المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام - السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون - جـ ١

[نور الدين الحلبي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌تقديم

- ‌[المقدّمة]

- ‌باب: نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: تزويج عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وحفر زمزم وما يتعلق بذلك

- ‌باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

- ‌باب وفاة والده صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم

- ‌باب: تسميته صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمدا

- ‌باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به

- ‌باب: وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب له

- ‌باب: وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام

- ‌باب: ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية

- ‌باب: رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم

- ‌باب: حضوره صلى الله عليه وسلم حرب الفجار

- ‌باب: شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول

- ‌باب: سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا

- ‌باب: تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصيّ

- ‌باب: بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى

- ‌باب: ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم، وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار، وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة

- ‌باب: سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه

- ‌باب: بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة

- ‌باب: ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه، وما لقي هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى

- ‌باب: عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون، وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات، وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه و

- ‌باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه

- ‌باب: اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة

- ‌باب الهجرة الثانية إلى الحبشة

- ‌باب ذكر خبر وفد نجران

- ‌باب ذكر وفاة عمه أبي طالب، وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها

- ‌باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

- ‌باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه

- ‌باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام

مملوء ماء يتدفق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبعوني ثم أقتحمه فاتبعوه فأيبس الله عز وجل الماء فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك، فقال الناس: إن لهذا الغلام شأنا اهـ.

أي وفي السيرة الهشامية أن رجلا من لهب كان قائفا. وكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويقتاف لهم فيهم، فأتى أبو طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه فنظر إليه صلى الله عليه وسلم، ثم شغل عنه بشيء، فلما فرغ قال عليّ بالغلام، وجعل يقول ويلكم ردوا عليّ الغلام الذي رأيت آنفا فو الله ليكوننّ له شأن، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه وانطلق به، والله أعلم.

‌باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام

عن ابن إسحق لما تهيأ أبو طالب للرحيل صبّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة. والصبابة: رقة الشوق، قاله في الأصل.

قال: وعند بعض الرواة: فضبث به أي بفتح الضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة كضرب لزمه وقبض عليه، يقال ضبثت على الشيء: إذا قبضت عليه.

فقد جاء: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا بين أضباثهم: أي قبضاتهم: أي وهم يحملون الأوزار غير مقلعين عنها: أي وعلى ما عند بعض الرواة اقتصر الحافظ الدمياطي، فلفظه: لما تهيأ يعني أبا طالب للرحيل ضبث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا.

أقول: رأيت بعضهم نقل عن سيرة الدمياطي: وضبث به أبو طالب ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط وإنه ضبث بالضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة. قال وهو القبض على الشيء، وهذا لا يناسب قوله ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط، لأن ذلك إنما يناسب صب بالصاد المهملة: أي الذي هو الرقة كما لا يخفى. على أن مصدر ضبث إنما هو الضبث، ومن ثم لم أجد ذلك في السيرة المذكورة. والذي رأيته فيها ما قدمته عنها، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم مسك بزمام ناقة أبي طالب، وقال: يا عم إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم. وكان سنه صلى الله عليه وسلم تسع سنين على الراجح. وقيل اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام: أي وهذا القيل صدر به في الإمتاع وقال إنه أثبت: أي ومن ثم اقتصر عليه المحب الطبري.

وذكر أنه لما سار به أردفه خلفه فنزلوا على صاحب دير، فقال صاحب الدير ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي هذا نبي: أي لأن من كانت هذه الصفة صفته فهو نبي: أي النبي المنتظر.

ص: 171

ومن علامة ذلك النبي في الكتب القديمة أن يموت أبوه وأمه حامل به كما تقدم وسيأتي أو بعد وضعه بقليل من الزمن: أي ومن علامته أيضا في تلك الكتب موت أمه وهو صغير كما تقدم في خبر سيف بن ذي يزن. ولا ينافي ذلك الاقتصار من بعض أهل الكتب القديمة على الأول الذي هو موت أبيه وهو حمل.

