المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: صَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه - السيرة النبوية من البداية والنهاية - ت عبد الواحد - جـ ٣

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة فِي أَوَّلِهَا كَانَتْ غَزْوَةُ نَجْدٍ وَيُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ

- ‌ذِكْرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعد الْوَقْعَة يَوْمَ أُحُدٍ

- ‌ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَى حَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْقُرْحِ وَالْجِرَاحِ

- ‌سَنَةُ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ (1)

- ‌ذكر نزُول الْحِجَابِ صَبِيحَةَ عُرْسِهَا الَّذِي وَلِيَ اللَّهُ عَقْدَ نِكَاحِهِ

- ‌سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ

- ‌ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ والْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْغَزْوَةَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَبْلَ خَيْبَرَ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

- ‌ذكر سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ لِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ

- ‌ذِكْرُ قِصَّةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ النَّضْرِية رضى الله عَنْهَا

- ‌ذكر قدوم جَعْفَر بن أبي طَالب رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَمَا كَانَ مِنَ أَمر الْبُرْهَان الَّذِي ظهر عِنْدهَا وَالْحجّة الْبَالِغَة فِيهَا

- ‌ذكر خُرُوجه عليه السلام مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِ

- ‌ذكر إرْسَاله عليه السلام إِلَى ملك الْعَرَب من النَّصَارَى الَّذين بِالشَّامِ

- ‌ذِكْرُ بَعْثِهِ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ

- ‌سَنَةَ ثَمَانٍ

- ‌ذِكْرُ قُدُومِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر اعْتِرَاضُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِسْمَة العادلة بالِاتِّفَاقِ

- ‌ذكر مجئ أُخْت رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ الرضَاعَة وَهُوَ بالجعرانة وَاسْمُهَا الشَّيْمَاءُ

الفصل: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: صَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه

أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: صَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ - الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ - أَفْطَرَ، فَلَمْ يَزَلْ يُفْطِرُ حَتَّى انْصَرَمَ الشَّهْرُ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ التَّرْدِيدَ بَيْنَ شَعْبَانَ ورمضان.

* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا جرير، عَن مَنْصُور، عَن مُجَاهِد، عَن طَاوس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ بهَا (1) لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ.

قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.

وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَفْرَةِ الْفَتْحِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ النَّاسُ مَعَه، حَتَّى أَتَى الكديد بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ فَأَفْطَرَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ مُفْطِرًا فَكَانَ النَّاس يرَوْنَ أَن آخر الامر (2) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفِطْرُ، وَأَنَّهُ نَسَخَ مَا كَانَ قَبْلَهُ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَوْلُهُ: " خَرَجَ لِعَشْرٍ مِنْ رَمَضَانَ " مُدْرَجٌ فِي الحَدِيث، وَكَذَلِكَ ذكره عبيد اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.

ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ جَابر، عَن يَحْيَى، عَنْ صَدَقَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ.

‌سَنَةَ ثَمَانٍ

.

(1) غير ا: نَهَارا.

(2)

غير ا: يرَوْنَ آخر الامرين.

(*)

ص: 540

ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْفَتْحُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الْإِدْرَاجُ وَهْمٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ.

ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ الْفَتْحِ - فَتْحِ مَكَّةَ - فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِي سِنِينَ وَنِصْفِ سَنَةٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَافْتَتَحَ مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فصَام حَتَّى بلغ الكديد ثمَّ أفطر.

قَالَ (1) الزُّهْرِيُّ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ (2) .

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ.

ثُمَّ عَزَاهُ إِلَى (3) الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاق.

فَالله أَعْلَمُ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: آذَنَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّحِيلِ عَامَ الْفَتْحِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا الْكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفطرِ فَأصْبح النَّاس مرضى (4) مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ، حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا الْمنزل الذى نلقى الْعَدو أمرنَا بِالْفطرِ فأفطرنا أَجْمَعِينَ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي عَطِيَّةُ بن

(1) المطبوعة: فَقَالَ.

خطأ.

(2)

البُخَارِيّ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من أَمر رَسُول الله الآخر فالآخر.

(3)

المطبوعة: فِي.

خطأ.

(4)

المطبوعة: مرحى.

خطأ.

(*)

ص: 541

قَيْسٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: آذننا رَسُول الله بِالرَّحِيلِ عَامَ الْفَتْحِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا الْكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله بِالْفِطْرِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ، حَتَّى إِذا بلغ أدنى منزل يلقى الْعَدُوِّ أَمَرَنَا بِالْفِطْرِ فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعُونَ.

* * * قُلْتُ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، مِنْ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ يَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ، يَقْتَضِي أَنَّ مَسِيرَهُمْ كَانَ بَيْنَ (1) مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً.

وَلَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرِهِمْ.

قَالُوا: كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي عَشْرٍ بقيت من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَام الْفَتْحِ صَائِمًا حَتَّى أَتَى كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَالنَّاسُ مَعَهُ مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِم الصَّوْم وَإِنَّمَا ينظرُونَ كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَرَفَعَهُ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَصَامَ بَعْضُ النَّاسِ وَأَفْطَرَ الْبَعْضُ، حَتَّى أُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَعْضَهُمْ صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

" أُولَئِكَ العصاة ".

(1) ا: من.

(2)

ا: فِي رَمَضَان.

(*)

ص: 542

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ وَالدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَام الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَامَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ دَعَا بِمَاءٍ فِي قَعْبٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمد.

فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي سُفْيَان بن الْحَارِث ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعبد الله بن أبي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.

وَهِجْرَتِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدُوهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الطَّرِيقِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَقِيَهُ بِالْجَحْفَةِ مُهَاجِرًا بِعِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى سِقَايَتِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ رَاضٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَدْ لَقِيَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَيْضا بِنِيقِ الْعُقَابِ (1) فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِيهِمَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ وَصِهْرُكَ.

قَالَ: " لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي فَهُوَ الَّذِي

قَالَ لِي بِمَكَّةَ مَا قَالَ " (2) .

(1) ا: بنيق العقيق.

(2)

قَالَ لَهُ: " وَالله لَا آمَنت بك حَتَّى تتَّخذ سلما إِلَى السَّمَاء فتعرج فِيهِ وَأَنا أنظر، ثمَّ تأتى بصك وَأَرْبَعَة من الْمَلَائِكَة يشْهدُونَ أَن الله قد أرسلك " الرَّوْض الانف 2 / 267.

(*)

ص: 543

قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمَا الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيٌّ لَهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى (1) نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا.

فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَأَسْلمَا، وأنشده أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَهُ فِي إِسْلَامِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ مَضَى مِنْهُ: لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً * لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ لكا لمدلج (2) الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ * فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي هَدَانِيَ هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي * مَعَ (3) اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ * وَأُدْعَى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ هُمُ مَا هُمُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُ * وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنَّدِ أُرِيدُ لِأُرْضِيهِمْ وَلَسْتُ بِلَائِطٍ * مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلِّ مَقْعَدِ فَقُلْ لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا * وَقُلْ لِثَقِيفٍ تِلَكَ: غَيْرِيَ أَوْعِدِي فَمَا كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي نَالَ عَامِرًا * وَلَا (4) كَانَ عَنْ جَرَّا لِسَانِي وَلَا يَدِي قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ * نَزَائِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسَرْدُدِ (5) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَنَالَنِي مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ " ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: " أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كل مطرد ".

(1) غير ا: ثمَّ نموت.

(2)

ا: إِن المدلج.

(3)

ا: من.

(4)

غير ا: وَمَا كَانَ.

(5)

سِهَام وسردد: موضعان من أَرض عك.

(*)

ص: 544

فصل وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ نَزَلَ فِيهِ فَأَقَامَ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ وَمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْتَنِي الْكَبَاثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا ".

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ سِنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ سَعِيدِ بْنِ مينا، قَالَ: لما فرغ أهل مَكَّة وَرَجَعُوا أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَسِيرِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ نَزَلَ بِالْعُقْبَةِ فَأَرْسَلَ الْجُنَاةَ يَجْتَنُونَ الْكَبَاثَ، فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: ثَمَرُ الْأَرَاكِ.

قَالَ: فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَنْ يَجْتَنِي، قَالَ: فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَصَابَ حَبَّةً طَيِّبَةً قَذَفَهَا فِي فِيهِ، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى دِقَّةِ سَاقَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَرْقَى فِي الشَّجَرَةِ فَيَضْحَكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" تَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ! ".

وَكَانَ ابْن مَسْعُود مَا اجتنى من شئ جَاءَ بِهِ وَخِيَارُهُ فِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِي ذَلِكَ: هَذَا جناى وخياري فِيهْ * إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهْ

(35 - السِّيرَة 3)

ص: 545

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَنَفَجْنَا (1) أَرْنَبًا وَنحن بمر الظهْرَان، فسعى الْقَوْم فلغبوا وأدركتها فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا.

وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فَقَبِلَهُ.

* * * وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهْرَانِ وَقَدْ عميت الاخبار على (2) قُرَيْشٍ، فَلَا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَدْرُونَ مَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعِلٌ، وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يتجسسون الْأَخْبَارَ وَيَنْظُرُونَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ [عُيُونًا](3) خَيْلًا يَقْتَصُّونَ الْعُيُونَ، وَخُزَاعَةُ لَا تَدَعُ أَحَدًا يَمْضِي وَرَاءَهَا فَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ أَخَذَتْهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ وَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ، حَتَّى أَجَارَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ صَاحِبًا لِأَبِي سُفْيَانَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهْرَانِ قُلْتُ: وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ عَنْوَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

قَالَ: فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْضَاءِ فَخَرَجْتُ عَلَيْهَا حَتَّى جِئْتُ الْأَرَاكَ فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ أَوْ صَاحِبَ لَبَنِ أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي

(1) أنفجنا: أثرنا.

(2)

غير ا: عَن.

(3)

لَيست فِي ا.

(*)

ص: 546

مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يدخلهَا (1) عَلَيْهِمْ عَنْوَةً.

قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا وَأَلْتَمِسَ مَا خَرَجْتُ لَهُ إِذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَانًا قَطُّ وَلَا عَسْكَرًا.

قَالَ: يَقُولُ بُدَيْلٌ: هَذِهِ وَاللَّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ.

قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهَا وَعَسْكَرُهَا.

قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ؟ فَعَرِفَ صَوْتِي.

فَقَالَ: أَبُو الْفضل؟ قَالَ: قلت: نعم.

قَالَ: مَالك فَدَى لَكَ أَبِي وَأُمِّي! قَالَ: قُلْتُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاس.

فَقَالَ: واصباح قُرَيْش وَالله! فَمَا الْحِيلَةُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: قُلْتُ وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتَّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْتَأْمِنُهُ لَكَ.

قَالَ: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحَبَاهُ.

وَقَالَ عُرْوَةُ: بَلْ ذَهَبَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَا وَجَعَلَ يَسْتَخْبِرُهُمَا عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: بَلْ دَخَلُوا مَعَ الْعَبَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

* * * [قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ، كُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَيْهَا قَالُوا: غم رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: من هَذَا؟

(1) غير ا: يدْخل.

(*)

ص: 547

وَقَامَ إِلَيَّ.

فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ.

وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ وَجَأَ فِي رَقَبَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْعَبَّاسُ.

وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُيُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذُوهُمْ بِأَزِمَّةِ جِمَالِهِمْ فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: وَفْدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَلَقِيَهُمُ الْعَبَّاسُ فَدخل بهم على رَسُول الله فَحَادَثَهُمْ عَامَّةَ اللَّيْلِ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَشَهِدُوا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

فَشَهِدَ حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَعْلَمُ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الصُّبْحِ.

ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَمِّنَ قُرَيْشًا فَقَالَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ - وَكَانَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ - وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ.

وَكَانَتْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ - وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " قَالَ الْعَبَّاسُ:] (1) ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكَضَتِ الْبَغْلَةُ فسبقته بِمَا تسبق الدَّابَّة البطيئة الرجل البطئ.

قَالَ: فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ.

ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ دُونِي رَجُلٌ.

فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ قَالَ قُلْتُ: مَهْلًا يَا عُمَرُ! فَوَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ (2) بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا، وَلَكِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ.

فَقَالَ: مَهْلًا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ! وَمَا بِي إِلَّا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(1) من ا.

(2)

ا: لَو كَانَ معى رجل من بنى عدى.

(*)

ص: 548

وَسلم من إِسْلَام الْخطاب.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلَى رَحْلِكَ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ ".

* * * قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي فَبَاتَ عِنْدِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله قَالَ:" وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! مَا أَحَلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا بَعْدُ! قَالَ: " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحَلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! أَمَّا هَذِهِ وَاللَّهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا حَتَّى الْآنَ شَيْئًا! فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ؟ قَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَأَسْلَمَ.

قَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا.

قَالَ: " نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " زَادَ عُرْوَةُ: " وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ " وَهَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

" وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ".

فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَبَّاسُ احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ (1) الْجَبَلِ حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا ": وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَبُدَيْلًا وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ

(1) خطم الْجَبَل: أَنفه (*)

ص: 549

كَانُوا وُقُوفًا مَعَ الْعَبَّاسِ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، وَذكر أَن سعد لَمَّا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ.

الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ: * الْيَوْم تستحل الحرمه فَشَكا أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَزَلَهُ عَنْ رَايَةِ الْأَنْصَارِ وَأَعْطَاهَا الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَدَخَلَ بِهَا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَغَرَزَهَا بِالْحَجُونِ، وَدَخَلَ خَالِدٌ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَلَقِيَهُ بَنُو بَكْرٍ وَهُذَيْلٌ، فَقُتِلَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عِشْرِينَ وَمِنْ هُذَيْلٍ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَانْهَزَمُوا فَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ (1) حَتَّى بَلَغَ قَتْلُهُمْ بَابَ الْمَسْجِدِ.

قَالَ الْعَبَّاسُ: فَخَرَجْتُ بِأَبِي سُفْيَانَ حَتَّى حَبَسْتُهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَحْبِسَهُ.

قَالَ: وَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: سليم.

فَيَقُول: مالى وَلِسُلَيْمٍ.

ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاس من هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُول: مزينة.

فَيَقُول: مالى وَلِمُزَيْنَةَ.

حَتَّى نَفِدَتِ الْقَبَائِلُ مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلَّا سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ قَالَ: مالى وَلِبَنِي فُلَانٍ.

حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَفِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ لَا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقُ مِنَ الْحَدِيدِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا عَبَّاسُ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، قَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قِبَلٍ وَلَا طَاقَةٍ، وَاللَّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْغَدَاةَ عَظِيمًا! قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ.

قَالَ: فَنِعْمَ إِذَنْ.

قَالَ: قُلْتُ النَّجَاءَ إِلَى قَوْمِكَ.

* * * حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قبل

(1) الْحَزْوَرَة: كَانَت سوق مَكَّة.

(*)

ص: 550

لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ.

فَقَامْتُ إِلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ [فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ (1) ] فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدَّسِمَ الْأَحْمَسَ (2) قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قد جَاءَكُم مَالا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ.

قَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ! وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ.

فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دَوْرِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ.

[وَذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَرَى وُجُوهًا كَثِيرَةً لَا أَعْرِفُهَا، لَقَدْ كَثُرَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله:" أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا وَقَوْمُكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ صَدَّقُونِي إِذْ كذبتموني، ونصروني إِذْ أخرجتموني ".

ثمَّ شكا إِلَيْهِ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ * الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " كَذِبَ سَعْدٌ، بَلْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ ".

وَذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَصْبَحَ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ عِنْدَ الْعَبَّاسِ، وَرَأَى النَّاس يجنحون لِلصَّلَاةِ وَيَنْتَشِرُونَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّهَارَةِ خَافَ وَقَالَ للْعَبَّاس: مَا بالهم؟ قَالَ: إِنَّهُم قد سمعو النِّدَاءَ فَهُمْ يَنْتَشِرُونَ لِلصَّلَاةِ.

فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ ورآهم يَرْكَعُونَ

(1) لَيست فِي أ.

(2)

الحميت: الزق.

أَو وعَاء السّمن.

وَالدَّسم: السمين.

والاحمس: الْكثير اللَّحْم.

(*)

ص: 551

وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَا يَأْمُرُهُمْ بشئ إِلَّا فَعَلُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَأَطَاعُوهُ.

وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلُوا يَتَكَفَّفُونَ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ وَلَا مُلْكَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ!] (1) .

* * * وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا كَمَا أَوْرَدَهَا زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعَةً.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ الْعَبَّاسُ بِأَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تَسَعُ دَارِي؟ فَقَالَ: " وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ " قَالَ: وَمَا تَسَعُ الْكَعْبَةُ؟ فَقَالَ: " وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ " قَالَ: وَمَا يَسَعُ الْمَسْجِدُ؟ فَقَالَ: " وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذِهِ وَاسِعَةٌ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَن هدم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِك قُريْشًا خرج أَبُو سُفْيَان ابْن حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

(1) من أ.

(*)

ص: 552

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.

فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ.

فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: " احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ " فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِه غفار.

قَالَ: مالى وَلِغِفَارٍ.

ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ.

فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ.

الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ.

ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ فَقَالَ: مَا قَالَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ: " كَذِبَ سَعْدٌ، وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ.

قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوام: هَاهُنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكِزَ الرَّايَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُدًى، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ حُبَيْشُ بْنُ الْأَشْعَرِ وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا

ص: 553

عُثْمَان بن أَبى شيبَة، حَدثنَا يحيى بن آدم، حَدثنَا إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فَأَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَلَوْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئًا؟ قَالَ:" نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ".

صفة دُخُوله عليه الصلاة والسلام مَكَّةَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ [عَنِ الزُّهْرِيِّ (1) ] عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: " اقْتُلُوهُ ".

قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أعلم محرما.

وَقَالَ أَحْمد: حَدثنَا عَفَّان، حَدثنَا حَمَّاد، حَدثنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ.

وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَرَقَانِيَّةٌ (2) سَوْدَاءُ قَدْ أرْخى طرفها بَين كَتفيهِ.

(1) سَقَطت من ا.

(2)

الحرقانية: على لون مَا أحرقته النَّار.

(*)

ص: 554

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ.

وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ أَبْيَضَ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ عَائِشَة: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ أَبْيَضَ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءَ تُسَمَّى الْعقَاب، وَكَانَت قِطْعَة من مرط مرجل (1) .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن عبد الله بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ.

وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقَّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ (2) ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَضَعُ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ (3) لَيَكَادُ يَمَسُّ وَاسِطَةَ الرَّحْلِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا دعْلج بن أَحْمد، حَدثنَا أَحْمد ابْن على الابار، حَدثنَا عبد الله بن أَبى بكر الْمَقْدِسِي، حَدثنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ عَلَى رَحْلِهِ (4) متخشعا.

(1) المرط: كسَاء من صوف.

والمرجل: الذى فِيهِ صور الرِّجَال.

وتروى مرحل بِالْحَاء أَي فِيهِ صور الرّحال.

(2)

ا: بشقة برد حَمْرَاء.

(3)

العثنون: اللِّحْيَة أَو مَا فضل مِنْهَا بعد العارضين.

(4)

غير ا: رَاحِلَته.

(*)

ص: 555

وَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بكر بن بَالَوَيْهِ، حَدثنَا أَحْمد بن صاعد، حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أَبى الْحَارِث، حَدثنَا جَعْفَر بن عون، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ، عَنْ ابْن مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، فَقَالَ:" هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قُرَيْش تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ".

قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زُهَيْر، عَن إِسْمَاعِيل ابْن أَبِي الْحَارِثِ مَوْصُولًا.

ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْمُزَكِّي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قيس مُرْسلا.

وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.

وَهَذَا التَّوَاضُعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عِنْدَ دُخُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَيْشِ الْكَثِيفِ الْعَرَمْرَمِ، بِخِلَافِ مَا اعْتَمَدَهُ سُفَهَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُمْ سُجُودٌ - أَيْ رُكَّعٌ - يَقُولُونَ حِطَّةٌ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أستاهم وهم يَقُولُونَ: حِنْطَة فِي شَعْرَة! وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا الْقَاسِم بن خَارِجَة، حَدثنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْح من كداء الَّتِى بِأَعْلَى مَكَّة.

تَابعه أَبُو أُسَامَة ووهب فِي كداء.

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَام الْفَتْح من أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ.

وَهُوَ أَصَحُّ إِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ مِنَ الْمُسْنَدِ الْمُتَقَدِّمِ انْتَظَمَ الْكَلَامُ، وَإِلَّا فَكَدَاءٌ بِالْمَدِّ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ فِي أَعْلَى مَكَّةَ، وَكُدًى مَقْصُور فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ.

وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْأَنْسَبُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عليه السلام بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَدَخَلَ هُوَ عَلَيْهِ

ص: 556

السَّلَامُ مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ كُدًى وَهُوَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ.

وَالله أعلم.

وَقد قَالَ البيهقى: أَنبأَنَا أَبُو الْحُسَيْن بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ [حَدثنَا عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الخزامى، حَدثنَا معن، حَدثنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (1) ] قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَام الْفَتْحِ رَأَى (2) النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ، فَتَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ:" يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا * تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ (3) مُسْرَجَاتٍ * يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ادْخُلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ! ".

* * * وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي طُوًى قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةٍ لَهُ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ: أَيْ بُنَيَّةُ اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ.

قَالَتْ: وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ.

قَالَتْ: فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا.

قَالَ: تِلْكَ الْخَيْلُ.

قَالَتْ: وَأَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا.

قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ ذَلِكَ الْوَازِعُ - يَعْنِي الَّذِي يَأْمُرُ الْخَيْلَ وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهَا - ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ انْتَشَرَ السَّوَادُ.

فَقَالَ: قَدْ وَالله إِذا دَفَعَتِ الْخَيْلُ فَأَسْرِعِي بِي إِلَى بَيْتِي.

