المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مسألة) (وهم القوم الذين يخرجون على الامام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة) - الشرح الكبير على المقنع - ط المنار - جـ ١٠

[ابن أبي عمر]

الفصل: ‌(مسألة) (وهم القوم الذين يخرجون على الامام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة)

وروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الامر أهله وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية)) رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة فان أبا بكر رضي الله انه قاتل ما نعي الزكاة، وعلي رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وأهل صفين وأهل النهروان

(مسألة)(وهم القوم الذين يخرجون على الامام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة)

الخارجون عن قبضة الامام أصناف أربعة (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع الطريق ساعون في الارض بالفساد وقد ذكرنا حكمهم (الثاني) قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لامنعة لهم كالعشيرة ونحوهم فهؤلاء حكمهم حكم الصنف الذي قبلهم في قول أكثر الاصحاب ومذهب الشافعي لأن ابن ملجم لما جرح علياً قال للحسن إن برئت رأيت رأيي وأن مت فلا تمثلوا به فلم يثبت لفعله حكم البغاة، ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير

ص: 49

حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى اتلاف أموال الناس، وقال أبو بكر لا فرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة اذا خرجوا عن قبضة الامام (الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون علياً وعثمان وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم ألا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء المتأخرين من أصحابنا أنهم بغاة لهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث وأما مالك فيرى استتابتهم فان تابوا وإلا قتلوا على افسادهم لاعلى كفرهم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين تباح دماؤهم وأموالهم فان تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا في قبضة الامام استتابهم كاستتابة المرتدين فان تابوا وإلا قتلوا وكانت أموالهم فيأ لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يرى شيئاً، وينظر في الريش فلا يرى شيئاً ويتمارى في الفوق) وهو حديث صحيح ثابت الاسناد رواه البخاري ومالك في موطئه وفي لفظ قال (يخرج في آخر الزمان أحداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول الاية يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم

ص: 50

من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) رواه البخاري، وروي معناه من وجوه، يقول كما خرج هذا السهم نقياً خالياً من الدم والفرث لم يتعلق منهما شئ كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج وعن أبي أمامة انه رأى رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) إلى آخر الآية فقيل له أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لو لم أسمعه الامرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه مالك عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب أنه سمع أبا أمامة يقول شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوه، كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار كانوا مسلمين فصار واكفارا.

قلت يا أبا امامة هذا شئ تقوله؟ قال بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن علي في قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) قال هم أهل النهروان وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هم شر الخلق والخليقة لئن أدركتهم لا قتلنهم قتل عاد) وقيل لا يجاوز ايمانهم حناجرهم، وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم، قال إبن المنذر لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين، وقال ابن عبد البر في الحديث الذي رويناه قوله عليه السلام (يتمارى في الفوق) يدل على أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشئ بحيث يشك في

ص: 51

خروجهم: وروي أن عليا لما قاتل أهل النهر قال لاصحابه لا تبدوءهم بالقتال وبعث اليهم اقيدونا بعبد الله بن خباب قالوا كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لا قرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال من الكفر فروا قيل فمنافقون؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فماهم؟ قال هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم، ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن أحسنوا إساره وان عشت فانا ولي دمي وان مت فضربة كضربتي وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء، وقال شيخنا رحمه الله والصحيح إن شاء الله تعالى ان الخوارج يجوز قتلهم فان علياً رضي الله عنه قال لولا أن

يتظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولأن بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عظم ذنبهم وانهم شر الخلق والخليقة وأنهم يمرقون من الدين وأنهم كلاب النار، وحثه على قتالهم واخباره بأنه لو ادركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز الحاقهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم، وتورع كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ولا بدعة فيهم

ص: 52

(الصنف الرابع)(قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الامام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم الى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين يذكر في الباب حكمهم) وجملة الامران من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت امامة ووجبت معونته لما ذكرنا من النص في أول الباب مع الاجماع على ذلك وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم أو بعهد امام قبله اليه، فان أبا بكر رضي الله عنه ثبتت امامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه واجماع الصحابة على قبوله، ولو خرج رجل على إمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وبايعوه صار اماماً يحرم قتاله والخروج عليه، فان عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعاً وكرهاً وصار إماماً يحرم الخروج عليه، وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين إراقة دمائهم وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه الصلاة والسلام (من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان) فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيا وجب قتاله (مسألة)(وعلى الامام أن يراسلهم ويسألهم ما ينقمون منه ويزل ما يذكرونه من مظلمة ويكشف من شبهة فان فاؤا والا قاتلهم) وجملة ذلك أن الامام لا يجوز له قتالهم حتى يبعث اليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب إلا

ص: 53

أن يخاف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم، فأما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال يذكرونه من المظالم وأزال حججهم فان لجوا قاتلهم حينئذ لأن الله تعالى بدأ بالأمر بالاصلاح قبل القتال فقال سبحانه (وإن طائفتان من

المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) وروي أن علياً رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل ثم أمر أصحابه أن لا يبدء وهم بالقتال ثم قال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم يقولون الله أكبر يا ثارات عثمان فقال اللهم أكب قتلة عثمان لوجوهم.

وروى عبد الله بن شداد بن الهادي أن علياً لما اعتزله الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف (فصل) فان أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال وإنما كان ذلك لأن المقصود كفهم ودفع شرهم لا قتلهم فاذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين فان فاؤا والا قاتلهم لقوله سبحانه (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله)(مسألة)(وعلى رعيته معونته على حربهم) للآية (مسألة)(فان استنظروه مدة رجا رجوعهم فيها أنظرهم ويكشف عن حالهم ويبحث عن أمرهم فان بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة الحق أمهلهم، قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (مسألة)(فان ظن أنها مكيدة لم ينظرهم وقاتلهم) اذا ظهر له أن اتسنظارهم مكيدة ليجتمعوا على قتاله وان لهم مدداً ينتظرونه ليتقووا به أو خديعة

ص: 54

الامام ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره عاجلهم بالقتال لأنه لا يأمن أن يصير هذا طريقاً إلى قهر أهل الحق والعدل، وهذا لا يجوز، وإن أعطوه عليه مالا لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على إقرارهم على مالا يحل إقرارهم عليه، وان بذلوا له رهائن على إنظارهم لم يجز أخذها لذلك ولأن الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم عليه فلا يفيد شيئاً، وإن كان في أيديهم أسارى من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن منهم قتلهم الامام واستظهر للمسلمين فان اطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وإن قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم لانهم لا يقتلون بقتل غيرهم وإذا انقضت الحرب خلى الرهائن كما يخلى الأسارى منهم، وان خاف الامام على الفئة العادلة الضعف عنهم أخر قتالهم إلى أن تمكنه

القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم حتى تقوى شوكة أهل العدل ثم يقاتلهم وان سألوه أن ينظرهم أبداو يدعهم وماهم عليه ويكفوا عن المسلمين نظرت فان لم تعلم قوته عليهم وخاف قهرهم له إن قاتلهم تركهم وان قوي عليهم لم يجز إقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز أن يترك بعض المسلمين طاعة الامام لا يأمن قوة شوكتهم بحيث يفضي إلى قهر الامام العادل ومن معه، ثم ان أمكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم ولأن الدفع إذا حصل بغير القتل لم يجز القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله، وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز

ص: 55

لأن علياً رضي الله عنه نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال: إياكم وصاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول: وأشعث قوام بآيات ربه * كثير التقى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعاً لليدين وللفم على غير ذنب غير أن ليس تابعاً * علياً ومن لايتبع الحق يظلم يناشدني حم والرمح شاجر * فهلا تلاحم قبل التقدم وكان السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه صار ردءاً لهم ولنا قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) والأخبار الواردة في تحريم قتل المسلم والاجماع على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على العموم والاجماع، ولهذا حرم قتل مدبرهم وأسرهم والإجهاز على جريحهم مع أنهم إنما تركوا القتال عجزاً عنه ومتى ما قدر عليه عادو اليه، فمن لا يقاتل تورعاً عنه مع قدرته عليه ولا يخالف منه القتال بعد ذلك أولى، ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله عليه الصلاة والسلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث) فأما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو حجة عليهم فان نهي علي أولى من فعل من خالفه ولم يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله ولا قول إمامه وقولهم فلم ينكر قتله قلنا لم ينقل الينا أن علياً علم حقيقة الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره، وقد جاء

أن علياً رضي الله عنه حين طاف في القتلى رآه فقال السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه وهذا يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأى كعب بن سور فقال: يزعمون إنما خرج الينا الرعاع وهذا

ص: 56

الحبر بين أظهرهم ويجوز أن يكون تركه الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولأن القصد من قتالهم كفهم وهذا كاف لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم (فصل) واذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل الحر البالغ يقاتلون مقبلين ويتركون مدبرين لأن قتالهم للدفع، ولو أراد أحد هؤلاء قتل إنسان جاز دفعه وقتاله وإن أتى على نفسه ولذلك قلنا في أهل الحرب اذا كان معهم النساء والصبيان قوتلوا وقتلوا (مسألة)(ولا يقاتلهم بما يعم إتلافه كالمنجنيق والنار إلا لضرورة) لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل وما يعم اتلافه يقع على من لا يقاتل فان دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم المتخلص الابرميهم بما يعم إتلافه جاز وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة اذا تحصن الخوارج واحتاج الإمام إلى رميهم بالمجنيق فعل ذلك ما كان لهم عسكر وما لم ينهزموا وان رماهم البغاة بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله (فصل) قال أبو بكر اذا اقتتلت طائفتان من أهل البغي فقدر الامام على قهرهما لم يعن واحدة منهما لأنهما جميعاً على الخطأ وإن عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم اليه أقربهما إلى الحق فان استويا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة احداها بل الاستعانة على الآخر فإذا هزمها لم يقاتل من معه حتى يدعوهم إلى الطاعة لأنهم قد حصلوا في أمانة وهذا مذهب الشافعي (مسألة)(ولا يستعين في حربهم بكافر ولا بمن يرى قتلهم مدبرين) وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا بأس ان يستعين عليهم بأهل الذمة والمستأمنين وصنف آخر منهم اذا كان أهل العدل هم الظاهرين على من يستعينون به

ص: 57

ولنا ان القصد كفهم وردهم الى الطاعة لاقتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فان دعت الحاجة الى

الاستعانة بهم فان كان يقدر على كفهم عن فعل مالا يجوز استعان بهم وإن لم يقدر لم يجز (مسألة)(وهل يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم؟ على وجهين)(أحدهما) لا يجوز لأنه لا يحل أخذ مالهم لكونه معصوماً بالاسلام وإنما أبيح قتالهم لردهم الى الطاعة يبقى المال على العصمة كمال قاطع الطريق إلا أن تدعو ضرورة فيجوز كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة (والوجه الثاني) يجوز قياساً على أسلحة الكفار (مسألة)(وذكر القاضي أن أحمد أومأ الى جواز الانتفاع به حال الحرب) وهذا أحد الوجهين الذين ذكرناهما ولايجوز في غير قتالهم وهو قول أبي حنيفة لأن هذه الحال لا يجوز فيها اتلاف نفوسهم وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب، وقال الشافعي لا يجوز ذلك الامن ضرورة اليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه كغيره من أموالهم ومتى انقضت الحرب وجب رده اليهم كما ترد سائر أموالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) والله أعلم [مسألة](ولا يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريح) وجملة ذلك أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بالقاء السلاح أو بالهزيمة إلى فئة أو الى غير فئة وإما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فانه يحرم قتالهم واتباع مدبرهم وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة اذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وان كانت لهم فئة يلجأون اليها جاز قتل مدبرهم وأسرهم والاجازة على جريحهم، فأما إذا لم تكن لهم فئة لا يقتلون ولكن يضربون ضرباً وجيعاً

ص: 58

ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا توبة، ذكر هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو هذا واختاره بعض أصحاب الشافعي لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا وعادوا الى المحاربة ولنا ماروي عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل (لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا يفتح باب ومن أغلق بابا - أو بابه - فهو آمن ولا يتبع مدبر) وروي نحو ذلك عن عمار وعن علي انه ودى قوماً من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين.

وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا

يجيزون على جريح ولا يقتلون مولياً ولا يسلبون قتيلاً وروى القاضي في شرحه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا ابن أم عبد ماحكم من بغى على أمتي؟) فقلت الله ورسوله أعلم فقال (لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم) لأن المقصود دفعهم وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في ثاني الحال كما لو لم تكن لهم فئة، فعلى هذا إذا قتل إنساناً منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوماً لم يؤمر بقتله ويجب عليه القصاص في أحد الوجهين لأنه قتل مكافئاً معصوماً (والثاني) لا يجب لأن في قتلهم اختلافاً بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص لانه مما يندرئ بالشبهات، وأما أسيرهم فان دخل في الطاعة خلي سبيله (مسألة)(ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذرية) ولا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافاً لما ذكرنا من حديث أبي امامة وابن مسعود ولأنهم معصومون وإنما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما عداه يبقى على أصل التحريم وقد روي أن عليا يوم الجمل قال من عرف شيئاً من ماله مع أحد فليأخذه وكان بعض أصحاب

ص: 59

علي قد أخذ قدراً وهو يطبخ فيها فجاء صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى وكبه وأخذها وهذا من جملة مانقم الخوارج من علي فانهم قالوا انه قاتل ولم يسب ولم يغنم فان حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم وان حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم فقال لهم ابن عباس أفتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فان قلتم ليست أمكم كفرتم وان قلتم انها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم يعني بقوله انكم إن جحدتم أنها أمكم فقد قال الله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) فإن لم تكن أماً لكم لم تكونوا من المؤمنين، ولأن قتال البغاة انما هو كدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم الا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق ويبقى حكم المال والذرية على أصل العصمة وما أخذ من سلاحهم وكراعهم لم يرد اليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به

