الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[عقوبة المحاربين]
فصل ومن ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ: الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ الناس بالسلاح فِي الطُّرُقَاتِ وَنَحْوِهَا، لِيَغْصِبُوهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً: مِنْ الْأَعْرَابِ، وَالتُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَفَسَقَةِ الْجُنْدِ، أَوْ مَرَدَةِ الْحَاضِرَةِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33](سورة المائدة: الآية 33) . وقد روى الشافعي رحمه الله في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ- " إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا مِنْ الْأَرْضِ ". وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمْ، فَيَقْتُلَ مَنْ رَأَى قَتْلَهُ مَصْلَحَةً، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْتُلْ: مِثْلَ أَنْ يكون رئيسا مطاعاً فيهم، وَيَقْطَعَ مَنْ رَأَى قَطْعَهُ مَصْلَحَةً؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ فِي أَخْذِ الْمَالِ. كَمَا أَنَّ منهم من درى أنهم إذَا أَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَقُطِعُوا وَصُلِبُوا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ قَدْ قَتَلَ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ الإِمام حَدًّا، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بِحَالٍ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. ذَكَرَهُ ابْنُ المنذر، ولا
يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا دَمُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، إنْ أَحَبُّوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ. وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ فَإِنَّمَا يُقْتَلُونَ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَضَرَرُهُمْ عَامٌّ؛ بمنزلة السراق، فكان قتلهم حداً لله. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مُكَافِئِ لِلْقَاتِلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، أَوْ الْقَاتِلُ مسلماً، والمقتول ذمياً أر مُسْتَأْمَنًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُقْتَلُ فِي الْمُحَارَبَةِ؛ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يُقْتَلُ: لِأَنَّهُ قُتِلَ لِلْفَسَادِ الْعَامِّ حَدًّا، كَمَا يُقْطَعُ إذَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَمَا يُحْبَسُ بِحُقُوقِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُحَارِبُونَ الْحَرَامِيَّةُ جَمَاعَةً، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَاقُونَ لَهُ أَعْوَانٌ وَرِدْءٌ لَهُ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ فَقَطْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يُقْتَلُونَ، وَلَوْ كَانُوا مِائَةً، وَأَنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ، وَالرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى مَكَان عَالٍ، يَنْظُرُ مِنْهُ لَهُمْ من يجيء. ولأن المباشر إنما تمكن مِنْ قَتْلِهِ بِقُوَّةِ الرِّدْءِ وَمَعُونَتِهِ. وَالطَّائِفَةُ إذَا انْتَصَرَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى صَارُوا مُمْتَنِعِينَ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، كَالْمُجَاهِدِينَ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى من سواهم، يرد متسريهم على قعدهم» يعني أن جيش المسالمين إذَا تَسَرَّتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ فَغَنِمَتْ مَالًا، فَإِنَّ الْجَيْشَ يُشَارِكُهَا فِيمَا غَنِمَتْ، لِأَنَّهَا بِظَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ تمكنت؛ لكن تنفل
عنها نَفْلًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ إذَا كَانُوا فِي بِدَايَتِهِمْ الربع بعد الخمس، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بَعْدَ الْخُمُسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَنِمَ الْجَيْشُ غَنِيمَةً شَارَكَتْهُ السَّرِيَّةُ، لِأَنَّهَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُمَا في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة، وَأَنْصَارُهَا مِنْهَا، فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَهَكَذَا الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى بَاطِلٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ؛ مِثْلُ الْمُقْتَتِلِينَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؛ كَقَيْسٍ وَيَمَنٍ وَنَحْوِهِمَا؛ هُمَا ظَالِمَتَانِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في الصحيحين. ولضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ القاتل؛ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد، وفي ذلك قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178](سورة البقرة: من الآية 178) . وَأَمَّا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ فَقَطْ، وَلَمْ يَقْتُلُوا -كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ كَثِيرًا- فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة، وأحمد، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] (سورة المائدة: من الآية 33) . تُقْطَعُ الْيَدُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَالرِّجْلُ الَّتِي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَنَحْوِهِ؛ لِيَنْحَسِمَ الدَّمُ فَلَا يَخْرُجُ فَيُفْضِي إلَى تَلَفِهِ، وَكَذَلِكَ تُحْسَمُ يَدُ السَّارِقِ بالزيت. وهذا الفعل قد يَكُونُ أَزَجَرَ مِنْ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْأَعْرَابَ، وَفَسَقَةَ الْجُنْدِ وَغَيْرَهُمْ إذَا رَأَوْا دَائِمًا مَنْ هُوَ بَيْنَهُمْ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، ذَكَرُوا بِذَلِكَ جُرْمَهُ
