المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة] (وإذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام صار بذلك مرتدا ويجبر على الاسلام) - الشرح الكبير على المقنع - ط المنار - جـ ١٠

[ابن أبي عمر]

الفصل: ‌[مسألة] (وإذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام صار بذلك مرتدا ويجبر على الاسلام)

بهذا وإن لم يأت بلفظ الشهادتين لانهما اسمان لشئ معلوم معروف وهو الشهادتان فاذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبراً بهما وروى المقداد أنه قال يارسول الله: إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها؟ قال (لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها) وعن عمر إن ابن حصين قال: أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) رواهما مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الاصلي أو من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحو هذا فانه لا يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد أن الاسلام ما هو عليه فان أهل البدع يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر ‌

[مسألة](وإذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام صار بذلك مرتداً ويجبر على الاسلام)

نص عليه أحمد في رواية جماعة ونقل عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام لأنه يحتمل الصدق فلا يراق دمه بالشهادة والأول أولى لأنه قد حكم بإسلامه فلم يقبل إذا رجع كما لو طالت مدته

[مسألة](واذا مات المرتد فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد الردة حكم باسلامه)

ص: 94

متى صلى الكافر حكم بإسلامه أصلياً كان أو مرتداً جماعة أو فرادى في دار الحرب أو في دار الإسلام، وقال الشافعي يحكم باسلامه إذا صلى في دار الحرب ولا نحكم باسلامه في دار الإسلام لأنه يحتمل أنه صلى رياء وتقية.

ولنا أن ما كان اسلاماً في دار الحرب كان اسلاما في دار الإسلام كالشهادتين واحتمال التقية والرياء يبطل بالشهادتين وأما سائر أركان الإسلام من الزكاة والصيام والحج فلا يحكم باسلامه به فان المشركين كانوا يحجون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى منعهم فقال (لا يحج بعد العام مشرك) والزكاة صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلا ما يؤخذ من المسلمين فلم يصيروا بذلك مسلمين وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولأن الصيام ليس بفعل إنما هو امساك عن أفعال مخصوصة وقد يتفق هذا من الكافر كاتفاقه من المسلم ولا عبرة بالنية فإنها أمر باطن لا علم به بخلاف الصلاة فإنها أفعال تتميز عن أفعال الكفار ويختص بها أهل الاسلام ولا يثبت بها الاسلام حتى يأتي بصلاة يتميز بها عن صلاة الكفار من استقبال قبلتنا والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم إذا ثبت هذا فإنه متى مات المرتد فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث إلا أن يثبت أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة

ص: 95

أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من البدع التي ينسب أهلها إلى الاسلام فانه لا يحكم باسلامه بصلاته لأنه يعتقد وجوب الصلاة ويعتقدها مع كفره فأشبه فعله غيرها [مسألة](ولا يبطل إحصان المسلم بردته ولا عباداته التي فعلها في إسلامه إذا عاد إلى الإسلام) يعني إذا كان محصناً فارتد ثم أسلم لم يصر غير محصن بل متى زنا رجم لأنه يثبت له حكم الإحصان والأصل بقاء ما كان على ما كان ولا تبطل عباداته التي فعلها في إسلامه إذا عاد إلى الإسلام لأنه فعلها على وجهها وبرئت ذمته منها فلم تعد الى ذمته كديون الآدميين وإن كان قد حج حجة

الإسلام قبل ردته لم يجب عليه إعادتها إذا عاد إلى الإسلام لما ذكرنا [فصل] قال الشيخ رحمه الله (ومن ارتد لم يزل ملكه بل يكون موقوفاً وتصرفاته موقوفة فان أسلم ثبت ملكه وتصرفاته وإلا بطلت) لا يحكم بزوال ملك المرتد بردته في قول أكثر أهل العلم فعلى هذا إن قتل أو مات زال ملكه بموته وإن راجع الإسلام فملكه باق له فعلى هذا تصرفاته في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوفة إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحاً فان قتل أو مات كان باطلاً وقال مالك يزول ملكه بردته فان راجع الاسلام رد اليه تمليكا مستأنفا لأن عصمة نفسه وماله إنما تثبت

ص: 96

باسلامه فزوال اسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته فوجب أن يملكوا أمواله بها وقال أصحاب أبي حنيفة ماله موقوف إن أسلم تبينا بقاء ملكه وإن مات أو قتل تبينا زواله من حين ردته، وقال الشريف أبو جعفر: هذا ظاهر كلام أحمد وعن الشافعي الاقول ا؟ (الأقوال) الثلاثة ولنا ان الردة سبب يبيح دمه كزنا المحصن، وقتل من يكافئه عمداً لا يلزم منه زوال الملك بدليل الزاني المحصن والقاتل في المحاربة فان ملكهم ثابت مع عدم عصمتهم، ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه لكن يباح لكل احد قتله بغير استتابة وأخذ ماله لمن قدر عليه لأنه صار حربياً حكمه حكم أهل الحرب، ولو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة الامام زالت عصمتهم في أنفسهم وأموالهم لأن الكفار الاصليين لا عصمة لهم في دارهم فالمرتدون أولى (فصل) فأما على قول أبي بكر فتصرف المرتد باطل لانه ملكه قد زال بردته وهذ أحد أقوال الشافعي وعن الشافعي قول آخر إنه ان تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الاقوال الثلاثة وان تصرف بعد الحجر عليه لم يصح تصرفه كالسفيه ولنا ان ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفا كتبرع المريض

ص: 97

(فصل) وان تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح وما منع الاقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة وان زوج موليته لم يصح لأن ولايته على موليته قد زالت بردته وكذلك ان زوج امته لأن النكاح لا يكون موقوفاً ولأن النكاح وإن كان في الامة فلابد في عقده من ولاية صحيحة بدليل أن المرأة لا يجوز أن تزوج امتها وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له فانه أدنى حالا من الفاسق الكافر (فصل) ويوخذ مال المرتد فيترك عند ثقة من المسلمين فإن كان له اماء جعلن عند امرأة ثقة لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن، وذكر القاضي أنه يؤجر عقاره وعبيده واماءه، قال شيخنا والأولى أن لا يفعل ذلك لأن مدة انتظاره قريبة ليس في انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه من أجلها فانه ربما راجع الاسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله باجارة الحاكم له، وان لحق بدار الحرب أو تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم له ما يرى الحظ فيه من بيع الحيوان الذي يحتاج الى النفقة وغيره واجارة ما يرى ابقاءه والمكاتب يؤدي إلى الحاكم ويعتق بالاداء لأنه نائب عنه (مسألة)(ويقضي ديونه واروش جناياته وينفق على من تلزمه مؤنته) يعني إذا مات أو قتل فانه يبدأ بقضاء ديونه وارش جنايته ونفقة زوجته واقاربه الذين تلزمه مؤنتهم لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها وأولى ما يؤخذ من ماله في الصحيح من المذهب وعنه

ص: 98

انه لورثته من المسلمين وعنه انه لورثته من أهل الدين الذي انتقل اليه وقد ذكرنا ذلك في الفرائض (فصل) واذا وجد من المرتد سبب يقتضي الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب والشراء وايجار نفسه اجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له لأنه أهل للملك ولذلك بقيت أملاكه الثابتة له ومن قال ان ملكه يزول لم يثبت له ملكا لأنه ليس بأهل للملك ولهذا زالت املاكه الثابتة، فان اسلم احتمل أن لا يثبت له شئ أيضاً لأن السبب لم يثبت حكمه واحتمل ان يثبت الملك له حينئذ لأن السبب موجود وإنما امتنع ثبوت حكمه لعدم أهليته فاذا وجدت تحقق الشرط فيثبت الملك حينئذ كما تعود اليه املاكه التي زالت عنه عند عود أهليته، فعلى هذا إن مات أو قتل انتقل الملك الى من ينتقل اليه ماله لأن هذا في معناه

(فصل) وان لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه حكم من هو في دار الإسلام الا أن ما كان معه من ماله يصير مباحاً لمن قدر عليه كما أبيح دمه، واما املاكه وماله الذي في دار الإسلام فملكه ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه وقال أبو حنيفة يورث ماله كما لو مات لأنه قد صار في حكم الموتى بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه ولنا أنه حي فلم يورث كالحربي الأصلي وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصلي وانما حل ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فأشبه مال الحربي الذي في دار الحرب وأما الذي في دار الإسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار الإسلام أو عند مودعه (مسألة) (وما أتلف من شئ ضمنه ويتخرج في الجماعة الممتنعة أن لا يضمن ما اتلفه

ص: 99

اذا ارتد قوم فأتلفوا مالا للمسلمين لزم ضمان ما أتلفوه سواء تحيزوا وصاروا في منعة أو لم يصيروا ذكره أبو بكر قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي حكمهم حكم أهل البغي فيما اتلفوه من الأنفس والأموال لأن تضمينهم يؤدي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الاسلام فأشبهوا أهل البغي ولنا ما روى عن أبي بكر رضي الله عنه انه قال لأهل الردة حين رجعوا تردون علينا ما أخذتم منا ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم وان تدوا قتلانا ولا ندي قتلاكم قالوا نعم يا خليفة رسول الله قال عمر كل ما قلت كما قلت الا أن يدوا ما قتل منافلا لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا، ولأنهم اتلفوه بغير تأويل فأشبهوا هل الذمة، فاما القتلى فحكمهم حكم أهل البغي لما ذكرنا من خبر أبي بكر وعمر ولأن طليحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن وثابت بن أرقم الاسديين فلم يغر مهما وبنو حنيفة قتلوا من قتلوا من المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئاً، ويحتمل أن يحمل قول أحمد وكلامه في المال على وجوب رد ما هو في أيديهم دون ما أتلفوه وعلى من اتلف من غير أن تكون له منعة او اتلف في غير الحرب وما أتلفوه حال الحرب فلا ضمان عليهم فيه لأنه إذا سقط ذلك عن اهل البغي كيلا يؤدي الى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلأن يسقط ذلك كيلا يؤي الى التنفير عن الاسلام أولى لأنهم اذا امتنعوا صاروا كفاراً ممتنعين بدارهم فأشبهوا أهل الحرب ويحمل قول أبي بكر على ما بقي في أيديهم من المال

فيكون مذهب أحمد ومذهب الشافعي في هذا سواء وهذا أعدل وأصح إن شاء الله تعالى، فأما من لا منعة له

ص: 100

فيضمن ما اتلف من نفس ومال كالواحد من المسلمين أو اهل الذمة لأنه لا منعة له ولا يكثر ذلك منه فبقي المال والنفس بالنسبة اليه على عصمته ووجوب ضمانه والله أعلم (مسألة)(واذا أسلم فهل يلزمه قضاء ما ترك من العبادات؟ على روايتين)(إحداهما) عليه القضاء لأنها عبادة واجبة التزم بوجوبها واعترف به في زمن إسلامه فلزم قضاؤها عند فواتها كغير المرتد (والثانية) لا يلزمه قضاؤها لقول الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولأنه كافر أسلم فلم يلزمه قضاء العبادات التي كانت في كفره كالحربي ولأن أبا بكر لم يأمر المرتدين حين أسلموا بقضاء ما فاتهم (مسألة)(وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق أولادهما الذين ولدوا في الاسلام ومن لم يسلم منهم قتل ويجوز استرقاق من ولد بعد الردة وهل يقرون على كفرهم؟ على روايتين) وجملة ذلك أن الرق لا يجري على المرتد سواء كان رجلاً أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب أو أقام بدار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لحقت المرتدة بدار الحرب جاز استرقاقها لان أبا بكر سبى بني حنفية واسترق نساءهم وأم محمد بن الحنفية منهم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ولأنه لا يجوز اقراره على كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل ولم ينقل ان الذين سباهم ابو بكر رضي الله عنه كانوا أسلموا ولا ثبت لهم حكم الردة، فإن قيل فقد روي عن علي رضي الله عنه أن المرتدة تسبى قلنا هذا الحديث ضعفه أحمد، فأما اولاد المرتدين فان كانوا ولدوا قبل الردة فانهم محكوم باسلامهم تبعاً لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الاسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم

ص: 101

في الكفر فلا يجوز استرقاقهم صغاراً لأنهم مسلمون ولا كباراً لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم بعد كفرهم فهم مسلمون وإن كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق، وأما من حديث بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه ولد بين أبوين كافرين، ويجوز استرقاقه لأنه ليس بمرتد نص عليه أحمد وهو

ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر، ويحتمل أن لا يجوز استرقاقهم لأن آباءهم لا يجوز استرقاقهم ولأنهم لا يقرون بالجزية فلا يقرون بالاسترقاق وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن ولدوا في دار الإسلام لم يجز استرقاقهم وإن ولدوا في دار الحرب جاز استرقاقهم كولد الحربيين بخلاف آبائهم فعلى هذا إذا وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل الحرب وإن كان في دار الإسلام لم يقر بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب لم يقر بها لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن، فأما من كان حملاً حال ردته فظاهر كلام الخرقي أنه كالحادث بعد كفره وعند الشافعي هو كالمولود ولهذا يرث ولنا أن أكثر الأحكام إنما تتعلق بعد الوضع فكذلك هذا الحكم، وهل يقر من ولد بعد الردة على كفره؟ فيه روايتان (إحداهما) يقر كأولاد اهل الحرب (والثانية) لا يقرون فاذا أسلموا رقوا لانهم أولاد من لا يقر على كفره فلا يقرون على كفرهم كالموجودين قبل ردتهم (فصل) ومن لم يسلم من الذين كانوا موجودين قبل الردة فقدر عليهم أو على آبائهم استتيب منهم من كان بالغاً عاقلا فمن لم يتب قتل ومن لم يبلغ انتظر بلوغه فان لم يتب قتل إذا استتيب وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب (فصل) ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيهم أحكامهم صاروا دار خرب في اغتنام أموالهم وسبي

ص: 102

ذراريهم الحادثين بعد الردة، وعلى الامام قتالهم فان أبا بكر رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة من الصحابة ولأن الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم، واذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويتبع مدبرهم ويجاز على جريحهم وتغنم أموالهم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تصير دار حرب حتى يجتمع فيها ثلاثة أشياء: إن تكون متاخمة لدار الحرب لا شئ بينهما من دار الاسلام (الثاني) لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمن (الثالث) أن تجري فيها أحكامهم ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الحصال أو

دار الكفرة الاصليين.

(فصل) وإن قتل المرتد من يكافئه عمداً فعليه القصاص نص عليه أحمد والولي مخير بين قتله والعفو عنه فان اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله وكذلك إن كان القتل خطأ تجب الدية في ماله أيضاً لأنه لا عاقلة له قال القاضي: وتؤخذ منه الدية في ثلاث سنين لانها دية الخطأ وإن قتل أو مات اخذت من ماله في الحال لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له ويحتمل أن تجب الدية حالة عليه لأنها إنما أجلت في حق العاقلة تخفيفاً عليهم لأنهم يحملون عن غيرهم على سبيل المواساة فأما لجاني فتجب عليه حالة لأنها بدل عن متلف فكانت حالة كسائر ابدال المتلفات

ص: 103

(فصل) ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعاً له وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي إذا أسلم أبواه أو أحدهما وأدرك فأبى الاسلام أجبر عليه ولم يقتل، وقال مالك إن أسلم الأب تبعه أولاده وان أسلمت الأم لم يتبعوها لأن ولد الحرين يتبع أباه دون امه بدليل الموليين إذا كان لهما ولد كان ولاؤه لمولى ابيه دون أمه ولو كان الأب عبداً والأم مولاة فأعتق العبد لجر ولاء ولده إلي مواليه، ولأن الولد يشرف بشرف أبيه وينسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه فوجب أن يتبع أباه في دينه أي دين كان، وقال الثوري إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه فأيهما اختاره كان على دينه ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه أن تسلم فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أبيه وأمه ولنا أن الولد يتبع أبويه في الدين فإذا اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى، ويترجح بأشياء (منها) أنه دين الله الذي رضيه لعباده وبعث به رسله ودعا خلقه اليه (ومنها) أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق واداء الجزية وفي الآخرة من سخط الله وعذابه (ومنها) أن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ومن لا تعرف حاله فيها، وإذا كان محكوماً باسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل كولد المسلمين ولأنه مسلم فاذا رجع عن إسلامه وجب قتله لقوله عليه الصلاة والسلام (من بدل دينه فاقتلوه) وبالقياس على غيره

ولنا على مالك أن الأم أحد الأبوين فتبعها ولدها في الاسلام كالأب بل الأم أولى لأنها أخص به لأنه مخلوق منها حقيقة وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في الرق والحرية والتدبير والكتابة ولأن سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون أبيه وهذا يعارض ما ذكره، وأما تخيير الغلام فهو في الحضانة لا في الدين

ص: 104

(فصل) ومن مات من الأبوين الكافرين على كفره قسم للولد الميراث وكان مسلماً بموت من مات منهما وأكثر الفقهاء على أنه لا يحكم باسلامه بموتهما ولا بموت أحدهما لأنه ثبت كفره تبعاً ولم يوجد منه إسلام ولا ممن هو تابع له فوجب بقاؤه على ما كان عليه لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر احدا من أهل الذمة على الاسلام بموت أبيه مع أنه لم يخل زمنه عن موت بعض أهل الذمة عن بنيهم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب ابقاؤه على الفطرة التي ولد عليها ولأن المسألة مفروضة فيمن مات أبوه في دار الإسلام وقضية الدار الحكم باسلام أهلها وكذلك حكمنا باسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان فاذا عدما أو أحدهما وجب ابقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها وإنما قسم له الميراث لأن اسلامه إنما ثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما فلم يتقدم الاسلام المانع من الميراث على استحقاقه ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيد العبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات ابوه فانه يعتق ولا يرث فيجب ان يكون الاسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث وهذا فيما إذا كان في دار الإسلام لأنه متى قطعت تبعيته لأبويه او أحدهما ثبت له حكم الدار فأما دار الحرب فلا يحكم باسلام ولد الكافر فيها بموتهما ولا موت احدهما لأن الدار لا يحكم باسلام أهلها ولذلك لم يحكم بإسلام لقيطها

ص: 105

(فصل) وتثبت الردة بشيئين: الإقرار والبينة فمتى شهد بالردة على المرتد من ثبتت الردة بشهادته فأنكر لم يسمع انكاره واستتيب فإن تاب وإلا قتل، وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة

ان انكاره يكفي في الرجوع إلى الاسلام ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو أقر بالكفر ثم أنكره قبل منه ولم يكلف الشهادتين فكذلك هذا ولنا ما روى الأثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله واتى برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا ليس لنا دين إلا الاسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: تدرون لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فإنما قتلهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة ولأنه قد ثبت كفره فلم يحكم باسلامه بدون الشهادتين كالكافر الاصلي ولأن إنكاره تكذيب للبينة فلم يسمع كسائر الدعاوى فأما إذا اقر بالكفر ثم أنكر فيحتمل أن القول فيه كمسئلتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الحد وجب بقوله فقبل رجوعه عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه عنه كالزنا والسرقة وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي والاوزاعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر ولا نعلم احداً خالفهم الا الحسن قال: لا يقبل في القتل إلا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها إلا أربعة قياساً على الزنا.

ولنا انها شهادة بغير الزنا فقبلت من عدلين كالشهادة على السرقة ولا يصح قياسه على الزنا فلم

ص: 106

يعتبر فيه إلا أربعة لعلة القتل بدليل اعتبار ذلك في زنا البكر ولا قتل فيه وإنما العلة كونه زنا ولم يوجد ذلك في الردة ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنا يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة (فصل) وإذا أكره على الاسلام من يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له حكم الاسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً مثل أن يثبت على الاسلام بعد زوال الاكراه عنه وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الاسلام وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال محمد بن الحسن يصير مسلماً في الظاهر وإن رجع عنه قتل إذا امتنع من الاسلام لعموم قوله عليه السلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ولأنه أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي

إذا أكره عليه.

ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم اذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى (لا إكراه في الدين) وأجمع أهل العلم على ان الذمي إذا قام على ما هو عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالاقرار والعتق وفارق الحربي والمرتد فانه يجوز قتلهما وإكراههما على الاسلام بان يقول إن أسلمت وإلا قتلناك فمتى أسلم حكم باسلامه ظاهر وإن مات قبل زوال الاكراه عنه فحكمه حكم المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتي به كما لو اكره المسلم على الصلاة فصلى.

وأما في الباطن فبينهم وبين ربهم فمن اعتقد الاسلام بقلبه وأسلم فيما بينه وبين ربه فهو مسلم

ص: 107

عند الله موعود بما وعد به من اسلم طائعاً ومن لم يعتقد الاسلام بقلبه فهو باق على كفره لاحظ له في الاسلام وسواء في هذا من يجوز إكراهه ومن لا يجوز فان الاسلام لا يحصل بدون اعتقاده من العاقل بدليل أن المنافقين كانوا يظهرون الاسلام ويقومون بفرائضه ولم يكونوا مسلمين (فصل) ومن أكره على الكفر لم يصر كافراً وبهذا قال مالك وابو حنيفة والشافعي وقال محمد بن الحسن هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون إن مات ولا يغسل ولا يصلى عليه وهو مسلم فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار ولنا قول الله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله) ويروى ان عماراً أكرهه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن عادوا فعد) وروي أن الكفار كانوا يعذبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجلبهم إلا بلالاً فانه كان يقول أحد أحد وقال النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يثبت في حقه كما لو أكره على الاقرار وفارق ما إذا أكره بحق فانه خير بين أمرين يلزمه أحدهما فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه فاذا ثبت أنه لم يكفر فمتى زال

عنه الإكراه أمر باظهار إسلامه فان أظهره فهو باق على اسلامه وإن أظهر الكفر حكم أنه كفر من حين نطق به لأننا تبينا بذلك أنه كان منشرح الصدر بالكفر من حين نطق به مختاراً له وإن قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوساً عند الكفار ومقيداً عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته

ص: 108

لأن ذلك ظاهر في الإكراه، وإن شهدت أنه كان آمناً حال نطقه بردته فإن ادعى ورثته رجوعه إلى الاسلام لم يقبل إلا ببينة لأن الاصل بقاؤه على ما هو عليه وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم الخنزير لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقداً تحريمه كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها، وإن قال بعض ورثته أكله مستحلاً له او أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه لا يستحقه ويدفع إلى مدعي إسلامه قدر ميراثه لأنه لا يدعي أكثر منه ويدفع الباقي الى بيت المال لعدم من يستحقه فان كان في الورثة صغير أو مجنون دفع اليه نصيبه ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة اليه (فصل) ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن كان الرجل ممن قبلكم ليحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فيوضع على شق رأسه ويشق باثنتين ما يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بامشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه) وجاء في تفسير قوله تعالى (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود.

وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أن بعض ملوك الكفار أخذ قوما من المؤمنين فحفر لهم أخدوداً في الارض وأوقدوا فيها ناراً ثم قال من لم يرجع عن دينه فألقوه في النار فجعلوا يلقونهم فيها حتى جاءت امرأة على كتفها صبي لها فتقاعست من أجل الصبي فقال يا أمه اصبري فانك على الحق فذكرهم الله تعالى في كتابه وروى الأثرم عن أبي عبد الله أنه سئل عن رجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه أله أن يرتد؟ فكرهه كراهة شديدة وقال ما يشبه هذا عندي الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 109

أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر

وترك دينهم وذلك أن الذي يكره على الكلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها وهذا المقيم بينهم يلتزم باجابتهم الى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المنكرات والمحظورات وإن كانت امرأة يزوجونها ويستولدونها أولاداً كفاراً وكذلك الرجل وظاهر حالهم المصير الى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيفي (فصل) ومن أصاب حداً ثم ارتد ثم أسلم أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي سواء لحق بدار الحرب في ردته أو لم يلحق بها، وقال قتادة في مسلم احدث حدثا ثم لحق بالروم ثم قدر عليه ان كان ارتد درئ عنه الحد وإن لم يكن ارتد أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة والثوري إلا حقوق الناس لأن ردته احبطت عمله فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن فعل ذلك في حال شركه فانه لم يثبت حكمه في حقه.

وأما قوله الاسلام (يجب ما قبله) فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد ما قبل ردته أفضى إلى كون الردة التي هي اعظم الذنوب مكفرة للذنوب وأن من كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر ثم يسلم فتكفر ذنوبه وتسقط حدوده (فصل) فأما فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال: سألته عن رجل ارتد عن الاسلام فقطع الطريق ثم لحق بدار الحرب وأخذه المسلمون قال تقام عليه الحدود ويقتص منه وسألته عن رجل ارتد فلحق بدار الحرب فقتل بها مسلماً ثم رجع تائبا وقد أسلم فأخذه وليه يكون عليه القصاص؟ فقال قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو مشرك ثم توقف بعد ذلك وقال لا أقول في هذا شيئاً

ص: 110

وقال القاضي ما أصاب في ردته من نفس أو مال أو جرح فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة أو لم يكن لأنه التزم حكم الاسلام باقراره فلم يسقط بجحده كما لا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده.

قال شيخنا والصحيح إن ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في جماعة ممتنعة لا يضمنه لما ذكرناه فيما تقدم في مسألة وما أتلف من شئ ضمنه وما فعله قبل هذا أخذ به إذا كان مما يتعلق به حق آدمي كالجناية على نفس أو مال لأنه في دار الإسلام فلزمه حكم جنايته كالذمي والمستأمن وأما من ارتكب حداً خالصاً لله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة فإنه إن قتل بالردة سقط ما سوى القتل

من الحدود لأنه متى اجتمع مع القتل حد انتفى بالقتل، وإن رجع إلى الاسلام أخذ بحد الزنا والسرقة لأنه من أهل دار الاسلام فأخذ بهما كالذمي والمستأمن.

فأما حد الخمر فيحتمل انه لا يجب عليه لأنه كافر فلا يقام عليه حد الخمر كسائر الكفار ويحتمل أن يجب لأنه أقر بحكم الاسلام قبل ردته وهذا من أحكامه فلم يسقط بجحده بعده (فصل) ومن ادعى النبوة أو صدق من ادعاها فقد ارتد لأن مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه قومه صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الاسدي ومصدقوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابون كلهم يدعي أنه رسول الله)(فصل) قال رحمه الله والساحر الذي يركب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه يكفر ويقتل فأما الذي يسحر بالأدوية والتدخين ويتقي شيئاً يضر فلا يكفر ولا يقتل ولكن يعذر ويقتص منه

ص: 111

إن فعل ما يوجب القصاص.

وجملة ذلك أن السحر عقد ورقى وكلام يتكلم به ويكتبه أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له وله حقيقة فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يفرق به بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يجب بين اثنين وهذا قول الشافعي وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل قال الله تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان شيئاً يصل الى بدن المسحور كدخان ونحوه جاز أن يحصل منه ذلك فأما ان يحصل المرض والموت من غير أن يصل انى بدنه شئ فلا يجوز ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الأنبياء عليهم السلام لأن ذلك يخرق العادات فاذا جاز من غير الأنبياء بطلت معجزاتهم وأدلتهم ولنا قول الله تعالى (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد) يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن عليه ولولا أن السحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة منه وقال الله تعالى (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) الى قوله (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وروت عائشة رضي الله عنها

أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل اليه أنه يفعل الشئ وما يفعله وأنه قال لها ذات يوم (أشعرت أن

ص: 112

الله أفتاني فيما استفتيته؟ إنه اتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال ما وجع الرجل؟ قال مطبوب قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي اروان) ذكره البخاري وغيره جف الطلعة وعاؤها والمشاطة الشعر الذي يخرج من شعر الرأس أو غيره إذا مشط، فقد أثبت لهم سحراً، وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متوترا لا يمكن جحده، وروي من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه، وأما إبطال المعجزات فلا يلزم من هذا لأنه لا يبلغ ما تأتي به الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم أن ينتهي إلى أن تسعى العصا والحبال (فصل) وتعليم السحر وتعلمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم قال أصحابنا ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وروى عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فان حنبلا روى عنه قال قال عمي في العراف والكاهن والساحر: أرى أن يستتاب من هذه الافاعيل كلها فإنه عندي في معنى المرتد فإن تاب وراجع يعني خلي سبيله قلت له يقتل؟ قال لا لعله يراجع قلت له لم لا تقتله؟ قال إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع، وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله، وقوله في معنى المرتد

ص: 113

يعني في الاستتابة وقال أصحاب أبي حنيفة إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر وقال الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب الى الكواكب السبعة أنها تفعل ما يلتمس أو اعتقد حل السحر كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل المتواتر والاجماع وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها ولانه شئ يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم ووجه قول الاصحاب قول الله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان الى قوله وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) وقوله تعالى (وما كفر سليمان)

أي ماكان ساحراً كفر بسحره وقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه فتكفر بذلك وقد ذكرنا حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الساحرة سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون هل لها من توبة فما أفتاها أحد (فصل) وحد الساحر القتل روى ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة، ومالك ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر ورواية عن أحمد وقد ذكرناها ووجهها ما ذكرنا من حديث عائشة في المدبرة التي سحرتها فباعتها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث:

ص: 114

كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق) ولم يصدر منه أحد الثلاثة فوجب أن لا يحل دمه ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حد الساحر ضربه بالسيف) قال إبن المنذر رواه اسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وروى سعيد وابو داود في كتابيهما عن بجالة قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الاحنف بن قيس إذ جاء كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعاً وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة ولأنه كافر فقتل للخبر المروي (فصل) والسحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحراً مثل فعل لبيد بن الأعصم حين سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، وروينا في مغازي الأموي أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في احليل عمارة بن الويد فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال خلني وإلا مت فلم يخله فمات من ساعته، وبلغنا أن بعض الأمراء أخذ ساحرة فجاء زوجها كأنه محترق فقال قولوا لها تحل عني فقالت ائتوني بخيوط وباب فأتوها به فجلست على الباب وجعلت تعقد فطار بها الباب فلم يقدروا عليها، فهذا وأمثاله مثل أن يعقد الرجل المتزوج فلا يطيق وطئ امرأته هو السحر المختلف في حكم صاحبه

ص: 115

(مسألة)(فأما الذي يسحر بالاودية والتدخين وسقي شئ يضر فلا يكفر ولا يقتل) لأن الله تعالى وصف الساحرين الكافرين بأنهم يفرقون بين المرء وزوجه فيختص الكفر بهم ويبقى من سواهم من الذين يسحرون بالادوية والتدخين على أصل العصمة لا يجب قتلهم ولا يكفرون بسحرهم لكن يعزرون إن ارتكبوا معصية ويقتص منهم ما يوجب القصاص كما يقتص من غيرهم من المسلمين (مسألة)(وأما الذي يعزم على الجن ويزعم أنه يجمعها فتطيعه فلا يكفر ولا يقتل)

ص: 116

وذكره أبو الخطاب في السحرة الذين يقتلون وكذلك ذكره القاضي.

فأما الذي يحل بالسحر فان كان بشئ من القرآن أو شئ من الذكر والأقسام والكلام المباح فلا بأس به فإن كان بشئ من السحر فقد توقف أحمد عنه، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل يزعم انه يحل السحر فقال قد رخص فيه بعض الناس، قيل لأبي عبد الله انه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا فنفض يده كالمنكر وقال ما أدري ما هذا، قيل له فترى ان يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ فقال ما أدري ما هذا، وروي عن محمد بن سيرين أنه سئل عن امرأة تعذبها السحرة فقال رجل أخط خطا عليها واغرز السكين عند مجمع الخط واقرأ القرآن فقال محمد ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدري

ص: 117

ما الخط والسكين، وروي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقال أيضاً إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل فهذا من قولهم يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة لأنهم لا يسمون به وهو مما ينفع ولا يضر (فصل) فأما الكافر الذي له رئي من الجن يأتيه بالأخبار، والعراف الذي يحدس ويتخرص فقد قال أحمد في رواية حنبل في العراف والساحر والكاهن أرى أن يستتاب من هذه الافاعيل، قيل له يقتل قال لا، يحبس لعله يرجع، قال والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث لأن السحر شعبة من الكفر وقال الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما وحديث عمر اقتلوا كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الاسلام، وهذا يدل على أن كل واحد فيه روايتان (إحداهما)

أنه يقتل إذا لم يتب (والثانية) لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد اختلف فيه فهذا بدرء القتل عنه أولى (فصل) فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل لسحره إلا ان يقتل به ويكون مما يقتل غالباً فيقتل قصاصا، وقال أبو حنيفة يقتل لعموم ما تقدم من الأخبار ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي كالقتل قصاصا ولنا أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله ولأن الشرك أعظم من سحره فلا يقتل به والاخبار وردت في ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلي وقياسهم ينتقض باعتقاد الكفر والتكلم به وينتقض بالزنا من المحصن فانه لا يقتل به الذمي عندهم ويقتل به المسلم والله أعلم

ص: 118

كتاب الحدود (مسألة)(ولا يجب الحد الا على بالغ عاقل عالم بالتحريم) أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الاقرار لأنهما قد رفع القلم عنهما قال عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، وفي حديث ابن عباس في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قومه (أمجنون هو؟) قالوا ليس به بأس.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر عنده (أبك جنون؟) وروى أبو داود باسناده قال أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها علي بن أبي طالب فقال ما شأن هذه؟ فقالوا مجنونة بني فلان زنت فأمر بها عمر أن ترجم، فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين أما علمت ان القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل؟ قال بلى، قال فما بال هذه؟ قال لا شئ، قال فأرسلها فأرسلها، قال فجعل عمر (يك؟) ولانه اذا سقط عنه التكليف في العبادات والاثم في المعاصي فالحد المبني على الدرء بالشبهات أولى بالاسقاط (فصل) ولا يجب على النائم لما ذكرنا من الحديث، فلو زنى بنائمة أو استدخلت ذكر نائم

ص: 119

إن وجد منه الزنا حال نومه فلا حد عليه لأنه مرفوع عنه القلم، ولو أقر حال نومه لم يلتفت إلى

اقراره لأن كلامه ليس بمعتبر ولا يدل على صحة مدلوله (فصل) فإن كان يجن مرة ويفيق أخرى فأقر في إفاقته أنه زنى وهو مفيق أو قامت عليه بينة أنه زنى في إفاقته فعليه الحد لا نعلم فيه خلافاً وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الزنا الموجب للحد وجد منه في حال إفاقته وهو مكلف والقلم غير مرفوع عنه وإقراره وجد في حال اعتبار كلامه، فان أقر في إفاقته ولم يضفه الى حال أو شهدت عليه البينة بالزنى ولم تضفه إلى حال إفاقته لم يجب الحد لأنه يحتمل أنه وجد في حال جنونه فلم يجب الحد مع الاحتمال، وقد روى أبو داود في حديث المجنونة التي أتي بها عمر أن علياً قال هذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها أتاها في بلائها، فقال عمر لا أدري فقال علي وأنا لا أدري (مسألة)(ولا يجب الحد إلا على عالم بالتحريم) قال عمر وعلي وعثمان لا حد إلا على من علمه وبهذا قال عامة أهل العلم، وقد روى سعيد بن المسيب قال ذكر الزنا بالشام فقال رجل زنيت البارحة، قالوا ما تقول؟ قال ما علمت أن الله حرمه فكتب بها الى عمر فكتب إن كان يعلم أن الله حرمه فحدوه وإن لم يكن علم فأعلموه فان عاد

ص: 120

فارجموه، وسواء جهل تحريم الزنا أو تحريم عين المرأة مثل أن يزف اليه غير امرأته فيظنها زوجته أو يدفع اليه جارية فيظنها جاريته فيطؤها فلا حد عليه (مسألة)(ولا يجوز أن يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه) لأنه حق لله تعالى فيفتقر الى الإجتهاد ولا يؤمن من إستيفائه الحيف فوجب تفويضه الى نائب الله تعالى في خلقه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته وخلفاؤه بعده ولا يلزم حضور الإمام إقامته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) وأمر برجم ماعز ولم يحضر وأتي بسارق فقال (اذهبوا به فاقطعوه) وجميع الحدود في هذا سواء حد القذف وغيره لأنه لا يؤمن فيه الحيف والزيادة على الواجب ويفتقر الى الإجتهاد فأشبه سائر الحدود (مسألة) (إلا السيد فإن له إقامة الحد بالجلد خاصة على رقيقه القن وهل له القتل في الردة

والقطع في السرقة؟ على روايتين) وجملة ذلك ان للسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقه القن في قول أكثر العلماء، روي نحو ذلك علي وابن مسعود وابن عمر وأبي حميد وأبي أسيد الساعديين وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقمة والاسود والزهري وهبيرة والحسن بن أبي مريم وأبي ميسرة ومالك والثوري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر

ص: 121

وقال ابن أبي ليلى أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا، وعن الحسن بن محمد أن فاطمة حدت جارية لها زنت وعن ابراهيم أن علقمة والأسود كانا يقيمان الحدود على من زنا من خدم عشائرهم روى ذلك سعيد في سننه، وقال أصحاب الرأي ليس له ذلك لأن الحدود الى السلطان ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي ولأن الحد لا يجب إلا ببينة أو إقرار وتعتبر لذلك شروط من عدالة الشهود ومجيئهم مجتمعين أو في مجلس واحد وذكر حقيقة الزنا وغير ذلك من الشروط التي تحتاج الى فقيه يعرفها ويعرف الخلاف فيها وكذلك الاقرار، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الامام أو نائبه كحد الأحرار ولأنه حد هو حق الله تعالى فيفوض إلى الامام كالقتل والقطع ولنا ما روى سعيد ثنا سفيان عن أيوب بن موسى عن سعيد بن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا زنت أمة احدكم فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير) وقال حدثنا أبو الأحوص ثنا عبد الأعلى عن أبي جميلة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) ورواه الدارقطني ولأن السيد يملك تأديب أمته وتزويجها فلمك اقامة الحد عليها كالسلطان وبهذا فارق الصبي إذا ثبت هذا فإنما يملك الحد بشروط أربعة

ص: 122

(أحدها) أن يكون جلداً كحد الزنا والشرب وحد القذف، فأما القتل في الردة والقطع في السرقة فلا يملكهما إلا الامام، وهذا قول أكثر أهل العلم وفيها رواية أخرى أن السيد يملكهما

وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) وروي أن ابن عمر قطع عبداً سرق وكذلك عائشة، وعن حفصة أنها قتلت أمة لها سحرتها ولأن ذلك حدا يشبهه الجلد ولنا أن الأصل تفويض الحد إلى الامام لأنه حق لله تعالى فيفوض إلى نائبه كما في حق الاحرار ولما ذكره أصحاب أبي حنيفة وإنما فوض إلى السيد الجلد خاصة لأنه تأديب والسيد يملك تأديب عبده وضربه على الذنب وهذا من جنسه وإنما افترقا في أن هذا مقدر والتأديب غير مقدر، وهذا لا أثر له في منع السيد منه بخلاف القطع والقتل فانهما اتلاف لجملته أو بعضه الصحيح ولا يملك السيد هذا من عبده ولا شيئاً من جنسه والخبر الوارد في حد السيد عبده إنما جاء في الزنا خاصة وانما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد وقوله (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) إنما جاء في سياق الحد في الزنا فان أول الحديث عن علي رضي الله عنه قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة له فجرت فأرسلني اليها فقال (اجلدها الحد - قال فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمها فرجعت اليه فقال - أفرغت؟ فقلت وجدتها لم تجف من دمها قال - إذا جفت من دمها فاجلدها الحد وأقيموا الحدود على ما

ص: 123

ملكت أيمانكم) فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه، وأما فعل حفصة فقد أنكره عثمان عليها وشق عليه، وما روي عن ابن عمر فلا نعلم ثبوته عنه (مسألة) (ولا يملك إقامته على من بعضه حر ولا أمته المزوجة) وقال مالك والشافعي يملك السيد إقامة الحد على الأمة المزوجة لعموم الخبر ولأنه مختص بملكها وإنما يملك الزوج بعض منافعها فأشبهت المستأجرة ولنا ما روى عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة ذات زوج رفعت إلى السلطان، وإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولا نعرف له مخالفاً في عصره ولأن نفعها مملوك لغيره مطلقاً أشبهت المشتركة ولأن المشترك إنما منع من إقامة الحد عليه لأنه يقيمه في غير ملكه لأن الجزء الحر أو المملوك لغيره ليس بمملوك له وهذا شبهه لأن محل الحد هو محل استمتاع

الزوج وهو بدنها فلا يملكه والخبر مخصوص بالمشترك فنقيس عليه والمستأجرة إجارتها مؤقتة تنقضي، ويحتمل أن نقول لا يملك إقامة الحد عليها في حال إجارتها لأنه ربما أفضى إلى تفويت حق المستأجر وكذلك الامة المرهونة يخرج فيها وجهان (فصل) ويشترط أن يكون السيد بالغاً عاقلاً عالماً بالحدود وكيفية إقامتها لأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الولايات والجاهل بالحد لا يمكنه اقامته على الوجه الشرعي فلا يفوض اليه

ص: 124

(مسألة)(فإن كان السيد فاسقاً أو امرأة فله اقامته في ظاهر كلامه ويحتمل أن لا يملكه) في الفاسق وجهان (أحدهما) لا يملكه لأن هذه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج (والثاني) يملكه لأنها ولاية استفادها بالملك فلم ينافها الفسق كبيع العبد وفي المرأة أيضاً وجهان (أحدهما) لا تملكه لأنها ليست من أهل الولايات (والثاني) تملكه لأن فاطمة جلدت أمة لها وعائشة قطعت أمة لها سرقت وحفصة قتلت أمة لها سحرتها ولأنها مالكة تامة الملك من أهل التصرفات أشبهت الرجل وفيه وجه ثالث أن الحد يفوض إلى وليها لأنه يزوج أمتها (مسألة)(ولا يملكه المكاتب لأنه ليس من أهل الولاية، وفيه وجه أنه يملكه) لأنه يستفاد بالملك فأشبه سائر تصرفاته (مسألة)(وسواء ثبت ببينة أو إقرار) إذا ثبت باعتراف فللسيد إقامته إن كان يعترف الاعتراف الذي يثبت به الحد وشروطه، وإن ثبت ببينة اعتبر أن تثبت عند الحاكم لأن البينة تحتاج الى البحث في العدالة ومعرفة شروط سماعها ولفظها ولا يقوم بذلك إلا الحاكم، وقال القاضي يعقوب: إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد بها كما يقيمه بالاقرار وهذا ظاهر نص الشافعي لأنها احد ما يثبت به الحد فأشبهت الاقرار.

ص: 125

(مسألة)(وإن ثبت بعلمه فله إقامته نص عليه، ويحتمل أن لا يملكه كالامام) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه أن السيد لا يقيمه بعلمه وهذا قول مالك

لأن الامام لا يقيمه بعلمه فالسيد أولى ولأن ولاية الامام للحد أقوى من ولاية السيد لكونها متفقاً عليها وثابتة بالاجماع فإذا لم يثبت الحد في حقه بالعلم فههنا أولى، وعن أحمد رواية أخرى انه يقيمه بعلمه لأنه قد ثبت عنده فملك اقامته كما لو أقر به ولانه يملك تأديب عبده بعلمه وهذا يجري مجرى التأديب ويفارق الحاكم لأن الحاكم متهم لا يملك محل إقامته وهذا بخلافه وهذا ظاهر المذهب (مسألة)(ولا يقيم الامام الحد بعلمه) هذا ظاهر المذهب روى ذلك عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه، وبه قال مالك وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: له إقامته بعلمه وهو قول أبي ثور وعن أحمد رحمه الله نحو ذلك لأنه اذا جازت له اقامته بالبينة والاعترف (والاعتراف) الذي لا يفيد فبما يفيد العلم أولى ولنا قول الله تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) وقال سبحانه (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقال عمر أو كان الحبل أو الاعتراف ولأنه لا يجوز له أن يتكلم

ص: 126

به ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفاً يلزمه حد القذف فلم تجز اقامة الحد لقول غيره ولأنه إذا حرم النطق به فالعمل به أولى (مسألة)(ولا تقام الحدود في المساجد) لما روى حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد في المسجد وأن ينشد فيه الاشعار وأن تقام فيه الحدود لأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شئ يتلوث به المسجد فان أقيم فيه سقط الفرض لحصول المقصود وهو الزجر ولأن المرتكب للنهي غير الحدود فلم يمنع ذلك سقوط الفرض عنه كما لو اقتص في المسجد (مسألة)(ويضرب الرجل قائماً) وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يضرب جالسا قال أبو الخطاب، وقد روى حنبل أنه يضرب قاعداً لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد أشبه المرأة ولنا قول علي رضي الله عنه: لكل موضع من الحسد حظ الا الوجه والفرج، وقال للجلاد

اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب وقوله إن الله لم يأمر بالقيام قلنا ولم يأمر بالجلوس ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر ولا يصح قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها ويخشى هتكها.

إذا ثبت هذا فانه يضرب

ص: 127

بسوط، وحكي عن بعضهم أن حد الشرب يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال (اضربوه) قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه رواه أبو داود ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اذا شرب الخمر فاجلدوه) والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط والخلفاء الراشدون ضربوا فيه بالسياط وكذلك غيرهم فصار إجماعاً ولأنه جلد في حد فكان بالسوط كغيره فأما حديث أبي هريرة فكان في بدء الاسلام ثم جلد النبي صلى الله عليه وسلم واستقرت الامور فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وفي حديث ابن عمر قال ائتوني بسوط فجاءه أسلم مولاه بسوط دقيق فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم ائتني بسوط غير هذا فأتاه به تاما فأمر عمر بقدامة فجلد.

إذا ثبت هذا فان السوط يكون وسطاً لا حديداً فيجرح ولا خلعا فلا يؤلم لما روي أن رجلاً اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بسوط مسكور فقال فوق هذا مأتي بسوط حديد لم يكسر بموته فقال بين هذين رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين يعني وسطاً لا شديد فيقتل ولا ضعيف فلا يردع (مسألة)(ولا يمد ولا يربط ولا يجرد قال ابن مسعود ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد)

ص: 128

وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد بل يكون عليه القميص والقميصان، وان كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب قال أحمد لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب، وقال مالك يجرد لأن الامر بجلده يقتضي مباشرة جسمه

ولنا قول ابن مسعود ولم نعلم عن أحد من الصحابة خلافه والله تعالى لم يأمر بتجريده وإنما أمر بجلده ومن جلد من فوق الثوب فقد جلد (مسألة)(ولا يبالغ في ضربه بحيث يشق الجلد) لأن المقصود أدبه لا هلاكه، ويفرق الضرب على اعضائه وجسده فيأخذ كل عضو منه حصته ويكثر منه في مواضع اللحم كالأليتين والفخذين ويتقى المقاتل وهي الرأس والوجه والفرج من المرأة والرجل جميعاً لقول علي رضي الله عنه لكل موضع من الجسد حظ الا الوجه والفرج لأن ما عدا الاعضاء الثلاثة ليس بمقتل فأشبه الظهر ولأن الرأس مقتل فأشبه الوجه ولأنه ربما أدى في رأسه الى ذهاب سمعه أو بصره أو عقله أو قتله والمقصود أدبه لا قتله (مسألة)(والمرأة كذلك فيما ذكرنا من صفة الجلد إلا أنها تضرب جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها لئلا تنكشف) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ومالك وقال أبو يوسف تحد المرأة قائمة كاللعان

ص: 129

ولنا قول علي ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة وما عدا الاعضاء الثلاثة (مسألة)(والجلد في الزنا أشد الجلد ثم جلد القذف ثم الشرب ثم التعزير) وكذلك قال أصحابنا وقال مالك كلها واحد لأن الله تعالى أمر بجلد الزاني والقاذف أمراً واحداً ثم مقصود جميعها واحد وهو الزجر فيجب تساويها في الصفة، وعن أبي حنيفة التعزير أشدها ثم حد الزاني ثم الشرب ثم حد القذف ولنا أن الله تعالى خص الزنا بمزيد تأكيد بقوله (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) فاقتضى مزيد تأكيد ولا يمكن ذلك في العدد فجعل في الصفة، ولأن ما دونه أخف منه في العدد فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعه وهذا دليل على أن ماخف في عدده كان أخف في صفته ولأن ما دونه أخف منه عدداً فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية أو زيادة القليل على ألم الكثير

(مسألة)(وإن رأى الامام الجلد في حد الخمر بالجريد والنعال فله ذلك) لما ذكرنا من حديث أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال (اضربوه) قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعلين والضارب بثوبه، رواه أبو داود (مسألة) (قال أصحابنا ولا يؤخر الحد للمرض فإن كان جلداً وخشي عليه من السوط أقيم

ص: 130

بأطراف الثياب والعثكول ويحتمل أن يؤخر للمرض المرجو زواله أما إذا كان الحد رجماً لم يؤخر لأنه لا فائدة فيه إذا كان قتله متحتماً وإذا كان جلداً فالمريض على ضربين (أحدهما) يرجى برؤه فقال أصحابنا يقام عليه الحد ولا يؤخر فان خشي عليه من السوط ضرب بسوط يؤمن معه التلف فان خيف من السوط أقيم بالعثكول وهذا قول أبي بكر وبه قال إسحاق وأبو ثور لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يؤخره وانتشر ذلك في الصحابة ولم ينكروه فكان أجماعاً، ولأن الحد واجب على الفور فلا يؤخر ما أوجبه الله تعالى بغير حجة قال القاضي ظاهر قول الخرقي تأخيره لقوله من يجب عليه الحد وهو صحيح عاقل وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لحديث علي رضي الله عنه في التي هي حديثة عهد بنفاس ولأن في تأخيره إقامة الحد على الكمال من غير إتلاف فكان أولى، وأما حديث عمر في جلد قدامة فإنه يحتمل أنه كان مرضاً خفيفاً لا يمنع من إقامة الحد على الكمال ولهذا لم ينقل عنه أنه خفف عنه في السوط وإنما اختار له سوطاً وسطاً كالذي يضرب به الصحيح، ثم ان فعل النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل عمر مع أنه اختيار علي وفعله وكذلك الحكم في تأخيره في الحر والبرد المفرط (الضرب الثاني) المريض الذي لا يرجى برؤه فهذا يقام عليه الحد في الحال ولا يؤخر بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير

ص: 131

وشمراخ النخل فان خيف عليه من ذلك جمع ضغثاً فيه مائة شمراخ فضربه ضربة واحدة وبهذا قال الشافعي وأنكر مالك هذا وقال قد قال الله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا جلدة واحدة ولنا ماروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا اشتكى

حتى ضني فدخلت عليه امرأة فهش لها فوقع بها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة، رواه أبو داود والنسائي وقال ابن المنذر في إسناده مقال، ولأنه لا يخلو من أن يقام عليه الحد على ما ذكرنا أو لا يقام أصلاً أو يضرب ضرباً كاملاً: لا يجوز تركه بالكلية لأنه يخالف الكتاب والسنة ولا أن يجلد جلداً تاماً لأنه يفضي إلى إتلافه فتعين ما ذكرناه، وقولهم هذا جلدة واحدة قلنا يجوز أن يقام ذلك في حال العذر كما قال الله تعالى في حق أيوب (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وهذا أولى من ترك حده بالكلية أو قتله بما لا يوجب القتل (فصل) واذا وجب الحد على حامل لم يقم عليها حتى تضع سواء كان الحمل من زنا أو غيره قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن الحامل لا ترجم حتى تضع، وروى بريدة أن امرأة من بني غامد قالت يا رسول الله طهرني قال (وماذاك) قالت انها حبلى من زنا قال (انت) قالت نعم فقال (لها ارجعي حتى

ص: 132

تضعي ما في بطنك) قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قال قد وضعت الغامدية فقال (إذاً لا نرجمها وتدع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه) فقام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها رواه مسلم وأبو داود، وروي أن امرأة زنت في أيام عمر رضي الله عنه فهم عمر برجمها وهي حامل فقال معاذ إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها فقال عجز النساء أن يلدن مثلك ولم يرجمها وعن علي مثله، ولان في اقامة الحد عليها في حال حملها إتلافاً لمعصوم ولا سبيل إليه وسواء كان الحد رجماً أو غيره لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب وربما سرى إلى نفس المضروب فيفوت الولد بفواته، فإذا وضعت الولد فإن كان الحد رجماً لم ترجم حتى تسقيه اللبأ لأن الولد لا يكاد يعيش إلا به، ثم إن كان له من يرضعه أو تكفل احد برضاعه رجمعت وإلا تركت حتى تفطمه لما ذكرنا من حديث الغامدية ولما روى أبو داود باسناده عن بريدة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني فجرت فوالله إني لحبلى فقال لها (ارجعي حتى تلدي) فرجعت فلما ولدت أتت بالصبي فقال (ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه) فجاءت به قد فطمته وفي يده شئ يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها وأمر بها فرجمت وأمر بها فصلي عليها ودفنت.

وإن لم يظهر حملها لم تؤخر لاحتمال

أن تكون حملت من الزنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية والجهنية ولم يسأل عن استبرائهما وقال لأنيس (اذهب الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) ولم يأمره بسؤالها عن استبرائها، ورجم علي رضي

ص: 133

الله عنه شراحة ولم يستبرئها، وإن ادعت الحمل قبل قولها كما قبل قول الغامدية، فان كان الحد جلدا فإذا وضعت الولد وانقطع النفاس وكانت قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد وإن كانت في نفاسها أو ضعيفة يخاف تلفها لم يقم عليها الحد حتى تطهر وتقوى وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وذكر القاضي أنه ظاهر كلام الخرقي وقال أبو بكر يقام عليها الحد في الحال بسوط يؤمن معه التلف فان خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول وأطراف الثياب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضرب المريض الذي زنى فقال (خذوا له مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة) ولنا ماروى علي رضي الله عنه أنه قال إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فاذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن اقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أحسنت) رواه مسلم وأبو داود ولفظه قال فأتيته فقال يا علي (أفرغت؟) فقلت أتيتها ودمها يسيل فقال (دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد) وفي حديث أبي بكرة أن المرأة انطلقت فولدت غلاماً فجاءت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها (انطلقي فتطهري من الدم) رواه أبو داود ولأنه لو توالى عليه حدان فاستوفي أحدهما لم يستوف الثاني حتى يبرأ من الأول (مسألة)(واذا مات المحدود في الجلد فالحق قتله ولا يجب على أحد ضمانه جلدا كان أو غيره) لأنه حد وجب لله عزوجل فلم يود من مات به كالقطع في السرقة وهذا قول مالك وأصحاب

ص: 134

الرأي وبه قال الشافعي إذا لم يزد في حد الخمر على الاربعين وإن زاد على الاربعين فمات فعليه الضمان لأن ذلك تعزير إنما يفعله الامام برأيه، وفي قدر الضمان قولان (احدهما) نصف الدية لأنه تلف من فعلين مضمون وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان (والثاني) تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين روي عن علي رضي الله عنه انه قال ما كنت لاقيم

حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي الا صاحب الخمر لو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه ولنا أنه حد وجب لله تعالى فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود وما زاد على الاربعين فهو من الحد على ما نذكره، وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب فهو بمنزلة الحد، وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وثبت الحد بالاجماع فلم يبق فيه شبهة (فصل) ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في سائر الحدود أنه إذا أتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة أنه لا يضمن من تلف بها لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله فلا يؤاخذ به ولأنه نائب عن الله تعالى فكان التلف منسوبا الى الله سبحانه (مسألة)(وإن زاد على الحد سوطاً أو أكثر فتلف ضمنه وهل يضمن جميع الدية أو نصفها؟ على وجهين) إذا زاد على الحد فتلف المحدود وجب الضمان بغير خلاف نعلمه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو ضربه في غير الحد، قال أبو بكر وفي قدر الضمان وجهان (أحدهما) كمال الدية لأنه قتل حصل من جهة الله تعالى وعدوان الضارب فكان الضمان على العادي كما لو ضرب مريضا سوطا فمات به ولأنه

ص: 135

تلف بعدوان وغيره أشبه مالو ألقى على سفينة موقرة حجراً فغرقها (والثاني) عليه نصف الضمان لأنه تلف بفعل مضمون وغير مضمون فوجب نصف الدية حسب كما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر يجب من الدية بقدر ما تعدى به تقسط الدية على الأسواط كلها وسواء زاد خطأ أو عمداً لأن الضمان يجب في الخطأ والعمد، ثم ينظر فإن كان الجلاد زاده من عند نفسه بغير أمر فالضمان على عاقلته لأن العدوان منه وكذلك إن قال له الامام اضرب ما شئت، وإن كان له من يعد عليه فزاد في العدد ولم يجبره فالضمان على من يعد سواء تعمد ذلك أو أخطأ في العدد لأن الخطأ منه، وإن أمره الامام بالزيادة على الحد فزاد فقال القاضي الضمان على الإمام، وقياس المذهب أنه إن اعتقد وجوب طاعة الامام وجهل تحريم الزيادة فالضمان على الامام وإن كان عالماً بذلك فالضمان عليه كما لو أمره الإمام بقتل رجل ظلماً فقتله، وكل موضع قلنا يضمن الامام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال؟ فيه روايتان (إحداهما) هو في بيت المال لأن

خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم قال القاضي هذا أصح (والثاني) هو على عاقلته لانها وجبت بخطائه فكانت على عاقلته كما لو رمى صيداً فقتل آدميا، ويحتمل أن تكون الروايتان فيما إذا وقعت الزيادة منه خطأ أما إذا تعمدها فهذا ظلم قصده فلا وجه لتعلق ضمان ببيت المال بحال كما لو تعمد جلد من لاحد عليه، وأما الكفارة التي تلزم الإمام فلا يحملها عنه غيره لأنها عبادة فلا

ص: 136

تتعلق بغير من وجد منه سببها ولأنها كفارة لفعله فلا تحصل إلا بتحمله إياها ولهذا لا يدخلها التحمل بحال (مسألة)(وإذا كان الحد رجماً لم يحفر له رجلا كان أو امرأة في أحد الوجهين) سواء ثبت ببينة أو إقرار أما إذا كان الزاني رجلا لم يوثق بشئ ولم يحفر له سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز قال أبو سعيد لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز خرجنا به إلى البقيع فو الله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا رواه أبو داود ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه فوجب أن لا يثبت (مسألة)(واما المرأة فإن كان ثبت باقرارها لم يحفر لها وإن ثبت ببينة حفر لها الى الصدر) ظاهر كلام أحمد أن المرأة لا يحفر لها أيضاً وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف وذكر في المجرد أنه إن ثبت الحد باقرارها لم يحفر لها وإن ثبت بالبينة حفر لها الى الصدر قال أبو الخطاب وهذا أصح عندي وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكرة وبريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها الى الثندوة رواه أبو داود ولا حاجة الى تمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالاقرار فإنها تترك على حال لو أرادت الهرب تمكنت منه لأن رجوعها عن إقرارها مقبول

ص: 137

ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لليهوديين والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ولا يقولون به فان التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها باقرارها ولا خلاف بيننا فيها فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم إياه، إذا ثبت هذا فان ثياب المرأة تشد

عليها لئلا تنكشف وقد روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين قال فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ولأن ذلك استر لها (مسألة)(ويستحب أن يبدأ الشهود بالرجم وإن ثبت بالاقرار استحب أن يبدأ الامام) السنة أن يدور الناس حول المرجوم فان كان الزنا ثبت ببينة استحب أن يبدأ الشهود بالرجم وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم إن كان ثبت عنده ثم يرجم الناس بعده وقد روى سعيد باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال الرجم رجمان فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الامام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس ولأن فعل ذلك ابعد لهم من التهمة في الكذب عليه (مسألة)(ومتى رجع المقر بالحد عن إقراره قبل منه، وإن رجع في اثناء الحد لم يتمم) وجملة ذلك أن من شرط إقامة الحد بالاقرار البقاء عليه إلى تمام الحد فان رجع عن إقراره كف عنه وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد ومالك والثوري واسحاق وابو حنيفة وأبو يوسف وقال الحسن وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى يقام عليه الحد لا يترك لأن ماعزا هرب

ص: 138

فقتلوه، وروي أنه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فان قومي هم غروني من نفسي وأخبروني أن النبي صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه رواه أبو داود ولو قبل رجوعه للزمتهم ديته ولأنه حق وجب باقراره فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق، وحكي عن الأوزاعي أنه إن رجع حد للفرية على نفسه، وإن رجع عن السرقة أو الشرب ضرب دون الحد.