(مسألة)(ومن أسر من رجالهم حبس حتى تنقضي الحرب ثم يرسل) وجملة ذلك أن حكم من أسر منهم أنه يخلى سبيله إن دخل في الطاعة وان أبى ذلك وكان رجلا جلداً من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب خلي سبيله وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال (مسألة)(وإن أسر صبي أو امرأة فهل يفعل به ذلك أو يخلى سبيله في الحال؟ يحتمل وجهين)(احدهما) يخلى سبيلهم في الحال (والثاني) يحبسون لأن فيه كسر قلوب البغاة والأول أصح (فصل) فان أسر كل واحد من الفريقين أسارى من الفريق الآخر جاز فداء أسارى أهل العدل بأسارى البغاة فان قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم فان أبى أهل البغي مفاداة الأسرى الذين معهم وحبسوهم

ص: 60

احتمل أن لا يجوز لأهل العدل حبس من معهم ليتوصلوا الى تخليص أساراهم بحبس الأسارى الذين معهم واحتمل أن لا يجوز حبسهم ويطلقون لأن الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم مسألة (وإذا انقضى الحرب فمن وجد ماله في يد إنسان أخذه) لما ذكرنا من قول علي: من عرف شيئاً أخذه ولأنه مال معصوم بالاسلام فأشبه مال غير البغاة مسألة (ولا يضمن أهل العدل ما أتلفوه عليهم حال الحرب من نفس أو مال وهل يضمن البغاة ما أتلفوه على أهل العدل في الحرب؟ على روايتين) وجملة ذلك أنه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز ولا شئ على من قتلهم من إثم ولا ضمان ولا كفارة لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب من المال لا ضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى (فصل) وان قتل العادل كان شهيداً لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به بقوله سبحانه (فقاتلوا التي تبغي) وهل يغسل ويصلى عليه؟ فيه روايتان [إحداهما] لا يغسل ولا يصلى عليه لأنه شهيد معركة أمر بالقتال فيها فأشبه شهيد معركة الكفار [والأخرى] يغسل ويصلى عليه وهو قول الأوزاعي وابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله واستثنى قتيل الكفار في المركة ففيما عداه

يبقى على الأصل ولأن شهيد معركة الكفار اجره اعظم وفضله أكثر وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه لان الشئ إنما يقاس على مثله (فصل) وليس على أهل البغي أيضاً ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وعن أحمد رواية ثانية أنهم يضمنون وهو القول الثاني للشافعي

ص: 61

لقول أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة: تدون قتلانا ولاندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالذي تلف في غير حال الحرب ولنا ماروى الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على ان لايقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ولا يلزم مالاً اتلفه بتأويل القرآن.

ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما اتلفت على الأخرى كأهل العدل ولأن تضمينهم يفضي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب.

فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فان عمر قال له اما ان يدوا قتلانا فلا فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله على ما أمر الله فوافقه أبو بكر ورجع الى قوله فصار إجماعاً حجة ولم ينقل أنه غرم أحداً شيئاً من ذلك وقد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أرقم ثم أسلم فلم يغرم شيئاً ثم لو وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم مثله ههنا فإن أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ فكيف يصح إلحاقهم به؟ مسألة (ومن أتلف في غير حال الحرب شيئاً ضمنه سواء كان قبل الحرب أو بعده) وبهذا قال الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب أرسل اليهم علي أقيدونا من عبد الله بن حباب ولما قتل ابن ملجم علياً في غير المعركة قتل به وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل احداً من أهل العدل في غير المعركة؟ فيه وجهان [أحدهما] يتحتم لأنه قتل باشهار السلاح والسعي في الأرض بالفساد فأشبه قطاع الطريق [والثاني] لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه ان شئت اعفو وان شئت استقدت.

فاما الخواجر فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على واحد منهم ولاضمان عليه في ماله

ص: 62

(فصل) ومن قتل من أهل البغي غسل وصلي عليه وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي إن لم يكن لهم فئة صلي عليهم وان كانت لهم فئة لم يصل عليهم لأنه يجوز قتلهم في هذه الحالة فلم يصل عليهم كالكفار ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال لا إله إلا الله) رواه الخلال في جامعه ولأنهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى عليهم كما لو لم تكن لهم فئة.

وما ذكروه ينتقض بالزاني المحصن والمقتص منه والقاتل في المحاربة (فصل) ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا يصلى على الخوارج فانه قال أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وقال أحمد رضي الله عنه الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بأقل من هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقاتل خيبر ناحية من نواحيها فقاتل رجل من تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له فان كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها من يصلي عليه قال أنا لا أشهده يشهده من شاء وقال مالك: لا يصلى على الاباضية ولا القدرية وسائر أهل الاهواء ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم، والاباضية صنف من الخوارج نسبوا إلى عبد الله بن اباض صاحب مقالتهم والازارقة أصحاب نافع بن الأزرق والنجدات أصحاب نجدة الحروري والبيهسية أصحاب بيهس والصفرية قيل انهم نسبوا إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة

ص: 63

والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء خرجوا بها قال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على الرافضي لأنه يزعم أن عمر كافر ولا على الحروري لأنه يزعم أن علياً كافر، وقال الفريابي: من سب أبا بكر فهو كافر لا يصلى عليه، ووجه ترك الصلاة عليهم أنهم يكفرون أهل الاسلام ولا يرون الصلاة عليهم فلا يصلى عليهم كالكفار من أهل الذمة وغيرهم لأنهم مرقوا من الدين فأشبهوا المرتدين (فصل) والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين وانما هم مخطئون في تأويلهم والامام وأهل العدل مصيبون في قتالهم فهم جميعاً كالمجتهدين من الفقهاء في الاحكام من شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلاً وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافاً فأما الخوارج وأهل

البدع إذا خرجوا على الامام لم تقبل شهادتهم لأنهم فساق، وقال أبو حنيفة يفسقون بالبغي وخروجهم ولكن تقبل شهادتهم لأن فسقهم من جهة الدين فلا ترد به الشهادة والاختلاف في ذلك يذكر في كتاب الشهادة إن شاء الله تعالى (فصل) ذكر القاضي أنه لا يكره للعادل قتل ذوي رحمه الباغين لأنه قتل بحق أشبه إقامة الحد عليه وكرهت طائفة من أهل العلم القصد الى ذلك قال شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى

ص: 64

لقول الله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) وقال الشافعي كف النبي صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه وقال بعضهم لا يحل ذلك لأن الله تعالى أمر بمصاحبته بالمعروف وليس هذا من المعروف فان قتله فهل يرثه؟ على روايتين (إحداهما) يرثه اختارها أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة لأنه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل في الحد (والثانية) لا يرثه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (ليس لقاتل شئ) فأما الباغي إذا قتل العادل فلا يرثه وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة يرثه لأنه قتل بتأويل أشبه قتل العادل الباغي ولنا أنه قتله بغير حق فلم يرثه كالقتل خطأ، وفارق ما إذا قتله العادل لأنه قتله بحق وقال قوم إذا تعمد العادل قتل قريبه فقتله ابتداء لم يرثه وان قصد ضربه ليصير غير ممتنع فجرحه ومات من هذا الضرب ورثه ولأنه قتله بحق وهذا قول ابن المنذر وهو أقرب الاقاويل (مسألة)(وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة او خراج أو جزية لم يعد عليهم، ولا على صاحبه) إذا غلب أهل البغي على بلد فجبوا الخراج والزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه فإذا ظهر

ص: 65

أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغي لم يطالبوا بشئ مما جبوه ولم يرجع به على من أخذ منه وروي نحو هذا عن ابن عمر وسلمة بن الاكوع وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي سواء كان من الخوارج أو من غيرهم وقال أبو عبيد على من أخذوا منه الزكاة الاعادة لأن أخذها

ممن لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو أخذها آحاد الرعية ولنا أن علياً رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشئ مما جبوه وكان ابن عمر إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع اليه الزكاة وكذلك سلمة بن الاكوع ولأن في ترك الاحتساب بها ضرراً عظيماً ومشقة كبيرة فانهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فلو لم يحتسب بما أخذوه أدى إلى ثنا الصدقات في تلك المدة كلها (مسألة)(ومن ادعى دفع زكاته اليهم قبل بغير يمين) قال أحمد لا يستخلف الناس على صدقاتهم (مسألة)(وإن ادعى ذمي دفع جزيته اليهم لم يقبل الا ببينة) لأنهم غير مأمونين ولأن ما يجب عوض وليس بمواساة فلم يقبل قولهم فيه كأجرة الدار ويحتمل أن يقبل قولهم إذا مضى الحول لأن الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم فكان القول قولهم

ص: 66

لأن الظاهر معهم ولأنه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شق عليهم اقامة البينة على كل عام فيؤدي ذلك إلى تغريمهم الجزية مرتين (مسألة)(وإن ادعى دفع خراجه اليهم فهل يقبل بغير بينة؟ على وجهين)(أحدهما) يقبل لأنه حق على مسلم فقبل قوله فيه كالزكاة (والثاني) لا يقبل لأنه عوض فأشبه الجزية (مسألة)(وتجوز شهادتهم) لأنهم أخطئوا في فروع الاسلام باجتهادهم فأشبه المجتهدين من الفقهاء في الأحكام وإذا لم يكونوا من أهل البدع قبلت شهادتهم كأهل العدل وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا (مسألة)(ولا ينقض من حكم حاكمهم الا ما ينقض من حكم غيره) إذا نصب أهل البغي قاضياً يصلح للقضاء فهو كقاضي أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضي أهل العدل ويرد منه ما يرد فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز قضاؤه بحال لأن أهل البغي يفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء

ص: 67

ولنا أنه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق به كاختلاف الفقهاء إذا ثبت هذا فانه إذا حكم بما لا يخالف نصاً ولا إجماعاً نفذ حكمه وإن خالف ذلك نقض حكمه كقاضي أهل العدل، فان حكم بسقوط الضمان على أهل البغي فيما اتلفوه حال الحرب جاز حكمه لأنه موضع اجتهاد، وان كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لأنه مخالف للاجماع، وان حكم على أهل العدل بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للإجماع وإن حكم بوجوب ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه، وإن كتب قاضيهم الى قاضي أهل العدل جاز قبول كتابه لأنه قاض ثابت القضايا نافذ الاحكام، والأولى أنه لا يقبله كسراً لقلوبهم وقال أصحاب الرأي لا يجوز وقد سبق الكلام في هذا فأما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم يجز قضاؤه لأن أقل أحوالهم الفسق وهو يمنع القضاء ويحتمل أن يصح قضاؤه وتنفذ أحكامه لأن هذا مما يتطاول وفي القضاء بفساد قضاياه وعقوده الانكحة وغيرها ضرر كثير فجاز دفعاً للضرر كما لو أقام الحدود وأخذ الجزية والخراج والزكاة (فصل) وإذا ارتكب أهل البغي في حال امتناعهم ما يوجب الحد ثم قدر عليهم أقيمت فيهم حدود الله تعالى ولا تسقط باختلاف الدار، وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة: إذا امتنعوا بدار لم يجب الحد على أحد منهم ولا على من تاجر أو أسر لأنهم خارجون عن دار الامام فأشبهوا من دار الحرب ولنا عموم الآيات والأخبار ولأن كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها تجب الحدود فيه

ص: 68

عند وجود أسبابها كدار أهل العدل، ولأنه زان أو سارق ولا شبهة في زناه وسرقته فوجب عليه الحد كالذي في دار العدل، وهكذا القول فيمن أتى حدا في دار الحرب فانه يجب عليه لكن لا يقام الا في دار الإسلام على ما ذكرناه في موضعه (مسألة)(وإن استعانوا بأهل الذمة فأعانوهم انتقض عندهم إلا أن يدعوا أنهم ظنوا أنه تجب عليهم معونة من استعان بهم من المسلمين ونحو ذلك فلا ينتقض عهدهم)

اذا استعان البغاة بأهل الذمة في قتال أهل العدل وقاتلوا معهم فقد ذكر أبو بكر فيهم وجهين (أحدهما) ينتقض عهدهم لأنهم قاتلوا أهل الحق فانتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتالهم (والثاني) لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون المحق من المبطل فيكون ذلك شبهة لهم وللشافعي قولان كالوجهين فان قلنا ينتقض عدهم صاروا كأهل الحرب فيما نذكره وإن قلنا لا ينتقض عهدهم فحكمهم حكم أهل البغي في قتل مقبلهم والكف عن اسريهم ومدبرهم وجريحهم، وان أكرههم البغاة على معونتهم أو ادعوا ذلك قبل منهم لأنهم تحت ايديهم وقدرتهم، وكذلك إن قالو ظننا أن من استعان من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته لأن ما ادعوه محتمل فلا ينتقض عهدهم مع الشبهة (فصل) ويغرمون ما أتلفو من نفس ومال حال القتال وغيره بخلاف أهل البغي فانهم لا يضمنون