قال أبو طالب لصاحب الدير وما النبي؟ قال: الذي يأتي إليه الخبر من السماء فينبئ أهل الأرض. قال أبو طالب الله أجل مما تقول، قال: فاتق عليه اليهود، ثم خرج حتى نزل براهب أيضا صاحب دير، فقال له: ما هذا الغلام منك، قال ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال ولم؟ قال لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي: أي النبي الذي يبعث لهذه الأمة الأخيرة، لأن ما ذكر علامته في الكتب القديمة. قال أبو طالب: سبحان الله! الله أجل مما تقول. ثم قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ألا تسمع ما يقول؟ قال: أي عم لا تنكر لله قدرة، والله أعلم.

فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا، بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة، واسمه جرجيس، وقيل سرجيس.

وحينئذ يكون بحيرا لقبه في صومعة له. وكان انتهى إليه علم النصرانية: أي لأن تلك الصومعة كانت تكون لمن ينتهي إليه علم النصرانية، يتوارثونها كابرا عن كابر، وعن أوصياء عيسى عليه الصلاة والسلام. وفي تلك المدة انتهى علم النصرانية إلى بحيرا، وقيل كان بحيرا من أحبار اليهود يهود تيما.

أقول: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون تنصر بعد أن كان يهوديا كما وقع لورقة ابن نوفل كما سيأتي.

هذا وقال ابن عساكر: إن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفو، بينها وبين بصرى ستة أميال. وقيل كان يسكن البلقاء من أرض الشام بقرية، يقال لها ميفعة، ويحتاج إلى الجمع.

وقد يقال يجوز: أنه كان يسكن في كلّ من القريتين كل واحدة يسكن فيها زمنا، وكان في بعض الأحايين يأتي لتلك الصومعة فليتأمل. وقد سمع مناد قبل وجوده صلى الله عليه وسلم ينادي ويقول: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: رباب بن البراء، وبحيرا الراهب، وآخر لم يأت بعد. وفي لفظ: والثالث المنتظر يعني النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن قتيبة.

قال ابن قتيبة: وكان قبر رباب وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش:

وهو المطر الخفيف، والله أعلم.

ص: 172

وكانت قريش كثيرا ما تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى كان ذلك العام صنع لهم طعاما كثيرا، وقد كان رأى وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم لما نزلوا في ظلّ شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة وتهصرت: أي مالت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية وأخضلت: أي كثرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استظلّ تحتها: أي وقد كان صلى الله عليه وسلم وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس صلى الله عليه وسلم مال فيء الشجرة عليه، ثم أرسل إليهم: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم لم أقف على اسم هذا الرجل: يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رجال القوم: أي تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة: أي لم ير في أحد منهم الصفة التي هي علامة للنبي المبعوث آخر الزمان التي يجدها عنده: أي ولم ير الغمامة على أحد من القوم، ورآها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي. فقالوا: يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا. قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الغلام معكم أي وقال: فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم فقال القوم: هو والله أوسطنا نسبا، وهو ابن أخي هذا الرجل، يعنون أبا طالب، وهو من ولد عبد المطلب، فقال رجل من قريش: واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه: أي وجاء به وأجلسه مع القوم: أي وذلك الرجل هو عمه الحارث بن عبد المطلب، ولعله لم يقل هو ابن أخي مع كونه أسن من أبي طالب، لأن أبا طالب كان شقيقا لأبيه عبد الله كما تقدم دون الحارث مع كون أبي طالب هو المقدم في الركب. وقيل الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقدمه ابن المحدث على ما قبله فليتأمل.

ولما سار به من احتضنه لم تزل الغمامة تسير على رأسه صلى الله عليه وسلم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته صلى الله عليه وسلم، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه صلى الله عليه وسلم بحيرا، فقال له:

أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما: أي وفي الشفاء أنه اختبره بذلك، فقال له

ص: 173

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغض شيئا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له سلني عما بدا لك.

فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته: أي صفة النبي المبعوث آخر الزمان التي عنده:

أي ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم، فقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال: ما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به، قال صدقت: أي ثم قال ما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا، قال صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلاده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لتبغينه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم أي نجده في كتبنا ورويناه عن آبائنا.

واعلم أني قد أديت إليك النصيحة فاسرع به إلى بلده. وفي لفظ لما قال له ابن أخي قال له بحيرا أشفيق عليه أنت؟ قال نعم، قال: فو الله لئن قدمت به إلى الشام أي جاوزت هذا المحل ووصلت إلى داخل الشام الذي هو محل اليهود لتقتلنه اليهود، فرجع به إلى مكة. ويقال إنه قال لذلك الراهب: إن كان الأمر كما وصفت فهو في حصن من الله عز وجل.