ولنا أن ماعزا هرب فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال (هل لا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) قال لما بن عبد البر: ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن داهر وغيرهم أن ماعزا هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟) ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه وعن بريدة قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلقهما وإنما رجمهما عند الرابعة رواه أبو داود

ولأن رجوعه شبهة والحد يدرأ بالشبهات ولأن الإقرار أحد بينتي الحد فيسقط بالرجوع عنه كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد وفارق سائر الحقوق فانها لا تدرأ بالشبهات وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هريه لأنه ليس بصريح في الرجوع (مسألة)(وإن رجم ببينة فهرب لم يترك وإن كان باقرار ترك)

ص: 139

إذا ثبت الحد عليه باقراره فهرب لم يتبع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (هلا تركتموه؟) وإن لم يترك وقتل لم يضمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضمن ماعزا من قتله ولأن هربه ليس بصريح في رجوعه فإن قال ردوني إلى الحاكم وجب رده ولم يجز إتمام الحد فان أتم فلا ضمان على من أتمه لما ذكرنا في هربه وإن رجع عن إقراره وقال كذبت في إقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه فان قتله قاتل بعد ذلك فعليه ضمانه لأنه قد زال إقراره بالرجوع عنه فصار كمن لم يقر ولا قصاص على قاتله لأن العلماء اختلفوا في صحة رجوعه فكان اختلافهم شبهة درئ به القصاص ولأن صحة الرجوع ما يخفى فيكون ذلك عذرا مانعاً من وجوب القصاص فأما إن رجم ببينة فهرب لم يترك لأن زناه ثبت على وجه لا يبطل برجوعه فلم يؤثر فيه هربه كسائر الأحكام والله أعلم (فصل) وإذا اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل استوفي وسقط سائرها إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام: (أحدها) أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان (أحدها) أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود وعطاء والشعبي والنخعي والاوزاعي ومالك وحماد وأبي حنيفة وقال الشافعي تستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصاً ولنا قول ابن مسعود قال سعيد ثنا حسان بن منصور ثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن

ص: 140

عبد الله قال: إذا اجتمع حدان أحدها القتل أحاط القتل بذلك، وقال إبراهيم يكفيه القتل وثنا هشيم انا حجاج عن ابراهيم والشعبي وعطاء أنهم قالوا مثل ذلك، وهذه أقوال انتشرت في عهد الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكان إجماعاً ولأنها حدود لله فيها قتل فسقط ما دونه

كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فانه يكتفى بقتله ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة إلى زجره لأنه لا فائدة فلا يشرع فيه ويفارق القصاص فان فيه غرض التشفي والانتقام ولا يقصد فيه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فانه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص، وإنما أثرت المحاربة تحتمه وحق الآدمي يجب تقديمه (النوع الثاني) أن لا يكون فيها قتل فان كانت من جنس مثل أن زنى أو سرق أو شرب مراراً قبل إقامة الحد عليه أجزأ حد واحد بغير خلاف علمناه.

قال إبن المنذر.

أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم عطاء والزهري ومالك وأبو حنيفة وأحمد واسحاق وأبو يوسف وأبو ثور وهو مذهب الشافعي فان أقيم عليه الحد ثم حدثت منه جناية أخرى ففيها حدها لا نعلم فيه خلافا، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة تزني قبل أن تحيض فقال (اجلدوها إن زنت ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها) ولأن تداخل الحدود إنما يكون مع اجتماعها والحد الثاني وجب بعد سقوط الحد الأول باستيفائه، وان كانت من أجناس استوفيت كلها من غير خلاف

ص: 141

ويبدأ وبالاخف فالأخف فاذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا تم حد للزنا ثم قطع للسرقة وان أخذ المال في المحاربة قطع لذلك ويدخل فيه القطع للسرقة لأن محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن ثم بحد الشرب ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه فإنه منصوص عليه في السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقدير على سبيل الاستحباب ولو بدأ بغيره جاز ووقع الموقع ولا يوالي بين هذه الحدود لأنه ربما أفضى الى تلفه بل متى برأ من حد أقيم عليه الذي يليه (مسألة)(وأما حقوق الآدميين فتستوفى كلها سواء كان فيها قتل أو لم يكن) ويبدأ بغير القتل وهي القصاص وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ بأخفها فيحد للقذف ثم

يقطع ثم يقتل لأنها حقوق لآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم وهذا قول الأوزاعي والشافعي وقال أبو حنيفة يدخل ما دون القتل فيه لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك رواه سعيد في سننه وقياساً على الحدود الخالصة لله تعالى ولنا أن ما دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كديونهم وفارق حق الله تعالى فإنه مبني على المسامحة (مسألة)(فان اجتمعت مع حدود الله بدئ بها)

ص: 142

إذا اجتمعت حدود الله تعالى وحدود الآدميين فهذه ثلاثة أنواع (أحدها) أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وعن مالك إن حد الشرب والقذف يتداحلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم استواءهما فان حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون وإن سلم استواءهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزاني لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الأكثر وفارق القتلين والقطعين فان المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني فهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف لأنه اجتمع فيه معنيان خفته وكونه حقا لآدمي صحيح إلا إذا قلنا حد الشرب أربعون فانه يبدأ به لخفته ثم بحد القذف وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا لأنه لا إتلاف فيه ثم بالقطع هكذا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي يتمحض فإذا بر أحد للقذف إذا قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فاذا برأ حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده (النوع الثاني) ان تجتمع حدود الله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل فان حدود الله تعالى تدخل في القتل سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل في المحاربة أو الردة أو لحق آدمي كالقصاص لما قدمنا.

وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقاً لله تعالى استوفيت

ص: 143

الحقوق كلها متوالية لانه لابد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر باستيفاء الثاني برؤه من الاول لوجهين (أحدهما) أن الموالاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص

فيفوت حق الآدمي (والثاني) أن العفو جائز فتأخيره يحتمل أن يعفو الولي فيحيى بخلاف القتل حقا لله سبحانه (النوع الثالث) أن يتفق الحقان في محل واحد كالقتل والقطع قصاصاً وحداً فأما القتل فان كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا وما هو حق لآدمي كالقصاص قدم القصاص لتأكد حق الآدمي وإن اجتمع القتل في المحاربة والقصاص بدئ بأسبقهما لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضاً فقدم أسبقهما فإن سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني وإن سبق القصاص قتل قصاصاً ولم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب الى الدية وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته لتعذر استيفاء القتل من القاتل ولو كان القصاص سابقا فعفى ولي المقتول استوفي القتل للمحاربة سواء عفى مطلقاً أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي وأما القطع فإذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصاً

ص: 144

وحداً قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه وسواء تقدم سببه أو تأخر، وإن عفا ولي الجناية استوفى الحد فاذا قطع يداً وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصاً وينتظر برؤه فاذا برأ قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في المحاربة حد محض وليس بقصاص والقتل فيهما يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية ولو فات القطع لم يجب له بدل، وإذا ثبت أنه تقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع اليد قصاصاً فان رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى؟ نظرنا فإن كان المقطوع بالقصاص قد كان مستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله كما لو ذهب بعدوان أو مرض، وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعاً سقط القطع عنه بالكلية، وإن كان سبب القطع قصاصاً سابقاً على محاربته أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل ان وجب عليه القصاص في يساره بعد

وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه إن قلنا تقطع ثم قطعت ههنا وإلا فلا، وإن سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لأسبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا

ص: 145

وهل تقطع يسرى يديه للسرقة؟ على الروايتين فإن قلنا تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة لأنهما حدان وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة على وجهين (فصل) وان سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حتماً ولم يصلب ولم تقطع يده لأنهما حدان فيهما قتل فدخل ما دون القتل فيه ولم يصلب لأن الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع القتل ولم يوجد وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه فاذا اجتمعا تداخلا، وإن قتل في المحاربة جماعة قتل بالأول حتما وللباقين ديات أوليائهم لأن قتله استحق بقتل الأول وتحتم بحيث لا يسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات (فصل) ومن قتل أو أتى حداً خارج الحرم ثم لجأ اليه لم يستوف منه فيه ولكن لا يبايع ولا يشارى حتى يخرج فيقام عليه الحد وجملة ذلك أن من قتل خارج الحرم ثم لجأ اليه لم يستوف منه فيه، هذا قول ابن عباس وعطاء وعبيد بن عمير والزهري ومجاهد وإسحاق والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه، وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) لا يستوفى من الملتجئ الى الحرم فيه (والثانية) يستوفى وهذا مذهب أبي حنيفة لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل بقوله

ص: 146

عليه السلام (فلا يسفك فيها دم) وحرمة النفس أعظم فلا يقاس عليها غيرها ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده: والأولى ظاهر المذهب وظاهر قول الخرقي، قال أبو بكر هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على

أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، وقال مالك والشافعي وابن المنذر يستوفى منه لعموم الامر بجلد الزاني وقطع السارق واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارا بجزية ولا دم) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة حديث صحيح ولأنه حيوان ابيح قتله لعصيانه فأشبه الكلب العقور ولنا قول الله تعالى (ومن دخله كان آمنا) يعني الحرم بدليل قوله تعالى (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) والخبر أريد به الأمر لأنه لو أريد الخبر لأفضى إلى وقوع الخبر خلاف المخبر وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد بها شجرة فان أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا ان الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وانما أحلت لي

ص: 147

ساعة من نهار ثم عادت الى حرمتها فلا يسفك فيه دم) متفق عليهما، والحجة فيه من وجهين (أحدهما) أنه حرم سفك الدم بها على الاطلاق وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم تختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيداً (والثاني) قوله (انما حلت لي ساعة من نهار) ثم عادت حرمتها ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة ثم أكد هذا بمنه قياس غيره عليه والاقتداء به بقوله (فان أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا ان الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم) وهذا يدفع ما احتجوا به من قتل ابن خطل فانه من رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منع الناس أن يقتدوا به فيها وبين أنها له على الخصوص وما رووه من الحديث فهو من كلام عمرو بن سعيد الاشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح هذا الحديث وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع، وأما جلد الزاني وقطع السارق والأمر بالقصاص فإنما هو مطلق في الأمكنة والأزمنة فإنه يتناول مكاناً غير معين ضرورة أنه لابد من مكان فيمكن إقامته

في مكان غير الحرم ثم لو كان عاماً فإنما رويناه خاصاً يختص به مع أنه قد خص مما ذكروه الحامل والمريض المرجو برؤه فتأخر الحد عنه وتأخر قتل الحامل فجاز أن يخص أيضاً بما ذكرناه، والقياس على الكلب العقور لا يصح فإن ذلك طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من

ص: 148

المأكولات فان الحرم يعصمها.

إذا ثبت هذا فانه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له اتق الله واخرج إلى الحل يستوفى منك الحق الذي قبلك فاذا خرج استوفي حق الله منه وهذا قول جميع من ذكرناه، وإنما كان كذلك لأنه لو أطعم أو أووي لتمكن من الاقامة دائما فيضيع الحق الذي عليه وإذا منع من ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله تعالى وليس علينا إطعامه كما أن الصيد لا يصاد في الحرم وليس علينا القيام به، قال ابن عباس رحمه الله من أصاب حداً فلجأ إلى الحرم فإنه لا يجالس ولا يبايع ولا يؤوى ويأتيه الذي يطلبه فيقول أي فلان اتق الله فاذا خرج من الحرم أقيم عليه الحد، رواه الأثرم، فان قتل من له عليه قصاص في الحرم أو أقام حد الجلد أو قتل أو قطع طرفا أساء ولا شئ عليه لأنه استوفى حقه في حال لم يكن له استيفاؤه فيه فأشبه مالو اقتص في حر شديد أو برد مفرط.

(مسألة)(فان فعل ذلك في الحرم استوفي منه فيه) وجملة ذلك أن من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حداً أو قصاصاً فانه يقام عليه حدها لا نعلم فيه خلافا، وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس أنه قال من أحدث حدثاً في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شئ وقد أمر الله تعالى بقتال من قاتل في الحرم فقال تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم، ولأن

ص: 149

أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظاً لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الحد في الحرم لتعطلت حدود الله تعالى في حقهم وفاتت

هذه المصالح التي لابد منها ولا يجوز الإخلال بها، ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا تنتهض الحرمة لتحريم دمه وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجئ إليها لجناية صدرت منه في غيرها.

(فصل) فأما حرم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمنع إقامة حد ولا قصاص، لأن النص إنما ورد في حرم الله تعالى، وحرم المدينة دونه في الحرمة فلا يصح قياسه عليه وكذلك سائر البقاع لا تمنع من استيفاء حق ولا إقامة حد، لأن أمر الله تعالى باستيفاء الحقوق وإقامة الحد مطلق في الأمكنة والأزمنة خرج منها الحرم لمعنى لا يلفى في غيره لأنه محل الانساك وقبلة المسلمين وفيه بيت الله المحجوج وأول بيت وضع للناس ومقام ابراهيم وآيات بينات فلا يلحق به سواه ولا يقاس عليه لأنه ليس في معناه والله سبحانه أعلم.

(مسألة)(وان أتى حدا في الغزو لم يستوف منه في أرض العدو حتى يرجع إلى دار الإسلام فيقام عليه) وجملة ذلك أن من أتى حداً من الغزاة أو ما يوجب قصاصاً في أرض الحرب لم يقم عليه حتى

ص: 150

يقفل فيقام عليه حده وبهذا قال الأوزاعي واسحاق وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يقام الحد في كل موضع، لأن أمر الله تعالى باقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال إذا لم يكن أمير الجيش الإمام أو أمير اقليم ليس له إقامته يؤخر حتى يأتي الامام لأن إقامة الحدود إليه وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود أو قوة به أو شغل عنه أخر وقال أبو حنيفة لاحد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع ولنا على وجوب الحد أمر الله تعالى ورسوله به وعلى تأخيره ماروى بسر بن أبي أرطأة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق جنيبة فقال لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تقطع الأيدي في الغزاة) قطعتك أخرجه أبو داود وغيره، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا

رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار

ص: 151

وعن أبي الدرداء، مثل ذلك وعن علقمة قال كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا والوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة اتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟ وأني سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن.

كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا وقال لابنة حفصة امرأة سعد أطلقيني ولك الله على إن سلمني الله أن ارجع حتى أضع رجلي في القيد وإن قتلت استرحتم مني، قال فحلته حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس قال وصعدوا به فوق العذيب ينظر الى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحاً فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول الصبر صبر البلقاء والطعن طعن

ص: 152

أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد فأخبرت ابنة حصفة سعداً بما كان من أمره فقال سعد لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم فخلى سبيله، فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ تقام علي الحد وأطهر منها فأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها ابداً.

وهذا اتفاق لم يظهر خلافه فأما إذا رجع فإنه يقام عليه الحد لعموم الآيات والأخبار وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو شغل فاذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه وانتفاء معارضه ولهذا قال عمر حتى يقطع الدرب قافلا (فصل) وتقام الحدود في الثغور بغير خلاف نعلمه لأنها من بلاد الاسلام والحاجة داعية إلى زجر أهلها كالحاجة إلى زجر غيرهم، وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة أن يجلد من شرب الخمر ثمانين وهو بالشام وهو من الثغور.

باب حد الزنا الزنا حرام وهو من الكبائر العظام بدليل قوله تعالى (ولا تقربو الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) وقال تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) وعن عبد الله بن مسعود

ص: 153

قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب؟ أعظم قال (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) قال قلت ثم أي قال (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) قال قلت ثم أي قال (أن تزاني حليلة جارك) متفق عليه وكان حد الزاني في صدر الاسلام الحبس في البيت والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر لقوله سبحانه (واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) قال بعض أهل العلم المراد بقوله من نسائكم الثيب لأن قوله من نسائكم إضافة الى زوجية كقوله (للذين يؤلون من نسائهم) ولا فائدة في اضافته ههنا نعلمها إلا إعتبار الثيوبة ولأنه قد ذكر عقوبتين (إحداهما) أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والأخرى للبكر كالرجم والجلد ثم نسخ هذا بما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه مسلم فإن قيل فكيف ينسخ القرآن بالسنة؟ قلنا قد ذهب أصحابنا إلى جوازه لأن الكل من عند الله وإن اختلفت طريقه ومن منع ذلك قال ليس هذا نسخاً إنما هو تفسير للقرآن وتبيين له لأن النسخ رفع حكم ظاهره الاطلاق

ص: 154

فأما ما كان مشروطاً بشرط وزال الشرط لا يكون نسخاً وههنا شرط الله سبحانه حبسهن إلى أن يجعل الله لهن سبيلا فبينت السنة السبيل فكان بيانا لا نسخا ويمكن أن يقال ان نسخه حصل بالقرآن فان الجلد كان في كتاب الله تعالى والرجم كان فيه فنسخ رسمه وبقي حكمه

(مسألة)(إذا زنى الحر المحصن فحده الرجم حتى يموت وهل يجلد قبل الرجم؟ على روايتين) الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة هذا قول عامة أعمل العلم من الصحابة والتابعين من بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم احدا خالف فيه إلا الخوارج فانهم قالوا الجلد للبكر والثيب لقول الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وقال لا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بالقطع واليقين لأخبار آحاد يجوز الكذب فيها ولأن هذا يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة وهو غير جائز ولنا أنه قد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله في أخبار تشبه المتواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما نذكره في أثناء الباب في موضعه إن شاء الله تعالى قد أنزله الله تعالى في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال

ص: 155

والنساء إذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأتها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) متفق عليه وأما آية الجلد فنقول بها فان الزاني يجب جلده فان كان ثيباً رجم مع الجلد والآية لم تتعرض إلى كيفية والى هذا أشار علي رضي الله عنه حين جلد ثم رجمها جلدتها بكتاب الله ثم رجمتها بسنة رسول الله ثم لو قلنا ان الثيب لا تجلد لكان هذا شراحة تخصيصاً للآية العامة وهذا سائغ بغير خلاف فإن عمومات القرآن في الاثبات كلها مخصصة وقولهم ان هذ نسخ ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ثم لو كان نسخاً لكان نسخاً بالآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه وقد روينا أن رسل الخوارج جاءوا عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم وقالوا ليس في كتاب الله إلا الجلد وقالوا الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون الصلاة والصلاة أوكد فقال لهم عمر وأنتم لا تأخذون إلا بما في كتاب الله؟ قالوا نعم قال فأخبروني عن عدد

الصلوات المفروضات وعدد ركعاتها وأركنها وواجباتها أين تجدونه في كتاب الله؟ وأخبروني عما تجب الزكاة فيه ونصبها ومقاديرها؟ قالوا أنظرنا فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئاً مما سألهم عنه في القرآن فقالوا لم نجده في القرآن قال فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وفعله المسلمون بعده فقال لهم فكذلك الرجم وقضاء الصوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ورجم خلفاؤه بعده والمسلمون وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصوم دون الصلاة وفعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه.

إذا ثبت هذا فمعنى

ص: 156

الرجم أن يرمى بالحجارة وغيرها حتى يموت بذلك قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن المرجوم يداوم عليه الرجم حتى يموت ولأن اطلاق الرجم يقتضي القتل به لقوله تعالى (لتكونن من المرجومين) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين للذين زنيا وماعزا والغامدية حتى ماتوا (الفصل الثاني) أنه يجلد ثم يرجم في إحدى الروايتين فعل ذلك علي رضي الله عنه وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر رضي الله عنهم واختاره وذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز عنهم وبه قال الحسن وداود وابن المنذر (والرواية الثانية) يرجم ولا يجلد روي عن عمر وعثمان انهما رجما ولم يجلدا وروي عن ابن مسعود أنه قال إذا اجتمع حدان لله فيهما القتل أحاط القتل بذلك وبهذا قال النخعي والزهري والاوزاعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي واختاره الجوزجاني والاثرم ونصراه في سننهما لأن جابراً روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها وقال (واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) متفق عليه ولم يأمره بجلدها وكان هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب تقديمه، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة أنه اول حديث نزل وأن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلده وعمر رجم ولم يجلد ونقل عنه اسماعيل بن سعيد نحو هذا ولأنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد كالردة ولأن الحدود إذا اجتمعت

ص: 157

وفيها قتل سقط ما سواه فالحد الواحد أولى ووجه الرواية الأولى قوله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر

فوجب الجمع بينهما وإلى هذا أشار علي بقوله جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث عبادة (والثيب بالثيب الجلد والرجم) وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح بدليل أن التغريب يجب بذكره في هذا الحديث وليس بمذكور في الآية ولأنه زان فيجلد كالبكر ولأنه قد شرع في حق البكر عقوبتان الجلد والتغريب فيكون الجلد في مكان التغريب فعلى هذه الرواية يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم فإن والى بينهما جاز لأن إتلافه مقصود فلا تضر الموالاة بينهما وإن جلده يوماً ثم رجمه في آخر جاز كما فعل علي رضي الله عنه جلد شراحة يوم الخميس ثم رجمها يوم الجمعة (الفصل الثالث) إن الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم وفي حديث عمران (الرجم حق على من زنى وقد احصن) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث) ذكر منها (أو زنا بعد إحصان)(مسألة)(والمحصن من وطئ امرأته في قبلها في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران فان اختل شرط منها فلا إحصان لواحد منهما) يشترط للاحصان شروط سبعة (احدها) الوطئ في القبل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (والثيب بالثيب الجلد والرجم) والثيابة تحصل بالوطئ في القبل فوجب اعتباره ولا خلاف في أن النكاح

ص: 158

الخالي عن الوطئ لا يحصل به إحصان سواء حصلت فيه خلوة أو وطئ فيما دون الفرج أو في الدبر أو لم يحصل شئ من ذلك لأن هذا لا تصير به المرأة ثيباً ولا تخرج به عن حد الابكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام بمقتضى الخبر ولابد أن يكون وطأ حصل به تغييب الحشفة في الفرج لأن ذلك الوطء الذي تتعلق به أحكامه (الثاني) أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى إحصاناً بدليل قوله تعالى (والمحصنات من النساء) يعني المتزوجات ولا خلاف بين أهل العلم في ان وطئ الزنا ووطئ الشبهة لا يصير به الواطئ محصناً ولا نعلم خلافاً في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه.

(الثالث) أن يكون النكاح صحيحاً وهو قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابو ثور يحصل الاحصان بالوطئ في نكاح فاسد، وحكي ذلك عن الليث والاوزاعي لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الاحكام من وجوب المهر والعدة وتحريم الربيبة وأم المرأة ولحاق الولد فكذلك الإحصان ولنا أنه وطئ في غير ملك فلم يحصل به الإحصان كوطئ الشبهة ولا نسلم ثبوت ما ذكروه من الأحكام وإنما ثبت بالوطئ فيه وهذه ثبتت في كل وطئ وليست مختصة النكاح إلا أن النكاح ههنا صار شبهة فصار الوطئ فيه كوطئ الشبهة سواء

ص: 159

(الرابع) الحرية وهي شرط في قول جميع أهل العلم الا ابا ثور قال: العبد والأمة هما محصنان يرجمان إذا زنيا إلا أن يكون الإجماع يخالف ذلك، وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة هو محصن يرجم إذا زنى، وإن كان تحته أمة لم يرجم وهذه أقوال تخالف النص والإجماع فإن الله تعالى قال (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) والرجم لا يتنصف وإيجابه كله يخالف النص مع مخالفة الاجماع المنعقد قبله إلا أن يكون إذا عتقا بعد الاصابة فهذا فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله، وقد وافق الأوزاعي على أن العبد إذا وطئ الأمة ثم عتقا لم يصيرا محصنين وهو قول الجمهور وزاد فقال في المملوكين: إذا عتقا وهما متزوجان ثم وطئها الزوج لا يصيران محصنين بذلك، وهذا أيضاً قول شاذ خالف أهل العلم به فان الوطئ وجد منهما حال كمالهما فحصنهما كالصبيين إذا بلغا (الشرط الخامس والسادس) البلوغ والعقل فلو وطئ وهو صبي أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصناً.

هذا قول أكثر أهل العلم وقول الشافعي ومن أصحابه من قال يكون محصناً وكذلك العبد إذا وطئ ثم عتق يصير محصناً لأن هذا وطئ يحصل به الإحلال للمطلق ثلاثاً فحصل به الإحصان كالموجود حال الكمال ولنا قوله عليه السلام (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) فاعتبر الثيوبة خاصة، ولو كانت

تحصل قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله وهو خلاف الاجماع، ويفارق الإحصان

ص: 160

الإحلال لأن اعتبار الوطئ في حق المطلق يحتمل أن يكون عقوبة له بتحريمها عليه حتى يطأها غيره لأن هذا مما تأباه الطباع ويشق على النفوس فاعتبره الشارع زجراً عن الطلاق الثلاث، وهذا يستوي فيه العاقل والمجنون بخلاف الإحصان فانه اعتبر لكمال النعمة فإن من كملت النعمة في حقه كانت جنايته أفحش وأحق بزيادة العقوبة والنعمة في العاقل البالغ أكمل (الشرط السابع) أن يوجد الكمال فيهما جمعا (جميعا) حال الوطئ فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ونحوه قول عطاء والحسن وابن سيرين والنخعي وقتادة والثوري واسحاق قالوه في الرقيق، وقال مالك: إذا كان أحدهما كاملا صار محصناً إلا الصبي إذا وطئ الكبيرة لم يحصنها، ونحوه عن الأوزاعي، واختلف عن الشافعي فقيل له قولان (أحدهما) كقولنا (والثاني) الكامل يصير محصناً وهو قول ابن المنذر، وذكر ابن أبي موسى نحو ذلك في الارشاد فقال: إذا وطئ الحر البالغ حرة صغيرة في نكاح صحيح صار محصناً دونها وإذا وطئ الصبي الحر الصغير الكبيرة صارت محصنة دونه كما أنه لا يجب على الصغير الحد ويجب على الكبير ولنا أنه وطئ لم يحصن أحد المتواطئين فلم يحصن الآخر كالتسري ولأنه متى كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطئ فلا يحصل به الإحصان كما لو كانا غير كاملين وبهذا فارق ما قاسوا عليه (مسألة)(ويثبت الاحسان للذميين وهل تحصن الذمية مسلماً؟ على روايتين)

ص: 161

لا يشترط الإسلام في الإحصان، وبه قال الزهري والشافعي فعلى هذا يكون الذميان محصنين فان تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين وفيه رواية أخرى أن الذمية لا تحصن المسلم، وقال عطاء والنخعي والشعبي ومجاهد والثوري هو شرط في الإحصان فلا يكون الكافر محصناً ولا تحصن الذمية مسلماً لأن ابن عمر روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أشرك بالله فليس بمحصن) ولأنه إحصان من شروطه الحرية فكان الاسلام شرطاً فيه كاحصان القذف وقال مالك كقولهم إلا أن

الذمية تحصن المسلم بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين وينبغي أن يكون ذلك قولا للشافعي ولنا ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا وامرأة زنيا وذكر الحديث فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما متفق عليه ولأن الجناية بالزنا استوت من المسلم والذمي فيجب أن يستويا في الحد، وحديثهم لم يصح ولا نعرفه في مسند وقيل هو موقوف على ابن عمر ثم يتعين حمله على إحصان القذف جمعاً بين الحديثين فان راويهما واحد وحديثنا صريح في الرجم فيتعين حمل خبرهم على الاحصان الآخر فإن قالوا إنما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين بحكم التوراة بدليل أنه راجعها فلما تبين له أن ذلك حكم الله تعالى عليهم اقامه فيهم وفيها أنزل الله سبحانه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا

ص: 162

للذين هادوا) قلنا إنما حكم عليهم بما أنزل الله عزوجل إليه بدليل قوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) ولأنه لا يسوغ للنبي صلى الله عليه وسلم الحكم بغير شريعته ولو ساغ ذلك له ساغ لغيره وإنما راجع التوراة لتعريفهم أن حكم التوراة موافق لما يحكم به عليهم وأنهم تاركون شريعتهم مخالفون لحكمهم ثم هذا حجة لنا فان حكم الله في وجوب الرجم إن كان ثابتاً في حقهم يجب أن يحكم به عليهم فقد ثبت وجود الاحصان فيهم فانه لا معنى له سوى وجوب الرجم على من زنى منهم بعد وجود شروط الاحصان فيه وإن منعوا ثبوت الحكم في حقهم فلم حكم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولا يصح القياس على إحصان القذف لأن من شرطه العفة وليست شرطاً ههنا (مسألة)(وإن كان لرجل ولد من امرأة فقال ما وطئتها لم يثبت إحصانه ولا يرجم إذا زنى) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يرجم لأن الولد لا يكون إلا من وطئ فقد حكم بالوطئ ضرورة الحكم بالولد.

ولنا أن الولد يلحق بامكان الوطئ واحتماله والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطئ فلا يلزم من ثبوت ما يكتفى فيه بالامكان وجود ما يعتبر فيه الحقيقة وهو أحق الناس بهذا فانه قال لو

تزوج امرأة بحضرة الحاكم في مجلسه ثم طلقها فيه فأتت بولد لحقه مع العلم بأنه لم يطأها في الزوجية

ص: 163

فكيف يحكم بحقيقة الوطئ مع تحقق انتفائه؟ وهكذا لو كان لامرأة ولد من زوج فأنكرت أن يكون وطئها لم يثبت إحصانها لذلك (فصل) ولو شهدت بينة الاحصان أنه دخل بزوجته فقال أصحابنا يثبت الاحصان به لأن المفهوم من لفظ الدخول كالمفهوم من لفظ المجامعة (وقول) محمد بن الحسن لا يكتفى به حتى تقول جامعها أو باضعها أو نحوها لأن الدخول يطلق على الخلوة بها ولهذا تثبت بها أحكامه قال شيخنا وهذا أصح القولين إن شاء الله تعالى، أما إذا قالت جامعها أو باضعها أو نحوه فلا نعلم خلافاً في ثبوت الاحصان وكذلك ينبغي إذا قالت وطئها وان قالت باشرها أو مسها أو أصابها أو أتاها فينبغي أن لا يثبت به الاحصان لأن هذا يستعمل فيما دون الجماع في الفرج كثيراً فلا يثبت به الإحصان الذي يندرئ بالاحتمال (فصل) وإذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصناً رجم لما روى جابر أن رجلا زنى بامرأة فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم به فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فرجم رواه أبو داود، ولأنه إن وجب الجمع بينهما فقد أتى ببعض الواجب فيجب إتمامه وإن لم يجب الجمع بينهما تبين أنه لم يأت بالحد الواجب (فصل) وإذا رجم الزانيان غسلا وصلي عليهما ودفنا إذا كانا مسلمين، أما غسلهما ودفنهما فلا خلاف فيه بين أهل العلم، وأكثر أهل العلم يرون الصلاة عليهما قال الامام أحمد سئل علي عن شراحة وكان رجمها فقال اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم وصلى علي عليها وقال مالك من قتله الامام في حد فلا

ص: 164

يصلي عليه لأن جابرا قال في حديث ماعز فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ولم يصل عليه متفق عليه، ووجه الاول ماروى أبو داود بإسناده عن عمران بن الحصين في حديث الجهنية فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها فقال عمر يارسول الله تصلي عليها وقد زنت؟ فقال والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت افضل من أن جادت بنفسها؟) ورواه الترمذي وفيه فرجمت وصلي عليها وقال حديث حسن صحيح وقال النبي صلى الله عليه وسلم

(صلوا على من قال لا إله إلا الله) ولأنه مسلم لو مات قبل الحد صلي عليه فصلي عليه بعده كالسارق وأما حديث ماعز فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره أو اشتغل عنه بأمر أو غير ذلك فلا يعارض مارويناه (مسألة)(وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة وغرب عاما إلى مسافة القصر وان كان ثيبا) ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصناً وقد جاء بيان ذلك في كتاب الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وجاءت لاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء به الكتاب، ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول الجمهور روى ذلك عن الخلفاء الراشدين وعن أبي وأبي ذر وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وإليه ذهب عطاء وطاوس وابن أبي ليلى والشافعي واسحاق وأبو ثور، وقال مالك والاوزاعي يغرب الرجل دون المرأة لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم: لا يجوز بغير محرم لقول رسول الله

ص: 165

صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم) ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتضييع لها وإن غربت بمحرم أفضى الى تغريب من ليس بزان ونفي من لاذنب له وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به كما لو زاد ذلك على الرجل، والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم والعام يجوز تخصيصه لأنه يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه فانه دل بمفهومه على أنه ليس على الزاني أكثر من العقوبة المذكورة فيه وإيجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك وفوات حكمه لأن الحد وجب زجراً عن الزيادة وفي تغريبها إغراء به وتمكين منه مع أنه قد يخصص في حق الثيب باسقاط الجلد في قول الأكثرين فتخصيصه ههنا أولى قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يجب التغريب لأن علياً رضي الله عنه قال حسبهما من الفتنة أن ينفيا وعن ابن المسيب أن عمر غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخر الى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب مسلما بعد هذا ابداً ولأن الله تعالى أمر بالجلد دون التغريب فايجاب التغريب زيادة على النص ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) وروى ابو هريرة وزيد بن

خالد أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته وانني افتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب

ص: 166

عام والرجم على امرأة هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: على ابنك جلد مائة وتغريب عام) وجلد ابنه وغربه عاماً وأمر أنيسا الاسلمي يأتي امرأة الآخر فان اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها متفق عليه وفي الحديث فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، وهذا يدل على أن هذا كان مشهوراً عندهم من حكم الله وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قيل إن الذي قال لهم هذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولأن التغريب فعله الخلفاء الراشدون ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف فكان أجماعاً، ولأن الخبر يدل على عقوبتين في حق الثيب فكذلك في حق البكر وما رووه عن علي لا يثبت لضعف روايه وإرساله وقول عمر لا أغرب بعده مسلماً فلعله أراد تغريبه في الخمر الذي أصابت الفتنة ربيعة فيه.

قال شيخنا وقول مالك يخالف عموم الخبر والقياس لان ماكان حداً في الرجل يكون حداً في المرأة كسائر الحدود، وقال مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم، والقياس على سائر الحدود لا يصح لأنه يستوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا الحد ويمكن قلب هذا القياس بأنه حد فلا تزاد فيه المرأة على ما على الرجل كسائر الحدود (فصل) ويغرب البكر الزاني حولاً فان عاد قبل مضي الحول أعيد تغريبه حتى يكمل الحول مسافرا ويبني على ما مضى، ويغرب الرجل إلى مسافة القصر لأن ما دونها في حكم الحضر بدليل أنه لا يثبت في حقه أحكام المسافرين ولا يستبيح شيئا من رخصهم

ص: 167

(مسألة)(وعنه أن المرأة تنفى إلى دون مسافة القصر) وقيل عنه إن خرج معها محرمها نفيت إلى مسافة القصر وإن لم يخرج معها محرمها فنقل عن أحمد أن المرأة تغرب إلى مسافة القصر كالرجل وهذا مذهب الشافعي وروي عنه أنها تغرب الى دون

مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظوها، ويحتمل كلام أحمد أن لا يشترط في التغريب مسافة القصر فيهما فإنه قال في رواية الأثرم ينفى من عمله إلى عمل غيره وقال أبو ثور وابن المنذر لو نفي من قرية إلى قرية اخرى بينهما ميل أو أقل جاز وقال إسحاق يجوز من مصر الى مصر ونحوه قال ابن أبي ليلى لأن النفي ورد مطلقا غير مقدر فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، والقصر يسمى سفراً تجوز فيه صلاة النافلة على الراحة ولا يحبس في البلد الذي نفي إليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك يحبس ولنا أنها زيادة لم يرد بها الشرع فلم تشرع كالزيادة على العام (فصل) وإن زنى الغريب غرب إلى بلد غير وطنه وإن زنى في البلد الذي غرب إليه غرب منه إلى غير البلد الذي غرب منه لأن الأمر بالتغريب حيث كان لأنه قد أنس بالبلد الذي يسكنه (فيبعد) عنه (مسألة)(ويخرج مع المرأة محرمها ليسكنها في موضع ثم إن شاء رجع إذا أمن عليها وإن شاء أقام معها حتى يكمل حولها، وإن أبى الخروج معها بذلت له الاجرة) قال أصحابنا: وتبذل من مالها لأن هذا من مؤونة سفرها ويحتمل أن لا يجب ذلك عليها لأن الواجب عليها التغريب بنفسها فلم يلزمها زيادة عليه كالرجل ولأن هذا من مؤونة إقامة الحد فلم يلزمها كأجرة الجلاد.

فعلى هذا تبذل الاجرة من بيت المال وعلى قول اصحابنا إن لم يكن لها مال بذلت

ص: 168

من بيت المال فان أبى محرمها الخروج معها لم يجبر، وإن لم يكن لها محرم غربت مع نساء ثقات والقول في أجرة من يسافر معها منهن كالقول في أجرة المحرم فان اعوز فقال أحمد تنفى بغير محرم وهو قول الشافعي لأنه لا سبيل إلى تأخيره فأشبه سفر الهجرة والحج إذا مات المحرم في الطريق، ويحتمل أن يسقط النفي إذا لم تجد محرما كما يسقط سفر الحج إذا لم يكن لها محرم فان تغريبها على هذه الحال إغراء لها بالفجور وتعريض لها للفتنة وعموم الحديث مخصوص بعوم النهي عن سفرها بغير محرم (فصل) ويجب أن يحضر الحد طائفة من المؤمنين لقول الله تعالى (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قال اصحابنا: والطائفة واحد فما فوقه وهذا قول ابن عباس ومجاهد، والظاهر أنهم أرادوا واحدا مع الذي يقيم الحد لأن الذي يقيم الحد حاصل ضرورة فيتعين صرف الأمر إلى غيره، وقال عطاء

واسحاق اثنان فان اراد به واحداً مع الذي يقيم الحد فهو كالقول الأول وإن أراد اثنين غيره فوجهه أن الطائفة اسم لما زاد على الواحد وأقله اثنان، وقال الزهري ثلاثة لأن الطائفة جماعة وأقل الجمع ثلاثة، وقال مالك أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا وللشافعي قولان كقولي الزهري ومالك، وقال ربيعة خمسة وقال الحسن عشرة وقال قتادة نفر واحتج اصحابنا بقول ابن عباس فان اسم الطائفة يقع على الواحد بدليل قول الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا - ثم قال - فأصلحوا بين أخويكم) وقيل في قوله تعالى (إن نعف عن طائفة منكم) إنه محش بن حمير وحده ولا يجب

ص: 169

أن يحضر الامام ولا الشهود وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة إن ثبت الحد ببينة فعليها الحضور والبداءة بالرجم، وإن ثبت باعتراف وجب على الامام الحضور والبداءة بالرجم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الرجم رجمان فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الامام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس رواه سعيد باسناده ولأنه إذا لم يحضر البينة ولا الإمام كان في ذلك شبهة والحد يسقط بالشبهات ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضرهما والحد ثبت باعترافهما وقال (يا أنيس اذهب إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) ولم يحضرها ولأنه حد فلم يلزم أن يحضره الامام ولا البينة كسائر الحدود ولا نسلم أن تخلفهم عن الحضور ولا امتناعهم من البداءة بالرجم شبهة، وأما قول علي رضي الله عنه فهو على سبيل الاستحباب والفضيلة قال أحمد: سنة الاعتراف أن يرجم الامام ثم الناس ولا نعلم خلافاً في استحباب ذلك والأصل فيه قول علي، وقد روي في حديث رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم امرأة فحفر لها الى الثندوة ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال (ارموا واتقوا الوجه) رواه أبو داود (مسألة)(وإن كان الزاني رقيقاً فحده خمسون جلدة بكل حال ولا يغرب) حد العبد والامة خمسون جلدة بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر العلماء منهم

ص: 170

عمر وعلي وابن مسعود والحسن والنخعي ومالك والاوزاعي وابو حنيفة والشافعي والبتي والعنبري وقال ابن عباس وابو عبيد إن كانا مزوجين فعليهما نصف الحد ولا حد على غيرهما لقول الله تعالى (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فيدل بخطابه على أنه لا حد على غير المحصنات، وقال داود، على الأمة نصف الحد إذا زنت بعد ما زوجت، وعلى العبد جلد مائة بكل حال وفي الأمة إذا لم تتزوج روايتان (إحداهما) لا حد عليها (والأخرى) تجلد مائة لأن قول الله تعالى (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) عام خرجت منه الأمة المحصنة بقوله (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فيبقى العبد والأمة التي لم تحصن على مقتضى العموم، ويحتمل دليل الأمر في الخطاب أن لا حد عليها كقول ابن عباس وقال أبو ثور: إذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما نصف الحد، وإن أحصنا فعليهما الرجم لعموم الأخبار فيه ولأنه حد لا يتبعض فوجب تكميله كالقطع في السرقة ولنا ما روى ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله وزيد بن خالد قالوا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال (إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير) متفق عليه قال ابن شهاب: وهذا نص في جلد الأمة إذا لم تحصن وهو حجة على ابن عباس وموافقيه وداود وجعل داود عليها مائة إذا لم تحصن وخمسين إذا كانت محصنة خلاف

ص: 171

ما شرع الله تعالى فإن الله تعالى ضاعف عقوبة المحصنة على غيرها فجعل الرجم على المحصنة والجلد على الكبر وداود ضاعف عقوبة البكر على المحصنة واتباع شرع الله تعالى أولى، وأما دليل الخطاب فقد روي عن ابن مسعود أنه قال إحصانها اسلامها وقرأها بفتح الالف ثم دليل الخطاب إنما يكون دليلاً إذا لم تكن (للتخصيص) بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم، ومتى كانت له فائدة أخرى لم يكن دليلا مثل أن يخرج مخرج الغالب أو للتنبيه أو لمعنى من المعاني ولهذا قال الله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم) ولم يختص التحريم باللائي في حجورهم وقال (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) وحرم حلائل الابناء من الرضاع وأبناء الابناء وقال (ليس عليكم أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم

الذين كفروا) وأبيح القصر بدون الخوف، وأما العبد فلا فرق بينه وبين الأمة فالتنصيص على أحدهما يثبت حكمه في حق الآخر كما أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد ثبت حكمه في حق الامة) ثم المنطوق أولى منه على كل حال، وأما أبو ثور فخالف نص قوله تعالى (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وعمل به فيما لم يتناوله النص وخرق الاجماع في إيجاب الرجم على المحصنات كما خرق داود الاجماع في تكميل الجلد على العبد وتضعيف حد الابكار على المحصنات (فصل) ولا تغريب على عبد ولا أمة وبهذا قال الحسن وحماد ومالك واسحاق وقال الثوري

ص: 172

وابو ثور يغرب نصف عام لقوله تعالى (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وجلد بن عمر مملوكا ونفاه إلى فدك، وعن الشافعي قولان، واحتج من أوجبه بعموم قوله عليه السلام (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ولنا الحديث المذكور في حجتنا ولم يذكر فيه تغريباً ولو كان واجباً لذكره لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وحديث علي رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس أقيموا على ارقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فذكر الحديث رواه أبو داود ولم يذكر أنه غربها وأما الآية فانها حجة لنا فان العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير فينصرف التنصيف إليه دون غيره بدليل أنه لم ينصرف إلى تنصيف الرجم ولأن التغريب في حق العبد عقوبة لسيده دونه فلم يجب في الزنا كالتغريم ثم بيان ذلك أن العبد لا ضرر عليه في تغريبه لأنه غريب في موضعه ويترفه بتغريبه من الخدمة ويتضرر سيده بتفويت خدمته والخطر بخروجه من تحت يده والكلفة في حفظه والإنفاق عليه مع بعده عنه فيصير الحد مشروعاً في حق غير الزاني والضرر على غير الجاني وما فعل ابن عمر ففي حق نفسه وإسقاط حقه وله فعل ذلك من غير زنا ولا جناية فلا يكون حجة في حق غيره (فصل) إذا زنى العبد ثم عتق فعليه حد الرقيق لأنه إنما يقام عليه الحد الذي وجب عليه ولو زنى

ص: 173

حر ذمي ثم لحق بدار الحرب ثم سبي فاسترق حد حد الاحرار لأنه وجب عليه وهو حر، ولو كان أحد الزانيين رقيقا والآخر حراً فعلى كل واحد منهما حده لأن كل واحد منهما إنما تلزمه عقوبة جنايته، ولو زنى بعد العتق وقبل العلم به فعليه حد الاحرار لأنه زنى وهو حر وإن أقيم عليه حد الرقيق قبل العلم بحريته ثم علمت بعد تمم عليه حد الأحرار وإن عفى السيد عن عبده لم يسقط عنه الحد في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فإنه قال يصح عفوه وليس بصحيح لأنه حق لله تعالى فلا يسقط باسقاط سيده كالعبادات وكالحر إذا عفا عنه الامام (فصل) فان فجر بأمة ثم قتلها فعليه الحد وقيمتها وبهذا قال الشافعي وابو حنيفة وأبو ثور وقال أبو يوسف إذا وجبت عليه قيمتها أسقطت الحد عنه لأنه يملكها بغرامته إياها فيكون ذلك شبهة في سقوط الحد ولنا أن الحد وجب عليه فلم يسقط بقتل المزني بها كما لو كانت حرة فغرم ديتها وقوله إنه يملكها غير صحيح لأنه إنما غرمها بعد قتلها ولم يبق محلا للملك ثم لو ثبت أنه ملكها فإنما ملكها بعد وجوب الحد فلم يسقط عنه كما لو اشتراها (مسألة)(وإن كان نصفه حرا فحده خمس وسبعون جلدة ويغرب نصف عام ويحتمل أن لا يغرب أما الرجم فلا يجب عليه وإن كان محصناً) لأن الحرية لم تكمل فيه وعليه نصف حد الحر خمسون جلدة ونصف حد العبد خمس وعشرون

ص: 174

فيكون عليه خمس وسبعون جلدة ويغرب نصف عام نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يغرب لأن حق السيد في جميعه في كل الزمان ونصيبه من العبد لا تغريب عليه فلا يلزمه ترك حقه في بعض الزمان بما لا يلزمه ولا تأخير حقه بالمهايأة من غير رضاه، وإن قلنا بوجوب تغريبه فينبغي أن يكون زمن التغريب محسوباً على العبد من نصيبه الحر وللسيد نصف عام بدلا عنه وما زاد عن الحرية أو نقص عنها فبحساب ذلك، فإن كان فيها كسر مثل أن يكون ثلثه حرا فيلزم بمقتضى ما ذكرنا أن يلزمه ثلثا حد الحر وهو ست وستون جلدة وثلثان فينبغي أن يسقط

الكسر لأن الحد متى دار بين الوجوب والإسقاط سقط، والمدبر والمكاتب وأم الولد بمنزلة القن في الحد لأنه رقيق كله وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم)(مسألة)(وحد اللوطي كحد الزاني سواء وعنه حده الرجم بكل حال) أجمع أهل العلم على تحريم اللواط وقد ذمه الله تعالى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط) واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في حده فروي عنه أن حده الرجم بكراً كان أو ثيباً وهذا قول علي وابن عباس وجابر بن زيد وعبيد الله ابن معمر والزهري وأبى حبيب وربيعة ومالك وإسحاق وأحد قولي الشافعي (والرواية الثانية)

ص: 175

أن حده حد الزنا وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والنخعي وقتادة والاوزاعي وأبو يوسف ومحمد ابن الحسن وهو المشهور من قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان) ولأنه ايلاج في فرج آدمي لا ملك له فيه ولا شبهة ملك فكان زنا كالايلاج في فرج المرأة.

إذا ثبت كونه زنا دخل في عموم الآية والأخبار فيه لأنه فاحشة فكان زنا كالفاحشة بين الرجل والمرأة وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق اللوطي وهو قول ابن الزبير لما روى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فكتب إلى أبي بكر فاستشار أبو بكر الصحابة فيه فكان علي أشدهم قولا فيه فقال ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل الله بها أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر الى خالد فحرقه وقال الحكم وأبو حنيفة لا حد عليه لأنه ليس بمحل للوطئ أشبه غير الفرج ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أبو داود وفي لفظ فارجموا الأعلى والأسفل ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فانهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته واحتج أحمد بعلي رضي الله عنه انه كان يرى رجمه ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم

فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم وقول من أسقط الحد عنه يخالف النص والاجماع وقياس الفرج على غيره لا يصح لما بينهما من الفرق.

إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكون في مملوك له

ص: 176

أو أجنبي لأن الذكر ليس بمحل لوطئ الذكر فلا يؤثر ملكه له، ولو وطئ زوجته أو مملوكته في دبرها كان محرماً ولا حد فيه لأن المرأة محل للوطئ في الجملة وقد ذهب بعض العلماء إلى حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد بخلاف التلوط (مسألة)(ومن أتى بهيمة فحده حد اللوطي عند القاضي واختار الخرقي وأبو بكر أنه يعزر وتقتل البهيمة) اختلفت الرواية عن احمد في الذي يأتي البهيمة فروي عنه أنه يعزر ولا حد عليه اختاره الخرقي وأبو بكر وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء والشعبي والنخعي والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق وهو قول الشافعي (والرواية الثانية) حكمه حكم اللائط سواء، وقال الحسن حده حد الزاني وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن يقتل هو والبهيمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) رواه أبو داود.

ووجه الرواية الأولى أنه لم يصح فيه نص ولا يمكن قياسه على الوطئ في فرج الآدمي لانه لاحرمة لها وليس بمقصود يحتاج في الزجر عنه إلى الحد فإن النفوس تعافه وعامتها تنفر منه فيبقى على الأصل في انتفاء الحد والحديث يرويه عمر وبن أبي عمر ولم يثبته أحمد وقال الطحاوي هو ضعيف ومذهب ابن عباس خلافه وهو الذي روى عنه قال أبو داود هذا يضعف الحديث عنه قال اسماعيل بن سعيد سألت

ص: 177

أحمد عن الرجل يأتي البهيمة فوقف عندها ولم يثبت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجوز أن يثت بحديث فيه هذه الشبهة والضعف لكنه يعزر ويبالغ في تعزيره لأنه وطئ في فرج محرم لا شبهة له فيه لم يوجب الحد فاوجب التعزير كوطئ الميتة (فصل) وتقتل البهيمة وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وأحد قولي الشافعي وسواء كانت مملوكة له أو لغيره مأكولة أو غير مأكولة، وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد في وجوب قتلها روايتين وقال أبو بكرالاختيار قتلها وإن تركت فلا بأس، وقال الطحاوي إن كانت مأكولة ذبحت وإلا لم

تقتل وهذا القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة.

ووجه الأول الحديث المذكور وفيه الأمر بقتل البهيمة فلم يفرق بين كونها مأكولة وغير مأكولة ولا بين ملكه وملك غيره، فإن قيل الحديث ضعيف ولم يعملوا به في قتل الفاعل الجاني ففي حق حيوان لا جناية منه أولى، قلنا إنما لم يعمل به في قتل الفاعل على إحدى الروايتين لوجهين (أحدهما) لأنه حد والحد يدرأ بالشبهات وهذا اتلاف مال فلا تؤثر الشبهة فيه (الثاني) أنه اتلاف آدمي وهو أعظم المخلوقات حرمة فلم يجز التهجم على إتلافه إلا بدليل في غاية القوة ولا يلزم مثل هذا في إتلاف مال ولا حيوان سواه، فعلى هذا إن كان الحيوان للفاعل ذهبت هدراً وإن كان لغيره فعلى الفاعل غرامته لأنه سبب إتلافه فيضمنه كما لو نصب له شبكة فتلف بها

ص: 178

(مسألة)(وكره أحمد أكل لحمها وهل يحرم؟ على وجهين) وللشافعي أيضاً في ذلك وجهان (أحدهما) يحل أكلها لقول الله تعالى (أحلت لكم بهيمة الأنعام) ولأنه حيوان ذبحه من هو أهل للذكاة يجوز أكله فأشبه ما لو لم يفعل به هذا الفعل ولكن يكره أكله لشبهة التحريم (والثاني) لا يحل أكلها لما روي عن ابن عباس أنه قيل له ما شأن البهيمة؟ قال ما اراه قال ذلك إلا أنه كره أكلها وقد فعل بها هذا الفعل، ولأنه حيوان يجب قتله لحق الله تعالى فلم يجز أكله كسائر المقتولات، واختلف في علة قتلها فقيل إنما قتلت لئلا يعير فاعلها ويذكر برؤيتها وقد روى ابن بطة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) قالوا يا رسول الله ما بال البهيمة.

قال (لا يقال هذه وهذه) وقيل لئلا تلد خلقاً مشوهاً وقيل لئلا تؤكل وإليه أشار ابن عباس في تعليله ولا يجب قتلها حتى يثبت هذا العمل بها ببينة فأما إن أقر الفاعل فان كانت البهيمة له ثبت بإقراره وإن كانت لغيره لم يجز قتلها بقوله لأنه اقرار على ملك غيره فلم يقبل كما لو أقر بها لغير مالكها وهل يثبت هذا بشاهدين عدلين وإقرار مرة ويعتبر فيه ما يعتبر في الزنا على وجهين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا يجب الحد إلا بشروط ثلاثة (أحدها) أن يطأ

في الفرج قبلا أو دبرا) .

ص: 179

لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها حراما لاشبهة له في وطئها أنه يجب عليه حد الزنا إذا كملت شروطه والوطئ في الدبر مثله في كونه زنا لأنه وطئ في فرج امرأة لا ملك له ولا شبهة ملك فكان زنا كالوطئ في القبل، ولأن الله تعالى قال (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) الآية ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جعل لهن سبيلا (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) والوطئ في الدبر فاحشة لقول الله تعالى في قوم لوط (أتأتون الفاحشة؟) يعني الوطئ في أدبار الرجال ويقال أول ما بدأ قوم لوط بوطئ النساء في أدبارهن ثم صاروا إلى ذلك في الرجال (مسألة)(وأقل ذلك تغييب الحشفة في الفرج) لأن أحكام الوطئ تتعلق به ولا تتعلق بما دونه (مسألة)(وإن وطئ دون الفرج فلا حد عليه) لما روى ابن مسعود أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت امرأة في البستان فأصبت منها كل شئ غير أني لم أنكحها فافعل بي ما شئت فقرأ عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) الآية رواه النسائي وعليه التعزير لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فأشبه ضرب الناس والتعدي عليهم وظاهر الحديث يدل على أنه لا تعزير عليه إذا جاء تائباً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ويفارق ضرب الناس والتعدي عليهم لأنه حق آدمي

ص: 180

(مسألة)(وان أتت المرأة المرأة فلا حد عليهما) اذا تدالكت امرأتان فهما ملعونتان لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) ولاحد عليهما لان لا يتضمن إيلاجاً فأشبه المباشرة دون الفرج وعليهما التعزير لأنه زنا لا حد فيه فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع.

(فصل) ولو وجد رجل مع امرأة يقبل كل واحد منهما صاحبه ولم يعلم هل وطئها أولا فلا حد عليهما، وفان قالا نحن زوجان واتفقا على ذلك فالقول قولهما، وبه قال الحكم وحماد والشافعي

وأصحاب الرأي، فإن شهد عليهما بالزنا فقالا نحن زوجان فقيل عليهما الحد إن لم تكن بينة بالنكاح وبه قال أبو ثور وابن المنذر لأن الشهادة بالزنا تنفي كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما ويحتمل أن لا يجب الحد إذا لم يعلم كونها اجنبية منه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة كما لو شهد عليه بالسرقة فادعى ان المسروق ملكه.

(فصل) الثاني انتفاء الشبهة فان وطئ (جارية) ولده أو جارية له فيها شرك أو لولده فلا حد عليه، وجملة ذلك أن من وطئ جارية ولده فإنه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور وابن المنذر عليه الحد إلا أن يمنع منه إجماع لأنه وطئ في غير ملك أشبه وطئ جارية أبيه

ص: 181

ولنا أنه وطئ تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد كوطئ الامة المشتركة، والدليل على تمكن الشبهة قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فأضاف مال ولده إليه وجعله له فإذا لم تثبت حقيقة الملك فلا أقل من جعله شبهة دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات ولأن القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك والاوزاعي ومن وافقهما قد اشتهر قولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان ذلك إجماعاً وكذلك إن كان لولده فيها شرك لما ذكرنا ولا حد على الجارية لأن الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك فينتفي عن الموطوءة كوطئ الجارية المشتركة ولأن الملك من قبيل المتضايفات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته ولا يصح القياس على وطئ جارية الأب لأنه لاملك للولد فيها ولا شبهة ملك بخلاف مسئلتنا وحكي عن ابن أبي موسى قول في وطئ جارية الأب والأم أنه لا يحد لأنه لا يقطع بسرقة ماله أشبه الأب والأول أصح وعليه عامة أهل العلم فيما علمنا (فصل) ولا يجب الحد بوطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يجب.

ولنا أنه فرج له فيه ملك فلا يجد بوطئه كالمكاتبة والمرهونة (مسألة)(أو وجد امرأة نائمة على فراشه ظنها امرأته أو جاريته، أو (دعا) الضرير امرأته أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها فلا حد عليه)

ص: 182

وجملة ذلك أن من زفت إليه غير زوجته وقيل له هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه لا نعلم فيه خلافاً.

وإن لم يقل له هذه زوجتك أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته أو جاريته فوطئها أو دعا زوجته فجاءته غيرها فوطئها يظنها المدعوة أو اشتبه عليه ذلك لعماه يعتقدها زوجته فلا حد عليه وبه قال الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أن عليه الحد لأنه وطئ في محل لا ملك له فيه ولنا أنه وطئ اعتقد إباحته بما تعذر مثله فيه فأشبه مالو قيل له هذه زوجتك ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها، فأما إن دعا محرمة عليه فأجابه غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعليه الحد سواء كانت المدعوة ممن له شبهة كالجارية المشتركة أو لم يكن لأنه لا يعذر بهذا فأشبه ما لو قتل رجلا يظنه ابنه فبان أجنبياً.

(مسألة)(أو وطئ في نكاح مختلف في صحته أو وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها) لا يجب الحد بالوطئ في نكاح مختلف في صحته كنكاح المتعة والشغار والنكاح بلا ولي والتحليل والنكاح بغير شهود ونكاح الأخت في عدة أختها والخامسة في عدة الرابعة والبائن: ونكاح المجوسية وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف في إباحة الوطئ فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات وحكي عن ابن حامد وجوب الحد بالوطئ في النكاح بلا ولي والمذهب الأول قال إبن المنذر أجمع

ص: 183

كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات وكذلك ان وطئ امرأته في دبرها أو جاريته فهو محرم ولا يجب به الحد لأن المرأة محل للوطئ في الجملة، وقد ذهب بعض العلماء إلى حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد والوطئ في الحيض والنفاس صادف ملكا فكان شبهة (مسألة)(ولا حد على من لم يعلم بتحريم الزنا) قال عمر وعلي وعثمان لا حد إلا على من علمه وهو قول عامة أهل العلم فإن ادعى الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث العهد بالاسلام والناشئ ببادية قبل منه لأنه يجوز أن يكون صادقاً وإن كان ممن لا يخفي عليه ذلك كالمسلم الناشئ بين المسلمين وأهل العلم لم يقبل لأن تحريم الزنا لا يخفى

على من هو كذلك فقد علم كذبه فإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله لأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولأن مثل هذا يجهل كثيراً ويخفى على غير أهل العلم.

(مسألة)(أو أكره على الزنا فلا حد عليه وقال أصحابنا إن أكره الرجل فزنى حد) لا يجب الحد على مكرهة على الزنا في قول عامة أهل العلم روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد رواه الأثرم قال وأتي عمر بإماء من اماء

ص: 184

الامارة استكرههن غلمان من غلمان الامارة فضرب الغلمان ولم يضرب الاماء، وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بامرأة قد زنت قالت إني كنت نائمة فلم استيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها ولأن هذه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الاكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه نص عليه أحمد في راع جاءته امرأة قد عطشت فسألته ان يسقيها فقال لها امكنيني من نفسك قال هذه مضطرة، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان امرأة استسقت راعيا فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي ما ترى فيها؟ قال انها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها، فان أكره الرجل فزنى فقال أصحابنا عليه الحد وبه قال محمد بن الحسن وابو ثور لان الوطئ لا يكون إلا بالانتشار والإكراه ينافيه فاذا وجد الانتشار انتفى الإكراه فيلزمه الحد كما لو أكره على غير الزنا فزنى، وقال أبو حنيفة ان أكرهه السلطان فلا حد عليه وإن أكرهه غيره حد استحساناً، وقال الشافعي وابن المنذر لا حد عليه لعموم الخبر ولأن الحدود تدرأ بالشبهات والإكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت امرأة، يحققه أن الاكراه إذا كان بالتخويف أو بمنع ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه كالمرأة فاذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه، وقولهم ان التخويف ينافي الانتشار لا يصح لأن التخويف بترك الفعل والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك وهذا أصح الأقوال إن شاء الله تعالى

(مسألة)(وإن وطئ ميتة أو ملك أمه أو أخته من الرضاع فوطئها فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين)

ص: 185

إذا وطئ ميتة فعليه الحد في أحد الوجهين وهو قول الأوزاعي لأنه وطئ في فرج آدمية أشبه وطئ الحية ولأنه أعظم ذنبا وأكثر إثما لأنه انضم إلى فاحشته هتك حرمة الميتة (الثاني) لا حد عليه وهو قول الحسن، قال أبو بكر وبهذا أقول لأن الوطئ في الميتة كلا وطئ لأنه عوض مستهلك ولأنها لا يشتهى مثلها وتعافها النفس فلا حاجة الى تسرع (شرع) الزاجر عنها، وأما إذا ملك أمة (أمه) أو أخته من الرضاع فوطئها فذكر القاضي عن أصحابنا أن عليه الحد لأنه فرج لا يستباح بحال فوجب الحد بالوطئ فيه كفرج الغلام وقال بعض أصحابنا لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي، الشافعي لأنه وطئ في فرج مملوك له يملك المعاوضة عنه وأخذ صداقه فلم يجب الحد عليه كالوط في الجارية المشتركة فأما إن اشترى ذات محرمه من النسب ممن يعتق عليه ووطئها فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة (مسألة)(وإن وطئ في نكاح مجمع على بطلانه كنكاح المزوجة والمعتدة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع فعليه الحد) إذا تزوج ذات محرمه فالنكاح باطل بالاجماع فإن وطئها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وجابر بن زيد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد واسحاق، وقال أبو حنيفة والثوري لا حد عليه لأنه وطئ تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذي هو سبب للاباحة فإذا لم يثبت

ص: 186

حكمه وهو الإباحة بقيت صورته دارئة للحد الذي يندرئ بالشبهات.