فَارْتَدَعُوا؛ بِخِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُنْسَى؛ وَقَدْ يُؤْثِرُ بَعْضُ النُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ قَتْلَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ، فَيَكُونُ هَذَا أَشَدَّ تَنْكِيلًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا، ثُمَّ أغمدوه، أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل: نَفْيُهُمْ تَشْرِيدُهُمْ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَرَاهُ الإمام أصلح من ففي أو حسي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ: هُوَ ضَرْبُ الرقبة بالكف ونحوه، لأن ذلك أروح أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ قَتْلَ مَا يُبَاحُ قَتْلُهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، إذَا قُدِرَ عليه على هذا الوجه. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحسان عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وليحد أحد كم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ:«إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ» . وَأَمَّا الصَّلْبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ رَفْعُهُمْ عَلَى مَكَان عَالٍ لِيَرَاهُمْ النَّاسُ، وَيَشْتَهِرَ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ بَعْدَ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُصْلَبُونَ ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَهُمْ مُصَلَّبُونَ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَتْلَهُمْ بِغَيْرِ السَّيْفِ، حَتَّى قَالَ: يُتْرَكُونَ عَلَى الْمَكَانِ الْعَالِي، حَتَّى يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ بِلَا قَتْلٍ. فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ قَالَ عِمْرَانُ ابن حصين رضي الله عنهما «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً إلَّا أَمَرْنَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ، حَتَّى الْكُفَّارَ إذَا قَتَلْنَاهُمْ، فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ، وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا أَنْ يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثل ما فعلا» . وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 126 - 127](سورة النحل: الآية 126، ومن الآية 127)
قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ رضي الله عنهم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِضِعْفَيْ مَا مَثَّلُوا بِنَا» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ -وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، مِثْلَ قَوْلِهِ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85](سورة الإسراء: من الآية 85) . وَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114](سوره هود: من الآية 114) . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ جَرَى بِالْمَدِينَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْخِطَابَ، فَأُنْزِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً -فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، " بل نصبر ". وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ في حاجه نفسه أوصاه في خاصة نفسه بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خيراً، ثم يقول: اغزوا بسم الله، في سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا» . وَلَوْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فِي الْبُنْيَانِ -لَا فِي الصَّحْرَاءِ- لِأَخْذِ الْمَالِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ ليسموا مُحَارِبِينَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يُدْرِكُهُ الْغَوْثُ، إذَا اسْتَغَاثَ بِالنَّاسِ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ -فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ- وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ هُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ مَحَلُّ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ تَنَاصُرِ النَّاسِ وَتَعَاوُنِهِمْ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونِ الرَّجُلَ فِي دَارِهِ جَمِيعَ مَالِهِ، وَالْمُسَافِرُ لَا يَكُونُ مَعَهُ-غَالِبًا- إلَّا بَعْضُ
مَالِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ المتحزبون (1) الَّذِينَ تُسَمِّيهِمْ الْعَامَّةُ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ الْمَنْسَرَ (2) وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِبَغْدَادَ الْعَيَّارِينَ؛ وَلَوْ حَارَبُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِالْأَيْدِي، أَوْ الْمَقَالِيعِ وَنَحْوِهَا: فَهُمْ مُحَارِبُونَ أَيْضًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا مُحَارَبَةَ إلَّا بِالْمُحَدَّدِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ: عَلَى أَنَّ الْمُحَارَبَةَ تَكُونُ بِالْمُحَدَّدِ وَالْمُثْقَلِ. وَسَوَاءٌ كان فيه خلاف أو لَمْ يَكُنْ: فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ بِأَيِّ نوع كان من أنواع القتالة فَهُوَ مُحَارِبٌ قَاطِعٌ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، وَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفٍ، أَوْ رُمْحٍ، أَوْ سَهْمٍ، أَوْ حِجَارَةٍ، أَوْ عِصِيٍّ، فَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَقْتُلُ النُّفُوسَ سِرًّا، لِأَخْذِ الْمَالِ؛ مِثْلَ الَّذِي يَجْلِسُ فِي خَانٍ يُكْرِيهِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. أَوْ يَدْعُو إلَى منزله من يستأجره لخياطة، أو طب أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَقْتُلُهُ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ، وَهَذَا يُسَمَّى الْقَتْلَ غِيلَةً، وَيُسَمِّيهِمْ بَعْضُ الْعَامَّةِ الْمُعَرِّجِينَ (3) فإذا كان لأخذ المال، فهل هم كالمحاربين، أو يجرى عليهم حُكْمُ الْقَوَدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ، لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْحِيلَةِ كَالْقَتْلِ مُكَابَرَةٍ، كِلَاهُمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ.
