقُمُ الْمُرْتَشِيَ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ كَمَا يُلْقِمُهُ الْحَجَرُ الطَّوِيلُ، كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " إذَا دَخَلَتْ الرِّشْوَةُ مِنْ الْبَابِ، خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ من الكوة، وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك، مثل هذا السُّحْتِ الَّذِي يُسَمَّى التَّأْدِيبَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْرَابَ الْمُفْسِدِينَ أَخَذُوا لِبَعْضِ النَّاسِ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقَادُوا إلَيْهِ خَيْلًا يُقَدِّمُونَهَا لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَيْفَ يَقْوَى طَمَعُهُمْ فِي الْفَسَادِ، وَتَنْكَسِرُ حُرْمَةُ الْوِلَايَةِ وَالسَّلْطَنَةِ، وَتَفْسُدُ الرعية؟ ؟ !

ص: 56

وَكَذَلِكَ الْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا أخذ فدفع بعض مَالَهُ: كَيْفَ يَطْمَعُ الْخَمَّارُونَ، فَيَرْجُونَ إذَا أَمْسَكُوا أن يفتدوا ببعض أموالهم، فيأخذها ذلك الوالي سحتاً، لا يبارك فيها، والفساد قائم. وكذلك ذوو الجاه، إذا حموا أَحَدًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، مِثْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ جَرِيمَةً، ثُمَّ يَأْوِي إلَى قرية نائب السلطان أو أميره فَيُحْمَى عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ، مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» فَكُلُّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحْدِثِينَ، فَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ:«إنَّ مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ» . فَكَيْفَ بِمَنْ مَنَعَ الْحُدُودَ بِقُدْرَتِهِ وَيَدِهِ، وَاعْتَاضَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ بِسُحْتٍ. مِنْ الْمَالِ يَأْخُذُهُ، لَا سِيَّمَا الْحُدُودَ عَلَى سُكَّانِ الْبَرِّ؛ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ فَسَادِهِمْ حِمَايَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِجَاهٍ أَوْ مَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِلْوَالِي: سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، فَذَلِكَ جَمِيعُهُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِثْلُ تَضْمِينِ الْحَانَاتِ وَالْخَمْرِ، فَإِنَّ مَنْ مَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَعَانَ أَحَدًا عَلَيْهِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ جِنْسٍ واحد. والمال المأخوذ على هذا يشبه مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَهْرِ الْبَغْيِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَأُجْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْحَرَامِ: الَّذِي يُسَمَّى الْقَوَّادَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغْيِ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَمَهْرُ الْبَغْيِ الَّذِي يُسَمَّى حُدُورَ الْقِحَابِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا يعطاه الخنثون الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَمَالِيكِ أَوْ الْأَحْرَارِ عَلَى الْفُجُورِ بهم، وحلوان

ص: 57

الْكَاهِنِ: مِثْلُ حَلَاوَةِ الْمُنَجِّمِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُبَشِّرَةِ بِزَعْمِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا تَرَكَ إنْكَارَ الْمُنْكَرَاتِ وإقامة الحدود عليهما بِمَالٍ يَأْخُذُهُ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ، الَّذِي يُقَاسِمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْأَخِيذَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْقَوَّادِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى فَاحِشَةٍ، وَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ، الَّتِي كَانَتْ تَدُلُّ الْفُجَّارَ عَلَى ضَيْفِهِ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83](سورة الأعراف: الآية 83) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81](سورة هود: من الآية 18) . فَعَذَّبَ اللَّهُ عَجُوزَ السُّوءِ الْقَوَّادَةَ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَ قَوْمَ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ أَخْذُ مَالٍ لِلْإِعَانَةِ على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نُصِبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ. فَإِذَا كَانَ الْوَالِي يُمَكِّنُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ، كَانَ قَدْ أَتَى بضد المقصود، مثل مَنْ نَصَّبْتَهُ لِيُعِينَكَ عَلَى عَدُوِّكَ، فَأَعَانَ عَدُوَّكَ عَلَيْكَ. وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَالًا لِيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتَلَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْعِبَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَبِهِ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110](سورة أل عمران: من الآية 110) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104](سورة آل عمران: من الآية 104) .

ص: 58

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71](سورة التوبة: من الآية 71) . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79](سورة المائدة: الآية 79) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165](سورة الأعراف: الآية 165) . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ لَمَّا نَزَلَ نَجَّى الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ، وَأَخَذَ الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه «خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا في غَيْرِ مَوْضِعِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ من عنده» . وفي حديث آخر: «إن المعصية إذا خفيت لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فلم تنكر ضرت الْعَامَّةَ» . وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ في حدود الله وحقوقه: مقصوده الْأَكْبَرِ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ: مِثْلُ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، والصدق، وَالْأَمَانَةِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ، وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ التَّارِكُونَ طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يُقَاتَلُونَ عَلَى ترك الزكاة، والصيام، وغيرهما، وعلى استحلال

ص: 59

الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الإِسلام الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يَجِبُ جِهَادُهَا، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ التَّارِكُ لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى، وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَاسِقًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَافِرًا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا، أَمَّا إذَا جَحَدَ وُجُوبَهَا، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ من جحد سائر الواجبات المذكورات والمحرمات التي يجب القتال عليها. فالعقوبة على ترك الواجبات، وفعل المحرمات، هي مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ على الأمة بالاتفاق، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ. . . «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَوْ لَا تُطِيقُهُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ؟ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ، وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . وقال الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15](سورة الحجرات: الآية 15) .

ص: 60