ولنا أنه وطئ في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطئ من أهل الحد عالم بالتحريم فلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد، وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة والعقد ههنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت إلى الزنا فلم تكن شبهة كما لو أكرهها

وعاقبها ثم زنى بها ثم يبطل بالاستيلاء عليها فإن الاستيلاء سبب للملك في المباحات وليس بشبهة، وأما إذا اشترى أخته من الرضاع فهو ممنوع وإن سلمناه فان الملك المقتضي للاباحة صحيح ثابت وإنما تخلفت الإباحة لمعارض بخلاف مسئلتنا فان المبيح غير موجود فإن عقد النكاح باطل والملك به غير ثابت فالمقتضي معدوم فهو كما لو اشترى خمراً فشربه، إذا ثبت هذا فاختلف في الحد فروي عن أحمد أنه يقتل على كل حال وبهذا قال جابر بن زيد واسحاق وأبو أيوب وابن أبي خيثمة، وروى اسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه فقال يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال (والرواية (الثانية) حده حد الزنا وبه قال الحسن ومالك والشافعي لعموم الآية والخبر، ووجه الأولى ما روى البراء قال: لقيت عمي ومعه الراية فقلت إلى أين تريد؟ فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم الى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن ضرب عنقه وآخذ ماله رواه أبو داود والجوزاني والترمذي، وقال حديث حسن وسمى الجوزجاني عمه الحارث بن عمرو، وروى الجوزجاني وابن ماجة باسنادهما إلى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب اخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من ههنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله ابن أبي مطرف فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من تخطى المؤمنين فخطوا رأسه بالسيف) وهذه

ص: 187

الأحاديث مما ورد في الزنا فتقدم، والقول فيمن زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد (فصل) وكل عقد أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة أو مزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثاً إذا وطئ فيه عالماً بالتحريم فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وصاحباه لا حد فيه لما ذكروه فيما إذا عقد على ذوات محارمه.

وقال النخعي يجلد مائة ولا ينفى ولنا ما ذكرناه فيما مضى وروي أبو نصر المروزي باسناده عن عبيد بن نضيلة قال: رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت في عدتها فقال هل علمتها؟ قالا لا قال لو علمتما لرجمتكما فجلده أسواطاً ثم فرق بينهما، وروى أبو بكر باسناده قال: رفع الى علي عليه السلام امرأة تزوجت ولها زوج كتمته فرجمها وجلد زوجها الأخير مائة جلدة، فإن لم يعلم تحريم ذلك فلا حد عليه لعذر الجهل ولذلك

درأ عمر عنهما الحد لجهلهما.

(مسألة)(أو استأجر امرأة للزنا أو لغيره فزنى بها أو زنى بامرأة له عليها القصاص أو بصغيرة أو مجنونة أو بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها أو أمكنت العاقلة البالغة من نفسها مجنوناً أو صغيراً فوطئها فعليهم الحد) إذا استأجر امرأة لعمل شئ فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك أو زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها فعليهما الحد، وبه قال أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة لا حد عليهما في هذه المواضع إلا إذا استأجرها لعمل شئ لأن ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد ولا يحد بوطئ امزأة هو مالك لها.

ص: 188

ولنا عموم الآية والاخبار ووجود المعنى المقتضي لوجوب الحد، وقوله ان ملكه لمنفعتها شبهة لا يصح فإنه إذا لم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له ومطاوعتها إياه فلأن لا يسقط بملك محل آخر اولى وأما إذا استأجر امرأة للزنا لم تصح الإجارة فوجود ذلك كعدمه فأشبه وطئ من لم يستأجرها، وأما إذا زنى بامرأة له عليها قصاص فعليه الحد لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه ما لو لم يكن له عليها قصاص وكما لو كان له عليها دين، وأما إذا زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها فانه ما وجب عليه الحد بوطئ مملوكته ولا زوجته وإنما وجب بوطئ أجنبية فتغير حالها لا يسقطه كما لو ماتت، وأما إذا أمكنت المكلفة من نفسها صغيراً أو مجنوناً فوطئها أو استدخلت ذكر نائم فعليها الحد دونه، وقال أبو حنيفة لا حد عليها لأن فعل الصبي والمجنون ليس زنا فلم يجب عليها الحد اذا أمكنته منه كما لو أمكنته من ادخال اصبعه في فرجها.

ولنا أن سقوط الحد عن أحد الواطئين لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كما لو زنى المستأمن بمسلمة أو زنى بمجنونة أو نائمة، وقولهم ليس بزنا لا يصح لأنه لا يلحق به النسب وإنما لم يجب الحد عليه لعذره وزوال تكليفه، وكذلك الحكم في الرجل يظن أن المرأة زوجته فيطؤها وهي تعلم أنه أجنبي وفي المرأة تظنه زوجها وهو يعلم أنها أجنبية

(فصل) فأما الصغيرة فان كانت ممن يمكن وطؤها فهو زنا يوجب الحد لأنها كالكبيرة في ذلك وإن كانت ممن لا تصلح للوطئ ففيها وجهان كالميتة على ما ذكرنا، وقال القاضي لا حد على من وطئ صغيرة لم تبلغ تسعاً لأنها لا ينتهي مثلها أشبه ما لو أدخل اصبعه في فرجها، وكذلك لو استدخلت المرأة ذكر صبي لم يبلغ عشراً فلا حد عليها.

قال شيخنا والصحيح أنه متى وطئ من أمكن وطؤها

ص: 189

أو أمكنت المرأة من يمكنه الوطئ فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما ولا يصح تحديد ذلك بتسع ولا عشر لأن التحديد إنما يكون بالتوقيف ولا توقيف في هذا، وكون التسع وقتاً لامكان الاستمتاع غالبا لايمنع وجوده قبله كما أن البلوغ يوجد في خمس عشرة عاماً غالباً ولا يمنع من وجوده قبله (فصل) الثالث أن يثبت الزنا ولا يثبت إلا بأحد شيئين (أحدهما) أن يقر اربع مرات في مجلس او مجالس وهو بالغ عاقل ويصرح بذكر حقيقة الوطئ ولا ينزع عن اقراره حتى يتم الحد، لا يثبت الزنا الا باقرار أو بينة فإن ثبت باقرار اعتبر إقرار اربع مرات وبهذا قال الحكم وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي، وقال الحسن وحماد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يحد باقراره مرة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) واعتراف مرة اعتراف وقد أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وإنما اعترفت مرة، وقال عمران الرجم حق واجب على من زنى وقد احصن اذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأنه حق فثبت باعتراف مرة كالاقرار بالقتل ولنا ما روى أبو هريرة قال أتى رجل من الاسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أبك جنون - قال لا - قال هل أحصنت؟ - قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجموه) متفق عليه

ص: 190

ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى، وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك قد قلتها أربع مرات

فبمن؟) قال بفلانة رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هو الموجب، وروى أبو برزة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم إن أقررت أربعاً رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل من وجهين (أحدهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ (الثاني) أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه، فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ للمصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي يثبت به كان أربعاً (فصل) وسواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الزاني يردد أربع مرات؟ قال نعم على حديث ماعز هو أحوط، قلت له في مجلس واحد أو في مجالس شتى؟ قال أما الأحاديث فليست تدل إلا على مجلس واحد إلا على ذلك الشيخ بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وذلك عندي منكر الحديث، وقال أبو حنيفة لا يثبت إلا بأربع إقرارات في أربعة مجالس لأن ماعزاً أقر في أربعة مجالس ولنا أن الحديث الصحيح إنما يدل أنه أقر أربعاً في مجلس واحد وقد ذكرنا الحديث ولأنه أحد حجتي الزنا فاكتفي به في مجلس واحد كالبينة (فصل) ويعتبر في صحة الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة، لأن الزنا يعبر به عن ما ليس بموجب للحد وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (لعلك قبلت أو غمزت؟) قال لا قال

ص: 191

(افنكتها؟) قال نعم قال (حتى غاب ذاك منك في ذاك منها؟) قال نعم قال (كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم قال (أتدري ما الزنا؟) قال نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالا وذكر الحديث رواه أبو داود (فصل) وإن أقر أنه زنى بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا حد عليه لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوماً بكذبه ولنا ماروى أبو داود بإسناده عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أتاه فاقر عنده أنه

زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فانكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها، ولأن انتفاء ثبوته في حقها لا يبطل قراره كما لو سكتت أو كما لو لم تسأل ولأن عموم الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه وهو قول عمر إذا كان الحبل أو الاعتراف، وقولهم انا صدقناها في إنكارها غير صحيح فانا لم نحكم بصدقها وانتفاء الحد إنما كان لعدم المقتضى وهو الاقرار أو البينة لا لوجود التصديق بدليل مالو سكتت أو لم تكمل البينة.

إذا ثبت هذا فإن الحر والعبد والبكر والثيب في الإقرار سواء لأنه أحد حجتي الزنا فاستوى الكل فيه كالبينة (فصل) ويشترط أن يكون المقر بالغا عاقلا ولا خلاف في اعتبار ذلك في وجوب الحد وصحة الإقرار لأن الصي والمجنون قد رفع القلم عنهما ولا حكم لكلامهما لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن (فصل) والنائم مرفوع عنه القلم، فلو زنى بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه

ص: 192

الزنى حال نومه فلا حد عليه لان القلم مرفوع عنه، ولو أقر في حال نومه لم يلتفت إلى اقراره لأن كلامه غير معتبر ولا يدل على صحة مدلوله: وأما السكران ونحوه فعليه حد الزنى والسرقة والشرب والقذف اذا فعله في حال سكره لأن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عليه حد الفرية لكون السكر مظنة لها ولأنه تسبب إلى هذه المحرمات بسبب لا يعذر فيه فأشبه من لا عذر له، وفيه وجه آخر لا يجب عليه الحد لأنه غير عاقل فيكون ذلك شبهة في درء ما يندري بالشبهات ولأن طلاقه لا يقع في رواية فأشبه النائم، والأول أولى لأن إسقاط الحد عنه يفضي إلى أن من أراد فعل هذه المحرمات شرب الخمر وفعل ما أحب فلا يلزمه شئ ولأن السكر مظنة لفعل المحارم وسبب اليه فقد تسبب الى فعلها حال صحوه فأما إن أقر بالزنا وهو سكران لم يعتبر إقراره لأنه لا يدري ما يقول ولا يدل قوله على صحة خبره فأشبه قول النائم والمجنون وقد روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزا، رواه أبو داود وإنما فعل ذلك ليعلم هل هو سكران أو لا ولو كان السكران مقبول الإقرار لما احتيج الى تعرف براءته منه

(فصل) وأما الأخرس فإن لم تفهم إشارته فلا يتصور منه إقرار وإن فهمت إشارته فقال القاضي عليه الحد وهو قول الشافعي وابن القاسم صاحب مالك وأبو ثور وابن المنذر لأن من صح إقراره بغير الزنا صح إقراره به كالناطق وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحد باقرار ولا بينة لأن الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة لم يمكنه التعبير عنها ولم يعرف كونها شبهة ويحتمل كلام الخرقي إن لا يلزمه الحد بإقراره لأنه شرط أن يكون صحيحا وهذا غير صحيح ولأن الحد لا يجب بالشبهة فأما الإشارة فلا تنتفي معها الشبهات وأما البينة فيجب عليه بها الحد لأن قوله معها غير معتبر

ص: 193

(فصل) ولا يصح الإقرار من المكره فلو ضرب الرجل ليقر بالزنى لم يجب عليه الحد ولم يثبت عليه الزنى ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن إقرار المكره لا يجب به حد، وروي عن عمر رضي الله عنه قال ليس الرجل مأموناً على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته رواه سعيد وقال ابن شهاب في رجل اعترف بعد جلده ليس عليه حد ولأن الاقرار إنما يثبت به المقر به لوجود الداعي الى الصدق وانتفاء التهمة عنه فان العاقل لايتهم بقصد الإضرار بنفسه ومع الإكراه يغلب على الظن أن إقراره لدفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل (فصل) وإن أقر بوطئ امرأة وادعى أنها امرأته فأنكرت المرأة الزوجية نظرنا فإن لم تقر المرأة بوطئه إياها فلا حد عليه لأنه لم يقر بالزنى ولا مهر لها لأنها لا تدعيه، وان اعترفت بوطئه اياها أو اعترفت بأنه زنى بها مطاوعة فلا مهر عليه أيضاً ولا حد على واحد منهما إلا أن يقر اربع مرات لأن الحد لا يجب بدون إقرار أربع، وإن ادعت أنه أكرهها عليه أو اشتبه عليه فعليه المهر لأنه أقر بسببه وقد روى منها عن أحمد أنه سأله عن رجل وطئ امرأة وزعم أنها زوجته وأنكرت هي أن يكون زوجها واقرت بالوطئ فقال هذه قد أقرت على نفسها بالزنا ولكن يدرأ عنه الحد بقوله انها امرأته ولا مهر عليه وأدرأ عنها الحد حتى تعترف مراراً، قال أحمد وأهل المدينة يرون عليها الحد يذهبون الى قول النبي صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) وقد تقدم الجواب عن قولهم

(فصل) ولا ينزع عن اقراره حتى يتم الحد لأن من شروط إقامة الحد بالاقرار البقاء عليه على تمام الحد فان رجع عن إقراره أو هرب كف عنه وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزهري وحماد ومالك والشافعي والثوري وإسحاق وابو حنيفة وأبو يوسف وقال الحسن وسعيد بن جبير وابن

ص: 194

أبي ليلى يقام الحد ولا يترك لأن ماعزا هرب فقتلوه وروي أنه قال ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فان قومي هم غروني من نفسي وأخبروني أن النبي صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه رواه أبو داود وقد ذكرنا ذلك في كتاب الحدود (مسألة)(ومتى رجع المقر بالحد عن إقراره قبل منه) وقد ذكرنا الخلاف فيه والله أعلم (الثاني) أن يشهد عليه أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا ويجيئون في مجلس واحد سواء جاءوا مجتمعين أو متفرقين يشترط في شهود الزنا سبعة شروط ذكرها الخرقي (احدها) أن يكونوا أربعة وهذا إجماع ليس فيه اختلاف بين أهل العلم لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وقال تعالى (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا امهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نعم) رواه مالك في الموطأ وابو داود (الشرط الثاني) أن يكونوا رجالاً كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافاً إلا شيئاً يروى عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو قول شاذ لا يعول عليه لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكورين ويقتضي أن يكتفى فيه بأربعة ولا خلاف في أن الاربعة إذا كان بعضهم نساء أنه لا يكتفى بهم وإن أقل ما يجزئ خمسة وهذا خلاف النص ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال اليهن قال الله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والحدود تدرأ بالشبهات (الشرط الثالث) الحرية فلا تقبل شهادة العبيد ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا رواية حكيت عن

ص: 195

أحمد وهو قول أبي ثور لعموم النصوص فيه ولأنه عدل مسلم ذكر فتقبل شهادته كالحر ولنا أنه مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد لأنه يندرئ بالشبهات (الشرط الرابع) العدالة ولا خلاف في اشتراطها فانها تشترط في سائر الشهادات فههنا مع مزيد الاحتياط فيها أولى فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقاً (الشرط الخامس) أن يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي لأن أهل الذمة كفار لا تتحقق العدالة فيهم فلا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية ولا تقبل شهادتهم كعبدة الأوثان (الشرط السادس) أن يصفوا الزنى فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشاء في البئر وهذا قول معاوية بن أبي سفيان والزهري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روينا في قصة ماعز أنه لما اقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى فقال (انكتها؟ - فقال نعم قال - حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟) قال نعم واذا اعتبر التصريح في الاقرار كان اعتباره في الشهادة أولى وروى أبو داود باسناده عن جابر قال جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ائتوني باعلم رجلين منكم) فأتوه بابني صوريا فنشدهما (كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟) قالا إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال (فما يمنعكم أن ترجموهما؟) قالوا ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود (فجاؤا له)

ص: 196

أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه قال بعض أهل العلم يجوز للشهود أن ينظروا الى ذلك منهما لاقامة الشهادة عليهما فيحصل الردع بالحد فان شهدوا أنهم رأوا ذكره قد غيبه في فرجها كفى والتشبيه تأكيد (فصل) فأما تعيين المزني بها إن كانت الشهادة على رجل أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة

ومكان الزنا فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها ويعتبر ذكر المكان لئلا تكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم (إنك أقررت أربعاً فبمن؟) وقال ابن حامد لا يعتبر ذكر هذين لأنه لا يعتبر ذكرهما في الإقرار ولم يأت ذكرهما في الحديث الصحيح وليس في حديث الشهادة في رجم اليهوديين ذكر المكان ولأن ما لا يشترط فيه ذكر الزمان لا يشترط فيه ذكر المكان كالنكاح ويبطل ما ذكروه بالزمان (الشرط السابع) مجئ الشهود كلهم في مجلس واحد ذكره الخرقي فقال: وإن جاءوا أربعة متفرقين والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي والبتي وابن المنذر لا يشترط ذلك لقول الله تعالى (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) ولم يذكر المجلس، وقال تعالى (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت) ولأن كل شهادة مقبولة إذا اتفقت (وغير) مقبولة إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات ولنا أن أبا بكرة ونافعاً وسهل بن معبد شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم يشهد

ص: 197

زياد فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم وبهذا فارق سائر الشهادات، وأما الآية فانها لم تتعرض للشروط ولهذا لم يذكروا العدالة وصفة الزنا ولأن قوله (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الزمان كله أو مقيداً لا يجوز أن يكون مطلقاً لأنه يمنع من جواز جلدهم لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به فيكون متناقضاً، وإذا ثبت أنه مقيد بالمجلس لأن المجلس كله بمنزلة الحالة الواحدة ولهذا ثبت فيه خيار المجلس واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحداً بعد واحد في مجلس واحد قبل شهادتهم وقال مالك وأبو حنيفة إن جاءوا متفرقين فهم قذفة لأنهم لم يجتمعوا

في مجيئهم فلم تقبل شهادتهم كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولنا قصة المغيرة فان الشهود جاءوا واحداً بعد واحد وسمعت شهادتهم وإنما حدوا لعدم كمالها في المجلس وفي حديثه أن أبا بكرة قال أرأيت لو جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر: أي والذي نفسي بيده ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه مالو جاءوا مجتمعين ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرنا وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد لأن من شهد بالزنا ولم تكمل الشهادة يلزمه الحد لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)(مسألة) (وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم أو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة

ص: 198

أو لم يكملها فهم قذفة وعليهم الحد) إذا لم يكمل شهود الزنا فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي وذكر أبو الخطاب فيهم روايتين وحكي عن الشافعي فيهم قولان (أحدهما) لا حد عليهم لأنهم شهود فلم يجب عليهم الحد كما لو كانوا أربعة أحدهم فاسق ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة ولأنه إجماع الصحابة فان عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد وروى صالح بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فاستنكر ذلك عمر ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان: والله لقد كدت يغشى علي فقال يا أمير المؤمنين: رأيت أمرا قبيحا فقال الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد قال فأمر بأولئك النفر فجلدوا، وفي رواية أن عمر لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي زياد فقال عمر أرى شابا حسناً وأرجو ألا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا أمير المؤمنين رأيت استاً تنبو ونفساً يعلو ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار ولا أدري

ما وراء ذلك فقال عمر: الله اكبر الله اكبر وامر بالثلاثة فضربوا، وقول عمر يا سلح العقاب معناه أنه يشبه سلح العقاب الذي يحرق كل شئ أصابه كذلك هو يوقع العقوبة بأحد الفريقين لا محالة، إن كملت شهادته حد المشهود عليه وإن لم تكمل حد أصحابه، فإن قيل فقد خالفهم أبو بكرة وأصحابه الذين شهدوا قلنا لم يخالفوا في وجوب الحد عليهم إنما خالفوهم في صحة ما شهدوا به ولأنه

ص: 199

رام بالزنا لم يأت بأربعة شهداء فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد (مسألة)(وإن كانوا افساقا أو عمياناً أو بعضهم فعليهم الحد وعنه انه لاحد عليهم) إذا كانوا اربعة غير مرضيين كالعبيد والفساق والعميان ففيهم ثلاث روايات (إحداهن) عليهم الحد وهو قول مالك قال القاضي وهو الصحيح لأنها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو لم يكمل العدد (والثانية) لا حد عليهم وهو قال الحسن والشعبي وابي حنيفة ومحمد لأن هؤلاء قد جاءوا بأربعة شهداء فدخلوا في عموم الآية ولأن عددهم قد كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم فأشبه ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم ولا فسقهم (الثالث) إن كانوا عمياناً أو بعضهم جلدوا وإن كانوا عبيداً أو فساقاً فلا حد عليهم وهو قول الثوري واسحاق لأن العميان معلوم كذبهم لكونهم شهدوا بما لم يروه يقينا والآخرون يجوز صدقهم وقد كمل عددهم فأشبهوا مستوري الحال.

وقال أصحاب الشافعي إن كان رد الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى والرق والفسق الظاهر ففيهم قولان وإن كان لمعنى خفي فلا حد عليهم لأن ما يخفى يخفى على الشهود فلا يكون ذلك تفريطاً منهم بخلاف ما يظهر، فان شهد ثلاثة رجال وامرأتان حد الجميع لأن شهادة النساء في هذا الباب كعدمها وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وهذا يقوي رواية إيجاب الحد على الأولين وينبه على إيجاب الحد فيما إذا كانوا عمياناً أو بعضهم لأن المرأتين يحتمل صدقهما وهما من أهل الشهادة في الجملة والأعمى كاذب يقيناً وليس من أهل الشهادة على الأفعال فوجوب الحد عليهم وعلى من معهم أولى

ص: 200

(مسألة)(وإن كان أحدهم زوجا حد لثلاثة ولاعن الزوج إن شاء) لأن الزوج لا تقبل شهادته على امرأته لأنه بشهادته مقر بعداونه لها فلا تقبل شهادته عليها فيبقى الشهود ثلاثة فيحدون كما يحد شهود المغيرة بن شعبة ولأن الله سبحانه قال (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)(مسألة)(وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت أو بلد واثنان أنه زنا بها في بيت أو بلد آخر فهم فذفة وعليهم الحد وعنه يحد المشهود عليه وهو بعيد) وجملة ذلك أنه إذا شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت واثنان أنه زنا بها في بيت آخر وشهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد صاحباهما أو اختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك والشافعي، واختار أبو بكر: أنه لا حد عليهم وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنهم كملوا أربعة ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنا واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وأما المشهود عليه فلا حد عليه في قولهم جميعاً، وقال أبو بكر عليه الحد، وحكاه قولا لأحمد وهو بعيد لأنه لم يثبت زنا واحد بشهادة أربعة فلم يجب الحد ولأن جميع ما يعتبر له البينة يعتبر كمالها في حق واحد فالموجب للحد اول لأنه مما يحتاط له ويدرء بالشبهات وقد قال أبو بكر أنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء وشهد اثنان انه زنا بسوداء فهم قذفة ذكره القاضي وهذا ينقض قوله (مسألة) وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد اثنان أنه زنى بها في زواية منه أخرى كملت شهادتهم إن كانت الزاويتان متقاربتين وحد المشهود عليه)

ص: 201

وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل ولانهم اختلفو في المكان أشبه ما لو اختلفا في البيتين، فأما إن كانت الزاويتان متباعدتين فالقول فيهما كالقول في البيتين وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة سواء تقاربت الزاويتان أو تباعدتا

ولنا أنهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين الى إحدى الزوايتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلاً واحداً، فإن قيل فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين فلم أوجبتهم الحد مع الاحتمال والحد يدرأ بالشبهات، قلنا ليس هذا شبهة بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد فان هذا يحتمل فيه والحد واجب والقول في الزمان كالقول في هذا متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ومتى تقاربا كملت شهادتهم.

(مسألة)(وإن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد آخران أنه زنى بها في قميص أحمر كملت شهادتهم ويحتمل أن لا تكمل كما لو شهد كل اثنان أنه زنى بها في بيت غير الذي شهد به صاحباهما) وكذلك إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص كتان أو شهد إثنان أنه زنى بها في قميص خز تكمل الشهادة، وقال الشافعي لا تكمل لتنافي الشهادتين.

ولنا أنه لا تنافي بينهما فإنه يمكن أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين واحداً وتركا ذكر الآخر ويمكن أن يكون عليه قميص أبيض وعليها قميص أحمر وإذا أمكن التصديق لم يجز التكذيب.

(مسألة) (وإن شهد أنه زنى بها مطاوعة وشهد آخران أنه زنى بها مكرهة فلا حد عليها إجماعاً، لأن الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد وفي الرجل وجهان.

ص: 202

(أحدهما) لا حد عليه وهو قول أبي بكر والقاضي وأكثر الأصحاب وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن البينة لا تكمل على فعل واحد فان فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين وذلك يمنع قبول الشهادة أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون كل واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما ومكرهة في الآخر وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها ولا تكمل البينة عليها فلا تقبل شهادتهم على غيرها والوجه الثاني يجب الحد على الرجل اختاره أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد ووجه ثان

للشافعي، لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله فلا يمنع كمال الشهادة عليه.

(مسألة)(وهل يحد الجميع أو شاهد المطاوعة؟ على وجهين) في الشهود ثلاثة أوجه (أحدها) لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم (والثاني) عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا فلم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم (والثالث) يجب الحد على شاهدي المطاوعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا فلم تكمل شهادتهما عليها ولا يجب على شاهدي الاكراه لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهم على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة وعند أبي الخطاب يحد الزاني المشهود عليه دون المرأة والشهود وقد ذكرناه.

(مسألة)(وإن شهد أربعة فرجع احدهم فلا شئ على الراجع ويحد الثلاثة وإن كان رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة ويغرم الرابع ربع ما أتلفوه) .

ص: 203

وجملة ذلك أن الشهود إذا رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم ففيهم روايتان (إحداهما) يجب الحد على الجميع لأنه نقص عدد الشهود فلزمهم الحد كما كانوا ثلاثة وإن رجعوا كلهم فعليهم الحد لأنهم يقرون أنهم قذفة، وهو قول أبي حنيفة (والثانية) يحد الثلاثة دون الراجع اختارها أبو بكر وابن حامد لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد لأن في درء الحد عنه تمكيناً له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة الشهود وفي إيجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت تلك المصلحة وتتحقق المفسدة فناسب ذلك نفي الحد عنه، وقال الشافعي يحد الراجع دون الثلاثة لأنه أقر على نفسه بالكذب في قذفه وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الرابع ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد كما لو لم يرجع أحد.

ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة وقولهم وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم وبالراجع وحده فان الحد وجب ثم

سقط ووجب الحد بسقوطه ولأن الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه باسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه واحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى فأما إن كان رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة لأن إقامة الحد كحكم الحاكم الحاكم لا تسقط برجوع الشاهد بعده وعلى الراجع ربع ما تلف بشهادتهم ويذكر ذلك في الرجوع عن الشهادة إن شاء الله تعالى.

(فصل) وإذا ثبتت الشهادة بالزنا فصدقهم المشهود عليه لم يسقط الحد وقال أبو حنيفة يسقط لأن صحة البينة يشترط لها الإنكار وما كمل بالاقرار.

ولنا قول الله (فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)

ص: 204

وبين النبي صلى الله عليه وسلم (السبيل بالحد فتجب إقامته ولأن البينة تمت عليه فوجب الحد كما لو لم يعترف ولأن البينة أحد حجتي الزنا فلم تبطل بوجود الحجة الأخرى وبعضها كالاقرار يحققه أن وجود الاقرار يؤكد البينة ويوافقها ولا ينافيها فلا يقدح فيها كتزكية الشهود والثناء عليهم ولا نسلم اشتراط الانكار وإنما يكتفى بالإقرار في غير الحد إذا وجد بكماله وههنا لم يكمل فلم يجب الإكتفاء به ووجب سماع البينة والعمل بها وعلى هذا لو أقر مرة أو دون الأربع لم يمنع ذلك سماع البينة عليه ولو تمت البينة وأقر على نفسه إقراراً تاماً ثم رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه وقوله يقتصي خلاف ذلك (فصل) فإن شهد شاهدان واعترف هو مرتين لم تكمل البينة ولم يجب الحد لا نعلم في ذلك خلافاً بين من اعتبر اقرار اربع مرات وهو قول أصحاب الرأي لأن احدى الحجتين لم تكمل ولا تلفق إحداهما بالأخرى كاقرار بعض مرة.

(فصل) فان كملت البينة ثم مات الشهود أو غابوا جاز الحكم بها وإقامة الحد، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقام الحد لجواز أن يكونوا رجعوا وهذا شبهة تدرأ الحد ولنا أن كل شهادة جاز الحكم بها مع حضور الشهود جاز الحكم مع غيبتهم كسائر الشهادات واحتمال رجوعهم ليس بشبهة كما لو حكم بشادتهم.

(فصل) وان شهدوا بزنا قديم أو أقر به وجب الحد، وبهذا قال مالك والاوزاعي والثوري

واسحاق وأبو ثور وقال أبو حنيفة لا أقبل بينة على زنا قديم وأحده بالاقرار به وهذا قول ابن حامد وذكره ابن موسى مذهباً لأحمد لما روي عن عمر أنه قال أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فانما هم شهود ضغن ولأن تأخيره للشهادة إلى هذا الوقت يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد ولنا عموم الآية وانه حق ثبت على الفور فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق والحديث

ص: 205

مرسل رواه الحسن ومراسيل الحسن ليست بالقوية والتأخير يجوز أن يكون لعذر أو غيبة والحد لا يسقط بمجرد الاحتمال فانه لو سقط بكل احتمال لم يجب حد أصلا.

(فصل) وتجوز الشهادة بالحد من غير مدع لا نعلم فيه اختلافاً ونص عليه أحمد واحتج بقصة أبي بكرة حيث شهد هو وأصحابه على المغيرة من غير تقدم دعوى وشهد الجارود وصاحبه على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى، ولأن الحد حق لله تعالى لم تفتقر الشهادة به إلى تقدم دعوى كسائر العبادات يبينه ان الدعوى في سائر الحقوق إنما تكون من المستحقين وهذا لا حق فيه لأحد من الآدميين فيدعيه فلو وقفت الشهادة به على الدعوى لامتنع إقامتها (مسألة)(وإن شهد أربعة بالزنا بامرأة فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا الشهود نص عليه) وبهذا قال الشعبي والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك عليها الحد، لأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود فلا يسقط بشهادتهن ولنا أن البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهرا لان الزنا لا يحصل بدون الايلاچ في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها وإذا انتفى الزنا لم يجب الحد كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عدتهم مع احتمال صدقهم بأنه يحتمل أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم غير موجب له عليها فإن الحد لا يجب بالشهات ويكتفى بشهادة امرأة واحدة لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال فأما إن شهدت بأنها رتقاء أو ثبت أن الرجل المشهود عليه

مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لأنه يتيقن كذبهم في شهادتهم بأمر لا يعلمه كثير من الناس فوجب عليهم الحد.

ص: 206

(مسألة)(وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة وشهد أربعة آخرون أنهم هم الزناة بها لم يحد المشهود عليه وهل يحد الشهود الأولون حد الزنا؟ على روايتين)(إحداهما) لا يجب الحد على واحد منهم، وهذا قول أبي حنيفة لأن الأولين قد جرحهم الآخرون بشهادتهم عليهم والآخرون تتطرق اليهم التهمة (والثانية) يجب الحد على الشهود الأولين اختارها أبو الخطاب لأن شهادة الآخرين صحيحة فيجب الحكم بها، وهذا قول أبي يوسف وذكر أبو الخطاب في صدر المسألة كلاما معناه لا يحد أحد منهم حد الزنا وهل يحد الاولون حدالقذف؟ على وجهين بناء على القاذف إذا جاء مجئ الشاهد هل يحد على روايتين (فصل) وكل زنا أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له بقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ويدخل فيه اللواط ووطئ المرأة في دبرها لأنه زنا وعند أبي حنيفة يثبت بشهاهدين بناء على أصله بأنه لا يوجب الحد وقد بينا وجوب الحد به ويخص هذا بأن الوطئ في الدبر فاحشة بدليل قوله تعالى (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ وقال تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) فاذا وطئت في الدبر دخلت في عموم الآية.

واما وطئ البهيمة إن قلنا بوجوب الحد به لم يثبت إلا بشهود أربعة، وإن قلنا لا يوجب الا التعزير ففيه وجهان:(أحدهما) يثبت بشاهدين لأنه لا يوجب الحد فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق (والثاني) لا يثبت الا بأربعة وهو قول القاضي لانه فاحشة ولأنه إيلاج في فرج محرم فأشبه الزنا وعلى قياس هذا كل وطئ يوجب التعزير ولا يوجب الحد كوطئ الأمة المشتركة وأمته المزوجة فإن لم يكن وطئاً كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين وجهاً واحداً لأنه ليس بوطئ أشبه سائر الحقوق

ص: 207

(مسألة)(وإن حملت امرة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بذلك بمجرده لكنها تسأل فان ادعت أنها أكرهت ووطئت بشبهة أو لم تعرف بالزنا لم تحد) وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة إلا أن تظهر إمارات الإكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً إذا قلعت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروي أن عثمان أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان أن ترجم فقال علي ليس لك عليها سبيل.

قال الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها، وعن عمر نحو من هذا وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال أيها الناس إن الزنا زناآن زنا سر وزنا علانية فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الامام أول من يرمي، وهذا قول سادة الصحابة لم يظهر لهم في عصرهم مخالف فيكون إجماعاً ولنا أنه يحتمل أنه من وطئ اكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات وقد قيل إن المرأة تحمل من غير وطئ بأن يدخل ماء الرجل في فرجها اما بفعلها أو فعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر وقد وجد ذلك، وأما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد ثنا خلف بن خليفة ثنا أبو هشام أن امرأة رفعت الى عمر رضي الله عنه ليس لها زوج وقد حملت فسألها عمر فقالت إني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد، وروى النوال بن سبرة عن عمر أنه أتي بامرأة حامل فادعت أنها أكرهت فقال خل سبيلها وكتب إلى أمراء الاجناد أن لا يقتل احد الا بإذنه، وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر أنهم

ص: 208

قالوا إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ولا خلاف أن الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققة ههنا (فصل) ويستحب للامام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالاقرار التعريض له بالرجوع إذا تم والوقوف عن اتمامه إذا لم يتم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعرض عن ماعز حين أقر عنده ثم

جاءه من الناحية الأخرى فأعرض عنه حتى تمم إقراره أربعا ثم قال (لعلك قبلت لعلك لمست) وروي أنه قال للذي أقر بالسرقة (ما أخالك فعلت) رواه سعيد عن سفيان عن يزيد بن خصفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ثنا هشيم عن الحكم بن عتبة عن يزيد بن أبي كبشة عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سوداء سرقت فقال لها أسرقت قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها، ولا بأس أن يعرض بعض الحاضرين بالرجوع أو بأن لا يقر وروينا عن الأحنف أنه كان جالساً عند معاوية فأتي بسارق فقال له معاوية أسرقت؟ فقال له بعض الشرطة اصدق الامير فقال الأحنف الصدق في كل المواطن معجزة فعرض له بترك الاقرار وروي عن بعض السلف أنه قال: لا يقطع ظريف يعني أنه إذا قامت عليه بينة ادعى شبهة فدفع عنه القطع فلا يقطع، ويكره لمن علم حاله أن يحثه على الاقرار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهزال وقد كان قال لماعز بادر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل فيك قرآن (ألا سترته بثوبك كان خيراً لك؟) رواه سعيد وروى باسناده أيضاً عن سعيد بن المسيب قال جاء ماعز بن مالك إلى عمر بن الخطاب فقال له إنه أصاب فاحشة فقال له أخبرت بهذا أحداً قبلي؟ قال لا قال فاستر يستر الله وتب إلى الله فان الناس يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير فتب الى الله ولا تخبر به أحداً فانطلق إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال عمر فلم تقره نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك

ص: 209

(باب القذف) وهو الرمي بالزنا وهو محرم باجماع الامة والأصل في تحريمه الكتاب والسنة.

أما الكتاب فقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) وقال سبحانه (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: وما هن يارسول الله؟ قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله واكل الرابا وأكل

مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقدف المحصنات الغافلات المؤمنات) متفق عليه.

(مسألة)(ومن قذف حراً محصنا فعليه جلد ثمانين جلدة إن كان القاذف حراً وأربعين إن كان عبداً وقذف غير المحصن يوجب التعزير) المحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان (أحدها) العفائف وهو المراد ههنا.

(الثاني) بمعنى المزوجات كقوله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) وقوله تعالى (ومحصنات غير مسافحات) .

(والثالث) بمعنى الحرائر كقوله تعالى (فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) وقوله تعالى (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وقوله [فعليهن نصف ما على المحصنات](والرابع) بمعنى الاسلام كقوله (فإذا أحصن) قال ابن مسعود إحصانها إسلامها.

وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصناً إذا كان القاذف مكلفاً

ص: 210

(مسألة)(والمحصن هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله، وهل يشترط البلوغ؟ على روايتين) فهذه الخمسة شروط الاحصان وبه يقول جماعة الفقهاء قديماً وحديثا سوى ماروي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد.

وقال ابن أبي موسى إذا قذف أم ولد رجل وله منها ولد حد.

وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالوا إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد، وقال ابن أبي موسى إذا قذف مسلم ذمية تحت مسلم أو لها منه ولد حد في إحدى الروايتين، والأول أولى لأن ما لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة واختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط البلوغ فروي عنه أنه شرط وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل، ولأن زنا الصبي لا يوجب عليه الحد فلا يجب الحد بالقذف به كزنا المجنون (والثانية) لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير وهذا قول مالك واسحاق، فعلى هذه الرواية لابد أن يكون كبيراً يجامع مثله وأدناه

أن يكون للغلام عشر وللجارية سبع (فصل) ويجب بقذف المحصن ثمانون جلدة إذا كان القاذف حراً وأربعون إن كان عبداً كما ذكره وقد أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصناً وان حده ثمانون إن كان حراً وقد دل عليه قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وإن كان القاذف عبداً فحده أربعون جلدة، وأجمعوا على وجوب الحد على العبد إذا قذف محصناً لدخوله في

ص: 211

عموم الآية وحده أربعون في قول أكثر العلماء فروي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين.

وروى خلاس ان عليا قال في عبد قذف حراً عليه نصف الحد، وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عبداً قذف حراً ثمانين وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز عملا بعموم الآية، والصحيح الأول للاجماع المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من حد الحر كحد الزنا وهذا يخص عموم الآية وقد عيب على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلده العبد ثمانين فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة ما رأيت أحداً جلد العبد ثمانين قبله وقال سعيد ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبداً في فرية ثمانين فأنكر ذلك من حضره من الناس وغيرهم من الفقهاء فقال لي عبد الله بن عامر بن ربيعة إني رأيت والله عمر بن الخطاب فما رأيت أحداً جلد عبداً في فرية فوق أربعين قال الخرقي ويكون بدون السوط الذي يجلد به الحر لأنه لما خفف في عدده خفف في سوطه كما أن الحدود في نفسها كلما قل منها كان سوطه أخف، وظاهر ما ذكره شيخنا أنه يكون بسوط الحر فيتساووا في الجلد ليتحقق التنصيف لأنه إنما يتحقق بذلك (مسألة)(وقذف غير المحصن يوجب التعزير فاذا قذف مشركاً أو عبداً أو مسلماً له دون عشر سنين أو مسلمة لها دون تسع أو من ليس بعفيف فعليه التعزير)

ص: 212

لأنه لما انتفى وجوب الحد عن القاذف وجب التأديب ردعا له عن أعراض المعصومين وكفاً له عن أذاهم (فصل) ويجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب والمريض المدنف والرتقاء والقرناء.

وقال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لا حد على قاذف مجبوب.

قال إبن المنذر وكذلك الرتقاء.

وقال الحسن لا حد على قاذف الخصي لأن العار منتف على المقذوف بدون الحد للمسلم بكذب القاذف، والحد إنما يجب لنفي العار ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) والرتقاء داخلة في عموم الآية ولأنه قاذف محصناً فيلزمه الحد كالقاذف للقادر على الوطئ ولان إمكان الوطئ أمر خفي لا يعلمه كثير من الناس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحد فيجب كقذف المريض (فصل) ويجب الحد على القاذف في غير دار الاسلام وبهذا قال الشافعي.

وقال أصحاب الرأي لا حد عليه لأنه في دار لا حد على أهلها.

ولنا عموم الآية ولأنه مسلم مكلف حر قذف محصنا فأشبه من في دار الإسلام (فصل) ويشترط لاقامة الحد على القاذف شرطان (أحدهما) مطالبة المقذوف لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه (الثاني) أن لا يأتي ببينة لقول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) الآية ولذلك يشترط عدم إقرار المقذوف لأنه في معنى البينة.

وإن كان القادف زوجا اعتبر شرط آخر وهو امتناعه من اللعان، ولا نعلم في هذا كله خلافاً ويعتبر استدامة

ص: 213

الطلب إلى إقامة الحد فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال الحسن وأصحاب الرأي لا يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود ولنا أنه حد لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص.

وفارق سائر الحدود فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها، فأما حد السرقة فإنما يعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا استيفاء الحد ولأنهم قالوا تصح دعواه ويستحلف فيه ويحكم الحاكم فيه بعلمه ولا يقبل رجوعه بعد الاعتراف فدل على أنه حق لآدمي (فصل) وإذا قلنا بوجوب الحد بقذف من لم يبلغ لم تجز إقامته حتى يبلغ ويطالب به بعد بلوغه

لأن مطالبته قبل البلوغ لا توجب الحد لعدم اعتبار كلامه وليس لوليه المطالبة عنه لأنه حق شرع للتشفي فلم يقم غيره مقامه في استيفائه كالقصاص فاذا بلغ وطالب اقيم حينئذ، ولو قذف غائباً لم يقم عليه الحد حتى يقدم ويطالب إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته، ويحتمل أن لا تجوز إقامته في غيبته بحال لأنه يحتمل أن يعفو بعد المطالبة فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه يندرئ بالشبهات، ولو جن المقذوف بعد قذفه وقبل طلبه لم تجز إقامته حتى يفيق ويطالب وكذلك إن اغمي عليه فإن كان قد طالب به قبل جنونه وإغمائه جازت اقامته كما لو وكل في استيفاء القصاص ثم جن أو أغمي عليه قبل استيفائه (فصل) وإذا قذف ولده لم يجب عليه الحد وإن نزل سواء كان القاذف رجلاً أو امرأة وبهذا

ص: 214

قال الحسن وعطاء والشافعي وأصحاب الرأي، وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وأبو ثور وابن المنذر عليه الحد لعموم الآية ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنا ولنا أنه عقوبة تجب حقاً لآدمي فلا تجب للولد على الوالد كالقصاص أو نقول أنه حق لا يستوفى إلا بالمطالبة باستيفائه فأشبه القصاص ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص ولأن الابوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد كالكفر وبهذا خص عموم الآية، ثم ما ذكروه ينتقض بالسرقة فان الأب لا يقطع بالسرقة من مال ابنه، والفرق بين القذف والزنا أن حد الزنا خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه وحد القذف حق لآدمي فلا يثبت للابن على أبيه كالقصاص وعلى أنه لو زنى بجارية ابنه لم يجب عليه حد إذا ثبت هذا فإنه لو قذف أم ابنه وهي أجنبية منه فماتت قبل استيفائه لم يكن لابنه المطالبة لأن ما منع ثبوته ابتداء أسقطه طارئاً كالقصاص فان كان لها ابن آخر من غيره كان له استيفاؤه إذا ماتت بعد المطالبة به لأن الحد يملك بعض الورثة استيفاءه كله بخلاف القصاص وأما قذف سائر الأقارب فيوجب الحد على القاذف في قولهم جميعاً (مسألة)(وإن قال زنيت وانت صغيرة وفسره بصغر عن تسع لم يحد والا خرج على روايتين) أما إذا فسره بصغر عن تسع سنين فانه لا يحد فإنه لا يجب بقذفها الحد على ما ذكرنا وكذلك

ص: 215

إن قذف صغيراً له دون عشر سنين وإن لم يفسره بذلك وفسره بما زاد عليه خرج على الروايتين في اشتراط البلوغ فان قلنا هو شرط في الإحصان لم يحد وعليه التعزير وإن قلنا ليس بشرط لزمه الحد كالبالغ لأنه قذف محصناً (فصل) فان اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف كنت صغيراً حين قذفتك وقال المقذوف كنت كبيراً فذكر القاضي أن القول قول القاذف لأن الاصل الصغر وبراءة الذمة من الحد فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخين مختلفين فهما قذفان موجب أحدهما التعزير والآخر الحد وإن ثبنتا تاريخاً واحداً وقالت إحداهما وهو صغير وقالت الأخرى وهو كبير تعارضتا وسقطتا وكذلك لو كان تاريخ بينة المقذوف قبل تاريخ بينة القاذف (مسألة) وإن قال لحرة مسلمة زنيت وانت نصرانية أو أمة ولم تكن كذلك فعليه الحد) إذا قال زنيت إذ كنت مشركا أو إذ كنت رقيقاً فقال المقذوف ما كنت رقيقاً ولا مشركا نظرنا فإن ثبت أنه كان مشركا أو رقيقاً فهي كالتي قبلها وإن ثبت أنه لم يكن كذلك فعليه الحد لأنه يعلم كذبه في وصفه بذلك، وإن لم يثبت واحد منهما وجب عليه الحد في إحدى الروايتين، لأن الأصل عدم الشرك والرق ولأن الأصل الحرية وإسلام أهل دار الاسلام (والثانية) لا يجب لأن الأصل براءة ذمته، وأما اذا قال زنيت وانت مشرك فقال المقذوف اردت قذفي بالزنا والشرك معا وقال القاذف بل أردت قذفك بالزنا إذ

ص: 216

كنت مشركا فقال أبو الخطاب القول قول القاذف وهو قول بعض الشافعية لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها، وقوله وأنت مشرك مبتدأ وخبر وهو حال لقوله زنيت كقوله تعالى (إلا استموه وهم يلعبون) وقال القاضي: يجب الحد وهو قول بعض الشافعية لأن قول زنيت خطاب في الحال والظاهر أنه أراد زناه في الحال وهكذا إن قال زنيت وانت عبد، فأما إن قال زنيت وقال اردت أنه زنى وهو مشرك فقال الخرقي جيب عليه الحد، وكذلك إن كان عبداً لأنه قذفه في حال كونه حراً مسلماً محصناً وكذلك يقتضي وجوب الحد عليه لعموم الآية ووجود المعنى، فإذا ادعى ما يسقط

الحد عنه لم يقبل منه كما لو قذف كبيراً ثم قال أردت أنه زنى وهو صغير، فأما إن قال زنيت في شركك أو وأنت مشرك ففيه وجهان (أحدهما) لا حد عليه وهو قول الزهري وأبي ثور وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى وعن مالك أنه يحد وهو قول الثوري لأن القذف وجد في حال كونه محصناً.

ووجه الأول أنه أضاف القذف الى حال ناقصة أشبه مالو قذفه في حال الشرك ولأنه قذفه بما لا يوجب الحد على المقذوف أشبه مالو قذفه بالوطئ دون الفرج، وهكذا الحكم لو قذف من كان رقيقاً، فان قال زنيت وانت صبي أو صغير سئل عن الصغر فإن فسره بما لا يجامع مثله ففيها الوجهان، وإن فسره بصغر يجامع في مثله خرج على الروايتين في اشتراط البلوغ للاحصان (فصل) وإن قذف مجهولاً وادعى أنه رقيق أو مشرك وقال المقذوف بل أنا حر مسلم

ص: 217

فالقول قوله، وقال أبو بكر القول قول القاذف في الرق لأن الأصل براءة ذمته من الحد وهو يدرأ بالشبهات وما ادعاه محتمل فيكون شبهة وعن الشافعي كالوجهين ولنا أن الأصل الحرية وهو الظاهر فلم يلتفت الى ما خالفه كما لو فسر صريح القذف بما يحيله (مسألة)(ومن قذف محصناً فزال إحصانه قبل إقامة الحد عليه لم يسقط الحد عن القاذف) وبهذا قال الثوري وابو ثور والمزني وداود، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لاحد عليه لأن الشروط تجب استدامتها إلى حال إقامة الحد بدليل أنه لو ارتد أو جن لم يقم الحد لأن وجود الزنا يقوي قول القاذف ويدل على تقدم الفسق منه فأشبه الشهادة اذا طرأ الفسق بعد أدائها قبل الحكم بها ولنا أن الحد قد وجب وتم بشروطه فلم يسقط بزوال شرط الوجوب كما لو زنى بأمة ثم اشتراها أو سرق عيناً فنقصت قيمتها أو ملكها أو كما لو جن المقذوف بعد المطالبة، وقولهم إن الشروط تعتبر استدامتها قلنا الشروط ههنا للوجوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب وقد وجب الحد بدليل أنه ملك المطالبة به وتبطل الأصول التي ذكروها بالأصول التي قسنا عليها، وأما إذا جن من وجب له الحد فلا يسقط الحد وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة فأشبه مالو غاب من له الحد، فان ارتد من وجب له

الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه واملاكه تزول أو تكون موقوفة، وفارق الشهادة فان العدالة شرط للحكم بها فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها بخلاف مسئلتنا فان العفة شرط للوجوب فلا تعتبر إلا الى حين الوجوب (فصل) ولو وجب الحد على ذمي أو مرتد ملحق بدار الحرب ثم عاد لم يسقط عنه وقال أبو حنيفة يسقط ولنا أنه حد وجب فلم يسقط بدخول دار الحرب كما لو كان مسلماً دخل بأمان (فصل) ويحد من قذف ابن الملاعنة نص عليه أحمد، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن

ص: 218

والشعيي وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي وجمهور العلماء ولا نعلم فيه خلافا، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة أن ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد رواه أبو داود ولأن حضانتها لم تسقط باللعان ولا يثبت الزنا به ولذلك لم يلزمها به حد، ومن قذف ابن الملاعنة فقال هو ولد زنا فعليه الحد للخبر والمعنى، وكذلك إن قال هو من الذي رميت به، فأما إن قال ليس هو ابن فلان يعني الملاعن وأراد أنه منفي عنه شرعاً فلا حد عليه لأنه صادق (فصل) فأما إن ثبت زناه ببينة أو إقرار أو حد للزنا فلا حد على قاذفه لأنه صادق ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنا.

ولو قال لمن زنى في شركه أو من كان مجوسيا تزوج بذات محرم بعد أن أسلم يا زاني فلا حد عليه إذا فسره بذلك وقال مالك عليه الحد لأنه قذف مسلما لم يثبت زناه في إسلامه ولنا أنه قذف من ثبت زناه أشبه ما لو ثبت زناه في الاسلام لانه صادق ومقتضى كلام الخرقي وجوب الحد عليه لقوله ومن قذف من كان مشركاً وقال أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله وحد.

(فصل) قال الشيخ رحمه الله (والقذف محرم ما ذكرنا من الآية والخبر والاجماع الا في موضعين (أحدهما) أن يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه فيعتزلها وتأتي بولد يمكن أن يكون من الزاني فيجب عليه قذفها ونفيه لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني لكونها أتت به لستة أشهر من حين الوطئ فإذا لم ينفه لحقه الولد وورثه وورث أقاربه وورثوا منه ونظر إلى بناته وأخواته وليس ذلك بجائز فيجب نفيه لازالة ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ ولن يدخلها جنته، وأيما رجل جحد ولده

وهو ينظر اليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين) رواه أبو داود وقوله (وهو ينظر اليه) يعني يراه منه فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم فالرجل مثلها وكذا لو أقرت بالزنا ووقع في نفسه صدقها فهو كما لو رآها

ص: 219

(الثاني) أن لا تأتي بولد يجب نفيه مثل أن يراها تزني ولا تأتي بولد يلحقه نسبه أو يكون ثم ولد لكن لا يعلم أنه من الزنا أو استفاض زناها في الناس أو أخبره ثقة ورأى رجلا يعرف بالفجور يدخل عليها فيباح قذفها لأنه يغلب على ظنه فجورها ولا يجب لأنه يمكنه مفارقتها وقد روى علقمة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فذكر أنه يتكلم أو يسكت فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسكوت ههنا أولى إن شاء الله تعالى لأنه أستر ولأن قذفها يلزم منه أن يحلف أحدهما كاذبا أو يقر فيفتضح) (مسألة)(وان أتت بولد يخالف لونه لونهما لم يبح نفيه بذلك وقال أبو الخطاب ظاهر كلامه اباحته) إذا أتت بولد يخالف لونه لونهما ويشبه رجلا غير والديه لم يبح نفيه بذلك لما روى أبو هريرة قال جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي جاءت بولد أسود يعرض بنفيه - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (هل لك من ابل قال نعم قال - فما الوانها؟ - قال - حمر قال - هل فيها من أورق؟ قال ان فيها لورقا قال - فانى (فانى) أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق قال - وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) قال ولم يرخص له في الانتفاء منه متفق عليه ولأن الناس كلهم من آدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة ولولا مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على صفة واحدة ولأن دلالة الشبه ضعيفة ودلالة ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوي لمعارضة الضعيف ولذلك لما تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأى النبي صلى الله عليه وسلم شبهاً بيناً بعتبة الحق الولد بالفراش وترك الشبه وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وذكر القاضي وأبو الخطاب أن ظاهر كلام أحمد جواز نفيه وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث اللعان (إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الاليتين فهو للذي رميت به) فأتت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لولا الأيمان لكان

لي ولها شأن) فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه والصحيح الأول وهذا الحديث إنما يدل على نفيه

ص: 220

عنه مع ما تقدم من لعانه ونفيه اياه عن نفسه فجعل الشبه مرجحاً لقوله دليلاً على تصديقه وما تقدم من الأحاديث يدل على عدم استقلال الشبه بالنفي، ولأن هذا كان في موضع زال الفراش وانقطع نسب الولد عن صاحبه فلا يثبت مع بقاء الفراش المقتضي لحوق النسب بصاحبه وإن كان يعزل عن امرأته لم يبح له نفيه لما روى أبو سعيد أنه قال يا رسول الله إنا نصيب النساء ونحب الأثمان أفنعزل عنهن؟ فقال (إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها) ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فيعلق) (فصل) ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لأنه غير مأمون على الكذب عليها ولا برؤيته رجلاً خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها لأنه يجوز أن يكون دخل سارقاً أو هارباً أو لحاجة أو لغرض فاسد فلم تمكنه ولا لاستفاضة ذلك في الناس من غير قرينة تدل على صدقهم لاحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك عنها، وفيه وجه أنه يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة (فصل) قال رحمه الله والفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية فالصريح قوله يا زاني يا عاهر زنى فرجك مما لا يحتمل غير القذف فلا يقبل قوله بما يحيله لأنه صريح فيه فأشبه التصريح بالطلاق (مسألة)(وإن قال يا لوطي أو يا معفوج فهو صريح في المنصوص عن أحمد وعليه الحد) إذا قذفه بعمل قوم لوط إما فاعلا أو مفعولا به فعليه حد القذف وبه قال الحسن والنخعي والزهري ومالك وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وقال عطاء وقتادة وأبو حنيفة لا حد عليه لأنه قذف بما لا يوجب الحد عنده، وعندنا هو موجب للحد وقد بيناه فيما مضى وكذلك لو قذف امرأة أنها وطئت في دبرها أو قذف رجلا بوطئ امرأة في دبرها فعليه الحد عندنا وعند أبي حنيفة لا حد عليه، ومبنى الخلاف ههنا على الخلاف في وجوب حد الزنى على فاعل ذلك وقد تقدم الكلام فيه، فان قذف رجلاً باتيان بهيمة انبنى ذلك على وجوب الحد على فاعله فمن أوجب عليه الحد أوجب حد القذف على قاذفه ومن لا فلا، وكل مالا يجب الحد بفعله لا يجب الحد على القاذف به كما لو قذف انساناً بالمباشرة فيما دون الفرج أو بالوطئ بالشبهة أو قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطئ مستكرهة

لم يجب الحد على القاذف لأنه رماه بما لا يوجب الحد فاشبه مالو قذفه باللمس والنظر وكذلك لو قال

ص: 221

يا كافر يا فاسق يا سارق يا منافق يا فاجر يا خبيث يا أعور يا أقطع يا أعمى يا مقعد يا ابن الزمن الاعمى الاعرج فلاحد في ذلك كله لأنه قذفه بما لا يوجب الحد فهو كما لو قال يا كاذب يانمام ولا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم ولكنه يعزر لسب الناس وأذاهم فاشبه مالو قذف من لا يوجب قذفه الحد (مسألة)(فإن قال اردت بقولي يا لوطي انك تعمل عمل قوم لوط فقال الخرقي لا حد عليه وهو بعيد) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروى عنه جماعة أنه يجب عليه الحد بقوله يا لوطي ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهو اختيار أبي بكر ونحوه قال الزهري ومالك (والثانية) لا حد عليه نقلها المروذي ونحو هذا قال الحسن والنخعي، قال الحسن إذا قال نويت أن دينه دين لوط فلا حد عليه، وإن قال أردت أنه يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد.

ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد فلم يجب عليه حد كما لو فسره به متصلاً بكلامه.