ص: 69

ما اتلفوا حال الحرب لأنهم اتلفوه بتأويل سائغ وهؤلاء لا تأويل لهم ولأن سقوط الضمان عن المسلمين كيلا يؤدي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة وأهل الذمة لا حاجة بنا الى ذلك فيهم (مسألة)(وإن استعانوا بأهل الحرب وآمنوهم لم يصح امانهم وابيح قتلهم) إذا استعان أهل البغي بالكفار لم يخل من ثلاثة أصناف (أحدها) أهل الذمة وقد ذكرنا حكمهم (الثاني) أهل الحرب فاذا استعانو بهم وآمنوهم وعقدوا لهم ذمة لم يصح واحد منهما لأن الأمان من شرط صحته التزام كفهم عن المسلمين وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح ولأهل العدل قتلهم كمن لم يؤمنوه سواء وحكم اسيرهم حكم اسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم فأما البغاة فلا يجوز لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم (الثالث) المستأمنون فمتى استعانوا بهم فأعانوهم نقضوا عهدهم وصاروا كأهل الحرب لأنهم تركوا الشرط وهو كفهم عن المسلمين، فان فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض أمانهم لان لهم عذر أو ان ادعو الاكراه لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل عدمه فإن ادعوا أنهم ظنوا أنه يجب عليهم معونة من

ص: 70

استعان بهم من المسلمين انتقض عهدهم ولم يكن ذلك عذراً لهم والفرق بينهم وبين أهل الذمة أن إن أهل الذمة أقوى حكماً لأن عهدهم مؤبد ولا يجوز نقضه بخوف الخيانة منهم ويلزم الامام الدفع

عنهم والمستأمنون بخلاف ذلك (مسألة)(وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم) مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يجتمعوا لحرب ولم يخرجوا عن قبضة الامام ولم يسفكوا الدم الحرام، فحكى القاضي عن أبي بكر أنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه روى ذلك عن عمر ابن عبد العزيز فعى هذا حكمهم في ضمان النفس والمسلمين (مسألة)(وان سبوا الامام عزرهم وكذلك إن سبوا غيره من أهل العدل) لأنهم ارتكبوا محرماً لا حد فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون؟ على وجهين، وقال مالك في الاباضية وسائر أهل البدع يستتابون فان تابوا وإلا ضربت أعناقهم قال اسماعيل بن إسحاق رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق فان تابوا وإلا

ص: 71

قتلوا على افسادهم لا على كفرهم، وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله انهم يستتابون فان تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أنكر عليه وقال انها قسمة ما أريد بها وجه الله لأبي بكر (اذهب فاقتله) ثم قال لعمر مثل ذلك فأمر بقتله قبل قتاله وهو الذي قال (يخرج من ضئضئ هذا قوم) يعني الخوارج وقول عمر لضبيع لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف يعني لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيماهم التسبيد يعني حلق رؤوسهم واحتج الاولون بفعل علي رضي الله عنه فروي عنه أنه كان يخطب يوماً فقال رجل بباب المسجد لاحكم إلا الله فقال علي كلمة حق اريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال، وروى أبويحيى قال صلى علي صلاة فناداه رجل (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فأجابه علي (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) وكتب علي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز أن الخوارج يسبونك فكتب اليه إن سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وإن شهروا السلاح فاشهروا وان ضربوا

فاضربوا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فلأن يتعرض لغيرهم أولى

ص: 72

وقد روي في خبر الخارجي الذي أنكر عليه ان خالداً قال يا رسول الله الا اضرب عنقه قال (لا لعله يصلي؟) قال رب مصل لا خير فيه قال (اني لم أومر أن انقب على قلوب الناس)(مسألة)(وان جنوا جناية أو أتوا حداً اقامه عليهم) لأن ابن ملجم جرح علياً فقال أطعموه واسقوه واحبسوه فان عشت فانا ولي دمي اعفوا ان شئت وإن شئت استقدت وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به (مسألة)(وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان وتضمن كل واحدة منهما ما اتلفت على الأخرى) لأنها اتلفت نفسها معصومة أو مالاً معصوماً هذا إذا لم تكن واحدة منهما في طاعة الامام فإن كانت احداهما في طاعة الامام تقاتل بأمره فهي محقة وحكم الاخرى حكم من يقاتل الامام لأنهم يقاتلون من أذن له الامام في قتالهم فاشبه المقاتل لجيش الامام فيكون حكمهم حكم البغاة

ص: 73

باب حكم المرتد المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه قال الله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين روى ذلك عن ابي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام ومعاذ وأبي موسى وإبن عباس وخالد رضي الله عنهم وغيرهم فلم ينكر فكان إجماعا (مسألة)(فمن أشرك بالله تعالى أو جحد ربوبيته أو وحد وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ صاحبة أو ولداً أو جحد نبياً أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه أو سب الله سبحانه وتعالى أو رسوله كفر) وجملة ذلك أن المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر فمن أقر بالاسلام ثم أنكره وأنكر الشهادتين او إحداهما كفر بغير خلاف

(مسألة)(فإن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئاً منها أو أحل الزنا أو الخمر أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها لجهل عرف ذلك فإن كان ممن لا يجهل ذلك كفر) وجملة ذلك أنه قد مضى شرح حكم وجوب الصلاة وغيرها من العبادات الخمس في كتاب

ص: 74

الصلاة ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك فإن كان ممن لايعرف الوجوب كحديث الاسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الامصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك وثبتت له أدلة وجوبها فان جحدها بعد ذلك كفر وأما ذا كان الجاحد ناشئاً بين المسلمين في الامصار بين أهل العلم فان يكفر بمجرد جحدها وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها وهي الزكاة والصيام والحج لأنها مباني الاسلام وأدلة وجوبها لاتكاد تخفى إذا كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها والاجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للاسلام ممتنع من التزام الاحكام غير قابل لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وإجماع الأمة وكذلك من اعتقد حل شئ أجمع المسلمون على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا الخمر واشباه هذه مما لا خلاف فيه كفر إذا كان قد نشأ بين المسلمين وهو ممن لا يجهل مثله ذلك وقد ذكرناه في تارك الصلاة (فصل) ومن سب الله تعالى أو رسوله كفر سواء كان جاداً أو مازحاً وكذلك من استهزأ بالله سبحانه وتعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه لقوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوص ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) وينبغي أن لا يكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الاسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك لأنه إذا لم يكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة فهذا أولى

ص: 75

(فصل) فان استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر لما ذكرنا وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن كثيراً من العلماء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين

وأموالهم وفعلهم ذلك متقربين إلى الله تعالى وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه ولا يكفر الماذح له على ذلك أيضاً المتمني مثل فعله وهو عمران بن حطان قال بمدحه لقتل علي يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ عند الله رضوانا اني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب إلى ربهم بقتلهم ومع هذا لم يحكم أكثر الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا فقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلاً فأقام عمر عليه الحد ولم يكفره وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة شربوا الخمر بالشام مستحلين لها مستدلين بقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فلم يكفروا وعرفوا تحريهما فتابوا وأقيم عليهم حدها فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل بشئ يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك، وقد

