المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقرير معنى السياسة الشرعيةمن كلام المصنف وتلميذه ابن القيم - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - ط عطاءات العلم - المقدمة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌تقرير معنى السياسة الشرعيةمن كلام المصنف وتلميذه ابن القيم

‌تقرير معنى السياسة الشرعية

من كلام المصنف وتلميذه ابن القيم

للمصنف وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى كلامٌ مفيد في موضوع السياسة الشرعية مبثوث في عدد من مؤلفاتهما، ولابن القيم كتاب مفرد في الباب هو «الطرق الحكمية» ، رأيتُ من الخير أن أصَدِّر الحديثَ عن الكتاب بهذا الفصل خاصة مما ليس في رسالتنا هذه.

* قال المصنف في «مجموع الفتاوى» : (20/ 391 - 393): «وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفي تصانيفهم إذا احتجَّ عليهم محتجٌّ بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بقتله، كقَتْله اليهوديَّ الذي رضَّ رأسَ الجارية، وكإهداره لدم السابة التي سبّته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي ونحو ذلك. قالوا: هذا يعمله سياسة. فيقال لهم: هذه السياسة إن قلتم: هي مشروعة لنا، فهي حق وهي سياسة شرعية. وإن قلتم: ليست مشروعة لنا، فهذه مخالفة للسنة.

ثم قولُ القائل بعدُ: «هذا سياسة» ؛ إما أن يريد أن الناس يُساسون بشريعة الإسلام، أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام؟ فإن قيل بالأول فذلك من الدين، وإن قيل بالثاني فهو الخطأ.

ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين. وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وإنه لا نبي

ص: 9

بعدي وسيكون خلفاء يكثرون»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإنَّ الله سائلهم عما استرعاهم» .

فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلَّد لهم القضاء مَن تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة= احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكمًا أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.

والسبب في ذلك: أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصَّروا في معرفة السنّة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تُسْفَك الدماء وتؤخذ الأموال وتُستباح المحرمات. والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوعٍ من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنّة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرَّى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القويّ ومَن يرشوهم ونحو ذلك.

وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة، يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها؛ مِنْ جَعْل صاحب الحرب متبعًا لصاحب الكتاب ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومَن اتبعهم، حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم. وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الآية [الحديد: 25]، فقوام الدين بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.

ص: 10

ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعًا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعًا لذلك كان أمر الإسلام قائمًا، وأهلُ المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك؛ أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم. وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارةً يوافق الكتاب وتارةً يخالفه= كان دين مَن هو كذلك بحسب ذلك

» اهـ الغرض من كلام شيخ الإسلام

(1)

.

* وقال ابن القيم رحمه الله في «بدائع الفوائد» : (3/ 1087 - 1095): «قال ابن عقيل: جرى في جواز العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة:

هو الحزم، فلا يخلو منه إمام.

قال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.

قال ابن عقيل: السياسةُ ما كان فعلًا يكون معه الناسُ أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسولُ ولا نزلَ به وحيٌ. فإن أردت بقولك:«إلا ما وافق الشرع» أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطقَ به الشرعُ فغلطٌ وتغليطٌ للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمُثَل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وتحريق عليّ في الأخاديد وقال:

إني إذا شاهدتُ أمرًا منكرًا

أججتُ ناري ودعوت قَنبرا

(1)

وانظر أيضًا «مجموع الفتاوى» : (28/ 642)، و «منهاج السنة»:(6/ 48). وللمصنف رسالتان مختصرتان في الموضوع نفسه، مطبوعتان في المجموعة السابعة من «جامع المسائل» .

ص: 11

ونفيُ عمر نصرَ بن حجاج.

قلت: هذا موضع مزلّة أقدام، وهو مقامٌ ضَنْك ومعترك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعةَ قاصرةً لا تقوم بها مصالح العباد، وسدُّوا على نفوسهم طرقًا عديدة من طرق معرفة المُحقِّ من المُبْطِل، بل عطلوها مع علمهم قطعًا وعلم غيرهم بأنها أدلة حقٍّ، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.

والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة= أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمرُ وتعذَّر استدراكه.

وأفرطت طائفة أخرى فسوَّغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيَتْ من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله. فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأيِّ طريق كان فثمَّ شرعُ الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء، ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بيَّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخْرج بها العدل والقسط فهي من الدين.