وعن أحمد رواية ثالثة أنه إذا كان في غضبه قال إنه لأهل أن يقام عليه الحد لأن قرينة الغضب تبدل على إرادة القذف بخلاف حال الرضاء والصحيح في المذهب الرواية الأولى لأن هذه الكلمة لا يفهم منها إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فيه كقوله يا زاني ولأن قوم لوط لم يبق منهم أحد فلا يحتمل أن ينسب إليهم (مسألة)(فإن قال اردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الرجال احتمل وجهين) نحو أن يقول أردت أنك على دين لوط أو أنك تحب الصبيان وتقبلهم أو تنظر اليهم أو انك تتخلق باخلاق قوم لوط في أنديتهم غير إتيان الفاحشة أو أنك تنهى عن الفاحشة كنهي لوط عنها ونحو ذلك خرج في ذلك كله وجهان بناء على الروايتين المنصوصتين في المسألة المذكورة لأن هذا في معناه (فصل) وإن قال يا معفوج فالمنصوص عن أحمد أن عليه الحد وكلام الخرقي يقتضي أنه يرجع إلى تفسيره فان فسره بغير الفاحشة مثل أن قال أردت يا مفلوج أو مصابا دون الفرج ونحو ذلك فلا حد عليه لأنه فسره بما لا حد فيه، وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها

ص: 222

(مسألة)(وإن قال لست بولد فلان فقد قذف أمه) إذا نفى رجلاً عن أبيه فعليه الحد لأنه قذف أمه نص عليه أحمد إلا أنه يسأل عما أراد فان فسره بالقذف فهو قاذف وإن كان منفياً باللعان ثم استلحقه أبوه فهو قذف أيضاً نص عليه، وإن لم يكن استلحقه فلا حد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الولد المنفي باللعان عن أبيه إلا أن يفسره بأن أمه زنت فيكون قاذفاً وإن لم يكن كذلك فهو قذف في الظاهر للأم لأنه لا يكون لغير أبيه الا بزنى أمه ويحتمل أن لا يكون قذفاً لأنه يجوز أن يريد أنك لا تشبهه في كرمه وأخلاقه وكذلك إن نفاه عن قبيلته، وبهذا قال النخعي وإسحاق وبه قال أبو حنيفة والثوري وحماد إذا نفاه عن أمه وكانت أمه مسلمة حرة، وإن كانت ذمية أو رقيقة فلا حد عليه لأن القذف لها ووجه الأول ما روى الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (لا أوتى برجل يقول ان كنانة ليست من قريش الا جلدته) وعن ابن مسعود أنه قال لا جلد إلا في اثنين رجل قذف محصنة أو نفى رجلا عن أبيه وهذا لا يقوله إلا توقيفاً فأما إن نفاه عن أمه فلا حد عليه لأنه لم يقذف احدا بالزنى، وكذلك إن قال إن لم تفعل كذا فلست بابن فلان لأن القذف لا يتعلق بالشرط قال شيخنا والقياس يقتضي أن لا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته لأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا فاشبه مالو قال للأعجمي إنك عربي (مسألة)(وإن قال لست بولدي فعلى وجهين)(أحدهما) أنه يكون قذفاً لها لأنه إذا لم يكن ولده كان لغيره فأشبه مالو قال لأجنبي لست بولد فلان فإنه يكون قذفاً لأمه كذا ههنا (والثاني) لا يكون قاذفاً قاله القاضي لأن للرجل أن يغلظ لولده في القول والفعل (مسألة) (وإن قال أنت أزنى الناس أو ازنى من فلانة فهو قاذف له لأنه أضاف إليه الزنا بصفة المبالغة وهذا قول أبي بكر

ص: 223

وأما الثاني ففيه وجهان (أحدهما) يكون قاذفاً له اختاره القاضي لأنه أضاف الزنا إليهما وجعل أحدهما فيه أبلغ من الآخر فان لفظة أفعل التفضيل تقتضي اشتراك المذكورين في أصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه كقوله أجود من حاتم

(والثاني) يكون قاذفاً للمخاطب خاصة لأن لفظة أفعل تستعمل للمنفرد بالفعل كقوله تعالى (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟) وقال تعالى (فأي الفريقين أحق بالأمن؟) وقال لوط (بناتي هن أطهر لكم) أي من أدبار الرجال ولا طهارة فيهم وقال الشافعي وأصحاب الرأي ليس بقذف للأول ولا للثاني إلا أن يريد به القذف وهو قول ابن حامد ولنا أن موضوع اللفظ يقتضي ما ذكرنا فحمل عليه كما لو قال أنت زان (مسألة)(وإن قال لرجل يا زانية أو لامرأة يازان أو قال زنت يداك ورجلاك فهو صريح في القذف في قول أبي بكر وليس بصريح عند ابن حامد) أما إذا قال لرجل يا زانية أو لامرأة يازان فاختار أبو بكر أنه صريح في قذفهما وهو مذهب الشافعي واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا ان يفسره به وهو قول أبي حنيفة لأنه يحتمل أنه يريد بقوله يا زانية أي يا علامة في الزنا كما يقال للعالم علامة وللكثير الرواية راوية ولكثير الحفظ حفظة ولنا أن ما كان قذفاً لأحد الجنسين كان قذفاً للآخر كقوله زنيت بفتح التاء وبكسرها لهما جميعاً ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة اليهما بلفظ الزنا وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها وكذلك لو قال للمرأة يا شخصاً زانياً وللرجل يانسمة زانية كان قاذفاً، وقولهم إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإن ما كان اسماً للفعل إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة كقولهم حفظة وراوية للمبالغة في الرواية كذلك همزة ولمزة وصرعة ولأن كثيراً من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مراداً بما يراد باللفظ الصحيح، وإن قال زنت يداك أو رجلاك لم يكن قاذفاً في ظاهر المذهب وهو قول ابن حامد لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد بدليل

ص: 224

قول النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي) ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه وفيه وجه آخر أنه يكون قذفاً لأنه اضاف الزنى إلى عضو منه فأشبه مالو أضافه إلى الفرج والأولى أن يرجع إلى تفسيره (مسألة) (وإن قال زنأت في الجبل مهموزاً فهو صريح عند أبي بكر، وقال ابن حامد

إن كان يعرف العربية فليس بصريح) إذا قال زنأت في الجبل بالهمز فهو صريح عند أبي بكر وابي الخطاب لأن عامة الناس لا يفهمون من ذلك إلا القذف فكان قذفاً كما لو قال زنيت وقال ابن حامد إن كان عامياً فهو قذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العربية لم يكن قذفاً لأن معناه في العربية طلعت كقول الشاعر * وارق الى الخيرات زنأ في الجبل * فالظاهر أنه يريد موضوعه ولأصحاب الشافعي في كونه قذفاً وجهان، وإن قال زنأت ولم يقل في الجبل فالحكم كالتي قبلها، وقال الشافعي ومحمد بن الحسن ليس بقذف، قال الشافعي ويستحلف على ذلك ولنا أنه إذا كان عامياً لا يعرف موضوعه في اللغة تعين مراده في القذف ولم يفهم منه سواه فوجب أن يكون قذفاً كما لو فسره بالقذف أو لحن لحناً غير هذا (فصل) إذا قال لرجل زنيت بفلانة كان قذفاً لهما وقد نقل عن أبي عبد الله أنه سئل عن رجل قال لرجل يا ناكح أمه ما عليه؟ قال إن كانت أمة حية فعليه للرجل حد ولأمه حد، وقال مهنا: سألت أبا عبد الله إذا قال الرجل للرجل يا زاني ابن الزاني؟ قال: عليه حدان قلت أبلغك في هذا

ص: 225

شئ؟ قال مكحول قال فيه حدان، وإن أقر إنسان أنه زنى بامرأة فهو قاذف لها سواء لزمه حد الزنا باقراره أو لم يلزمه، وبهذا قال ابن المنذر وأبو ثور ونسبه مذهباً للشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه حد القذف لأنه يتصور منه الزنا بغير زناها لاحتمال أن تكون مكرهة أو موطوءة بشبهة ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة وكان بكراً ثم سأله البينة على المرأة فقال كذب والله يا رسول الله فجلده حد الفرية ثمانين، والاحتمال الذي ذكره لا ينافي الحد بدليل ما لو قال يا نايك أمه فانه يلزمه الحد مع احتمال أن يكون فعل ذلك بشبهة، وقد روي عن أبي هريرة أنه جلد رجلا قال لرجل ذلك ويتخرج لنا مثل قول أبي حنيفة بناء على ما إذا قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت، فان أصحابنا قالوا لا حد عليها في قولها: بك زنيت، لاحتمال وجود الزنا به مع كونه واطئاً بشبهة ولا يجب الحد عليه لتصديقها

إياه وقال الشافعي عليه الحد دونها وليس هذا باقرار صحيح ولنا أنها صدقته فلم يلزمه حد كما لو قال يا زانية أنت أزنى مني فقال أبو بكر هي كالتي قبلها في سقوط الحد ويلزمها له ههنا حد القذف بخلاف التي قبلها فانها أضافت الزنا إليه، وفي التي قبلها أضافته إلى نفسها.

(مسألة)(والكنايات نحو قوله لامرأته قد فضحته وغطيت أو نكست رأسه وجعلت له قروناً وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه أو يقول لمن يخاصمه يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا يا عفيفة أو يا فاجرة يا قحبة يا خبيثة أو يقول لعربي يا نبطي يا فارسي يا رومي، أو يسمع رجلا يقذف رجلا فيقول صدقت أو أخبرني فلان أنك زنيت وكذبه الآخر فهذا كناية أن فسره بما يحتمله غير القذف قبل قوله في أحد الوجهين وفي الآخر هذا كله صريح)

ص: 226

ظاهر كلام الخرقي أن الحد لا يجب على القاذف إلا باللفظ الصريح الذي لا يحتمل غير القذف وهو أن يقول يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع، فأما ما عداه من الالفاظ فيرجع فيه إلى تفسيره كما ذكر في قوله يا لوطي يا معفوج، فلو قال لرجل يا مخنث ولامرأة يا قحبة وفسره بما ليس بقذف نحو أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث والتشبه بالنساء ويا قحبة أنها تستعد لذلك فلا حد عليه وكذلك إذا قال يا فاجرة يا خبيثة.

وحكى أبو الخطاب في هذا رواية أخرى أنه كله صريح يجب به الحد، والصحيح الأول.

قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف والشتيمة، وقال ابن المنذر الحد على من نصب الحد نصباً ولأنه قول يحتمل غير الزنا فلم يكن صريحاً في القذف كقوله: يا فاسق، وكذلك إذا قال أردت بالنبطي نبطي اللسان أو فارسي الطبع أو رومي الخلقة فإنه لا حد عليه، وعنه فيمن قال يا فارسي أنه يحد لأنه جعله لغير أبيه، والأول أصح لأنه يحتمل ما ذكرناه فلا يكون قذفاً وكذلك إن قال أفسدت عليه فراشه أي خرقت فراشه أو أتلفته، وفي قوله علقت عليه أولادا من غيره أي التقطت ولداً وذكرت أنه ولده فان فسر شيئاً من ذلك بالزنا فلا شك في كونه قذفاً.

ومن

صور التعريض أن يقول لزوجة الآخر قد فضحته وغطيت أو نكست رأسه وجعلت له قروناً وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه فذكر أبو الخطاب في جميع ذلك روايتين، وذكر أبو بكر عبد العزيز أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض (فصل) واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في التعريض بالقذف مثل أن يقول لمن يخاصمه ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنا يا حلال ابن الحلال ويقول ما انا بزان ولا أمي بزانية فروى عنه حنبل أنه لا حد عليه وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر وبه قال عطاء وعمروبن دينار وقتادة والثوري والشافعي وأبو ثور

ص: 227

وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل إن امرأتي ولدت غلاماً أسود يعرض بنفيه فلم يلزمه بذلك حد ولاغيره، وقد فرق الله تعالى بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض وحرم التصريح وكذلك في القذف ولأن كل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفاً كقوله يا فاسق.

وروى الأثرم وغيره أن عليه الحد روى ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال إسحاق لأن عمر حين شاورهم في الذي قال لصاحبه ما أبي بزان ولا أمي بزانية فقالوا قد مدح أباه وأمه فقال عمر قد عرض بصاحبه فجلده الحد وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلا قال لآخر يا ابن سافة (1) الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض بكمر الرجال ولأن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالتصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بها، فأما إن لم يكن في حال الخصومة ولا وجدت قرينة تصرف الى القذف فلا شك في أنه لا يكون قذفاً (فصل) فأما إن قال لرجل يا ديوث يا كشحان فقال أحمد يعزر قال ابراهيم الحربي الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته وقال ثعلب القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على نسائه وقال القرنان والكشحان لم أرهما في كلام العرب ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث أو قريباً منه فعلى القاذف به التعزيز على قياس قوله في الديوث لأنه قذفه بما لا حد فيه وقال خالد بن يزيد عن أبيه في الرجل يقول للرجل يا قرنان إذا كان له أخوات أو بنات في الاسلام ضرب الحد يعني أنه قاذف لهن وقال خالد عن أبيه القرنان عند العامة من له بنات والكشحان من له أخوات يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن

والقواد عند العامة السمسار في الزنا، والقذف بذلك كله يوجب التعزير لأنه قذف بما لا يوجب الحد (مسألة) (أو يسمع رجلا يقذف فيقول صدقت أو أخبرني فلان أنك زنيت وكذبه

ص: 228

الآخر فهو كناية إذا فسره بما يحتمله غير القذف قبل في قوله في أحد الوجهين وفي الآخر صريح) إذا سمع رجلا يقذف فقال صدقت فالمصدق قاذف في أحد الوجهين لأن تصديقه ينصرف الى ما قاله، بدليل ما لو قال لي عليك الف فقال صدقت كان اقراراً بها، ولو قال أعطني ثوبي هذا قال صدقت كان إقراراً، وفيه وجه آخر لا يكون قاذفاً وهو قول زفر لأنه يحتمل أن يكون أراد تصديقه في غير القذف، ولو قال أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفاً سواء صدقه المخبر عنه أو كذبه وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وفيه وجه آخر أنه يكون قاذفاً إذا كذبه الآخر وذكره أبو الخطاب وبه قال عطاء ومالك ونحوه عن الزهري لأنه أخبر بزناه ولنا أنه إنما أخبر أنه مقذوف فلم يكن قذفاً كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلا (مسألة)(وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم عزر ولم يحد) لأنه لا عار على المقذوف بذلك للقطع بكذب القاذف ويعزر على ما أتى به من المعصية والزور فهو كما لو سبهم بغير القذف (مسألة)(وإن قال لامرأته يا زانية قالت بك زنيت لم تكن قاذفة) لأنها صدقته فيما قال فلم يجب عليه حد كما لو قالت صدقت، ولا يجب عليها حد القذف لأنه يمكن الزنا منها به من غير أن يكون زانياً بأن يكون قد وطئها بشبهة ولا يجب عليها حد الزنا لأنها لم تقر أربع مرات (مسألة)(وإن قال لرجل اقذفني فقذفه فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين) وهذا مبني على الاختلاف في حد القذف إن قلنا هو حق لله تعالى وجب عليه ولم يسقط بالإذن فيه كالزنا، وإن قلنا هو حق لآدمي لم يجب عليه الحد كما لو أذن في اتلاف ماله ويعزر لأنه فعل محرماً لا حد فيه.

ص: 229

(مسألة)(وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأم في الحياة، وإن قذفت وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة حد القاذف إذا طالب الابن وكان حراً مسلماً ذكره الخرقي وقال أبو بكر لا يجب الحد بقذف ميتة) أما إذا قذفت وهي في الحياة فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها فلا يطالب به غيرها ولا يقوم غيرها مقامها سواء كان محجوراً عليها أو غير محجور عليها لأنه حق ثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص، وتعتبر حصانتها لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد، وأما إن قذفت وهي ميتة فان لولدها المطالبة لأنه قدح في نسبه لأنه بقذف أمه ينسبه الى أنه من زنا ولا يستحق ذلك بطريق الارث فلذلك تعتبر الحصانة فيه ولا تعتبر الحصانة في أمه لأن القذف له، وقال أبو بكر: لا يجب الحد بقذف ميتة بحال وهو قول أصحاب الرأي لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة فأشبه قذف المجنون، وقال الشافعي إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة وينقسم بانقسام الميراث، وإن لم يكن محصناً فلا حد على قاذفه لأنه ليس بمحصن فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حياً، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من لم يقذف محصناً حياً ولا ميتاً لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حياً فلأن لا يحد بقذفه بعد موته أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن الملاعنة (من رمى ولدها فعليه الحد) يعني من رماه بأنه ولد زنا، واذا وجب بقذف ابن الملاعنة بذلك فبقذف غيره أولى، ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين وإن كانا ميتين والحد إنما وجب للولد لأن الحد لا يورث عندهم، فأما إن قذفت أمه بعد موتها وهو مشرك أو عبد فلا حد عليه في ظاهر

ص: 230

كلام الخرقي سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي إذا قال لكافر أو عبد لست لأبيك وأبواه حران مسلمان فعليه الحد، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد لست لأبيك فعليه الحد، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور، وقال أصحاب الرأي يستقبح أن يحد المولى لعبده

واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر احصانها دون إحصانه لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ولأن معنى هذا أن أمك زنت فأتت بك من الزنا وإذا كان الزنا منسوباً إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها ولنا ما ذكرناه ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد لأن الكافر لا يرث المسلم والعبد لا يرث الحر ولأنهم لا يوجبون الحد بقذف ميتة بحال فثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها (فصل) فان قذفت جدته فقياس قول الخرقي أنه كقذف أمه إن كانت حية فالحق لها وتعتبر حصانتها وليس لغيرها المطالبة عنها، وإن كانت ميتة فله المطالبة إذا كان محصناً لأن ذلك قدح في نسبه، فأما إن قذف أباه أو جده أو أحداً من أقاربه غير أمهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه في ظاهر كلام الخرقي لأنه إنما وجب الحد بقذف أمه حقا له لنفي نسبه لا حقا للميت ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر إحصان الولد وإذا كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلم يجب الحد وهذا قول أبي بكر وأصحاب الرأي، وقال الشافعي إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة به وينقسم انقسام الميراث لأنه قذف محصنا فيجب الحد على قاذفه كالحي ولنا أنه قذف من لا يتصور منه المطالبة فلم يجب الحد بقذفه كالمجنون أو نقول قذف من لا يجب الحد له فلم يجب كقذف غير المحصن وفارق قذف الحي فان الحد يجب له (مسألة)(وإن مات المقذوف سقط الحد عن القاذف) إذا كان قبل المطالبة بالحد ولم يجب، وإن مات بعد المطالبة قام وارثه مقامه ولأنه حق له

ص: 231

يجب بالمطالبة أشبه رجوع الأب فيما وهب ولده وكالشفعة تسقط بموت الشفيع قبل المطالبة دون ما بعدها (مسألة)(وإن قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما كان أو كافراً) يعني أن حده القتل ولا تقبل توبته نص عليه أحمد، وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أن توبته تقبل، وبه قال أبو حنيفة والشافعي مسلما كان أو كافراً لأن هذا منه ردة والمرتد يستتاب وتصح توبته.

ولنا أن هذا حد قذف فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لو قبلت توبته وسقط حده لكان أخف حكماً من قذف آحاد الناس لأن قذف غيره لا يسقط بالتوبة ولابد من إقامته واختلفت الرواية فيما إذا كان القاذف كافراً فأسلم فروي أنه لا يسقط باسلامه لأنه حد قذف فلم يسقط بالاسلام كقذف غيرها، وروي أنه يسقط لأنه لو سب الله سبحانه وتعالى في كفره ثم أسلم سقط عنه القتل فسب نبيه أولى ولأن الاسلام يجب ما قبله والخلاف في سقوط القتل عنه، فأما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة فإن الله تعالى يقبل التوبة من الذنوب كلها والحكم في قذف النبي صلى الله عليه وسلم كالحكم في قذف امه لأن قذف امه إنما أوجب القتل لكونه قذفا للنبي صلى الله عليه وسلم وقدحا في نسبه.

(فصل) وقذف النبي صلى الله عليه وسلم وقذف أمه ردة عن الاسلام وخروج عن الملة وكذلك سبه بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله سبحانه وتعالى يسقط بالاسلام فسب النبي صلى الله عليه وسلم أولى وقد جاء في الأثر أن الله تعالى يقول (شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فقوله اني اتخذت ولداً وأنا لم ألد ولم أولد) ولا خلاف في أن إسلام النصراني القائل لهذا القول يصح.

ص: 232

(مسألة)(ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم وعنه إن طالبوا متفرقين حد لكل واحد حداً) أما اذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فالمشهور في المذهب أنه لا يلزمه إلا حد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم، وبهذا قال طاوس والزهري والشعبي والنخعي وقتادة وحماد ومالك والثوري وأبو حنيفة وصاحباه وابن أبي ليلى واسحاق وعنه رواية ثانية أنه يحد لكل واحد حدا كاملاً وبه قال الحسن وأبو ثور وابن المنذر، وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات.

ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)

لم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة فلم يحدهم عمر إلا حدا واحداً، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحداً ولأن الحد إنما وجب بادخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفي به بخلاف مااذا قذف كل واحد قذفاً مفرداً فان كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في الآخر ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده الآخر.

إذا ثبت هذا فانهم ان طلبوا جملة حد لهم وان طلبه واحد أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفي وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على اوليائها في تزويجها اذا قام به واحد سقط عن الباقين وان أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه وليس للعافي الطلب به لأنه قد أسقط حقه منه وعن أحمد رواية ثالثة أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد وكذلك إن طلبوه واحداً بعد

ص: 233

واحد إلا أنه إن لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد وان طلبه فأقيم له ثم طلبه آخر أقيم له وكذلك جميعهم وهذا قول عروة لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع استيفاؤه لجميعهم فإذا طلبه واحد منهم كان استيفاؤه له وحده فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ولا إسقاطهم.

(مسألة)(وإن قذفهم بكلمات حد لكل واحد حداً) .

وبهذا قال عطاء والشعبي وقتادة وابن أبي ليلى وابو حنيفة والشافعي وقال حماد ومالك لا يجب إلا حد واحد لأنها جناية توجب حداً فاذا تكررت كفى حد واحد كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء أو شرب أنواعا من المسكر ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص وفارق ما قاسوا عليه فانه حق الله تعالى (فصل) إذا قال لرجل يا ابن الزانيين فهو قاذف لما بكلمة واحدة، فان كانا ميتين ثبت الحق لولدهما ولم يجب إلا حد واحد وجهاً واحداً، وإن قال يا زاني ابن الزاني فهو قذف لهما بكلمتين فان كان أبوه حيا فلكل واحد منهما حد وإن كان ميتاً فالظاهر في المذهب أنه لا يجب الحد بقذفه وإن قال يا زاني ابن الزانية وكانت أمة (أمه) في الحياة فكل واحد حد، وإن كانت ميتة فالقذفان جميعاً له، وان قال زنيت

بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة وكذلك إذا قال يا ناكح امه ويخرج فيها الروايات الثلاث (مسألة) (وإن حد للقذف فأعاده لم يعد عليه الحد أما اذا قذف رجل مرات ولم يحد فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه وكان قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم وحكي عن ابن القسم أنه أوجب حداً ثانياً وهذا يخالف إجماع الصحابة فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حداً ثانياً فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة قال شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زنى

ص: 234

فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة وجاء زياد فقال ما عندك؟ فلم يثبت فأمر بهم فجلدوا وقال شهود زور فقال أبو بكرة أليس ترضى ان أتاك رجل عدل يشهد برجمه؟ قال نعم والذي نفسي بيده قال أبو بكرة وأنا أشهد أنه زان فأراد أن يعيد عليه الجلد فقال علي يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الجلد أوجبت عليه الرجم وفي حديث آخر فلا يعاد في فرية جلد مرتين قال الأثرم قلت لأبي عبد الله قول علي إن جلدته فارجم صاحبك قال كأنه جعل شهادته شهادة رجلين قال أبو عبد الله وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال يقول إذا

ص: 235

جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهداً آخر، فأما إن حد له ثم قذفه بزنا ثان نظرت فان قذفه بعد طول الفصل فحد ثان لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة الى القاذف ابداً بحيث يتمكن من قذفه بكل حال، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان.

(إحداهما) يحد أيضاً لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد فيلزمه فيه حد كما لو طال الفصل ولأن

ص: 236

سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه كالزنا والسرقة وغيرهما من الاسباب (والثانية) لا يحد لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقيبه كما لو قذفه بالزنا الأول (فصل) إذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم

وكذلك ان اختلف رجلان في شئ فقال أحدهما الكاذب هو ابن الزانية فلا حد عليه، نص عليه أحمد لأنه لم يعين احدا بالقذف وكذلك ما أشبه هذا.

(فصل) إذا ادعى على رجل أنه قذفه فأنكر لم يستحلف وبه قال الشعبي وحماد والثوري

ص: 237

وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه يستحلف حكاها ابن المنذر وهو قول الزهري ومالك والشافعي واسحاق وأبي ثور وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اليمين على المدعى عليه ولأنه حق لآدمي فيستحلف فيه كالدين ووجه الأول أنه حد فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة فإن نكل عن اليمين لم يقم عليه الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يقضى فيه بالنكول كسائر الحدود.

ص: 238

باب القطع في السرقة الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وأما السنة فروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تقطع اليد في ربع دينار) فصاعدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه) متفق عليه في أخبار سوى هذه نذكرها إن شاء الله تعالى في مواضعها، وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة (مسألة)(ولا يجب إلا بسبعة شروط)(احدها) السرقة وهي أخذ المال على وجه الاختفاء ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك (مسألة) ولا قطع على منتهب ولا مختلس ولا غاصب ولا خائن ولا جاحد وديعة ولا عارية وعنه يقطع جاحد العارية) لا يقطع مختطف ولا مختلس عند أحد علمناه غير إياس بن معاوية قال أقطع المختلس ولأنه يستخفي بأخذه فيكون سارقا، وأهل الفقه والفتوى من علماء الأمصار على خلافه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على الخائن ولا المختلس قطع) وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس على

ص: 239

المنتهب قطع) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على الخائن والمختلس قطع) رواهما أبو داود وقال لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير ولأن الواجب قطع السارق وهذا غير سارق ولأن الاختلاس نوع من الخطف والنهب، إنما استخفى في ابتداء اختلاسه بخلاف السارق (فصل) ولا يقطع جاحد الوديعة ولا غيرها من الأمانات لا نعلم فيه خلافاً فأما جاحد العارية فقد اختلف عن أحمد رحمه الله فيه فعنه أنه يقطع وهو قول إسحاق لما روت عائشة قالت كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا أراك تكلمني في حد من حدود الله؟) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال (إنما هلك من كان من قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) قالت فقطع يدها، قال أحمد لا اعرف شيئا يدفعه متفق عليه وعن أحمد رواية ثانية أنه لا قطع عليه وهو قول الخرقي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي الخطاب وسائر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول رسول صلى الله عليه وسلم (لا قطع على الخائن) ولأن الواجب قطع السارق والخائن ليس بسارق فأشبه جاحد الوديعة فأما المرأة التي كانت تستعير المتاع فانما قطعت لسرقتها لا لجحدها: ألا تسمع قوله (ذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه) وقوله (والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) وفي بعض ألفاظ

ص: 240

رواة هذه القصة عن عائشة أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت وذكر القصة رواه البخاري وفي حديث أنها سرقت قطيفة فروى الأثرم بإسناده عن مسعود بن الأسود قال لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا نحن نفديها بأربعين أوقية فقال (تطهر خير لها) فلما سمعنا لين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا اسامة فقلنا كلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بنحو سياق حديث عائشة وهذا ظاهر في أن القصة واحدة وأنها سرقت فقطعت لسرقتها وإنما عرفتها عائشة بجحدها للعارية لكونها مشهورة بذلك ولا يلزم

أن يكون ذلك سبباً كما لو عرفتها بصفة من صفاتها، وفيما ذكرناه جمع بين الأحاديث وموافقة لظاهر الأحاديث والقياس وفقهاء الامصار فيكون أولى (مسألة)(ويقطع الطرار وهو الذي يبط الجيب وغيره ويأخذ منه وعنه لا يقطع) قال أحمد الطرار سراً يقطع وإن اختلس لم يقطع، ومعنى الطرار الذي يسرق من جيب الرجل أو كمه أو صفنه وسواء بط ما أخذ منه المسروق أو قطع الصفن فأخذه أو أدخل يده في الجيب فأخذ ما فيه فان عليه القطع، وروى عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل وكمه لاقطع عليه وفي ذلك روايتان (إحداهما) يقطع لأنه سرق من حرز (والثانية) لا يقطع كالمختلس

ص: 241

(فصل) الثاني أن يكون المسروق مالاً محترماً سواء كان مما يسرع اليه الفساد كالفاكهة والبطيخ اولا وسواء كان ثميناً كالمتاع والذهب أو غير ثمين كالخشب والقصب وكذلك يقطع بسرقة الأحجار والصيد والنورة والجص والزرنيخ والتوابل والفخار والزجاج وغيره وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة لا قطع على سارق الطعام الرطب الذي يتسارع إليه الفساد كالفواكه والطبائخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا قطع في ثمر ولا كثر) رواه أبو داود ولأن هذا معرض للهلاك أشبه ما لم يحرز، ولا قطع فيما كان أصله مباحاً في دار الإسلام كالصيود والخشب إلا في الساج والابنوس والصندل والقنا والمعمول من الخشب فانه يقطع به وما عدا هذا لا يقطع به لأنه يوجد كثيراً مباحاً في دار الإسلام فأشبه التراب، ولا قطع في القرون وإن كانت معمولة لأن الصنعة لا تكون غالبة عليها بل القيمة لها بخلاف معمول الخشب ولا قطع عنده في التوابل والنورة والجص والزرنيخ والملح والحجارة واللبن والزجاج والفخار وقال الثوري ما يفسد في يومه كالثريد واللحم لا قطع فيه ولنا عموم قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فذكر الحديث ثم قال (ومن سرق منه شيئاً بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع) رواه أبو داود وغيره وروي أن عثمان رضي الله عنه أتي برجل قد سرق اترجة فأمر بها عثمان فأقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع رواه

ص: 242

سعيد ولأن هذا مال يتمول عادة ويرغب فيه فيقطع سارقه إذا اجتمعت الشروط كالمجفف ولأن ما وجب القطع في معموله وجب فيه قبل العمل كالذهب والفضة، وحديثهم أراد به الثمر المعلق بدليل حديثنا فانه مفسر له وتشبيهه بغير المحرز لا يصح لأن غير المحرز مضيع وهذا محفوظ ولهذا افترق سائر الاموال بالحرز وعدمه، وقولهم يوجد مباحاً في دار الإسلام ينتقض بالذهب والفضة والحديد والنحاس وسائر المعادن (مسألة)(ويقطع بسرقة العبد الصغير في قول عامة أهل العلم) قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم الحسن ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، والصغير الذي يقطع بسرقته هو الذي لا يميز فان كان كبيراً لم يقطع سارقه إلا أن يكون نائماً أو مجنوناً أو أعجمياً لا يميز بين سيده وغيره في الطاعة فيقطع سارقه، وقال أبو يوسف لا يقطع سارق العبد وان كان صغيراً لأن من لا يقطع بسرقته كبيراً لا يقطع بسرقته صغيراً كالحر ولنا أنه سرق مالا مملوكا تبلغ قيمته نصابا فوجب القطع عليه كسائر الحيوانات وفارق الحر فإنه ليس بمال ولا مملوك وفارق الكبير لأنه لا يسرق وإنما يخدع بشئ فإن كان المسروق في حال نومه أو جنونه أم ولد ففي قطع سارقها وجهان (أحدهما) لا يقطع لأنها لا يحل بيعها ولا نقل الملك

ص: 243

فيها فأشبهت الحرة (والثاني) يقطع لأنها مملوكة تضمن بالقيمة فأشبهت القن وحكم المدبر حكم القن لأنه يجوز بيعه ويضمن بقيمته، فأما المكاتب فلا يقطع سارقه لأن ملك سيده ليس بتام عليه لكونه لا يملك منافعه ولا استخدامه ولا أخذ ارش الجناية عليه ولو جنى السيد عليه لزمه له الأرش ولو استوفى منافعه كرهاً لزمه عوضها ولو حبسه لزمه اجرة مدة حبسه أو انظاره مقدار تلك المدة، ولا يجب القطع لأجل ملك المكاتب في نفسه لأن الانسان لا يملك نفسه فأشبه الحر فأما إن سرق مال المكاتب فعليه القطع لأن ملك المكاتب ثابت في مال نفسه إلا أن يكون السارق سيده فلا قطع عليه لأن له في ماله حقا وشبهة تدرأ الحد ولذلك لو وطئ جاريته لم يحد

(مسألة)(ولا يقطع بسرقة حر وإن كان صغيراً وعنه أنه يقطع بسرقة الصغير) ظاهر المذهب أنه لا يقطع بسرقة الحر الصغير وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وعن أحمد رواية ثانية أنه يقطع بسرقة الصغير وذكرها أبو الخطاب وهو قول الحسن والشعبي ومالك وإسحاق لأنه غير مميز أشبه العبد ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم (مسألة)(فإن كان عليه حلي أو ثياب تبلغ نصابا لم يقطع وبه قال أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي) وفيه وجه آخر أنه يقطع حكاه أبو الخطاب وبه قال أبو يوسف وابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه سرق نصاباً من المال فأشبه مالو سرقه منفرداً

ص: 244

ولنا أنه تابع لما لا قطع في سرقته فأشبه ثياب الكبير ولأن يد الصبي على ما عليه بدليل أن ما يوجد مع اللقيط يكون له وهكذا لو كان الكبير نائما على متاع فسرقه وثيابه لم يقطع لأن يده عليه (فصل) وإن سرق ماء فلا قطع فيه قاله أبو بكر وابو إسحاق بن شاقلا لأنه لا يتمول عادة ولا نعلم فيه خلافا فان سرق كلأ أو ملحاً فقال أبو بكر لاقطع عليه لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه فأشبه المال، وقال أبو إسحاق عليه القطع لأنه يتمول عادة فأشبه التبن والشعير، وأما الثلج فقال القاضي هو كالماء لأنه ماء جامد فأشبه الجليد قال شيخنا والأشبه أنه كالملح لأنه يتمول عادة فأشبه الملح المنعقد من الماء، وأما التراب فإن كان مما تقل الرغبات فيه كالمعد للتطيين والبناء فلا قطع فيه لأنه لا يتمول وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الارمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسل به أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين (أحدهما) لا قطع فيه لأنه من جنس ما لا يتمول أشبه الماء (والثاني) فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل إلى البلدان للتجارة فيه فأشبه العود الهندي ولا يقطع بسرقة السرجين لأنه إن كان نجساً فلا قيمة له وإن كان طاهراً فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات فيه أشبه التراب الذي للبناء وما عمل من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لأنه يتمول عادة

(مسألة)(ولا يقطع بسرقة مصحف وعند أبي الخطاب يقطع)

ص: 245

قال أبو بكر والقاضي لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله تعالى وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه، واختار أبو الخطاب وجوب قطعه، وقال هو ظاهر كلام أحمد فانه سئل عمن سرق كتابا فيه علم لينظر فيه فقال كلما بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لعموم الآية في كل سارق ولأنه متقوم تبلغ قيمته نصابا فوجب القطع بسرقته ككتب الفقه (مسألة)(ويقطع بسرقة سائر كتب العلم) ولا نعلم فيه خلافاً بين أصحابنا في القطع بسرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية لعموم الأدلة (فصل) فإن قلنا لا يقطع بسرقة المصحف وكان عليه حلية تبلغ نصابا خرج فيه وجهان (أحدهما) لا يقطع وهو قياس قول أبي إسحاق بن شاقلا ومذهب أبي حنيفة لأن الحلي تابع لما لا يقطع بسرقته فأشبهت ثياب الحر (والثاني) يقطع وهو قول القاضي لأنه سرق نصابا من الحلي فأشبه مالو سرقه منفرداً وأصل هذين الوجهين من سرق صبياً عليه حلي (فصل) وإن سرق عيناً موقوفة وجب القطع لأنها مملوكة للموقوف عليه ويحتمل أن لا يقطع بناء على الوجه الذي يقول إن الموقوف لا يملكه الموقوف عليه، فعلى هذا إن كان وقفاً غير معين لم يقطع بسرقته.

ص: 246

(مسألة)(ولا يقطع بسرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر) لا يقطع بسرقة آلة لهو كالطنبور والمزمار والشبابة وإن بلغت قيمته مفصلا نصاباً وبهذا قال أبو حنيفة، وقال أصحاب الشافعي إن كانت قيمته بعد زوال تأليفه نصاباً ففيه القطع وإلا فلا لأنه سرق ما قيمته نصاباً لاشبهة له فيه من حرز مثله وهو من أهل القطع فوجب قطعه كما لو كان ذهباً مكسوراً

ولنا أنه آلة للمعصية بالاجماع فلم يقطع بسرقته كالخمر ولأن له حقاً في أخذها لكسرها فكان ذلك شبهة مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده فان كانت عليه حلية تبلغ نصاباً فلا قطع فيه أيضاً في قياس قول أبي بكر لأنه متصل بما لا قطع فيه أشبه الخشب والاوتار وقال القاضي فيه القطع وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرزه أشبه المنفرد (فصل) ولا يقطع بسرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء سرقة من مسلم أو كافر وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن عطاء أن سارق خمر الذمي يقطع وإن كان مسلما لأنه مال لهم أشبه مالو سرق دراهمهم ولنا أنها عين محرمة فلا يقطع بسرقتها كالخنزير ولأن ما لا يقطع بسرقته من المسلم لا يقطع بسرقته من الذمي كالميتة والدم، وما ذكروه ينتقص بالخنزير ولا اعتبار به فإن الاعتبار بحكم الاسلام وهو يجري عليهم دون أحكامهم (مسألة)(وإن سرق آنية فيها الخمر أو صليباً أو صنم ذهب لم يقطع وعند أبي الخطاب يقطع)

ص: 247

إذا سرق إناء فيه خمر يقطع وهو مذهب الشافعي كما لو سرقه ولا شئ فيه، وقال غيره من أصحابنا لا يقطع لأنه متصل بما لا قطع فيه فأشبه مالو سرق شيئاً مشتركا بينه وبين غيره بحيث تبلغ قيمته بالشركة نصاباً وقال ابن شاقلا لو سرق اداوة فيها ماء لم يقطع لاتصالها بما لا قطع فيه ووجه الأول أنه سرق نصابا من حرز لا شبهة له فيه أشبه مالو سرقه فارغاً، وإن سرق صليباً أو صنماً من ذهب أو فضة يبلغ نصاباً متصلا فقال القاضي لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة، وقال أبو الخطاب يقطع سارقه وهو مذهب الشافعي، ووجه الوجهين ما تقدم فيما إذا سرق آلة لهو محلاة والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن التي قبلها له كسره بحيث لا يبقى له قيمة تبلغ نصابا وههنا لو كسر الذهب والفضة بكل وجه لم تنقص قيمته عن النصاب ولأن الذهب والفضة جوهرهما غالب على الصنعة المحرمة فكانت الصناعة فيها مغمورة بالنسبة إلى قيمة جوهرهما وغيرهما بخلافهما فتكون الصناعة غالبة عليه فيكون تابعاً للصناعة المحرمة فأشبه الأوتار

(فصل) ولو سرق إناء من ذهب أو فضة قيمته نصاباً إذا كان منكسرا فعليه القطع لأنه غير مجمع على تحريمه وقيمته بدون الصناعة المختلف فيها نصاب وإن سرق إناء معداً لحمل الخمر ووضعه فيه ففيه القطع لأن الإناء لا تحريم فيه وإنما يحرم عليه نيته وقصده فأشبه مالو سرق سكيناً معدة لذبح

ص: 248

الخنازير أو سيفاً يعد لقطع الطريق ولو سرق منديلا في طرفه دينار مشدود يعلم به فعليه القطع وإن لم يعلم به فلا قطع فيه لأنه لم يقصد سرقته فأشبه مالو تعلق بثوبه، وقال الشافعي يقطع لأنه سرق نصابا فأشبه مالو سرق ما لا يعلم أن قيمته نصاب والفرق بينهما أنه علم بالمسروق ههنا وقصد سرقته بخلاف الدينار فانه لم يرده ولم يقصد أخذه فلا يؤاخذ به بايجاب الحد عليه (فصل) الثالث أن يسرق نصابا وهو ثلاثة دراهم أو قيمة ذلك من الذهب والعروض، وعنه أنه ثلاثة دراهم أو ربع دينار أو ما يبلغ قيمة أحدهما من غيرهما وعنه لا تقوم العروض إلا بالدراهم فلا يجب القطع بسرقة دون النصاب في قول الفقهاء كلهم إلا الحسن وداود وابن بنت الشافعي والخوارج فإنهم قالوا يقطع في القليل والكثير لعموم الآية ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده) متفق عليه ولأنه سارق من حرز فتقطع يده كسارق الكبير ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) متفق عليه واجماع الصحابة على ما سنذكره وهذا يخص عموم الآية، والحبل يحتمل أن يساوي ذلك، وكذلك البيضة يحتمل أن يراد بها البيضة السلاح وهي تساوي ذلك، واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في قدر النصاب الذي

ص: 249

يجب القطع بسرقته فروى عنه أبو إسحاق الجوزجاني أنه ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما وهذا قول مالك واسحاق وروى عنه الأثرم أنه إن سرق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع وعنه أن الأصل الورق ويقوم الذهب به فإن نقص ربع دينار عن ثلاثة دراهم لم يقطع سارقه وهذا يحكى عن الليث وأبي ثور وقالت عائشة لا قطع

إلا في ربع دينار فصاعداً، وروى هذا عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والاوزاعي والشافعي وابن المنذر لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) وقال عثمان البتي تقطع اليد في درهم فما فوقه وعن أبي هريرة وأبي سعيد أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعداً، وعن عمر رضي الله عنه أن الخمس لا تقطع إلا في الخمس وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة.

وروي ذلك عن الحسن قال أنس رضي الله عنه قطع أبو بكر في مجن قيمته خمس دراهم رواه الجوزجاني باسناده وقال عطاء وأبو حنيفة وأصحابه لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم لما روى الحجاج ابن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع إلا في عشرة دراهم) وروى ابن عباس قال قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم وعن النخعي لا تقطع اليد إلا في أربعين درهماً

ص: 250

ولنا ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه قيمته ثلاثة دراهم متفق عليه قال ابن عبد البر هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يختلف أهل العلم في ذلك وحديث أبي حنيفة الأول يرويه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، والذي روي عن الحجاج ضعيف أيضاً والحديث الثاني لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه فإن من أوجب القطع بثلاثة دراهم أوجبه بعشرة ويدل هذا الحديث على أن العرض يقوم بالدارهم لأن المجن قوم بها ولأن ما كان الذهب فيه أصلاً كان الورق فيه أصلاً كنصب الزكوات والديات وقيم المتلفات، وقد روى أنس أن سارقاً سرق مجناً ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم أو ما يساوي ثلاثة دراهم فقطعه أبو بكر وأتي عثمان برجل قد سرق اترجة فأمر بها عثمان فقومت فبلغت قيمتها ربع دينار فقطع (فصل) وإذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص ففيه القطع وإن كان فيه غش أو تبر يحتاج إلى تصفية لم يجب القطع حتى يبلغ ما فيه من الذهب ربع دينار لأن السبك ينقصه وان سرق ربع دينار قراضة أو تبراً خالصأ او حليا ففيه القطع نص عليه أحمد في رواية الجوزجاني قال قلت

له كيف يسرق ربع دينار فقال قطعة ذهب أو خاتماً او حليا وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي وذكر القاضي في وجوب القطع احتمالين (أحدهما) لا قطع عليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الدينار اسم للمضروب

ص: 251

ولنا أن ذلك ربع دينار لأنه يقال له دينار قراضة ومكسور أو دينار خلاص ولأنه لا يمكنه سرقة ربع دينار مفرد في الغالب إلا مكسوراً، وقد أوجب عليه القطع بذلك ولأنه حق لله تعالى تعلق بالمضروب فتعلق بما ليس بمضروب كالزكاة والخلاف فيما إذا سرق من المكسور والتبر ما لا يساوي ربع دينار صحيح فإن بلغ ذلك ففيه القطع، والدينار هو المثقال من مثاقيل الناس اليوم وهو الذي كل سبعة منها عشرة دراهم وهو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله ولم يتغير وإنما كانت الدراهم مختلفة فجمعت وجعلت كل عشرة منها سبعة مثاقيل فهي التي يتعلق القطع بثلاثة منها إذا كانت خالصة مضروبة كانت أو غير مضروبة على ما ذكرناه في الذهب وعند أبي حنيفة أن النصاب إنما يتعلق بالمضروب منها، وقد ذكر مادل عليه ويحتمل ماقاله في الدراهم لأن إطلاقها يتناول الصحاح المضروبة بخلاف ربع الدينار على أننا قد ذكرنا فيها احتمالاً متقدماً فههنا أولى وما قوم من غيرهما بهما فلا قطع فيه حتى يبلغ ثلاثة دراهم صحاحا لأن إطلاقها ينصرف إلى المضروب دون المكسر (مسألة)(وإن سرق نصابا ثم نقصت قيمته أو ملكه ببيع أو هبة أو غيرهما لم يسقط القطع) إذا نقصت قيمة العين عن النصاب بعد إخراجها من الحرز لم يسقط القطع وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يسقط لأن النصاب شرط فتعتبر استدامته ولنا قول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأنه نقص حدث في العين فلم يمنع

ص: 252

القطع كما لو حدث باستعماله، والنصاب شرط لوجوب القطع فلا تعتبر استدامته كالحرز وما ذكره يبطل بالحرز فإنه لو زال الحرز لم يسقط عنه القطع وسواء نقصت قيمتها بعد الحكم أو قبله لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ.

فأما إن نقص النصاب قبل الاخراج لم يجب القطع لعدم

الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله.

فإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها لم يجب القطع لأن الوجوب لا يثبت مع الشك في شرطه ولأن الاصل عدمه (مسألة)(وإن ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غير ذلك من أسباب الملك وكان ملكها قبل رفعه إلى الحاكم والمطالبة بها عنده لم يجب القطع) وبهذا قال مالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه خلافا، وإن ملكها بعده لم يسقط القطع عند مالك والشافعي وإسحاق، وقال أصحاب الرأي يسقط لأنها صارت ملكه فلا يقطع في عين هي ملكه كما لو ملكها قبل المطالبة بها ولأن المطالبة شرط والشروط يعتبر دوامها ولم يبق لهذه العين مطالب ولنا ما روى الزهري عن ابن صفوان عن صفوان بن أمية أنه نام في المسجد وتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم إن يقطع فقال صفوان

ص: 253

يارسول الله لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهلا كان قبل أن تأتيني به؟) رواه ابن ماجه والجوزجاني وفي لفظ قال فأتيته فقلت اتقطعه من أجل ثلاثين درهم؟ أنا أبيعه وانسئه ثمنها قال (فهلا كان قبل أن تأتيني به؟) رواه الاثرم وأبو داود فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه اليه لدرأ القطع وبعده لا يسقطه، وقولهم ان المطالبة شرط قلنا هي شرط الحكم لا شرط القطع بدليل أنه لو استرد العين لم يسقط القطع وقد زالت المطالبة (مسألة)(وإن دخل الحرز فذبح شاة قيمتها نصاب فنقصت عن النصاب ثم أخرجها لم يقطع) لأن من شرط وجوب القطع أن يخرج من الحرز العين وهي نصاب ولم يوجد الشرط (مسألة)(وإن سرق فرد خف قيمته منفرداً درهمان وقيمته مع الآخر أربعة لم يقطع) لأنه لم يسرق نصابا فلم يوجد الشرط (مسألة)(وإن اشتركوا في سرقة نصاب قطعوا سواء أخرجوه جملة أو أخرج كل واحد جزءاً)

إذا اشترك جماعة في سرقة نصاب قطعوا ذكره الخرقي وهو قول أصحابنا وبه قال مالك وأبو ثور وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي واسحاق لا قطع عليهم الا ان تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا لأن كل واحد لم يسرق نصابا فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد بدون النصاب.

قال شيخنا: وهذا القول أحب إلي لأن القطع ههنا لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب والاحتياط باسقاطه

ص: 254

أولى من الاحتياط بايجابه ولأنه مما يدرأ بالشبهات، واحتج من أوجبه بأن النصاب أحد شرطي القطع فاذا اشترك الجماعة كانوا كالواحد قياسا على هتك الحرز ولأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلا يشترك الجماعة في حملة وبين أن يخرج كل واحد منهم جزءاً ونص أحمد على هذا وقال مالك: إن انفرد كل واحد منهم بجزء لم يقطع واحد منهم كما لو انفرد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منها لم يجب القصاص.

ولنا أنهم اشتركوا في هتك الحرز واخراج النصاب فلزمهم القطع كما لو كان ثقيلا فحملوه وفارق القصاص فانه يعتمد المماثلة ولا توجد المماثلة إلا أن توجد أفعالهم في جميع اجزاء اليد وفي مسئلتنا القصد الزجر من غير إعتبار مماثلة والحاجة إلى الزجر عن إخراج المال موجودة وسواء دخلا الحرز معاً أو دخل أحدهما فاخرج بعض النصاب ثم دخل الآخر فأخرج باقيه لأنهما اشتركا في هتك الحرز واخراج النصاب فوجب عليهما القطع كما لو حملاه معاً (فصل) فإن كان أحد الشريكين مما لاقطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد الوجهين كما لو شاركه في قطع يد ابنه والثاني لا يقطع وهو أصح لأن سرقتهما جميعاً صارت علة لقطعهما سرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع لأنه أخذ ماله أخذه بخلاف قطع يد ابنه فان الفعل تمحض

ص: 255

عدواناً وإنما سقط القصاص لفضيلة الأب لا لمعنى في فعله وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه فوجب أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطئ فأما إن أخرج كل واحد منهما نصابا وجب القطع

على شريك الأب لأنه انفرد بما يوجب القطع فان أخرج الأب نصابا وشريكه دون النصاب ففيه الوجهان، وإن اعترف اثنان بسرقة نصاب ثم رجع أحدهما فالقطع على الآخر لأنه اختص بالاسقاط فيختص بالسقوط ويحتمل أن يسقط عن شريكه، لأن السبب السرقة منهما وقد اختل أحد جزأيها وكذلك لو أقر بمشاركة آخر في سرقة نصاب ولم يقر الآخر ففي القطع وجهان.

(مسألة)(وإن هتك اثنان حرزا ودخلاه فأخرج أحدهما نصابا وحده أو دخل أحدهما فقدمه إلى باب النقب وأدخل الآخر يده فأخرجه قطعا) أما إذا هتك اثنان حرزا ودخلاه فأخرج أحدهما نصابا وحده فقال أصحابنا القطع عليهما.

وبه قال أبو حنيفة وصاحباه إذا أخرج نصابين وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يختص القطع بالمخرج لأنه هو السارق، وإن أخرج أحدهما دون النصاب والآخر أكثر من نصاب فما نصابين فعند أصحابنا وأبي حنيفة وصاحبيه يجب القطع عليهما وعند الشافعي وموافقيه لاقطع على من لم يخرج نصابا وإن أخرج أحدهما نصابا والآخر دون النصاب فعند أصحابنا عليهما القطع وعند

ص: 256

الشافعي القطع على مخرج النصاب وحده وعند أبي حنيفة لا قطع على واحد منهما لأن المخرج لم يبلغ نصبا بعدد السارقين وقد ذكرنا وجه ما قلنا فيما تقدم.

(مسألة)(فإن نقبا حرزاً فدخل أحدهما فقرب المتاع من النقب وأدخل الآخر يده فأخرجه فقال أصحابنا قياس قول أحمد أن القطع عليهما) .

وقال الشافعي القطع على الخارج لأنه مخرج للمتاع وقال أبو حنيفة لا قطع على واحد منهما ولنا أنهما اشتركا في هتك الحرز وإخراج المتاع فلزمهما القطع كما لو حملاه معاً فأخرجاه، وإن وضعه في النقب فمد الآخر يده فأخرجه فأخذه فالقطع عليهما ونقل عن الشافعي في هذه المسألة قولان كالمذهبين في الصورة التي قبلها.

(فصل) قال أحمد في رجلين دخلا داراً أحدهما في سفلها جمع المتاع وشده بحبل والآخر في علوها مد الحبل فرمى به وراء الدار فالقطع عليهما لأنهما اشتركا في إخراجه.

(مسألة)(وإن رماه الداخل إلى خارج فأخذه الآخر فالقطع على الداخل وحده) وإن اشتركا في النقب، لأن الداخل أخرج المتاع وحده فاختص القطع به.

(مسألة)(وإن نقب أحدهما ودخل الآخر فأخرجه فلا قطع عليهما ويحتمل أن يقطعا)

ص: 257

وإنما لم يقطعا لأن الاول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز وإنما سرق من حرز هتكه غيره فأشبه مالو نقب رجل وانصرف وجاء آخر فصادف الحرز مهتوكاً فسرق منه، ويحتمل أن يقطعا لأنهما اشتركا في سرقة نصاب أشبه مالو دخلا معاً فأخرج أحدهما المتاع (مسألة)(إلا أن ينقب أحدهما ويذهب فيأتي الآخر من غير علم فيسرق فلا قطع) لأنه لم يهتك الحرز ومن شرط وجوب القطع هتكه فقد فات الشرط فيفوت المشروط.

(فصل) فان اشترك رجلان في النقب ودخل أحدهما فاخرج المتاع وحده أو أخذه وناوله لآخر خارجا من الحرز فالقطع على الداخل وحده لأنه أخرج المتاع وحده مع مشاركته في النقب وبهذا قال الشافعي وابو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة لاقطع عليهما، لأن الداخل لم ينفصل عن الحزر ويده على السرقة فلم يلزمه القطع كما لو أتلفه داخل الحرز ولنا أن المسروق خرج من الحرز ويده عليه فوجب عليه القطع كما لو خرج به بخلاف مالو أتلفه لأنه لم يخرجه من الحرز.

(فصل) الرابع أن يخرجه من الحرز، يشترط أن يسرق من حرز ويخرجه منه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والشعبي وأبو الاسود الديلي وعمر بن عبد العزيز والزهري وعمرو بن دينار

ص: 258

والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم إلا قولاً حكي عن عائشة والحسن والنخعي فيمن جمع المتاع فلم يخرج به من الحرز: عليه القطع وعن الحسن مثل قول الجماعة وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه قال إبن المنذر ليس في خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه فهو كالاجماع

والإجماع حجة على من خالفه وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر فقال (ما أخذ من غير اكمامه واحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان في الجران ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن) رواه أبو داود وابن ماجة وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب.

(مسألة)(فان سرق من غير حرز فلا قطع عليه) لفوات شرطه مثل أن يجد حرزاً مهتوكاً أو باباً مفتوحاً فيأخذ منه فلا قطع عليه لذلك.

(مسألة)(فان دخل الحرز فأتلف فيه نصاباً ولم يخرجه فلا قطع عليه) لأنه لم يسرق لكن يلزمه ضمانه لأنه أتلفه ولا يقطع حتى يخرجه من الحرز فمتى أخرجه من الحرز فعليه القطع سواء حمله إلى منزله أو تركه خارجاً من الحرز.

(مسألة) (وإن ابتلع جوهراً أو ذهباً فخرج به أو نقب ودخل فترك المتاع على بهيمة فخرجت به

ص: 259

أو في ماء جار فأخرجه أو قال لصغير أو معتوه ادخل فأخرجه ففعل فعليه القطع) أما إذا دخل الحرز فابتلع جوهرة أو ذهباً وخرج فان لم يخرج ما ابتلعه فلا قطع عليه لأنه أتلفه في الحرز، وإن خرج ففيه وجهان (أحدهما) يجب لأنه أخرجها في وعائها فأشبه إخراجها في كمه (والثاني) لا يجب القطع لأنه ضمنها بالبلع فكان اتلافاً لها ولأنه ملجأ الى اخراجها لأنه لا يمكنه الخروج بدونها، وإن ترك المتاع على دابة فخرجت بنفسها من غير سوقها أو ترك المتاع في ماء راكد فانفتح فخرج المتاع أو على حائط في الدار فأطارته الريح ففي ذلك وجهان (أحدهما) عليه القطع لأن فعله سبب خروجه فأشبه مالو ساق البهيمة أو فتح الماء وحلق الثوب في الهواء (والثاني) لا قطع عليه لأن الماء لم يكن آلة للاخراج وإنما خرج المتاع بسبب حادث من غير فعله والبهيمة لها اختيار لنفسها، فأما إن ساق الدابة فخرجت بالمسروق أو تركه في ماء جار فخرج به فعليه القطع لأنه هو المخرج إما بنفسه وإما بآلته فوجب عليه القطع كما لو حمله فأخرجه وكذلك لو أمر صبياً لا يميز أو معتوهاً فأخرجه فعليه القطع لأنه آلة له.

(فصل) وسواء دخل الحرز فأخرجه أو نقبه ثم أدخل إليه يده أو عصا لها شجنة فاجتذبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا حد عليه إلا أن يكون البيت صغيراً لا يمكنه دخوله لأنه لم يهتك الحرز بما أمكنه فأشبه المختلس.

ولنا أنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وهو من أهل القطع فوجب عليه كما لو كان

ص: 260

البيت ضيقاً ويخالف المختلس لأنه يهتك الحرز، وإن رمى المتاع فأطارته الريح فأخرجته فعليه القطع لأنه متى كان إبتداء الفعل منه لم يؤثر فعل الريح كما لو رمى صيداً فأعانت الريح السهم حتى قتل الصيد حل، ولو رمى الجمار فأعانتها الريح حتى وقعت في المرمى احتسب به وصار هذا كما لو ترك المتاع في الماء فجرى به فأخرجه.

(فصل) إذا أخرج المتاع من بيت في الدار أو الخان إلى الصحن فان كان باب البيت مغلقاً ففتحه أو نقبه فقد أخرج المتاع من الحرز وإن لم يكن مغلقاً فما أخرجه من الحرز، وقد قال أحمد إذا أخرج المتاع من البيت إلى الدار يقطع وهو محمول على الصورة الاولى (فصل) إذا دخل السارق الحرز فاحتلب لبناً من ماشية وأخرجه فعليه القطع وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قطع عليه لأنه من الأشياء الرطبة وقد مضى الكلام معه في هذا وإن شربه في الحرز أو شرب منه فانتقص النصاب فلا قطع عليه لأنه لم يخرج من الحرز نصاباً، وإن ذبح الشاة في الحرز أو شق الثوب ثم أخرجهما وقيمتهما بعد الشق والذبح نصاب فعليه القطع وبه قال الشافعي وقال الثوري لا قطع عليه في الشاة لأن اللحم لا يقطع بسرقته عنده والثوب إن شق أكثره فلا قطع فيه لأن صاحبه مخير بين (1) أن يضمنه قيمة جميعه فيكون قد أخرجه وهو ملكه وقد تقدم الكلام معه في هذه الأصول، وان تطيب وخرج ولم يبق عليه من الطيب ما إذا جمع كان نصاباً فلا قطع عليه

(1) كذا بالاصل ونسخ المغنى

ص: 261

لأن ما لا يجتمع قد أتلفه باستعماله فأشبه ما لو أكل الطعام، وإن كان يبلغ نصابا فعليه القطع لأنه

أخرج نصاباً وذكر فيه وجه آخر فيما إذا كان ما تطيب به يبلغ نصبا فعليه القطع وإن نقص ما يجتمع عن النصاب لأنه أخرج نصابا والأول أولى لأنه حين الإخراج ناقص عن النصاب، وإن جر خشبة فألقاها بعد أن خرج بعضها من الحرز فلا قطع عليه سواء خرج منها ما يساوي نصاباً أو لا لأن بعضها لا ينفرد عن البعض وكذلك لو أمسك الغاصب طرف عمامته والطرف الآخر في يد مالكها لم يضمنها وكذلك لو سرق ثوباً أو عمامة فأخرج بعضهما (فصل) فان نقب الحرز ثم دخل فأخرج ما دون النصاب ثم دخل فأخرج ما بقي من النصاب وكان في وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة منفردة لا تبلغ نصابا وكذلك إن كانا في ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة وإن تقاربا وجب القطع لأنها سرقة واحدة ولأنه إذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه إذا سرقا نصاباً فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى (مسألة)(والحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه ويختلف باختلاف الاموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه) الحرز ما عدا حرزاً في العرف فانه لم ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه

ص: 262

رد ذلك إلى أهل العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فرجع اليه كما رجعنا اليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك.

إذا ثبت ذلك فحرز الاثمان والجواهر والقماش في الدور والدكاكين في العمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة، وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران أو يكون فيها حافظ فيكون حرزاً وإن كانت مفتوحة إن لم تكن مغلقة ولا فيها حافظ فليست بحرز وإن كانت فيها خزائن مغلقة فالخزائن حرز لما فيها وما خرج عنها فليس بحرز وقد روي عن أحمد في البيت الذي ليس عليه غلق فسرق منه: أراه سارقاً وهذا محمول على أن أهله فيه فأما البيوت التي في البساتين أو الطرق أو الصحراء فإن لم يكن فيها أحد فليست حرزاً سواء كانت مغلقة أو مفتوحة لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران وانصرف عنه

لا يعد حافظاً له وإن أغلق عليه، وإن كان فيها أهلها أو حافظ فهو حرز سواء كانت مغلقة أو مفتوحة وإذا كان لابساً للثوب أو متوسداً له نائماً أو مستيقظاً أو مفترشاً له أو متكئاً عليه في أي موضع كان من البلد أو برية فهو محرز بدليل رداء صفوان سرق وهو متوسده فقطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقه وإن تدحرج عن الثوب زال الحرز إن كان نائماً، وإن كان الثوب بين يديه أو غيره من المتاع كبز

ص: 263

البزازين وقماش الباعة وخبز الخبازين بحيث يشاهده وينظر إليه فهو محرز وإن نام أو كان غائباً عن موضع مشاهدته فليس بمرحز وإن جعل المتاع في الغرائر وعكم عليها ومعها حافظ يشاهدها فهي محرزة وإلا فلا.

(فصل) والخيمة والخركاة إن نصبت وكان فيها أحد نائماً أو منتبهاً فهي محرزة وما فيها لأنها هكذا تحرز في العادة وإن لم يكن فيها أحد ولا عندها حافظ فلا قطع على سارقها، وممن أوجب القطع في السرقة من الفسطاط الثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا: يقطع السارق من الفسطاط دون سارق الفسطاط.