وقد يقال: لا مخالفة لأن ما صدر من بحيرا كان على ما جرت به العادة من طلب التوقي، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

وفي الهدى فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة، فليتأمل.

وذكر أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرا وأرادوا به سوآ فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفاته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لا يخلصون إليه، فعند ذلك تركوه وانصرفوا عنه.

وفي رواية أخرى: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب بحيرا، وكانوا قبل ذلك يمرون عليه فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم، فجعل وهم يحلون رحالهم يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال الأشياخ من قريش: ما أعلمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبي: أي وإن الغمامة صارت تظلله دونهم، وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.

ص: 174

أي والغضروف تقدم أنه رأس لوح الكتف، ثم رجع وصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة: فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء هذه الشجرة مال عليه.

فبينما هو قائم عليهم وهو يعاهدهم أن لا يذهبوا به إلى أرض الروم: أي داخل الشام، فإنهم إن عرفوه قتلوه، فالتفت فإذا سبعة من الروم قد أقبلوا، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا جئنا إلى هذا النبي الذي هو خارج في هذا الشهر: أي مسافر فيه، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟

قالوا لا، فبايعوه: أي بايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم أخذه وأذيته على حسب ما أرسلوا فيه، وأقاموا عند ذلك الراهب خوفا على أنفسهم ممن أرسلهم إذا رجعوا بدونه. قال بحيرا لقريش: أنشدكم الله: أي أسألكم بالله أيكم وليه؟ قالوا:

أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه بلالا. وفي لفظ: وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالا، وزوده بحيرا من الكعك والزيت: أي وإذا كانت القصة واحدة فالاختلاف في إيرادها من الرواة كما تقدم نظيره. فبعض الرواة قدم في هذه الرواية وأخر.

على أنه في الهدى قال: وقع في كتاب الترمذي وغيره أن عمه: أي وأبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث معه بلالا، وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر.

وذكر في الأصل أن في هذه الرواية أمورا منكرة حيث قال: قلت ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرّج له في الصحيح، ومع ذلك: أي مع صحة سنده، ففي متنه نكارة: أي أمور منكرة: وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا، فإن بلالا لم ينقل لأبي بكر إلا بعد هذه السفرة بأكثر من ثلاثين عاما، ولأن أبا بكر لم يبلغ العشر سنين حينئذ، لأنه صلى الله عليه وسلم أسن منه بأزيد من عامين بقليل: أي بشهر. ولا ينافي ما يأتي: وتقدم أن سنه صلى الله عليه وسلم حينئذ تسع سنين على الراجح أي فيكون سن أبي بكر نحو سبع سنين وكان بلال أصغر من أبي بكر رضي الله عنهما، فلا يتجه هذا بحال: أي لأن أبا بكر حينئذ لم يكن أهلا للإرسال عادة، وكذا بلال لم يكن أهلا لأن يرسل.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر هو ما عليه الجمهور من أهل العلم بالأخبار والسير والآثار.

وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر فقال له: من الأكبر أنا أو أنت؟ فقال له أبو بكر: أنت أكرم وأكبر وأنا أسن. قيل فيه إنه وهم وإن ذلك إنما يعرف عن عمه

ص: 175

العباس رضي الله تعالى عنه، وكون بلال أصغر من أبي بكر ينازعه قول ابن حبان:

بلال كان تربا لأبي بكر: أي قرينه في السن، وبه يردّ قول الذهبي: بلال لم يكن خلق.

قال: وذكر الحافظ ابن حجر أن إرسال أبي بكر معه بلال وهم من بعض الرواة، وهو مقتطع من حديث آخر أدرجه ذلك الراوي في هذا الحديث انتهى.

أقول: ولأجل هذا الوهم قال الذهبي في الحديث أظنه موضوعا بعضه باطل:

أي لم يوافق الواقع: أي فمع كون الحديث موضوعا، بعضه موافق للواقع، وبعضه لم يوافق الواقع. وحينئذ فمراد الأصل بالنكارة في قوله في متنه نكارة البطلان كما أشرت إليه، وليس هذا من قبيل قولهم: هذا حديث منكر، الذي هو من أقسام الضعيف وهو يرجع إلى الفردية ولا يلزم من الفردية ضعف متن الحديث فضلا عن بطلانه.