ص: 76

قال أحمد من قال الخمر حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب والاضربت عنقه وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا، فأما إن أكل لحم الخنزير أو ميتة أو شرب خمراً لم يحكم بردته بمجرد ذلك سواء فعله في دار الحرب أو دار الاسلام لأنه يجوز أن يكون فعله معتقداً تحريمه كما يفعل غير ذلك من المحرمات (فصل) والإسلام شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت فمن أقر بهذا فهو مسلم وتجري عليه أحكام الاسلام ومن أنكر هذا أو شيئاً منه كفر لأن الإقرار بالجميع واجب بالاتفاق ولا يكون مسلماً إلا بذلك فمن أنكر ذلك لم يكن مسلماً ومن أنكر البعض كان كمن أنكر الجميع لأنه اذا أنكر البعض كان البعض الآخر كالمعدوم والدليل على ذلك أن من ترك ركناً من أركان الصلاة عامداً بطلت وكان وجود باقي الاركان كالمعدوم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته (ارجع فصل فانك لم تصل) فجعل وجود صلاته

كعدمها حيث ترك بعض أركانها وقال تعالى (كذبت قوم نوح المرسلين) وإنما كذبوا نوحا وحده فكان تكذيبهم إياه كتكذيبهم جميع المرسلين، وعلى هذا لو جحد حكماً من أحكام الاسلام مجمعاً عليه كان كمن جحده جميعه

ص: 77

(مسألة)(ومن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً لم يكفر وعنه يكفر) وقد ذكرنا توجيه الروايتين في باب من ترك الصلاة فأما الحج فلا يكفر بتأخيره بحال لان في وجوبه على الفور خلافاً بين العلماء على ما ذكر في موضعه (مسألة)(ومن ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء وهو بالغ عاقل دعي اليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يتب قتل) الكلام في هذه المسألة في خمسة فصول: (أحدها) أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل، وروي ذلك عن ابي بكر وعمر رضي الله عنهما وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث والشافعي واسحاق وروي عن علي والحسن وقتادة أنها تسترق ولا تقتل لأن أبا بكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى علياً امرأة منهم فولدت له محمد بن الحنفية وهذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان اجماعا وقال أبو حنيفة تجبر على الاسلام بالحبس والضرب ولا تقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا امرأة) ولأنها لا تقتل بالكفر الاصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري وأبو داود، وقال عليه الصلاة والسلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه

ص: 78

وروى الدارقطني ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل وأما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة فالمراد به الاصلية قال ذلك حين رأى امرة مقتولة وكانت كافرة

أصلية وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيقق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الاصلي الطارئ بدليل أن الرجل يقر عليه ولا يقتل الشيوخ ولا المكافيف ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الاصلي بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وإنما أسلم بعضهم والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالاً فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي (الفصل الثاني) إن الردة لا تصح إلا من عاقل فأما الطفل الذي لا يعقل والمجنون ومن زال عقله بنوم أو إغماء أو شرب دواء مباح شربه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير خلاف، قال ابن لمنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ان المجنون إذا ارتد في حال جنونه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمداً كان عليه القود اذا طلب أولياؤه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) أخرجه

ص: 79

أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو يؤاخذ به في اقراره ولا طلاقه ولا عتاقه.

وأما السكران والصبي العاقل فيذكر حكمهما فيما بعد إن شاء الله تعالى (الصفل الثالث) أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعصاء والنخعي ومالك والثوري والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي وهذا أحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى لا تجب استتابته قيل تستحب وهو القول الثاني للشافعي وبه قال عبيد بن عمير وطاوس ويروى عن الحسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر استتابته وروي أن معاذاً قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلا موثقاً فقال ما هذا؟ قال رجل كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود فقال لا أجلسن حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل.

متفق عليه ولم يذكر استتابته، ولأنه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن، وقال عطاء إن كان مسلماً أصلياً لم يستتب،

وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب ولنا حديث أم مروان فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر هل كان من معربة خيبر؟ قال نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال ما فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا

ص: 80

عنقه فقال عمر فهلا حبستموه ثلاثاً فأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم ولأنه أمكن ستصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس، وأما الأمر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل ما ذكرناه، وأما حديث معاذ فإنه قد جاء فيه وكان قد استتيب، ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ عليه وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو قريباً من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى فضربت عنقه رواهن أبو داود، ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روى ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال مالك واسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ان تاب والاقتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن المنذر لحديث أم مروان لأنه مصر على كفره اشبه بعد الثلاث، وقال الزهري يدعى ثلاث مرات فان أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي، وقال النخعي يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أنه لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع وعن علي أنه استتاب رجلاً شهراً ولنا حديث علي ولأن الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب أن ينظر مدة؟ رتئي، فيها وأولى كل ذلك ثلاثة أيام للاثر فيها وانها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة

ص: 81

لاستتابة ويحبس لقول عمر: هلا حبستموه وأطعمتوه كل يوم رغيفاً؟ وتتكرر دعايته لعله ينعطف قلبه فيراجع دينه.

(الفصل الرابع) إن لم يتب قتل لما تقدم ذكره وهو قول عامة الفقهاء (مسألة)(ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل ولا يحرق بالنار)

وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم خالد والأولى أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله) يعني النار أخرجه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة)(الفصل الخامس) أن مفهوم كلام المصنف في هذه المسألة إذا تاب قبلت توبته وسنذكره إن شاء الله تعالى (مسألة)(ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه حراً كان المرتد أو عبداً) وهذا قول عامة أهل العلم إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد أن لسيده قتله، وعن أحمد رحمه الله أن له قتله في الردة وقطعه في السرقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) ولأن حفصة قتلت جارية سحرتها وابن عمر قطع عبداً سرق ولأنه حد لله تعالى فملك السيد إقامته كحد الزاني.

ولنا أنه قتل لحق الله تعالى فكان إلى الامام كقتل الحر، فأما قوله (أقيموا الحدود على ما

ص: 82

ملكت أيمانكم) فلا يتناول القتل في الردة فانه قتل لكفره لا حدا في حقه، وأما خبر حفصة فان عثمان تغيظ عليها وشق عليه، فأما الجلد في الزنا فانه تأديب عبده بخلاف القتل وقد ذكرنا ذلك في الحدود (مسألة)(فان قتله غيره بغير إذنه أساء وعزر لاساءته وافتياته على الامام ولاضمان عليه) لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك (مسألة)(وإن عقل الصبي الاسلام صح اسلامه وردته وعنه يصح اسلامه دون ردته وعنه لا يصح منهما شئ حتى يبلغ) والمذهب الأول يصح إسلام الصبي في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة واسحاق وابن ابي شيبة وابو أيوب، وقال الشافعي وزفر لا يصح اسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) حديث حسن ولأنه قول تثبت به الاحكام فلم يصح من الصبي كالهبة والعتق ولأنه أحد من رفع عنه القلم فلم يصح إسلامه كالنائم والمجنون ولأنه غير مكلف أشبه الطفل ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وقوله (أمرت أن

أقاتل الناس حق يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وقال عليه الصلاة والسلام (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفورا) وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي ولأن الاسلام عبادة محضة فصحت