ولنا أنه محرز بما جرت به العادة أشبه ما فيه (مسألة)(وحرز البقل والباقلا ونحوه وقدوره وراء الشرائج إذا كان في السوق حارس) والشرائج تكون من القصب والخشب (مسألة)(وحرز الخشب الحطب الحظائر) وكذلك القصب وتعبئة بعضه على بعض وتقييده بقيد بحيث يعسر أخذ شئ منه على ما جرت العادة إلا أن يكون في فندق مغلق عليه فيكون محرزاً وإن لم يقيد (مسألة)(وحرز المواشي الصير وحرزها في المراعي بالراعي ونظره إليها)

ص: 264

فما غاب منها عن مشاهدته فقد خرج عن الحرز لأن الراعية هكذا تحرز (مسألة)(وحرز حمولة الابل بتقطيرها وقائدها وسائقها إذا كان يراها) الإبل على ثلاثة أضرب: باركة وراعية وسائرة فأما الباركة فان كان معها حافظ لها وهي معقولة

فهي محرزة وإن لم تكن معقولة وكان الحافظ ناظراً اليها أو مستيقظاً بحيث يراها فهي محرزة وإن كان نائماً أو مشغولاً عنها فليست محرزة لأن العادة أن الرعاة إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم ولأن المعقولة تنبه النائم والمشتغل، وإن لم يكن معها أحد فهي غير محرزة سواء كانت معقولة أو لم تكن.

وأما الراعية فحرزها بنظر الراعي إليها فما غاب عن نظره أو نام عنه فليس بمحرز لأن الراعية إنما تحرز بالراعي ونظره.

وأما السائرة فان كان معها من يسوقها فحرزها بنظره إليها سواء كانت مقطرة أو غير مقطرة فما كان منها بحيث لا يراه فليس بمحرز وإن كان معها قائد فحرزها أن يكثر الالتفات إليها والمراعاة لها وتكون بحيث يراها إذا التفت وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: لا يحرز القائد إلا التي زمامها بيده لأنه يوليها ظهره ولا يراها إلا نادراً فيمكن أخذها من حيث لا يشعر ولنا أن العادة في حفظ الابل المقطرة بمراعاتها بالالتفات وإمساك زمام الأول فكان ذلك حرزاً

ص: 265

لها كالتي زمامها في يده فإن سرق من أحمال الجمال السائرة المحرزة متاعا قيمته نصاب قطع وكذلك إن سرق الحمل وإن سرق الجمل بما عليه وصاحبه نائم عليه لم يقطع لأنه في يد صاحبه وإن لم يكن صاحبه عليه قطع وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه لأن ما في الحمل محرز به فاذا أخذ جميعه لم يهتك حرز المتاع فصار كما لو سرق أجزاء الحرز ولنا أن الجمل محرز بصاحبه ولهذا لو لم يكن معه لم يكن محرزاً فقد سرقه من حرز مثله فأشبه ما لو سرق المتاع ولا نسلم أن سرقة الحرز من حرزه لا توجب القطع فانه لو سرق الصندوق بما فيه من بيت هو محرز فيه وجب قطعه وهذا التفصيل في الإبل التي في الصحراء فأما التي في البيوت والمكان المحصن على الوجه الذي ذكرناه في الثياب فهي محرزة والحكم في سائر المواشي كالحكم في الإبل على ما ذكرنا من التفصيل فيها (مسألة)(وحرز الثياب في الحمام بالحافظ) فان سرق من الحمام ولا حافظ فيه فلا قطع عليه في قول عامتهم وإن كان ثم حافظ فقال أحمد ليس على سارق الحمام قطع.

وقال في رواية ابن

منصور لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع قاعد مثل ما صنع بصفوان وهذا قول أبي حنيفة لأنه مأذون للناس في دخوله فجرى مجرى سرقة الضيف من البيت المأذون له في دخوله ولأن دخول الناس اليه يكثر فلا يتمكن الحافظ من حفظ ما فيه، وفيه رواية أخرى أنه يجب القطع إذا كان فيه

ص: 266

حافظ حكاها القاضي وهو قول مالك والشافعي واسحاق وأبي ثور وابن المنذر لأنه متاع له حافظ فيجب قطع سارقه كما لو كان في البيت.

قال شيخنا: والصحيح الأول وهذا يفارق ما في البيت من الوجهين اللذين ذكرناهما، فأما إن كان صاحب الثياب قاعداً عليها أو متوسداً لها أو جالساً وهي بين يديه يحفظها قطع سارقها بكل حال كما قطع سارق رداء صفوان من المسجد وهو متوسد له، وكذلك إن كان صاحب الثياب إما الحمامي وإما غيره حافظاً لها على هذا الوجه قطع سارقها لأنها محرزة وإن لم تكن كذلك فقال القاضي إن نزع الداخل ثيابه على ما جرت به العادة ولم يستحفظها لأحد فلا قطع على سارقها ولا غرم على الحمامي لأنه غير مودع فيضمن ولا هي محرزة فيقطع سارقها، وإن استحفظها الحمامي فهو مودع تلزمه مراعاتها بالنظر والحفظ فان تشاغل عنها وترك النظر إليها فسرقت فعليه الغرم لتفريطه ولا قطع على السارق لأنه لم يسرق من حرز وإن تعاهدها الحمامي بالحفظ والنظر فسرقت فلا غرم عليه لعدم تفريطه وعلى السارق القطع لأنها محرزة وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد أنه لا قطع عليه أيضاً في هذه الصورة لما تقدم.

قال إبن المنذر قال أحمد أرجو أن لا قطع عليه لأنه مأذون للناس في دخوله.

ولو استحفظ رجل آخر متاعه في المسجد فسرق فإن كان قد فرط في مراعاته ونظره إليه فعليه الغرم إذا كان التزم حفظه وأجابه إلى ما سأله وإن لم يجبه لكن سكت لم يلزمه غرم لأنه ما قبل الاستيداع ولا قبض المتاع، ولا قطع على السارق في الموضعين لأنه غير محرز، وإن حفظ المتاع بنظره إليه وقربه منه فسرق فلا غرم عليه وعلى السارق القطع لأنه سرق من حرز

ص: 267

ويفارق المتاع في الحمام فإن الحفظ فيه غير ممكن لأن الناس يضع بعضهم ثيابه عند ثياب بعض ويشتبه على الحمامي صاحب الثياب فلا يمكنه منع أخذها لعدم علمه بمالكها

(مسألة)(وحرز الكفن في القبر على الميت فلو نبش قبرا وأخذ الكفن قطع) روي عن ابن الزبير أنه قطع نباشا، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والشعبي والنخعي وحماد ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة والثوري لا قطع عليه لأن القبر ليس بحرز لأن الحرز ما يوضع فيه المتاع للحفظ والكفن لا يوضع في القبر لذلك ولأنه ليس بحرز لغيره فلا يكون حرزاً لغيره، ولأن الكفن لامالك له ولأنه لا يخلو إما أن يكون ملكا للميت أو لوارثه وليس ملكا لواحد منهما لأن الميت لا يملك شيئاً ولم يبق أهلا للملك والوارث إنما يملك ما فضل عن حاجة الميت ولأنه لا يجب القطع الا بمطالبة المالك أو نائبه ولم يوجد ذلك ولنا قول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق ولأن عائشة رضي الله عنها قالت: سارق امواتنا كسارق احيائنا وما ذكروه لا يصح فإن الكفن يحتاج الى تركه في القبر دون غيره ويكتفى به في حرزه ألا ترى أنه لا يترك الميت في غير القبر من غير أن يحفظ كفنه ويترك في القبر وينصرف عنه؟ وقولهم انه لا مالك له ممنوع بل هو مملوك للميت لأنه كان مالكا

ص: 268

له في حياته ولا يزول ملكه إلا عما لا حاجة به اليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة كقيام ولي الصبي في الطلب بماله.

إذا ثبت هذا فلابد من إخراج الكفن من القبر لأنه الحرز فان أخرجه من اللحد ووضعه في القبر فلا قطع عليه فيه لأنه لم يخرجه من الحرز فأشبه مالو نقل المتاع في البيت من جانب إلى جانب فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتاً (فصل) والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعاً فان كفن الرجل في أكثر من ثلاث لفائف أو المرأة في أكثر من خمس فسرق الزائد عن ذلك أو ترك في تابوت فسرق التابوت أو ترك معه طيبا مجموعاً أو ذهباً أو فضة أو جوهراً لم يقطع بأخذ شئ من ذلك لأنه ليس بكفن مشروع فتركه فيه سفه وتضييع فلا يكون محرزاً ولا يقطع سارقه (فصل) وهل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة؟ يحتمل وجهين (احدهما) يفتقر الى المطالبة كسائر المسروقات فعلى هذا المطالب الوارث لأنه يقوم مقام

الميت في حقوقه وهذا من حقوقه (والثاني) لا يفتقر إلى طلب لأن الطلب في السرقة من الأحياء شرط لئلا يكون المسروق مملوكا للسارق وقد يئس من ذلك ههنا

ص: 269

(فصل) وحرز جدار الدار كونه مبنياً فيها إذا كانت في العمران أو كانت في الصحراء وفيها حافظ فإن أخذ من أجزاء الجدار أو خشبة تبلغ نصابا في هذه الحال وجب قطعه لأن الحائط حرز لغيره فيكون حرزاً لنفسه، وإن هدم الحائط ولم يأخذه فلا قطع فيه كما لو تلف المتاع في الحرز ولم يسرقه وإن كانت الدار بحيث لا تكون حرزاً لما فيها كدار في الصحراء لا حافظ لها فلا قطع على من أخذ من جدارها شيئاً لأنها إذا لم تكن حرزاً لما فيها فلنفسها أولى (مسألة)(وحرز الباب تركيبه في موضعه) سواء كان مغلقاً أو مفتوحاً لأنه هكذا يحفظ وعلى سارقه القطع إذا كانت الدار محرزة بما ذكرناه، وأما أبواب الخزائن في الدار فإن كان باب الدار مغلقاً فهي محرزة سواء كانت مغلقة أو مفتوحة وإن كان مفتوحا لم تكن محرزة إلا أن تكون مغلقة أو يكون في الدار حافظ والفرق بين الدار وباب الخزانة أن ابواب الخزائن تحرز بباب الدار وباب الدار لا يحرز إلا بنصبه ولا يحرز بغيره، وأما حلقة الباب فإن كانت مسمورة فهي كحرزه وإلا فلا لأنها تحرز بتسميرها (مسألة)(فلو سرق رتاج الكعبة أو باب مسجد أو تأزيره قطع) إذا سرق باب مسجد منصوباً أو باب الكعبة المنصوب أو سرق من سقفه شيئاً أو تأزيره ففيه وجهان (أحدهما) عليه القطع وهو مذهب الشافعي وابن القاسم صاحب مالك وأبي ثور وابن المنذر

ص: 270

لأنه سرق نصابا محرزاً بحرز مثله لا شبهة له فيه فلزمه القطع كباب بيت الآدمي (والثاني) لا قطع عليه وهو قول أصحاب الرأي لأنه لا مالك له من المخلوقين فلا يقطع كحصر المسجد وقناديله فإنه لا يقطع بسرقة ذلك وجهاً واحداً ولأنه مما ينتفع به الناس فيكون له فيه شبهة فلم يقطع به كالسرقة من

بيت المال وقال أحمد لا يقطع بسرقة ستارة الكعبة الخارجة منها قال القاضي: هذا محمول على ما ليست بمخيطة لأنها إنما تحرز بخياطتها وقال أبو حنيفة لا قطع فيها بحال لما ذكرنا في الباب (مسألة)(وإن سرق قناديل المسجد أو حصره فعلى وجهين)(أحدهما) يقطع لأن المسجد حرز لها فقطع بسرقتها كالباب (والثاني) لا يقطع وهو قول أبي حنيفة لأن له فيه حقا وشبهة فأشبه السرقة من بيت المال.

ولأنه لا مالك له من المخلوقين، وهذا أصح إن شاء الله تعالى.

وذكر شيخنا في كتاب المغني أنه لا يقطع بسرقة ذلك وجهاً واحداً (مسألة)(وإن نام إنسان على ردائه في المسجد فسرقه سارق قطع) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق رداء صفوان، وإن مال رأسه عنه فسرقه لم يقطع لأنه لم يبق محرزاً (مسألة)(وإن سرق من السوق غزلا وثم حافظ قطع) لأن حرزه بحافظه فاذا سرقه قطع كما يقطع بسرقة الثياب من الحمام إذا كان ثم حافظ (مسألة) (ومن سرق من النخل أو الشجر من غير حرز فلا قطع عليه ويضمن عوضهما مرتين

ص: 271

يعني بذلك الثمر في البستان قبل إدخاله الحرز.

وهذا قول أكثر الفقهاء وكذلك جمار النخل ويسمى الكثر، وروي معنى هذا القول عن ابن عمر وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور إن كان من بستان محرز ففيه القطع وبه قال ابن المنذر إذا لم يصح خبر رافع ولا أحسبه ثابتاً واحتجا بظاهر الآية وبقياسه على سائر المحرزات ولنا ما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع في ثمرولا كثر) أخرجه أبو داود وابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال (من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه ومن خرج بشئ منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئاً بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع) وهذا يخص عموم الآية ولأن البستان ليس بحرز لغير الثمر فلم يكن حرزاً له كما لو لم يكن

محفوظاً، فأما إن كانت شجرة في دار محرزة فسرق منها نصابا فعليه القطع والله أعلم (فصل) وإذا سرق من الثمر المعلق فعليه غرامة مثليه وبه قال إسحاق للخبر المذكور، قال أحمد لا أعلم شيئاً يدفعه، وقال أكثر الفقهاء لا يجب أكثر من مثله قال ابن عبد البر لا أعلم أحداً من

ص: 272

من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر بأنه كان حين كانت العقوبة في الاموال ثم نسخ ذلك.

ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا تجوز مخالفته إلا بمعارضة مثله أو أقوى منه وهذا الذي اعتذر به هذا القائل دعوى للنسخ بالاحتمال من غير دليل عليه وهو فاسد بالإجماع ثم هو فاسد من وجه آخر لقوله ومن سرق منه شيئاً بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع فقد بين وجوب القطع مع إيجاب غرامة مثليه وهذا يبطل ما قاله وقد احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها روى الأثرم الحديثين في سننه قال أصحابنا وفي الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة: مثلا قيمتها لأن في سياق حديث عمرو بن شعيب أن السائل قال الشاه الحريسة منهن يا نبي الله، قال (ثمنها ومثله معه والفكاك وما كان من المراح ففيه القطع إذا كان ما يأخذ من ذلك ثمن المجن) هذا لفظ رواية ابن ماجة وما عدا هذين لا يضمن بأكثر من قيمته أو مثله إن كان مثلياً، وهذا قول أصحابنا وغيرهم إلا أبا بكر فانه ذهب إلى غرامة المسروق من غير حرز بمثيله قياساً على الثمر المعلق وحريسة الحبل واستدلا بحديث حاطب.

ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله والمتقوم بقيمته بدليل المتلف والمغصوب والمنتهب

ص: 273

والمختلس وسائر ما تجب غرامته خولف في هذين الموضعين للأثر ففيما عداهما يبقى على الأصل.

(مسألة)(قال أبو بكر ما كان حرزاً لمال فهو حرز لمال آخر قياساً لأحدهما على الآخر والصحيح خلاف ذلك) لأنا إنما رجعنا في الحرز إلى العرف والعادة أن الجواهر والدراهم والدنانير لا تحرز في الصبر والحظائر ومن أحرزها أو نحوها في ذلك عد مفرطاً فكان العمل بالمعروف أولى

(فصل) واذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئاً نظرت، فإن كان من الموضع الذي أنزل فيه أو موضع لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه لم يسرق من حرز وإن سرق من موضع محرز دونه فإن كان منعه فرآه سرق بقدره فلا قطع عليه أيضاً وإن لم يمنع فرآه فعليه القطع، وقد روي عن أحمد أنه لا قطع على الضيف وهو محمول على إحدى الحالتين الأوليين وقال أبو حنيفة لا قطع عليه بحال لأن المضيف بسطه في بيته وماله فأشبه ابنه.

ولنا أنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فلزمه القطع كالأجنبي وقوله أنه بسطه فيه لا يصح فإنه أحرز عنه هذا المال ولم يبسطه فيه وبسطه في غيره لا يوجب بسطه فيه كما لو تصدق على مسكين بصدقة أو أهدى الى صديقه هدية فإنه لا يسقط عنه القطع بالسرقة من غير ما تصدق به عليه أو أهدى اليه (فصل) وإذا أحرز المضارب مال المضاربة أو الوديعة أو العارية أو المال الذي وكل فيه فسرقه أجنبي فعليه القطع لا نعلم فيه مخالفاً لأنه ينوب مناب المالك في حفظ المال واحرازه ويده كيده وإن

ص: 274

غصب عيناً وأحرزها أو سرقها وأحرزها فسرقها سارق فلا قطع عليه وقال مالك عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وللشافعي قولان كالمذهبين وقال أبو حنيفة كقولنا في السارق وكقول مالك في الغاصب.

ولنا أنه لم يسرق المال من مالكه ولا ممن يقوم مقامه فأشبه مالو وجده ضائعاً فأخذه وفارق السارق من المالك أو نائبه فانه أزال يده الشرعية وسرق من حرزه.

(فصل) فإن غصب شيئاً فأحرز فيه ماله فسرقه منه أجنبي فلا قطع عليه لأنه لا حكم لحرزه إذا كان متعدياً به ظالماً فيه.

(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الخامس انتفاء الشبه فلا يقطع بالسرقة من مال ابنه وان سفل ولا الولد من مال أبيه وإن علا والأب والأم في ذلك سواء) .

وجملة ذلك أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قبل الأب والأم هذا قول عامة أهل العلم منهم مالك والثوري

والشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور وابن المنذر القطع على كل سارق بظاهر الكتاب إلا أن يجمعوا على شئ فيستثنى.

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أطيب ما أكل الرجل من

ص: 275

كسبه وإن ولده من كسبه) وفي لفظ (فكلوا من كسب أولادكم) ولا يجوز قطع الانسان بقطع ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذه ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مالاً له مضافاً إليه ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وأعظم الشبهات أخذ الانسان من مال جعله الشرع له وأمره بأخذه وأكله.

(فصل) ولا يقطع الابن وإن سفل بسرقة مال والده وإن علا وبه قال الحسن والشافعي واسحاق والثوري وأصحاب الرأي وظاهر قول الخرقي أنه يقطع لأنه لم يذكره فيمن لا قطع عليه وهو قول مالك وأبي ثور وابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه يقاد بقتله ويحد بالزنا بجاريته فيقطع بسرقته ماله كالأجنبي ووجه الأول أن بينهما قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه فلم يقطع بسرقة ماله كالاب ولان الفقة تجب في مال الأب لابنه حفظاً له فلا يجوز إتلافه حفظاً للمال وأما الزنا بجاريته ففيه منع وإن سلم فإنما وجب عليه الحد لأنه لا شبهة له فيها.

(مسألة) (ولا يقطع العبد بالسرقة من مال سيده في قول الجميع ووافقهم أبو ثور فيه وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية.

ولنا ما روى السائب بن يزيد قال شهدت عمر بن الخطاب قد جاءه عبد الله بن عمر والحضرمي بغلام له فقال إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق؟ قال سرق مرآة امرأتي ثمنها ستون درهما فقال أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، ولكنه لو سرق من غيره قطع وفي لفظ

ص: 276

قال مالكم سرق بعضه بعضاً لا قطع عليه رواه سعيد، وعن ابن مسعود أن رجلا جاءه فقال عبد لي سرق قباء لعبد لي آخر فقال لا قطع مالك وسرق مالك وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد فتكون اجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأن هذا إجماع من أهل العلم لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم

في عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول واحد من التابعين (فصل) وأم الولد والمدبر والمكاتب كالقن في هذا وبه قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي ولا يقطع سيد المكاتب بسرقة ماله لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وكل من لا يقطع الإنسان بسرقة ماله لا يقطع عبده بسرقة ماله كآبائه وأولاده وغيرهم وقال أبو ثور يقطع بسرقة من عدا سيده ونحوه قول مالك وابن المنذر.

ولنا حديث عمر رضي الله عنه، ولأن مالهم ينزل منزلة ماله في قطعه فكذلك في قطع عبده.

(مسألة)(ولا يقطع مسلم بالسرقة من بيت المال) يروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي وأصحاب الرأي، وقال حماد ومالك وابن المنذر يقطع لظاهر الكتاب.

ولنا ماروى ابن ماجة بإسناده عن ابن عباس أن عبداً من رقيق الخمس سرق من الخمس فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال (مال الله سرق بعضه بعضاً) ويروى ذلك عن عمر رضي الله

ص: 277

عنه وسأل ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق، وقال سعيد ثنا هشيم ثنا مغيرة عن الشعبي عن علي عليه السلام أنه كان يقول ليس على من سرق من بيت المال قطع ولأن له في المال حقاً فيكون شبهة تمنع وجوب القطع كما لو سرق من مال له فيه شركة (مسألة)(ولا يقطع بالسرقة من مال له فيه شرك أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه) كالأب لا يقطع بسرقة مال ابنه والعبد لا يقطع بسرقة مال سيده فكذلك إذا سرق من مال لابنه فيه شرك أو لسيده فلا قطع عليه لذلك.

(فصل) ومن سرق من الوقف أو من غلته وكان من الموقوف عليهم كالمسكين يسرق من مال وقف المساكين أو من قوم معينين عليهم وقف لم يقطع لأنه شريك، وإن كان من غيرهم قطع لأنه لا حق له فيه فإن قيل فقد قلتم لا يقطع بالسرقة من بيت المال من غير تفريق بين غني وفقير فلم فرقتم ههنا؟ قلنا لأن للغني في بيت المال حقاً بدليل قول عمر رضي الله عنه ما من أحد إلا وله في هذا

المال حق بخلاف وقف المساكين فإنه لا حق للغني فيه.

(مسألة)(ومن سرق من الغنيمة ممن له حق أو لولده أو لسيده لم يقطع) لما ذكرنا من المسألة قبلها.

ص: 278

وحكي عن ابن أبي موسى أنه يحرق رحله كالغال، وإن لم يكن من الغانمين ولا أحد ممن ذكرنا فسرق منها قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له في الخمس حقاً، وان أخرج الخمس فسرق من أربعة الأخماس قطع وإن سرق من الخمس لم يقطع لأن له فيه شركة فان قسم الخمس خمسة أقسام فسرق من خمس الله ورسوله لم يقطع، وإن سرق من غيره قطع إلا أن يكون من أهل ذلك الخمس (مسألة)(وهل يقطع أحد الزوجين بالسرقة من مال الآخر المحرز عنه؟ على روايتين)(إحداهما) لا قطع عليه وهو اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لقول عمر رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو الحضرمي حين قال له أن غلامي سرق مرآة امرأتي أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى ولأن كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب ويسقط في مال الآخر عادة فأشبه الوالد والولد (والثانية) يقطع وهو مذهب مالك وأبي ثور وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية ولأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فأشبه الأجنبي وللشافعي كالروايتين وقول ثالث ان الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة لأنه لا حق له فيه ولا تقطع بسرقة ماله لأن لها النفقة فيه، فأما إن لم يكن مال أحدهما محرزا عن الآخر لم يقطع رواية واحدة لأنه لم يسرق من حرز (مسألة)(ويقطع سائر الاقارب بالسرقة من مال أقاربهم كالإخوة والأخوات ومن عداهم)

ص: 279

وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقطع بالسرقة من ذي رحم وحكاه ابن أبي موسى في الارشاد مذهباً لأحمد لأنها قرابة تمنع النكاح وتبيح النظر وتوجب النفقة أشبه قرابة الولادة ولنا أنها قرابة لا تمنع الشهادة فلا تمنع القطع لغير ذي الرحم وبهذا فارق قرابة الولادة (مسألة)(ويقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي والمستأمن ويقطعان بسرقة ماله)

أما قطع المسلم بالسرقة من مال الذمي وقطع الذمي بالسرقة من مال مسلم فلا نعلم فيه خلافاً وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وأما الحربي إذا دخل إلينا مستأمناً فسرق فانه يقطع أيضاً وقال ابن حامد لا يقطع وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأنه حد لله تعالى فلا يقام الحد عليه كالزنا ونص أحمد على أنه لايقام عليه حد الزنا وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا أنه حد يطالب به فوجب كحد القذف يحققه أن القطع يجب صيانة للأموال وحد القذف يجب صيانة للأعراض فإذا وجب في حقه أحدهما وجب الآخر، فأما الزنا فإنما لم يجب لأنه يجب به قتله لنقض العهد ولا يجب مع القتل حد سواه إذا ثبت هذا فإن المسلم يقطع بسرقة ماله وعند أبي حنيفة لا يجب

ص: 280

ولنا أنه سرق مالا معصوماً لا شبهة له فيه من حرز مثله فوجب قطعه كسرقة مال الذمي ويقطع المرتد إذا سرق فإن أحكام الاسلام جارية عليه (مسألة)(ومن سرق عيناً وادعى أنها ملكه لم يقطع وعنه يقطع وعنه لا يقطع إلا أن يكون معروفاً بالسرقة) من ثبتت عليه السرقة ببينة فأنكر لم يسمع انكاره، وإن قال أحلفوه لي أني سرقت منه لم يحلف لأن السرقة قد ثبتت بالبينة وفي إحلافه عليها قدح في الشهادة فإن قال الذي أخذته ملكي كان لي عنده وديعة أو رهنا أو ابتعته منه أو وهبه لي أو أذن لي في أخذه أو غصبه مني أو من أبي أو بعضه لي فالقول قول المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له فإن حلف سقطت دعوى السارق ولا قطع عليه لأن صدقه محتمل ولهذا أحلفنا المسروق منه وإن نكل قضينا عليه بنكوله وهذا إحدى الروايات عن أحمد وهو منصوص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطع لأن سقوط القطع بدعواه يؤدي إلى أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر وعنه رواية ثالثة أنه إن كان معروفاً بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه وإلا سقط عنه القطع والأولى أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات وافضاؤه الى سقوط القطع لا يمنع اعتباره كما أن الشرع اعتبر في شهادة الزنا شروطا لا يكاد يقع معها إقامة حد ببينة أبداً على أنه لا يفضي اليه لازماً فان السراق لا يعلمون هذا ولا يهتدون إليه في الغالب وإنما يختص بعلم هذا

الفقهاء الذين لا يسرقون غالبا فان لم يحلف المسروق منه سقط القطع وجهاً واحداً لأنه يقضى عليه بالنكول

ص: 281

(مسألة)(وإذا سرق المسروق منه مال السارق أو المغصوب منه مال الغاصب من الحرز الذي فيه العين المسروقة أو المغصوبة لم يقطع وإن سرق من غير ذلك أو سرق من مال من له عليه دين قطع إلا أن يعجز عن أخذه منه فيسرق قدر حقه فلا يقطع وقال القاضي يقطع) إذا سرق من مال إنسان أو غصبه فأحرزه فجاء المالك فهتك الحرز وأخذ ماله فلا قطع فيه عند أحده سواء أخذه سرقة أو غيرها لأنه أخذ ماله وإن سرق غيره ففيه وجهان (أحدهما) لا قطع عليه لأن له شبهة في هتك الحرز وأخذ ماله فصار كالسارق من غير حرز ولأن له شبهة في أخذ قدر ماله لذهاب بعض أهل العلم إلى جواز أخذ الانسان قدر دينه من مال من هو عليه (والثاني) عليه القطع لأنه سرق نصاباً من حرزه لاشبهة له فيه وإنما يجوز له أخذ قدر ماله إذا عجز عن أخذ ماله وهذا أمكنه أخذ ماله فلم يجز له أخذ غيره وكذلك الحكم إذا أخذ ماله وأخذ نصابا من غيره متميزاً عن ماله فإن كان مختلطاً بماله غير متميز منه فلا قطع عليه لأنه أخذ ماله الذي له أخذه وحصل غيره مأخوذاً ضرورة أخذه فيجب أن لا يضع فيه، ولأن له في أخذه شبهة والحد يدرأ بالشبهات فأما إن سرق منه مالا من غير الحرز الذي فيه ماله أو كان له دين على إنسان فسرق من ماله قدر دينه من حرزه نظرت فإن كان الغاصب أو الغريم باذلا لما عليه غير ممتنع من أدائه أو قدر المالك على اخذ ماله فتركه وسرق مال الغاصب أو الغريم فعليه القطع لأنه لا شبهة له فيه، وإن عجز عن استيفاء

ص: 282

دينه أو أرش جنايته فسرق قدر دينه أو حقه فلا قطع عليه وقال القاضي عليه القطع بناء على أصلنا في أنه ليس له أخذ قدر دينه ولنا أن هذا مختلف في حله فلم يجب الحد به كالوطئ في نكاح مختلف فيه وتحريم الأخذ لا يمنع الشبهة الناشئة عن الاختلاف والحدود تدرأ بالشبهات فان سرق أكثر من دينه فهو كالمغصوب منه إذا سرق أكثر من دينه على ما مضى

(فصل) ومن قطع بسرقة عين فعاد فسرقها قطع، إذا سرق سارق فقطع ثم سرق ثانيا قطع ثانياً سواء سرق من الذي سرق منه أو من غيره وسواء سرق تلك العين التي قطع بسرقتها أو غيرها وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا قطع بسرقة عين مرة لم يقطع بسرقتها مرة ثانية إلا أن يكون قد قطع بسرقة غزل ثم سرقه منسوجاً أو قطع بسرقة رطب ثم سرقه تمراً واحتج بأن هذا يتعلق استيفاؤه بمطالبة آدمي فاذا تكرر سببه في العين الواحدة لم يتكرر كحد القذف ولنا أنه حد يجب بفعل في عين فتكرره في عين واحدة كتكرره في الأعيان كالزنا وما ذكروه يبطل بالغزل إذا نسج وبالرطب إذا أتمر ولا نسلم حد القذف فإنه متى قذفه بغير ذلك الزنا حد، وإن قذفه بذلك الزنا حد، وإن قذفه بذلك الزنا عقيب حده لم يحد لأن الغرض إظهار كذبه وقد ظهر وههنا الغرض ردعه عن السرقة ولم يرتدع فيردع بالثاني كما لو سرق عيناً أخرى

ص: 283

(فصل) فان سرق مرات قبل القطع أجزأ حد واحد عن جميعها وتداخلت حدودها لأنه حد من حدود الله فاذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا، وذكر القاضي فيما إذا سرق من جماعة وجاءوا متفرقين رواية أخرى أنها لا تتداخل ولعله يقيس ذلك على حد القذف والصحيح أنها تتداخل لأن القطع خالص حق لله تعالى فيتداخل كحد الزنا والشرب، وفارق حد القذف فانه لآدمي ولهذا يتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقط بالعفو عنه (مسألة)(ومن أجر داره أو أعارها ثم سرق منها مال المستعير أو المستأجر قطع) اذا سرق مال المستأجر من العين المستأجرة فعليه القطع وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة وقال صاحباه لا قطع عليه لأن المنفعة تحدث في ملك المؤجر ثم تنقل الى المستأجر ولنا أنه هتك حرزا وسرق منه نصابا لا شبهة له فيه فوجب القطع كما لو سرق من ملك المستأجر وما قالاه غير مسلم (مسألة)(وإن استعار داراً فنقبها المعير وسرق مال المستعير منها قطع أيضاً) وبهذا قال الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة لا قطع عليه لأن المنفعة ملك له فما هتك

حرز غيره ولأن له الرجوع متى شاء وهذا يكون رجوعاً

ص: 284

ولنا ما تقدم في التي قبلها ولا يصح ما ذكروه لأن هذا قد صار حرز المال غيره فلا يجوز له الدخول اليه وإنما يجوز له الرجوع في العارية والمطالبة برده اليه (فصل) قال أحمد رحمه الله لا قطع في المجاعة، يعني أن المحتاج إذا سرق ما يأكله لا قطع عليه لأنه كالمضطر وروى الجوزجاني عن عمر أنه قال لا قطع في عام سنة وقال سألت أحمد عنه فقلت تقول به؟ فقال أي لعمري إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة، وعن الأوزاعي مثل ذلك وهذا محمول على من لا يجد ما يشتري به ما يأكله وقد روي عن عمر رضي الله عنه ان غلمان حاطب بن أبي بلتعة انتحروا ناقة للمزني فأمر عمر بقطعهم ثم قال لحاطب إني أراك تجيعهم فدرأ عنهم الحد لما ظنه يجيعهم فأما الواجد لما يأكله والواجد لما يشتري به فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالي ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي فصل ولا قطع على المرأة إذا منعها الزوج قدر كفايتها أو كفاية ولدها إذا أخذت من ماله سواء أخذت قدر ذلك أو أكثر منه لانها تستحتق قدر ذلك فالزائد يكون مشتركاً بما يستحق أخذه (فصل) السادس ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو إقرار مرتين ولا ينزع عن اقراره حتى يقطع وجملة ذلك أن القطع إنما يجب بأحد شيئين بينة أو إقرار لا غير، فأما البينة فيشترط فيها أن يكونا رجلين مسلمين حرين عدلين سواء كان السارق مسلما أو ذيما وقد ذكرنا ذلك في شهود الزنا بما

ص: 285

يغني عن إعادته ههنا ويشترط أن يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان نشهد أن هذا سرق كدا قيمته كذا من حرز ويصفا الحرز فإن كان المسروق منه غائباً فحضر وكيله وطالب بالسرقة احتاج الشاهدان أن يرفعا في نسبه فيقولان من حرز فلان بن فلان ابن فلان بحيث يتميز عن غيره فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب القطع في قول عامتهم، وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان

حران مسلمان ووصفا ما يوجب القطع وإذا وجب القطع بشهادتهما لم يسقط بغيبتهما ولا موتهما على ما مضى في الشهادة بالزنا وإذا شهد بسرقة مال غائب فإن كان له وكيل حاضر فطالب به قطع السارق وإلا فلا وقال القاضي يحبس ولا يقطع حتى يحضر الغائب (فصل) وإذا اختلف الشاهدان في الوقت أو الزمان أو المسروق فشهد أحدهما أنه سرق يوم الخميس والآخر أنه سرق يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه سرق من هذا البيت والآخر أنه سرق من هذا البيت الآخر أو قال أحدهما سرق ثوراً وقال الآخر سرق بقرة أو قال الآخر سرق حماراً لم يقطع في قولهم جميعاً وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وإن قال أحدهما سرق ثوباً أبيض وقال الآخر أسود أو قال أحدهما سرق هروياً وقال الآخر سرق مروياً لم يقطع أيضاً وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنهما لم يتفقا على الشهادة بشئ واحد فأشبه مالو اختلفا في الذكورية

ص: 286

والأنوثية وقال أبو الخطاب يقطع وهو قول أصحاب الرأي لأن الاختلاف لم يرجع إلى نفس الشهادة فيحتمل أن أحدهما غلب على ظنه أنه هروي والآخر أنه مروي أو كان الثوب فيه سواد وبياض قال إبن المنذر اللون أقرب إلى الظهور من الذكورية والأنوثية فإذا كان اختلافهم فيما يخفى يبطل شهادتهما ففيما يظهر أولى ويحتمل أن أحدهما ظن المسروق ذكراً وظنه الآخر انثى وقد أوجب هذا رد شهادتهما فكذلك ههنا (الأمر الثاني) الاعتراف ويشترط فيه أن يعترف مرتين روى ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وزفر وابن شبرمة، وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن يقطع باعتراف مرة لأنه حق يثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي ولنا ماروى أبو داود بإسناده عن أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف فقال له (ما إخالك سرقت) قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره وروى سعيد عن هشيم وسفيان وأبي الأحوص وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال شهدت علياً وأتاه رجل فأقر بالسرقة فرده وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت عنه وقال غير هؤلاء فطرده ثم

ص: 287

عاد بعد ذلك فأقر فقال له علي شهدت على نفسك مرتين وأمر به فقطع وفي لفظ قد أقررت على نفسك مرتين ومثل هذا يشتهر فلم ينكر ولأنه يتضمن إتلافاً في حد فكان من شرطه التكرار كحد الزنا ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة وقياسهم ينتقض بالزنا عند من اعتبر التكرار ويفارق حق الآدمي لأن حقه مبني على الشح والضيق ولا يقبل رجوعه عنه بخلاف مسئلتنا (فصل) ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب والحرز وإخراجه منه، والحر والعبد في هذا سواء نص عليه أحمد لعموم النص فيهما ولما روى الأعمش عن القاسم عن أبيه أن علياً قطع عبداً أقر عنده بالسرقة وفي رواية قال كان عبداً يعني الذي قطعه علي ويعتبر أن يقر مرتين.

وروى منها عن أحمد: إذا أقر العبد أنه سرق أربع مرات قطع فظاهر هذا أنه اعتبر إقراره أربع مرات ليكون على النصف من الحر، والاول أصح لخبر علي ولأنه إقرار بحد فاستوى فيه الحر والعبد كسائر الحدود (مسألة)(ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع) هذا قول أكثر الفقهاء وقال ابن أبي ليلي وداود لا يقبل رجوعه لأنه لو أقر لآدمي بحد قصاص لم يقبل رجوعه عنه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للسارق (ما إخالك سرقت) يعرض له ليرجع ولأن حديثه ثبت بالاعتراف فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعه شبهة لاحتمال أن يكون كذب

ص: 288

على نفسه في اعترافه ولأنه أحد حجتي القطع فيبطل بالرجوع عنه كالشهادة ولأن حجة القطع زالت قبل استيفائه فسقط كما لو رجع الشهود وفارق حق الآدمي لأنه مبني على الشح والضيق، ولو رجع الشهود عن الشهادة بعد الحكم في حق الآدمي لم يبطل برجوعهم ولم يمنع استيفاءها، إذا ثبت هذا فإنه إذا رجع قبل القطع سقط القطع ولم يسقط غرم المسروق لأنه حق آدمي، ولو أقر مرة واحدة لزمه غرامة المسروق دون القطع، وإن كان رجوعه وقد قطع بعض المفصل لم يتممه إن كان يرجى برؤه لكونه قطع الأقل وإن قطع الأكثر فالمقطوع بالخيار إن شاء قطعه ويستريح من تعليق كفه

ولا يلزم القاطع قطعه لأن قطعه تداو وليس بحد (فصل) قال أحمد لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره وهذا قول عامة الفقهاء روي عن عمر أنه أتي بسارق فسأله أسرقت؟ قل لا فقال لا فتركه وروي ذلك عن ابي بكر الصديق وأبي هريرة وابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهم وبه قال إسحاق وأبو ثور، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسارق (ما إخالك سرقت) وقال لماعز (لعلك قبلت أو لمست) وعن علي أن رجلا أقر عنده بالسرقة فانتهره.

ولا بأس بالشفاعة في السارق اذا لم يبلغ الامام فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وجب) وقال الزبير بن العوام في الشفاعة في الحد يفعل ذلك دون السطان فإذا بلغ الامام فلا أعفاه الله إن أعفاه، وممن رأى ذلك عمار وابن عباس وسعيد بن جبير والزهري والاوزاعي وقال مالك إن لم يعرف بشر فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الامام وأما من عرف بشر وفساد فلا أحب أن يشفع له ولكن يترك حتى يقام عليه الحد وأجمعوا على أنه إذا بلغ

ص: 289

الإمام لم تجز الشفاعة فيه لأن ذلك اسقاط حق وجب لله تعالى وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين شفع أسامة في المخزومية التي سرقت وقال (أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟) وقال ابن عمر من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه (فصل) السابع مطالبة المسروق منه بما له وقال أبو بكر ليس ذلك بشرط وجملة ذلك أن السارق لا يقطع وإن اعترف أو قامت بينة حتى يأتي مالك المسروق يدعيه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو بكر: ولا يفتقر إلى دعوى ولا مطالبة وهذا قول مالك وأبي ثور وابن المنذر لعموم الآية ولأن موجب القطع ثبت فوجب من غير مطالبة كحد الزنا ولنا أن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل أن مالكه أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة وعلى هذا يخرج الزنا فإنه لا يباح بالإباحة ولأن القطع أوسع في الإسقاط ألا ترى أنه اذا سرق مال أبيه لم يقطع ولو زنى بجاريته حد؟ ولأن القطع شرع لصيانة مال الآدمي فله به تعلق فلم يستوف من غير حضور مطالب به والزنا

حق لله تعالى محض فلم يفتقر إلى طلب به.

إذا ثبت هذا فإن وكيل الغائب يقوم مقامه في الطلب وقال القاضي إذا أقر بسرقة مال غائب حبس حتى يحضر الغائب لأنه يحتمل أن يكون قد أباحه ولو أقر بحق مطلق لغائب لم يحبس لأنه لا حق عليه لغير الغائب ولم يأمر بحبسه فلم يحبس وفي مسئلتنا تعلق به حق الله تعالى وحق الآدمي فحبس لما عليه من حق الله تعالى، فإن كانت العين في يده أخذها الحكام وحفظها للغائب وإن لم يكن في يده شئ فإذا جاء الغائب كان الخصم فيها (فصل) ولو أقر بسرقة لرجل فقال المالك لم تسرق مني ولكن غصبتني أو كان لي قبلك وديعة فجحدتني لم يقطع لأن اقراره لم يوافق دعوى المدعي، وهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن

ص: 290

أقر أنه سرق نصابا من رجلين فصدقة أحدهما دون الآخر أو قال الآخر بل غصبتنيه أو جحدتنيه لم يقطع وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور يقطع ولنا أنه لم يوافق على سرقة نصاب فلم يقطع كالتي قبلها وإن وافقاه جميعا قطع وإن حضر أحدهما فطالب ولم يحضر الآخر لم يقطع لأن ما حصلت المطالبة به لا يوجب القطع بمفرده، وإن أقر أنه سرق من رجل شيئاً فقال الرجل قد فقدته من مالي فينبغي أن يقطع لما روي عن عبد الرحمن بن ثعلبة الانصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل اليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا افتقدنا جملاً لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، قال ثعلبة أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول الحمد لله الذي طهرني منك أردت أن تدخلي جسدي النار رواه ابن ماجه (مسألة)(وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت وهو أن تغمس في زيت مغلي فان عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكف وحسمت) لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وهذا إن كان قراءة وإلا فهو تفسير، وقد روي عن ابي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع ولا مخالف

لهما في الصحابة ولأن البطش بها أقوى فكانت البداءة بها أردع ولأنها آلة السرقة فناسبت عقوبته باعدام آلتها، وإذا سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى وبذلك قال الجماعة الاعطاء حكي عنه أنه تقطع

ص: 291

يده اليسرى لقوله سبحانه (فاقطعوا أيديهما) ولأنها آلة السرقة والبطش فكانت العقوبة بقطعها أولى، وروي ذلك عن ربيعة وداود وهذا شذوذ يخالف قول جماعة الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقول ابي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السارق (اذا سرق فاقطعوا يده ثم ان سرق فاقطعوا رجله) ولأنه في المحاربة الموجبة قطع عضوين إنما تقطع يده ورجله ولا تقطع يداه فنقول جناية أوجبت قطع عضوين فكانا يدا ورجلا كالمحاربة ولأن قطع يديه يفوت منفعة الجنس فلا تبقى له يد يأكل بها ولا يتوضأ ولا يستطيب ولا يدفع عن نفسه فيصير كالهالك فكان قطع الرجل الذي لا يشتمل على هذه المفسدة أولى، وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما بدليل أنه لا تقطع اليد ان في المرة الأولى، وفي قراءة عبد الله (فاقطعوا أيمانهما) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن المثنى إذا أضيف الى المثنى ذكر بلفظ الجمع كقوله تعالى (فقد صغت قلوبكما) إذا ثبت هذا فانه تقطع رجله اليسرى لقول الله تعالى (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) ولأن قطع اليسرى أرفق به لأنه يمكنه المشي على خشبة ولو قطعت رجله اليمنى لم يمكنه المشي بحال، وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه بقطع من نصف القدم من معقد الشراك ويدع له عقباً يمشي عليها وهو قول أبي ثور ولنا أنه أحد العضوين المقطوعين في السرقة فيقطع من المفصل كاليد، وإذا قطع حسم وهو أن أن يغلى الزيت فاذا قطع غمس عضوه في الزيت لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم فيموت وقد روي أن

ص: 292

النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال (اقطعوه واحسموه) وهو حديث فيه مقال قاله ابن المنذر وممن استحب ذلك الشافعي وأبو ثور وغيرهما من أهل العلم (فصل) ويقطع السارق بأسهل ما يمكن فيجلس ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه وتشد يده بحبل

ويجر حتى يبين مفصل الكف من مفصل الذراع ثم توضع بينهما سكين حادة ويدق فوقها بقوة ليقطع في مرة واحدة أو توضع السكين على المفصل وتمد مدة واحدة وإن علم قطع أوحى من هذا قطع به (فصل) ويسن تعليق اليد في عنقه لما روى فضالة بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه رواه أبو داود وابن ماجة وفعل ذلك علي رضي الله عنه ولأن فيه ردعاً وزجراً.

(فصل) ولا يقطع في شدة حر ولا برد لأن الزمان ربما أعان على قتله والغرض الزجر دون القتل، ولا يقطع مريض في مرضه لئلا يأتي ذلك على نفسه، ولو سرق فقطعت يده ثم سرق قبل اندمال يده لم يقطع ثانيا حتى يندمل القطع الأول وكذلك لو قطعت رجله قصاصاً لم تقطع اليد في السرقة حتى تبرأ الرجل فان قيل أليس لو وجب عليه قصاص في اليد الأخرى لقطعت قبل الاندمال والمحارب تقطع يده ورجله دفعة واحدة وقد قلتم في المريض الذي وجب عليه الحد لا ينتظر برؤه فلم خالفتم ذلك ههنا؟ قلنا القصاص حق آدمي يخاف فوته وهو مبني على الضيق لحاجته إليه ولأن القصاص قد يجب في يد ويجب في يدين وأكثر في حالة واحدة فلهذا جاز أن يوالى بين قصاصين بخلاف الحد فإن كل معصية لها حد مقدر ولا تجوز الزيادة عليه فإذا والى بين حدين صار

ص: 293

كالزيادة على الحد فلم يجز، فأما قطاع الطريق فان قطع اليد والرجل حد واحد بخلاف ما نحن فيه وأما تأخير الحد للمرض فممنوع وإن سلم فان الجلد يمكن تخفيفه فيؤتى به في المرض على وجه يؤمن معه التلف والقطع لا يمكن تخفيفه (مسألة)(فإن عاد حبس ولم يقطع وعنه أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة ورجله اليمنى في الرابعة) وجملة ذلك أنه إذا سرق بعد قطع يديه ورجليه لم يقطع منه شئ آخر وحبس وبهذا قال علي رضي الله عنه والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه يقطع في الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس، وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل وهو قول قنادة ومالك والشافعي وأبي ثور

وابن المنذر، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ويقتل في الخامسة لأن جابرا قال: جئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقال (اقتلوه) قالوا يا رسول الله انما سرق قال (اقطعوه) قال فقطع ثم جئ به الثانية فقال (اقتلوه) فقالوا يا رسول الله انما سرق فقال (اقطعوه) قال فقطع ثم جئ به الثالثة فقال (اقتلوه) قالوا يارسول الله انما سرق قال (اقطعوه) قال ثم أتي به الرابعة فقال (اقتلوه) ، قالوا يا رسول الله انما سرق قال (اقطعوه) ثم أتي به الخامسة فقال (اقتلوه) فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر رواه أبو داود والنسائي، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق (إن سرق فاقطعوا يده ثم ان سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم ان سرق فاقطعوا رجله) ولأن

ص: 294

اليسار تقطع قوداً فجاز قطعها في السرقة كاليمنى ولأنه فعل أبي بكر رضي الله عنهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ولنا ماروى سعيد ثنا أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال حضرت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لأصحابه ما ترون في هذا؟ قالوا اقطعه يا أمير المؤمنين قال قتلته إذاً وما عليه القتل باي شئ يأكل الطعام؟ بأي شئ يتوضأ للصلاة؟ بأي شئ يغتسل من جنابته؟ بأي شئ يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياماً ثم أخرجه فاستشار أصحابه فقالوا مثل قولهم الأول وقال مثل ما قال أول مرة فجلده جلداً شديدا ثم أرسله وروي عنه أنه قال إني لاستحي من الله أن لا أدع له يداً يبطش بها ولا رجلاً يمشي عليها ولأن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل، ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثالثة لأنها آلة البطش كاليمنى وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها لأن ذلك بمنزلة الإهلاك فانه لا يمكنه أن يتوضأ ويغتسل ولا يستنجي ولا يحترز من نجاسة ولا يزيلها عنه ولا يدفع عن نفسه ولا يأكل ولا يبطش وهذه المفسدة حاصلة بقطعها في المرة الثالثة، فأما حديث جابر ففي حق رجل استحق القتل بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في أول مرة وفي كل مرة وقال النسائي فيه: حديث منكر وأما الحديث

الآخر فلم يكره أصحاب السنن ولم نعلم صحته وفعل ابي بكر وعمر قد عارضه قول علي وروي عن عمر أنه رجع إلى قول علي فروى سعيد حدثنا أبو الاحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن

ص: 295

بن عائذ قال أتي عمر برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فأمر به عمر أن تقطع رجله فقال علي إنما قال الله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) إلى آخر الآية وقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها إما أن تعزره أو تستودعه السجن فاستودعه السجن (مسألة)(ومن سرق وليس له يد يمنى قطعت رجله اليسرى وإن سرق وله يمنى فذهبت سقط القطع، وإن ذهبت يده اليسرى لم تقطع اليمنى على الرواية الأولى وتقطع على الأخرى) اذا سرق ولا يمنى له قطعت رجله اليسرى كما تقطع في السرقة الثانية فان كانت يمناه شلاء ففيه روايتان (إحداهما) تقطع رجله اليسرى لأن الشلاء لا نفع فيها ولا جمال فأشبهت كفا لاأصابع عليه قال ابراهيم الحربي عن أحمد فيمن سرق ويمناه جافة تقطع رجله (والثانية) أنه يسئل أهل الخبرة فإن قالوا إنها اذا قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها قطعت لأنه أمكن قطع يمينه فوجب كما لو كانت صحيحة وان قالوا لا يرقأ دمها لم تقطع لأنه يخاف تلفه وتقطع رجله وهذا مذهب الشافعي، وفان كانت أصابع اليمنى كلها ذاهبة ففيها وجهان (أحدهما) لا تقطع وتقطع الرجل لان الكف لا يجب فيه دية اليد فأشبه الذراع (والثاني) تقع لأن الراحة بعض ما يقطع في السرقة فاذا كان موجوداً قطع كما لو ذهب الخنصر أو البنصر، وإن ذهب بعض الاصابع وكان الذاهب الخنصر أو البنصر أو واحدة سواهما قطعت لأن معظم نفعها باق، وإن لم يبق إلا واحدة فهي كالتي ذهب جميع أصابعها وإن بقي اثنتان فهل تلحق بالصحيحة أو بما قطع جميع أصابعها؟ على وجهين والأولى قطعها لأن نفعها لم يذهب بالكلية (مسألة)(وان سرق وله يمنى فذهبت سقط القطع) أما اذا سرق وله يمنى قطعت في قصاص أو ذهبت بأكلة أو تعدى عليها متعد فقطعها سقط القطع ولا شئ على العادي إلا الأدب وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال قتادة يقتص من القاطع وتقطع رجل

السارق وهذا غير صحيح فإن يد السارق ذهبت والقاطع قطع عضواً غير معصوم، وإن قطعها قاطع بعد السرقة وقبل ثبوتها والحكم بالقطع ثم ثبت ذلك فكذلك، ولو شهد بالسرقة فحبسه الحاكم ليعدل

ص: 296

الشهود فقطعه قاطع ثم عدلوا فكذلك وإن لم يعدلوا وجب القصاص على القاطع، وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا قصاص عليه، لأن صدقهم محتمل فيكون ذلك شبهة.

ولنا أنه قطع طرفاً ممن يكافئه عمداً بغير حق فلزمه القطع كما لو قطعه ولم تقم بينة.

(مسألة) (وإن ذهبت يده اليسرى أو كانت مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الاصابع أو شلت قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى وتقطع على الثانية.

(فصل) وإن قطع قاطع يسراه عمداً فعليه القود لأنه قطع طرفاً معصوما وإن قطعه غير متعمد فعليه ديته ولا تقطع يمين السارق، وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وفيه وجه آخر أنها تقطع بناء على قطعها في المرة الثالثة وإن قلنا لا تقطع فهل تقطع رجله؟ فيه وجهان (أصحهما) لا يجب لأنه لم يجب بالسرقة وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجليه كما لو كان المقطوع يمينه (والثاني) تقطع رجله لأنه تعذر قطع يمينه فقطعت رجله كما لو كانت اليسرى مقطوعة حال السرقة وإن كانت يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصا يذهب بمعظم نفعها مثل أن تذهب منها الوسطى أو السبابة أو الابهام احتمل أنه كقطعها وينتقل إلى رجله، وهذا قول أصحاب الرأي واحتمل أن تقطع يمناه لأن له يداً ينتفع بها أشبه مالو قطعت خنصرها، وإن كانت يداه صحيحتين ورجله اليمنى شلاء أو مقطوعة فقال شيخنا لا أعلم فيها قولا لأصحابنا ويحتمل وجهين (أحدهما) تقطع يمينه وهو مذهب الشافعي ولأنه سارق له يمنى فقطعت عملا بالكتاب والسنة ولأنه سارق له يدان فقطعت يمناه كما لو كانت المقطوعة رجله اليسرى (والثاني) لا يقطع منه شئ وهو قول أصحاب الرأي، لأن قطع يمناه يذهب بمنفعة المشي من الرجلين فأما إن كانت رجله اليسرى شلاء ويداه صحيحتان قطعت

ص: 297

يده اليمنى لأنه لا يخشى تعدي ضرر القطع إلى غير المقطوع، وعلى قياس هذه المسألة لو سرق ويده

اليسرى مقطوعة أو شلاء لم يقطع منه شئ لذلك وأنكر هذا ابن المنذر، وقال: أصحاب الرأي بقولهم هذا خالفوا كتاب الله وسنة رسوله.

(مسألة)(وإذا وجب قطع يمناه فقطع القاطع يسراه بدلاً عن يمينه أجزأت ولا شئ على القاطع إلا الأدب) وهو قول الشعبي وأصحاب الرأي لأن قطع يمنى السارق يفضي الى تفويت منفعة الجنس وقطع يديه بسرقة واحدة فلا يشرع فإذا انتفى قطع يمينه حصل قطع يساره مجزئاً عن القطع الواجب فلا يجب على فاعله قصاص، وقال أصحابنا في وجوب قطع يمنى السارق وجهان وللشافعي فيما إذا لم يعلم القاطع كونها يسار وظن أن قطعها يجزئ قولان (أحدهما) لا تقطع يمين السارق كيلا تقطع يداه بسرقة واحدة (والثاني) تقطع كما لو قطعت يسراه قصاصاً، فأما القاطع فاتفق أصحابنا وأصحاب الشافعي على أنه ان قطعها من غير اختيار من السارق أو كان السارق أخرجها دهشة أو ظناً منه أنها تجزئ وقطعها القاطع عالماً بأنها يسراه وأنها لا تجزئ فعليه القصاص وإن لم يعلم أنها يسراه أو ظن أنها مجزئة فعليه ديتها، وإن كان السارق أخرجها مختاراً عالماً بالامرين فلا شئ على القاطع لأنه أذن في قطعها فأشبه غير السارق والذي اختاره شيخنا ما ذكرناه في أول الفصل.

(مسألة)(ويجتمع القطع والضمان فترد العين المسروقة الى مالكها وإن كانت تالفة غرم قيمتها وقطع) لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية وإن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسراً كان أو معسراً، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتي والليث والشافعي واسحاق وأبي ثور وقال الثوري وأبو حنيفة لا يجتمع الغرم

ص: 298

والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول لا غرم على السارق إذا قطع ووافقهم مالك في المعسر ووافقنا في الموسر.

قال أبو حنيفة في رجل سرق مرات ثم قطع يغرم الكل إلا الأخيرة، وقال أبو يوسف لا يغرم شيئاً لأنه قطع بالكل فلا يغرم شيئاً منه كالسرقة الأخيرة واحتجا بما روي عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أقمتم الحد على السارق فلا غرم عليه) ولأن التضمين يقتضي التمليك والملك يمنع القطع فلا يجمع بينهما

ولنا أنها عين يجب ضمانها بالرد لو كانت باقية فيجب ضمانها إذا كانت تالفة كما لو لم يقطع ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم ويرويه سعد بن ابراهيم عن ابن منصور وسعد بن ابراهيم مجهول قاله ابن المنذر، وقال ابن عبد البر الحديث ليس بالقوي ويحتمل أنه أراد ليس عليه اجرة القاطع وما ذكروه فهو بناء على أصولهم ولا نسلمها لهم.

(فصل) اذا فعل في العين فعلا نقصها به كقطع الثوب ونحوه وجب رده ورد نقصه ووجب القطع وقال أبو حنيفة ان كان نقصاً لا يقطع حق المغصوب منه إذا فعله الغاصب رد العين ولا ضمان عليه وإن كان يقطع حق المالك كقطع الثوب وخياطته فلا ضمان عليه ويسقط حق المسروق منه من العين وإن كان زيادة في العين كصبغه أحمر أو أصفر فلا يرد العين ولا يحل له التصرف فيها وقال أبو يوسف ومحمد يرد العين وبنى هذا على أصله في أن الغرم يسقط عنه القطع، وأما إذا صبغه فقال لا يرده لأنه

ص: 299

لو رده لكان شريكا فيه بصبغه ولا يجوز أن يقطع فيما هو شريك فيه وهذا ليس بصحيح لأن صبغه كان قبل القطع فلو كان شريكا بالصبغ لسقط القطع وإن كان يصير شريكا بالرد فالشركة الطارئة بعد القطع لا تؤثر كما لو اشترى نصفه من مالكه بعد القطع، وقد سلم أبو حنيفة أنه لو سرق فضة فضربها دراهم قطع ولزمه ردها وقال صاحباه لا يقطع ويسقط حق صاحبها منها بضربها وهذا شئ بنيناه على أصولهما في أن تغيير اسمها يزيل ملك صاحبها وإن ملك السارق لها يسقط القطع عنه وهو غير مسلم لهما.