فَانْحَطَّتْ بِهِ وتلقاه الْخَيل قبل أَن يصل إِلَى بَيْتَهُ.

قَالَتْ: وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عُنُقهَا.

(1) سَقَطت من ا.

(2)

غير ا: وأتى النِّسَاء.

(3)

ا: الاسنة.

ولعلها تَحْرِيف.

(*)

ص: 557

قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟ ! " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِي إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تمشى أَنْت إِلَيْهِ.

قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ ثُمَّ قَالَ: أَسْلِمْ.

فَأَسْلَمَ.

قَالَتْ: وَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ (1) بَيَاضًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " غَيِّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ ".

ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ وَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أختى؟ فَلم يجبهُ أحد قَالَ: فَقَالَ: أَيْ أُخَيَّةُ احْتَسِبِي طَوْقَكِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الامانة فِي النَّاس الْيَوْم لقَلِيل! يعْنى بِهِ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى التَّعْيِينِ (2) ، لِأَنَّ الْجَيْشَ فِيهِ كَثْرَةٌ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ.

يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ، مَعَ انْتِشَارِ النَّاسِ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَخَذَهُ تَأَوَّلَ أَنَّهُ مِنْ حَرْبِيٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْحَافِظ البيهقى: أَنبأَنَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنبأَنَا بَحر بن نصر، أَنبأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" غَيِّرُوهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا ".

قَالَ ابْنُ وهب: وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَنَّأَ أَبَا بَكْرٍ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ فَرَّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بعض النَّاس من كداء، وَكَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ من كدى.

(1) الثغامة: وَاحِدَة الثغام، وَهُوَ نبت أَبيض.

(2)

أ: يعْنى الصّديق ذَلِك الْيَوْم على الْعين.

(*)

ص: 558

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سَعْدًا حِينَ وَجَّهَ دَاخِلًا قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ.

الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ.

فَسَمِعَهَا رَجُلٌ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: إِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: " أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ بِهَا ".

قُلْتُ: وَذَكَرَ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما شكا إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ بِهِ، وَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ -.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " بَلْ هَذَا يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ " وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ - رَايَةِ الْأَنْصَارِ - أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَالتَّأْدِيبِ لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا دُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ.

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ بن الْعَوام.

فَالله أعلم.

* * * وَذكر الْحَافِظ بن عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ دِينَار، حَدثنَا عبد الله بن السرى الانطاكي، حَدثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَعَلَ يَهُزُّهَا وَيَقُولُ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ: يَوْمٌ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ.

قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَكَبُرَ فِي نُفُوسِهِمْ، قَالَ: فَعَارَضَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرِهِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ (1) : يَا نبى الْهدى إِلَيْك لجاحى قُرَيْش ولات حِين لجاء

(1) نسب السُّهيْلي هَذِه الابيات إِلَى ضرار بن الْخطاب.

الرَّوْض 2 / 271.

(*)

ص: 559

حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ سَعَةُ الْأَرْ * ضِ وَعَادَاهُمْ إِلَهُ السَّمَاءِ [وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ عَلَى الْقَوْ * مِ وَنُودُوا بِالصَّيْلَمِ الصَّلْعَاءِ](1) إِنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قاصمة الظه * ر بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ خَزْرَجِيٌّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنَ الْغَيْ * ظِ رَمَانَا بِالنَّسْرِ وَالْعَوَّاءِ (2) فَانْهَيَنْهُ فَإِنَّهُ الْأَسَدُ الْأَسْ * وَدُ وَاللَّيْثُ وَالِغٌ فِي الدِّمَاءِ فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللِّوَاءَ وَنَادَى * يَا حُمَاةَ اللِّوَاءِ أَهْلَ اللِّوَاءِ لَتَكُونَنَّ بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ * بُقْعَةَ الْقَاعِ فِي أَكُفِّ الْإِمَاءِ (3) إِنَّهُ مُصْلَتٌ يُرِيدُ لَهَا الرَّأْ * يَ صُمُوتٌ كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ (4) قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الشِّعْرَ دَخَلَهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ وَرَأْفَةٌ بِهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ فَأُخِذَتْ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَدُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ.

قَالَ: فيروى أَنه عليه الصلاة والسلام أحب أَلا يُخَيِّبَهَا إِذْ رَغِبَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَغَاثَتْ بِهِ، وَأَحَبَّ أَلا يَغْضَبَ سَعْدٌ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْهُ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ (5) .

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى وَفِيهَا أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قبائل الْعَرَب، وَأَقْبل أَبُو عُبَيْدَة ابْن الْجراح بالصف من الْمُسلمين ينصب لاهل مَكَّة (6) بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَذَاخِرَ حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَضربت لَهُ هُنَالك قبَّة.

(1) من الرَّوْض الانف.

والبطان: حزَام القتب.

والصيلم: الداهية.

والصلعاء: الْمَشْهُورَة.

(2)

العواء: الْكَلْب.

(3)

القاع: الارض السهلة المنبسطة.

(4)

المصلت: الرجل الْمَاضِي (5) سقط من أ.

(6)

غير أ: لمَكَّة.

(*)

ص: 560

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبَاعٍ (1) " ثُمَّ قَالَ: " لَا يَرث الْكَافِر الْمُؤمن وَلَا الْمُؤمن الْكَافِر ".

ثمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدثنَا أَبُو الزبير، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا فَتَحَ اللَّهُ الْخَيْفَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ ".

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدثنَا يُونُس، حَدثنَا إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ - عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ ".

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ صَفْوَان ابْن أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَكَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلَاحًا قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُصْلِحُ مِنْهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ.

فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى يقوم لمُحَمد وَأَصْحَابه شئ! قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلَّهْ * هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ (2) وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ (3) قَالَ: ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلٍ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَاب

(1) الرباع: جمع ربع، وهى الدَّار.

(2)

الالة: جَمِيع أَدَاة الْحَرْب.

(3)

الغرار: حد الرمْح وَالسيف والسهم.

يُرِيد: سَيْفا.

(36 - السِّيرَة 3)(*)

ص: 561

خَالِدٍ نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالِ، فَقُتِلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ وحبيش (1) بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ حَلِيفُ بَنِي مُنْقِذٍ، وَكَانَا فِي جَيْشِ خَالِدٍ، فَشَذَّا عَنهُ فسلكا غير طَرِيقه فقلا جَمِيعًا، وَكَانَ قتل كرز قبل حُبَيْش.

قَالَا: وَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ أَيْضًا سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ.

ثُمَّ انْهَزَمُوا فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي.

قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ * إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَأَبُو يزِيد قَائِم كالمؤتمه * وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ (2) يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ * ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ لَهُمْ نَهِيتٌ خَلَفَنَا وَهَمْهَمَهْ * لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ (3) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِلرَّعَّاشِ الْهُذَلِيِّ.

قَالَ: وَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ: " يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ " وشعار الْخَزْرَج: " يَا بني عبد الله " وشعار الْأَوْسِ: " يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ ".

وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدثنَا على بن سعيد الرَّازِيّ، حَدثنَا أَبُو حسان الزيَادي، حَدثنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَن طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الْبَلَد يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ، وَصَاغَهُ يَوْمَ صَاغَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَمَا حِيَالُهُ مِنَ السَّمَاءِ حَرَامٌ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا حَلَّ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَار ثمَّ عَاد كَمَا كَانَ ".

(1) الاصل: حنيش.

وَهُوَ تَحْرِيف وَمَا أثْبته عَن الرَّوْض الانف.

(2)

أَبُو يزِيد: يُرِيد سُهَيْل بن عَمْرو، وَكَانَ خطيب قُرَيْش.

والمؤتمة: الاسطوانة، من قَوْلهم وَتمّ وَأتم إِذا ثَبت.

وتروى الموتمة.

بِالْوَاو بدل الْهَمْز، وَمَعْنَاهَا: الايم الَّتِى مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا.

الرَّوْض 2 / 272 (3) النهيت: الزئير.

(*)

ص: 562

فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَقْتُلُ؟ فَقَالَ: " قُمْ يَا فُلَانُ فَأْتِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقُلْ لَهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ ".

فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اقْتُلْ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ! فَقَتَلَ سَبْعِينَ إِنْسَانًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدٍ فَقَالَ:" أَلَمْ أَنْهَكَ عَنِ الْقَتْلِ؟ " فَقَالَ: جَاءَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ.

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: " أَلَمْ آمُرْكَ؟ " قَالَ: أَرَدْتَ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ فَوْقَ أَمْرِكَ، وَمَا اسْتَطَعْتُ إِلَّا الَّذِي كَانَ.

فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عهد إِلَى أمرائه أَلا يُقَاتِلُوا (1) إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَ نَفَرٍ سَمَّاهُمْ وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُمْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَبَ الْوَحْيَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَقَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهِ لِيَسْتَأْمِنَ لَهُ صَمَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ:" نَعَمْ ".

فَلَمَّا انْصَرَفَ مَعَ عُثْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ حَوْلَهُ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي قَدْ صَمَتُّ فَيَقْتُلَهُ " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ ".

وَفِي رِوَايَةٍ (2) : " إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ".

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَلَّاهُ عُمَرُ بعض أَعماله ثمَّ ولاه عُثْمَان.

(1) ا: يقتلُوا.

(2)

ا: وفى رِوَايَة لهَذَا.

(*)

ص: 563

قُلْتُ: وَمَاتَ وَهُوَ سَاجِدٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَو بعد انْقِضَاء صلَاتهَا فِي بَيته.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ.

قُلْتُ: وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ سُمِّيَ عَبْدَ اللَّهِ.

وَلَمَّا أَسْلَمَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا (1) وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ غَضْبَةً فَقَتَلَهُ (2) ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا، فَكَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا أَهْدَرَ دَمَهُ وَدَمَ قَيْنَتَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، اشْتَرَكَ فِي قَتله أبوبرزة الْأَسْلَمِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَقُتِلَتْ إِحْدَى قَيْنَتَيْهِ وَاسْتُؤْمِنَ لِلْأُخْرَى.

قَالَ: وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بن وهب بن عبد قَصَيٍّ، وَكَانَ مِمَنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، وَلَمَّا تَحَمَّلَ الْعَبَّاسُ بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ لِيَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ يُلْحِقُهُمَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ الْهِجْرَةِ نَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثُ هَذَا الْجَمَلَ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ فَسَقَطَتَا إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا أُهْدِرَ دَمُهُ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

قَالَ: وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ (3) لِأَنَّهُ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيه خطأ بعد مَا أَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

قَالَ: وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ (4) بِمَكَّةَ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي تَحَمَّلَتِ الْكِتَابَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَكَأَنَّهَا عُفِيَ عَنْهَا أَوْ هَرَبَتْ ثُمَّ أُهْدِرَ دَمُهَا.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَهَرَبَتْ حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهَا فَعَاشَتْ إِلَى زمن

(1) مُصدقا: جابيا للصدقات (2) ا: ثمَّ قَتله.

(3)

فِي الْقَامُوس: ابْن حبابة.

(4)

كَذَا ولعلها: وَهُوَ.

(*)

ص: 564

عُمَرَ، فَأَوْطَأَهَا رَجُلٌ [فَرَسًا (1) ] فَمَاتَتْ.

وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ فَرْتَنَى أَسْلَمَتْ أَيْضًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّنَهُ، فَذَهَبَتْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ.

* * * وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمس الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقطَّان، أَنبأَنَا أَحْمد بن يُوسُف السلمى، حَدثنَا أَحْمد بن الْمفضل، حَدثنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ.

قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ آمَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ:" اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ " وَهُمْ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صبَابَة، وَعبد الله بن سعد بن أبي سَرْحٍ.

فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ فَقَتَلَهُ.

وَأَمَّا مِقْيَسٌ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ قَاصِفٌ، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا.

فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنْجِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ فَإِنَّهُ لَا يُنْجِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ! اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ

عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا [فَجَاءَ (2) ] فَأَسْلَمَ.

وَأَمَّا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1) سَقَطت من ا.

(2)

سَقَطت من ا.

(*)

ص: 565

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ.

فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:" أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ " فَقَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِك؟ فَقَالَ:" إِنَّه لَا ينبغى أَن يكون لنبى خَائِنَة أعين (1) ".

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الاصم، أَنبأَنَا أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي، حَدثنَا الْحسن بن بشر الكوفى، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ خَطَلٍ، وَمقيس بن صبَابَة، وَعبد الله بن سعد بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَأُمَّ سَارَةَ.

فَأَمَّا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة.

قَالَ: وَنذر رجل أَنْ يَقْتُلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِذَا رَآهُ، وَكَانَ أَخَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَشْفَعَ لَهُ، فَلَمَّا أبْصر بِهِ الْأَنْصَارِيُّ اشْتَمَلَ عَلَى السَّيْفِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي حَلْقَةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ وَيَكْرَهُ أَنْ يُقَدِمَ عَلَيْهِ، فَبَسَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ:" قَدِ انْتَظَرْتُكَ أَنْ تُوفِيَ بِنَذْرِكَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِبْتُكَ، أَفَلَا أَوْمَضْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ

لِلنَّبِيِّ أَنْ يُومِضَ ".

وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ، فَذَكَرَ قِصَّتَهُ، فِي قَتْلِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ ثُمَّ ارْتِدَادِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَالَ: وَأَمَّا أُمُّ سَارَةَ فَكَانَتْ مَوْلَاةً لِقُرَيْشٍ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فشكت

(1) غير ا: لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الاعين.

(*)

ص: 566

إِلَيْهِ الْحَاجَةَ فَأَعْطَاهَا شَيْئًا، ثُمَّ بَعَثَ مَعَهَا رَجُلٌ بِكِتَابٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ.

فَذَكَرَ قِصَّةَ حَاطِب ابْن أَبِي بَلْتَعَةَ.

* * * وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم، أَن مقيس ابْن صُبَابَةَ قُتِلَ أَخُوهُ هِشَامٌ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَظُنُّهُ مُشْرِكًا، فَقَدِمَ مِقْيَسٌ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ لِيَطْلُبَ دِيَةَ أَخِيهِ، فَلَمَّا أَخَذَهَا عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُشْرِكًا، فَلَمَّا أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَمَهُ قُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ شِعْرَهُ حِينَ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: شَفَى النَّفْسَ مَنْ قَدْ بَاتَ (1) بالقاع مُسْندًا * يضرج ثوبيه دِمَاء الأخادع وَكَانَت هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ * تُلِمُّ وَتُنْسِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا (2) وَغَرَّمْتُ عَقْلَهُ * سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ حَلَلْتُ بِهِ نَذْرِي (3) وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي * وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنَّ الْقَيْنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أُهْدِرَ دَمُهُمَا كَانَتَا لِمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ هَذَا، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّهِ قَتَلَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضى الله عَنهُ.

* * * وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ابْنَةَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَى مَكَّةَ فَرَّ إِلَيَّ رَجُلَانِ من أحمائي [من بنى مَخْزُوم (4) ] .

(1) سبقت الرِّوَايَة ص 298 أَن قد بَات.

(2)

سبقت الرِّوَايَة: ثأرت بِهِ.

(3)

سبقت الرِّوَايَة: حللت بِهِ وَترى.

(4)

سَقَطت من ا.

(*)

ص: 567

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ أَخِي عَلِيُّ بن أَبى طَالب فَقَالَ: وَالله لاقتلنهما، فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ إِنَّ فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشَّحَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مِنَ الضُّحَى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيَّ فَقَالَ:" مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِأُمِّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِكِ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيٍّ، فَقَالَ:" قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ فَلَا نقتلهما (1) ".

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، قَالَتْ: وَلَمْ أَرَهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.

وَفِي صَحِيحِ (2) مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ فَرَّ إِلَيْهَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَجَارَتْهُمَا، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَقْتُلُهُمَا،

فَلَمَّا سَمِعْتُهُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ وَقَالَ:" مَا جَاءَ بِكِ؟ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنْتُ أَمَّنْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي فَأَرَادَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبًا فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صلى ثمانى رَكْعَات سبْحَة (3) الضُّحَى.

(1) غير ا: يقتلهما.

(2)

ا: وفى حَدِيث مُسلم.

(3)

السبحة: النَّافِلَة.

(*)

ص: 568

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ:" مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: أُمُّ هَانِئٍ.

قَالَ: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَليّ ابْن أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَاتِلُ رَجُلَيْنِ قَدْ أَجَرْتُهُمَا؟ ! فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " قَالَتْ: ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ..وَذَلِكَ ضُحًى فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى.

وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةُ الْفَتْحِ، وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.

وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى السُّهَيْلِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ الْفَتْحِ تَكُونُ ثَمَانِيًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ صَلَّى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فَتْحِ الْمَدَائِنِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، [فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ

اسْتَكَفَّ (1) لَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ] (2) .

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى زَمْزَمَ فَاطَّلَعَ فِيهَا، وَدَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهَا وَتَوَضَّأَ، وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ وَضُوءَهُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مَلِكًا قَطُّ وَلَا سَمِعْنَا بِهِ - يَعْنِي مثل هَذَا - وَأخر الْمقَام إِلَى مَكَانَهُ الْيَوْم وَكَانَ مُلْصقًا بِالْبَيْتِ.

(1) استكف: اجْتمع.

(2)

هَذِه الْجُمْلَة مؤخرة فِي: أبعد قَوْله: وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ.

(*)

ص: 569

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَّعَى فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ (1) مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى " الْآيَة كلهَا.

ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.

قَالَ: " اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ".

ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: " هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ ".

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ:

" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ ".

وَقَالَ مَرَّةً [أُخْرَى (2) ] : " مُغَلَّظَةً فِيهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَدَمٍ وَدَعْوَى " وَقَالَ مَرَّةً: " وَمَالٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا مَا كَانَ من سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْبَيْت فَإِنَّهُمَا أمضيتهما لاهلهما على مَا كَانَت ".

(1) أ: النَّاس ابْن آدم.

(2)

لَيست فِي أ.

(*)

ص: 570

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ [زَيْدِ بْنِ (1) ] جُدْعَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَوْشَنٍ الْغَطْفَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.

* * * قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيم مُصَوَّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ:" قَاتَلَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ [مَا شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ (1) ] : " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا فَطُمِسَتْ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَةِ صُوَرٌ، فَأَمَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ (1) ] أَنْ يَمْحُوَهَا فَبَلَّ عُمَرُ ثَوْبًا وَمَحَاهَا بِهِ.

فَدَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِيهَا مِنْهَا شئ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وحول الْبَيْت سِتُّونَ وثلثمائة نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا

بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ.

جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ".

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ على بن عبد الله ابْن عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وعَلى

(1) سَقَطت من المطبوعة.

(*)

ص: 571

الْكَعْبَة ثلثمِائة صَنَمٍ، فَأَخَذَ قَضِيبَهُ، فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى الصَّنَمِ وَهُوَ يَهْوِي حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا.

ثمَّ روى من طَرِيق سُوَيْد بن [سعيد] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما دخل مَكَّة وجد بهَا ثلثمِائة وَسِتِّينَ صَنَمًا، فَأَشَارَ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ بِعَصَا وَقَالَ:" جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَكَانَ لَا يُشِيرُ إِلَى صَنَمٍ إِلَّا وَيَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَصَاهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَالَّذِي قَبْلَهُ يُؤَكِّدُهُ.

وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الرّبيع، عَن يَعْقُوب القمى، حَدثنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ جَاءَتْ عَجُوزٌ شَمْطَاءُ حَبَشِيَّةٌ تَخْمِشُ وَجْهَهَا وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" تِلْكَ نَائِلَةُ أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا ".

وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي إِسْنَادٍ لَهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) ] أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرَّصَاصِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ:

" جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَمَا أَشَارَ إِلَى صنم مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ، وَلَا أَشَارَ إِلَى قَفَاهُ إِلَّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا وَقَعَ، فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيُّ: وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ * لِمَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ

(1) من ابْن هِشَام.

(*)

ص: 572

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ على الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَتَى إِلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَتِهَا (1) فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ فَجعل يَطْعُنُ فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ:" جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ.

وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور، حَدثنَا عبد الصَّمد، حَدثنَا أَبى، حَدَّثَنَا أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عليهما السلام وفى أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامِ (2)، فَقَالَ:" قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ ".

ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نواحى الْبَيْت وخرح وَلَمْ يُصَلِّ.

تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا همام، حَدثنَا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا سِتّ سوار، فَقَامَ إِلَى كل سَارِيَة

فَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى الْعُوذِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدثنَا ابْن وهب، أَخْبرنِي عَمْرو ابْن الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَجَدَ فِيهِ صُورَة إِبْرَاهِيم وَصُورَة مَرْيَم، فَقَالَ: " أما

(1) السية: مَا عطف من طرفِي الْقوس.

(2)

أ: من الازلام.

(*)

ص: 573

هُمْ فَقَدَ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرًا، فَمَا بَالُهُ يَسْتَقْسِمُ؟ ! ".

وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا معمر، أَخْبرنِي عُثْمَان الخزرجي، أَنَّهُ سَمِعَ مِقْسَمًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فَدَعَا فِي نَوَاحِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل، أَنبأَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدثنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنِي نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ على رَاحِلَته مردفا أُسَامَة ابْن زيد، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ مِنَ الْحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِد، فَأمر أَن يُؤْتى بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَمَكَثَ فِيهِ نَهَارًا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.

قَالَ عبد الله: ونسيت أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ.

وَرَوَاهُ الامام أَحْمد عَن هشيم، حَدثنَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَان ابْن طَلْحَةَ وَبِلَالٌ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَجَافَ (1) عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَمَكَثَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ خَرَجَ.

(1) أجاف: أغلق.

(*)

ص: 574

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ مِنْهُمْ بِلَالًا فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هَاهُنَا بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ.

قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيره أَنه عليه السلام صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ تِلْقَاءَ وِجْهَةِ بَابِهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَجَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ الْغَرْبِيِّ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.

* * * قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عتاب: لقد أكْرم الله أسيدا أَلا يكون سمع هَذَا فَسمع مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ! فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ لَاتَّبَعْتُهُ.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي هَذِهِ الْحَصَا.

فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ " ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ.

فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ! مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فَنَقُولَ أَخْبَرَكَ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَالِدِي، حَدَّثَنِي بَعْضُ آل جُبَير

ابْن مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَ بِلَالًا فَعَلَا عَلَى الْكَعْبَةِ عَلَى ظَهْرِهَا فَأَذَّنَ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ سَعِيدًا إِذْ قَبَضَهُ قَبْلَ أَنْ يسمع هَذَا الْأَسْوَدَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ! وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا فَأَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِلْحَارِثِ

ص: 575

ابْن هِشَامٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْعَبْدِ أَيْنَ صَعِدَ؟ فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنْ يَكُنِ اللَّهُ يَكْرَهُهُ فَسَيُغَيِّرُهُ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ هِشَام بن عرون، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا عَامَ الْفَتْحِ فَأَذَّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِيَغِيظَ بِهِ (1) الْمُشْرِكِينَ.

* * * وَقَالَ مُحَمَّدُ بن سعد، عَن الْوَاقِدِيّ، عَن مُحَمَّد بن حَرْب، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ جَالِسًا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ جَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ جَمْعًا؟ فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ إِذْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ! " قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: مَا أَيْقَنْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى السَّاعَةَ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ - إِجَازَةً - أَنْبَأَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحسن المقرى، أَنبأَنَا أَحْمد بن يُوسُف السلمى، حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف الفريابى، حَدثنَا يُونُس ابْن أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رَأَى أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَالنَّاس يطأون عَقِبَيْهِ، فَقَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدْتُ هَذَا الرَّجُلَ الْقِتَالَ؟ فَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ".

فَقَالَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا تَفَوَّهْتُ بِهِ.

ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، عَن أَبى حَامِد بن الشَّرْقِي، عَن أَبى مُحَمَّد ابْن يحيى الذهلى، حَدثنَا مُوسَى بن أعين الجزرى، حَدثنَا أَبى، عَن إِسْحَاق بن رَاشد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ النَّاسُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، لَمْ يَزَالُوا فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبحُوا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان لهِنْد: أَتَرَى هَذَا من الله؟

(1) ا: بهم.

(*)

ص: 576

قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مِنَ اللَّهِ.

قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ فَغَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قلت لهِنْد: أَتَرَى هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مِنَ اللَّهِ " فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا سَمِعَ قَوْلِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ هِنْدٍ.

وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق، حَدثنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي حَسَنُ ابْن مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكهَا وَلَا يخْتَلى خلاؤها وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ الله، فَإِنَّهُ لابد مِنْهُ للدفن وَالْبُيُوتِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ:" إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ ".

وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ - هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

تفرد بِهِ البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه الاول، وَهُوَ مُرْسل، وَمن هَذَا الْوَجْه الثَّانِي أَيْضا.

* * * وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلِلْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ

فِي الْخَنْدَمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ قُتِلَ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، لِأَنَّهَا لَمْ تقسم، وَلقَوْله صلى الله عليه وسلم (37 - السِّيرَة 3)

ص: 577

لَيْلَةَ الْفَتْحِ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ".

وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ هَذِه الْمَسْأَلَة فِي كتاب الاحكام الكبيز إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سعيد بن شرحيبل، حَدثنَا اللَّيْث، عَن المقبرى، عَن أَبى شُرَيْح الخزاعى، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يعضد بهَا شَجرا، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنَ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ".

فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بجزية.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَمُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ نَحْوَهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأَثْوَعِ قَتَلَ رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ بَأْسًا (1) ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ ابْنَ الْأَثْوَعِ (1) وَهُوَ بِمَكَّةَ، قَتَلَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، لَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ رَجُلًا لَأَدِيَنَّهُ ".

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: " إِنَّ خِرَاشًا

(1) احمر بَأْسا: اسْم مركب، كتأبط شرا.

(*)

ص: 578

لَقَتَّالٌ ".

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ (1) قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ (2) مَكَّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِين افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: " يأيها النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يعضد فِيهَا شَجرا، لم تحل لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ يَكُونُ بعدى، وَلم تحل لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد قَاتَلَ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكُمْ، يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنَّهُ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ.

" ثُمَّ وَدَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ.

فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ: انْصَرِفْ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ، إِنَّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ، وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ، وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ.

فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: إِنِّي كُنْتُ شَاهِدًا وَكُنْتَ غَائِبًا، وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا وَقَدْ أَبْلَغْتُكَ فَأَنْتَ وَشَأْنُكَ.

* * *

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ

(1) ا: الْعَدْوى.

(2)

قَالَ السُّهيْلي: هَذَا وهم وَصَوَابه عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ الاشدق.

الرَّوْض 2 / 277.

(*)

ص: 579

الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ، قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِائَةِ (1) نَاقَةٍ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كفوا السِّلَاح إِلَّا خُزَاعَة من بَنِي بَكْرٍ " فَأَذِنَ لَهُمْ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ قَالَ: " كُفُّوا السِّلَاحَ " فَلَقِيَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ غَدٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ خَطِيبًا.

فَقَالَ، فَرَأَيْتُهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ:" إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ (2) الْجَاهِلِيَّةِ " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.

وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.

وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ.

فَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ رَخَّصَ لِخُزَاعَةَ أَنْ تَأْخُذَ بِثَأْرِهَا مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَلَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَأَنَّهُ، إِنْ صَحَّ، مِنْ بَابِ الِاخْتِصَاصِ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ الْوَتِيرِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة وَيزِيد بْنِ عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ الْخُزَاعِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ:" لَا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ.

وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيح.

(1) أ: فوداه مائَة نَاقَة.

(2)

الذحول: جمع ذحل، وَهُوَ الثأر.

(*)

ص: 580

قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى كُفْرِ أَهْلِهَا.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَن عبد الله ابْن مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْأَوَّلِ سَوَاءً.

* * * قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وَدَخَلَهَا قَامَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتُرَوْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا؟ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: " مَاذَا قُلْتُمْ؟ " قَالُوا: لَا شئ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَعَاذَ اللَّهِ! الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ".

وَهَذَا الَّذِي عَلَّقَهُ ابْنُ هِشَامٍ قَدْ أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدثنَا بَهْزٌ وَهَاشِمٌ قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ، وَقَالَ هَاشِمٌ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، حَدثنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَا فِيهِمْ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَصْنَعُ لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ مَا يَدْعُونَا، قَالَ هَاشِمٌ: يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ.

قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوهُمْ إِلَى رحلى؟ قَالَ: فَأمرت بِطَعَام يصنع، فَلَقِيت أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعِشَاءِ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَة الدعْوَة (2)

عِنْدِي اللَّيْلَة.

قَالَ: استبقتني (1) ؟ قَالَ هَاشم: قلت: نعم فدعوتهم فهم عِنْدِي.

(1) الاصل: استبقني.

(2)

الاصل: الدَّعْوَى.

(*)

ص: 581

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَّا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حديثكم يَا معشر الانصار؟ فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَكَّةَ، قَالَ: فَبعث الزبير على أحد الْمُجَنِّبَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَة على الجسر، وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كتيبته وَقَدْ وَبَّشَتْ (1) قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا، قَالَ: قَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِن كَانَ لَهُم شئ كُنَّا مَعَهم، وَإِن أصيبوا أعطيناه الذى سَأَلنَا.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي فَقَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:" اهتف لى بالانصار وَلَا يأتنى إِلَّا أَنْصَارِيٌّ " فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ؟ " ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: " احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا ".

قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا يَشَاء وَاحِد مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا.

قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ! قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " قَالَ: فَغَلَّقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ.

قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ قَالَ: وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ، قَالَ: فَأَتَى فِي طَوَافِهِ عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَعْبُدُونَهُ.

قَالَ: فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ

الْبَاطِلَ كَانَ زهوقا ".

(1) وبشت: جمعت.

(*)

ص: 582

قَالَ: ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلَاهُ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوَهُ.

قَالَ: وَالْأَنْصَارُ تَحت.

قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْضِيَ.

قَالَ هَاشِمٌ: فَلَمَّا قَضَى الْوَحْيُ رَفْعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الانصار، أقلم: أما الرجل فَأَدْرَكته رَغْبَة فِي قريته ورأفة بِعَشِيرَتِهِ؟ قَالُوا: قُلْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: " فَمَا اسْمِي إِذًا؟ ! كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ".

قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ " وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

زَادَ النَّسَائِيُّ: وَسَلَّامِ ابْن مِسْكِينٍ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ نَزِيلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ نَحْوَهُ.

* * * وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي - يَعْنِي بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ - أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ - يَعْنِي اللَّيْثِيَّ - أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا

دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَفَضَالَةُ؟ " قَالَ: نَعَمْ فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: " مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ قَالَ: لَا شئ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ.

قَالَ: فَضَحِكَ

ص: 583

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: " اسْتَغْفِرِ اللَّهَ " ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا مِنْ خلق الله شئ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ.

قَالَ فَضَالَةُ: فَرَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: لَا وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ: قَالَتْ هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ فَقُلْتُ لَا * يَأْبَى عَلَيْك الله والاسلام لَو مَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ * بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكَسَّرُ الْأَصْنَامُ لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا * وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجهه الاظلام قَالَ ابْن إِسْحَق: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ [عَن عَائِشَة (1) ] قَالَت: خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جُدَّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمِّنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ.

فَقَالَ: " هُوَ آمِنٌ ".

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَكَ.

فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ.

فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرُ حَتَّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: يَا صَفْوَانُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا، هَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ جِئْتُكَ بِهِ.

قَالَ: وَيْلَكَ اعْزُبْ عَنِّي فَلَا تُكَلِّمْنِي.

قَالَ: أَيْ صَفْوَانُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ وَخَيْرُ النَّاسِ، ابْنُ عَمِّكَ عزه عزك وشرفه

(1) سقط من ا.

(*)

ص: 584

شَرَفُكَ وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ.

قَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي.

قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ.

فَرَجَعَ مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي؟ قَالَ: " صَدَقَ " قَالَ: فَاجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ فِيهِ شَهْرَيْنِ.

قَالَ: " أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ".

ثُمَّ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنْ فَاخِتَةَ بَنَتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ صَفْوَانَ وَأُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَة عِكْرِمَة بن أَبى جهل وَقَدْ ذَهَبَتْ وَرَاءَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَاسْتَرْجَعَتْهُ فَأَسْلَمَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا أَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَهُمَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: رَمَى حَسَّانُ ابْنَ الزِّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ مَا زَادَ عَلَيْهِ: لاتعد من رَجُلًا أَحَلَّكَ بُغْضُهُ * نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ (1) فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزِّبَعْرَى خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ وَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ: يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي * رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بور إِذْ أبارى الشَّيْطَان فِي سنَن الغى * وَمن مَال ميله مغرور (2) آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي * ثُمَّ قَلْبِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيًّا * مِنْ لُؤَيٍّ وَكُلُّهُمْ مَغْرُورُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ: مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ * وَاللَّيْلُ مُعْتَلِجُ الرِّوَاقِ بَهِيمُ مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي * فِيهِ فَبت كأننى مَحْمُوم

(1) الاحذ: الْقَلِيل الْمُنْقَطع.

(2)

غير أ: مثبور.

(*)

ص: 585

يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا * عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ (1) إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِي * أَسْدَيْتُ إِذْ أَنَا فِي الضَّلَالِ أَهِيمُ أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ * سَهْمٌ وَتَأْمُرَنِي بِهَا مَخْزُومُ وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي * أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ * قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ مَضَتِ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا * وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ والدى كِلَاهُمَا * زَلَلِي فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ وَعَلَيْكَ مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ * نُورٌ أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ * شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ * حَقٌّ وَأَنَّك فِي الْمعَاد جَسِيمُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى * مُسْتَقْبَلٌ فِي الصَّالِحِينَ كَرِيمُ قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشم * فرع تمكن فِي الذرى وَأُرُومُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.

قُلْتُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ اسْتَعْمَلُوا قُوَاهُمْ فِي هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ.

فصل قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ.

وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَلْفٌ، وَمِنْ بنى غفار أَرْبَعمِائَة [وَمن أسلم أَرْبَعمِائَة]

(1) العيرانة من الابل: النَّاجِية فِي نشاط.

(*)

ص: 586

وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفِ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ.

وَقَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْفَتْحِ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ * إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ (1) دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ * تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ (2) وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ * خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ * يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ لِشَعْثَاءَ الَّتِي قَدْ تَيَّمَتْهُ * فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ كَأَنَّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ * يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ (3) إِذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا * فَهُنَّ لَطَيِّبِ الرَّاحِ الْفِدَاءُ نُوَلِّيهَا الْمَلَامَةَ إِنْ أَلَمْنَا * إِذَا مَا كَانَ مغت أَو لحاء (4) وَنشر بهَا فتتركنا ملوكا * وأسدا مَا ينهنهها اللِّقَاءُ عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا * تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ * عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ (5) تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ * يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخمرِ النِّسَاء

(1) الجواء والعذراء: مَوَاضِع بِالشَّام.

(2)

الروامس: الرِّيَاح.

وَالسَّمَاء: الْمَطَر.

(3)

الخبيئة: الْخمر المصونة.

وَبَيت رَأس: مَوضِع بالاردن.

(4)

ألمنا: فعلنَا مَا نستحق عَلَيْهِ اللوم.

والمغت: الضَّرْب بِالْيَدِ.

واللحاء: الملاحاة بِاللِّسَانِ.

(5)

مصغيات: موائل منحرفات.

والاسل: الرماح.

(*)

ص: 587

فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا * وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجَلَادِ يَوْمٍ * يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا * وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا * يَقُولُ الْحَقَ إِنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدِّقُوهُ * فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْدًا * هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ * سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا * وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي * مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا * وَعَبْدَ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ * وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ * فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرًّا حَنِيفًا * أَمِينَ اللَّهِ شَيْمَتُهُ الْوَفَاءُ أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ * وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ فِإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي * لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ * وَبَحْرِي لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا حَسَّانُ قَبْلَ الْفَتْحِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي قَالَهُ مُتَوَجِّهٌ لِمَا فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.

ص: 588

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الديلى يَعْتَذِرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ - يَعْنِي لَمَّا جَاءَ يَسْتَنْصِرُ عَلَيْهِمْ - كَمَا تَقَدَّمَ: أَأَنْتَ الَّذِي تُهْدَى مَعَدٌّ بِأَمْرِهِ * بَلِ اللَّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَكَ اشْهَدِ وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا * أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ أَحَثَّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا * إِذَا رَاحَ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ الْمُهَنَّدِ وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ * وَأَعْطَى لِرَأْسِ السَّابِقِ الْمُتَجَرِّدِ (1) تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي * وَأَنْ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قَادِرٌ * عَلَى كُلِّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ (2) تَعَلَّمْ بِأَنَّ الرَّكْبَ رَكْبَ عُوَيْمِرٍ * هُمُ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلِّ مَوْعِدِ وَنَبَّوْا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي هَجَوْتُهُ * فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إِلَيَّ إِذَنْ يَدِي سِوَى أَنَّنِي قَدْ قُلْتُ وَيْلُ امِّ فِتْيَةٍ * أُصِيبُوا بِنَحْسٍ لَا بِطَلْقٍ وَأَسْعُدِ (3) أَصَابَهُمُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ * كِفَاءً فَعَزَّتْ عَبْرَتِي وَتَبَلُّدِي وَإنَّك قد أخْبرت أَنَّك سَاعِيًا * بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ (4) ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا * جَمِيعًا فَإِنْ لَا تَدْمَعِ الْعَيْنُ أَكْمَدِ وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيٌّ كَمِثْلِهِ * وَإِخْوَتُهُ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ فَإِنِّيَ لَا ذَنبا (5) فَتَقْتُ وَلَا دَمًا * هَرَقْتُ تَبَيَّنْ عَالِمَ الْحَقِّ وَاقْصِدِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ: نَفَى أَهْلَ الْحَبَلَّقِ (1) كُلَّ فَجٍّ * مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خفاف ضربناهم بِمَكَّة يَوْم فتح النَّبِي * الْخَيْرِ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ

صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعٍ مِنْ سُلَيْمٍ * وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ نَطَأْ أَكْتَافَهُمْ ضربا وطعنا * ورشقا بالمريشة اللطاف

(1) الْخَال: برد من برود الْيمن، وَهُوَ من رفيع الثِّيَاب.

(2)

الصرم: الطَّائِفَة من الْبيُوت.

(3)

الطلق: الايام الطّيبَة.

(4)

ابْن هِشَام: فَإنَّك قد أخفرت إِن كنت ساعيا.

(5)

ابْن هِشَام: فإنى لَا دينا.

(6)

الحبلق: أَرض يسكنهَا قبائل من مزينة وَقيس.

والحبلق.

الْغنم الصغار وَلَعَلَّه أَرَادَ أَصْحَاب الْغنم.

(*)

ص: 589

تَرَى بَيْنَ الْصُفُوفِ لَهَا حَفَيْفًا * كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنَ الرِّصَافِ فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ * بِأَرْمَاحٍ مُقَوَّمَةِ الثِّقَافِ فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا * وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا * مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التَّصَافِي وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمُّوا * غَدَاةَ الرَّوْعِ مِنَّا بِانْصِرَافِ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فِي فَتْحِ مَكَّةَ: مِنَّا بِمَكْةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمَّدٍ * أَلْفٌ تَسِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوَّمُ نَصَرُوا الرَّسُولَ وَشَاهَدُوا آيَاتِهِ (1) * وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ مُقَدَّمُ فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ * ضَنْكٍ كَأَنَّ الْهَامَ فِيهِ الْحَنْتَمُ (2) جَرَّتْ سَنَابِكَهَا بِنَجْدٍ قَبْلَهَا * حَتَّى اسْتَقَامَ لَهَا الْحِجَازُ الْأَدْهَمُ اللَّهُ مَكَّنَهُ لَهُ وَأَذَلَّهُ * حُكْمُ السُّيُوفِ لَنَا وَجَدٌّ مِزْحَمُ عَوْدُ الرِّيَاسَةِ شَامِخٌ عِرْنِينُهُ * مُتَطَلِّعٌ ثُغَرَ الْمَكَارِمِ خِضْرِمُ (3) وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي سَبَبِ إِسْلَامِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَعْبُدُ صَنَمًا مِنْ حِجَارَةٍ يُقَالُ لَهُ ضِمَارٌ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَاهُ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا يَخْدِمُهُ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنْ جَوْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ: قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلِّهَا * أَوْدَى ضِمَارُ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ

إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى * بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مهتدى أودى ضمار وَكَانَ يعبد مُدَّة * قَبْلَ الْكِتَابِ إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدِ قَالَ: فَحَرَّقَ عَبَّاس ضمار ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِكَمَالِهَا فِي بَابِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ (4) ، مَعَ أَمْثَالِهَا وَأَشْكَالِهَا وَللَّه الْحَمد والْمنَّة.

(1) ابْن هِشَام: وشاهدوا أَيَّامه.

(2)

الحنتم: الحنظل.

(3)

الْعود: يُرِيد الرجل المسن والعرنين: الانف.

والخضرم: الْجواد المعطاء.

(4)

تقدم ذَلِك فِي الْجُزْء الاول ص 385، 359.

(*)

ص: 590

بَعثه عليه السلام خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ مِنْ كِنَانَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا.

وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ وسليم بن مَنْصُور ومدلج ابْن مُرَّةَ، فَوَطِئُوا بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السِّلَاحَ، فَقَالَ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلَاحَ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ السِّلَاحَ قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ: وَيَلَكُمُ يَا بَنِي جَذِيمَةَ إِنَّهُ خَالِدٌ! وَاللَّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السِّلَاحِ إِلَّا الْإِسَارُ، وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إِلَّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، وَاللَّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي أَبَدًا.

قَالَ: فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا: يَا جَحْدَمٌ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا؟ ! إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوُضِعَتِ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النَّاسُ.

فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ، وَوَضَعَ الْقَوْمُ سِلَاحَهُمْ لِقَوْلِ خَالِدٍ.

قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: فَلَمَّا وضعُوا السِّلَاح أَمر بهم خَالِد فَكُتِفُوا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ.

فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ.

" اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ".

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ انْفَلَتَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ

ص: 591

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ فَنَهَمَهُ (1) خَالِدٌ فَسَكَتَ عَنْهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ فَاشْتَدَّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا.

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَّا الْأَوَّلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَابْنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بن أبي طَالِبٍ فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ اخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ ".

فَخَرَجَ عَلِيٌّ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَدَى لَهُمُ الدِّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي ميلغة (2) الْكَلْب! حَتَّى إِذا لم يبْق شئ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إِلَّا وَدَاهُ بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ: هَلْ بَقِيَ لَكُمْ دَمٌ أَوْ مَالٌ لَمْ يُودَ لَكُمْ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَا يعلم وَلَا تَعْلَمُونَ.

فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ الْخَبَر، فَقَالَ:" أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ ".

ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُرَى مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا إِنَّهُ قَالَ: مَا قَاتَلْتُ حَتَّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ: لَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالُوا: صَبَأْنَا صبأنا.

(1) نهمه: زَجره.

(2)

الميلغة: مَا يحْفر من الْخشب ليلغ فِيهِ الْكَلْب، وَيكون عِنْد أَصْحَاب الْغنم.

(*)

ص: 592

وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ وَمُنْقَطِعَاتٌ.

* * * وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي - أَحْسَبُهُ قَالَ - جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا.

فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صبأنا صبأنا، وخَالِد يَأْخُذ بِهِمْ أَسْرًا وَقَتْلًا.

قَالَ: وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ يَوْمًا أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ.

قَالَ: فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذكرُوا صَنِيعَ خَالِدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَفَعَ يَدَيْهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ " مَرَّتَيْنِ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ نَحْوَهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ لَهُمْ جَحْدَمٌ لَمَّا رأى مَا يصنع خَالِدٌ: يَا بَنِي جَذِيمَةَ ضَاعَ الضَّرْبُ، قَدْ كنت حذرتكم مِمَّا وَقَعْتُمْ فِيهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - فِيمَا بَلَغَنِي - كَلَامٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ.

فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ قَدْ قَتَلْتُ قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ ثَأَرْتَ لعمك الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غدْوَة رجل من أَصْحَابِي وَلَا روحته ".

* * * (38 - السِّيرَة 3)

ص: 593

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُوم عَم خَالِد ابْن الْوَلِيدِ، فِي خُرُوجِهِ هُوَ وَعَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَمَعَهُ ابْنُهُ عُثْمَانُ، فِي تِجَارَةٍ إِلَى الْيَمَنِ وَرُجُوعِهِمْ وَمَعَهُمْ مَالٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ كَانَ هَلَكَ بِالْيَمَنِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَرَثَتِهِ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ فَطَلَبَهُ مِنْهُمْ [قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ] فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ عَوْفٌ وَالْفَاكِهُ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا.

وَقَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَاتِلَ أَبِيهِ خَالِدَ بْنَ هِشَامٍ وَفَرَّ مِنْهُمْ عَفَّانُ وَمَعَهُ ابْنُهُ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّة، فهمت قُرَيْش بغزو بنى جذيمة، فَبعث بَنُو جَذِيمَةَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ وَوَدَوْا لَهُمُ الْقَتِيلَيْنِ وَأَمْوَالَهُمَا وَوَضَعُوا الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ.

يَعْنِي فَلِهَذَا قَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ، يَعْنِي حِينَ قَتَلَتْهُ بَنُو جَذِيمَةَ.

فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ ثَأْرَهُ وَقَتَلَ قَاتِلَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَأَرَ بِعَمِّهِ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حِينَ قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ.

وَالْمَظْنُونُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي وَقْتِ الْمُخَاصَمَةِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ فِي أَمْرٍ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ

يَنْتَقِصُونَ الْإِسْلَامَ بِقَوْلِهِمْ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا.

وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، فَقَتَلَ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ وَأَسَرَ بَقِيَّتَهُمْ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ الْأَسْرَى أَيْضًا، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ اسْتَمَرَّ بِهِ أَمِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ فِي صَنِيعِهِ ذَلِكَ وَوَدَى مَا كَانَ جناه خطأ من دَمٍ أَوْ مَالٍ.

فَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا فِي مَالِهِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلِهَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ الصِّدِّيقُ حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَا تَأَول

ص: 594

حِينَ ضَرَبَ عُنُقَهُ وَاصْطَفَى امْرَأَتَهُ أُمَّ تَمِيمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اعْزِلْهُ فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا.

فَقَالَ الصِّدِّيقُ: لَا أَغْمِدُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَقَالَ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ، وَهُوَ فِي سِنِّي وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ: يَا فَتى.

قلت: مَا تَشَاءُ؟ قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ فَقَائِدِي إِلَى هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ حَتَّى أَقْضِيَ إلَيْهِنَّ حَاجَة ثمَّ تردتى بعد فتصنعوا مَا بَدَا لَكُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْتَ.

فَأَخَذْتُ بِرُمَّتِهِ فَقُدْتُهُ بِهَا حَتَّى وَقَفْتُهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ اسْلَمِي حُبَيْشْ عَلَى نَفَدِ (1) الْعَيْشْ: أَرَيْتُكِ إِذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ * بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ (2) أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ * تَكَلَّفَ إِدْلَاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ (3) فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ أَهْلُنَا مَعًا * أَثَيِبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ (4) أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النَّوَى * وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ (5) فَإِنِّيَ لَا ضَيَّعْتُ سِرَّ أَمَانَةٍ * وَلَا رَاقَ عَيْنِي عَنْكِ بَعْدَكِ رَائِقُ (6)

سِوَى أَنَّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ * عَنِ الْوُدِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَامُقُ (7) قَالَتْ: وَأَنْتَ فَحُيِّيتَ عَشْرَا وَتِسْعًا وترا وَثَمَانِية تَتْرَى.

قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ (8) بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبى سنبلة الاسلمي، عَن أَشْيَاخ مِنْهُم،

(1) النفد: الِانْقِضَاء.

(2)

حلية والخوانق: موضعان بتهامة.

(3)

السرى: سير عَامَّة اللَّيْل.

والودائق: جمع وديقة وهى شدَّة الْحر فِي نصف النَّهَار.

(4)

الصفائق: الدَّوَاهِي.

(5)

تشحط: تبعد.

(6)

وتروى: فإنى لاسر لَدَى أضعته.

ذمّ الْهوى لِابْنِ الجوزى: 496.

(7)

التوامق: التحاب.

(8)

ت: ثمَّ قَالَت: انْصَرف بِهِ.

فَضربت عُنُقه.

(*)

ص: 595

عَمَّنْ كَانَ حَضَرَهَا مِنْهُمْ قَالُوا: فَقَامَتْ إِلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبِّلُهُ حَتَّى مَاتَتْ عِنْدَهُ! وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مَنْ مُزَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ عِصَامٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا ".

قَالَ: فَبَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ وَأَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَخَرَجْنَا قِبَلَ تِهَامَةَ، فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا يَسُوقُ بِظَعَائِنَ فَقُلْنَا لَهُ: أَسْلِمْ.

فَقَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ لَا يَعْرِفُهُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ قَالَ: قُلْنَا نَقْتُلُكَ.

فَقَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْظَرِيَّ حَتَّى أُدْرِكَ الظَّعَائِنَ؟ قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ وَنَحْنُ مُدْرِكُوكَ.

قَالَ: فَأَدْرَكَ الظَّعَائِنَ فَقَالَ: اسْلَمِي حُبَيْشْ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشْ.

فَقَالَتِ الْأُخْرَى: اسْلَمْ عَشْرَا وَتِسْعًا وَتْرَا وَثَمَانِيًا تَتْرَى.

ثُمَّ ذَكَرَ الشِّعْرَ الْمُتَقَدِّمَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ.

ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ: شَأْنُكُمْ.

قَالَ: فَقَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ.

قَالَ: فَانْحَدَرَتِ الْأُخْرَى مِنْ هودجها فجثث عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ.

ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق أَبى عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ، حَدثنَا مُحَمَّد بن على بن حَرْب المروزى، حَدثنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ مِنْهُمْ، إِنِّي عَشِقْتُ امْرَأَةً فَلَحِقْتُهَا فَدَعُونِي أَنْظُرْ إِلَيْهَا نَظْرَةً ثُمَّ اصْنَعُوا بى مَا بدا لكم.

فَإِذَا امْرَأَةٌ أَدْمَاءُ طَوِيلَةٌ فَقَالَ لَهَا: اسْلَمِي حُبَيْشْ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشْ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْتَيْنِ بِمَعْنَاهُمَا.

قَالَ: فَقَالَتْ: نَعَمْ فَدَيْتُكَ! قَالَ: فَقَدَّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ شَهْقَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ.

ص: 596

فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ! ".

بَعْثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزَّى قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ هَدْمُهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ عَامَئِذٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى، وَكَانَتْ بَيْتًا بِنَخْلَةَ يُعَظِّمُهُ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَمُضَرُ، وَكَانَ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءُ بَنِي هَاشِمٍ، فَلَمَّا سَمِعَ حَاجِبُهَا (1) السُّلَمِيُّ بِمَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَيْهَا عَلَّقَ سَيْفَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ اشْتَدَّ (2) فِي الْجَبَلِ الَّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَيَا عُزَّ شُدِّي شَدَّةً لَا شَوَى لَهَا * عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمِّرِي (3) أَيَا عُزَّ إِنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا * فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تَنَصَّرِي قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهَا هَدَمَهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَهَا خَالِدٌ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَهَدَمَهَا

وَرَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَا رَأَيْتَ؟ " قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا.

فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمَّا رَجَعَ خَرَجَتْ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تُوَلْوِلُ فَعَلَاهَا بِالسَّيْفِ وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا عزى كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ * إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ ثُمَّ خَرَّبَ ذَلِكَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" تِلْكَ الْعُزَّى وَلَا تعبد أبدا ".

(1) ابْن هِشَام: صَاحبهَا.

(2)

ابْن هِشَام: أسْند.

(3)

الشوى: أَن يُصِيب غير الْمقَاتل يُرِيد أَنَّهَا لَا تبقى على شئ.

(*)

ص: 597

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمد ابْن على، حَدثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى نَخْلَةَ وَكَانَتْ بِهَا الْعُزَّى، فَأَتَاهَا، وَكَانَتْ عَلَى ثَلَاثِ سَمُرَاتٍ، فَقَطَعَ السَّمُرَاتِ وَهَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ:" ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا ".

فَرَجَعَ خَالِدٌ فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ السَّدَنَةُ وَهُمْ حُجَّابُهَا أَمْعَنُوا هَرَبًا فِي الْجَبَلِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا عُزَّى خَبِّلِيهِ، يَا عَزَّى عَوِّرِيهِ، وَإِلَّا فَمُوتِي بِرُغْمٍ! قَالَ: فَأَتَاهَا خَالِدٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا، وَوَجْهِهَا، فَعَمَّمَهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ فَقَالَ:" تِلْكَ الْعُزَّى ".

فَصْلٌ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ عليه السلام بِمَكَّةَ

لَا خِلَافَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَقَامَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ.

وَهَذَا دَلِيلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يُجْمِعِ الْإِقَامَةَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَيفْطر إِلَى ثمانى عَشَرَ يَوْمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ.

قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا أَبُو نعيم، حَدثنَا سُفْيَان ح.

وَحدثنَا قبيصَة، حَدثنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصَّلَاةَ.

وَقَدْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ.

ص: 598

ثمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضا من وَجه آخر، زَاد البُخَارِيّ وَأَبُو حُصَيْن كِلَاهُمَا.

وَأَبُو دَاوُد التِّرْمِذِيّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ.

فِي لفظ لابي دَاوُد: سَبْعَة عشر يَوْمًا.

وَحدثنَا أَحْمد بن يُونُس، حَدثنَا أَحْمد بن شِهَابٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ تِسْعَ عَشْرَةَ نقصر الصَّلَاة.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ (1) تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا زِدْنَا (2) أَتْمَمْنَا.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، حَدثنَا ابْن علية، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عمرَان بن حُصَيْن مَا قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ: " يَا أَهْلَ الْبَلَدِ

صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفْرٌ ".

وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ثمَّ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ لم يذكرُوا ابْن عَبَّاس.

(1) غير أ: نقصر مَا بَقينَا بَين تسع عشرَة.

(2)

ت: فَإِذا أردنَا.

(*)

ص: 599

وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَاصِم بن عَمْرو بن قَتَادَة، وَعبد الله بن أبي بكر وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عشرَة لَيْلَة.

فصل وَمِمَّا حكم عليه السلام بِمَكَّةَ مِنَ الْأَحْكَامِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ (1) ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ أَخَذَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقْبَلَ مَعَهُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" هُوَ لَكَ، هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ".

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ " لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ".

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَرِّحُ (2) بِذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ.

وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ.

وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِرِوَايَتِهِ لَهُ من حَدِيث مَالك عَن الزُّهْرِيّ.

* * *

(1) الاصل: ابْن مُسلم.

وَمَا أثْبته عَن صَحِيح البُخَارِيّ.

(2)

البُخَارِيّ: يَصِيح.

(*)

ص: 600

ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَة الْفَتْحِ فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ.

قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: " أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ " فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:" أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا هلك النَّاسَ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا! ".

ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بعد ذَلِك وَتَزَوَّجت.

قَالَت عَائِشَة: كَانَت تأتى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِهِ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ لَمْ يخرج حَتَّى نهى عَنْهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: " أَلَا إِنَّهَا حَرَامٌ حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".

وفى رِوَايَة فِي مُسْند أَحْمد وَالسّنَن، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَن عبد الْوَاحِد ابْن زِيَادٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: رخص

ص: 601

لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوَطَاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَانَا عَنهُ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَامُ أَوَطَاسٍ هُوَ عَامُ الْفَتْحِ.

فَهُوَ وَحَدِيثُ سَبْرَةَ سَوَاءٌ.

قُلْتُ: مَنْ أَثْبَتَ النَّهْيَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ: إِنَّهَا أُبِيحَتْ مَرَّتَيْنِ، وَحُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ.

وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا أُبِيحَتْ وَحُرِّمَتْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا حُرِّمَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ هَذِهِ الْمَرَّةُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا وُجِدَتْ ضَرُورَةً أُبِيحَتْ.

وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقِيلَ: بَلْ لَمْ تُحَرَّمْ مُطْلَقًا، وَهِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ.

هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ فِي الاحكام.

فَصْلٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ ابْن خُثَيْمٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ الْأَسْوَدَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْح، قَالَ: جلس عِنْد قرن مستقبله، فَبَايع النَّاس على الاسلام وَالشَّهَادَة.

قُلْتُ: وَمَا الشَّهَادَةُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: فَجَاءَهُ النَّاسُ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَبَايَعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمَكَّةَ لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى

ص: 602

الْإِسْلَامِ، فَجَلَسَ لَهُمْ - فِيمَا بَلَغَنِي - عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَسْفَلَ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَخَذَ عَلَى النَّاسِ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا.

قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ النِّسَاءَ، وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ مُتَنَقِّبَةً مُتَنَكِّرَةً بِحَدِيثِهَا (1) لِمَا كَانَ مِنْ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ.

[فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَأْخُذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدَثِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا دَنَيْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليبايعهن قَالَ:" بايعننى على أَلا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا " فَقَالَتْ هِنْدُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لتأْخذ علينا مَا لَا تَأْخُذهُ من الرِّجَال.

" وَلَا تَسْرِقْنَ " فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهِنَةَ بَعْدَ الْهِنَةِ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَلَالًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ - وَكَانَ شَاهِدًا لِمَا تَقُولُ -: أَمَّا مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حَلٍّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ، عَفَا الله عَنْك.

ثمَّ قَالَ: " وَلَا يَزْنِين " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ! ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ " قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا أفنقتلهم كِبَارًا؟ فَأَنْتَ

وَهُمْ أَعْلَمُ! فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخطاب حَتَّى استغرق.

ثمَّ قَالَ: " وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ " فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ التجاوز أمثل.

ثمَّ قَالَ: " وَلَا يعصيننى " فَقَالَتْ: فِي مَعْرُوفٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: " بَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ الله، إِن الله غَفُور رَحِيم ".

(1) ت: لحدثها.

(*)

ص: 603

فَبَايَعَهُنَّ عُمَرُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ وَلَا يَمَسُّ إِلَّا امْرَأَةً أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ: مَا كَانَ يُبَايِعُهُنَّ إِلَّا كَلَامًا وَيَقُولُ: " إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ ".

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة، أَن هندا بِنْتَ عُتْبَةَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أَتَتْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ إِذَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ؟ قَالَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ] (1) .

[وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ مِمَّا على وَجه الارض أخباء أَو خباء - الشَّك من أَبى بكر - أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ أَوْ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شحيح، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ

أَطْعَمَ مِنَ الَّذِي لَهُ؟ قَالَ: " لَا، بِالْمَعْرُوفِ ".

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِنَحْوِهِ.

وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ] (2) .

* * * وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَن مَنْصُور، عَن

(1) سقط من ا.

(2)

من ت.

(*)

ص: 604

مُجَاهِد، عَن طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ".

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ جرير.

وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا عَفَّان، حَدثنَا وهب، حَدثنَا ابْن طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ هَاجَرَ.

فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَدْخُلُ مَنْزِلِي حَتَّى أسأَل رَسُول الله مَا سَأَلَهُ.

فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانفروا ".

تفرد بِهِ أَحْمد.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدثنَا الفضيل بن سُلَيْمَان، حَدثنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: انْطَلَقْتُ بِأَبِي مَعْبَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ: " مَضَتِ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا، أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ ".

فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ.

وَقَالَ خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ مُجَاشِعٌ، أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدٍ.

وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا عَمْرو بن خَالِد، حَدثنَا زُهَيْر، حَدثنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ،

قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاشِعٌ قَالَ: أتيت رَسُول الله بِأَخِي بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ:" ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا " فَقُلْتُ: عَلَى أَي شئ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: " أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ".

فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ بَعْدُ وَكَانَ أَكْبَرَهُمَا سِنًّا فَسَأَلته فَقَالَ: صدق مجاشع.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ،

ص: 605

عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّامِ؟ فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ وَلَكِن انْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلَّا رجعت.

وَقَالَ أَبُو النَّضر: أَنبأَنَا شُعْبَة، أَنبأَنَا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ - أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

حَدثنَا إِسْحَاق بن يزِيد، حَدثنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدِ بن جُبَير، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح.

وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن يزِيد، أَنبأَنَا يحيى بن حَمْزَة، أَنبأَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَسَأَلَهَا عَن الْهِجْرَة فَقَالَت: لَا هِجْرَة الْيَوْم.

وَلَا الْمُؤْمِنُونَ يفر أحدهم بِدِينِهِ إِلَى الله عزوجل وَإِلَى رَسُوله مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.

* * * وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ، إِمَّا الْكَامِلَةَ أَوْ مُطْلَقًا، قَدِ انْقَطَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِأَنَّ النَّاس دُخُولا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَثَبَتَتْ أَرْكَانُهُ وَدَعَائِمُهُ، فَلَمْ تَبْقَ هِجْرَةٌ.

اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ حَالٌ يَقْتَضِي الْهِجْرَةَ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ، فَتَجِبُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَلَكِنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لَيْسَتْ كَالْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالْإِنْفَاقِ فِي

ص: 606

سَبِيل الله مَشْرُوع وَرغب فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَلَيْسَ كَالْإِنْفَاقِ وَلَا الْجِهَادِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وكلا وعد الله الْحسنى (1) " الْآيَة.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح " قَرَأَهَا رَسُول الله حَتَّى خَتمهَا وَقَالَ: " النَّاس خير وَأَنا وأصحابي خير " وَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ".

فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: كَذَبْتَ.

وَعِنْدَهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَاعِدَانِ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَوْ شَاءَ هَذَانَ لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ، وَهَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ! فَرَفَعَ مَرْوَانُ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ لِيَضْرِبَهُ، فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا: صَدَقَ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمد.

* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ

وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ.

فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهم، فَمَا رَأَيْت أَنَّهُ أَدْخَلَنِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقولُونَ فِي قَول الله عزوجل: " إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح "؟ فَقَالَ بَعضهم: أمرنَا * (هامس) * (1) سُورَة الْحَدِيد.

(*)

ص: 607

أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا.

وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.

فَقَالَ لى: أكذاك تَقول يَا بن عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا.

فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ:" إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْح " فَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا " قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا يَقُول.

تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنَعْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَجَلِهِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما.

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل، حَدثنَا عَطَاءٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: " إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْح " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي " بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.

تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفِي لَفْظِهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.

وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْفَتْحَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا كَمَا تقدم بَيَانه، وَهَذَا مَالا خِلَافَ فِيهِ.

وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِلَا

خِلَافٍ أَيْضًا.

وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ رحمه الله، حَدثنَا إِبْرَاهِيم ابْن أَحْمد بن عمر الوكيعى، حَدثنَا أَبى، حَدثنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ

ص: 608

أَبى بكر بن أَبى الجهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ جَمِيعًا: " إِذَا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح ".

فِيهِ نَكَارَةٌ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعًا كَمَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ - قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ: أَلَا تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ؟ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ - قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَاكَ الْكَلَامَ، فَكَأَنَّمَا يُغْرِي (1) فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ (2) بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَومه، فَإِن إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ.

فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ حَقًّا.

قَالَ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرُ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ.

فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ على بردة إِذا سجدت تقلصت عَنى، فَقلت امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بشى فرحى بذلك الْقَمِيص.

تفرد بِهِ البخارث دون مُسلم.

(1) يغرى: يلصق.

(2)

تلوم: تنْتَظر.

(39 - السِّيرَة 3)(*)

ص: 609

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم غَزْوَة هوَازن يَوْم حنين قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ".

وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَوَازِنَ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قبل خُرُوجه إِلَيْهِم خمس عَشْرَةَ لَيْلَةً.

وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وَاخْتَارَهُ أَحْمد وَابْن جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَوَازِنَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، فَانْتَهَى إِلَى حُنَيْنٍ فِي عَاشِرِهِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ! فَانْهَزَمُوا فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ بَنُو سُلَيْمٍ، ثُمَّ أَهْلُ مَكَّةَ ثُمَّ بَقِيَّةُ النَّاسِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ جَمَعَهَا مَلِكُهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلُّهَا وَاجْتَمَعَتْ نَصْرُ وَجُشَمُ كُلُّهَا وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلَمْ

ص: 610

يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إِلَّا هَؤُلَاءِ.

وَغَابَ عَنْهَا وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ، وَفِي بَنِي جُشَمَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شئ إِلَّا التَّيَمُّنَ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرَّبًا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ، وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَجِمَاعُ أَمْرِ النَّاسِ إِلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ.

فَلَمَّا أجمع الْمسير إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحضر (1) مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي شِجَارٍ (2) لَهُ يُقَادُ بِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ.

قَالَ: نعم مجَال الْخَيل لاحزن ضرس وَلَا سهل دهس (3) ، مالى أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.

قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ.

وَدُعِيَ لَهُ.

قَالَ: يَا مَالِكُ إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ وَإِن هَذَا يَوْم كَأَن لَهُ مَا بعده من الايام، مالى أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالَ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.

قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ.

قَالَ: فَأَنْقَضَ (4) بِهِ، ثُمَّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ وَالله! هَل يرد المنهزم شئ؟ ! إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ (5) إِلَّا رجل بِسَيْفِهِ وَرمحه، وَإِن كَانَت عليا فضحت فِي أهلك وَمَالك.

(1) ت: حط مَعَ النَّاس.

(2)

الشجار: مركب شبه الهودج.

(3)

الْحزن: مَا غلظ من الارض، والضرس: الخشن.

والدهس: اللين (4) انقض بِهِ: زَجره.

(5)

ت: لَا ينفعك.

(*)

ص: 611

ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالَ: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ.

قَالَ: غَابَ الْحَدُّ وَالْجِدُّ لَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ.

قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرَّانِ.

ثُمَّ قَالَ: يَا مَالِكُ إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إِلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا.

ثُمَّ قَالَ دُرَيْدٌ لِمَالِكِ بن عَوْف: ارفعهم إِلَى متمنع (1) بِلَادهمْ وعلياء قَومهمْ ثمَّ الق الصباء عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ.

قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقْلُكَ! ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي يَا مَعْشَرَ هوَازن أَو لاتكئن على هَذَا لسيف حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي.

وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ.

فَقَالُوا: أَطَعْنَاكَ.

فَقَالَ دُرَيْدٌ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ * أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ (2) أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ * كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ (3) ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمَّ شِدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا:

(1) ا: مُمْتَنع.

(2)

الْجذع: الشَّاب.

وأخب: أسْرع.

(3)

الوطفاء: الطَّوِيلَة الشّعْر.

والزمع: جمع زَمعَة وهى هنة زَائِدَة وَرَاء الظلْف.

وَالشَّاة: حمَار

الْوَحْش.

والصدع: الْفَتى القوى.

(*)

ص: 612

رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى.

فَوَاللَّهِ مَا رَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَيْهِمْ عبد الله ابْن أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمَّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ.

فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ الْخَبَرَ.

فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ ذُكِرَ لَهُ أَن عِنْد صَفْوَان ابْن أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ: " يَا أَبَا أُمَيَّةَ أَعِرْنَا سِلَاحك هَذَا نلقى فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا ".

فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ " قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ.

فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنَ السِّلَاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا فَفَعَلَ.

هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ.

وَقَدْ رَوَى يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بن قَتَادَة، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الله (1) ابْن أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمْ قِصَّةَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةَ الْأَدْرَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ لَمَّا رَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1) ا: عَن ابْن أَبى بكر.

(*)

ص: 613

خَبَرَ هَوَازِنَ كَذَّبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: لَئِنْ (1) كَذَّبْتَنِي يَا عُمَرُ فَرُبَّمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ.

فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " قَدْ كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ ".

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتعَار من أُميَّة يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً " قَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ.

وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا.

فَذَكَرَهُ.

وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ أَدْرَاعًا وَأَفْرَاسًا.

وَسَاقَ الحَدِيث.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" يَا صَفْوَانُ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلَاحٍ؟ " قَالَ: عَارِية أم غصبا؟ قَالَ: " بَلْ عَارِيَةً " فَأَعَارَهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ دِرْعًا، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ فَفَقَدَ مِنْهَا أَدْرَاعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1) ت: وَلَئِن.

(*)

ص: 614

لِصَفْوَانَ: " قَدْ فَقَدْنَا مِنْ أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا فَهَلْ نَغْرَمُ لَكَ؟ " قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِن فِي قلبى مَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ.

وَهَذَا مُرْسَلٌ أَيْضًا.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.

قُلْتُ: وَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ يَكُونُ مَجْمُوعُ الجيشين (1) اللَّذين سَار بهم إِلَى هَوَازِنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، لَأَنَّهُ قَدِمَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَكَّةَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ أَلْفَانِ مِنِ الطُّلَقَاءِ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ.

قَالَ: وَاسْتَخْلَفَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأُمَوِيَّ.

قُلْتُ: وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً.

قَالَ: وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ لِقَاء هوَازن.

ثمَّ ذكر قَصِيدَةَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ [فِي ذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: (2) ] أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا * مِنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ * جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرُ تَارِكِكُمْ * وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ غَسَّانُ وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ * وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ * وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ

(1) ت: الْجَيْش الذى سَار بهم.

(2)

سقط من ا.

(*)

ص: 615

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ.

* * * قَالَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ.

قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ فَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا.

قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً، قَالَ: فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر! قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي (1) بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ: إِنَّكُمْ قوم تجهلون.

إِنَّهَا السَّنَنُ! لِتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ".

وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ سُفْيَانَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، مَرْفُوعًا.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ عَنِ السَّلُولِيِّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ، أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْم حنين فأطنبوا السّير حَتَّى كَانَ العشية، فَحَضَرت صَلَاة الظّهْر عِنْد رَسُول الله

(1) ا: والذى نفس مُحَمَّد.

(*)

ص: 616

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَبِنَعَمِهِمْ وَشَّائِهِمْ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ.

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: فَارْكَبْ.

فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ ".

فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُول الله مَا أحسسناه.

فَثُوِّبَ (1) بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَيَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ:" أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فارسكم " فَجعل ينظر إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، وَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى إِذا كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ أَوْجَبَتْ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا! ".

وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ بِهِ.

(1) ثوب: دَعَا إِلَى الصَّلَاة.

(*)

ص: 617

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْعَةِ، وَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ الْفِرَارِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بن قَتَادَة، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَسَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ.

وَأَقْبل رَسُول الله وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عَمَايَةِ الصُّبْح، فَلَمَّا انحط النَّاس ثارت فِي وجوهم الْخَيْلُ فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ لَا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.

وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ الْيَمِينِ يَقُولُ: " أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله ".

قَالَ: فَلَا شئ، وَرَكِبَتِ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ النَّاسِ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: عَلِيُّ بْنُ أَبى طَالب، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عبد الْمطلب، وَالْفضل بن الْعَبَّاس.

وَقيل الْفضل بن أَبى سُفْيَان، وأيمن بن أَمِّ أَيْمَنَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَزِيدُ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَرَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَةِ (1) بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ عَلَيْهَا قَدْ شَجَرَهَا (2)، قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ، إِذَا أَدْرَكَ طَعَنَ (3) بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رمحه لمن وَرَاءه فَاتَّبعُوهُ.

(1) الْحِكْمَة: مَا أحَاط بحنكى الْفرس.

(2)

شجر الدَّابَّة: ضرب لجامها فيكفها حَتَّى فتحت فاها.

(3)

ا: طفر برمحه.

(*)

ص: 618

قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هَوَى لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ، قَالَ: فَيَأْتِي عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيِ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقه فانجعف عَنْ رَحْلِهِ.

قَالَ: وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي سُفْيَان بن الْحَارِث ابْن عبد الْمطلب، وَكَانَ مِمَّن صَبر يَوْمئِذٍ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ (1) بَغْلَةِ (2) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" مَنْ هَذَا؟ " قَالَ ابْنُ أُمِّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مَنَّ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ الضِّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان صَخْر بن حَرْب - يعْنى وَكَانَ إِسْلَامه بعد مَدْخُولا وَكَانَت الازلام بعد مَعَه يَوْمئِذٍ - قَالَ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ! وَصَرَخَ (3) كَلَدَةُ جبلة بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ - يَعْنِي لِأُمِّهِ - وَهُوَ مُشْرِكٌ، فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَرُبَّنِي (4) رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.

وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلمَة، أَنبأَنَا إِسْحَاق بن

(1) الثفر: السّير فِي مُؤخر السرج.

(2)

ا: بغلته فَقَالَ.

(3)

ت: وَخرج جبلة بن الحنبل كَمَا فِي ابْن هِشَام

(4)

يربنى: يملكني.

(*)

ص: 619

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ هَوَازِنَ جَاءَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَجَعَلُوهَا صُفُوفًا، يُكَثِّرُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا الْتَقَوْا وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " ثُمَّ قَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ".

قَالَ: فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُضْرَبْ بِسَيْفٍ وَلَمْ يُطْعَنْ بِرُمْحٍ.

قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ".

قَالَ: فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ.

وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ضَرَبْتُ رَجُلًا عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ فَأُجْهِضَتْ عَنْهُ فَانْظُرْ مَنْ أَخَذَهَا.

قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا أَخَذْتُهَا فَأَرْضِهِ مِنْهَا وَأَعْطِنِيهَا، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ أَوْ سَكَتَ.

فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا يُفِيئُهَا اللَّهُ عَلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ (1) وَيُعْطِيكَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" صَدَقَ عُمَرُ ".

قَالَ وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنْ دَنَا مِنِّي بعض الْمُشْركين أَن أبعج فِي بَطْنَهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ؟ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا (2) مِنَ الطُّلَقَاءِ انْهَزَمُوا بِكَ، فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ".

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْهُ قِصَّةَ خِنْجَرِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ قَوْلَهُ:" مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.

وَقَوْلُ عُمَرَ فِي هَذَا مُسْتَغْرَبٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عبد الْوَارِث، حَدثنَا أَبى حَدثنَا نَافِع

(1) ا: أسده.

(2)

ت: من بعْدهَا.

(*)

ص: 620

أَبُو غَالب، شهد أنس بن مَالك فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَدَوِيُّ: يَا أَبَا حَمْزَةَ بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ بُعِثَ؟ فَقَالَ: ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: ثُمَّ كَانَ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ كَانَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ فَتَمَّتْ لَهُ سِتُّونَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.

قَالَ: بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ هُوَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كَأَشَبِّ الرِّجَالِ وَأَحْسَنِهِ وَأَجْمَلِهِ وَأَلْحَمِهِ.

قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَهَلْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ غَزَوْتُ مَعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ بَكْرَةً فَحَمَلُوا عَلَيْنَا، حَتَّى رَأَيْنَا خَيْلَنَا وَرَاءَ ظُهُورِنَا وَفِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَحْمِلُ عَلَيْنَا فَيَدُقُّنَا وَيَحْطِمُنَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ فَوَلَّوْا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَى الْفَتْحَ فَجُعِلَ يُجَاءُ بِهِمْ أُسَارَى رَجُلًا رَجُلًا فَيُبَايِعُونَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِن على نذرا لَئِن جئ بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مُنْذُ الْيَوْمِ يَحْطِمُنَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقه، قَالَ: فَسكت نبى الله صلى الله عليه وسلم وحئ بِالرجلِ، فَلَمَّا رأى نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ تُبْتُ إِلَى اللَّهِ.

قَالَ: وَأَمْسَكَ نَبِي الله صلى الله عليه وسلم أَن يُبَايِعَهُ لِيُوفِيَ الْآخَرُ نَذَرَهُ، قَالَ: وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَأْمُرَهُ بِقَتْلِهِ وَيَهَابُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا بَايَعَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَذْرِي؟ قَالَ: " لَمْ أُمْسِكْ عَنْهُ مُنْذُ الْيَوْمِ إِلَّا لِتُوفِيَ نَذْرَكَ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّه لَيْسَ لنبى أَن يُومِئ ".

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدثنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ من دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ فِي الارض بَعْدَ الْيَوْمِ ".

إِسْنَادُهُ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

ص: 621

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْم حُنَيْنٍ؟ - فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا حَمَلَنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسِّهَامِ.

وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ وَقَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمطلب قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ إِسْرَائِيل وَزُهَيْر يعْنى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، ثُمَّ نَزَلَ عَن بلغته.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ.

زَادَ مُسْلِمٌ: وَأَبِي مُوسَى.

كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ بِهِ.

وَرَوَى مُسلم من حَدِيث زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ " اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ " قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَقَدْ كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي يُحَاذِي بِهِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَئِذٍ: " أَنَا ابْنُ العواتك ".

[وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا عَبَّاس بن الْفضل الاسفاطى، حَدثنَا عَمْرو بن عَوْف الوَاسِطِيّ، حَدثنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بن سعيد بن الْعَاصِ، عَن شَبابَة، عَن

ص: 622

ابْن عَاصِمٍ السُّلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:" أَنَا ابْنُ العواتك "] (1) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: مَا بَال النَّاس؟ فَقَالَ: أَمر الله.

وَرَجَعُوا وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مثله.

فَقُمْت فَقَالَ: " مَالك يأبا قَتَادَةَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ، سَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ إِذا تعمد إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ؟ ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَ فَأَعْطِهِ ".

فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا (2) فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ.

وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ كثير ابْن أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حنين نظرت

(1) من ت.

(2)

المخرف: السِّكَّة بَين صفّين من النّخل.

(*)

ص: 623

إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَآخَرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ، فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي فَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا، ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضما شَدِيدا حَتَّى تخوفت، ثمَّ نزل (1) فتحلل فَدَفَعته، ثمَّ قتلته، وَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ فانهزمت مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ! ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُول الله: " مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي.

فَقَالَ أَبُو بكر: كلا لَا يُعْطه أضيبع (2) مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعُ أَسَدًا مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ الله فأداه إِلَى فاشتريت بِهِ مخرفا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ، كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ ابْن سَعْدٍ بِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَعَلَّهُ قَالَهُ مُتَابَعَةً لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُسَاعَدَةً وَمُوَافِقَةً لَهُ، أَوْ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * * وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ،

عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حنين حِين رأى

(1) ت: ترك.

(2)

الاضيبع: تَصْغِير أضبع، وَهُوَ الْقصير الضبع، ويكنى بِهِ عَن الضَّعِيف.

وتروى: أصيبغ.

وَهُوَ نوع من الطُّيُور.

القسطلانى 6 / 407.

(*)

ص: 624

مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى: " يَا عَبَّاسُ نَادِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ " فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ.

فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ لِيَعْطِفَ بِعِيرَهُ فَلَا يقدر على ذَلِك فيقذف درعه عَن عُنُقه وَيَأْخُذ سَيْفه وترسه ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ مِائَةٌ، فَاسْتَعْرَضَ النَّاسَ فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَت لِلَانْصَارِ، ثمَّ جعلت آخر للخزرج، وكانو صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فَقَالَ:" الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ".

قَالَ: فوَاللَّه مَا رَاجِعَةُ النَّاسِ إِلَّا وَالْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُكَتَّفُونَ، فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.

* * * وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.

وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَقَرَّ بِهَا عَيْنَهُ، خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا رَكِبَانًا وَمُشَاةً، حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ يَمْشِينَ عَلَى غَيْرِ دِينٍ نُظَّارًا يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ، وَلَا يَكْرَهُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّدْمَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.

قَالُوا: وَكَانَ (1) مَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.

قَالُوا: وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ

يَرْعَشُ مِنَ الْكِبَرِ، وَمَعَهُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَالنَّعَمُ، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا، فَبَاتَ فِيهِمْ فَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُول لاصحابه: إِذا

(1) ت: وَقَالُوا: كَانَ.

(40 - السِّيرَة 3)(*)

ص: 625

أَصْبَحْتُم فاحملو عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاكْسِرُوا أَغْمَادَ سُيُوفِكُمْ، وَاجْعَلُوا مَوَاشِيَكُمْ صَفًّا وَنِسَاءَكُمْ صَفًّا.

فَلَمَّا أَصْبَحُوا اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَرَاءَهُمْ يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ، وَصَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغْلَةً لَهُ شَهْبَاءَ، فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ فَأَمَرَهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشَّرَهُمْ بِالْفَتْحِ - إِنْ صَبَرُوا - فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً ثُمَّ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ فَقُلْتُ: مِائَةُ رَجُلٍ.

قَالُوا: وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِهَزِيمَةِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَوَاللَّهِ لَا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا.

فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: تُبَشِّرُنِي بِظُهُورِ الْأَعْرَابِ؟ فَوَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنَ الْأَعْرَابِ.

وَغَضِبَ صَفْوَانُ لِذَلِكَ.

قَالَ عُرْوَة: وَبَعَثَ صَفْوَانُ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ: اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ.

فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ.

وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ.

قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي الرِّكَابَيْنِ وَهُوَ عَلَى الْبَغْلَةِ فَرفع يَدَيْهِ إِلَى الله يَدعُوهُ وَيَقُول: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ لَا يَنْبَغِي

لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْنَا " وَنَادَى أَصْحَابَهُ وزمرهم (1) : " يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ اللَّهَ اللَّهَ الْكَرَّةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ " وَيُقَالُ حَرَّضَهُمْ فَقَالَ: " يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ " وَأَمَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ من يُنَادى بذلك.

(1) زمرهم: أغراهم بأعدائهم.

(*)

ص: 626

وَقَالُوا: وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَحَصَبَ بِهَا وُجُوهَ الْمُشْركين وَنَوَاصِيهمْ كُلَّهَا وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ".

وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ سِرَاعًا يَبْتَدِرُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ " فَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَصَبَهُمْ مِنْهَا، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، وَغَنَّمَهُمُ اللَّهُ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَفَرَّ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ هُوَ وَأُنَاسٌ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ.

وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِعْزَازَهُ دِينَهُ.

رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُهُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ لَا نُفَارِقُهُ.

وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخذ بِلِجَامِهَا أكفها إِرَادَة أَلا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيَّ عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ " قَالَ:

فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا عَطَفْتُهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا! فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَاهُ يَا لَبَّيْكَاهُ!.

قَالَ: فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.

ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ.

ص: 627

فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: " هَذَا حِينُ حَمِيَ الْوَطِيسُ " ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ:" انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ " قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فوَاللَّه مَا هُوَ إِلَى أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ نَحْوَهُ.

وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَزْونَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ، وَتَوَارَى عَنِّي فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَلَّى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا وعَلى بردتان متزر بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَد بالاخرى، قَالَ: فاستطلق إزارى فجمعتهما جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُنْهَزِمٌ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ:" لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا ".

فَلَمَّا غَشَوا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ

عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقُبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي

ص: 628

حُنَيْنٍ فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ السَّمُرِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، قَدْ حَانَ الرَّوَاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" أَجَلْ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا بِلَالُ " فَثَارَ مِنْ تَحْتِ سَمُرَةٍ كَأَنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طَائِرٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُكَ! فَقَالَ: " أَسْرِجْ لِي فَرَسِي " فَأَتَاهُ بِدَفَّتَيْنِ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ.

قَالَ: فَرَكِبَ فَرَسَهُ فَسِرْنَا يَوْمَنَا فَلَقِينَا الْعَدُوَّ وتسامت الْخَيْلَانِ فَقَاتَلْنَاهُمْ فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " وَاقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسِهِ، وَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً من التُّرَاب فَحَثَا بِهَا وَجُوهَ الْعَدُوِّ وَقَالَ:" شَاهَتِ الْوُجُوهُ ".

قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنَا أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ قَالُوا: مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ مِنِ التُّرَابِ، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ كمر الْحَدِيد على الطست الْحَدِيد، فَهَزَمَهُمْ الله عزوجل.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحوه.

وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا عَفَّان، حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، حَدثنَا الْحَارِث بن حُصَيْن، حَدثنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله

ابْن مَسْعُودٍ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فنكصنا على أعقابنا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ قَدَمًا وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةَ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ يَمْضِي قُدُمًا، فَحَادَتْ بِهِ بَغْلَتُهُ فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ فَقُلْتُ لَهُ: ارْتَفِعْ رَفْعَكَ اللَّهُ.

فَقَالَ: " ناولنى

ص: 629

كَفًّا مِنْ تُرَابٍ " فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا.

قَالَ: " أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟ " قُلْتُ: هُمْ أُولَاءِ.

قَالَ: " اهْتِفْ بِهِمْ " فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا سيوفهم بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ، وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ القنطرى، حَدثنَا أَبُو قلَابَة، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيُّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى هَوَازِنَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِثْلُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّا من حَصى فَرمى بهَا فِي وُجُوهَنَا فَانْهَزَمْنَا.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَلَمْ ينْسب عياضا.

وَقَالَ مُسَدّد: حَدثنَا جَعْفَر بن سُلَيْمَان، حَدثنَا عَوْف بن عبد الرَّحْمَن مولى أم برثن، عَن من شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَجِئْنَا نَهُشُّ سُيُوفَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ فَإِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَقَالُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ فَارْجِعُوا.

فَهُزِمْنَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ.

رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان: حَدثنَا أَبُو سُفْيَان، حَدثنَا أَبُو سعيد عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله الشعبى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بَدَلٍ النَّصْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ شَهِدَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَعَمْرِو بن سُفْيَان الثقفى قَالَا: انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلا عَبَّاسٌ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ.

ص: 630

قَالَ: فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ.

قَالَ: فَانْهَزَمْنَا فَمَا خُيِّلَ إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ أَوْ شَجَرِ فَارِسٌ يَطْلُبُنَا، قَالَ الثقفى: فأعجرت (1) عَلَى فَرَسِي حَتَّى دَخَلْتُ الطَّائِفَ.

وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي مَغَازِيهِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْب بن عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ الله يَوْمَ حُنَيْنٍ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ زَيْدٌ.

وروى البيهقى من طَرِيق الكديمى، حَدثنَا مُوسَى بن مَسْعُود، حَدثنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ السُّوَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ انْكِشَافَةٍ انْكَشَفَهَا الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: فَتَبِعَهُمُ الْكُفَّارُ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْضَةً مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَالَ:" ارْجِعُوا شَاهَتِ الْوُجُوهُ " فَمَا أَحَدٌ يَلْقَى أَخَاهُ إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو قَذًى فِي عَيْنَيْهِ.

ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي حُذَيْفَة، حَدثنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي السَّائِبُ بْنُ يَسَارٍ، سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَامِرٍ السُّوَائِيَّ - وَكَانَ شَهِدَ حُنَيْنًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ - قَالَ: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: فَكَانَ يَأْخُذُ لَنَا بِحَصَاةٍ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطَّسْتِ فَيَطِنُّ، قَالَ: كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا.

* * * وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بن الْفضل قَالَا: حَدَّثَنَا

أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدثنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن بكير الْحَضْرَمِيّ، حَدثنَا أَبُو أَيُّوب ابْن جَابِرٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ

(1) أعجرت: أسرعت (*)

ص: 631

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِسْلَامٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَلَكِنْ أَبَيْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ عَلَى قُرَيْشٍ! فَقُلْتُ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى خَيْلًا بُلْقًا، فَقَالَ:" يَا شَيْبَةُ إِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا كَافِرٌ " فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ " ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّانِيَةَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ " ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّالِثَةَ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ".

قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْتِقَاءِ النَّاسِ وَانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ وَنِدَاءِ الْعَبَّاسِ وَاسْتِنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدثنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى، حَدثنَا هِشَام بن خَالِد، حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم، حَدَّثَنى عبد الله ابْن الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِّيَ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينه، فَإِذا بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب قَائِم عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ.

قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ.

قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أَسَاوِرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَأَنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ أَنْ يَمْحَشَنِي (1) ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى،

فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: " يَا شيب ادن منى، اللَّهُمَّ أذهب عَنهُ

(1) يمحشنى: يحرقنى.

(*)

ص: 632

الشَّيْطَانَ " قَالَ: فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي وَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي.

فَقَالَ: " يَا شَيْبُ قَاتِلِ الْكُفَّارَ ".

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي - وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّد.

قَالَ: فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاقتله فَأقبل شئ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِّي.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَن جُبَير ابْن مُطْعِمٍ قَالَ: إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ (1) الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِي، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ، فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.

وَزَاد فَقَالَ: خديج بن العرجاء (2) النَّصْرِيُّ - يَعْنِي فِي ذَلِكَ -: وَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ * رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللَّوْنِ أَخْصَفَا (3) بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا * شَمَارِيخَ مِنْ عَرْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفَا (4) وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ * إِذًا مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشِّفَا إِذًا مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ * ثَمَانِينَ ألفا وَاسْتَمَدُّوا بخندفا

(1) البجاد: كسَاء من صوف.

(2)

ت: العوجاء.

(3)

الاخصف: الذى فِيهِ بَيَاض (4) الملمومة: الكتيبة.

والبيضاء: الْكَثِيرَة السِّلَاح.

والشماريخ: الاعالى.

وفى ابْن هِشَام: شماريخ من عزوى.

(*)

ص: 633

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ رَئِيسِ هَوَازِنَ يَوْمَ الْقِتَالِ وَهُوَ فِي حومة الوغا يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: أَقْدِمْ مُحَاجُ إِنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ * مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكُرْ إِذَا أُضِيعَ الصَّفُّ يَوْمًا وَالدُّبُرْ * ثُمَّ احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ (1) كَتَائِبُ يَكِلُّ فِيهِنَّ الْبَصَرْ * قَدْ أَطْعُنُ الطعنة تقذى بالسبر (2) حِين يذم المستكن الْمُنْجَحِرْ * وَأَطْعُنُ النَّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ (3) لَهَا مِنَ الْجَوْفِ رَشَاشٌ مُنْهَمِرْ * تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ وثعلب الْعَامِل فِيهَا منكسر * يَا زيد يَابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرْ (4) قَدْ نَفِدَ الضِّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ * قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطَّوِيلَاتُ الْخُمُرْ أَنِّي فِي أَمْثَالِهَا غَيْرُ غَمِرْ * إِذْ تخرج الحاصن مِنْ تَحْتِ السُّتُرْ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُس بن بكير عَن ابْن إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ مَالِكٍ أَيْضًا حِينَ وَلَّى أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ وَقِيلَ هِيَ لِغَيْرِهِ: اذْكُرْ مَسِيرَهُمُ وَالنَّاس كُلِّهِمُ * وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرَّايَاتُ تَخْتَفِقُ وَمَالِكٌ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ * يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التَّاجُ يَأْتَلِقُ حَتَّى لَقُوا النَّاسَ حِينَ الْبَأْسِ يَقْدُمُهُمْ * عَلَيْهِمُ الْبَيْضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدَّرَقُ فَضَارَبُوا النَّاسَ حَتَّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا * حَوْلَ النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الْغَسَقُ حَتَّى تَنَزَّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمُ * فَالْقَوْمُ مُنْهَزِمٌ منا ومعتلق

(1) احزألت: ارْتَفَعت.

وَالزمر: الْجَمَاعَات.

(2)

تقذى: تقذف: والسبر: جمع سبار وم الفتيل يسبر بِهِ الْجرْح.

(3)

المنجحر: الْمُسْتَتر.

والنجلاء: الطعنة المتسعة.

تعوى وتهر: ينزف مِنْهَا الدَّم بِصَوْت.

(4)

الثَّعْلَب: مَا دخل من عَصا الرمْح فِي جُبَّة السنان.

وَالْعَامِل: أَعلَى الرمْح.

(*)

ص: 634

مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جِبْرِيلَ يُقَاتِلُنَا * لَمَنَّعَتْنَا إِذًا أسيافنا الفلق وَقَدْ وَفَى عُمَرُ الْفَارُوقُ إِذْ هَزَمُوا * بِطَعْنَةٍ كَانَ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعُلُقُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا هزم الْمُشْركُونَ وَأمكن الله رَسُوله مِنْهُمْ قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتِ * وَاللَّهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ أَنْشَدَنِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَة للشعر: قد غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتْ * وَخَيْلُهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ، وَكَانَتْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ، فَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا بَلَغَهُ قَتْلُهُ قَالَ:" أَبْعَدَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَبْغُضُ قُرَيْشًا ".

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَتَبَةَ، أَنَّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ هَذَا غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَسْلُبَهُ فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَب أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ! قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الثَّقَفِيُّ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لَا تَقُلْ كَذَلِكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ.

ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى فَأَقُولُ لَهُ: أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتِنِينَ كَمَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ أَسْنَدَ

رَايَتَهُ إِلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْأَحْلَافِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ، وَرَجُلٌ مِنْ كُبَّةَ يُقَالُ لَهُ الْجُلَاحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

ص: 635

وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ: " قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ إِلَّا مَا كَانَ مِنِ ابْن هنيدة " يعْنى الْحَارِث بن أوبس.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ لِلْمَوْتِ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ غَيْلَانَ عَنِّي * وَسَوْفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ وَعُرْوَةَ إِنَّمَا أُهْدِي جَوَابًا * وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكَمَا يَسِيرُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ * لِرَبٍّ لَا يَضِلُّ وَلَا يَجُورُ وَجَدْنَاهُ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى * فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ (1) وَبِئْسَ الامر أَمر بنى قسى * بوج إِذا تُقُسِّمَتِ الْأُمُورُ أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ * أَمِيرٌ وَالدَّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إِلَيْهِمْ * جُنُودُ اللَّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ * عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ وَأُقْسِمُ لَوْ هُمُ مَكَثُوا لَسِرْنَا * إِلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا فَكُنَّا أُسْدَ لِيَّةَ ثُمَّ حَتَّى * أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتِ النُّصُورُ (2) وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ * فَأَقْلَعَ وَالدِّمَاءُ بِهِ تَمُورُ مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ * وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ * عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورٌ (3) وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ * لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ نَكِيرُ أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا * وَقَدْ بَانَتْ لمبصرها الامور

(1) يخايره: يزْعم أَنه خير مِنْهُ.

ومخير: مغلوب فِي مخايرته.

(2)

لية: مَوضِع قريب من الطَّائِف.

والنصور: رَهْط مَالك بن عَوْف النصرى.

(3)

زور: جمع أَزور وَهُوَ المائل.

(*)

ص: 636

فَأَفلَت من نجا مِنْهُم حريضا * وَقُتِّلَ مِنْهُمُ بَشَرٌ كَثِيرٌ (1) وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو التَّوَانِي * وَلَا الْغَلِقُ الصُّرَيِّرَةُ الْحَصُورُ (2) أَحَانَهُمْ وَحَانَ وَمَلَّكُوهُ * أُمُورَهُمُ وَأَفْلَتَتِ الصُّقُورُ بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ * أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشَّعِيرُ (3) فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ * تُقُسِّمَتِ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ وَلَكِنَّ الرِّيَاسَةَ عُمِّمُوهَا * عَلَى يُمْنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ * وَأَحْلَامٌ إِلَى عِزٍّ تَصِيرُ فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا * أُنُوفَ النَّاسِ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أَذَانٌ * بِحَرْبِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُمُ نصير كَمَا حكت بنى سعد وَجَرت * بِرَهْطِ بَنِي غَزِيَّةَ عَنْقَفِيرُ (4) كَأَنَّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ * إِلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ تَخُورُ فَقُلْنَا أَسْلمُوا إِنَّا أخوكم * وَقد بَرِئت مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ كَأَنَّ الْقَوْمَ إِذْ جَاءُوا إِلَيْنَا * من الْبغضَاء بعد السّلم عور فصل وَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ وَقَفَ مَلِكُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ عَلَى ثَنِيَّةٍ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: قِفُوا حَتَّى تَجُوزَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ خَيْلًا طلعت وَمَالك وَأَصْحَابه على التَّثْنِيَة فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحِهِمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ طَوِيلَةً بِوَادُّهُمْ (5) .

فَقَالَ:

(1) الحريض: المشرف على الْهَلَاك.

(2)

الغلق: الْقَلِيل الْحِيلَة.

(3)

الفصافص: جمع فصفصة وهى البقلة الَّتِى تأكلها الدَّوَابّ.

(4)

العنققير: الداهية.

(5)

البواد: جمع باد وَهُوَ بطن الْفَخْذ.

(*)

ص: 637

هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ.

فَلَمَّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي، ثُمَّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحِهِمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ.

فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ.

فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَ فَارِسٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادِّ وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ عَاصِبًا رَأسه بملاءة حَمْرَاء.

قَالَ: هَذَا الزبير ابْن الْعَوَّامِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّاتِ لِيُخَالِطَنَّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ.

فَلَمَّا انْتَهَى الزُّبَيْرُ إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتَّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا.

فصل وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغَنَائِمِ فَجُمِعَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، وَأَمَرَ أَنْ تُسَاقَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَتُحْبَسَ هُنَاكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْغَنَائِمِ مَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ.

فصل قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مر يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ (1) عَلَيْهَا، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ " أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا ".

هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا.

(1) متقصفون: مجتمعون.

(*)

ص: 638

وَقد قَالَ الامام أَحْمد: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدثنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، حَدَّثَنِي الْمُرَقَّعُ بْنُ صَيْفِيٍّ، عَنْ جَدِّهِ رَبَاحِ بن ربيع أخى بنى حَنْظَلَة الْكَاتِب، أَنه أخبرهُ أَنه رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا، حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ! " فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: " الْحق خَالِدا فَقل لَهُ: " لَا يقتلن ذَرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا ".

وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِي بِهِ نَحوه.

ص: 639

غَزْوَة أَوْطَاسٍ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمَتْ ذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ فِيهِمُ الرَّئِيسُ مَالِكُ بْنُ عَوْف النصرى فلجأوا إِلَى الطَّائِفِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَسَارَتْ فِرْقَةٌ فَعَسْكَرُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَوَطَاسٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَاتَلُوهُمْ فَغَلَبُوهُمْ، ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ.

كَمَا سَيَأْتِي.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَتَوْا الطَّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجَّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إِلَّا بَنُو غَيْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ

سَلَكَ الثَّنَايَا.

قَالَ: فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بن أهان السُّلَمِيُّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الدُّغُنَّةِ - وَهِيَ أُمُّهُ - دُرَيْدَ ابْن الصِّمَّةِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ امْرَأَة وَذَلِكَ أَنه فِي شجار لَهُم، فَإِذَا بِرَجُلٍ، فَأَنَاخَ بِهِ فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَإِذَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ، فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَاذَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ: أَقْتُلُكَ.

قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السُّلَمِيُّ.

ثُمَّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ! خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخَّرِ رَحْلِي فِي الشِّجَارِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنِ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ فَإِنِّي كَذَلِكَ كُنْتُ أَضْرِبُ الرِّجَالَ! ثُمَّ إِذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَرُبَّ وَاللَّهِ يَوْمٍ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَكَ! فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: لَمَّا ضَرَبْتُهُ فَوَقَعَ تَكَشَّفَ فَإِذَا عِجَانُهُ (1) وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيل إعراء.

(1) العجان: مَا بَين الخصية والدبر.

(*)

ص: 640

فَلَمَّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إِلَى أُمِّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهَاتٍ لَكَ ثَلَاثًا.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا رَثَتْ بِهِ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَبَاهَا فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا: قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْتُ قَدْ صدقُوا * فظل دمعى على السربال ينحدر (1) لَوْلَا الَّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلَّهُمُ * رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعب كَيفَ يأتمر إِذَنْ لَصَبَّحَهُمْ غِبًّا وَظَاهِرَةً * حُيْثُ اسْتَقَرَّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ (2) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِ مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ، فَأَدْرَكَ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ مَنِ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ فَقَاتَلَهُمْ فَفتح الله عَلَيْهِ وَهَزَمَهُمْ الله عزوجل، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ

رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ: إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ * ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسَّمَهْ (3) أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رُءُوسَ المسلمه قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ وَحَدِيثِهِ أَنَّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةَ إِخْوَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ.

فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ.

ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.

عَلَيْهِ.

فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ، ثُمَّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِك حَتَّى قتل تِسْعَة وبقى الْعَاشِر،

(1) السربال: الْقَمِيص.

(2)

غبا: يَوْمًا بعد يَوْم.

وَالظَّاهِرَة: أَن يصبحهم كل يَوْم.

والجحفل: الْجَيْش الكثيف.

والذفر: الْمُتَغَيّر الرَّائِحَة من صدأ الْحَدِيد.

(3)

السمادير: ضعف الْبَصَر أَو شئ يتَرَاءَى للانسان من ضعف بَصَره.

(41 - السِّيرَة - 3)(*)

ص: 641

فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ.

فَكَفَّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتَ فَأَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَآهُ قَالَ:" هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ ".

قَالَ: وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ: الْعَلَاء وأوفى ابْنا الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخِرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ، وَوَلَّى النَّاسُ أَبُو مُوسَى فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ بنى جشم [بن مُعَاوِيَة] (1) يرثيهما: إِن الرزية قتل الْعلَا * ء وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا

هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامر * وَقد كَانَ داهية أَرْبَدَا (2) هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ * كَأَنَّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا (3) فَلَمْ يَرَ فِي النَّاسِ مِثْلَيْهِمَا * أقل عثارا وأرمى يدا وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء، وَحدثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ.

قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ.

قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي.

فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحِي أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قتل الله صَاحبك، قَالَ: فَانْتزع هَذَا السَّهْمَ.

فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ.

قَالَ: يَابْنَ أخى أَقْْرِئ

(1) من ابْن هِشَام.

(2)

الاربد: الاسد أَو الْحَيَّة الخبيثة.

(3)

المجسد: الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالزعفران.

(*)

ص: 642

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي.

وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ.

فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيته على سَرِير مزمل وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَوْلِهِ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي.

قَالَ: فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ " وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ - أَوْ مِنَ النَّاسِ " فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ.

فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا ".

قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى رضي الله عنهما.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَرَّادٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أَصَبْنَا نِسَاءً مِنْ سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم " قَالَ: فَاسْتَحْلَلْنَا بِهَا فُرُوجَهُنَّ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ بِهِ.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، زَادَ مُسْلِمٌ وَشُعْبَةُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ همام عَن يَحْيَى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابُوا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ

ص: 643

أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ:" وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم ".

وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.

فَزَادَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا.

رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ حَيْثُ بِيعَتْ ثُمَّ خُيِّرَتْ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا أَوْ

إِبْقَائِهِ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا طَلَاقًا لَهَا لَمَا خُيِّرَتْ.

وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ.

وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلَعَلَّهُنَّ أَسْلَمْنَ أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ.

وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ فِيمَن اسْتشْهد يَوْم حنين وبسرية أَوْطَاسٍ أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَيْمَنُ بن عبيد، وَزيد بْنُ زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْجنَاح فَمَاتَ، وسراقة ابْن مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرُ سَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ رضي الله عنهم.

ص: 644

فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلَّيْتُمُ * حِينَ اسْتَخَفَّ الرُّعْبُ كُلَّ جَبَانِ بِالْجِزْعِ يَوْمَ حيالنا أَقْرَانُنَا * وَسَوَابِحُ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفِّهِ * وَمُقَطَّرٍ بِسَنَابِكَ وَلَبَانِ (1) وَاللَّهُ أَكْرَمَنَا وَأَظْهَرَ دِينَنَا * وَأَعَزَّنَا بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ * وَأَذَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ: إِذْ قَامَ عَم نَبِيكُم ووليه * يدعونَ يالكتيبة الْإِيمَانِ أَيْنَ الَّذِينَ هُمُ أَجَابُوا رَبَّهُمْ * يَوْمَ الْعُرَيْضِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ

وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: فَإِنِّي وَالسَّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ * وَمَا يَتْلُو الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ لَقَدْ أَحْبَبْتُ مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ * بِجَنْبِ الشِّعِبِ أَمْسِ مِنَ الْعَذَابِ هُمُ رَأْسُ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ * فَقَتْلُهُمُ أَلَذُّ مِنَ الشَّرَابِ هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ * وحكت بركها ببنى ئاب (2) وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ * بِأَوْطَاسٍ تُعَفَّرُ بِالتُّرَابِ وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ * لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنَّقْعُ كَابِي (3) رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسٍّ * إِلَى الاورال تنحط بالنهاب (4)

(1) المقطر: الْملقى على أحد قطريه، أَي أحد جانبيه.

والسنابك: أَطْرَاف الحوافر.

واللبان: الصَّدْر.

(2)

البرك: الصَّدْر.

وحكت بركها: كِنَايَة عَن شدَّة الْحَرْب.

(3)

النَّقْع: الْغُبَار.

والكابى: الْمُرْتَفع.

(4)

بس: جبل قرب ذَات عرق.

والاورال: أجبل ثَلَاثَة سود فِي جَوف الرمل وتنحط: تخرج صَوتا من الثّقل والاعياء والنهاب: الْغَنَائِم.

(*)

ص: 645

بِذِي لَجَبٍ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ * كَتِيبَتُهُ تَعَرَّضُ لِلضِّرَابِ وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا: يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ * بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا إِنَّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً * فِي خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا ثُمَّ الَّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمْ * جُنْدٌ بَعَثْتَ عَلَيْهِمُ الضَّحَّاكَا رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السِّلَاحِ كَأَنَّهُ * لَمَّا تَكَنَّفَهُ الْعَدُوُّ يَرَاكَا (1) يَغْشَى ذَوِي النَّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنَّمَا * يَبْغِي رضَا الرَّحْمَن ثمَّ رضاكا أنبئك أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَكَرَّهُ * تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا

طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً * يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا فتاكا [يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكَمَاةِ وَلَوْ تَرَى * مِنْهُ الَّذِي عَايَنْتُ كَانَ شِفَاكَا](2) وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ * ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوِّ دِرَاكًا (3) يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنَّهُمْ * أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمَّ عِرَاكَا مَا يَرْتَجُونَ مِنَ الْقَرِيبِ قَرَابَةً * إِلَّا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَهَوَاكَا هَذِي مَشَاهِدُنَا الَّتِي كَانَتْ لَنَا * مَعْرُوفَةً وَوَلِيُّنَا مَوْلَاكَا وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا (4) : عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ * فَمِطْلَى أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ (5) دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إِذْ جُلُّ عَيْشِنَا * رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّهْرِ لِلْحَيِّ جَامِعُ حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى * لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ

(1) الذرب: الحدة والمضاء.

وتكنفه: أحَاط بِهِ.

(2)

من ابْن هِشَام.

(3)

معنقون: مسرعون.

والدراك: الطعْن المتتابع.

(4)

من هُنَا إِلَى آخر هَذَا الْفَصْل سقط من ت.

(5)

مجدل ومتالع: موضعان.

والمطلى، يقصر ويمد: مسيل ضيق من الارض.

أَو الارض السهلة وأريك: وَاد.

(*)

ص: 646

فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ * فَإِنِّي وَزِيرٌ للنبى وتابع دَعَانَا إِلَيْهِ خير وَفد عَلَّمْتهمْ * خُزَيْمَةُ وَالْمَرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمُ * لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنَّمَا * يَدُ اللَّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً * بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ عَلَانِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا * حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ

وَيْوَمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ * إِلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الْأَضَالِعُ صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لَا يَسْتَفِزُّنَا * قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمُ وَالْوَقَائِعُ أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا * لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لَامَعُ (1) عَشِيَّةَ ضَحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ * بِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ (2) نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى * مَصَالًا لَكُنَّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ (3) وَلَكِنَّ دِينَ اللَّهِ دِينَ مُحَمَّدٍ * رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشَّرَائِعُ أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ أَمْرَنَا * وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ دَافِعُ وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا: تَقَطَّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمِّ مُؤَمَّلِ * بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيَّةً خُلْفَا (4) وَقَدْ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى * فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرَّتِ الْحَلْفَا خُفَافِيَّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا * وَتَحْتَلُّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا (5) فَإِنْ تَتَبَعِ الْكُفَّارَ أُمُّ مُؤَمَّلٍ * فقد زودت قلبى على نأيها شغفا

(1) الخذروف: برق لامع فِي السَّحَاب.