لا يقال: «إنها مخالفة له» ، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها

ص: 12

سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق. فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة، وعاقب في تهمة؛ لمّا ظهر أمارات الريبة على المتهم. فمن أطلق كلَّ متهم وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، ونقبه البيوت وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل= فقوله مخالف للسياسة الشرعية. وكذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من سهمه من الغنيمة، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه كله، وكذلك أخذه شطر مال مانع الزكاة، وكذلك إضعافه الغرم على سارق ما لا يقطع فيه وعقوبته بالجلد، وكذلك إضعافه الغُرْم على كاتم الضالة. وكذلك تحريق عمر حانوت الخمار، وتحريقه قرية خمر، وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجَبَ فيه عن الرعية، وكذلك حلقه رأس نصر بن حجاج ونفيه، وكذلك ضربه صَبِيغًا، وكذلك مصادرته عمّاله، وكذلك إلزامه الصحابة أن يقلِّوا الحديثَ عن رسول الله؛ ليشتغل الناس بالقرآن فلا يضيعوه. إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فصارت سنةً إلى يوم القيامة وإن خالفها مَن خالفها.

ومن هذا تحريق الصديق للوطي، ومن هذا تحريق عثمان للصُّحف المخالفة للسان قريش. ومن هذا اختيار عمر للناس الإفراد بالحج ليعتمروا في غير أشهره؛ فلا يزال البيت الحرام مقصودًا، إلى أضعاف أضعاف ذلك من السياسات التي ساسوا بها الأمة وهي بتأويل القرآن والسنة.

وتقسيمُ الناس الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم من قسم الطريقة إلى شريعة وحقيقة، وذلك تقسيم باطل؛ فالحقيقة نوعان: حقيقة هي حقٌّ صحيح، فهي لب الشريعة لا قسيمتها، وحقيقة باطلة، فهي مضادة للشريعة كمضادة الضلال للهدى.

ص: 13

وكذلك السياسة نوعان: سياسة عادلة، فهي جزء من الشريعة وقسم من أقسامها لا قسيمتها. وسياسة باطلة، فهي مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل.

ونظير هذا: تقسيم بعض الناس الكلامَ في الدين إلى الشرع والعقل هو تقسيمٌ باطل؛ بل المعقول قسمان: قسم يوافق ما جاء به الرسول، فهو معقول كلامه ونصوصه لا قسيم ما جاء به. وقسم يخالفه، فذلك ليس بمعقول؛ وإنما هو خيالات وشُبَه باطلة يظن صاحبها أنها معقولات وإنما هي خيالات وشبهات.

وكذلك القياس والشرع، فالقياس الصحيح هو معقول النصوص، والقياس الباطل المخالف للنصوص مضاد للشرع.

فهذا الفصل هو فرق ما بين ورثة الأنبياء وغيرهم، وأصله مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالسنّة إلى كل ما يحتاجُ إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأنه لا حاجة إلى أحدٍ سواه البتة، وإنما حاجتنا إلى ما يبلغنا عنه ما جاء به. فمن لم يستقرّ هذا في قلبه لم يرسخ قدمُه في الإيمان بالرسول، بل يجب الإيمان بعموم رسالته في ذلك كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين. فكما لا يخرج أحدٌ من الناس عن رسالته البتة فكذلك لا يخرج حق من العلم والعمل عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قلَّ نصيبُه من معرفته وفهمه، فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته، وإلا فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علمًا وعلَّمهم كل شيء

ص: 14

وبالجملة فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه. ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل بعده رسولًا لاستغناء الأمة به عمن سواه، فكيف يُظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها، أو إلى حقيقة خارجة عنها، أو إلى قياس خارج عنها، أو إلى معقول خارج عنها؟ !

فمن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسولٍ آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك. قال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال تعالى:{(56) يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [يونس: 57]. وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي بعشر معشار ما الناس محتاجون إليه على زعمهم الباطل؟

ويالله العجب كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال؟ هل كانوا مهتدين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك حتى جاء المتأخرون أعلم منهم وأهدى منهم؟ ! هذا ما لا يظنه مَن به رمق من عقل أو حياء نعوذ بالله من الخذلان، ولكن مَن أوتي فهمًا في الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم استغنى بهما عن غيرهما بحسب ما

ص: 15

أوتيه من الفهم، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم

» انتهى المراد من كلام ابن القيم

(1)

.

* * * *

(1)

وانظر أيضًا كلام ابن القيم في «أعلام الموقعين» : (4/ 372 - 378)، و «بدائع الفوائد»:(3/ 1035)، و «الطرق الحكمية»:(1/ 29 وما بعدها).

ص: 16