(فصل) ويستوي في وجوب الحد على السارق الحر والحرة والعبد والامة ولا خلاف في وجوب الحد على الحر والحرة لقول الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأنهما استويا في سائر الحدود فكذلك في هذا وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة فأما العبد والأمة فإن جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على وجوب القطع عليهما بالسرقة إلا ما حكي عن ابن عباس أنه قال لا قطع عليهما لأنه حد ولا يمكن تنصيفه فلم يجب في حقهما كالرجم ولأنه حد فلا يساوي العبد فيه الحر كسائر الحدود ولنا عموم الآية وروى الأثرم أن رقيقاً لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها فامر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ثم قال عمر والله إني لا أراك تجيعهم ولكن لأغرمنك

ص: 300

غرماً يشق عليك ثم قال للمزني كم ثمن ناقتك؟ قال أربعمائة درهم قال عمر أعطه ثمانمائة درهم، وروى القاسم عن أبيه أن عبداً أقر بالسرقة عند علي فقطعه، وفي رواية قال كان عبداً يعني الذي قطعه علي رواه الإمام أحمد في مسنده وهذه قصص تنتشر وتشهر ولم تنكر فتكون إجماعاً، وقولهم لا يمكن تنصيفه قلنا ولا يمكن تعطيله فيجب تكميله وقياسهم نقلبه عليهم فنقول حق فلا يتعطل في حق العبد والامة كسائر الحدود، وفارق الرجم فان حد الزنا لا يتعطل بتعطيله بخلاف القطع فإن حد السرقة يتعطل بتعطيله (فصل) ويقطع الآبق بسرقته روى ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك والشافعي وقالا مروان وسعيد بن العاص وأبو حنيفة لا يقطع لأن قطعه قضاء على سيده ولا يقضى على الغائب ولنا عموم الكتاب والسنة وانه مكلف سرق نصابا من حرز مثله فيقطع كغير الآبق، وقولهم انه قضاء على سيده ممنوع فانه لا يعتبر فيه إقرار السيد ولا يضر إنكاره وإنما يعتبر ذلك من العبد ثم القضاء على الغائب بالبينة جائز على ما ذكر في موضعه (مسألة)(وهل يجب الزيت الذي يحسم به من بيت المال أو من مال السارق؟ على وجهين)(أحدهما) من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به القاطع في حديث سارق الشملة فقال (اقطعوه واحسموه) ولأنه من المصالح وذلك يقتضي أن يكون من بيت المال فان لم يحسم فذكر القاضي أنه لا شئ عليه لأن عليه القطع لا مداواة المحدود (والثاني) من مال السارق لأنه مداواة له فكان في ماله كمداواته في مرضه، ويستحب للمقطوع حسم نفسه فان لم يفعل لم يأثم لأنه ترك التداوي في المرض وهذا مذهب الشافعي

ص: 301

باب حد المحاربين (وهم قطاع الطريق) والأصل في حكمهم قول الله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وبه يقول مالك والشافعي

وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن ابن عمر أنه قال نزلت هذه الآية في المرتدين وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وعبد الكريم لأن سبب نزولها قصة العرنيين وكانوا ارتدوا عن الاسلام وقتلوا الرعاة واستاقوا إبل الصدقة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة حتى ماتوا، قال أنس فانزل الله تعالى في ذلك (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) الآية أخرجه أبو داود والنسائي ولأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين ولنا قول الله تعالى (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فائذنوا (فأذنوا) بحرب من الله ورسوله)

ص: 302

(مسألة)(وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة، فأما من يأخذه على وجه السرقة فليس بمحارب) المحاربون الذين تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد إن شاء الله تعالى يعتبر لهم ثلاثة شروط: (أحدها) لا يكون ذلك في الصحراء (مسألة)(وإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونا محاربين) في قول الخرقي وقد توقف أحمد رحمه الله فيهم فظاهر كلام أحمد أنهم غير محاربين، وبه قال أبو حنيفة والثوري لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ولان من في المصر يلحق به الغوث غالباً فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه، وقال أبو بكر وكثير من أصحابنا حكمهم في المصر والصحراء واحد، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وابو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم جوراً وأكثر ضرراً فكان بذلك أولى، وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر بحيث لو كبسوا دارا فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا جاءهم الغوث فليس هؤلاء قطاع طريق لأنهم في موضع يلحقهم الغوث

عادة فان حضروا قرية أو بلدة ففتحوه وغلبوا على أهله أو محله مفردة بحيث لا يلحقهم الغوث عادة فهم محاربون لأنهم لا يلحقهم الغوث عادة فأشبه قطاع الطريق في الصحراء (الشرط الثاني) أن يكون معهم سلاح فإن لم يكن سلاح فليسوا محاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم ولا نعلم في هذا خلافاً، فإن عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة ليسوا محاربين لأنهم لا سلاح معهم

ص: 303

ولنا أن ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحد (الشرط الثالث) ان يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهراً، فأما إن أخذوه مختفين فهم سراق وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئاً فليسوا بمحاربين لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق (مسألة)(فاذا قدر عليهم فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتماً وصلب حتى يشتهر وقال أبو بكر يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب وعن أحمد أنه يقطع مع ذلك) وجملة ذلك أن المحارب إذا قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتماً وصلب حتى يشتهر، روي نحو هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي، وعن أحمد أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حداً منفرداً فاذا اجتمعا وجب حدهما معا كما لو زنى وسرق وذهبت طائفة إلى أن الامام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي لأن أو تقتضي التخيير كقوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) وهذا قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعطا والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود

ص: 304

وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار وقال أصحاب الرأي ان قتل قتل وإن أخذ المال قطع وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قتله وقطعه وبين أن يجمع ذلك كله لأنه

قد وجه منه ما يوجب القتل والقطع فكان للامام فعلهما كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق، وقال مالك إذا قطع الطريق فراه الامام جلداً ذا رأي قتله وإن كان جلداً لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق) فأما أو فقد قال ابن عباس مثل قولنا فأما أن يكون توقيفاً أو لغة وايهما كان فهو حجة يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداءة بالاخف ككفارة اليمين وما أريد به الترتيب بدأ بالأغلظ ككفارة الظهار والقتل، ويدل عليه أيضاً أن العقوبات تختلف باختلاف الاجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق وقد سووا بينهم ههنا مع اختلاف جناياتهم، وهذا يرد على مالك فانه إنما اعتبر الجلد والرأي دون الجنايات وهو مخالف للأصول التي ذكرناها، وأما قول أبي حنيفة فلا يصح لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى لم يخير الامام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال ولان حدود الله تعالى إذا كان فيها قتل سقط سائرها كما لو سرق وزنى وهو محصن وقد روي عن ابن عباس قال وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا برزة (1) الاسلمي فجاء ناس يريدون الاسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وقيل انه رواه أبو داود وهو كالمسند وهو نص.

إذا

(1) في المعنى أبا بردة

ص: 305

ثبت هذا فإن قاطع الطريق لا يخلو من خمسة أحوال (الأولى) إذا قتل وأخذ المال فانه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب وقتله متحتم لا يدخله عفو أجمع على هذا كل أهل العلم حكاه ابن المنذر وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال سليمان بن موسى والزهري ومالك وأصحاب الرأي ولأنه حد من حدود الله فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود (مسألة)(وان قتل من لا يكافئه فهفل يقتل؟ على روايتين)(إحداهما) لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمي والأب بالابن لأن هذا القتل حق لله تعالى فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة (والثانية) تعتبر المكافأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يقتل

مسلم بكافر) والحد فيه انحتامه بدليل أنه لو مات قبل القدرة عليه سقط عنه الانحتام ولم يسقط القصاص فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذمياً والحر عبداً وأخذ ماله قطعت يده ورجله لأخذه المال وغرم دية الذمي وقيمة العبد وان قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي، وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال وان قتله لغير ذلك مثل أن يقصد قتله لعداوة بينهما فالواجب قصاص غير متحتم، وإذا قتل صلب لقول الله تعالى (أو يصلبوا) والكلام فيه في ثلاثة أمور (أحدها) في وقته وهو بعد القتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي ومالك والليث وابو حنيفة وأبو يوسف يصلب حياً ثم يقتل مصلوباً، يطعن بالحربة لأن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في الحياة كسائر الا جزية ولأن الصلب بعد قتله يمنع دفنه وتكفينه فلا يجوز ولنا أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظاً والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) ولأن القتل إذا اطلق على لسان الشرع

ص: 306

كان قتلاً بالسيف ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فاذا قتلتم فأحسنوا القتل) وحسن القتل هو القتل بالسيف وفي صلبه حياً تعذيب له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، وقولهم انه جزاء على المحاربة قلنا لو شرع لردعه لسقط بقتله كما تسقط سائر الحدود مع القتل وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر أمره وهذا يحصل بصلبه بعد قتله، وقولهم يمنع تكفينه ودفنه قلنا هذا لازم لهم لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوباً (الثاني) في قدره ولا توقيت فيه إلا قدر ما يشتهر أمره هكذا ذكره الخرقي وقال أبو بكر يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب لأن أحمد لم يوقت في الصلب شيئاً، والصحيح توقيته بما ذكره الخرقي من الشهرة لأن المقصود يحصل به وقال الشافعي وابو حنيفة يصلب ثلاثاً وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره ونتنه وأذى المسلمين برائحته ونظره ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه فلا يجوز بغير دليل (الثالث) في وجوبه وهو واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره وقال

أصحاب الرأي إن شاء الامام صلب وان شاء لم يصلب ولنا حديث ابن عباس أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب ولأنه شرع حدا فلم يتخير بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود.

إذا ثبت هذا فانه إذا اشتهر أنزل ودفع الى اهله فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن (فصل) فإن مات قبل قتله لم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد فات الحد بموته فيسقط

ص: 307

ما هو من تمامه، وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل كما لو قتل بمحدد لا ستوائهما في وجوب القصاص بهما وإن قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير فالظاهر أنهم يقتلون أيضاً لأنهم دخلوا في العموم (مسألة)(وإن جنى جناية توجب القصاص فيما دون النفس فهل يتحتم استيفاؤه؟ على روايتين) إذا جرح المحارب جرحاً في مثله القصاص فهل يتحتم فيه القصاص؟ على روايتين (إحداهما) لا يتحتم لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح فإن الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب والقطع والنفي فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل فانه حد فتحتم كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص (والثانية) يتحتم لأن الجراح تابعة للقتل فيثبت فيها مثل حكمه ولأنه نوع قود أشبه القود في النفس والأولى أولى، فإن جرحه جرحاً لا قصاص فيه كالجائفة فليس فيه إلا الدية، وان جرح إنساناً وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة وقال أبو حنيفة تسقط الجراح لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سوى القتل ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص في الجراح حد إنما هو قصاص متمحض فأشبه مالو كان الجرح في غير المحاربة، وإن سلمنا أنه حد فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وقطع اليد والرجل عندهم (مسألة) (وحكم الردء حكم المباشر.

)

ص: 308

وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي ليس على الردء إلا التعزير، ولأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود.

ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة، ولأن المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل الكل وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الامرين كل واحد منهم.

(فصل) وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يسقط عن جميعهم ويصير القتل للأولياء إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع.

ولنا أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطئ امرأة وما ذكروه لا أصل له، فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وإن باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال في اموالهما ودية قتلهما على عاقلتهما ولا شئ على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى، وإن كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شئ لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة، (فصل) فإن كان فيهم امرأة ثبت لها حكم المحاربة فمتى قتلت أو أخذت المال فحكمها حكم

ص: 309

قطاع الطريق، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب عليها الحد ولا على من معها لأنها ليست من أهل المحاربة فأشبهت الصبي والمجنون.

ولنا أنها تحد في السرقة فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتخالف الصبي والمجنون لانها مكلفة يلزمها سائر القصاص وسائر الحدود فيلزمها هذا الحد كالرجل.

إذا ثبت هذا فإنها إن باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها لأنهم ردء لها، وإن فعل ذلك غيرها ثبت حكمه في حقها لأنها ردء له كالرجل سواء، وإن قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المسلمين المحاربين ذمي فهل ينتقض عهدهم بذلك؟ فيه روايتان، فان قلنا ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال وإن قلنا

لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما يجب على المسلمين.

(مسألة)(ومن قتل ولم يأخذ المال قتل وهل يصلب؟ على روايتين)(إحداهما) يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كالذين أخذوا المال (والثانية) لا يصلبون وهي أصح لأن الخبر المروي فيهم قال فيه (ومن قتل ولم يأخذ المال قتل) ولم يذكر صلباً ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ ولو شرع الصلب ههنا لاستويا والحكم في تحتم القتل وكونه حداً ههنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال (مسألة)(ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا) وهذا معنى قوله سبحانه (من خلاف) وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمين السارق ثم قطعنا رجله اليسرى لتتحقق المخالفة.

ويكون أرفق به في امكان مشيه ولا ينتظر اندمال

ص: 310

اليد في قطع الرجل بل يقطعان معاً يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله، لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحتين (مسألة)(ولا يذطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله) .

وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر للامام أن يحكم عليه حكم المحارب لانه محارب لله ورسوله يسارع في الارض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب.

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا) ولم يفصل ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانحتام كذلك ههنا يغلظ بقطع الرجل معها ولا يتغلظ بما دون النصاب، وأما الحرز فهو معتبر فانهم لو أخذوا مالا مضيعا لاحافظ له لم يجب القطع، فإن اخذوا مالا يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصاباً قطعوا على قياس قولنا في السرقة، وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي انه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصاباً، ويشترط أيضاً أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق

(مسألة)(فإن كانت يمينه مقطوعة أو مستحقة في قصاص أو شلاء قطعت رجله اليسرى وهل تقطع يسرى يديه؟ ينبني على الروايتين في قطع يسرى السارق في المرة الثالثة) إذا كان معدوم اليد أو الرجل إما لكونه قد قطع في قطع طريق أو سرقة أو قصاص أو بمرض أو تكون مستحقة في قصاص أو شلاء قطعت رجله اليسرى كما لو كانت يمناه موجودة وكذلك

ص: 311

إن كانت يده اليمنى موجودة ورجله اليسرى معدومة فإنا نقطع الموجود منهما حسب، ويسقط في المعدوم لأن ما تعلق به الغرض معدوم فسقط كالغسل في الوضوء، وهل تقطع يسرى يديه ينبني؟ على الروايتين في قطع يسرى السارق في المرة الثالثة، فإن قلنا تقطع ثم قطعت ههنا، وإن قلنا لا تقطع وهو المختار سقط قطعها لأن قطعها يفضي الى تفويت منفعة البطش وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب أن قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع وكان حكمه حكم المعدوم وإن قالوا لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان ذكرناهما في قطع السارق.

(مسألة)(ومن لم يقتل ولا أخذ المال نفي وشرد فلا يترك يأوي إلى بلد، وعنه إن نفيه تعزيره بما يردعه) .

وجملته أن المحاربين إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولا أخذوا المال فانهم ينفون من الأرض لقوله سبحانه (أو ينفوا من الأرض) يروي عن ابن عباس أن النفي يكون في هذا الحالة وهو قول النخعي وقتادة وعطاء الخراساني والنفي هو تشريدهم عن الامصار والبدان فلا يتركون يأوون بلداً، يروى نحو هذا عن الحسن والزهري وعن ابن عباس أنه ينفى من بلده الى غيره كنفي الزاني، وبه قال طائفة من أهل العلم.

قال أبو الزناد كان منفى الناس الى باضع من ارض الحبشة وذلك اقصى تهامة اليمن وقال مالك يحبس في البلد الذي نفي اليه كقوله في الزاني وقال أبو حنيفة يحبس حتى يحدث توبة ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال في هذه الحال يعزرهم الامام وإن رأى أن يحبسهم حبسهم وقيل عنه النفي طلب الامام لهم ليقيم فيهم حدود الله وروي ذلك عن ابن عباس وقال ابن شريح يحبسهم في غير بلدهم وهذا مثل قول مالك، لأن تشريدهم إخراج لهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق

ص: 312

ويؤذون به الناس فكان حبسهم أولى وعن أحمد رواية اخرى حكاها أبو الخطاب معناها أن نفيهم طلب الامام لهم فاذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم.

ولنا ظاهر الآية فان النفي الطرد والابعاد والحبس إمساك وهما يتنافيان فأما نفيهم إلى مكان غير معين فلقوله تعالى (أو ينفوا من الأرض) وهذا يتناول نفيه من جميعها وما ذكروه يبطل بنفي الزاني فانه ينفى الى مكان يحتمل أن يوجد فيه الزنا ولم يذكر أصحابنا قدر مدة نفيهم فيحتمل أن تتقدر مدته بما يظهر فيه توبتهم وتحسن سيرتهم ويحتمل أن ينفوا عاماً كنفي الزنا.

(مسألة)(ومن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله تعالى من الصلب والقطع والنفي وانحتام القتل وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال إلا أن يعفى له عنها) لا نعلم في هذا خلافاً.

وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل في هذا قول الله تعالى (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) فأما إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود للآية فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين بعد القدرة فمن عداهم يبقى على قضية العموم لأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه ولأن في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيباً في توبته والرجوع عن محاربته وافساده فناسب ذلك الاسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة (فصل) فان فعل المحارب ما يوجب حداً لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة

ص: 313

فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فسقطت التوبة كحد المحاربة إلا حد القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي ولأن في إسقاطها ترغيباً في التوبة، ويحتمل أن لا تسقط لأنها لا تختص المحاربة فكانت في حقه كهي في حق غيره، فان أتى حداً قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة لم يسقط الحد الأول لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره (مسألة) (ومن وجب عليه حد سوى ذلك فتاب قبل إقامته لم يسقط عنه، وعنه أنه يسقط

بمجرد التوبة قبل إصلاح العمل) من تاب وعليه حد من المحاربين وأصلح ففيه روايتان (إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) وذكر حديث السارق ثم قال (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ومن لاذنب له لا حد عليه وقال في ماعز لما أخبر بهربه (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه؟) ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب (والثانية) لا يسقط وهو قول مالك وابي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهو عام في التائب وغيره وقال الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد

ص: 314

جاءوا تائبين يطلبون التطهير باقامة الحد، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلم توبة فقال في حق المرأة (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الحد، ولأن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل ولأنه مقدور عليه فلم يسقط الحد عنه كالمحارب بعد القدرة عليه فان قلنا يسقط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه (والثاني يعتبر إصلاح العمل لقول الله تعالى (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) وقال تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فعلى هذا الوجه يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة، وقال بعض أصحاب الشافعي مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز (مسألة)(ومن مات وعليه حد سقط عنه) لفوات محله كما يسقط غسل ما ذهب من أعضاء الطهارة في الوضوء والغسل

(فصل)(ومن أريدت نفسه أو حرمته أو ماله فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يعلم دفعه به فان لم يحصل إلا بالقتل فله ذلك ولا شي عليه، وإن قتل كان شهيداً، وهل يلزمه الدفع عن نفسه؟ على روايتين وسواء كان الصائل آدميا أو غيره، وإن دخل رجل منزله متلصصاً أو صائلاً فحكمه حكم ما ذكرنا) وجملة ذلك أن الرجل إذا دخل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل أمره بالخروج من منزله سواء كان معه سلاح أو لم يكن لأنه متعد بدخول ملك غيره فكان لصاحب المنزل مطالبته بترك التعدي كما لو

ص: 315

غصب منه شيئاً فان خرج بالأمر لم يكن له ضربه لأن المقصود إخراجه، وقد روي عن ابن عمر أنه رأى لصاً فأصلت عليه السيف قال الراوي فلو تركناه لقتله، وجاء رجل إلى الحسن فقال لص دخل يبتي ومعه حديدة أقتله؟ قال نعم بأي قتلة قدرت أن تقتله ولنا أنه أمكن إزالة العدوان بغير القتل فلم يجز القتل كما لو غصب منه شيئاً فأمكن أخذه بغير القتل وفعل ابن عمر يحمل على قصد الترهيب لا على أنه قصد إيقاع الفعل، فان لم يخرج بالامر فله ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به لان المقصود دفعه، فإذا اندفع بقليل فلا حاجة الى أكثر منه، فان علم أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا، وإن ذهب هارباً لم يكن له قتله ولا اتباعه كالبغاة، وإن ضربه ضربة عصلته لم يكن له أن يثني عليه لأنه كفى شره، وإن ضربه فقطع يمينه فولى مدبراً فضربه فقطع فالرجل مضمونة بالقصاص أو الدية لانه في حال لا يحل له ضربه وقطع اليد غير مضمون، فإن مات من سراية القطع فعليه نصف الدية كما لو مات من جراحة اثنين، وإن عاد إليه بعد قطع رجله فقطع يده الاخرى فاليدان غير مضمونتين فان مات فعليه ثلث الدية كما لو مات من جراحة ثلاثة أنفس، وقياس المذهب أن يضمن نصف الدية لأن الجرحين قطع رجل واحد فكان حكمهما واحداً كما لو جرح رجل رجلا جراحات وجرحه آخر جرحا واحداً ومات كانت ديته بينهما نصفين، ولا تقسم الدية على عدد الجراحات كذا هذا فان لم يمكنه دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يعاجله بالدفع فله ضربه بما يقتله ويقطع طرفه، وما أتلف منه فهو هدر لأنه يتلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي ولأنه اضطر صاحب المنزل إلى قتله فصار كالقاتل لنفسه

ص: 316

وإن قتل صاحب المنزل فهو شهيد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد) رواه الخلال باسناده ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيداً كالعادل إذا قتله الباغي (فصل) وكل من عرض لإنسان يريد ماله أو نفسه فحكمه ما ذكرنا فيمن دخل منزله من دفعهم بأسهل ما يمكن دفعه به، فإن كان بينهما نهر كبير أو خندق أو حصن لا يقدرون على اقتحامه فليس له رميهم، فإن لم يمكن إلا بقتالهم فله قتالهم وقتلهم.

قال أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك: قاتلهم تمنع نفسك ومالك، وقال عطاء في المحرم يلقاه اللصوص يقاتلهم أشد القتال، وقال ابن سيرين ما أعلم أحداً ترك قتال الحرورية واللصوص تأثماً إلا أن يجبن، وقال الصلت بن طريف قلت للحسن إني أخرج في هذه الوجوه، أخوف شئ عندي يلقاني اللصوص يعرضون لي في مالي فإن كففت يدي ذهبوا بمالي، وإن قاتلت اللص ففيه ما قد علمت، قال أي بني من عرض لك في مالك فإن قتلته فإلى النار، وإن قتلك فشهيد، ونحو ذلك عن أنس والنخعي والشعبي، وقال أحمد في امرأة أرادها رجل على نفسها فقتلته لتحصن نفسها قال إذا عملت أنه لا يريد إلا نفسها فقاتلته لتدفع عن نفسها فلا شئ عليها وذكر حديثاً يرويه الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير أن رجلاً أضاف ناساً من هذيل فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر والله لا يودى أبداً، ولأنه إذا جاز الدفع عن ماله الذي يجوز له بذله وإباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى.

إذا ثبت هذا فإنه يجب عليها أن تدفع عن نفسها إن أمكنها ذلك لأن التمكين منها محرم وفي ترك الدفع نوع تمكين فأما من أريد ماله فلا يجب عليه الدفع لأن بذل المال مباح

ص: 317

(مسألة)(فان أريدت نفسه لم يلزمه الدفع) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة (اجلس في بيتك فان خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك) وفي لفظ (فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) وفي لفظ (كن كخير ابني آدم) ولأن عثمان رضي

الله عنه لم يدفع عن نفسه وترك القتال مع إمكانه، فان قيل قلتم في المضطر إذا وجد ما يدفع به الضرورة لزمه الأكل منه في أحد الوجهين، (1) قلنا الأكل تحيى به نفسه من غير تفويت غيره (2) فلزمه كالأكل في المخمصة (والثاني) لا يلزمه لأنه دفع عن نفسه فلم يلزمه كالدفع بالقتال وفيه رواية أخرى يلزمه الدفع عن نفسه لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه.

والأولى إن شاء الله أنه يلزمه الدفع عن حرمته ولا يلزمه الدفع عن ماله لأنه يجوز له بذله، فان أريدت نفسه فالأولى في الفتنة ترك الدفع لما ذكرنا من الاحاديث والأثر في دفع اللصوص، وإذا صالت عليه بهيمة ففيه روايتان أولاهما وجوب الدفع إذا أمكنه كما لو خاف من سيل أو نار وأمكنه أن يتنحى عن ذلك، وإن أمكنه الهرب ففيه وجهان (أولاهما) يلزمه كالأكل في المخمصة (والثاني) لا يلزمه كالدفع بالقتال (فصل) وإذا صال على إنسان صائل يريد نفسه أو ماله ظلماً أو يريد امرأة ليفجر بها فلغير المصول عليه معونته في الدفع، ولو عرض اللصوص لقافلة جاز لغير أهل القافلة، الدفع عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وفي حديث (إن المؤمنين يتعاونون على القتال) ولأنه لولا التعاون لذهبت اموال الناس وأنفسهم لأن قطاع الطريق إذا انفردوا بأخذ مال إنسان ولم يعنه غيره فانهم يأخذون أموال الكل واحداً واحداً وكذلك غيرهم (فصل) إذا وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه لما روي أن عمر رضي الله عنه بينما

(1) فلم لم تقولوا ذلك ههنا اه من المغنى (2) وههنا في احياء نفسه فوات نفس غيره فلم يجب عليه فأما إن أمكنه الهرب فهل يلزمه؟ فيه وجهان أحدهما يلزمه لانه

أمكنة الدفع عن نفسه من غير ضرر يلحق غيره اه من المغنى

ص: 318

هو يتعدى يوما إذ أقبل رجل يعدو ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم فجاء حتى قعد مع عمر فجعل يأكل وأقبل جماعة من الناس فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر ما يقول هؤلاء؟ قال ضرب الآخر فخذ امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد فقد قتله فقال لهم عمر ما يقول؟ قالوا ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر إن عادوا فعد.

رواه هشيم عن مغيرة عن ابراهيم أخرجه سعيد، فإن كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها، وإن كانت مكرهة فعليه القصاص، فأما إن قتل رجلاً وادعى أنه وجده مع امرأته فقتلها أو قتله فقال علي إن جاءوا باربعة شهداء وإلا فليعط برقبته، فعلى هذا يفتقر إلى أربعة شهود لحديث علي، وروي أنه يكفي شاهدان لان البينة تشهد على وجوده مع المرأة وهذا يثبت بشاهدين وإنما الذي يحتاج الى أربعة الزنا وهذا لا يحتاج إلى إثبات الزنا، فإن قبل فحديث عمر في الذي وجد مع امرأته رجلاً ليس فيه بينة وكذلك روي أن رجلا من المسلمين خرج غازيا وأوصى بأهله رجلا فبلغ الرجل أن يهودياً يختلف إلى امرأته فكمن له حتى جاء فجعل ينشد واشعث غره الاسلام مني * خلوت بفرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويصحي * على جرداء لاحقة الحزام كأن مواضع الرتلات منها * فئام ينهضون الى فئام فقام اليه فقتله فرفع ذلك إلى عمر فأهدر دمه، فالجواب ان ذلك ثبت عنده باقرار الولي، وإن لم تكن بينة فادعى علم الولي بذلك فالقول قول الولي مع يمينه

ص: 319

(فصل) فإن قتل رجل رجلاً وادعى أنه قد هجم منزله فلم يمكنه دفعه إلا بالقتل لم يقبل قوله

إلا ببينة وعليه القود سواء كان المقتول يعرف بسرقة او عيارة أو لا يعرف بذلك فإن شهدت البينة أنهم رأوا هذا مقبلا إلى هذا بسلاح مشهور فضربه هذا فقد هدر دمه وإن شهدوا أنهم رأوه داخلاً داره ولم يذكروا سلاحاً أو ذكروا سلاحاً غير مشهور لم يسقط القود بذلك لأنه قد يدخل لحاجة ومجرد الدخول المشهود به لا يوجب اهدار دمه (مسألة)(وإن عض انسان انسانا فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه ذهبت هدراً) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وروى سعيد عن هشيم عن محمد بن عبد الله أن رجلاً عض رجلا فانتزع يده من فيه فسقطت بعض اسنان العاض فاختصما الى شريح فقال شريح انزع يدك من في السبع وابطل أسنانه وحكي عن مالك وابن أبي ليلى عليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمس من الإبل ولنا ماروى يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل رجلا فعض أحدهما يد الآخر قال فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع احد ثنيتيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته فحسبت أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أفيدع يده في فمك تقضمها قضم الفحل) متفق عليه ولأنه عضو تلف ضرورة دفع شر صاحبه فلم يضمن كما لو صال عليه فلم يمكنه دفعه إلا بقطع عضوه وحديثهم يدل على دية السن إذا قلعت ظلماً وهذه لم تقلع ظلماً وسواء كان المعضوض ظالماً أو مظلوماً لأن العض محرم، إلا أن يكون العض مباحاً له مثل أن يمسكه في موضع يتضرر بامساكه أو يعصر يده بما لا يقدر على التخلص من ضرره إلا بعضه فيعضه فما سقط من أسنانه ضمنه لأنه عاد وكذلك لو عض أحدهما يد الآخر ولم يمكن المعضوض تخليص يده إلا بعضه فله عضه ويضمن الظالم منهما ما تلف من المظلوم وما تلف من الظالم كان هدراً وكذلك الحكم فيما إذا عضه في غير يده أو عمل به عملا غير العض أفضى الى تلف شئ من الفاعل لم يضمنه وقد روى محمد بن عبيد الله أن غلاماً اخذ قمعا من أقماع الزياتين فأدخله بين رجلي رجل ونفخ فيه فذعر الرجل من ذلك وخبط برجله فوقع على الغلام فكسر بعض أسنانه فاختصموا الى شريح فقال شريح لا أعقل الكلب الهرار قال القاضي يخلص المعضوض يده بأسهل ما يمكنه، فإن أمكنه فك لحييه بيده

ص: 320

الأخرى فعل وإن لم يمكنه لكمه على فكه فإن لم يمكنه فله أن يبعج بطنه وإن أتى على نفسه، قال شيخنا

والصحيح أن هذا الترتيب غير معتبر وله أن يجذب يده اولا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ولأنه لا يلزمه ترك يده في فم العاض حتى يتحيل بهذه الأشياء المذكورة ولأن جذب يده تخليص وما حصل من سقوط الأسنان حصل ضرورة التخليص الجائز ولكم فكه جناية غير التخليص وربما تضمنت التخليص وربما أتلفت الأسنان التي لم يحصل العض بها فكانت البداءة بجذب يده أولى وينبغي أنه متى أمكنه جذب يده فعدل إلى لكم فكه فأتلف سناً ضمنه لأمكان التخلص بما هو أولى منه (مسألة)(وإن نظر في بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذف عينه ففقأها فلا شئ عليه) وجملة ذلك أن من اطلع في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فرماه صاحب الدار بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يكن عليه جناح ولا يضمنها، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يضمنها لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فبمجرد النظر أولى.

ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو أن امرأ اطلع عليك بغير اذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) وعن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لو علمت أنك تنظرني لطمت - أو - لطعنت بها عينك) متفق عليهما، ويفارق ما قاسوا عليه لأن من دخل المنزل يعلم به فيستتر منه بخلاف الناظر من ثقب فانه يرى من غير علم به ثم الخبر أولى من القياس، وظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر في هذا أنه

ص: 321

لا يمكنه دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر، وقال ابن حامد يدفعه بأسهل ما يمكنه دفعه يقول له اولا انصرف فان لم يفعل أشار اليه أنه يحذفه فإن لم ينصرف فله حذفه حينئذ واتباع السنة أولى، فإن ترك الاطلاع ومضى لم يجز رميه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف، ولأنه ترك الجناية فأشبه من عض ثم ترك العض لم يجز قلع اسنانه وسواء كان المكان المطلع منه صغيراً كثقب أو شق أو واسعاً كنقب كبير، وذكر بعض أصحابنا أن الباب المفتوح كذلك، والأولى أنه لا يجوز حذف من نظر من باب مفتوح، لأن التفريط من تارك الباب مفتوجا (مفتوحا) والظاهر أن من ترك الباب مفتوحاً أنه يستتر لعلمه أن الناس ينظرون منه وبعلم بالناظر فيه والواقف عليه فلم (يجز رميه) كداخل الدار وان اطلع

ص: 322

فرماه صاحب الدار فقال المطلع ما تعمدته لم يضمنه على ظاهر كلام أحمد، لأن الاطلاع قد وجد والرامي لا يعلم ما في قلبه وعلى قول ابن حامد يضمنه لأنه لم يدفعه بما هو أسهل وكذلك لو قال لم أر شيئاً حين اطلعت، وإن كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا يرى شيئاً ولو كان إنسان عريانا في طريق لم يكن له رمي من نظر اليه لأنه المفرط، وإن كان المطلع في الدار من محارم النساء اللائي فيها، فقال

ص: 323

بعض أصحابنا ليس لصاحب الدار رميه إلا أن يكن متجردات فيصرن كالاجانب، وظاهر الخبر أن لصاحب الدار رميه سواء كان فيها نساء أو لم يكن لأنه لم يذكر أنه كان في الدار التي اطلع فيها على النبي صلى الله عليه وسلم نساء وقوله (لو أن امرأ اطلع عليك بغير اذن فحذفته) عام في الدار التي فيها نساء وغيرها (فصل) وليس لصاحب الدار رمي الناظر بما يقتله ابتداء فان رماه بحجر يقتله أو حديدة تقتله ضمنه بالقصاص لأنه إنما له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها دون ما يتعدى إلى غيرها فان لم يندفع المطلع برميه بالشئ اليسير جاز رميه بأكبر منه حتى يأتي ذلك على نفسه وسواء كان الناظر في الطريق او ملك نفسه أو غير ذلك.

ص: 324

باب حد المسكر الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والآية التي بعدها إلى قوله (فهل أنتم منتهون) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى عبد الله بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبو داود وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر وأجمعت الأمة على تحريمه، وإنما حكي عن قدامة ابن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهل أنهم قالوا هي حلال لقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية

وتحريم الخمر واقاموا عليهم الحد لشربهم إياه فرجعوا إلى ذلك فانعقد الاجماع فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب

ص: 325

وإلا قتل روى الجوزجاني بإسناده عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما حملك على ذلك فقال إن الله عزوجل يقول [ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا] الآية وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس أجبه فقال إنما أنزلها الله عذراً للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل (إنما الخمر والميسر) حجة على الناس، ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إذا شرب هذي وإذا هذى افترى فاجلدوا ثمانين فجلده عمر ثمانين: وروى الواقدي أن عمر قال له أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك، وروى الخلال بإسناده عن محارب بن دثار أن اناساً شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان شربتم الخمر؟ قالوا نعم يقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه إن أتاك كتابي هذا نهاراً فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن أتاك ليلاً فلا تنتظر بهم نهاراً حتى تبعث بهم إلي لئلا يفتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر فشاور فيهم الناس فقال لعلي ما ترى؟ فقال أرى أنهم

ص: 326

قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله بحد ما يفتري بعضنا على بعض قال فجلدهم عمر ثمانين ثمانين.

إذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وما عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى (مسألة)(كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام من أي شئ كان ويسمى خمراً حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه) روى تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي

ابن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والقاسم وقتادة وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد واسحاق، وقال أبو حنيفة في عصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وان لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعاً كان أو مطبوخاً كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر، فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده أو طبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب)

ص: 327

ولنا ماروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر وكل خمر حرام) وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواهما أبو داود والاثرم وغيرهما وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) رواه أبو داود وغيره وقال عمر رضي الله عنه نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والبر والشعير، والخمر ما خامر العقل متفق عليه، ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب فأما حديثهم فقال أحمد ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد عن مسعر عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال والمسكر من كل شراب، وقال ابن المنذر جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة فضعفها كلها وبين عللها، وقد قيل إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع أنه يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال (كل مسكر حرام)(مسألة)(ولا يجوز شربه للذة ولا للتداوي ولا لعطش ولا غيره إلا أن يضطر إليه لدفع لقمة غص بها فيجوز)

ص: 328

لا يجوز شربه للذة لما ذكرنا ولا للتداوي بها لذلك، فإن فعل فعليه الحد وقال أبو حنيفة يباح شربها للتداوي، وللشافعي وجهان كالمذهبين، وله وجه ثالث يباح للتداوي دون العطش لأنها حال

ضرورة فأبيح فيها كدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه ولنا ماروى الإمام أحمد بإسناده عن طارق بن سويد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنما أصنعها للدواء فقال (إنه ليس بدواء ولكنه داء) وبإسناده عن مخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذاً في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال (ما هذا؟) فقالت فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال (إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء) ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير، ان شربها للعطش وكانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعة عند الضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكاباحتها لدفع الغصة، وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة أنه حبسه طاغية الروم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة أيام فلم يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته فقال والله لقد كان الله أحله لي فإني مضطر ولكن لم اكن

ص: 329

أشمتكم بدين الإسلام وإن كانت صرفاً أو ممزوجة بشئ يسير لا يروي من العطش لم تبح وعليه الحد وقال أبو حنيفة تباح وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه حال ضرورة ولنا أن العطش لا يندفع به فلم يبح كما لو تداوى بها فيما لا يصلح له فأما شربها لدفع الغصة فيجوز كما يجوز أكل الميتة في حال المخمصة ولا نعلم في ذلك خلافاً (مسألة)(ومن شربه مختاراً عالماً أن كثيره يسكر قليلاً كان أو كثيراً فعليه الحد ثمانين جلدة وعنه أربعون) ولا نعلم بينهم خلافاً في عصير العنب غير المطبوخ، واختلفوا في سائرها فمذهب أحمد التسوية بين عصير العنب وغيره من المسكرات وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة والاوزاعي ومالك والشافعي، وقالت طائفة لا يحد إلا أن يسكر، منهم أبو وائل والنخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور من شربه معتقداً تحريمه حد، ومن شربه متأولا فلا حد عليه لأنه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي ولنا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من شرب الخمر فاجلدوه) رواه أبو داود وغيره وقد

ص: 330

ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر والاختلاف فيها لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل مالو اعتقد تحريهما، وبهذا فارق النكاح بلا ولي وغيره من المختلف فيه وقد حد عمر رضي الله عنه قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين (أحدهما) أن فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه (الثاني) أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم المختلف فيه فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات.

قال أحمد بن القاسم سمعت أبا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعضها (كل مسكر خمر) وبعضها (كل مسكر حرام)(فصل) وحده ثمانون في إحدى الروايتين، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن أجعله كأخف

ص: 331

الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وابي عبيدة بالشام، وروي أن عليا قال في المشورة إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما (والرواية الثانية) أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن علياً رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم، وعن أنس قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحواً من أربعين ثم أتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك ثم أتى به عمر فاستشار الناس في الحدود فقال ابن عوف أقل الحدود ثمانون فضربه عمر متفق عليه وفعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه لفعل غيره ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فتحمل الزيادة على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآها الإمام (فصل) وإنما يلزم الحد من شربها مختاراً لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه ولا إثم سواء

أكره بالوعيد أو الضرب أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال

ص: 332

(عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه النسائي وكذلك من اضطر إليها لدفع غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها فإن الله تعالى قال في آية التحريم (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وكذلك إن شربها لعطش شديد وكانت ممزوجة بما يروي من العطش فإنها تباح بذلك عند الضرورة كما تباح الميتة في المخمصة (فصل) فإذا ثرد في الخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحماً فأكل من مرقه فعليه الحد لأن عين الخمر موجودة وكذلك إن لت به سويقاً فأكله فإن عجن به دقيقاً فخبزه وأكله لم يحد لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره، وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم يصل إلى حلقه فأشبه مالو داوى به جرحه فإن استعط به فعليه الحد لأنه أوصله إلى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة، وحكي عن أحمد أن على من احتقن به الحد لأنه أوصله إلى جوفه والأول أولى لما ذكرنا (فصل) ويشترط لوجوب الحد على من شربها أن يعلم أن كثيرها يسكر فإن لم يعلم فلا حد عليه لأنه غير عالم بالتحريم ولا قصد ارتكاب المعصية بها فأشبه من رفت اليه غير امرأته وهذا قول عامة

ص: 333

أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد فيه أيضاً لأن عمر وعثمان قالا لا حد إلا على من علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر، ومتى ادعى الجهل بتحريمها وكان ناشئاً ببلد الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله فلم تقبل دعواه فيه وإن كان حديث عهد بالإسلام أو ناشئاً ببادية بعيده عن البلد قبل منه لأنه يحتمل ماقاله (مسألة)(والرقيق على النصف من ذلك) أي على النصف من حد الحر وهو أربعون إن قلنا إن الحد ثمانون ويستوي في ذلك العبد والأمة وعلى الرواية الأخرى عشرون (فصل) ويجلد العبد والأمة بدون سوط الحر ذكره الخرقي لأنه لما خفف عنه في عدده خفف

عنه في صفته كالتعزير مع الحد ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لأنه إنما يتحقق التنصيف إذا كان السوط مثل السوط، أما إذا كان نصفاً في عدده وأخف منه في سوطه كان أقل من النصف والله سبحانه قد أوجب النصف بقوله (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)(مسألة)(والذمي لا يحد بشربه في الصحيح عنه) لأنه يعتقد حله فلم يحد بفعله كنكاح المجوس ذوات محارمهم، وعنه يحد لأنه شرب مسكراً عالماً به مختاراً أشبه شارب النبيذ إذا اعتقد حله

ص: 334

(فصل) ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين الاقرار أو البينة ويكفي الاقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه لا يتضمن اتلافا فأشبه حد القذف، ومتى رجع عن إقراره قبل رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود الرائحة وحكي عن أبي حنيفة لا حد عليه إلا أن توجد رائحة ولنا أنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه ولأنه إقرار بحد فاكتفى به كسائر الحدود (مسألة)(وهل يجب الحد بوجود الرائحة؟ على روايتين) لا يجب الحد برائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وعن أحمد أنه يحد بذلك رواها عنه أبو طالب وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر، وروي عن عمر أنه قال إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلاء فقال عمر إني سائل عنه فإن كان ينكر جلدته، ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار والأول أولى لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرهاً أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر وإذا

ص: 335

احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يكتف بوجود الرائحة

ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر (فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة تدل على وجوب الحد ههنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها وقد روى سعيد ثنا هشيم ثنا المغيرة عن الشعبي قال لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي قال أشهد أني رأيته يتقيؤها فقال عمر من قاءها فقد شربها فضربه الحد، وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال شهدت عثمان وأتى بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان أنه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه رواه مسلم وفي رواية قال له عثمان لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم فلم ينكر فكان إجماعاً ولأنه يكتفى بالشهادة عليه أنه شربها ولا يتقايؤها أو لا يسكر منها حتى يشربها

ص: 336

(فصل) وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه شرب مسكراً ولا يحتاجان إلى بيان نوعه لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد والى مالا يوجبه بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) فلهذا احتاج الشاهد إلى تفسيره وفي مسئلتنا لا يسمى غير المسكر مسكراً فلم يفتقر إلى ذكر نوعه، ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر فلم يحتج إلى إثباته ولذلك لم يعتبر في شئ من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة ولو شهد بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا

ص: 337

(مسألة)(والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام حرم إلا أن يغلى قبل ذلك فيحرم نص عليه) أما إذا غلي العصير كغليان القدر وقذف بزبده فلا خلاف في تحريمه، وإن أتت عليه ثلاثة أيام

ولم يغل فقال أصحابنا هو حرام وقال أحمد اشربه ثلاثاً ما لم يغل فإذا أتت عليه أكثر من ثلاثة أيام فلا تشربه، وأكثر أهل العلم يقولون هو مباح ما لم يغل ويسكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشربوا في كل وعاء ولا تشربو مسكراً) أخرجه أبو داود، ولأن علة تحريمه الشدة المطربة وإنما ذلك في المسكر خاصة ووجه الأول ما روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق، وروى الشالنجي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل) وقال ابن عمر اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال في ثلاث ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالباً وهي خفية تحتاج

ص: 338

إلى ضابط فجاز جعل الثلاث ضابطاً لها، قال شيخنا ويحتمل أن يكون شربه بعد الثلاث إذا لم يغل مكروهاً غير محرم فإن أحمد لم يصرح بالتحريم وقال في موضع أكرهه وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يشربه بعد ثلاث (مسألة)(وقال أبو الخطاب عندي أن كلام أحمد في ذلك محمول على عصير الغالب أنه يتخمر في ثلاثة أيام)(فصل) وكذلك النبيذ مباح ما لم يغل أو يأتي عليه ثلاثة أيام والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلوا به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل أو يأتي عليه ثلاثة أيام لما روينا عن ابن عباس، وقال أبو هريرة علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال (اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر) رواه أبو داود ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكراً وكل مسكر حرام

ص: 339

(مسألة)(ولا يكره أن يترك في الماء تمر أو زبيب ونحوه ليأخذ ملوحته ما لم يشتد أو يأتي عليه ثلاث لما ذكرنا في الفصل الذي قبله (مسألة)(ولا يكره الانتباذ في الدباء والختم (والحنتم) والنقير والمزفت) يجوز الانتباذ في الأوعية كلها وعن أحمد أن يكره الانتباذ في الدباء والختم (والحنتم) والنقير والمزفت

لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها والدباء اليقطين والختم (والحنتم) الجرار والنقير الخشب والمزفت الذي يطلى بالزفت والصحيح أنه لا يكره لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن الأشربة أن لا تشربوا إلا في ظروف الادم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا) رواه مسلم وهذا دليل على نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ (فصل) وما طبخ من النبيذ والعصير قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس ورب الخروب وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لأن التحريم إنما ثبت في المسكر ففيما عداه يبقى على أصل

ص: 340

الإباحة وما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو أقل أو أكثر قال أبو داود سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثه وبقي ثلثه قال لا بأس به قيل لاحمد إنهم يقولون إنه يسكر قال لا يسكر لو كان يسكر ما أحله عمر (مسألة)(ويكره الخليطان وهو أن ينبذ شيئين كالتمر والزبيب) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، وقال أحمد الخليطان حرام وقال في رجل ينقع الزبيب والتمر الهندي والعناب ونحوه ينقعه غدوة ويشربه عشية للدواء: أكرهه لأنه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه على المكان وقد روى أبو داود بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعاً ونهى أن ينتبذ التمر والزبيب جميعاً، وفي رواية انتبذوا كل واحد على حدة وعن أبي قتادة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينتبذ كل واحد منهما على حدة متفق عليه قال القاضي يعني أحمد بقوله هو حرام إذا اشتد وأسكر وإذا لم يسكر لم يحرم وهذا هو الصحيح إن شاء

ص: 341

الله وانا نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعلة إسراعه إلى السكر المحرم فإذا لم يوجد لم يثبت التحريم كما أنه عليه السلام نهى عن الانتباذ في الأوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم بالشرب فيها ما لم توجد حقيقة الاسكار وقد دل على صحة هذا ماروي عن عائشة قالت كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية

فيشربة غدوة رواه أبو داود وابن ماجة فلما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الاسكار فيها لم يكره ولو كان مكروهاً لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم له فعلى هذا لا يكره ما كان في المدة اليسيرة ويكره ماكان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى الاسكار ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضي عليه ثلاثة أيام (مسألة)(ولا بأس بالفقاع وبه قال إسحاق وابن المنذر) قال شيخنا ولا أعلم فيه خلافاً لأنه لا يسكر وإذا ترك يفسد بخلاف الخمر والأشياء على الإباحة ما لم يرد بتحريمها حجة (فصل) والخمرة إذا افسدت فصيرت خلا لم تحل، وإن قلب الله عينها فصارت خلا فهي حلال

ص: 342

روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحوه قول مالك وقال الشافعي إن القي فيها شئ يفسدها كالملح فتخللت فهي على تحريمها وإن نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي إباحتها قولان وقال أبو حنيفة تطهر في الحالين لأن علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها يحققه أن التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدمي كتطهير الثوب والبدن والأرض ونحو هذا قول عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي وذكره أبو الخطاب وجهاً في مذهبنا

ص: 343

ولنا ماروى أبو سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنه ليتيم قال (أهريقوه) رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ايتخذ الخمر خلا؟ قال (لا) رواه مسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أبي طلحة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال (أهرقها) قال: أفلا أخللها؟ قال (لا) رواه أبو داود وهذا نهي يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز

ص: 344

إراقتها بل أرشدهم إليه سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم ولأنه إجماع الصحابة فروي أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى إفسادها

ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لافسادها، رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر، فأما إذا انقلبت بنفسها فإنها تطهر وتحل في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل أنهم اصطبغوا بخل خمر منهم علي وأبو الدرداء ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شئ من أخبارهم أنهم اتخذوه خلا ولأنه انقلب بنفسه لكن قد بينة عمر بقوله لا يحل خل خمرأفسدت حتى يكون الله تعالى هو الذي يتولى

ص: 345

إفسادها ولأنها إذا انقلبت بنفسها فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت كالماء إذا زال تغيره بمكثه، وإذا ألقي فيها شئ ينجس بها ثم انقلبت بقي ما ألقي فيها نجساً فنجسها وحرمها فأما إن نقلها من موضع إلى آخر فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئاً فإن لم يكن قصد تخليلها حلت بذلك لأنها تخللت بفعل الله تعالى فيها، وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطهر لأنه لا فرق بينهما إلا القصد فلا يقتضي تحريمها ويحتمل أن لا تطهر لأنها خللت فلم تطهر كما لو ألقي فيها شئ

ص: 346

باب التعزير وهو التأديب وهو واجب في كل معصية لاحد فيها ولا كفارة كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد واتيان المرأة المرأة وسرقة مالا يوجب القطع والجناية على الناس بما لاقصاص فيه والقذف بغير الزنا ونحوه والنهب والغصب والاختلاس، وسمي تعزيراً لأنه يمنع من الجناية والأصل في التعزير المنع ومنه التعزير بمعنى النصرة لأنه منع لعدوه من أذاه

ص: 347

(مسألة)(ومن وطئ جارية امرأته فعليه الحد إلا أن تكون قد احلتها له فيجلد مائة وهل يلحقه نسب ولدها؟ على روايتين) أما إذا وطئ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة ولا يرجم إن كان ثيباً وإن كان بكراً لم يغرب وإن لم تكن احلتها له فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الأجنبي، وحكي عن النخعي أنه يعزر ولا حد

عليه لأنه يملك امرأته فكانت له شبهة في مملوكتها، وعن عمر وعلي وعطاء وقتادة ومالك والشافعي

ص: 348

أنه كوطئ الأجنبية سواء احلتها له أو لم تحلها لأنه لا شبهة له فيها فأشبه جارية اخته ولانه إباحة لوطئ محرمة عليه فلم تكن شبهة كإباحة سائر الملاك وعن ابن مسعود والحسن إن كان استكرهها فعليه غرم مثلها وتعتق وإن كانت طاوعته فعليه غرم مثلها ويملكها لأن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه ابن عبد البر وقال هذا حديث صحيح ولنا ماروى أبو داود بإسناده عن حبيب بن سالم أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع

ص: 349

على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوها أحلتها له فجلدوه مائة

ص: 350

(مسألة)(وهل يلحقه نسب ولدها إذا حملت من هذا الوطئ؟ على روايتين)(إحداهما) يلحق لانه وطئ لا يجب به الحد فلحق به النسب كوطئ الجارية المشتركة (والأخرى) لا يلحق به لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه الزنا المحض (مسألة)(ولا يسقط الحد بالإباحة في غير هذا الموضع) لعموم النصوص الدالة على وجوب الحد على الزاني وإنما سقط الحد في هذا الموضع لحديث النعمان

ص: 351

(مسألة)(ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في قدر التعزير فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص عليه في مواضع وهو قول إسحاق لما روى أبو بردة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) متفق عليه

ص: 352

(والرواية الثانية) لا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطاً لأنها حد العبد في الخمر وهذا قول أبي حنيفة وإن قلنا أن حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطاً في حق العبد وأربعين

ص: 353

في حق الحر وهذا مذهب الشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة وثلاثين وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ادنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين ويحتمل كلام احمد والخرقي أن لا يبلغ بكل جناية حداً مشروعاً في جنسها ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها، فعلى هذا ماكان سببه الوطئ جاز أن يجلد مائة إلا سوطاً لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطئ لم يبلغ به أدنى الحدود لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها انه يجلد

ص: 354

مائة وهذا تعزيز لأنه في حق المحصن إنما هو الرجم، وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطاً واحداً رواه الأثرم واحتج به أحمد قال القاضي هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافاً في التعزير بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعاً للأثر الا في وطئ

ص: 355

جارية امرأته لحديث النعمان وفي الجارية المشتركة لحديث عمر وما عداهما يبقى على العموم لحديث أبي برده وهذا قول حسن، إذا ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدراً لأنه لو يقدر لكان حداً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما يقتضيه

ص: 356

حال الشخص وقال مالك يجوز أن يزاد التعزير على الحد إذا رأى الإمام لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالاً فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه وكلم فيه فضربة مائة أخرى فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه، وروى أحمد بإسناده

ص: 357

إن علياً أتى بالنجاشي قد شرب خمراً في رمضان فضربة ثمانين الحد وعشرين سوطاً لفطره في رمضان وروي أن أبا الأسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه فقال أبو الأسود أعجلتم المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطاً وخلى سبيله

ص: 358

ولنا حديث أبي بردة وهو صحيح متفق عليه وروى الشالنجي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين) ولأن العقوبة على قدر الإجرام والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمهما وما قالوه يفضي إلى أن

ص: 359

من قبل امرأة حراماً يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز أن يزاد على حده فما دونه أولى، فما حديث معن فلعله كانت له ذنوب كثيرة فأدب على جميعها أو تكرر منه الأخذ أو كان ذنبه مشتملاً على جنايات (أحدها) تزويره (والثاني) أخذه لمال بيت المال بغير حقه (والثالث) فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا، وأما حديث النجاشي فإن علياً ضربه الحد لشربه ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حداً وقد ذهب أحمد إلى هذا ورأى أن من

ص: 360

شرب الخمر في رمضان يحد ثم يعزر لجنايته من وجهين والذي يدل عل صحة ما ذكرناه ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى أن لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا (فصل) والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ولا يجوز قطع شئ منه ولا جرحه ولا أخذ ماله لأن الشرع لم يرد بشئ من ذلك عن أحد يقتدى به ولأن الواجب أدب والتأديب لا يكون بالاتلاف وإن رأى الإمام العفو عنه جاز

ص: 361

(فصل) والتعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام وبه قال مالك وابو حنيفة وقال

الشافعي ليس بواجب لأن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها فقال (أصليت معنا؟) قال نعم فتلى عليه (إن الحسنات يذهبن السيئات) وقال في الأنصار (اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكم به للزبير: إن كان ابن عمتك؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعزره على مقالته وقال له رجل: ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله

ص: 362

ولنا أن ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطئ جارية امرأته وجارية مشتركة فيحب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصاً عليه إذا رأى الإمام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب فإنه زجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد، وإن رأى الإمام العفو عنه جاز لما ذكرنا من النصوص والله أعلم وإن كان التعزير لحق آدمي فطلبه لزم إجابته كسائر حقوق الآدميين (مسألة)(وإن استمنى بيده لغير حاجة عزر) لأنه معصية وإن فعله خوفاً من الزنا فلا شئ عليه لأنه لو فعل ذلك خوفاً على بدنه لم يلزمه شئ ففعله خوفاً على دينه أولى

ص: 363

كتاب الجهاد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة) متفق عليه ولمسلم (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم) وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (مسألة)(وهو فرض كفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين) معنى فرض الكفاية الذي اذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس وإن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل البعض وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات في قول

عوام أهل العلم، وحكي عن ابن المسيب أنه فرض عين لقوله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله - ثم قال - إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) وقال سبحانه (كتب

ص: 364

عليكم القتال) وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) رواه أبو داود ولنا قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى) وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وأصحابه.

فأما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما نسخها قوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) رواه الاثرم وأبو داود.

ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم الى غزوة تبوك وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جنداً لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعاً بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو

ص: 365

(مسألة)(ولا يجب إلا على ذكر حر مكلف مستطيع وهو الصحيح الواجد لزاده وما يحمله إذا كان بعيداً) يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة، فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع، ولأن

الكافر غير مأمون في الجهاد، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد، والصبي ضعيف البنية، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة: متفق عليه، وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد، ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج، وأما الذكورية فتشترط لما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال (جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها، ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكراً فلا يجب عليه مع الشك في شرطه، وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وذلك شرط لقول الله سبحانه (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) ولأن هذه الأعذار يمنعه من الجهاد، فأما العمى فمعروف، وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد

ص: 366

والركوب كالزمانة ونحوها، اما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لأنه ممكن منه فأشبه الأعور، والمرض المانع هو الشديد، فأما اليسير الذي لا يمنع الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب كالعور، وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله] ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة فاعتبرت القدرة عليها، فإن كان الجهاد على مسافة قريبة اشترط أن يجد الزاد ونفقة عياله في مدة غيبته وسلاحا يقاتل به، ولا تعتبر الراحلة لقرب السفر، وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى [ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناألا يجدوا ما ينفقون](مسألة)(وأقل ما يفعل مرة في كل عام إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره) أقل ما يفعل الجهاد في كل عام مرة لأن الجزية تجب على أهل الذمة مرة في كل عام وهي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فإن دعت الحاجة إلى تأخيره مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو

عدة أو يكون متنظرا لمدد يستعين به أو يكون في الطريق إليهم مانع أو ليس فيها علف أو ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام ويطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة وبغير هدنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشاً عشر سنين وأخر

ص: 367

قتالهم حتى نقضوا عهده وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وإن دعت الحاجة الى القتال في عام أكثر من مرة وجب لأنه فرض كفاية فوجب منه ما تدعو الحاجة اليه (فصل)(ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حضر العدو بلده تعين عليه) وجملة ذلك أن الجهاد يتعين في ثلاثة مواضع (أحدها) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان يحرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا - وقوله - يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروازحفا فلا تولوهم الأدبار) الآية (الثاني) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم (الثالث) إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟) الآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه (مسألة)(وأفضل ما يتطوع به الجهاد) قال أحمد رحمه الله لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد روى ذلك عنه جماعة من أصحابه قال الأثرم قال أحمد لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر الغزو فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شئ ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين

ص: 368

يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال (الصلاة بمواقيتها - قلت ثم أي؟ قال - بر الوالدين - قلت - ثم أي؟ قال - الجهاد في سبيل الله) متفق على معناه

وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الاعمال افضل؟ اواي الأعمال خير؟ قال (الإيمان بالله ورسوله - قيل ثم أي شئ؟ قال - الجهاد سنام العمل - قيل ثم أي قال - حج مبرور) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله أي الناس أفضل قال (من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) متفق عليه وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى الخلال بإسناده عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده مابين السماء والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لارفث فيها ولافسوق ولا جدال) ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم وقويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله

ص: 369

(مسألة)[وغزو البحر أفضل من البر] غزو البحر مشروع وفضله كبير قال أنس بن مالك نام رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام فقلت ما يضحكك يارسول الله؟ قال (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبح هذا البحر ملوكاً على الأسرة - أو - مثل الملوك على الأسرة) متفق عليه قال ابن عبد البر: أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعته أخت لهما ثالثة ولم يرو هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في بيتها وينظر إلى شعرها ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب وروى أبو داود باسناده عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (المائد في البحر الذي يصيبه القئ له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين) وروى ابن ماجة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين) ولأن البحر اعظم خطراومشقة فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع

أصحابه فكان أفضل من غيره [فصل] وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وكان ابن المبارك رضي الله عنه يأتي من مرو لغزو الروم فقيل له في ذلك فقال إن هؤلاء يقاتلون على دين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم خلاد (إن ابنك له أجر شهيدين) قالت ولم ذاك يا رسول الله؟ قال (لأنه قتله أهل الكتاب) رواه أبو داود

ص: 370

(مسألة)(ويغزى مع كل بر وفاجر) يعني مع كل إمام براً كان أو فاجراً وقد سئل أحمد عن الرجل يقول أنا لا أغزو ويأخذه ولد العباس إنما يوفر الفئ عليهم فقال سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبطون جهال فيقال أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الإسلام؟ ما كانت تصنع الروم؟ وقد روى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً) وبإسناده عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله الا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار) ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطعه وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور كلمة الكافر وفيه فساد عظيم، قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)(فصل) قال أحمد لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)(مسألة)(ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو) .

ص: 371

الأصل في هذا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ولأن الأقرب أكثر ضرراً وفي قتاله دفع ضرره عن المقاتل له وعمن وراءه ولأن الأشتغال بالبعيد عنه

يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه قيل لأحمد رحمه الله: يحكون عن ابن المبارك أنه قيل له تركت قتال العدو عندك وجئت إلى ههنا قال؟ هؤلاء أهل كتاب؟ فقال أبو عبد الله سبحان الله ما أدري ما هذا القول يترك العدو عنده ويجئ إلى ههنا؟ أفيكون هذا؟ أو يستقيم هذا؟ وقد قال الله تعالى [قاتلوا الذين يلونكم من الكفار] ولو أن أهل خراسان كلهم عملوا على هذا لم يجاهد الترك أحد وهذا والله أعلم إنما فعله ابن المبارك لكونه متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان واجناد المسلمين والمتبرع له ترك الجهاد بالكلية فكان له أن يجاهد حيث شاء ومع من شاء.

إذا ثبت هذا فإن كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو لمصلحة في البداية به لقربه وامكان الفرصة منه أو لكون الأقرب مهادناً أو يمنع مانع من قتاله فلا بأس بالبداية بالأبعد للحاجة.