(2)

معتص: ضَارب.

والكانع: الْقَرِيب.

(3)

يُرِيد أَنه من بنى سليم، وسليم من قيس كَمَا أَن هوَازن من قيس.

والمصال: مفعل من الصولة.

(4)

نِيَّة: من النَّوَى وَهُوَ الْبعد.

(5)

الخفافية: نِسْبَة إِلَى خفاف: حى من سليم والبادون: المقيمون فِي الْبَادِيَة.

(*)

ص: 647

وسف يُنَبِّئُهَا الْخَبِيرُ بِأَنَّنَا * أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبِّنَا حِلْفًا وَأَنَّا مَعَ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ * وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزَّةٍ * أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفًا خُفَافٌ وَذَكْوَانٌ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ * مَصَاعِبَ زافت فِي طروقتها كلفا

كَأَن نَسِيج الشُّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ * أُسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا (1) بِنَا عَزَّ دِينُ اللَّهِ غَيْرَ تَنَحُّلٍ * وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَّذِي مَعَهُ ضِعْفَا بِمَكَّةَ إِذْ جِئْنَا كَأَنَّ لِوَاءَنَا * عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا عَلَى شُخَّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسِبُ بَيْنَهَا * إِذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفًا غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ * لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الِقَوْمُ وَسْطَهُ * لَنَا زَجْمَةً إِلَّا التَّذَامُرَ وَالنَّقْفَا (2) بِبِيضٍ نطير الْهَام عَن مستقرها * وتقطف أَعْنَاقَ الْكَمَاةِ بِهَا قَطْفَا فَكَائِنْ تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبٍ * وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا (3) رِضَا اللَّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النَّاسِ نَبْتَغِي * وَلِلَّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى وَقَالَ عَبَّاس أَيْضا رضى الله عَنهُ: مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرُ * مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ (4) عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ * فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمِهِ * تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مودته * وَمن أَتَى دونه الصمان فالحفر (5)

(1) الغصف: المسترخية أجفانها على أعينها غَضبا وكبرا.

(2)

الزجمة: النبسة بِكَلِمَة.

والنقف: كسر الهامة عَن الدِّمَاغ أَو ضربهَا أَشد الضَّرْب.

(3)

الملحب: المقطع (4) العائر: كل مَا أعل الْعين: والحماطة: عشب خشن الْمس أَو تبن الذّرة.

والشفر: أصل منبت الشّعْر فِي الجفن (5) الصمان والحفر موضعان.

(*)

ص: 648

دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ * ولى الشَّبَاب وزار الشيب والزعر (1) واذ كربلاء سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا * وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الِفَخْرِ مُفْتَخَرُ

قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا * دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجَرُ لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ * وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ (2) إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرُبَةً * فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الاخطار والعكر (3) تدعى خفاف عَوْف فِي جَوَانِبِهَا * وَحَيُّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلٌ وَلَا ضُجُرُ الضَّارِبُونَ جُنُودَ الشِّرْكِ ضَاحِيَةً * بِبَطْنِ مَكَّةَ والارواح تبتدر حَتَّى رفعنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنَّهُمُ * نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا * لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ * وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ تَحْتَ اللِّوَاءِ مَعَ الضَّحَّاكِ يَقْدُمُنَا * كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ فِي مَأْزَقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا * تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا * لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ حَتَّى تَأَوَّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ * لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلَا كَثُرُوا * إِلَّا قَدْ أَصْبَحَ مِنَّا فيهم أثر وَقَالَ عَبَّاس أَيْضا رضى الله عَنهُ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي تَهْوِي بِهِ * وَجْنَاءُ مجمرة المناسم عرمس (4)

(1) الزعر: قلَّة الشّعْر.

(2)

الفسيل: صغَار النّخل: والتحاور: ارْتِفَاع أصوات الْبَقر من الخوار.

(3)

المقربة: الَّتِى تدنى وتقرب وتكرم وَلَا تتْرك.

والدارة: الْعَرَصَة، وكل أَرض وَاسِعَة بَين جبال والعكر والاخطار: الابل الْكَثِيرَة.

(4)

الوجناء: البارزة الوجنات، والمناسم: أَطْرَاف خف الْبَعِير والمجمرة: المستوية.

والعرمس: النَّاقة الشَّابَّة.

(*)

ص: 649

إِمَّا أَتَيْتَ عَلَى النَّبِيِّ فَقُلْ لَهُ * حَقًّا عَلَيْكَ إِذَا اطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيَّ وَمَنْ مَشَى * فَوْقَ التُّرَابِ إِذَا تُعَدُّ الْأَنْفُسُ إِنَّا وَفَيْنَا بِالَّذِي عَاهَدْتَنَا * وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ (1) إِذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلِّهَا * جَمْعٌ تَظَلُّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجُسُ (2) حَتَّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكَّةَ فَيْلَقًا * شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ (3) مِنْ كُلِّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ * بَيْضَاءُ مُحْكَمَةُ الدِّخَالِ وَقَوْنَسُ (4) يَرْوِي الْقَنَاةَ إِذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى * وَتَخَالُهُ أَسَدًا إِذَا مَا يَعْبِسُ يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفِّهِ * عَضْبٌ يَقُدُّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ (5) وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا * أَلْفٌ أُمِدَّ بِهِ الرَّسُولُ عَرَنْدَسُ كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً * وَالشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ (6) نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ * وَاللَّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا * رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدَّةً * كَفَتِ الْعَدُوَّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا تَدْعُو هوَازن بالاخوة بَيْنَنَا * ثَدْيٌ تَمُدُّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ حَتَّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنَّهُ * عَيْرٌ تَعَاقَبُهُ السِّبَاعُ مُفَرَّسُ وَقَالَ أَيْضا رضى الله عَنهُ: من مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا * رَسُولَ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يمما

(1) تقدع: تكبح.

وتضرس: تجرح.

(2)

بهثة: حى من سليم.

والمخارم: الطّرق فِي الْجبَال.

وترجس: تهتز.

(3)

الاشوس: المتكبر.

(4)

الدخال: نسج الدرْع.

(5)

المدعس: السَّرِيع الطعْن.

(6)

الدريئة: الكتيبة المدافعة.

(*)

ص: 650

دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ وَحْدَهُ * فَأَصْبَحَ قَدْ وَفَّى إِلَيْهِ وَأَنْعَمَا سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قَدَيْدًا مُحَمَّدًا * يَؤُمُّ بِنَا أَمْرًا مِنَ اللَّهِ مُحْكَمَا تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنُوا * مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وَغَابًا مُقَوَّمَا عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا * وَرَجْلًا كَدُفَّاعِ الْأَتِيِّ عَرَمْرَمَا (1) فَإِنَّ سَرَاةَ الْحَيِّ إِنْ كُنْتَ سَائِلًا * سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمُ مَنْ تَسَلَّمَا وَجُنْدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ * أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلَّمَا فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمَّرْتَ فِي الْقَوْمِ خَالِدًا * وَقَدَّمْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَا بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللَّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ * تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقِّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا حَلَفْتُ يَمِينًا بَرَّةً لِمُحَمَّدٍ * فَأَكْمَلْتُهَا أَلْفًا مِنَ الْخَيْلِ مُلْجَمَا وَقَالَ نَبِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمُوا * وَحُبَّ إِلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدَّمَا وَبِتْنَا بِنَهِيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ * بِنَا الْخَوْفُ إِلَّا رَغْبَةً وَتَحَزُّمَا (2) أَطَعْنَاكَ حَتَّى أَسْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ * وَحَتَّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا يَضِلُّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطَهُ * وَلَا يَطْمَئِنُّ الشَّيْخُ حَتَّى يُسَوَّمَا سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفَّهُ ضُحًى * وَكُلٌّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدَ احْجَمَا لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى تركنَا عَشِيَّة * حنينا وَقد سَالَتْ دوامعه دَمَا إِذَا شِئْتَ مِنْ كُلٍّ رَأَيْتَ طِمِرَّةً * وَفَارِسَهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطَّمَا (3) وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنَّا هَوَازِنُ سَرْبَهَا * وَحُبَّ إِلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا هَكَذَا أَوْرَدَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصَائِدَ مَنْ شِعْرِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، وَقَدْ تَرَكْنَا بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْقَصَائِدِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَخَوْفِ الْمَلَالَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ حَصَلَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَاللَّهُ أعلم.

(1) الرجل: المشاة.

والاتي: السَّيْل الْغَرِيب والدفاع: مَا يَدْفَعهُ السَّيْل.

(2)

النهى: الغدير.

(3)

الطمرة: الْفرس السريعة الجرى.

(*)

ص: 651

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ غَزْوَةُ الطَّائِفِ قَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحَاصَرَ الطَّائِفَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ ثَقِيفٍ الطَّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا وَصَنَعُوا الصَّنَائِعَ لِلْقِتَالِ.

وَلَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ، كَانَا بِجُرَشَ يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضُّبُورِ (1) .

قَالَ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ * وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَمْنَا السُّيُوفَا نُخَيِّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ * قَوَاطِعُهُنَّ: دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا فَلَسْتُ لِحَاضِنٍ إِنْ لَمْ تَرَوْهَا * بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أُلُوفَا وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجٍّ * وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ * يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا إِذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ * لَهَا مَمَّا أَنَاخَ بَهَا رَجِيفَا بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ * يُزِرْنَ المصطلين بهَا الحتوفا

(1) الضبور: الدبابات الَّتِى تقرب للحصون لتنقب من تحتهَا (*)

ص: 652

كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا * قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا (1) تَخَالُ جَدِيَّةَ الْأَبْطَالِ فِيهَا * غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًّا مَدُوفَا (2) أَجَدَّهُمُ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ * مِنَ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا يُخَبِّرُهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا * عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجُبَ الطُّرُوفَا (3) وَأَنَّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ * يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمُ صُفُوفَا رَئِيسُهُمُ النَّبِي وَكَانَ صلبا * نقى الْقلب مصطبرا عزوفا رَشِيدَ الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ * وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا * هُوَ الرَّحْمَن كَانَ بِنَا رؤوفا فَإِنْ تُلْقُوا إِلَيْنَا السِّلْمَ نَقْبَلْ * وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ * وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعِشًا ضَعِيفَا نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا * إِلَى الْإِسْلَامِ إِذْعَانًا مُضِيفَا نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا * أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمِ الطَّرِيفَا (4) وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا * صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا (5) أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً * فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ * نَسُوقُهُمُ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى * يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا وَتُنْسَى اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَوُدٌّ * وَنَسْلُبَهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا * وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خسوفا

(1) الكتيف: الضبة.

قَالَ السُّهيْلي: وهى صفيحة صَغِيرَة.

(2)

الجدية: الدَّم السَّائِل.

والجادى: الزَّعْفَرَان.

والمدوف: المبلول.

(3)

الطروف: الْكِرَام من الْخَيل.

(4)

التلاد: الْقَدِيم.

والطريف: الْجَدِيد.

(5)

الجذم: الاصل.

(*)

ص: 653

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ: قَلْتٌ: قد وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ فَأَسْلَمَ مَعَهم.

قَالَه مُوسَى بن عقبَة وَأَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ بَلْ صَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَتَنَصَّرَ وَمَات بهَا: من كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا * فَإِنَّا بِدَارٍ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا (1) وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى * وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا (2) وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ * فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا وَقَدْ عَلِمَتْ - إِنْ قَالَتِ الْحَقَّ - أننا * إِذا مَا أَتَت صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا * وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثِ مُحَرِّقٍ * كَلَوْنِ السَّمَاءِ زَيَّنَتْهَا نُجُومُهَا (3) نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ * إِذَا جُرِّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا (4) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ عَارَضٍ الْجُشَمِيُّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ: لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا * وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ إِنَّ الَّتِي حُرِّقَتْ بِالسُّدِّ فَاشْتَعَلَتْ * وَلَمْ تُقَاتِلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ إِنَّ الرَّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمُ * يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي مِنْ حُنَيْنٍ إِلَى الطَّائِفِ - عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيَّةِ، ثُمَّ عَلَى قَرْنٍ ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ ثُمَّ عَلَى بَحْرَةِ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ، فَابْتَنَى بهَا مَسْجِدا فصلى فِيهِ.

(1) الْمعلم: الْمَشْهُورَة.

(2)

أطواؤها: آبارها، جمع طوى.

(3)

الدلاص: الدروع الملساء اللينة.

ومحرق: يُرِيد عَمْرو بن عَامر وَهُوَ أول من حرق الْعَرَب بالنَّار.

(4)

لَا نشيمها: لَا نغمدها.

(*)

ص: 654

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، أَنَّهُ عليه السلام أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبَحْرَةِ الرُّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا بِدَمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مَنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ بِهِ.

وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِلِيَّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الضَّيِّقَةُ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟ فَقِيلَ: الضَّيِّقَةُ.

فَقَالَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى.

ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخِبٍ حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا الصادرة قَرِيبا من مَال رجل ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نُخَرِّبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ.

فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَابِهِ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ، فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ، وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ ".

قَالَ: فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مَعَهُ الْغُصْنَ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ معِين، عَن وهب ابْن جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بِهِ.

* * *

ص: 655

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الطَّائِفِ فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ، فَتَأَخَّرُوا إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ عليه السلام الْيَوْمَ بِالطَّائِفِ الَّذِي بَنَتْهُ ثَقِيفٌ بَعْدَ إِسْلَامِهَا، بَنَاهُ عَمْرُو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ وَهْبٍ، وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لَا تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ إِلَّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فِيمَا يَذْكُرُونَ.

قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.

وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ وَتَرَكَ السَّبْيَ بِالْجِعْرَانَةِ وَمُلِئَتْ عُرُشُ (1) مَكَّة مِنْهُم، فَنزل رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَكَمَةِ عِنْدَ حِصْنِ الطَّائِفِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ مِنْ وَرَاءِ حِصْنِهِمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ أَبِي بَكْرَةَ بْنِ مَسْرُوحٍ أَخِي زِيَادٍ لِأُمِّهِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَثُرَتِ الْجراح وَقَطعُوا طَائِفَة من أعنابهم لِيُغِيظُوهُمْ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ثَقِيفٌ: لَا تُفْسِدُوا الْأَمْوَالَ فَإِنَّهَا لَنَا أَوْ لَكُمْ.

وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْطَعَ خَمْسَ نخلات وَخمْس حُبْلَاتٍ (2)، وَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ.

فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ بْنُ مَسْرُوحٍ أَخُو زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لِأُمِّهِ، فَأَعْتَقَهُمْ وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَعُولُهُ وَيَحْمِلُهُ.

وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا يزِيد، حَدَّثَنَا حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتِقُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْعَبِيدِ قَبْلَ مَوَالِيهِمْ إِذَا أَسْلَمُوا، وَقَدْ أَعْتَقَ يَوْم الطَّائِف رجلَيْنِ.

وَقَالَ أَحْمد: حَدثنَا عبد القدوس بن بكر بن خُنَيْس، حَدثنَا الْحجَّاج، عَن الحكم،

(1) الْعَرْش: الْخيام والبيوت الَّتِى يستظل بهَا.

(2)

الحبلة: الكرمة.

(*)

ص: 656

عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَهُمَا، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكَرَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إِذَا خَرَجُوا إِلَيْهِ.

وَقَالَ أَحْمد أَيْضا: حَدثنَا نصر بن رِئَاب، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الطَّائِفِ: " مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا مِنَ الْعَبِيدِ فَهُوَ حُرٌّ ".

فَخَرَجَ عَبِيدٌ مِنَ الْعَبِيدِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَمَدَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

لَكِنْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى هَذَا، فَعِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عُتِقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا مُطْلَقًا عَامًّا.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا لَا حَكْمًا عَامًّا.

وَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَكَانَ التَّشْرِيعُ الْعَامُّ أَظْهَرَ، كَمَا فِي قَوْله عليه السلام:" مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ".

وَقَدْ قَالَ يُونُسُ [بْنُ بُكَيْرٍ](1) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنى عبد الله بن المكرم الثَّقَفِيُّ، قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ رَقِيق من رقيقهم، أَبُو بكرَة عبد لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَالْمُنْبَعِثُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُنْبَعِثَ، وَيُحَنَّسُ، وَوَرْدَانُ، فِي رَهْطٍ مِنْ رَقِيقِهِمْ فَأَسْلَمُوا، فَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ أَهْلِ الطَّائِفِ فَأَسْلَمُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّ عَلَيْنَا رَقِيقَنَا الَّذِينَ أَتَوْكَ.

قَالَ: " لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ " وَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَاءَ عَبْدِهِ فَجَعَلَهُ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، سَمِعْتُ

أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ الله وَأَبا بكرَة، وَكَانَ

(1) سَقَطت من ا.

(42 - السِّيرَة 3)(*)

ص: 657

تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ ".

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ بِهِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ هِشَامٌ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَوْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا وَأَبَا بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ عَاصِمٌ: قُلْتُ: لَقَدْ شَهِدَ عِنْدَكَ رَجُلَانِ حَسْبُكَ بِهِمَا.

قَالَ: أَجَلْ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنَزَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الطَّائِفِ.

* * * قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، فَكَانَ يُصَلِّي بَيْنَهُمَا، فَحَاصَرَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ.

فَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ، رَمَى بِهِ أَهْلَ الطَّائِفِ.

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ دخلُوا تَحت دبابة ثمَّ زحفوا ليحرقوا جِدَار أهل الطَّائِف، فَأرْسلت عَلَيْهِم سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ

فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ.

قَالَ: وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغَيَّرَةُ بْنُ شُعْبَة فناديا ثقيفا بالامان حَتَّى يكلموهم فأمنوهم فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ لِيَخْرُجْنَ إِلَيْهِمْ، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ إِذَا

ص: 658

فتح الْحصن، فأبين، فَقَالَ لَهما أَبُو الْأَسْوَدِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَلَا أَدُلُّكَمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا جئتما لَهُ؟ إِن مَال أَبى الاسود حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا.

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَقِيقُ، وَهُوَ بَيْنَ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ الطَّائِفِ، وَلَيْسَ بِالطَّائِفِ مَالٌ أَبْعَدَ رِشَاءً (1) وَلَا أَشد مُؤنَة وَلَا أَبْعَدَ عِمَارَةً مِنْهُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا إِنْ قَطَّعَهُ لَمْ يَعْمُرْ أَبَدًا، فَكَلِّمَاهُ فَلْيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ.

فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَهُ لَهُمْ.

وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ نَحْوَ هَذَا وَعِنْدَهُ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَعَمِلَهُ بِيَدِهِ.

وَقِيلَ قَدِمَ بِهِ وَبِدَبَّابَتَيْنِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُ، فَجَاءَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ فِي حِصْنِهِمْ وَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ قَطْعُ مَا قُطِعَ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ.

فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا قُلْتَ لَهُمْ "؟ قَالَ: دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْذَرْتُهُمُ النَّارَ وَذَكَّرْتُهُمْ بِالْجَنَّةِ.

فَقَالَ: " كَذَبْتَ بَلْ قَلْتَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا " فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ ابْن بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَن معدان ابْن أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رضي الله عنه قَالَ: حَاصَرْنَا

مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصْرَ الطَّائِفِ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ بَلَّغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ " فَبَلَّغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّة عشر سَهْما.

(1) الرشاء: الْحَبل (*)

ص: 659

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ عَدْلُ مُحَرَّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنَّ الله جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ وِقَاءً كُلَّ عَظْمٍ بِعَظْمٍ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مسلمة فَإِن الله جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا مِنَ النَّارِ ".

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث قَتَادَة بِهِ.

* * * وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا الحميدى، سمع سُفْيَان، حَدثنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي مخنث فَسَمعهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ ".

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُخَنَّثُ هِيتٌ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.

وَفِي لَفْظٍ: " وَكَانُوا يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَال " وفى لفظ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا؟ لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَؤُلَاءِ ".

يَعْنِي إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُ ذَلِكَ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء (1) ".

وَالْمُرَادُ بِالْمُخَنَّثِ فِي عُرْفِ السَّلَفِ الَّذِي لَا هِمَّةَ لَهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي

يُؤْتَى، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَتْلُهُ حَتْمًا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَكَمَا قَتَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه.

(1) سُورَة النُّور 31 (*)

ص: 660

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ " يَعْنِي بِذَلِكَ عُكَنَ بَطْنِهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَرْبَعًا إِذَا أَقْبَلَتْ ثُمَّ تَصِيرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ إِذَا أَدْبَرَتْ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ ابْن سَلَمَةَ مِنْ سَادَاتِ ثَقِيفٍ.

وَهَذَا الْمُخَنَّثُ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ اسْمَهُ هِيتٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ لَكِنْ قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْلًى لِخَالَتِهِ بنت عَمْرو بن عايد مُخَنَّثٌ يُقَالُ لَهُ مَاتِعٌ، يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيته وَلَا يرى أَنه يفْطن لشئ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ مِمَّا يَفْطِنُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ إِرْبًا، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، يَا خَالِدُ إِنِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ فَلَا تَنْفَلِتَنَّ مِنْكُمْ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ: " أَلَا أَرَى هَذَا يَفْطِنُ لِهَذَا " الْحَدِيثَ.

ثُمَّ قَالَ لِنِسَائِهِ: " لَا يدخلن عليكن " فَحُجِبَ عَنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ الْأَعْمَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فَثَقُلَ عَلَيْهِم وَقَالُوا: نَذْهَب وَلَا نفتح؟ فَقَالَ: " اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ " فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ فَقَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فَأَعْجَبَهُمْ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَتَبَسَّمَ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ وَعِنْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

وَاخْتَلَفَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، فَفِي نُسْخَةٍ كَذَلِكَ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَالله أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ بن الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

ص: 661

لما مَضَت خمس عشرَة مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن مُعَاوِيَة الديلى فَقَالَ: " يَا نَوْفَلُ مَا تَرَى فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِم؟ " قَالَ: يَا رَسُول ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لابي بكر وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا: " يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ ".