(1) نسخة المحترفون.
(2)
نسخة المفسد.
(3)
نسخة المعرضين.
والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِيمَنْ يَقْتُلُ السُّلْطَانُ، كَقَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما هَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ، فَيُقْتَلُونَ حَدًّا، أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ -عَلَى قولينِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ- لِأَنَّ فِي قتله فساداٌ عاما.
فصل وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا إذَا طَلَبَهُمْ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ، لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِلَا عُدْوَانٍ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. وَمَتَى لَمْ يَنْقَادُوا إلَّا بِقِتَالٍ يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قُوتِلُوا، وَإِنْ أَفْضَى إلَى ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا أَوْ لَمْ يَقْتُلُوا. وَيُقْتَلُونَ فِي الْقِتَالِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ: فِي الْعُنُقِ وغيره. ويقاتل من قاتل معهم بن يَحْمِيهِمْ وَيُعِينُهُمْ. فَهَذَا قِتَالٌ، وَذَاكَ إقَامَةُ حَدٍّ. وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ أَوْكَدُ مِنْ قَتْلِ الطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَحَزَّبُوا لِفَسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ؛ لَيْسَ مقصودهم إقامة دِينٍ وَلَا مُلْكٍ. وَهَؤُلَاءِ كَالْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يَأْوُونَ إلَى حِصْنٍ، أَوْ مَغَارَةٍ أَوْ رَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ، وَإِذَا جَاءَهُمْ جُنْدُ ولي الأمر يطلبهم لِلدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ والجماعةَ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ: قَاتَلُوهُمْ وَدَفَعُوهُمْ؛ مِثْلَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَاجِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقَاتِ، أَوْ الجبلية الَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ أَوْ الْمَغَارَاتِ؛ لِقَطْعِ الطريق. وكالأحلاف الَّذِينَ تَحَالَفُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " النَّهِيضَةَ " (1) فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا ذَكَرْنَا: لَكِنَّ قِتَالَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْكُفَّارِ، إذَا لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا أخذوا، وإن لم
(1) نسخة " النهضة " ونسخة " الهينِصة ".
نعلم عين الآخذ. وَكَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ عَيْنُهُ؛ فَإِنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَاهُ، لَكِنْ إذَا عُرِفَ عَيْنُهُ كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ مَا يُؤْخَذُ منهم عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ رِزْقِ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ قِتَالِهِمْ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْفَسَادِ، فَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جَرْحًا مُثْخَنًا، لَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ. وَإِذَا هَرَبَ وَكَفَانَا شَرَّهُ لَمْ نَتْبَعْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ نَخَافَ عَاقِبَتَهُ، وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي يُقَامُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِمْ حَتَّى يَرَى غَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْمِيسَهَا؛ وَأَكْثَرُهُمْ يَأْبُونَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا إلَى مَمْلَكَةِ طَائِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ شريعة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين. قوتلوا كقتالهم. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَلَكِنَّهُ يأخذ خفارة أو ضريبة مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى الرُّءُوسِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَحْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مَكَّاسٌ، عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمَكَّاسِينَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَامِدِيَّةِ:«لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ، لَغُفِرَ لَهُ» وَيَجُوزُ للمظلومين -الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ- قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فهو شهيد» .
وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلَ " وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ المال جاز دفعه بِمَا يُمْكِنُ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقِتَالِ قُوتِلَ، وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ جَازَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ- مِثْلُ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ، أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ. فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ، وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالٍ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ، وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ، جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَلْ يَجِبُ عليه؟ على قولين للعلماء فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- فِتْنَةً، مِثْلُ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ، إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرَ، وَجَرَى السَّيْفُ، أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ، أَوْ يَسْتَسْلِمَ فَلَا يُقَاتِلَ فِيهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَإِذَا ظَفِرَ السُّلْطَانُ بِالْمُحَارِبِينَ الْحَرَامِيَّةِ -وَقَدْ أَخَذُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ- فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ، وَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ، مَعَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ السَّارِقُ؛ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إحْضَارِ الْمَالِ بَعْدَ ثبوته عليهم عاقبهم بالحبر وَالضَّرْبِ، حَتَّى يُمَكِّنُوا مِنْ أَخْذِهِ بِإِحْضَارِهِ أَوْ تَوْكِيلِ مَنْ يُحْضِرُهُ، أَوْ الْإِخْبَارِ بِمَكَانِهِ كَمَا يُعَاقَبُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ عَنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ إذَا نَشَزَتْ، فَامْتَنَعَتْ من الحق الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، حَتَّى تُؤَدِّيَهُ. فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ وَالْعُقُوبَةُ حَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَرَادَ هِبَتَهُمْ الْمَالَ، أَوْ الْمُصَالَحَةَ عَلَيْهِ؛ أَوْ العفو عن
عُقُوبَتِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْعَفْوِ عَنْهُ بِحَالٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الْمَالِ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ تَلِفَتْ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَ السَّارِقِ. فَقِيلَ: يَضْمَنُونَهَا لِأَرْبَابِهَا، كَمَا يَضْمَنُ سَائِرُ الْغَارِمِينَ. وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وَتَبْقَى مَعَ الْإِعْسَارِ فِي ذِمَّتِهِمْ إلَى مَيْسَرَةٍ. وَقِيلَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقِيلَ: يَضْمَنُونَهَا مع اليسار فقط دون الإعسار، وهو قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله. وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جُعْلًا عَلَى طب المحاربين، ولإقامة الْحَدِّ، وَارْتِجَاعِ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى طَلَبِ السَّارِقِينَ، لَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِلْجُنْدِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ فِي طَلَبِهِمْ: بَلْ طَلَبُ هَؤُلَاءِ مِنْ نرع الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَخْرُجُ فِيهِ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَخْرُجُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْغَزَوَاتِ الَّتِي تُسَمَّى الْبَيْكَارَ. وَيُنْفِقُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي هَذَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى سائر الغزاة، فإن كان لهم إقْطَاعٌ أَوْ عَطَاءٌ يَكْفِيهِمْ وَإِلَّا أَعْطَاهُمْ تَمَامَ كِفَايَةِ غَزْوِهِمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذِينَ زَكَاةٌ، مِثْلُ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَدْ يُؤْخَذُونَ، فَأَخَذَ الإِمام زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وأنفقهما فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَنَفَقَةِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْمُحَارِبِينَ جاز. وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تأليف، فأعطى الإِمام من الفيء والمصالح والزكاة لِبَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ يُعِينُهُمْ عَلَى إحْضَارِ الْبَاقِينَ، أَوْ لِتَرْكِ شَرِّهِ فَيَضْعُفُ الْبَاقُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ وغيره، وهو ظاهر الكتاب والسن وأصول الشريعة.