(فصل) وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون من بازائهم من المشركين ويأمر بعمل حصونهم وحفر خنادقم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية أميراً يقلدهم أمر الحرب وتدبير الجهاد ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة العدو مع أمانة ورفق بالمسلمين ونصح لهم وإنما يبدأ

ص: 372

بذلك لأنه لا يأمن عليها من المشركين، ويغزو كل قوم من يليهم إلا أن يكون في بعض الجهات من لا يكفيه من يليه فينجدهم بقوم آخرين ويكونون معهم ويوصي من يؤمره أن لا يحمل المسلمين على مهلكة ولا يأمرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فان فعل ذلك فقد أساء ويستغفر الله تعالى ولا عقل عليه ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لأنه فعل ذلك باختياره، فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره، وإن حصلت غنيمة قسموها على موجب الشرع، قال القاضي وتؤخر قسمه الإماء حتى يقوم إمام احتياطاً للفروج فإن بعث الإمام جيشاً وأمر عليهم أميراً فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالداً يومئذ (سيف الله)[فصل] قال أحمد قال عمر رضي الله عنه وفروا الأظفار في أرض العدو فإنه سلاح قال أحمد

يحتاج إليها في أرض العدو ألا ترى أنه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشئ فإذا لم يكن له اظفار لم يستطع وقال عن الحكم بن عمرو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نحفي الأظفار في الجهاد فإن القوة الأظفار [فصل] قال أحمد يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقه، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبو بكر رضي الله عنه يمشي فقال

ص: 373

له يزيد يا خليفة رسول إما أن تركب وإما أن أنزل انا فامشي معك فقال لا أركب ولا تنزل إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله تعالى، وشيع أبو عبد الله أبا الحارث الصائغ ونعلاه في يديه وذهب إلى فعل أبي بكر رضي الله عنه أراد أن تغبر قدماه في سبيل الله وقال عن عوف بن مالك الخثعمي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) قال أحمد ليس للخثعمي صحبة وهو قديم (مسألة)(وتمام الرباط أربعون يوما وهو لزوم الثغر للجهاد) معنى الرباط الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهل العدو ويخيفهم وأصله من رباط الخيل لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه فسمي المقام بالثغر رباطاً وإن لم يكن خيل، وفيه فضل عظيم وأجر كبير قال أحمد ليس يعدل الجهاد والرباط شئ والرباط دفع عن المسليمن وعن حريمهم وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو فالرباط عندي أصل الجهاد وفرعه والجهاد أفضل منه للعناء والتعب والمشقة وقد روي في فضل الرباط أخبار منها ما روى سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن الفتان) رواه مسلم وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه

ص: 374

ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن

صحيح وعن عثمان بن عثمان رضي الله عنه أنه قال على المنبر: إني كنت كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار أمرؤ منكم لنفسه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) رواه أبو داود والاثرم وغيرهما.

إذا ثبت هذا فإن الرباط يقل ويكثر فكل مدة أقامها بنية الرباط فهي رباط قلت أو كثرت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (رباط يوم - ورباط ليلة) قال أحمد يوم رباط وليلة رباط وساعة رباط وقال عن أبي هريرة رضي الله عنه من رابط يوما في سبيل الله كتب له أجر الصائم القائم ومن زاد زاده الله، وروى سعيد بإسناده عن أبي هريرة قال رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط أربعون يوماً روى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد ذكرنا خبر أبي هريرة، وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تمام الرباط أربعون يوما) وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قدم على عمر بن الخطاب من الرباط فقال له كم رابطت قال ثلاثين يوماً قال عزمت عليك إلا رجعت حتى تتمها أربعين يوماً فإن رابط أكثر فله أجره كما قال أبو هريرة ومن زاد زاده الله (فصل) وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفاً لأنهم أحوج ومقامه به أنفع قال أحمد رحمه

ص: 375

الله: أفضل الرباط أشدهم كلبا وقيل لأبي عبد الله فأين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله؟ قال كل مدينة معقل للمسلمين مثل دمشق وقال أرض الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع الناس إليه إذا غلبت الروم، قيل لأبي عبد الله فهذه الأحاديث التي جاءت (إن الله تكفل لي بأهل الشام) ونحو هذا قال ما أكثر ما جاء فيه، وقيل له إن هذا في الثغور فأنكره وقال أرض القدس أين هي ولا يزال أهل الغرب ظاهرين؟ هم أهل الشام ففسر أحمد الغرب في هذا الحديث بالشام وهو صحيح رواه مسلم وإنما فسره بذلك لأن الشام يسمى مغرباً لأنه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقاً ولهذا قيل ولأهل المشرق ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحاً به (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم

من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام) وفي حديث مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال (وهم بالشام) رواه البخاري وروى في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال طائفة بدمشق ظاهرين) وقد روي في الشام أخبار كثيرة منها حديث عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ستجندون أجناداً جنداً بالشام وجندا بالعراق وجنداً باليمن فقلت خرلي يا رسول الله قال عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق باليمن ويشق من غدره فإن الله تكفل لي بالشام وأهله) رواه أبو داود بمعناه وكان أبو إدريس إذا روى هذا الحديث قال ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه وروي عن الأوزاعي قال أتيت المدينة فسألت من

ص: 376

بها من العلماء؟ فقيل محمد بن المنكدر ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقلت والله لأبدأن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ بيدي وقال من أي إخواننا أنت؟ قلت من أهل الشام قال من أيهم؟ قلت من أهل دمشق قال حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (يكون للمسلمين ثلاث معاقل فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج طور سيناء)) رواه أبو نعيم في الحلية وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام) رواه أبو داود (مسألة)(ولا يستحب نقل أهله إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) قد ذكرنا هذا الحديث وهو صحيح رواه أبو داود وغيره واراد بالثغر ههنا الثغر المخوف وهذا قول الحسن والاوزاعي لما روى يزيد بن عبد الله قال قال: عمر رضي الله عنه لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر رواه الأثرم، ولأن الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها واستيلاؤهم على الذرية والنساء

ص: 377

قيل لأبي عبد الله رحمه الله فتخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الإثم؟ قال كيف لا أخاف الأثم وهو يعرض ذريته للمشركين؟ وقال كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم فأنا أنهى عنه الآن لأن الأمر قد اقترب، وقال لابد لهؤلاء القوم من يوم قيل فذلك في آخر الزمان قال فهذا آخر الزمان قيل له فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال هذا للواحدة ليس الذرية قال الشيخ رحمه الله وهذا من كلام أحمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحب لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلابد لهم من السكنى بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص الثغر المخوف بالكراهة لأن الخوف عليها أكثر ولأن الغالب من غير المخوفة سلامتها وسلامة أهلها (فصل) ويستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في مسجد واحد بحيث إذا حضر النفير صادفهم مجتمعين فيبلغ الخبر جميعهم ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم لأنهم إذا كانوا متفرقين رأى الجاسوس قلتهم، وروي عن الأوزاعي أنه قال في المساجد التي بالثغر لو أن لي عليها ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون صلاتهم في مسجد واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد (فصل) في الحرس في سبيل الله وفيه ثواب عظيم وفضل كبير قال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من حشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن سهل بن الحنظلية أنهم سارو مع رسول

ص: 378

الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية قال من يحرسنا الليلة؟) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال (فاركب) فركب فرساً له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة) فلما أصبحنا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مصلاه فركع ركعتين ثم قال (هل أحسستم فارسكم؟) قالوا لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ابشروا قد جاء فارسكم) فإذا هو قد جاء حتى إذا وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني انطلفت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحداً فقال له

رسول الله (هل نزلت الليلة؟) قال لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها) رواه أبو داود، وعن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها) رواه ابن سنجر (مسألة)(وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب وتستحب لمن قدر عليه) الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام قال الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟) الآيات.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا برئ من مسلم بين مشركين)

ص: 379

رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت في آي وأخبار سوى هذين كثير (فصل) وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم، وقال قوم قد انقطعت الهجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لاهجرة بعد الفتح) وقال (قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) وروى أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما جاء بك أبا وهب؟) قال قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر قال (ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) روى ذلك كله سعيد ولنا ما روى معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبو داود، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد) رواه سعيد وغيره مع إطلاق الآيات والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان وأما الاحاديث الأول فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح، وقوله لصفوان (إن الهجرة قد انقطعت) يعنى من مكة لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار فإذا فتح لم يبق بلد الكفار فلا تبقى منه هجرة، وهكذا كل بلد فتح لا تبقى منه هجرة إنما الهجرة النية

ص: 380

(فصل) والناس في الهجرة على ثلاثة أضرب [أحدها] من تجب عليه وهو ممن يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو لا يمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [الثاني] من لاهجرة عليه وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) فهذه لا توصف باستحباب لعدم القدرة عليها (الثالث) من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه مع إقامته في دار الكفار فيستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه مقيما بمكة مع إسلامه

ص: 381

وروي أن نعيم النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك واكفنا ما كنت تكفينا وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (قومك كانوا خيراً لك من قومي لي: قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك) فقال يا رسول الله قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله أو نحو هذا القول (مسألة) (ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له، ومن أحد أبويه مسلم إلا بإذن غريمه وأبيه إلا

أن يتعين عليه الجهاد فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة من كان عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلاً أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه عليه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها، وقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً يكفر عني خطاياي؟ قال (نعم إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك) وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لأنه تعلق بعينه فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريراً

ص: 382

بتفويت الحق، فإن ترك وفاء أو أقام كفيلاً فله الغزو بغير إذن نص عليه أحمد فيمن ترك وفاء لأن عبد الله بن عمرو بن حرام خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه جابر بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه وقال (مازالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) وقال لابنه جابر (أشعرت أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا) (فصل) ومن كان أبواه مسلمين لم يجاهد بغير إذنهما تطوعاً روى نحو ذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال مالك والاوزاعي والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد؟ قال (ألك أبوان؟) قال نعم قال (ففيهما فجاهد) وروى ابن عباس نحوه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي رواية قال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) وعن أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل لك باليمن أحد؟) قال نعم أبواي، قال (أذنا لك؟) قال لا، قال (فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) رواهن أبو داود، ولأن

بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم وكذلك إن كان أحدهما مسلماً لم يجاهد بغير إذنه لأن بره فرض عين فقدم على الجهاد كالأبوين، فأما إن كانا غير مسلمين فلا إذن لهما وهذا قول الشافعي وقال الثوري لا يغزو إلا بإذنهما لعموم الأخبار

ص: 383

ولنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من أبواه كافران ولم يستأذنهما منهم أبو بكر الصديق وأبو حذيفة بن عتبة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأبوه رئيس المشركين يومئذ وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية وهذا يخص عموم الأخبار فإن كانا رقيقين فعموم كلامه ههنا يقتضي وجوب استئذانهما وهو ظاهر كلام الخرقي لظاهر الأخبار ولأنهما مسلمان أشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر إذنهما لأنه لا ولاية لهما فإن كانا مجنونين فلا إذن لهما لعدم اعتبار قولهما.

(فصل) فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما وكذلك كل فرائض الأعيان لا طاعة لهما في تركها لأن تركها معصية ولاطاعة لأحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ولأن الله تعالى قال (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولم يشترط إذن الوالدين.

(فصل) فإن خرج في جهاد تطوع بإذنهما فمنعاه منه بعد سيره وقبل تعينه عليه فعليه الرجوع لأنه معنى لو وجد في الابتداء منع فمنع إذا وجد في أثنائه كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع أو يحدث له عذر من مرض أو نحوه فإن أمكنه الإقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش وإذا حضر الصف تعين عليه لحضوره وسقط إذنهما وإن كان رجوعهما عن الأذن بعد تعين الجهاد عليه لم يؤثر

ص: 384

شيئاً وإن كانا كافرين فأسلما ومنعاه كان كمنعهما بعد إذنهما سواء، وحكم الغريم يأذن في الجاد ثم يمنع منه حكم الوالد على ما فصلناه، فأما إن حدث للإنسان في نفسه مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف سواء التقى الصفان أو لا لأنه لا يمكنه القتال فلا فائدة في مقامه.

(فصل) فإن أذن له والداه في الجهاد وشرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما كذلك قال الاوزاعي وابن المنذر لأنه صار واجباً عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك.

(مسألة)(ولا يجوز للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة فإن زاد الكفار فلهم الفرار ألا أن يغلب على ظنهم الظفر) وجملة ذلك أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) وقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) الآية، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الفرار من الزحف من الكبائر وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها.

ص: 385

ولنا أن الأمر مطلق والخبر عام فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل، وإنما يجب الثبات بشرطين (أحدهما) أن لا يزيد الكفار على ضعف المسلمين فإن زادوا جاز الفرار لقول الله تعالى (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) وهذا وإن كان لفظة لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله (الآن خفف الله عنكم) ولو كان خبراً على حقيقته لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفاً ولأن خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون فعلم أنه أمر وفرض ولم يأت شئ ينسخ هذه الآية في كتاب ولا سنة فوجب الحكم بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) فشق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء تخفيف فقال (الآن خفف الله عنكم - إلى قوله - يغلبوا مائتين) فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد، رواه أبو دواد وقال ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر (الثاني) أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة ولا التحرف لقتال فإن قصد أحد هذين أبيح له لأن الله تعالى قال (إلا متحرفا

لقتال أو متحيزا إلى فئة) ومعنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما أو من نزول إلى علو أو من معطشة إلى موضع

ص: 386

ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصة أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوماً في خطبته إذا قال يا سارية بن زنيم الجبل ظلم الذئب من استرعاه الغنم فأنكرها الناس، فقال علي رضي الله عنه دعوه فلما نزل سألوه عما قال لهم فلم يعترف به وكان بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم الجمعة فظفر عليهم فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم وانتصروا عليهم وأما التحيز إلى فئة فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوه وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها ونحوه ذكر أصحاب الشافعي لأن ابن عمر رضي الله عنهما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني فئة لكم) كانوا بمكان بعيد عنه وقال عمر رضي الله عنه أنا فئة كل مسلم وكانوا بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد، وقال عمر رضي الله عنه رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز إلي لكنت له فئة.

وإذا خشي الأسر فالأولى أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز بالثواب والدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة، فإن استأسر جاز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت

ص: 387

إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد فقالوا لهم انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحداً فقال عاصم أما أنا فلا أنزل في ذمة مشرك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما مع سبعة معه ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب

وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم (فصل) فإن كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب عن ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة ويجوز لهم الانصراف لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته وهو كونهم أقل من نصف عدوهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وإن كان غلب عل ظنهم الهلاك فيه، ويحتمل أن يلزمهم الثبات إذا غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة فإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والسلامة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضاً في الشهادة مع جواز الغلبة أيضاً وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونوا أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضاً فقد قال تعالى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) الآية ولذلك صبر عاصم وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة

ص: 388

[فصل] فان جاء العدو بلداً فلأهله التحصن منهم وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فراراً إنما التولي بعد اللقاء فإن لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز إلى الحصن لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة، وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة وإن تحيزو إلى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف للقتال وإن ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه أولهم في التحيز إليه فائدة جاز (فصل) وإن فروا قبل إحراز الغنيمة فلا شئ لهم إذا أحرزها غيرهم لأن ملكها لمن أحرزها وإن ادعوا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شئ لهم أيضاً لذلك وإن فروا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط سهمهم منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم (مسألة)(فإن ألقي في مركبهم نار فاشتعلت فيه فالذي يغلب على ظنهم السلامة فيه من المقام أو إلقاء أنفسهم في الماء فالأولى لهم فعله وإن استوى عندهم الأمران فقال أحمد رحمه الله كيف شاء صنع)

قال الأوزاعي هما موتتان فاختر أيسرهما وعنه يلزمهم المقام ذكرها أبو الخطاب لأنهم إذا رموا أنفسهم بالماء كان موتهم بفعلهم وإذا أقاموا فموتهم بفعل غيرهم (فصل) قال رضي الله عنه (ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وقطع المياه عنهم وهدم حصونهم) معنى تبييت الكفار كبسهم ليلا وقتلهم وهم غارون قال أحمد لا بأس بالبيات وهل غزو

ص: 389

الروم إلا بالبيات؟ قال ولا نعلم أحداً كره بيات العدو وذلك لما روى الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال (هم منهم) متفق عليه وقد قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم رواه أبو داود، فإن قيل فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذرية، قلنا هذا محمول على التعمد قتلهم (لقتلهم) قال أحمد أما أن يتعمد قتلهم فلا قال وحديث الصعب بعد نهيه وعن قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق وعلى أن الجمع بينهما يحمل النهي على التعمد والإباحة على ما عداه ويجوز رميهم بالمنجنيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وظاهر كلامه ههنا أنه يجوز مع الحاجة وعدمها للحديث وممن رأى ذلك الثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقد روي عن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على الإسكندرية ولأن القتال به معتاد أشبه الرمي بالسهام وبجوز رميهم بالنار وهدم حصونهم وقطع المياه عنهم وإن تضمن ذلك إتلاف النساء والصبيان لحديث الصعب بن جثامة في البيات وهذا في معناه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق وهو يهدم الحصون عادة (مسألة)(ولا يجوز إحراق نحل ولا تغريقه) هذا قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي والليث والشافعي وقيل لمالك أنحرق بيوت نحلهم؟ فقال

ص: 390

ما النحل فلا أدري ما هو؟ ومقتضى مذهب أبي حنيفة إباحته لأن فيه غيظا لهم واضعافا فأشبه قتل بهائمهم حال قتالهم

ولنا ماروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه اميرا على على القتال بالشام ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قدم عليه ابن اخيه من غزاة غزاها فقال لعلك حرقت حرثا؟ قال نعم قال لعلك حرقت نحلا؟ قال نعم قال لعلك قتلت صبيا قال نعم قال ليكن غزوك كفافا أخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النحلة ولأنه إفساد فيدخل في عموم قوله تعالى (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب الفساد) ولأنه حيوان ذو روح فلم يجز قتله ليغيظهم كنسائهم وصبيانهم فأما أخذ العسل وأكله فمباح لأنه من الطعام المباح، وهل يجوز أخذ الشهد كله؟ فيه روايتان [إحداهما] لا يجوز لأن فيه هلاك النحل [والثانية] يجوز لأن هلاكه إنما يحصل ضمنا غير مقصود فأشبه قتل النساء في البيات (مسألة)(ولا يجوز عقر دابة ولا ذبح شاة إلا لأكل يحتاج إليه) أما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا أخذهم لها أو

ص: 391

لم نخف وبهذا قال الليث والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومالك يجوز لأن فيه غيظا لهم واضعافا لقوتهم فأشبه قتلها حال قتالهم ولنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد حين بعثه أميراً: يا يزيد لا تقتل صبياً ولا امرأة ولا هرماً ولا تخربن عامراً ولا تعقرن شجراً مثمراً ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شئ من الدواب صبراً، ولانه حيوان ذوحرمة فأشبه قتل النساء والصبيان، فأما حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين كيف أمكن بخلاف حالهم إذا قدر عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة وإذا لم يتعمد قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم، وقتل بهائمهم حال القتال يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم وقد روي أن حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم أحد فرمت به فخلصه ابن شعوب وليس في هذا خلاف

(فصل) فأما عقرها للآكل فإن كانت الحاجة داعية إليه ولابد منه فمباح لأن الحاجة تبيح مال المعصوم فمال الكفار أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية وكان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام وسائر الطير والصيود فحكمه حكم الطعام في قول الجميع لأنه لا يراد لغير الأكل وتقل قيمته فأشبه الطعام، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم يجز ذبحه للأكل في قولهم جميعاً وإن كان غير

ص: 392

ذلك كالبقر والغنم لم يبح وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي ظاهر كلام أحمد إباحته لأن هذا الحيوان في باب الأكل مثل الطعام فكان مثله في إباحته كالطير وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس له الانتفاع بجلده لأنه إنما أبيح له ما يأكله دون غيره قال عبد الرحمن بن معاذ كلوا لحم الشاة وردوا إهابها إلى المغنم.

ووجه الاول ماروى سعيد عن أبي الاحوص عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال أصبنا غنما للعدو فانتهبناها فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور وهي تغلي فأمر بها فاكفئت ثم قال لهم (إن النهبة لا تحل) ولأن هذه الحيوانات تكثر قيمتها وتشح بها أنفس الغانمين ويمكن حملها إلى دار الإسلام بخلاف الطير والطعام لكن إن أذن الأمير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنماً نادى منادي الإمام ألا من أراد أن يتناول شيئاً من هذه الغنم فليتناول إنا لا نستطيع سياقتها رواه سعيد وكذلك قسمها لما روى معاذ رضي الله عنه قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه أبو داود وروى سعيد بإسناده أن رجلاً نحر جزوراً بأرض الروم فلما بردت قال أيها الناس خذوا من لحم هذا الجزور فقد أذنا لكم فقال مكحول يا غساني ألا تأتينا من لحم هذا الجزور فقال يا أبا عبد الله ألا ترى ما عليها من النهي؟ قال محكول لا نهي في المأذون فيه

ص: 393

قال شيخنا ولم يفرق أصحابنا بين جميع البهائم في هذ المسألة، ويقوى عندي أن ما عجز المسلمون عن سياقته وأخذه إن كان مما يستعين به الكفار كالخيل جاز عقره وإتلافه لأنه مما يحرم إيصاله إلى الكفار بالبيع فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم، وإن كان مما يصلح للأكل فللمسلمين ذبحه والأكل منه مع

الحاجة وعدمها، وما عدا هذين القسمين لا يجوز إتلافه لأنه مجرد إفساد وإتلاف وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكله (مسألة)(وفي حرق شجرهم، وزرعهم وقطعه روايتان (إحداهما) يجوز إن لم يضر بالمسلمين (والثانية) لا يجوز إلا أن لا يقدر عليهم إلا به أو يكونوا يفعلونه بنا وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم وجملة ذلك أن الزرع والشجر ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) ما تدعو الحاجة إلى إتلافه كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم أو يستترون به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة الطريق أو تمكن من قتال أو سد شئ أو اصلاح طريق أو ستارة منجنيق أو غيره أو لا يقدر عليهم إلا به أو يكونوا يفعلون ذلك بنا فيفعل ذلك بهم لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه (الثاني) ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون

ص: 394

من ثمرة أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه من الاضرار بالمسلمين (الثالث) ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين فلا نفع سوى غيظ الكفار والاضرار بهم ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لحديث أبي بكر رضي الله عنه ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولأن فيه إتلافاً محضاً فلم يجز كعقر الحيوان، وبه قال الأوزاعي والليث وأبو ثور (والرواية الثانية) يجوز به قال مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، قال إسحاق التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو ولقول الله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين] وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطعه وهي البويرة فأنزل الله تعالى (ما قطعتهم من لينة) ولها يقول حسان وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير متفق عليه.

وعن الزهري قال: فحدثني عروة قال فحدثني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه

فقال (أغر على أبناء صباحا وحرق) رواه أبو داود، قيل لأبي مسهر ابناء؟ قال نحن أعلم هي ببنا فلسطين والصحيح أنها ابناء كما جاءت الرواية وهي قريبة من أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي قتل فيها أبوه، فأما ببنا فهي من أرض فلسطين ولم يكن أسامة ليصل إليها ولا أمره النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 395

بالإغارة عليها لبعدها والخطر بالمصير إليها لتوسطها في البلاد وبعدها من أطراف الشام، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ الرواية وفساد المعنى؟ (فصل) ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار وفعله خالد بن الوليد بأمره.

فأما اليوم فلا نعلم فيه خلافاً بين الناس، وقد روى حمزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية قال فخرجت فيها فقال إن أخذتم فلانا فاحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال (إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود وسعيد، وروي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث حمزة فأما رميهم بالنار قبل أخذهم فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز لأنهم في معنى المقدور عليه وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم منهم الاوزاعي والثوري والشافعي وقد روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان أن جنادة بن ابي أمية الازدي وعبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، قال عبد الله بن قيس ولم يزل أمر المسلمين على ذلك

ص: 396

وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم لغرقهم وإن قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصداً، وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك (فصل) قال الأوزاعي: إذا كان العدو في المطمورة فعلمت أنك تقدر عليهم بغير النار فأحب إلي أن يكف عن النار وإن لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأساً وإن كان معهم ذرية قد كان

المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل الشام أعلم بهذا (مسألة)(وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي ولا امرة ولا راهب ولا شيخ فان ولا أعمى، لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا) إذا ظفر بالكفار لم يجز قتل صبي لم يبلع بغير خلاف لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، متفق عليه ولأن الصبي يصير رقيقاً بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفرداً صار مسلماً فإتلافه إتلاف من يمكن جعله مسلماً، والبلوغ يحصل بثلاثة أشياء الاحتلام وهو خروج المني من ذكر الرجل أو قبل المرأة في يقظة أو منام ولا خلاف فيه وقد دل عليه قوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم ديناراً) وقال (لا يتم بعد احتلام) رواهما أبو داود (الثاني) نبات الشعر الخشن حول القبل وهو علامة على البلوغ لما روى عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم

ص: 397

ينبت رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن كثير بن السائب قال حدثني أبناء قريظة أنهم عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم فمن كان منهم محتلماً أو نبتت عانته قتل، ومن لا ترك اخرجه الأثرم وحكي عن الشافعي أن هذا بلوغ في حق الكفار لأنه لا يمكن الرجوع إلى قولهم في الإحتلام وعدد السنين وليس بعلامة عليه في المسلمين لإمكان ذلك فيهم ولنا قول أبي بصرة وعقبة بن عامر رضي الله عنهما حين اختلف في بلوغ قرع المهري: انظروا فإن كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إليه بعض القوم فإذا هو قد أنبت فقسموا له ولم يظهر خلافه فكان أجماعاً، ولأن ما كان علما على البلوغ في حق الكفار كان علما عليه في حق المسلم كالاحتلام والسن وقولهم أنه يتعذر في حق الكافر معرفة الاحتلام والسن.

قلنا لا يتعذر معرفة السن في الذمي الناشئ بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا يوجب جعل ما ليس بعلامة علامة بغير الإثبات (الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي

صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة قال نافع فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال هذا فصل ما بين الرجل وبين الغلمان متفق عليه وهذه العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بالحمل والحيض فمن لم يوجد فيه علامة منهن فهو صبي يحرم قتله

ص: 398

(فصل) ولا تقتل امرأة ولاشيخ فان وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق ومجاهد، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ولا تعتدوا) يقول تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنه يدخل في عموم قوله تعالى (اقتلوا المشركين) ولأنه كافر لا نفع في حياته فيقتل كالشاب ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة) رواه أبو داود، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه أوصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتل امرأة ولا صبياً ولاهرما، وعن عمر رضي الله عنه أنه أوصى سلمة بن قيس فقال لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا شيخاً هرماً رواهما سعيد ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة، وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلة في المرأة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟) والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج عن عمومها المرأة والشيخ الهرم في معناها وحديثهم أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال ومعونة عليه برأي أو تدبير جمعاً بين الأحاديث، ولأن حديثنا خاص في الشيخ الهرم، وحديثم عام في الشيوخ والخاص يقدم على العام.

وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها، ولا يقتل خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلاً

ص: 399

(فصل) ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ وحجتهم فيه ولنا أن الزمن والأعمى ليسا من أهل القتال أشبها المرأة ولأن في حديث أبي بكر الصديق رضي الله

عنه وستمرون على أقوام في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم يحتى يميتهم الله على ضلالتهم ولانهم لا يقاتلوه تديناً فأشبهوا من لا يقدر على القتال (فصل) ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أدركوا خالداً فمروه أن لا يقتل ذرية ولاعسيفا وهم العبيد) ولانهم يصيرون رقيقاً للمسلمين بنفس السبي أشبهوا النساء والصبيان (فصل) ومن قاتل مما ذكرنا جميعهم جاز قتله.

لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال (من قتل هذه؟) قال رجل أنا يارسول الله قال (ولم؟) قال نازعتني قائم سيفي قال فسكت ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟) وفيه دليل على أنه إنما نهى عن قتل المرأة اذالم تقاتل وكذلك من كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم

ص: 400

يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب وربما كان أبلغ من القتال كما قال المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العلياء كل مكان ولربما طعن الفتى أقرانه * بالرأي قبل تطاعن الفرسان وقد جاء عن معاوية رضي الله عنه انه قال لمروان والأسود أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك، فأما المريض فيقتل إذا كان ممن لو كان صحيحاً قاتل لأنه كالاجهاز على الجريح فان كان مأيوساً من برئة فهو بمنزلة الزمن فلا يقتل لأنه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها (فصل) فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يقتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال

(اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب) وقال الأوزاعي لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة وقال الشافعي يقتل إلا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشريكن ولنا قول عمر ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون أشبهوا الشيوخ والرهبان

ص: 401

(مسألة)(فإن تترسوا بهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة) إذا تترسوا في الحرب بالنساء والصبيان ومن لا يجوز قتله جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم وسواء كانت الحرب ملتحمة أو لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب (فصل) ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصداً لما روى سعيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقالت (ها دونكم فارموا) فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذاك منها ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لأنه من ضرورته وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال لأنها في معنى المقاتل وكذلك الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منعنا قتله منهم (مسألة)(وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار) إذا تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وإن دعت الحاجة إلى

ص: 402

رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم للضرورة ويقصد الكفار فإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الاوزاعي والليث لا يجوز رميهم وهو ظاهر كلامه في هذا الكتاب لقول

الله تعالى (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) الآية قال الليث ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق وقال القاضي يجوز رميهم حال قيام الحرب لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا إن قتل مسلماً فعليه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان ووجههما يذكر في موضعه وقال أبو حنيفة لا دية ولا كفارة فيه لأنه رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم يوجب شيئاً كرمي من أبيح رميه ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه قتل معصوماً بالإيمان وهو من أهل الضمان أشبه مالو لم يتترس به (مسألة)(ومن أسر أسيراً لم يجز له قتله حتى يأتي به الإمام إلا أن يمتنع من السير معه ولا يمكنه إكراهة) لا يجوز لمن أسر أسيرا قتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيراً فالخيرة فيه إلى الإمام وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فإنه قال لا يقتل أسير غيره إلا أن يشاء الوالي

ص: 403

فمفهومة أن له قتل أسيره بغير إذن الوالي لأن له أن يقتله ابتداء فكان له قتله دواماً كما لو هرب منه أو قاتله، فإن امتنع الأسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب وغيره فإن لم يمكن إكراهة فله قتله وكذلك إن خافه أو خاف هربه وإن امتنع من الإنقياد معه بجرح أو مرض فله قتله وتوقف أحمد عن قتله والصحيح الأول كالتذفيف على الجريح ولأن تركه حياً ضرر على المسلمين وتقوية للكفار فتعيين القتل كحالة الابتداء وكجريحهم إذا لم يأسره.

فأما أسير غيره فلا يجوز قتله إلا أن يصير إلى حال يجوز قتله لمن أسره وقد روى يحيى بن أبي بكير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يتعاطين أحدكم أسير صاحبه إذا أخذه فيقتله) رواه سعيد فإن قتل أسيره أو أسير غيره قبل ذلك أساء ولا ضمان عليه وبه قال الشافعي وقال الأوزاعي إن قتله قبل أن يأتي به الإمام لم يضمنه وإن قتله بعد ذلك ضمنه لأنه أتلف من الغنيمة ماله قيمة فضمنه بقيمته كما لو قتل امرأة ولنا أن عبد الرحمن بن عوف أسر أمية بن خلف وابنه علياً يوم بدر فرآهما بلال فاستصرخ

الأنصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئاً ولأنه أتلف ما ليس بمال فلم يغرمه كما لو أتلفه قبل أن يأتي به الإمام ولأنه أتلف ما لا قيمة له قبل أن يأتي به الإمام فلم يغرمه كما لو اتلف كلباً فأما إن قتل امرأة أو صبياً ضمنه لانه صار رقيقاً بنفس السبي

ص: 404

(فصل) ومن أسر أسيراً فادعى أنه كان مسلماً لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي أمراً الظاهر خلافه يتعلق به اسقاط حق تعلق برقبته، فإن شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي لا يقبل إلا شهادة عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال ولنا ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر (لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدي أو يضرب عنقه) فقال عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إلا سهيل بن بيضاء) فقبل شهادة عبد الله وحده (مسألة)(ويخير الأمير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء بمسلم أو بمال وعنه لا يجوز بمال إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان ولايجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين) وجملة ذلك أن من أسر من دار الحرب على ثلاثة أضرب (أحدها) النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم بغير خلاف ويصيرون رقيقاً للمسلمين بنفس السبي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان متفق عليه وكان عليه الصلاة والسلام يسترقهم إذا سباهم (الثاني) الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم (الثالث) الرجال ممن لايقر بالجزية فيخير الإمام فيهم بين القتل والمن والفداء ولايجوز

ص: 405

استرقاقهم في إحدى الروايتين اختارها الخرقي وهو قول الشافعي [والثانية] يجوز استرقاقهم لأنه كافر أصلي أشبه أهل الكتاب ويحتمل أن يكون جواز استرقاقهم مبنياً على أخذ الجزية منهم فإن قلنا بجوازها جاز استرقاقهم وإلا فلا وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في

أخذ الجزية منهم ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يجز استرقاقه كالمرتد، والدليل على أنه لا يقر بالجزية يذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى (فصل) وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الاوزاعي والشافعي وأبو ثور وعن مالك كمذهبنا وعنه لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الأسرى وقالوا لو من عليه أو فاداه كما صنع بأسارى بدر ولأن الله تعالى قال (فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) فخيره بعد الاسربين هذين لا غير وقال أصحاب الرأي إن شاء قتلهم وإن شاء استرقهم لاغير ولافداء لأن الله تعالى قال (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) بعد قوله (فإما منا بعد وإما فداء) وكان عمر بن عبد العزيز وعياض بن عقبة يقتلان الأسارى ولنا على جواز المن والفداء الآية المذكورة وأن النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثال وأبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر (لو كان مطعم بن عدي حياً ثم سألني هؤلاء

ص: 406

النتنى لا طلقتهم له) وفادى أسرى بدر وفادى يوم أحد رجلاً برجلين وصاحب العضباء برجلين وأما القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا وقتل أبا عزة يوم أحد وهذه قصص اشتهرت وعلمت وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرات وهو دليل على جوازها، ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى فإن فيهم من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى اسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم أو الدفع عنهم فالمن عليه أصلح ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان والإمام أعلم بالمصلحة ففوض ذلك إليه.

إذا ثبت ذلك فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة في خصلة لم يجز اختيار غيرها لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم فلم يجز له ترك

ما فيه الحظ كولي اليتيم ومتى حصل عنده تردد في هذه الخصال فالقتل أولى قال مجاهد في اميرين (أحدهما) يقتل الأسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك وقال إسحاق الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفاً يطمع به في الكثير فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف لقول الله تعالى [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضرب أعناق الذين قتلهم ولا يجوز التمثيل به لما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر رجلاً على جيش أو سرية قال (اغزوا

ص: 407

بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تعذبوا ولا تمثلوا) وإن اختار الفداء جاز أن يفدي بهم أسارى المسلمين وجاز بالمال لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين وفيه رواية أخرى أنه لا يجوز بمال كمالا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار في إحدى الروايتين ولأنه إذا لم يجز أن نبيعهم السلاح لما فيه من تقويتهم على المسلمين فبيع أنفسهم أولى ومنع أحمد رحمه الله من فداء النساء بالمال لأن في بقائهن تعريضاً لهن للإسلام لبقائهن عند المسلمين وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الاكوع ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق اسلاما فاحتمل تفويت غرضية الإسلام من أجله ولا يلزم من ذلك احتمال فدائها لتحصيل المال فأما الصبيان فقال أحمد لا يفادى بهم لأن الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى المشركين وكذلك المرأة إذا أسلمت لا يجوز ردها إلى الكفار لقول الله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وإن كان الصبي غير محكوم باسلامه كمن سبي مع أبويه فلا يجوز فداؤه بمال كالمرأة ويجوز فداؤه بمسلم في أحد الوجهين (فصل) ومن استرق منهم أو بلغ فودي بمال وكان الرقيق والمال للغانمين حكمه حكم الغنيمة.

لا نعلم في هذا خلافاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأنه مال غنمه المسلمون أشبه الخيل والسلاح، فإن قيل فالأسير لم يكن للغانمين فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله؟

ص: 408

قلنا إنما يفعل الإمام في الأسير ما يرى فيه المصلحة لأنه لم يصر مالا فإذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لأنهم

أسروه وقهروه وهذا غير ممتنع الا ترى أن من عليه دين إذا قتل قتلاً يوجب القصاص كان لورثته الخيار بين القتل والعفو إلى الدية فإذا اختاروا الدية تعلق حق الغرماء بها (فصل) فإن سأل الأسارى من أهل الكتاب تخليتهم على إعطاء الجزية لم يجز ذلك في صبيانهم ونسائهم لأنهم صاروا غنيمة بالسبي ويجوز في الرجال ولا يزول التخيير الثابت فيهم قال أصحاب الشافعي يحرم قتلهم كما لو أسلموا ولنا أنه بدل تجوز الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان (فصل) وإذا أسر العبد صار رقيقاً للمسلمين لأنه مال لهم استولي عليه فكان للغانمين كالبهيمة فإن رأى الإمام قتله لضرر في إبقائه جاز لأن مثل هذا لا قيمة له فهو كالمرتد، وأما من يحرم قتلهم غير النساء والصبيان كالشيخ والزمن والأعمى والراهب فلا يحل سبيهم لأن قتلهم حرام ولا نفع في اقتنائه (فصل) ذكر أبو بكر إن الكافر إذا كان مولى مسلم لم يجز استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت ولاء المسلم المعصوم، وعلى قوله لا يسترق ولده أيضاً إذا كان عليه ولاء لذلك، وإن كان معتقه ذمياً

ص: 409

جاز استرقاقه لأن سيده يجوز استرقاقه فاسترقاق مولاه أولى وهذا مذهب الشافعي، وظاهر كلام الخرقي جواز استرقاقه لأنه لا يجوز قتله وهو من أهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره، ولأن سبب جواز الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في استرقاقه ولأنه إن كان السبي امرأة أو صبياً لم يجز فيه سوى الاسترقاق فيتعين ذلك فيه، وما ذكروه يبطل بالقتل فإنه يفوت الولاء وهو جائز فيه، وكذلك يجوز استرقاق من عليه ولاء الذمي وقوله إن سيده الذمي يجوز استرقاقه غير صحيح فإن الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كاموالنا (مسألة)(فإن اسلموا رقوا في الحال) يعني إذا أسلم الاسير صار رقيقاً في الحال وزال التخيير فيه وصار حكمه حكم النساء وبه قال

الشافعي في أحد قوليه لأنه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة وفيه قول آخر إنه يحرم قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث) ويتخير بين الخصال الثلاث الباقية المن والفداء والاسترقاق وهو القول الثاني للشافعي لأنه إذا جاز المن عليه في حال كفره ففي حال إسلامه أولى لأن الإسلام حسنه يقتضي إكرامه والإنعام عليه لا منع ذلك في حقه وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى، ولا يجوز رده إلى الكفار إلا أن يكون له من يمنعه من المشركين

ص: 410

من عشيرة أو نحوها، وإنما جاز فداؤه لأنه يتخلص به من الرق، فأما إن أسلم قبل أسره حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك لأنه لم يحصل في أيدي الغانمين (مسألة) (ومن سبي من أطفالهم منفرداً أو مع أحد أبويه فهو مسلم.

ومن سبي مع أبويه فهو على دينهما) المسبي من أطفال المشركين ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يسبى منفرداً عن أبويه فيصير مسلما بالإجماع لأن الدين إنما يثبت له تبعاً، وقد انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما وإخراجه عن دارهما ومصيره إلى دار الإسلام تبعاً لسابيه المسلم فكان تابعاً له في دينه (الثاني) أن يسبى مع أحد أبويه فيحكم باسلامه أيضاً وبه قال الأوزاعي وقال أبو الخطاب يتبع أباه، وقال القاضي فيه روايتان أشهرهما أنه يحكم بإسلامه [والثانية يتبع أباه، وقال أبو حنيفة والشافعي يكون تابعاً لأبيه في الكفر لأنه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم بإسلامه كما لو سبي معهما وقال مالك إن سبي مع أبيه تبعه لأن الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وإن سبي مع أمه فهو مسلم لأنه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين

ص: 411

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) رواه

مالك فمفهومه انه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما ولأنه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع أحد أبويه قياسا على مالو أسلم أحد الأبوين، تحقيقه أن كل شخص غلب حكم اسلامه منفرداً غلب مع أحد الأبوين كالمسلم من الأبوين (الثالث) أن يسبى مع أحد أبويه فيكون على دينهما وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال الأوزاعي يكون مسلماً لأن السابي أحق به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع ميراثهما منه وميراثه منهما فكان أولى به منهما ولنا قوله عليه الصلاة والسلام (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) وهما معه وملك السابي له لا يمنع اتباعه لابويه بدليل مالو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين (مسألة)(ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها) إذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يسبى الزوجان معاً فلا ينفسخ نكاحهما وبهذا قال أبو حنيفة والاوزاعي ويحتمل أن ينفسخ وبه قال مالك والثوري والليث والشافعي

ص: 412

وأبو ثور لقول الله تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) والمحصنات المتزوجات [إلا ما ملكت أيمانكم] بالسبي قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في سبي أوطاس، وقال ابن عباس رضي الله عنهما إلا ذوات الأزواج من المسبيات ولأنه استولى على محل حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها ولنا أن الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق، والآية نزلت في سبايا أو طاوس وكانوا أخذوا النساء دون أزواجهن، وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في دار الإسلام فيخص منه محل النزاع بالقياس عليه (الحال الثاني) أن تسبى المرأة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه وقد روي أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول

الله صلى الله عليه وسلم فنزلت [والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم] رواه الترمذي وقال حديث حسن إلا أن أبا حنيفة قال إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح، ولنا أن السبي المقتضي للفسخ وجد فانفسخ النكاح كما لو سبيت قبله بشهر (الحال الثالث) سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لأنه لانص فيه ولا القياس يقتضيه وقد سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضاً فلم يحكم عليهم بفسخ

ص: 413

أنكحتهم، ولأننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح فيما إذا سبيا معاً مع الاستيلاء على محل حقه فلأن لا ينفسخ نكاحه مع عدم الاستيلاء عليه أولى وقال أبو الخطاب إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق وبه قال أبو حنيفة لأن الزوجين افترقت بهما الدار وطرأ الملك على أحدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها، وقال الشافعي إن سبي واسترق انفسخ نكاحه وإن من عليه أو فودي لم ينفسخ، ولنا ما ذكرناه وأن السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزل عن زوجته كما لو لم يزل عن أمته (فصل) ولم يفرق أصحابنا في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان وينبغي أن يفرق بينهما فإنهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة منفرداً بها ولا زوج معها فتحل له لقوله تعالى (إلا ما ملكت أيمانكم) وذكر الأوزاعي أن الزوجين إذا سبيا فهما على النكاح في المقاسم فإن اشتراهما رجل فله أن يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح ولنا أن تجدد الملك في الزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين، إذا ثبت هذا فإنه لا يحرم التفريق بينهما في القسمة والبيع لأن الشرع لم يرد بذلك

ص: 414

(مسألة)(وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين؟ على روايتين) لا يجوز بيع شئ من رقيق المسلمين لكافر سواء كان مسلماً أو كافراً وهذا قول الحسن، وقال

أحمد ليس لأهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون قال وكتب عمر بن الخطاب ينهى عنه أمراء الأمصار هكذا حكى أهل الشام، وعنه أنه يجوز ذلك وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لا يمنع من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم، ولأنه رد الكافر إلى الكفار فجاز كالمفاداة بهم قبل الاسترقاق والأول أولى لأنه قول عمر رضي الله عنه ولم ينكره منكر فكان إجماعاً ولأن فيه تفويتاً للاسلام الذي يظهر وجوده فإنه إذا بقي رقيقاً للمسلمين الظاهر أنه يسلم فيفوت ذلك ببيعه لكافر بخلاف ما إذا كان رقيقاً لكافر في ابتدائه فإنه لم تثبت له هذه الغرضية (مسألة)(ولا فرق في البيع بين ذي رحم محرم إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين) أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز منهم مالك والاوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم لما روى أبو أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا توله والدة عن ولدها) قال أحمد لا يفرق بين الأم وولدها وإن

ص: 415

رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من الأضرار بالولد ولأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها فتندم، ولا يجوز التفريق بين الأب وولده هذا قول أصحاب الرأي والشافعي وقال مالك والليث يجوز وبه قال بعض الشافعية لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الأم أشفق منه ولنا أنه أحد الأبوين أشبه الأم ولا نسلم أنه ليس من أهل الحضانة، ولا فرق بين أن يكون الولد بالغاً أو طفلاً في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد إلا بإذنها (والثانية) يختص تحريم التفريق بالصغير وهو قول الأكثرين منهم مالك والاوزاعي والليث وأبو ثور وهو قول الشافعي لأن سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما ولأن الأحرار يتفرقون بعد الكبر فإن المرأة تزوج ابنتها وتفارقها فالعبيد أولى، واختلفوا في حد

الكبر الذي يجوز التفريق فعن أحمد رحمه الله حده بلوغ الولد وهو قول سعيد بن عبد العزيز وأصحاب الرأي وقول للشافعي، وقال مالك إذا أثغر وقال الأوزاعي والليث إذا استغنى عن أمه ونفع نفسه وللشافعي قول إذا صار ابن سبع أو ثمان، وقال أبو ثور إذا كان يلبس وحده ويتوضأ وحده لأنه

ص: 416

إذا كان كذلك استغنى عن أمه ولذلك خير الغلام بين أمه وأبيه إذا كان كذلك ولأنه جاز التفريق بينهما بتخييره فجاز ببيعه وقسمته ولنا ما روى عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يفرق بين الوالدة وولدها) فقيل إلى متى؟ قال (حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية) ولأن من دون البلوغ يولى عليه أشبه الطفل (فصل) فإن فرق بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح البيع لأن النهي لمعنى في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء ولنا ماروى أبو داود في سننه عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين الأم وولدها فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع والأصل ممنوع وما ذكروه لا يصح فإنه نهي عنه لما يلحق المبيع من الضرر فهو لمعنى فيه (فصل) والجد والجدة في تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالابوين لأن الجد أب والجدة أم ولذلك يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم لأن لهم ولادة ومحرميه فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض (فصل) ويحرم التفريق بين الأخوة في القسمة والبيع أيضاً كما يحرم بين الولد ووالده وبهذا

ص: 417

قال أصحاب الرأي وقال مالك والليث والشافعي وابن المنذر لا يحرم لأنها قرابة لا تمنع قبول شهادته فلم يحرم التفريق كابن العم ولنا ما روى عن علي رضي الله عنه قال وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما فعل غلامك؟) فأخبرته فقال (رده رده) رواه الترمذي

وقال حديث حسن غريب، وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع، ولأنه ذو رحم محرم فحرم التفريق بينهما كالوالد والولد وانما يحرم التفريق بينهما في حال الصغر وما بعده فيه الروايتان كالأصل والأولى الجواز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت.

(فصل) فأما سائر الأقارب فظاهر كلام الخرقي جواز التفريق بينهم وقال غيره من أصحابنا لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة مع ابن أختها لما ذكرنا من القياس والأولى جواز التفريق لأن الأصل حل البيع والتفريق ولا يصح القياس على الإخوة لأنهم أقرب

ص: 418

ولذلك يحجبون غيرهم عن الميراث وهم أقرب فيبقى من عداهم على الأصل، فأما من ليس بينهما رحم محرم فلا يمنع من التفريق بينهما عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع قياسهم على المنصوص وكذلك يجوز التفريق بين الأم من الرضاع وولدها والأخت وأخيها لما ذكرنا ولأن قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على الآخر ولا نفقة ولا ميراثا فاشبهت الصداقة (مسألة)(وإذا حصر الإمام حصناً لزمه مصابرته إذا رأى المصلحة فيها) إذا حصر الإمام حصناً لزمه مصابرته ولا ينصرف عنه إلا بخصلة من خصال خمس (أحدها) أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها)(الثانية) أن يبذلوا مالا على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا يؤخذ منهم كل عام، فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزم قبولها منهم وحرم قتالهم لقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فان بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله له قبله ولا يلزمه إذا لم ير المصلحة (الثالثة) أن يفتحه (الرابعة) أن يرى المصلحة في الانصراف إما لضرر في الإقامة وإما لليأس منه أو لغير ذلك فينصرف عنهم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر

أهل الطائف فلم ينل منهم شيئاً فقال (إنا قافلون إن شاء الله غداً) فقال المسلمون أنرجع ولم نفتحه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغدوا على القتال) فغدوا عليه فأصابهم الجراح، فقال لهم

ص: 419

رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا قافلون غداً) فأعجبهم، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه (الخامسة) أن ينزلوا على حكم حاكم وسنذكره في موضعه إن شاء الله (مسألة)(ومن أسلم منهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار) متى أسلم أهل الحصن أو بعضهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار كما ذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور (فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ويحرز أولاده الصغار من السبي لأنهم تبع له ولذلك يحكم بإسلامهم تبعاً لاسلامه وكذلك كل من أسلم في دار الحرب وإن دخل دار الإسلام فأسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي وقال أبو حنيفة ما كان في يده من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له وما كان من أولاده وأمواله بدار الحرب جاز سبيهم لأنهم لم يثبت إسلامهم بإسلامه لاختلاف الدارين بينهم ولهذا إذا سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما وتبع سابيه في الإسلام وما كان من أرض أو دار فهو فئ وكذلك زوجته إذا كانت كافرة وما على بطنها فئ ولنا ان اولاده أولاد مسلم فوجب أن يتبعوه في الإسلام كما لو كانوا معه في الدار ولأن ماله مال مسلم ولايجوز اغتنامه كما لو كان في دار الإسلام، وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده وما ذكره أبو حنيفة لا يلزم فانا تجعله تبعاً للسابي لأنا لا نعلم بقاء أبويه فأما أولاده الكبار فلا يعصمهم لأنهم لا يتبعونه ولا يعصم

ص: 420

زوجته لذلك فإن سبيت صارت رقيقة ولم ينفسخ نكاحه برقها ولكن يكون حكمها في النكاح وفسخه حكم مالو لم تسب على ما نذكر في نكاح أهل الشرك فإن كانت حاملاً من زوجها لم يجز استرقاق الحمل وكان حراً مسلماً وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يحكم برقه مع امه لأن ما سرى إليه العتق سرى إليه الرق كسائر أعضائها

ولنا أنه محكوم بحريته وإسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل بخلاف الأعضاء فإنها لا تنفرد عن حكم الأصل (فصل) إذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار أو دخل إليها مسلم فابتاع عقاراً ومالاً فظهر المسلمون على ماله وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يغنم العقار وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم، واحتج بأنها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها كما لو كانت لحربي.

ولنا أنه مال مسلم فأشبه مالو كانت في دار الإسلام (فصل) إذا استأجر المسلم أرضاً من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر لأن المنافع ملك المسلم، فإن قيل فلم أجزتم استرقاق الكفارة الحربية إذا كان قد أسلم زوجها وفي استرقاقها ابطال حق زوجها؟ قلنا يجوز استرقاقها لأنها كافرة ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن زوجة مسلم ولا يبطل نكاحة بل هو باق ولأن منفعة النكاح لا تجري مجرى الأموال بدليل أنها لا تضمن باليد فلا يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الإجارة (فصل) إذا أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج إلينا فهو حر وإن أسر سيده وأولاده وخرج إلينا

ص: 421

فهو حر والمال له والسبي رقيقة، وإن أسلم وأقام بدار الحرب فهو على رقة، وإن أسلمت أم ولد الحربي وخرجت الينا عتقت واستبرأت نفسها وهذا قول أكثر العلماء، قال إبن المنذر وقال به كل من نحفظ عنه من أهل العلم إلا أن أبا حنيفة قال في أم الولد تزوج إن شاءت من غير استبراء وأهل العلم على خلافه لأنها أم ولد عتقت فلم يجز أن تزوج قبل الاستبراء كما لو كانت لذمي، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم وعن أبي سعيد الاعسم قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده بعد لم يرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده رواه سعيد، وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبداً لنا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر ثقيف فأسلم فأبى أن يرده علينا وقال (هو طليق الله ثم طليق رسوله) فلم يرده علينا

(مسألة)(وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه) وقد ذكرنا ذلك (مسألة)(وإن نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان حراً مسلما بالغا عاقلاً من أهل الإجتهاد) إذا نزل أهل الحصن على حكم حاكم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة ورضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك، والكلام فيه في فصلين (أحدهما) في صفة

ص: 422

الحاكم (والثاني) في صفة الحكم، فأما الحاكم فيتعين فيه سبعة أوصاف: الاسلام والحرية والذكورية والعقل والبلوغ والعدالة والاجتهاد كما يشترط في حاكم المسلمين، ولا يشترط البصر لأن عدمه لا يضر في مسئلتنا لان لمقصود (المقصود) رأيه ومعرفته المصلحة في أحد أقسام الحكم وهذا لا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فإنه لا يستغني عن البصر ليعرف المدعي من المدعي عليه والشاهد من المشهود عليه والمقر من المقر له ويعتبر من الفقه ما يتعلق به هذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر له ويجوز ذلك ولا يحتاج أن يكون مجتهداً في جميع الاحكام التي لا تعلق لها بهذا وقد حكم سعد ابن معاذ ولم يثبت أنه كان عالماً بجميع الأحكام، فإن حكم رجلين جاز ويكون الحكم ما اجتمعا عليه وإن جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يصلح وإن نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح، وإن عينوا رجلا يصلح.

فرضيه الإمام جاز لأن بني قريظة عينوا سعد بن معاذ فرضيه النبي صلى الله عليه وسلم واجاز حكمه وتدل (لقد حكمت بحكم الله) وإن مات من انفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام مقامه وإن لم يتفقوا وطلبوا حكما لا يصلح ردهم إلى مأمنهم وكانوا على الحصار حتى يتفقوا وكذلك إن رضوا باثنين فمات أحدهما فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إذا رضوا بتحكيم من لا تجتمع الشرائط فيه ووافقهم الامام عليه ثم بان أنه لا يصلح لم يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا

ص: 423

(مسألة)(ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل والسبي والفداء فإن حكم بالمن لزم قبوله في أحد الوجهين)

إذا حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم في قريظة بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة) وإن حكم بالفداء جاز لأن الإمام يخير في الأسرى بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فكذلك الحاكم، وإن حكم عليهم باعطاء الجزية لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك لا يملك الإمام إجبار الأسير على إعطاء الجزية، وإن حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية فقال القاضي يلزم حكمه وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه فكان له المن كالامام في الاسرى واختار أبو الخطاب أن حكمه لا يلزم لأن عليه أن يحكم بما فيه الحظ ولا حظ في المن، وإن حكم بالمن على الذرية فينبغي أن لا يجوز لأن الامام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ويحتمل الجواز لأن هؤلاء لا يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فإنه يصير رقيقاً بنفس السبي (مسألة)(وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا عصموا دماءهم وفي استرقاقهم وجهان) إذا حكم عليهم بالقتل والسبي جاز للإمام المن على بعضهم لأن ثابت بن قيس سأل في الزبير ابن باطا من قريظة وماله وأولاده رسول الله صلى الله عليه فأجابه، ويخالف مال الغنيمة إذا حازه الإمام لأن ملكهم قد استقر عليه ومتى أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم لانهم

ص: 424

فلم يجز استرقاقهم بخلاف الأسير، وإن اسلموا بعد الحكم عليهم بالقتل سقط لأن من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز استرقاقهم لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب ويحتمل أن يجوز كما لو أسلموا بعد الأسر ويكون المال على ما حكم فيه وإن حكم بأن المال للمسلمين كان غنمية لأنهم أخذوه بالقهر والحصر (باب ما يلزم الإمام والجيش)(مسألة)(يلزم الإمام عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال فما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول) يستحب للإمام أو الأمير إذا أراد الغزو أن يعرض الجيش ويتعاهد الخيل والرجال فلا يدع فرساً حطماً وهو الكسير ولا قحماً وهو الكبير ولا ضرعاً وهو الصغير ولا هزيلاً يدخل معه أرض

العدو لئلا ينقطع فيها وربما كان سببا للهزيمة (مسألة)(ويمنع المخذل والمرجف) والمخذل هو الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه والقتال ومثل من يقول الحر أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا يؤمن هزيمة هذا الجيش ونحو هذا والمرجف هو الذي يقول قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت

ص: 425

لهم أحد وأشباه هذا ولا يأذن لمن يعين على المسلمين بالتجسس للكفار واطلاعهم على عورات المسلمين ولا لمن يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد بينهم ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة لقول الله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا - وقوله تعالى - ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) قيل معناه لأوقعوا بينكم الاختلاف وقيل لأسرعوا في تفريق جمعكم ولأن في حضورهم ضرراً فيجب صيانة المسلمين عنه ولا يأذن لطفل ولا مجنون لأن دخولهم تعرض للهلاك بغير فائدة ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم معونة ونفعا (مسألة)(ويمنع النساء إلا طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى) يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الجبن والخور عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن وقد روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال) (مع من خرجتن؟) فقلنا يارسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول

ص: 426

السهام ونسقي السويق فقال (قمن) حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قلت لها يا جدة

ماكان ذاك؟ قالت تمراً قيل للاوزاعي هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف؟ قال لا إلا بالجواري، فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من الخبر وقد كانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغروان مع النبي صلى الله عليه وسلم فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى.

وقال أنس كان رسول الله (ص) يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، فإن قيل فقد كان النبي (ص) يخرج معه من تقع عليه القرعة من نسائه، قلنا تلك امرأة واحدة يأخذها للحاجة إليها ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته، ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا (مسألة)(ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة إليه) لما روت عائشة قالت خرج رسول الله (ص) إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبر أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جراءة ونجدة فسر المسلمون به فقال يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب

ص: 427

معك فقال له رسول الله (ص)(أتؤمن بالله ورسوله؟) قال لا قال (فارجع فإنا لا نستعين بمشرك) ثم مضى رسول الله (ص) حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله (ص)(أتؤمن بالله ورسوله؟) قال نعم قال (فانطلق) متفق عليه وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن حبيب قال أتيت رسول الله (ص) وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم قال (فأسلمتما؟) قلنا لا قال (فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين) قال فأسلمنا وشهدنا معه، وهذا اختيار ابن المنذر والجوزجاني في جماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة بهم، وكلام الخرقي يدل على جواز الاستعانة بهم عند

الحاجة وهو الذي ذكره شيخنا في هذا الكتاب وبه قال الشافعي لما روى الزهري أن رسول الله (ص) استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم رواه سعيد، وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي (ص) يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة، وذكر الحديث إذا ثبت هذا فيشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة بهم لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين كالمخذل والمرجف فالكافر أون

ص: 428

(فصل) ويستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله [ص] يخرج في سفر إلا يوم الخميس (مسألة)(ويرفق بهم في المسير فيسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم فان دعت الحاجة إلى الجد في السير جاز) لأن النبي [ص] جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي ليخرجن الأعز منها الأذل ليشغل الناس عن الخوض فيه، ويعدلهم الزاد لانه لابد منه في الغزو وفي غيره وبه قوامهم ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر لأنه مما يطمعهم في عدوهم، ويعرف عليهم العرفاء وهو أن يكون لكل طائفة من يكون كالمقدم عليهم ينظر في حالهم ويفتقدهم ويعقد لهم الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء لما روى ابن عباس أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي (ص) للعباس إحبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال فحبسته حيث أمرني رسول الله [ص [ومرت به القبائل على راياتها وهو مخير في ألوانها لكنه يغاير ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم ويجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به عند الحرب لئلا يقع بعضهم على بعض وهي علامة بينهم يعرفونها، ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم ويتتبع مكانها فيحفظها لئلا يؤتوا منها، ولا يغفل الحرس والطلائع ليحفظهم من البيات، ويبعث العيون على العدو حتى لا يخفي عليه أمرهم فيحترز منهم ويتمكن

ص: 429

من الفرصة فيهم، ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي ومن التجارة المانعة لهم من القتال، ولأن

المعاصي من أسباب الخذلان، ويعد ذا الصبر بالاجر والنفل ترغيباً في الجهاد، ويخفي من أمره ما أمكن اخفاؤه لئلا يعلم به عدوه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها ويشاور ذا الرأي منهم لقول الله تعالى (وشاورهم في الأمر) وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه (فصل) واذا وجد رجل رجلاً قد أصيبت فرسه ومعه فرس فضل استحب حمله ولم يجب نص عليه فإن خاف تلفه فقال القاضي يجب عليه بذل فضل مركوبه ليحيى به صاحبه كما يلزمه بذل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدوه، ويصف جيشه لقول الله تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) ويجعل في كل جنبة كفؤاً لما روى أبو هريرة قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خالداً على إحدى الجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة، ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو، ولا يميل مع قريبة وذي مذهبه على غيره لئلا تنكسر قلوبهم فيخذلوه عند الحاجة ويراعي أصحابه ويرزق كل واحد بقدر حاجته (فصل) ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من

ص: 430

الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) والمجوس حكمهم في قبول الجزية منهم حكم أهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في هذين القسمين.