قَالَ: ثُمَّ إِنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي إِنْ فتح الله عَلَيْك حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَوْ حلى الفارعة بنت عقيل - وَكَانَت من أحلى نسَاء ثَقِيف - فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: " وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ فِي ثَقِيف يَا خُوَيْلَة؟ ".

فَخرجت خَوْلَة فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا حَدِيث حدثتنيه خَوْلَة، زَعَمَتْ أَنَّكَ قُلْتَهُ؟ قَالَ:" قَدْ قُلْتُهُ " قَالَ: أَوَ مَا أُذِنَ فِيهِمْ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ؟ قَالَ: بَلَى.

فَأَذَّنَ عُمَرُ بالرحيل، فَلَمَّا اسْتقْبل النَّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَسِيدِ بن أَبى عَمْرو ابْن عِلَاجٍ: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ.

قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ، وَاللَّهِ مَجَدَةً كِرَامًا.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ! أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جِئْتَ تَنْصُرُهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لِأُقَاتِلَ ثقيفا مَعكُمْ،

وَلَكِن أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَطَؤُهَا لَعَلَّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِن ثقيفا مَنَاكِير (1) .

* * *

(1) الْمَنَاكِير: ذَوُو الدهاء.

(*)

ص: 662

وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَن عُرْوَة قصَّة خَوْلَة بِنْتِ حَكِيمٍ، وَقَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ: وَتَأْذِينَ عُمَرَ بِالرَّحِيلِ.

قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاس أَلا يُسَرِّحُوا ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَدَعَا حِينَ رَكِبَ قَافِلًا فَقَالَ:" اللَّهُمَّ اهْدِهِمْ وَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُمْ ".

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ.

فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا ".

ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَرَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المكرم، عَمَّنْ أَدْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَالُوا: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَاءَهُ وَفْدُهُمْ فِي رَمَضَانَ فَأَسْلَمُوا.

وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

* * * وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّائِفِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَمِنْ قُرَيْشٍ، سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنَّابٍ حَلِيفٌ لِبَنِي أُميَّة بن الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتُوُفِّيَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَعبد الله بن أبي أُميَّة بن الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي عدى، والسائب بن الْحَارِث بن قيس ابْن عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَجُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ.

وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنَ الْخَزْرَجِ ثَابِتُ بْنُ الْجذع الاسلمي، وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ،

ص: 663

وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ بَنِي سَاعِدَةَ.

وَمِنَ الْأَوْسِ رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَطْ.

فَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ اثَنَا عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا عَنِ الطَّائِفِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ: كَانَتْ عُلَالَةَ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ * وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا * فَتَبَدَّدُوا كَالطَّائِرِ الْمُتَمَزِّقِ لَمْ يَمْنَعُوا مِنَّا مَقَامًا وَاحِدًا * إِلَّا جِدَارَهُمُ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ وَلَقَدْ تَعَرَّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا * فَاسْتَحْصَنُوا مِنَّا بِبَابٍ مُغْلَقِ تَرْتَدُّ حَسْرَانَا إِلَى رَجْرَاجَةٍ * شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ (1) مَلْمُومَةٍ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا * حصنا لَظَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقِ مَشْيَ الضِّرَاءِ عَلَى الهراس كأننا * قدر تفرق فِي القياد ويلتقى (2) فِي كُلِّ سَابِغَةٍ إِذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ * كَالنِّهْيِ هَبَّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ جُدُلٌ تَمَسُّ فُضُولُهُنَّ نِعَالَنَا * مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرِّقِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عمر بن الْخطاب أَبُو حَفْص، حَدثنَا الفريابى، حَدثنَا أبان،

حَدثنَا عَمْرو - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ - حَدثنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده صَخْر - هُوَ أَبُو الْعَيْلَةِ الْأَحْمَسِيُّ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفا،

(1) الرجراجة: الْكَثِيرَة.

(2)

الضراء: الْكلاب.

والهراس: شجر شائك كالنيق.

(*)

ص: 664

فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ ذَلِكَ صَخْرٌ رَكِبَ فِي خَيْلٍ يُمِدُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَهُ قَدِ انْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَحْ، فَجَعَلَ صَخْرٌ حِينَئِذٍ عَهْدًا وَذِمَّةً لَا أُفَارِقُ هَذَا الْقَصْرَ حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلِمَ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَخْرٌ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ ثَقِيفًا قَدْ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِكَ يَا رَسُولَ الله وَأَنا مقبل بهم وهم فِي خيلى.

فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً فَدَعَا لِأَحْمَسَ عَشْرَ دَعَوَاتٍ: " اللَّهُمَّ بَارك لاحمس فِي خيلها ورجالها ".

وأتى الْقَوْمُ فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَخْرًا أَخَذَ عَمَّتِي وَدَخَلَتْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: " يَا صَخْرُ إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَى الْمُغِيرَةِ عَمَّتَهُ " فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ.

وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاءُ لِبَنِي سُلَيَمٍ قَدْ هَرَبُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكُوا ذَلِكَ الْمَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْزِلْنِيهِ أَنَا وَقَوْمِي.

قَالَ: " نَعَمْ " فَأَنْزَلَهُ وَأَسْلَمَ - يعْنى الاسلميين، فَأَتَوْا صَخْرًا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمُ الْمَاءَ فَأَبَى، فَأَتَوْا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْنَا وَأَتَيْنَا صَخْرًا لِيَدْفَعَ إِلَيْنَا مَاءَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا.

فَقَالَ: " يَا صَخْرُ إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فَادْفَعْ إِلَيْهِمْ مَاءَهُمْ " قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.

فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ حُمْرَةً، حَيَاءً مِنْ أَخْذِهُ

الْجَارِيَةَ وَأَخْذِهُ الْمَاءَ! تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.

قُلْتُ: وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحَ عَامَئِذٍ لِئَلَّا يُسْتَأْصَلُوا قَتْلًا، لَأَنَّهُ قَدْ تقدم أَنه عليه السلام لَمَّا كَانَ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى أَن يؤووه حَتَّى

ص: 665

يبلغ رِسَالَة ربه عزوجل، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَكَذَّبُوهُ فَرَجَعَ مَهْمُومًا فَلَمْ يَسْتَفِقْ إِلَّا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَإِذَا هُوَ بِغَمَامَةٍ وَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَقد سمع قَول قَوْمك لَك وماردوا عَلَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ".

فَنَاسَبَ قَوْلُهُ: " بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ " أَلا يَفْتَحَ حِصْنَهُمْ لِئَلَّا يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَأَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحُ لِيَقْدَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ.

كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 666

فصل فِي مرجعه عليه السلام من الطَّائِفِ، وَقِسْمَةِ غَنَائِمِ هَوَازِنَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ دُخُولِهِ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا مِنَ الْجِعْرَانَةِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ عَنِ الطَّائِفِ عَلَى دَحْنَا حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَيْهِمْ.

فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ ".

قَالَ: ثُمَّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ

سَبْيِ هَوَازِنَ سِتَّةُ آلَافٍ مِنَ الذرارى وَالنِّسَاء وَمن الابل وَالشَّاء مَالا يُدْرَى عِدَّتُهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنهُ قَالَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أهل وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.

وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ أَبُو صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مَلَحْنَا لِابْنِ أَبِي شَمِرٍ أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ ثُمَّ أَصَابَنَا مِنْهُمَا مِثْلَ الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ رَجَوْنَا عائدتهما وعطفهما، وَأَنت رَسُولَ اللَّهِ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ.

ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ * فَإِنَّكَ الْمَرْء نرجوه وننتظر

(1) ملحنا: أرضعنا.

(*)

ص: 667

امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ * مُمَزَّقٍ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ أَبْقَتْ لَنَا الدَّهْرَ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ * عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا * يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا * إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدِّرَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا * وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ * وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ * وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحِسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا؟ بَلْ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا

أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا.

فَإِنِّي سَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ ".

فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ الظَّهْرَ قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ " فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا.

وَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا.

وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا.

فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ يَقُولُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ: وَهَّنْتُمُونِي؟

ص: 668

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ أَمْسَكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتَّة فَرَائض من أول فئ نُصِيبُهُ.

فَرَدُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.

ثُمَّ كب رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا.

حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَانْتَزَعَتْ رِدَاءَهُ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ رَدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا ".

ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِ بِعِيرٍ فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً فَجَعلهَا بَين إصبعيه ثمَّ رَفعهَا فَقَالَ: " أَيهَا النَّاس وَالله مالى مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إِلَّا الْخُمْسُ وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدَّوُا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".

فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ (1) مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذْتُ هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ (2) .

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا حَقِّي مِنْهَا فَلَكَ " فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا إِذْ بلغ الامر فِيهَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا.

فَرَمَى بِهَا مِنْ يَده.

وَهَذَا السِّيَاق يقتضى أَنه عليه السلام رَدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّد ابْن إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، خِلَافًا لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِ.

* * * وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَن عُرْوَة، عَن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوا أَنْ ترد إِلَيْهِم أَمْوَالهم وَنِسَاؤُهُمْ، فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله

(1) الكبة: الخيوط المجتمعة.

(2)

الدبر: المقروح (*)

ص: 669

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ ".

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غير راد إِلَيْهِم أَمْوَالهم إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: إِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا.

فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُسلمين وَأثْنى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِن إخْوَانكُمْ هَؤُلَاءِ قد جَاءُوا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيهمْ، فَمن أحب أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ من أول مَال يفئ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ ".

فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّا لَا ندرى من أذن مِنْكُم

مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عَرْفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ " فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عَرْفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.

فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْبُخَارِيُّ لِمَنْعِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ، وَقَوْمِهِمَا، بَلْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي فَكَيْفَ السَّاكِت.

وروى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْفِلَةٌ مِنْ حُنَيْنٍ عَلِقَتِ الْأَعْرَابُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ، حَتَّى اضطروه إِلَى شَجَرَة فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ:" أَعْطَوْنِي رِدَائِي فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا ".

تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

ص: 670

وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وحَدثني أَبُو وجرة يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ بِنْتُ حَيَّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ، وَأَعْطَى عُمَرَ جَارِيَة فَوَهَبَهَا من ابْنه عَبْدِ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثْتُ بِهَا إِلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحَ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا وَيُهَيِّئُوهَا حَتَّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ آتِيَهِمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَجِئْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْتُ فَإِذَا النَّاسُ يَشْتَدُّونَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا رَدَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.

قُلْتُ: تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحَ فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا.

فَذَهَبُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ وَقَالَ حِينَ

أَخَذَهَا: أَرَى عَجُوزًا إِنِّي لِأَحْسَبُ لَهَا فِي الْحَيِّ نَسَبًا وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا.

فَلَمَّا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّبَايَا بِسِتِّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ يَرُدَّهَا، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ: خُذْهَا عَنْكَ فَوَاللَّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، وَلَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ، وَلَا دَرُّهَا بماكد (1) ، إِنَّك مَا أَخَذتهَا وَالله بَيْضَاء غريرة وَلَا نصفا وثيرة.

فَردهَا بست فَرَائض.

* * * قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَنَائِمَ بِالْجِعْرَانَةِ أَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً.

وَقَالَ سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ شهد حنينا قَالَ:

(1) الماكد: الغزير.

(*)

ص: 671

وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسِيرُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَةٍ لِي وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ غَلِيظَةٌ إِذْ زَحَمَتْ نَاقَتِي نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِي عَلَى سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَوْجَعَهُ، فَقَرَعَ قَدَمِي بِالسَّوْطِ وَقَالَ:" أَوْجَعْتَنِي فَتَأَخَّرْ عَنِّي " فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا كَانَ الْغَدِ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْتَمِسُنِي قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ لِمَا كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَمْسِ.

قَالَ: فَجِئْتُهُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ، فَقَالَ:" إِنَّكَ أَصَبْتَ رِجْلِي بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي فَقَرَعْتُ قَدَمَكَ بِالسَّوْطِ فَدَعَوْتُكَ لِأُعَوِّضَكَ مِنْهَا " فَأَعْطَانِي ثَمَانِينَ نَعْجَةً بِالضَّرْبَةِ الَّتِي ضَرَبَنِي.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ إِلَى هَوَازِنَ سَبْيَهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَغَيْرُهُ.

وَظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب الذى أوردهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ إِلَى هَوَازِنَ سَبْيَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَدَّ

السَّبْيَ وَرَكِبَ عَلَقَتِ الْأَعْرَابُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ لَهُ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَقَالَ: " رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نعما لقسمته فِيكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا ".

كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بِنَحْوِهِ.

وَكَأَنَّهُمْ خَشُوا أَنْ يَرُدَّ إِلَى هَوَازِنَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا رَدَّ إِلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَسَأَلُوهُ نسمَة ذَلِكَ فَقَسَّمَهَا عليه الصلاة والسلام بِالَجِعْرَانَةِ كَمَا أمره الله عزوجل، وَآثَرَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ وَتَأَلَّفَ أَقْوَامًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ وَأُمَرَائِهِمْ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى خَطَبَهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيمَا فعله تطبيبا لقُلُوبِهِمْ.

ص: 672

وَتَنَقَّدَ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْخَوَارِجِ كَذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَأَشْبَاهِهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.

* * * قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بن سُلَيْمَان، سَمِعت أَبى يَقُول حَدثنَا السُّمَيْطُ السَّدُوسِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: فَتَحْنَا مَكَّةَ ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ، فَصُفَّتِ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّتِ الْغَنَمُ، ثُمَّ النَّعَمُ.

قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ وَعَلَى مُجَنَّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا، قَالَ: فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَ خَيْلُنَا وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْأَنْصَارِ؟ قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عمته (1) قَالَ: قُلْنَا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ وَأَيْمِ اللَّهِ مَا أَتَيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ.

قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ.

قَالَ: فَنَزَلْنَا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ وَيُعْطى الرجل الْمِائَتَيْنِ.

قَالَ: فَتَحَدَّثَ الْأَنْصَارُ بَيْنَهَا: أَمَّا مَنْ قَاتَلَهُ فَيُعْطِيهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَا يُعْطِيهِ؟ ! فَرُفِعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَرَ بِسَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:" لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ إِلَّا أَنْصَارِيُّ، أَوِ الْأَنْصَارُ " قَالَ: فَدَخَلْنَا الْقبَّة

ص: 673

حَتَّى مَلَأْنَاهَا، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " أَوْ كَمَا قَالَ: " مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟ " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَا حَدِيثٌ أَتَانِي " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تُدْخِلُوهُ بُيُوتَكُمْ؟ " قَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَرَضُوا أَوْ كَمَا قَالَ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ.

وَفِيهِ مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ هَوَازِنَ سِتَّةَ آلَافٍ وَإِنَّمَا كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَوْلُهُ:" إِنَّهُمْ حَاصَرُوا الطَّائِفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً " وَإِنَّمَا حَاصَرُوهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ وَدون الْعشْرين لَيْلَة.

فاالله أعلم.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدثنَا هِشَام، حَدثنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ!

قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةِ أَدَمٍ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُم؟ " قَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَإِنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهِدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ

ص: 674

النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَسَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ " قَالَ أُنْسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا.

تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

ثُمَّ رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن عَوْف، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوَازِنُ وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ فَأَدْبَرُوا، فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ لَبَّيْكَ نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ.

فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَى الطُّلَقَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَقَالُوا، فَدَعَاهُمْ فأدخلهم فِي قُبَّته فَقَالَ:" أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ " صلى الله عليه وسلم.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ".

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حنين أَقبلت هوَازن

وغَطَفَان وَغَيرهم بن عمهم وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ.

ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: " يَا معشر الانصار " فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ فَقَالَ:" أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ".

ص: 675

فَانْهَزَمَ الْمُشْركُونَ وَأصَاب يَوْمئِذٍ مَغَانِم كَثِيرَةً فَقَسَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا! فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي؟ " فَسَكَتُوا فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى فَقَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ".

قَالَ هِشَامٌ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ؟ ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارُ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ".

وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ يَزِيدَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ! إِنَّ سُيُوفَنَا لِتَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَالْغَنَائِمُ تُقَسَّمُ فِيهِمْ، فَخَطَبَهُمْ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، حَدثنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي آخَرِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَتَّى فَاضَتْ فَقَالَ: " فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ

ص: 676

غَيْرِكُمْ؟ " قَالُوا: لَا إِلَّا ابْنَ أُخْتِنَا، قَالَ: " ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ " ثُمَّ قَالَ: " أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: " أَنْتُمُ الشِّعَارُ وَالنَّاسُ الدِّثَارُ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ برَسُول صلى الله عليه وسلم إِلَى دِيَارِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَهَمْ، وَلَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرَءًا من الانصار ".

وَقَالَ: قَالَ حَمَّادٌ: أَعْطَى مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَسَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ آتِكُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي، أَلَمْ آتِكُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " أَفَلَا تَقُولُونَ: جِئْتَنَا خَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ؟ " قَالُوا: بَلْ لِلَّهِ الْمَنُّ عَلَيْنَا وَلِرَسُولِهِ.

وَهَذَا إِسْنَادٌ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.

* * * فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالْمُتَوَاتِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيره من الصَّحَابَة.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدثنَا عَمْرو بن يحيى،

عَن عباد بن تَمِيم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ.

ص: 677

قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا.

أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت إمرءا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ".

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ بِهِ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لما أصَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْغَنَائِمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَقَسَّمَ لِلْمُتَأَلِّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَائِرِ الْعَرَبِ مَا قَسَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الانصار مِنْهَا شئ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَالله رَسُول الله قَوْمَهُ! فَمَشَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ.

فَقَالَ: " فِيمَ؟ " قَالَ: فِيمَا كَانَ مِنْ قَسْمِكَ هَذِهِ الْغَنَائِمَ فِي قَوْمِكَ وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فيهم من ذَلِك شئ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ " قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَأَعْلِمْنِي " فَخَرَجَ سَعْدٌ فَصَرَخَ فِيهِمْ فَجَمَعَهُمْ فِي تِلْكَ الحظيرة فجَاء رجل من الْمُهَاجِرين فَأذن لَهُ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ

الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إِلَّا اجْتَمَعَ لَهُ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ حَيْثُ أَمَرْتَنِي أَنْ أَجْمَعَهُمْ.

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

ص: 678

" أَلا تجيبون يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ " قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ؟ الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

قَالَ: " وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، وَخَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ " فَقَالُوا: الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَوَجَدْتُمْ فِي نُفُوسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا أَسْلَمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى مَا قَسَمَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إِلَى رِحَالِهِمْ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شعب الانصار، وَلَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ".

قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أخضلوا لحاهم وَقَالُوا: رَضِينَا بِاللَّه رَبًّا وَرَسُولِهِ قَسْمًا.

ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَفَرَّقُوا.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَصْحَابِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ أَنَّهُ لَو اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ قَدْ آثَرَ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا عَنِيفًا

فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَا أَحْفَظُهَا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:" وَكُنْتُمْ لَا تَرْكَبُونَ الْخَيْلَ " وَكُلَّمَا قَالَ لَهُمْ شَيْئًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي

ص: 679

سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ.

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بن عقبَة عَنِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا.

* * * وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن عَبَايَة بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ سَبْيِ حنين مائَة من الابل، وَأعْطى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً، وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ مِائَةً، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ الْمِائَةِ، وَلَمْ يُبَلِّغْ بِهِ أُولَئِكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ (1) فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ * يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمجمع وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا * وَمَنْ تَخْفِضُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ * فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ (2) قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً.

رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِنَحْوِهِ وَهَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ:

كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا * بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ (3) وَإِيقَاظِيَ الْحَيَّ أَنْ يَرْقُدُوا * إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَة والاقرع

(1) النهب: الْعَطاء من الْغَنِيمَة.

(2)

ذَا تدرأ: ذَا دفع.

(3)

النهاب: جمع نهب.

والاجرع: الارض ذَات الحزونة.

(*)

ص: 680

وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ * فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا * عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ (1) وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ * يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امِرِئٍ مِنْهُمَا * وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ قَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: " أَنْتَ الْقَائِلُ أَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا هَكَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِشَاعِرٍ وَمَا يَنْبَغِي لَكَ.

فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هُمَا سَوَاءٌ مَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ " فَخَشِيَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمُثْلَةَ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَطِيَّةَ.

قَالَ: وَعُبَيْدٌ فَرَسُهُ.

* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدثنَا أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ (2) وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ:

أَلَا تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ " أَبْشِرْ " فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ! فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: " رَدَّ الْبُشْرَى فَاقْبَلَا أَنْتُمَا " ثمَّ دَعَا

(1) الافائل: الضِّعَاف من الابل.

(2)

قَالَ القسطلانى: قَالَ الداودى: وَهُوَ وهم وَالصَّوَاب بَين مَكَّة والطائف، وَبِه جزم النَّوَوِيّ وَغَيره إرشاد السارى 6 / 410.

(*)

ص: 681

بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَج فِيهِ، ثمَّ فال " اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكَمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا " فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاء السّتْر: أفضلا لامكما.

فأفضلاها مِنْهُ طَائِفَةً.

هَكَذَا رَوَاهُ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ.

فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

* * * وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الَّذِينَ أَعْطَاهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وعلقمة بن علاثة، والْعَلَاء بن حَارِثَة الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْأَقْرَعُ ابْن حَابِسٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ابْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيَّ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ، وَلَكِنْ تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا،

ص: 682