الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل منزلة الولاية]
فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ بَلْ لَا قيام للدين ولا للدنيا إلَّا بِهَا. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . فَأَوْجَبَ صلى الله عليه وسلم تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةٍ وَإِمَارَةٍ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ. وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ:«أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» وَيُقَالُ " سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ واحدة بِلَا سُلْطَانٍ ". وَالتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ - كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا- يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِلسُّلْطَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة
الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مِنْ وَرَائِهِمْ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» .
فَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ الْإِمَارَةِ دِينًا وَقُرْبَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ. وَإِنَّمَا يَفْسُدُ فِيهَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ لِابْتِغَاءِ الرِّيَاسَةِ أَوْ الْمَالِ بِهَا. وَقَدْ رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى المال والشرف لِدِينِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ يُفْسِدُ دينه، مثل أو أكثر من إفساد الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعِينَ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى عن الذي يؤتى كتابه بشماله أن يَقُولُ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29](سورة الحاقة الآيتان 28، 29) .
وَغَايَةُ مُرِيدِ الرِّيَاسَةِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ، وَجَامِعِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ كَقَارُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَالَ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ، فَقَالَ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر: 21](سورة غافر: الآية 21) .
وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83](سورة القصص: الآية 83) . فَإِنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يُرِيدُونَ العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو مَعْصِيَةُ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ الْمُفْسِدُونَ، كَفِرْعَوْنَ وحزبه. وهؤلاء هم شرار
الْخَلْقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4](سورة القصص: الآية 4) . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذَرَّةٌ مِنْ إيمَانٍ ". فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله: إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا، وَنَعْلِي حَسَنًا، أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ قَالَ: " لَا: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» فَبَطَرُ الْحَقِّ دَفْعُهُ وَجَحْدُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ، وَهَذَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْفَسَادَ، بلا علو، كالسراق والمجرمين من سفلة الناس.
والقسم الثالث: يريدون الْعُلُوَّ بِلَا فَسَادٍ، كَاَلَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلُوَا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ.
وأما الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139](سورة آل عمران: الآية 139) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35](سورة محمد: الآية 35) . وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8](سورة المنافقون: من الآية 8) .
فَكَمْ مِمَّنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ، وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا سُفُولًا، وَكَمْ مِمَّنْ جُعِلَ مِنْ الْأَعْلَيْنَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا الْفَسَادَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ
النَّاسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَإِرَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى وَنَظِيرُهُ تَحْتَهُ ظُلْمٌ. وَمَعَ أَنَّهُ ظْلم فَالنَّاسُ يُبْغِضُونَ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَيُعَادُونَهُ؛ لِأَنَّ الْعَادِلَ مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَقْهُورًا لِنَظِيرِهِ، وَغَيْرُ الْعَادِلِ مِنْهُمْ يُؤْثِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاهِرَ. ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هذا لا بد لهم -فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ- مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِرَأْسٍ. قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165](سورة الأنعام: من الآية 165) . وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32](سورة الزخرف: من الآية 32) . فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِصَرْفِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ هُوَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَإِنْفَاقَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِهِ، كَانَ ذَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ، أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قلوبكم وأعمالكم» .
وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الدِّينَ وَأَعْرَض عَمَّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ، فَأَخَذَهُ مُعْرِضًا عَنْ الدِّينِ: لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ، وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ. لَا فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ وَالْعِزِّ. وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أهل الدينين (السابقين) العجز عن
تَكْمِيلِ الدِّينِ، وَالْجَزَعُ لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ فِي إقَامَتِهِ مِنْ الْبَلَاءِ: اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُمْ وَاسْتَذَلَّهَا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا.
وَهَاتَانِ السَّبِيلَانِ الْفَاسِدَتَانِ -سَبِيلُ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الدِّينِ وَلَمْ يُكْمِلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ، وَسَبِيلِ مِنْ أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ- هُمَا سَبِيلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. الأولى للضالين النصارى، الثانية لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ. وَإِنَّمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، هِيَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسَبِيلُ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سلك سبيلهم. وهم الذين قال الله فيهم:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100](سورة التوبة من الآية 100) .
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ؛ فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ، وَإِقَامَةَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ دِينِهِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الواجبات واجتنب ما يمكنه من الْمُحَرَّمَاتِ: لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ: فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأَمَةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ. وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الدِّينِ بِالسُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ، فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، مِنْ النَّصِيحَةِ بِقَلْبِهِ، وَالدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ: لَمْ يُكَلَّفْ مَا يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد النَّاصِرُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَعَلَى كُلِّ أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ؛ ثُمَّ الدُّنْيَا تَخْدُمُ الدِّينَ، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بن جبل
-رضي الله عنه: يا ابن آدَمَ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى نَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِكَ مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ، فَإِنْ بَدَأْتَ بِنَصِيبِكَ مِنْ الْآخِرَةِ مُرَّ بِنَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا، فَانْتَظِمْهَا انْتِظَامًا، وَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا فَاتَكَ نَصِيبُكَ مِنْ الْآخِرَةِ، وَأَنْتَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى خَطَرٍ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جمع الله لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ» . وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58](سورة الذاريات: الآيات 56-58) .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا، وجميع المسلمين لما يحبه لنا وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دائماً إلى يوم الدين.