وقال الحافظ الدمياطي: في هذا الحديث وهمان أحدهما قوله فبايعوه وأقاموا معه والوهم الثاني قوله وبعث معه أبو بكر بلالا، ولم يكونا معه، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر.

وفيه أن الحافظ الدمياطي فهم أن الضمير في بايعوه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أنه لبحيرا فلا وهم فيه.

وتوجيه الوهم الثاني بعدم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم واضح إن ثبت ذلك، وإلا فمجرد النفي لا يرد به الإثبات. وحينئذ لا حاجة معه إلى ذكر ما بعده من أن بلالا لم يكن أسلم ولا ملكه أبو بكر، إلا أن يقال هو على تسليم وجود أبي بكر وبلال مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد يقال على تسليم ذلك: إرسال أبي بكر لبلال لا يتوقف على إسلام بلال ولا على ملك أبي بكر له، جاز أن يكون سيد بلال وهو أمية بن خلف أرسله في ذلك العير لأمر، فأذن أبو بكر لبلال في العود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون خادما، ويستأنس ويأمن به، اعتمادا على رضا سيده بذلك، إذ ليس من لازم إرساله أن يكون مملوكا له. وكون أبي بكر لم يكن في سن من يرسل عادة تقدم ما فيه، والله أعلم.

قال: وروى ابن منده بسند ضعيف عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة: أي فالنبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر بعامين: أي وشهر كما تقدم. ولقلة هذه الزيادة على العامين التي هي الشهر الواردة مبهمة في الرواية السابقة لم يذكرها ابن منده، وهم يريدون الشام في تجارتهم، حتى إذا نزل منزلا وهو سوق بصرى من أرض الشام، وفي ذلك

ص: 176

المحل سدرة فقعد صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء، فقال: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ قال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال له: والله هذا نبي هذه الأمة، ما استظل تحتها بعد عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام: أي وقد قال عيسى: لا يستظل تحتها بعدي إلا النبي الأمي الهاشمي كما سيأتي في بعض الروايات.

قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون أي سفر أبي بكر معه صلى الله عليه وسلم في سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب انتهى.

أقول: وهي سفرته مع ميسرة غلام خديجة، فإنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام أكثر من مرتين. ويؤيده ما تقدم من قول الراوي وهم يريدون الشام في تجاراتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج تاجرا إلا في تلك السفرة، وسيأتي أن هذا القول قاله الراهب نسطورا لا بحيرا، قاله لميسرة لا لأبي بكر. إلا أن يقال: لا مانع أن يكون قال ذلك لميسرة ولأبي بكر، لكن ربما يبعده ما سيأتي أن سنه صلى الله عليه وسلم حين سافر مع ميسرة كان خمسا وعشرين سنة على الراجح لا عشر سنين. وعلى هذا فالشجرة لم تكن إلا عند صومعة الراهب نسطورا لا عند صومعة الراهب بحيرا، وذكر بحيرا موضع نسطورا، وهو ما وقع في شرف المصطفى للنيسابوري وهم من بعض الرواة سرى إليه من اتحاد محلهما وهو سوق بصرى. إلا أن يقال: يجوز أن يكون الراهب نسطورا خلف بحيرا في ذلك الصومعة لموته مثلا، وهو أقرب من دعوى تعدد الشجرة، فتكون واحدة عند صومعة بحيرا، وواحدة عند صومعة نسطورا، وكلاهما قال فيها عيسى ما ذكرا.

ومن دعوى اتحادها وأنها بين صومعة بحيرا وصومعة نسطورا وأن العير الذي كان فيه أبو طالب نزل جهة صومعة بحيرا، والعير الذي كان فيه أبو بكر وميسرة نزل جهة صومعة نسطورا، وسيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدّق بأنه صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام، لأنهما لم يدركا البعثة: أي الرسالة بناء على اقترانهما بالنبوة، أو أن المراد بها النبوة: أي لم يدركا النبوة فضلا عن الرسالة بناء على تأخرها عن النبوة.

ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟ هذا كلامه في الإصابة، وليس هذا بحيرا الراهب الصحابي الذي هو أحد الثمانية الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة.

فعنه رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا شرب الرجل كأسا من خمر» الحديث، ومن قال: إن هذا الحديث منكر ظن أن بحيرا هذا هو بحيرا المذكور هنا الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، والله أعلم.

ص: 177