ص: 83

من الصبي العاقل كالصلاة والحج، ولأن الله تعالى دعا عباده الى دار السلام وجعل طريقها الاسلام وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الاليم، فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله تعالى مع إجابته اليها وسلوكه طريقها ولا الزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار وسد طريق النجاة عليه مع هربه منها ولأن ما ذكرناه إجماع فان علياً رضي الله عنه أسلم صبياً وقال سبقتكم إلى الاسلام طرا صبيا ما بغلت اوان حلمي ولهذا قيل: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن العبيد بلال، وقال عروة أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير لسبع او ثمان سنين ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد اسلامه من صغير أو كبير، فأما قوله عليه السلام (رفع القلم عن ثلاثة) فلا حجة لهم فيه فانه يقتضي أن لا يكتب عليه ذنب والاسلام يكتب له لا عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وإن لم تجب عليه وكذلك غيرها من العبادات المحضة، فان قيل فالاسلام يوجب عليه الزكاة في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه ميراث قريبه الكفار ويفسخ نكاحه، قلنا أما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء وتحصين المال والثواب، وأما الميراث والنفقة فأمر متوهم وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم هذا الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء الدارين والخلود في الجحيم منزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن فوت ما يأكله وكلفة تحريك فيه لما كان بقاؤه لم يعد ضررا والضرر في مسئلتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من ذلك بكثير

ص: 84

(فصل) واشترط الخرقي لصحة إسلامه: أن يكون له عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه

على الصلاة لعشر، وأن يكون ممن يعقل الاسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فان الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد الإسلام وإنما كلامه لقلقة بلسانه لا يدل على شئ، فأما اشتراط العشر فان أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حداً من السنين، وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى حصل لم يحتج إلى زيادة عليه، وروى عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فاسلامه إسلام وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مروهم بالصلاة لسبع) فدل على أن ذلك حد لامرهم وصحة عبادتهم فيكون حداً لصحة إسلامهم، وقال ابن أبي شيبة إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل إسلامه إسلاماً ولعله يقول أن علياً عليه السلام أسلم وهو ابن خمس لأنه قد قيل انه قد مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة فعلى هذا يكون اسلامه وهو ابن خمس لأن مدة النبي منذ بعث إلى أن مات ثلاث وعشرون سنة وعاش علي بعده ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون فاذا ضممنا اليها خمساً كانت ثمانياً وخمسين وقال أبو أيوب أجيز اسلام ابن ثلاث سنين من أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه وهذا لا يكاد يعقل الاسلام ولا يدري ما يقول ولا يثبت لقوله حكم فان وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الاسلام وعقله إياه صح منه كغيره (مسألة)(وإن أسلم ثم قال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الاسلام) متى حكمنا بصحة إسلام الصبي لمعرفتنا بفعله بأدلته فرجع وقال لم أدر ما قلت لم يقبل قوله ولم يبطل إسلامه الاول، وروى عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام

ص: 85

قال أبو بكر هذا قول محتمل لأن الصبي في مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقاً قال والعمل على الأول لأنه قد ثبت عقله للاسلام ومعرفته به بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله، ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله وتصرفاته، وعرفنا جنون المجنون وعقل العاقل بما يصدر عنه من أقواله وأفعاله وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد دعواه وهكذا كل من تلفظ بالاسلام أو اخبر عن نفسه ثم أنكر معرفته بما قال لم يقبل إنكاره وكان مرتدا نص عليه أحمد في مواضع، فعلى هذا إذا ارتد صحت ردته وأجبر على الاسلام وهو قول

أبي حنيفة والظاهر من مذهب مالك، وعند الشافعي لا يصح اسلامه ولا ردته وقد روي أنه يصح اسلامه ولا تصح ردته لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) وهذا يقتضي أنه لا يكتب عليه ذنب ولا شئ ولو صحت ردته لكتبت، وأما الاسلام فلا يكتب عليه إنما يكتب له ولأن الردة أمر يوجب القتل فلم يثبت حكمه في حق الصبي كالزنا، ولان الاسلام إنما صح منه لانه تمحض مصلحة فأشبه الوصية والتدبير، والردة تمحضت مضرة ومفسدة فلم يلزم صحتها، منه فعلى هذا حكمه حكم من لم يرتد فاذا بلغ فان أصر على الكفر كان مرتداً حينئذ (مسألة)(ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز ثلاثة أيام من وقت بلوغه فان ثبت على كفره قتل) وجملة ذلك أن الصبي لا يقتل إذا ارتد سواء قلنا بصحة ردته أو لا لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة

ص: 86

بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة وسائر الحدود ولا يقتل قصاصا فاذا بلغ وثبت على ردته ثبت حكم الردة حينئذ فيستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل سواء قلنا انه كان مرتداً قبل بلوغه أو لم نقل وسواء كان مسلماً أصلياً فارتد أو كان كافراً فأسلم صبياً ثم ارتد [مسألة](ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يصحو ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته فإن مات في سكره مات كافراً وعنه لا تصح ردته) اختلفت الرواية عن احمد في ردة السكران فروي عنه أنها تصح قال أبو الخطاب وهو أظهر الروايتين عنه وهو مذهب الشافعي وعنه لا تصح ردته وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يعلق بالاعتقاد والقصد والسكران لا يصح عقده فأشبه المعتوه ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم والمجنون ولأنه غير مكلف فاشبه المجنون.

ووجه الرواية الأولى أن الصحابة قالوا في السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري وأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره وأقاموا مظنتها (مظلتها) مقامها ولأنه يقع طلاقه فصحت ردته كالصاحي، وقولهم ليس بمكلف ممنوع فان الصلاة واجبة عليه وكذلك سائر أركان الإسلام، ويأثم بفعل المحرمات وهذا معنى التكليف، ولأن السكران لا يزول عقله بالكلية ولهذا يتقي

المحذورات ويفرح بما يسره ويساء بما يضره ويزول سكره عن قريب من الزمان فأشبه الناعس بخلاف المجنون، وأما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه فيكمل عقله ويفهم ما يقال له وتزول شبهته إن كان قد قال الكفر معتقداً له كما تؤخر استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه ويؤخر الصبي

ص: 87

إلى حين بلوغه وكمال عقله ولأن القتل جعل للزجر ولا يحصل في حال سكره وإن قتله قاتل في حال سكره لم يضمنه لأن عصمته زالت بردته وإن مات أو قتل لم يرثه ورثته، ولا يقتل حتى يتم له ثلاثة أيام من وقت ردته فان استمر سكره أكثر من ثلاث لم يقتل حتى يصحو ثم يستتاب عقيب صحوه فإن تاب وإلا قتل في الحال (فصل) فان أسلم في سكره صح إسلامه كما صحت ردته ثم يسئل بعد صحوه فان ثبت على إسلامه فهو مسلم من حين أسلم لأن إسلامه صح وإنما يسئل استظهاراً فان مات بعد إسلامه في سكره مات مسلماً ويصح إسلامه في سكره سواء كان أصلياً أو مرتداً لأنه إذا صحت ردته مع أنها محض مضرة وقول باطل فلأن يصح إسلامه الذي هو محض مصلحة أولى، ويتخرج أن لا يصح فان من لا تصح ردته لا يصح اسلامه كالمجنون (فصل) ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له فان ارتد في صحته ثم جن لم يقتل في حال جنونه لأنه يقتل بالاصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالاصرار ولا يمكن استتابته، ولو وجب عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وههنا يسقط برجوعه ولأن القصاص إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له فنظير مسئلتنا أن يجن المستحق للقصاص فانه لا يستوفى في حال جنونه.