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ الإِمام مَنْ يَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحَرَامِيَّةِ، وَلَا مَنْ يَأْخُذُ مَالًا من المأخوذين: التجار ونحوهم مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، بَلْ يُرْسِلُ مِنْ الْجُنْدِ الْأَقْوِيَاءِ الْأُمَنَاءِ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَيُرْسِلَ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُ نُوَّابِ السُّلْطَانِ أَوْ رُؤَسَاءِ الْقُرَى وَنَحْوِهِمْ يَأْمُرُونَ الْحَرَامِيَّةَ بِالْأَخْذِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، حَتَّى إذَا أَخَذُوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم، وأرضى المأخوذين ببعض أَمْوَالِهِمْ، أَوْ لَمْ يُرْضِهِمْ، فَهَذَا أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِدُونِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا. وَالْوَاجِبُ أَنْ يقال فيه ما يقال في الردء وَالْعَوْنِ لَهُمْ. فَإِنْ قُتِلُوا قُتِلَ هُوَ عَلَى قول أمير المؤمنين عمر ابن الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله، وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَتَلَ وَصَلَبَ. وَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقْطَعُ وَيَقْتُلُ وَيَصْلُبُ، وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لم يأذن لَهُمْ؛ لَكِنْ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ قَاسَمَهُمْ الْأَمْوَالَ، وَعَطَّلَ بَعْضَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ. وَمَنْ آوَى مُحَارِبًا أَوْ سَارِقًا، أَوْ قَاتِلًا وَنَحْوَهُمْ. مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لآدمي، ومنعه أن يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ، فَهُوَ شَرِيكُهُ في الجرم، وقد لعنه الله ورسوله. روى مسلم في صحيحه، عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» . وَإِذَا ظُفِرَ بِهَذَا الَّذِي آوَى الْمُحْدِثَ، فَإِنَّهُ طلب مِنْهُ إحْضَارُهُ، أَوْ الْإِعْلَامُ بِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْ ذَلِكَ الْمُحْدِثِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب. فمن وَجَبَ حُضُورُهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ يُعَاقَبُ مَنْ منع حضورها.
وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يَعْرِفُ مَكَانَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ بِحَقٍّ، أَوْ الرَّجُلَ الْمَطْلُوبَ بِحَقٍّ، وَهُوَ الَّذِي يمنعه، فتنة يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّفْسُ أَوْ الْمَالُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ، فإنه لا يحل الْإِعْلَامُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ بَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ، لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:«اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا. فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إيَّاهُ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ:«أَمَرَنَا رسول الله ولا بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وإجابة الدعوة ورد السلام، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ، وَعَنْ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْقَسِّيِّ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ» . فَإِنْ امْتَنَعَ هَذَا الْعَالِمُ بِهِ مِنْ الْإِعْلَامِ بِمَكَانِهِ جَازَتْ عُقُوبَتُهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ. فَعُوقِبَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ. وَهَذَا مطرد فيما تَتَوَلَّاهُ الْوُلَاةُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ، فِي كُلِّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وليس هذا بمطالبة لِلرَّجُلِ بِحَقٍّ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا عُقُوبَةً عَلَى جِنَايَةِ غَيْرِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} [الإسراء: 15](سورة الإسراء: من الآية 15) . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُطْلَبَ بِمَالٍ قَدْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ،
وهو ليس وكيلاً ولا ضامنا وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ. أَوْ يُعَاقَبَ الرَّجُلُ جريرة قَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هو قَدْ أَذْنَبَ، لَا بِتَرْكِ وَاجِبٍ، وَلَا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَحِلُّ. فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ مَكَانَ الظَّالِمِ، الَّذِي يُطْلَبُ حُضُورُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، أَوْ يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ والسنة والإجماع، إما محاباة أو حمية لذلك الظالم، كما قد يفعل أهل العصبية بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِمَّا مُعَادَاةً أَوْ بُغْضًا لِلْمَظْلُومِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8](سورة المائدة: من الآية 8) . وإما إعراضا -عن القيام لله والقيام بِالْقِسْطِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهَ وَجُبْنًا وَفَشَلًا وَخِذْلَانًا لِدِينِهِ، كَمَا يَفْعَلُ التَّارِكُونَ لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَدِينِهِ وَكِتَابِهِ، الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلُوا إلَى الْأَرْضِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الضَّرْبُ، يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ العلماء. وما لم يسلك هذه السبل، عطلت الحدود وضيعت الحقوق، وأكل القوى الضعيف. وَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ عِنْدَهُ مَالُ الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِحَاكِمٍ عَادِلٍ، يُوفِي بِهِ دَيْنَهُ، أَوْ يُؤَدِّي مِنْهُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ أَوْ مَمَالِيكِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ. وَكَثِيرًا مَا يجب على الرجل حق بسبب غيره، كلما تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِسَبَبِ حَاجَةِ قَرِيبِهِ، وَكَمَا تجب الدية عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْزِيرِ عُقُوبَةٌ لِمَنْ عُلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا أَوْ نفساً يجب