ص: 88

(مسألة)(وهل تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته أو من سب الله تعالى أو رسوله أو الساحر؟ على روايتين: (إحداهما) لاتقبل توبته ويقتل بكل حال والأخرى تقبل توبته كغيره) مفهوم كلام الشيخ رحمه الله أن المرتد إذا تاب تقبل توبته ولم يقتل أي كافر كان وهو ظاهر كلام الخرقي سواء كان زنديقاً أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي والعنبري ويروى ذلك عن علي وابن

مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال انه أولى على مذهب أبي عبد الله (والرواية الأخرى) لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك والليث واسحاق وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين واختيار أبي بكر أنها لا تقبل لقول الله تعالى (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) والزنديق لا يظهر منه ما يبين به رجوعه وتوبته لأنه كان مظهراً للاسلام مسراً للكفر فاذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الاسلام وأما من تكررت ردته فقد قال الله تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فاذا هم يقرءون برجز مسيلمة فرجع الى ابن مسعود فذكر ذلك له فبعث اليهم فاتي بهم فاستتابهم

ص: 89

فتابوا فخلى سبيلهم إلا رجلا منهم يقال له ابن النواحة قال اتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وروى أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدر ماساره به فاذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اليس يشهد ان لا إله إلا الله؟) قال بلى ولا شهادة له قال (أليس يصلي؟) قال بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم) وقد قال الله تعالى (ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا) وروي أن محش بن حمير كان في النفر الذين أنزل فيهم (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وتاب الى إلى الله تعالى فقبل توبته وهو الطائفة التي عفا الله عنها بقوله سبحانه (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) وروي أنه سأل الله تعالى أن يقتل شهيداً في سبيله ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين بما أظهروا من الشهادة مع اخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى (يحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون) وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع اسرارهم بكفرهم فأما قتل ابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين أنه ما زال عما كان عليه من كفره ويحتمل انه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم له حين جاء رسولا لمسيلمة (لولا أن

الرسل لا تقتل لقتلتك) تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي انه قتله لذلك (فصل) فأما من سب الله سبحانه وتعالى ورسوله فروى القاضي عن أحمد أنه قال لا توبة لمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أن توبته مقبولة لقول الله تعالى (قل للذين

ص: 90

كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولحديث محش ابن حمير ولأن من زعم أن لله ولداً فقد سب الله تعالى بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم إخباراً عن ربه تعالى أنه قال (شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فزعم أن لي ولداً) وتوبته مقبولة بغير خلاف وإذا قبلت توبة من سب الله تعالى فمن سب نبيه صلى الله عليه وسلم أولى أن تقبل توبته (فصل) وهل تقبل توبة الساحر؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم فانه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحراً وفي الحديث الذي رواه هشام عن عروة عن عائشة أن امرأة جاءتها فقالت يا أم المؤمنين ان عجوز اذهبت بي الى هاروت وماروت فقلت علماني السحر فقالا اتقي الله ولا تكفري فانك على رأس أمرك فقلت علماني السحر فقالا اذهبي الى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت فرأيت كأن فارساً مقنعاً في الحديد خرج مني حتى طار فغاب في السماء فرجعت اليهما فأخبرتهما فقالا: ذلك إيمانك وذكرت باقي القصة إلى أن قالت والله يا أمير المؤمنين ما صنعت شيئاً غير هذا ولا أصنعه أبداً فهل لي من توبة؟ قالت عائشة رأيتها تبكي بكاء شديداً فكانت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون تسألهم هل لها من توبة؟ فما أفتاها أحد إلا ابن عباس قال إن كان أحد من أبويك حياً فبريه وأكثري من عمل البر ما استطعت ولأن السحر معنى في قلبه لا يزول بالتوبة فيشبه من لم يتب (والرواية الثانية) يستتاب فإن تاب قبلت توبته فإن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم من أوليائه في ساعة ولأن الساحر لو كان كافراً فأسلم صح إسلامه وتوبته فإذا صحت التوبة منهما صحت من أحدهما كالكفر ولانه الكفر والقتل ما هو إلا بعمله بالسحر بدليل الساحر إذا أسلم والعمل به تمكن التوبة منه وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده تمكن التوبة منه كالشرك

ص: 91

(فصل) والخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم إنما هو في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الاسلام في حقهم فأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفران ذنوبهم لمن تاب وأقلع ظاهراً وباطناً فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما)[مسألة](وتوبة المرتد إسلامه وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا أن تكون ردته بانكار فرض أو احلال محرم أو جحد نبي أو كتاب أو إلى دين من يعتقد أن محمداً بعث الى العرب خاصة فلا يصح إسلامه حتى يقر بما جحده ويشهد أن محمداً بعث الى العالمين أو يقول انا برئ من كل دين يخالف الاسلام) من ثبتت ردته باقرار أو بينة فتوبته أن يشهد أن لا إله إلا الله ولا يكشف عن صحة ما شهد به عليه ويخلى سبيله ولا يكلف الاقرار لما نسب اليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله) متفق عليه.

ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذلك إسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت إسلامه إلى الكشف عن صحة ردته وهذا يكفي فيمن كانت ردته بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو جحدهما معاً، فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل اسلامه إلا بالاقرار بما جحده فمن أقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنكر أنه مبعوث إلى العالمين فلا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمداً رسول الله

ص: 92

بعث إلى الخلق أجمعين أو تبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الاسلام، فإن زعم أن محمداً رسول مبعوث بعد غير هذا لزمه الاقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل انه أراد ما اعتقدوه وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده وكذلك إن جحد نبياً أو آية من كتاب الله تعالى أو كتاباً من كتبه أو ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله أو استباح محرماً فلابد في إسلامه من الإقرار بما

جحده، وأما الكافر بجحد الدين من أصله اذا شهد أن محمداً رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان (إحداهما) يحكم باسلامه لأنه روي أن يهودياً قال أشهد أن محمداً رسول الله ثم مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على صاحبكم) ولأنه يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده (والثانية) إن كان مقراً بالتوحيد كاليهود حكم باسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد ضم إليه الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكمل إسلامه وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس وعبدة الأوثان لم يحكم باسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من يجحد شيئين لا يزول جحدهما إلا باقراره بهما جميعاً وإن قال أشهد أن النبي رسول الله لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أنه يريد غير نبينا.

وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي يحكم باسلامه

ص: 93