إحْضَارُهُ، وَهُوَ لَا يُحْضِرُهُ؛ كَالْقُطَّاعِ وَالسُّرَّاقِ وَحُمَاتِهِمْ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِهِ وَهُوَ لَا يُخْبِرُ بِمَكَانِهِ. فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِحْضَارِ، لِئَلَّا يَتَعَدَّى عَلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ يَظْلِمَهُ، فَهَذَا مُحْسِنٌ. وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ويجتمع شبهة وشهوة. وَالْوَاجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ. وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي الرُّؤَسَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ، إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ مُسْتَجِيرٌ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ صَدَاقَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَالْعِزَّةَ بالإِثم، وَالسُّمْعَةَ عِنْدَ الْأَوْبَاشِ: أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُ -وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُبْطِلًا- عَلَى الْمُحِقِّ الْمَظْلُومِ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَظْلُومُ رَئِيسًا يُنَادِيهِمْ ويناويهم، فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذُلًّا أَوْ عَجْزًا؛ وَهَذَا -عَلَى الْإِطْلَاقِ- جَاهِلِيَّةٌ محضة. وهي مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَدْ ذكر أنه إنما كان سبب كثير مِنْ حُرُوبِ الْأَعْرَابِ، كَحَرْبِ الْبَسُوسِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَتَغْلِبَ، إلَى نَحْوِ هَذَا، وكذلك سبب دخول الترك، والمغول دار الإسلام، واستيلائهم عَلَى مُلُوكِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ: كَانَ سببه نحو هذا. ومن أذل نفسه لته فَقَدْ أَعَزَّهَا، وَمَنْ بَذَلَ الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ أَكْرَمَ نَفْسَهُ، فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَمَنْ اعْتَزَّ بِالظُّلْمِ: مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ، وَفِعْلِ الْإِثْمِ، فَقَدْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10](سورة فاطر: من الآية 10) . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8](سورة المنافقون: الآية 8) . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ - وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206](سورة البقرة: الآيات 204-206) .
وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ مُسْتَجِيرٌ- إنْ كَانَ مَظْلُومًا يَنْصُرُهُ. وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مظلوم بمجرد دعواه؛ فطالما اشتكى الوجل وهو ظالم؛ بل يكثف خَبَرَهُ مِنْ خَصْمِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا رَدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ بِالرِّفْقِ إنْ أَمْكَنَ؛ إمَّا مِنْ صُلْحٍ أَوْ حُكْمٍ بِالْقِسْطِ، وَإِلَّا فَبِالْقُوَّةِ. وإن كان كل منهما ظَالِمًا مَظْلُومًا كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، مِنْ قَيْسٍ وَيَمَنٍ وَنَحْوِهِمْ. وَأَكْثَرُ الْمُتَدَاعِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي، أو كان جَمِيعًا غَيْرَ ظَالِمَيْنِ. لِشُبْهَةٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوْ غَلَطٍ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا: سَعَى بَيْنَهُمَا بِالْإِصْلَاحِ، أَوْ الْحُكْمِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9 - 10](سورة الحجرات: الآيتان 9، 10) . وَقَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114](سورة النساء: الآية 114) . وقد روى أبو داود في السنن. عزر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «قِيلَ لَهُ: " أَمِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْحَقِّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْبَاطِلِ» . وَقَالَ: «خَيْرُكُمْ الدَّافِعُ عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ» . وَقَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَنْصُرُ قَوْمَهُ بِالْبَاطِلِ كَبَعِيرٍ تَرَدَّى فِي
بِئْرٍ فَهُوَ يَجُرُّ بِذَنَبِهِ» . وَقَالَ: «مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ. وَلَا تُكَنُّوا» . وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ: مِنْ نَسَبٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ جِنْسٍ أَوْ مَذْهَبٍ، أَوْ طَرِيقَةٍ: فَهُوَ مِنْ عَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ «لَمَّا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار فقال الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» . وَغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شديدا.