فأما من سواهم من الكفار كعبدة الأوثان ونحوهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام في ظاهر المذهب وفيه اختلاف يذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى (فصل) ومن بلغته الدعوة من الكفار يجوز قتاله من غير دعاء ومن لم تبلغه الدعوة يدعى قبل القتال، ولا يجوز قتالهم قبل الدعاء لما روى بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته وبمن معه من المسلمين، وقال (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم

إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) رواه مسلم وهذا والله أعلم كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإسلام فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة واستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال قال أحمد إن الدعوة قد بلغت وانتشرت لكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك بهذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة، ومن بلغته الدعوة يجوز قتالهم قبل ذلك، وإن دعاهم فحسن لما ذكرنا من الحديث

ص: 431

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً حين أعطاه الراية يوم خيبر وأمره بقتالهم أن يدعوهم وهم ممن قد بلغته الدعوة رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة حين ادعى النبوة فلم يرجع فأظهره الله عليه ودعا سلمان أهل فارس (مسألة)(ويجوز أن يبذل جعلا لمن يدله على طريق أو قلعه أو ماء ويجب أن يكون معلوماً إلا أن يكون من مال الكفار فيجوز أن يكون مجهولاً) لا نعلم خلافاً في أنه يجوز للامام ونائبه أن يبذل جعلاً لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين مثل طريق سهل أو ماء في مغازة (مفازة) أو قلعة يفتحها أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغرة يدخل منها.

لا نعلم في هذا خلافاً لأنه جعل في مصلحة فجاز كأجرة الدليل، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في الهجرة من دلهم على الطريق، ويستحق الجعل بفعل ما جعل له فيه سواء كان مسلماً أو كافراً من الجيش أو من غيره، فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوماً لأنها جعالة بعوض من مال معلوم فوجب أن يكون معلوماً كالجعالة في رد الآبق، فإن كان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً لا يمنع التسليم ولا يفضي إلى التنازع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموه وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو الحاجة إليه، والجعالة إنما تجوز بحسب الحاجة

ص: 432

(مسألة)(فإن شرط له جارية معينة على قلعة يفتحها نحو أن يشرط له بنت فلان من أهل القلعة لم يستحق شيئاً حتى يفتح القلعة) لأن جعالة شئ منها اقتضت اشتراط فتحها فمتى فتحت القلعة عنوة سلمت إليه فإن ماتت قبل الفتح أو بعده فلا شئ له لأنه تعلق حقه بمعين وقد تلفت بغير تفريط فسقط حقه كالوديعة، وإن أسلمت قبل الفتح فله قيمتها لانها عصمت نفسها باسلامها فتعذر دفعها إليه فاستحق القيمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده إليهم فجاءه نساء مسلمات فمنعه الله من ردهن وكذلك لو كان الجعل رجلا فأسلم قبل الفتح لأنه عصم نفسه فلم يجز دفعه إليه وله قيمته كالجارية وإن كان اسلامهما بعد الفتح سلما إليه إن كان مسلماً لأنهما أسلما بعد أسرهما فصارا رقيقين، وإن كان كافراً فله قيمتهما لأنه لا يجوز للكفار أن يبتدئ الملك على المسلم وإنما لم.

تجب له القيمة إذا ماتا وتجب إذا أسلما لأن تسليمهما ممكن إذا أسلما لكن منع الشرع منه (مسألة)(وإن فتحت صلحاً ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها إن رضي بها وإن أبى إلا الجارية وأبى صاحب القلعة تسليمها فقال القاضي يفسخ الصلح)

ص: 433

لأنه قد تعذر امضاء الصلح لأن حق صاحب الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينه وبين الصلح ونحو هذا مذهب الشافعي ولصاحب القلعة أن يحصنها مثلما كانت من غير زيادة ويحتمل أن لا يكون له إلا قيمتها ويمضي الصلح لأنه تعذر دفعها إليه مع بقائها فدفعت إليه القيمة كما لو أسلمت قبل الفتح قولهم إن حق صاحب الجعل سابق قلنا إلا أن المفسدة في فسخ الصلح أعظم لأن ضرره يعود على الجيش كله وربما تعدى إلى غيره من المسلمين في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ويبقى ضررها على المسلمين ولا يجوز تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد فإن ضرر صاحب الجعل إنما هو في فوات عين الجعل وتفاوت ما بين عين الشئ وقيمته يسير لا سيما وهو في حق شخص واحد ومراعاة حق المسلمين بدفع الضرر الكثير عنهم أولى من دفع الضرر اليسير عن واحد منهم أو من غيرهم ولهذا قلنا لمن وجد ماله قبل قسمه أنه أحق به فإن وجده بعد قسمه لم يأخذه إلا بثمن

لئلا يؤدي الى الضرر بنقض القسمة أو حرمان من وقع ذلك في سهمه (مسألة) وله أن ينفل في البداءة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده وذلك أنه إذا دخل الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع بعث أخرى فما أتت به أخرج خمسه وأعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي للجيش والسرية معاً) النفل الزيادة على السهم المستحق ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض وقول الله تعالى

ص: 434

(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) كأنه سأل الله ولداً فأعطاه ما سأل وزاده الله ولد الولد، والمراد بالبداءة هنا ابتداء دخول دار الحرب والرجعة رجوعه عنها، والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) هذا وهو أن الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازياً بعث بين يديه سرية تغير على العد ويجعل لهم الربع بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسة ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معاً فإذا قفل بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسة ثم أعطى السرية ثلث ما بقي ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه وبهذا قال حبيب بن مسلمة والحسن والاوزاعي وجماعة من أهل العلم وروى عن عمرو بن شعيب أنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله احتج بقوله تعالى (قل الأنفال لله والرسول) فخصه بها، وكان ابن المسيب ومالك يقولان: لا نفل إلا من الخمس.

وقال الشافعي يخرج من خمس الخمس لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر فغنموا إبلا كثيراً فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيرا بعيراً متفق عليه.

ولو أعطاهم من أربعة أخماس الغنيمة التي هي لهم لم يكن نفلا وكان من سهمانهم ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال شهدت رسول الله (ص) نفل الربع في البداءة والثلث

ص: 435

في الرجعة، وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل.

رواهما أبو داود

وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة الربع وفي القفول الثلث، رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وروى الأثرم باسناده عن جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له عمر هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشئ؟ فأما قول عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين قال لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له حديث حبيب بن سلمة: شغلك أكل الزبيب بالطائف، وما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل وأما حديث ابن عمر فهو حجة عليهم فإن بعيراً على اثني عشر يكون جزءاً من ثلاثة عشر، وخمس الخمس جزء من خمسة وعشرين جزءاً وجزء من ثلاثة عشر أكثر فلا يتصور أخذ الشئ من أقل منه فيتعين أن يكون من غيره أو أن النفل كان للسرية دون سائر الجيش، على أن ما رويناه صريح في الحكم ولا يعارض بشئ مستنبط يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه إذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد أنهم إنما يستحقون هذا بالشرط السابق فإن لم يكن شرطه لهم

ص: 436

فلا، قيل له أليس قد نفل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث؟ قال نعم ذاك إذا نفل وتقدم القول فيه، فعلى هذا إن رأى الإمام أن لا ينفلهم فله ذلك، وان رأى أن ينفلهم دون الثلث والربع فله ذلك لأنه إذا جاز ترك النفل كله جاز ترك البعض ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث نص عليه أحمد وهذا قول مكحول والاوزاعي وجمهور العلماء، وقال الشافعي لا حد للنفل بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام لأن النبي (ص) نفل مرة الثلث ومرة الربع، وفي حديث ابن عمر نفل نصف السدس فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الإمام فينبغي أن يكون موكولاً إلى اجتهاده ولنا أن نفل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلث فينبغي أن لا يتجاوزه، وما ذكره الشافعي يدل على أنه ليس لأقل النفل حد وأنه يجوز أن ينفل أقل من الثلث والربع ونحن نقول به، على أن هذا القول مع قوله أن النفل من خمس الخمس تناقض، فإن شرط لهم الإمام زيادة على الثلث ردوا إليه

وقال الأوزاعي لا ينبغي أن يشترط النصف فإن زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك من الخمس وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل لمشقتها فإن الجيش في البداءة ردء للسرية تابع لها والعدو خائف وربما كان غارا وفي الرجعة لا ردء للسرية لأن الجيش منصرف عنهم والعدو مستيقظ كلب قال أحمد في البداءة إذا كان ذاهباً الربع في القفلة إذا كان في الرجوع الثلث لأنهم يشتاقون إلى أهليهم فهنا (فهذا) أكثر

ص: 437

(القسم الثاني) أن ينفل الإمام بعض الجيش لغنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش قال أحمد في الرجل يأمره الأمير يكون طليعة أو عنده يدفع إليه رأساً من السبي أو دابة قال إذا كان رجل له غناء أو يقاتل فلا بأس ذلك أنفع لهم يحرض هو وغيره ويقاتلون ويغنمون وقال إذا نفذ الإمام صبيحة المغار الخيل فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشئ فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاءوا بشئ دون هؤلاء وظاهر هذا أن له إعطاء من هذا حاله من غير شرط وحجة هذا حديث سلمة بن الاكوع أنه قال غار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعتهم فذكر الحديث فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل رواه مسلم وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر قال فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر فلما قدمت المدينة استوهبنيها النبي صلى الله عليه وسلم فوهبتها له رواه مسلم (القسم الثالث) أن يقول الأمير من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا فهذا جائز في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري قال أحمد إذا قال من جاء بعشر دواب أو بقر أو غنم فله واحد فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لهم ومن جاء بشئ أعطاه بقدره قيل له إذا قال من جاء بعلج فله كذا وكذى فجاء بعلج يطيب له ما يعطى؟ قال نعم وكره مالك هذا القسم ولم يره وقال قتالهم على هذا الوجه إنما هو للدنيا وقال هو وأصحابه

ص: 438

لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة وقال مالك: ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) إلا

بعد أن برد القتال ولنا ما تقدم من حديث حبيب وعبادة وما شرطه عمر لجرير بن عبد الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولأن فيه تحريضاً على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب وما ذكره يبطل بهذه المسائل، وقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل السلب للقاتل بعد أن برد القتال قلنا قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات بعد قوله فهو بالنسبة إليها كالمشروط في أول الغزاة، قال القاضي لا يجوز هذا إلا إذا كان فيه مصلحة للمسلمين فإن لم تكن فيه فائدة لم يجز لأنه إنما يخرج على وجه المصلحة فاعتبرت الحاجة فيه كأجرة الحمال والحافظ.

إذا ثبت هذا فإن النفل لا يختص بنوع من المال وذكر الخلال أنه لا نفل في الدراهم والدنانير وهو قول الأوزاعي لأن القاتل لا يستحق شيئاً منها فكذلك غيره لنا حديث حبيب بن مسلمة وعبادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم الثلث والربع وهو عام في كل ما غنمره ولأنه نوع مال فجاز النفل فيه كسائر الأموال وأما القاتل فإنما نفل السلب وليست الدراهم والدنانير من السلب فلم يستحق غير ما جعل له (فصل) نقل أبو داود عن أحمد أنه قال له: إذا قال من رجع إلى الساقة فله دينار والرجل

ص: 439

يعمل في سياقة الغنم قال لم يزل أهل الشام يفعلون هذا وقد يكون في رجوعهم إلى الساقة وسياقة الغنم منفعة، قيل له فإن أغار على قرية فنزل فيها والسبي والدواب والخرثي معهم في القرية ويمنع الناس من جمعه الكسل لا يخافون عليه العدو فيقول الإمام من جاء بعشرة أثواب فله ثوب ومن جاء بعشرة رؤوس فله رأس قال أرجو أن لا يكون به بأس، قيل له فإن قيل من جاء بعدل من دقيق الروم فله دينار يريده لطعام السبي ما ترى في أخذ الدينار؟ فما رأى به بأساً، قيل فالامام يخرج السرية وقد نفلهم جميعاً فلما كان يوم المغار نادى من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن جاء بكذا فله كذا فذهب الناس فطلبوا فما ترى في هذا النفل؟ قال لا بأس به إذا كان يحرضهم على ذلك ما لم يستغرق الثلث قلت لا بأس بنفلين في شئ واحد قال نعم ما لم يستغرق الثلث سمعته غير مرة يقول ذلك

(فصل) قال أحمد والنفل من أربعة أخماس الغنيمة، هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام منهم رجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي ومكحول والقاسم بن عبد الرحمن ويزيد بن أبي مالك ويحيى بن جابر والاوزاعي وبه قال إسحاق وأبو عبيد قال أبو عبيد والناس اليوم على هذا، قال أحمد وكان سعيد بن المسيب ومالك بن أنس يقولان لا نفل إلا من الخمس فكيف خفي عنهما هذا مع علمهما؟ وقال النخعي وطائفة إن شاء الإمام نفلهم قبل الخمس وإن شاء بعده وقال أبو ثور إنما النفل قبل الخمس واحتج من ذهب إلى هذا بحديث ابن عمر الذي أوردناه

ص: 440

ولنا ماروى معن بن يزيد السلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل إلا بعد الخمس) رواه أبو داود وابن عبد البر وهذا صريح وحديث حبيب بن أبي مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس وحديث جرير حين قال له عمر لك الثلث بعد الخمس ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الثلث ولا يتصور إخراجه من الخمس ولأن الله تعالى قال (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) يقتضي أن يكون الخمس خارجاً من الغنيمة كلها وأما حديث ابن عمر فقد رواه شعيب عن نافع عن ابن عمر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد وابتعث سرية من الجيش فكان سهمهمان الجيش اثني عشر بعيراً ونفل أهل السرية بعيراً بعيراً فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا فهذا يمكن أن يكون نفلهم من أربعة أخماس الغنيمة دون بقية الجيش كما يفعل السرايا ويتعين حمل هذا الخبر على هذا لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلا وكان قد قسم لهم أكثر من أربعة الاخماس وخو خلاف الآية والأخبار (فصل) وكلام أحمد في أن النفل من أربعة الأخماس عام لعموم الخبر فيه ويحتمل أن يحمل على

ص: 441

القسمين الأولين من النفل، فأما القسم الثالث وهو أن يقول من جاء بشئ فله كذا أو من جاء بعشرة رؤوس فله رأس منها فيحتمل أن يستحق ذلك من الغنيمة كلها لأنه ينزل منزلة الجعل فأشبه السلب فإنه غير مخموس ويحتمل في القسم الثاني وهو زيادة بعض الغانمين على سهمه أن يكون

من خمس الخمس المعد للمصالح لأن عطية هذا من المصالح والمذهب الأول لأن عطية سلمة بن الأكوع سهم الفارس زيادة على سهمه إنما كان من أربعة الأخماس (فصل) قال الخرقي ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه ومعناه إذا بعث سرية ونفلها الثلث أو الربع فخص به بعضهم أو جاء بعضهم بشئ فنفله ولم يأت بعضهم بشئ فلم ينفله شارك من نفل من لم ينفل، وقد نص أحمد على هذا لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء ولأنهم استحقوا النفل على وجه الإشاعة بينهم بالشرط السابق فلم يختص به واحد منهم كالغنيمة، فأما النفل في القسمين الأخيرين مثل أن يخص بعض الجيش بنفل لغنائه أو يجعله له كقوله من جاء بعشر رؤوس فله رأس فجاء واحد بعشرة دون سائر الجيش فيختص بنفله دون غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص من قتل بسلب قتيله اختص به ولما خص سلمة بن الأكوع بسهم الفارس والراجل اختص به ولذلك اختص بالمرأة التي نفلها إياه أبو بكر دون الناس ولأن هذا جعل تحريضاً على القتال وحثاً على فعل ما يحتاج المسلمون إليه لتحمل فاعله كلفة فعله رغبة فيما جعل له فلو لم يختص به فاعله ما خاطر أحد بنفسه فيه ولا حصلت مصلحة النفل فوجب أن يختص الفاعل لذلك بنفله كثواب الآخرة

ص: 442

(فصل) قال رضي الله عنه ويلزم الجيش طاعة الأمير والنصح له والصبر معه لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني) رواه النسائي.

(مسألة)(ولا يجوز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز ولا يخرج من العسكر ولا تحدث حدثا إلا بإذن الأمير) يعني لا يحرج لتعلف وهو تحصيل العلف ولا احتطاب ولا غيره إلا بإذن الأمير لقول الله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) ولأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم وقربهم وبعدهم فإذا خرج أحد بغير إذنه

لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو أو طليعة لهم فيأخذوه أو يرحل الأمير ويدعه فيهلك فإذا كان بإذن الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم (فصل) فأما المبارزة فتجوز بإذن الأمير في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فإنه كرهها.

ولنا أن حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وبارز على عمرو بن عبدود في غزوة الخندق وبارز مرحباً يوم خيبر وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارز البراء بن مالك مرزبان المرازبة فقتله

ص: 443

وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفاً، وروي عنه أنه قال قتلت تسعة وتسعين رئيساً من المشركين مبارزة سوى من شاركت فيهم ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبارزون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم ينكره منكر فكان إجماعاً وكان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في ربهم) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة، بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة رواه البخاري.

إذا ثبت هذا فإنه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن وبه قال الثوري وإسحاق ورخص فيها مالك والشافعي وابن المنذر لأن أبا قتادة قال بارزت رجلاً يوم حنين وقتلته ولم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة لم نعلم منهم استئذاناً ولنا أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان عدوه، ومتى برز الإنسان لمن لا يطيقه كان معرضاً نفسه للهلاك فتنكسر قلوب المسلمين فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب الكافرين، فإن قيل فقد أبحتم له أن ينغمس في الكفار وهو سبب قتله قلنا إذا كان مبارزاً تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره، فإن ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكافرين وإن قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفره ولا مقاومته

ص: 444

فافترقا وأمبارزة (وأما مبارزة) أبي قتادة فغير لازمة فإنها كانت بعد التحام الحرب رأى رجلاً يريد أن يقتل مسلماً فضربه أبو قتادة فالتفت إلى أبي قتادة فضمه ضمه كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها بل المبارزة المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو إلى المبارزة فهذا هو الذي

يتعين له إذن الإمام لأن أعين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما بخلاف غير ذلك.

(مسألة)(فإن دعي كافر إلى البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة أن يبارزه بإذن الأمير) .

المبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة ومباحة ومكروهة (فالمستحبة) إذا خرج كافر يطلب البراز فيستحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة أن يبارزه بإذن الأمير، لأن فيه رداً عن المسلمين وإظهارا لقوتهم (والمباحة) أن يبتدئ الرجل الشجاع فيطلبها فتباح ولا تستحب لأنه لا حاجة إليها ولا يؤمن أن يغلب فيكسر فلوب المسلمين إلا أنه لما كان شجاعاً واثقاً من نفسه أبيحت له لأنه بحكم الظاهر غالب، (والمكروهة) أن يبرز الضعيف البنية الذي لا يثق من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا.

(مسألة)(فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه فله شرطه) إذا خرج كافر يطلب البراز فشرط أن لا يعين الذي يبارزه غيره فله شرطه لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) ويجوز رميه وقتله قبل المبارزة لأنه كافر لاعهد له ولا أمان فأبيح قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك مجرى الشرط.

ص: 445

(مسألة)(فإن انهزم المسلم أو أثخن بالجراح جاز الدفع عنه) إذا انهزم المسلم تاركاً للقتال أو مثخناً بالجراح جاز لكل أحد قتال الكافر لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله والأمان إنما كان حال القتال وقد زال وإن كان المسلم شرط عليه أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفة وفي له بالشرط إلا أن يترك قتاله أو يثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يجهز عليه فيجوز أن يحولوا بينه وبينه، وإن قاتلهم قاتلوه لأنه إذا منعهم انقاذه فقد نقض أمانه وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم ويقاتلوا من أعان عليه ولا يقاتلون المبارز لأنه ليس بسبب من جهته فإن كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم انتقض أمانه وجاز قتله وذكر

الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم وإن أثخن بالجراح قيل له فخاف المسلمون على صاحبهم قال وإن، لأن المبارزة إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا بينهما وخلوا سبيل العلج قال فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم ولنا أن حمزة وعلياً أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة حين ثخن عبيدة.

(فصل) وتجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحرب خدعة وهو حديث حسن صحيح، وروي أن عمرو بن عبدود لما بارز علياً رضي الله عنه قال علي ما برزت لا قاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو خدعتني فقال الحرب خدعة.

ص: 446

(فصل قال أحمد وإذا غزوا في البحر فأراد رجل أن يقيم بالساحل يستأذن الوالي الذي هو على جميع المراكب ولا يكفيه أن يستأذن الوالي الذي في مركبه.

(مسألة)(وإن قتله المسلم فله سلبه) .

أما استحقاق سلب القتيل في الجملة فلا نعلم فيه خلافاً وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم من قتل كافراً فله سلبه، رواه جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم أنس وسمرة بن جندب وغيرهما، وروي أبو قتادة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلاً له عليه بينه فله سلبه) قال فقمت فقلت من يشهد لي؟ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (مالك يا أبا قتادة، فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول سلب ذلك القتيل عندي فارضه منه فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسول الله يعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صدق فأسلمه إليه) قال فأعطانيه متفق عليه، وعن أنس قال قال رسول

ص: 447

الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين (من قتل قتيلا فله سلبه) فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا

فأخذ أسلابهم، رواه أبو داود.

(مسألة)(وكل من قتل قتيلا فله سلبه غير مخموس إذا قتله حال الحرب منهمكا على القتال غير مثخن وغرر بنفسه في قتله وعنه لا يستحقه إلا من شرط له) .

الكلام في هذه المسألة في فصول (إحداها) في أن القاتل يستحق السلب وقد ذكرناه (الثاني) أن السلب لكل قاتل يستحق السهم أو الرضخ كالعبد والمرأة والصبي والمشرك وقال ابن أبي موسى من بارز بغير إذن الإمام لم يستحق السلب ذكره في الإرشاد وروي عن ابن عمر أن العبد إذا بارز بإذن مولاه لم يستحق السلب ويرضخ له منه وللشافعي فيمن لا سهم له قولان (أحدهما) لا يستحق السلب لأن السهم آكد منه للإجماع عليه فإذا لم يستحقه فالسلب أولى ولنا عموم الخبر ولأنه قاتل من أهل الغنيمة فاستحق السلب كذي السهم ولأن الأمير لو جعل جعلا لمن منع شيئاً فيه نفع للمسلمين لاستحقه فاعله من هؤلاء فالذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم أولى وفارق السهم لأنه علق على المظنة ولهذا يستحق بالحضور ويستوي فيه الفاعل وغيره والسلب يستحق بحقيقة الفعل وقد وجد منه ذلك فاستحقه كالمجعول له جعلا على فعل إذا فعله فإن كان القاتل ممن لا يستحق سهما ولا رضخاً كالمرجف والمخذل والمعين على المسلمين لم يستحق السلب وإن قل وهو قول الشافعي لأنه

ص: 448

ليس من أهل الجهاد وكذلك إن بارز العبد بغير إذن مولاه لا يستحق السلب لأنه عاص وكذلك كل عاص مثل من دخل بغير إذن الأمير وعن أحمد فيمن دخل بغير إذن أنه يؤخذ منه الخمس وباقيه له كالغنيمة ويخرج مثل ذلك في العبد المبارز بغير إذن سيده ويحتمل أن يكون سلب قتيل العبد له على كل حال لأن ما كان له فهو لسيد ففي حرمانه حرمان سيده ولم يعص (الفصل الثالث) السلب للقاتل في كل حال إلا أن ينهزم العدو وبه قال الشافعي وابو ثور وداود وابن المنذر وقال مسروق إذا التقى الزحفان فلا سلب له إنما النفل قبل وبعد ونحوه قول نافع وكذلك قال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم: السلب للقاتل ما لم تمتد الصفوف بعضها إلى بعض فإذا كان كذلك فلا سلب لأحد

ولنا عموم قوله عليه السلام من قتل قتيلا فله سلبه ولأن أبا قتادة إنما قتل الذي أخذ سلبه في حال التقاء الزحفين ألا تراه يقول فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين؟ وكذلك قول أنس قتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وكان ذلك بعد التقاء الزحفين لأن هوازن لقوا المسلمين فجأة فألحموا الحرب قبل تقدم مبارزة

ص: 449

(الفصل الرابع) أنه إنما يستحق السلب بشروط أربعة [أحدها] أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم فأما إن قتل امرأة أو صبياً أو شيخا فاينا أو ضعيفاً مهيناً ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافاً وإن كان أحد هؤلاء يقاتل استحق قاتله سلبه لجواز قتله ومن قتل أسيراً له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك [الثاني] أن يكون المقتول فيه منعه غير مثخن بالجراح فإن كان مثخناً فليس لقاتله شئ من سلبه وبهذا قال مكحول وجرير بن عثمان والشافعي لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ولم يعط ابن مسعود شيئاً [الثالث] أن يقتله أو يثخنه بالجراح فيعجله في حكم المقتول فيستحق سلبه لحديث معاذ ابن عمرو بن الجموح [الرابع] أن يغرر بنفسه في قتله فإن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له قال أحمد السلب للقاتل إنما هو في المبارزة لا يكون في الهزيمة وإن حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه فسلبه غنيمة لأنهم لم يغرروا بأنفسهم في قتله (فصل) وإنما يستحق السلب إذا قتله حال الحرب فإن انهزم الكفار كلهم فأدرك انسانا منهزما

ص: 450

فقتله فلا سلب له لأنه لم يغرر في قتله، وإن كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله انسان فله سلبه لان الحرب كروفر وقد قتل سلمة بن الأكوع طليعة للكفار وهو منهزم وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من

قتله؟) قالوا ابن الأكوع قال (له سلبه أجمع) وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور وداود وابن المنذر السلب لكل قاتل لعموم الخبر واحتجاجا بحديث سلمة هذا ولنا أن ابن مسعود ذفف على أبي جهل فلم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر ابن الحارث صبراً ولم يعط سلبهما من قتلهما وقتل بني قريظة صبراً فلم يعط من قتلهم أسلابهم وإنما أعطي السلب من قتل مبارزاً وكفى المسلمين شره وغرر في قتله والمنهزم بعد انقضاء الحرب قد كفى المسلمين شر نفسه ولم يغرر قاتله بنفسه في قتله فهو كالأسير وأما الذي قتله سلمة فكان متحيزاً إلى فئة وكذلك من قتل حال قيام الحرب فإنه وإن كان منهزماً فهو متحيز إلى فئة وراجع إلى القتال فأشبه الكار فان القتال كر وفر.

إذا ثبت هذا فانه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة بإذن الأمير لأن كل من قضي له بالسلب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من نقل إلينا أنه أذن له في المبارزة مع أن عموم الخبر يقتضي استحقاق السلب لكل قاتل إلا من خصه الدليل (الفصل الخامس) أن السلب لا يخمس روى ذلك عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وبه قال الشافعي وابن المنذر وقال ابن عباس يخمس وبه قال الأوزاعي ومكحول لعموم قوله تعالى (واعلموا

ص: 451

أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) وقال إسحاق أن استكثر الإمام السلب خمسه وذلك إليه لما روى ابن سيرين أن البراء ابن مالك بارز مرزبان المرازبه بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسة، فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء.

رواه سعيد في السنن وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفاً ولنا ماروى عوف بن مالك وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.

رواه أبو داود، وخبر عمر حجة لنا فإنه قال إنا كنا لا نخمس السلب وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صدراً من خلافته لم يخمسوا سلباً واتباعهم أولى، قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شئ سبق فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ

إلا اتباعه ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه يصلح أن يخصص به عموم الآية إذا ثبت هذا فإن السلب من أصل الغنيمة، وقال مالك يحسب من خمس الخمس ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به للقاتل مطلقاً ولم ينقل عنه أنه احتسب به من خمس الخمس، ولأنه لو احتسب به من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك، ولأن سببه لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الراجل والفارس

ص: 452

(الفصل السادس) أن القاتل يستحق السلب قال الإمام ذلك أو لم يقله وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقال أبو حنيفة والثوري لا يستحقه إلا أن يشرطه الإمام وكذلك قال مالك ولم ير أن يقول الإمام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل وجعلوا السلب ههنا من جملة الأنفال، وقد روي عن أحمد مثل قولهم وهو اختيار أبي بكر لما روى عوف بن مالك أن مددياً تبعهم فقتل علجاً فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال (لا تعطه يا خالد) رواه سعيد وأبو داود بمعناه بأطول من هذا وروينا بإسنادهما عن شبر بن علقمة قال بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه فأتيت به سعداً فخطب سعد أصحابه وقال إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفاً وإنا قد نفلناه إياه ولو كان حقاً لم يحتج أن ينفله ولأن عمر أخذ الخمس من سلب البراء ولو كان حقاً له لم يجز أن يأخذ منه شيئاً ولان النبي (ص) دفع سلب أبي قتادة إليه من غير بينة ولا يمين ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده، وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك فإن عوف بن مالك احتج على خالد حين أخذ بعض سلب المددي فقال له عوف أما تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال

ص: 453

بلى، وقول عمر إنا كنا لا نخمس السلب يدل على أن هذه قضية عامة في كل غزوة وحكم مستمر

لكل قاتل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً أن لا يرد على المددي عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالداً بين يديه وقوله قد أنجزت لك ما ذكرت لك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما خبر شبر فإنما أنفذ له سعد ما قضى له به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل لأنه زيادة على سهمه، وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى البينة ولأن السلب مأخوذ من الغنيمة بغير تقدير الإمام واجتهاده فلم يفتقر إلى شرطه كالسهم إذا ثبت هذا فإن أحمد قال لا يعجبني أن يأخذ السلب إلا بإذن الإمام وهو قول الأوزاعي، وقال ابن المنذر والشافعي له أخذه بغير إذن لأنه استحقه بجعل النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك ولا يأمن أن أظهره عليه أن لا يعطاه ووجه قول أحمد أنه فعل مجتهد فيه فلم ينفذ أمره فيه إلا بإذن الإمام كأخذ سهمه، ويحتمل أن يكون هذا من حمد على سبيل الاستحباب ليخرج من الخلاف لا على سبيل الإيجاب، فعلى هذا إن أخذه بغير إذن ترك الفضيلة وله ما أخذه (مسألة)(وان قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع دون القاتل) لان القاطع هو الذي كفى المسلمين شره ولأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ

ص: 454

(مسألة)(وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة) هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية حرب له السلب إذا انفرد بقتله.

وقال القاضي إنهما يشتركان في سلبه لقوله (من قتل قتيلا فله سلبه) وهو يتناول الاثنين، ولأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في السلب ولنا أن السلب إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين أشبه مالو قتله جماعة ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين اثنين في سلب، فإن اشترك اثنان في ضربه وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر فالسلب له لأن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل وأتيا النبي

صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال (كلاكما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح (مسألة)(وإن أسره وقتله الإمام فسلبه غنيمة) إذا أسر رجلا لم يستحق سلبه سواء قتله الإمام أو لم يقتله، وقال مكحول: لا يكون السلب إلا لمن أسر علجاً أو قتله وقال القاضي إذا أسر رجلا فقتله الإمام صبراً فسلبه لمن اسره لان الأسر أصعب من القتل فإذا استحق سلبه بالقتل كان تنبيها على استحقاقه بالأسر قال وان استبقاه الإمام كان له فداؤه أو رقبته وسلبه لأنه كفى المسلمين شره ولنا أن المسلمين أسروا أسرى يوم بدر فقتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة والنضر بن الحارث

ص: 455

واستبقى سائرهم فلم يعط من أسرهم أسلابهم ولا فداءهم وكان فداؤهم غنيمة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل السلب للقاتل وليس الأسر بقتل ولأن الإمام مخير في الاسرى ولو كان لمن أسره كان أمره إليه دون الإمام (مسألة)(وان قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة وقيل هو للقاتل) إذا قطع يده ورجله وقتله آخر فالسلب للقاطع في أحد الوجهين لأنه عطله فأشبه الذي قتله (والثاني) هو غنيمة لأنه لم ينفرد أحدهما بقتله ولا يستحقه القاتل لأنه مثخن بالجراح وقيل هو للقاتل لعموم الخبر وكذلك إن قطع يديه أو رجليه وإن قطع إحدى يديه أو إحدى رجليه ثم قتله آخر احتمل أن يكون سلبه غنيمية لأنهما اشتركا في قتله فلم ينفرد به أحدهما واحتمل أنه للقاتل لأنه قتل من لم يكتف المسلمون شره وإن عانق رجلاً فقتله آخر فالسلب للقاتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي هو للمعانق ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولأنه كفى المسلمين شره أشبه ما لو لم يعانقه الآخر وكذلك لو كان الكافر مقبلاً على رجل يقاتله فجاء آخر من ورائه فضربه فقتله فسلبه لقاتله بدليل قصة قتيل أبي قتادة

ص: 456

(فصل) ولا تقبل دعوى القتل إلا ببينة وقال الأوزاعي يعطي السلب إذا قال أنا قتلته ولا يسأل بينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول أبي قتادة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلاً له عليه بينه فله سلبه) متفق عليه وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له فاكتفى بإقراره قال أحمد لا يقبل إلا شاهدان وقالت طائفة من أهل الحديث يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الذي شهد لابي قتادة من غير يميز ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر البينة واطلاقها ينصرف إلى شاهدين ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان كدعوى قتل العمد (مسألة)(والسلب ما كان عليه من ثياب وحلي وسلاح والدابة بآلتها وعنه أن الدابة ليست من السلب ونفقته وخيمته ورحله غنيمة) سلب القتيل ما كان لابسه من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية لأن المفهوم من السلب اللباس وكذلك السلاح من السيف والرمح واللت والقوس ونحوه لأنه يستعين به في قتال فهو أولى بالأخذ من اللباس فأما المال الذي معه في هميانه وخريطته فليس بسلب لأنه ليس من الملبوس ولا مما يستعين به في الحرب وكذلك

ص: 457

رحله وإناؤه وما ليست يده عليه من ماله وبه قال الأوزاعي ومكحول والشافعي إلا أن الشافعي قال مالا يحتاج إليه في الحرب كالتاج والسوار والطوق والهميان الذي للنفقة ليس من السلب في أحد القولين لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه المال الذي في خريطته ولنا أن البراء بارز مرزبان المرازبة فقتله فبلغ سواره ومنطقته ثلاثين ألفاً فخمسه عمر ودفعة إليه وفي حديث عمرو بن معدي كرب أنه حمل على سوار فطنعه فدق صلبه فصرعه فنزل إليه فقطع يده وأخذ سوارين كانا عليه ويلقاً من ديباج وسيفاً ومنطقة فسلم ذلك إليه ولأنه من ملبوسة أشبه ثيابه ولأنه داخل في اسم السلب أشبه الثياب والمنطقة ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فله سلبه) واختلفت

الرواية عن أحمد رحمه الله في الدابة فنقل عنه أنها ليست من السلب اختاره أبو بكر لأن السلب ما كان على بدنه والدابة ليست كذلك فلا تدخل في الخبر وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته يعني ولم يذكر الدابة ونقل عنه أنها من السلب وهو ظاهر المذهب وبه قال الشافعي لما روى عوف بن مالك قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فعلاه ققتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن

ص: 458

رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال بلى رواه الأثرم وفي حديث شبر بن علقمة أنه أخذ فرسه كذلك قال أحمد كقوله فيه ولأن الفرس يستعان بها في الحرب فأشبهت السلاح وما ذكروه يبطل بالرمح والقوس واللت فإنها من السلب وليست ملبوسة إذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتحقيبها وحلية إن كانت عليه وجميع آلتها من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما تكون من السلب إذا كان راكباً عليها فإن كانت في منزلة أو مع غيره أو منقلبة لم تكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه وإن كان عليها فصرعه عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب وهذا قول الأوزاعي وإن كان ممسكاً بعنانها غير راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) هي سلب وهو قول الشافعي لأنه متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه ورمحه في يده (والثانية) ليست من السلب وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس براكب عليها فاشبه مالو كانت مع غلامه وان كان على فرس وفي يده جنيبه لم تكن الجنيبة من السلب لان لا يمكنه ركوبهما معاً (فصل) ويجوز سلب القتلى وتركهم عراة وهذا قول الأوزاعي وكرهه الثوري وابن المنذر لما فيه من كشف عوراتهم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في قتيل سلمة بن الاكوع له سلبه أجمع وقال (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا يتناول جميعه

(فصل) ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سلمة

ص: 459

ابن جندب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن أعف الناس قتلة أهل الإيمان) رواهما أبو داود وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله كتب الاحسان على كل شئ فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) رواه النسائي وعن عقبة بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس بباق البطريق فأنكر ذلك فقال يا خليفة رسول فإنهم يفعلون ذلك بنا قال (فاستنان بفارس والروم) لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر وقال الزهري لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا أن عمرو بن العاص حين حاصر الاسكندرية ظفر أهلها برجل من المسلمين فأخذوا رأسه فجاء قومه عمراً متعصبين فقال لهم عمرو خذوا رجلاً منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى أهل الاسكندرية رأس المسلم إلى قومه (فصل) ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه) إذا جاء العدو لزم جميع الناس ممن هو من أهل القتال الخروج إليهم إذا احتيج إليهم ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى التخلف لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير الخروج ومن لا قدرة له على الخروج لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا استنفرتم فانفروا) وقد ذم الله

ص: 460

تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وماهي بعورة إن يريدون إلا فرارا) ولأنهم يصير الجهاد عليهم فرض عين إذا جاء العدو فلا يجوز لأحد التخلف عنه.

إذا ثبت هذا فانهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير لأن أمر الحرب موكول إليه وهو أعلم بقلة العدو وكثرتهم ومكامنهم وكيدهم فينبغي أن يرجع إلى رأيه لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم فلا يجب استئذانه حينئذ لأن المصلحة تتعين في قتالهم

والخروج إليهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة ابن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال (خير رجالنا سلمة بن الاكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل وكذلك إن عرضت لهم فرصة يخافون فوتها إن تركوها حتى يستأذنوا الأمير فلهم الخروج بغير إذنه لئلا تفوتهم (فصل) وسئل أحمد عن الإمام إذا غضب على الرجل فقال أحرج عليك أن لا تصحبني فنادى بالنفير يكون اذنا له؟ قال لا إنما قصد له وحده فلا يصحبه حتى يأذن له، قال وإذا نودي بالصلاة والنفير فإن كان العدو بالبعد إنما جاءهم طليعة العدو صلوا ونفروا إليهم وإذا استغاثوهم وقد جاء العدو أغاثوا ونصروا وصلوا على ظهور دوابهم ويؤمون الغياث عندي أفضل من صلاة الجماعة والطالب والمطلوب في هذا الموضع يصلي على ظهر دابته وهو يسير إن شاء الله وإذا سمع النفير وقد أقيمت الصلاة يصلي ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو جنب

ص: 461

يعني حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة قال ولا يقطع الصلاة إذا كان فيها، وإذا جاء النفير والإمام يخطب يوم الجمعة لا نرى أن ينفروا قال ولا تنفر الخيل الا على حقيقة ولا تنفر على الغلام إذا أبق إذا نفروهم ولا يكون هلاك الناس بسبب غلام وإذا نادى الإمام الصلاة جامعة لأمر يحدث فيشاور فيه لم يتخلف عنه أحد إلا لعذر (فصل) وسئل أحمد عن الرجلين يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه يركب هذا عقبة وهذا عقبة فقال ما سمعت فيه بشئ وأرجو أن لا يكون به بأس قيل له أيما أحب إليك يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق؟ قال يرافق هذا أرفق يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره ولا بأس بالنهد قد تناهد الصالحون كان الحسن إذا سافر ألقى معهم ويزيد أيضاً بعدما يلقي ومعنى النهد أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئاً من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعاً وكان الحسن يدفع إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سراً بمثل ذلك يدفعه إليه قال احمد ما أرى أن يغزو ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو

رواه أبو داود والاثرم.

(فصل) ومن أعطي شيئاً يستعين به في غزاته فما فضل فهو له إذا كان قد أعطي لغزوة بعينها

ص: 462

هذا قول عطاء ومجاهد وسعيد بن المسيب وكان ابن عمر إذا أعطي شيئاً في الغزو يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى فشأنك به ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الإجارة فكان الفاضل له كما لو وصى له أن يحج عنه فلان حجة بألف وإن أعطاه شيئاً لينفقه في سبيل الله أو في الغزو مطلقاً ففضل منه فضل أنفقه في غزاة أخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه انفاق الجميع فيها كما لو وصى أن يحج عنه بألف.

(فصل) ومن أعطي شيئاً يستعين به في الغزو فقال أحمد لا يترك لأهله منه شيئاً لأنه ليس بملكه إلا أن يصير إلى رأس مغزاة فيكون كهيئة ماله فيبعث إلى عياله منه ولا يتصرف فيه قبل الخروج لئلا يتخلف عن الغزو فلا يكون مستحقاً لما أنفقه إلا أن يشتري منه سلاحاً أو آلة الغزو فإن قصد اعطاءه لمن يغزو به فقال أحمد لا يتخذ منها سفرة فيها طعام فيطعم منها أحداً لأنه إنما أعطيها لينفقها في جهة مخصوصة وهي الجهاد.

(فصل) وإذا أعطي الرجل دابة ليغزو عليها فإذا غزا عليها ملكها كما يملك النفقة المدفوعة إليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبها أو حبساً فيكون حبساً بحاله قال عمر رضي الله عنه حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت أن اشتريه وظنت أنه بائعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) متفق عليه، وهذا يدل على أنه ملكه لولا ذلك ما باعه

ص: 463

ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على أنه أقامه للبيع بعد غزوه عليه ذكر أحمد نحو هذا الكلام وسئل متى تطيب له الفرس؟ قال إذا غزا عليه قيل له فإن العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس في الطلب إلى خمس فراسخ ثم رجع؟

قال لا حتى يكون غزا قيل له فحديث ابن عمر إذا بلغت وادي القرى فشأنك به قال ابن عمر كان يضع ذلك في ماله وروي أنه إنما يستحقه إذا غزا عليه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب ومالك وسالم والقاسم والانصاري والليث والثوري ونحوه عن الأوزاعي قال إبن المنذر ولم أعلم أن أحداً قال له أن يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله إلا أن يقول له شأنك به ما أردت.

ولنا أن حديث عمر ليس فيه ما اشترط مالك فأما إن قال هي حبس فلا يجوز بيعها وسنذكر ذلك في الوقف إن شاء الله تعالى، (فصل) قال أحمد لا يركب دواب السبيل في حاجة ويركبها ويستعملها في سبيل الله ولا يركب في الأمصار والقرى ولا بان يركبها ويعلفها وأكره سباق الرمك على الفرس الحبس وسهم الفرس الحبيس لمن غزا عليه، وإذا أراد أن يشتري فرساً ليحمل عليه فقال أحمد يستحب شراؤها من غير الثغر ليكون توسعه على أهل الثغر في الجلب

ص: 464

(مسألة)(وإن دخل قوم لا منعه لهم دار الحرب بغير إذن الإمام فغنموا فعن أحمد فيها ثلاث روايات)[إحداهن] أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسه الإمام ويقسم باقيه بينهم هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي لعموم قوله سبحانه (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) الآية، والقياس على ما إذا دخلوا بإذن الإمام [والثانية] هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد فأشبه الاحتطاب فإن الجهاد بإذن الإمام أو من طائفة لهم منعه وقوة، فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب [الثالثة] أنه لا حق لهم فيه قال أحمد في عبد أبق إلى الروم ثم رجع ومعه متاع: العبد لمولاه وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين، لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق والأولى أولى

قال الأوزاعي لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذين كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناساً من القبط فكانوا خدماً لهم فخرجوا يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون ورفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى

ص: 465

أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر نفلوهم القلع وكل شئ جاءوا به إلا الخمس، رواه سعيد والاثرم، فإن كانت الطائفة ذات منعه غزوا بغير إذن الإمام ففيهم روايتان (إحداهما) لا شئ لهم وهو فئ المسلمين (والثانية) يخمس والباقي لهم وهي أصح، ووجه الروايتين ما تقدم ويخرج فيه وجه كالرواية الثالثة وهو أن الجميع لهم لكونه اكتساباً مباحاً من غير جهاد (فصل) قال الخرقي ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة ويعزل عنها ولا يتزوج منهم ومن اشترى جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم قال شيخنا رحمه الله تعالى يريد والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان، فأما إن كان في جيش المسلمين فله أن يتزوج لما روي عن سعيد عن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أسماء بنت عميس أبا بكر وهم تحت الرايات، أخرجه سعيد ولأن الكفار لا يد لهم عليه أشبه من في دار الإسلام، وأما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج ما دام أسيراً لأنه منعه من وطئ امرأته إذا أسرت معه مع صحة نكاحهما وهذا قول الزهري فإنه قال لا يحل للأسير أن يتزوج ما كان في أرض المشركين ولأن الأسير إذا ولد له ولد كان رقيقاً لهم ولا يأمر أن يطأ امرأته غيره منهم، وسئل أحمد عن أسير أسرت معه امرأته أيطؤها؟ فقال كيف يطؤها ولعل غيره منهم يطؤها؟ قال الأثرم قلت له فلعلها تعلق بولد فيكون معهم فقال وهذا أيضاً وأما الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه فهو الذي أراد الخرقي إن شاء الله تعالى فلا ينبغي

ص: 466

له أن يتزوج لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد فيستولي عليه الكفار وربما نشأ بينهم فيصير على دينهم فإن غلبت عليه الشهوة أبيح له نكاح مسلمة لأنه حال ضرورة ويعزل عنها كيلا تأتي بولد

ولا يتزوج منهم لأنها تغلبه على ولدها فيتبعها على دينها قال القاضي قول الخرقي هذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الله تعالى قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ولأن الأصل الحل فلا يحرم بالشك والتوهم وإنما كرهنا له التزوج منهم مخافة أن يغلبوا على ولده فيسترقوه ويعلموه الكفر ففي تزويجه تعريضه لهذا الفساد العظيم وازدادت الكراهة إذا تزوج منهم لأن الظاهر أن امرأته تغلبه على ولدها فتكفره كما أن حكم الإسلام يغلب للإسلام فيما إذا أسلم أحد الأبوين أو تزوج مسلم ذمية، وإذا اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج في أرضهم مخافة أن يغلبوه على ولدها فيسترقوه ويكفروه (مسألة)(ومن أخذ من دار الحرب طعاماً أو علفاً فله أكله وعلف دابته بغير إذن وليس له بيعه فإن باعه رد ثمنه في المغنم) أجمع أهل العلم إلا من شذ منهم على أن للغزاة إذا دخلوا أرض الحرب أن يأكلوا ما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم من علفهم منهم سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والقاسم وسالم والثوري والاوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري لا يؤخذ إلا بإذن الإمام وقال سليمان بن موسى لا يترك إلا أن ينهى عنه الإمام فيتبع نهيه

ص: 467

ولنا ما روى عبد الله بن أبي أوفى قال أصبنا طعاماً يوم خيبر فكان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف.

رواه سعيد وأبو داود وروي أن صاحب جيش الشام كتب الى عمر إنا أصبنا أرضاً كثيرة الطعام والعلف وكرهت أن أتقدم في شئ من ذلك فكتب إليه دع الناس يأكلون ويعلفون فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين، رواه أبو سعيد وقد روى عبد الله بن مغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي أحداً منه شيئاً فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فاستحييت منه، متفق عليه، ولأن الحاجة تدعو إلى هذا وفي المنع منه مضرة بالجيش وبدوابهم فإنه يعسر عليهم نقل الطعام والعلف من دار

الإسلام ولا يجدون بدار الحرب ما يشترونه ولو وجدوه لم يجدوا ثمنه ولا يمكن قسمه ما يأخذه الواحد منهم ولو قسم لم يحصل للواحد منهم شئ ينتفع به ولا يدفع به حاجته فأبيح لهم ذلك فمن أخذ من الطعام شيئاً مما يقتات أو يصلح به القوت من الأدم أو غيره أو العلف لدابته فهو أحق به سواء كان له ما يستغني به عنه أولا.

ويكون أحق بما يأخذه من غيره فإن فضل منه مالا حاجة به اليه رده على المسلمين لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه، وإن أعطاه أحد من أهل الجيش ما يحتاج إليه جاز له أخذه وصار أحق به من غيره

ص: 468

وإن باع شيئاً من الطعام أو العلف رد قيمته في الغنيمة لما ذكرنا من حديث عمر وبه قال سليمان بن موسى والثوري والشافعي، وكره القاسم وسالم ومالك بيعه، وقال القاضي لا يخلو إما أن يبيعه من غاز أو غيره فإن باعه لغيره فالبيع باطل لأنه باع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة فيجب رد المبيع ورفض البيع فإن تعذر رده رد قيمته أو ثمنه إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم وإن باعه لغاز لم يخل من أن يبدله بطعام أو علف مما له الانتفاع به أو بغيره فإن باعه بمثله فليس هذا بيعاً في الحقيقة إنما سلم إليه مباحاً وأخذ مثله مباحاً، ولكل واحد منهما الانتفاع بما أخذه وصار أحق به من غيره لثبوت يده عليه، فعلى هذا لو باع صاعاً بصاعين أو افترقا قبل القبض جاز، وإن باعه به نسيئة أو أقرضه إياه فأخذه فهو أحق به ولا يلزمه ايفاؤه فإن وفاه ورده إليه عادت اليد إليه وإن باعه بغير الطعام والعلف فالبيع غير صحيح ويصير المشتري أحق به لثبوت يده عليه ولا ثمن عليه وإن أخذه منه وجب رده إليه (فصل)(وإن وجد دهنا فهو كسائر الطعام) لما ذكرنا من حديث عبد الله بن مغفل ولأنه طعام فأشبه البر والشعير وإن كان غير مأكول فاحتاج أن يدهن به أو يدهن دابته فظاهر كلام أحمد جوازه إذا كان من حاجة قال في زيت الروم إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس فأما التزين فلا يعجبني وقال الشافعي ليس له دهن دابته من جرب إلا بالقيمة لأن ذلك لا تعم الحاجة إليه ويحتمل

ص: 469

كلام أحمد مثل هذا لأنه ليس بطعام ولا علف ووجه الأول أن هذا مما يحتاج إليه لاصلاح نفسه ودابته أشبه الطعام والعلف وله أكل ما يتداوى به ويشرب الشراب من الجلاب والسكنجبين وغيرهما عند الحاجة إليه لأنه من الطعام وقال أصحاب الشافعي ليس له تناوله لأنه ليس من القوت ولا يصلح به القوت ولأنه لا يباح مع عدم الحاجة إليه فلم يبح مع الحاجة كغير الطعام ولنا أنه طعام احتيج إليه أشبه الفواكه وما ذكروه يبطل بالفاكهة وإنما اعتبرنا الحاجة ههنا لأن هذا لا يتناول في العادة إلا عند الحاجة إليه (فصل) وللغازي أن يطعم دوابه ورقيقه مما يجوز له الأكل منه سواء كانوا للقنية أو للتجارة قال أبو داود قلت لأبي عبد الله يشتري الرجل السبي في بلاد الروم يطعمهم من طعام الروم؟ قال نعم وروى عنه ابنه عبد الله أنه قال سألت أبي عن الرجل يدخل بلاد الروم ومعه الجارية والدابة للتجارة أيطعمها يعني الجارية وعلف الدابة؟ قال لا يعجبني ذلك فإن لم يكن للتجارة فلم ير به بأساً فظاهر هذا أنه لا يجوز إطعام ما كان للتجارة لأنه ليس مما يستعين به على الغزو وقال الخلال رجع أحمد عن هذه الرواية وروى عنه جماعة بعد هذا أنه لا بأس به وذلك لأن الحاجة داعية إليه فاشبه مالا يراد به التجارة (فصل) قال أحمد ولا يغسل ثوبه بالصابون لأن ذلك ليس بطعام ولا علف ويراد للتحسين والزينة ولا يكون في معناهما ولو كان مع الغازي فهد وكلب للصيد لم يكن له إطعامه من الغنيمة

ص: 470

فإن أطعمه غرم قيمة ما أطعمه لأن هذا يراد للتفرج والزينة وليس مما يحتاج إليه في الغزو بخلاف الدواب (فصل) ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من دواب المغنم لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا اخلقه رده فيه) رواه سعيد (فصل) ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ النعل والجرب (والجورب) منها ولا الخيوط ولا الحبال وبهذا

قال ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير واسماعيل بن عياش والشافعي ورخص في اتخاد الجرب من جلود الغنم سليمان بن موسى ورخص مالك في الإبرة وفي الحبل يتخذ من الشعر والنعل والخف يتخذ من جلود البقر.

ولنا ماروى قيس بن أبي حازم أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمنة شعر من المغنم فقال يا رسول الله إنا نعمل الشعر فهبها لي فقال (نصيبي منها لك) رواه سعيد وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أدوا الخيط والمخيط فإن الغلول نار وشنان يوم القيامة) ولأن ذلك من الغنيمة ولا تدعو إلى أخذه حاجة عامة فأشبه الثياب (فصل) فأما كتبهم فإن كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة وإن كانت

ص: 471

مما لا ينتفع به ككتب التوراة والانجيل وأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله غسل وهو غنيمة وإلا فلا ولا يحوز بيعها (فصل) وإن أخذوا من الكفار جوارح للصيد كالفهد والبزاة فهي غنيمة تقسم وإن كانت كلابا لم يجز بيعها وإن لم يردها أحد من الغانمين جاز إرسالها وإعطاوها غير الغانمين وإن رغب فيها بعض الغانمين دون بعض دفعت إليه ولم تحسب عليه لأنها لا قيمة لها وإن رغب فيها الجميع أو جماعة كثيرة فأمكن قسمتها قسمت عدداً من غير تقويم، وإن تعذر ذلك أو تنازعوا في الجيد منها فطلبه كل واحد منهم أقرع بينهما وإن وجدوا خنازير قتلوها لأنها مؤذية ولا نفع فيها وإن وجدوا خمراً أراقوه فان كان في أوعيته نفع للمسلمين أخذوها وإلا كسروها لئلا يعودوا إلى استعمالها (مسألة) فإن فضل معه منه شئ فأدخله البلد رده في الغنيمة إلا أن يكون يسيراً فله أكله في إحدى الروايتين) أما الكثير فيجب رده بغير خلاف علمناه لأن ما كان مباحا له في حال الحرب فإذا أخذه على وجه ففضل منه كثير إلى دار الإسلام فقد أخذ مالا يحتاج إليه فيلزمه رده لأن الأصل تحريمه لكونه مشتركا بين الغانمين فهو كسائر المال وإنما أبيح منه ما دعت الحاجة إليه فما زاد يبقى على أصل التحريم

ولهذا لم يبح بيعه وأما اليسير ففيه روايتان

ص: 472

(إحداهما) يجب رده أيضاً اختاره أبو بكر وهو قول أبي حنيفة وابن المنذر وأبي ثور وهو أحد قولي الشافعي لما ذكرنا في الكثير ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أدوا الخيط والمخيط) ولأنه من الغنيمة ولم يقسم فلم يبح في دار الإسلام كالكثير وكما لو أخذه في دار الإسلام (والثانية) يباح وهو قول مكحول وخالد بن معدان وعطاء الخراساني ومالك والاوزاعي، قال أحمد أهل الشام يتساهلون في هذه وقد روى القاسم بن عبد بن الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة رواه أبو داود وسعيد، وعن عبد الله بن يسار السلمي قال دخلت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم إلى تميراً من تمير الروم فقلت لقد سبقت الناس بهذا؟ قال ليس هذا من العام هذا من العام الأول رواه الأثرم في سننه، وقال الأوزاعي أدركت الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة، وهذا نقل للإجماع ولأنه أبيح إمساكه عن القسمة فأبيح في دار الإسلام كمباحات دار الحرب التي لا قيمة لها فيها ويفارق الكثير لأنه لا يجوز إمساكه عن القسمة ولأن اليسير تجري فيه المسامحة ونفعه قليل بخلاف الكثير

ص: 473

(فصل) وإذا جمعت المغانم وفيها طعام أو علف لم يجز لأحد أخذه إلا للضرورة لأننا إنما أبحنا أخذه قبل جمعه لأنه لم يثبت فيه ملك المسلمين بعد فأشبه المباحات من الحطب والحشيش فإذا جمعت ثبت ملك المسلمين فيها فخرجت عن حيز المباحات وصارت كسائر أملاكهم فلم يجز الأكل منها إلا لضرورة وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه فحينئذ يجوز لأن حفظ نفوسهم ودوابهم أهم وسواء حيزت في دار الحرب أو في دار الإسلام، وقال القاضي يجوز الأكل منها ما كانت في دار الحرب، وإن حيزت لأن دار الحرب مظنة الحاجة لعسر نقل الميرة إليها بخلاف دار الإسلام والأولى أولى لأن ما ثبت عليه أيدي المسلمين وتحقق ملكهم له لا ينبغي أن يؤخذ إلا برضاهم كسائر أملاكهم ولأن

حيازته في دار الحرب تثبت الملك فيه بدليل يجواز قسمته وثبوت أحكام الملك فيه بخلاف ما قبل الحيازة فإن الملك لم يثبت فيه بعد (مسألة)(ومن أخذ سلاحاً فله أن يقاتل به حتى تنقضي الحرب ثم يرده وليس له ركوب الفرس في إحدى الروايتين) إذا دعت الحاجة الى القتال بسلاحهم فلا بأس قال أحمد إذا كان أبلى فيهم أو خاف على نفسه فنعم وذكر ما روي عن عبد الله بن مسعود قال انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله

ص: 474

فقلت الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل فأضربه بسيف معي غير طائل فوقع سيفه من يده فأخذت سيفه فضربته به حتى برد رواه الأثرم ولأنهم أجمعوا على أنه يجوز أن يلتقط النشاب ثم يرمي به العدو وهذا أبلغ من الذي يقاتل بسيف ثم يرده إلى المغنم أو يطعن برمح ثم يرده لأن النشاب يرمي به فلا يرجع إليه والسيف يرده في الغنيمة وفي ركوب الفرس للجهاد عليه روايتان (إحداهما) يجوز كالسلاح (والثانية) لا يجوز لحديث رويفع بن ثابت ولأنها تتعرض للعطب غالباً وقيمتها كثيرة بخلاف السلاح والله تعالى أعلم (باب قسمة الغنائم) الغيمة كل ما أخذ من المشركين قهراً بالقتال واشتقاقها من الغنم وهي الفائدة وخمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين لقول الله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) فأضافها إليهم ثم جعل خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم ثم قال (فكلوا مما غنتم حلالا طيبا) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم كذلك (فصل) ولم تكن الغنائم تحل لمن مضى بدليل قوله عليه السلام (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) فذكر منها (أحلت لي الغنائم) متفق عليه وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 475

(لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس غيركم كانت تنزل نار من السماء تأكلها) متفق عليه ثم كانت في أول

الإسلام لرسول الله بقوله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) ثم صار أربعة أخماسها للغانمين وخمسها لغيرهم لما ذكرنا وقال تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)(مسألة)(وإن أخذ منهم مال مسلم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به، وإن أدركه مقسوماً فهو أحق به بثمنه وعنه لا حق لهم فيه، وإن أخذه منهم أحد الرعية بثمن فصاحبه أحق به بثمنه وإن أخذه بغير عوض فصاحبه أحق به بغير شئ) إذا أخذ الكفار أموال المسلمين ثم أخذها المسلمون منهم قهراً فإن علم صاحبها قبل قسمها ردت إليه بغير شئ في قول عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث والثوري ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري لا يرد إليه وهو للجيش ونحوه عن عمرو بن دينار لأن الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة كسائر أموالهم ولنا ما روى بن عمران غلاماً له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده النبي صلى الله عليه وسلم الى ابن عمر ولم يقسم وعنه قال ذهب فرس له فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رواهما أبو داود وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليه بعد قال من وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم رواه سعيد والاثرم

ص: 476

وكذلك إن علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه فقسمه وجب رده وصاحبه أحق به بغير شئ لأن قسمته كانت باطلة من أصلها فهو كما لو لم يقسم فأما إن أدركه بعد القسم ففيه روايتان (إحداهما) يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن وهذا قول أبي حنيفة والثوري والاوزاعي ومالك لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيراً له كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة) ولأنه إنما امتنع أخذه له بشئ كيلا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري وحقهما ينجبر بالثمن فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع إلا أن المحكي عن مالك وأبي حنيفة أنه يأخذه بالقيمة ونحوه عن مجاهد

(والرواية الثانية أنه لا حق له فيه بعد القسم بحال نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي والليث قال أحمد أما قول من قال فهو أحق به بالقيمة فهو قول ضعيف عن مجاهد وقال الشافعي وابن المنذر يأخذه صاحبه قبل القسمة و؟ ويعطي مشتريه ثمنه من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحق أخذه بغير شئ كما قبل القسمة ويعطي من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان أخذه حقه من الغنيمة وجعل من بهم؟ المصالح لأن هذا منها

ص: 477

ولنا ما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى السائب أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وقال سلمان بن ربيعة إذا قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد في سننه ولأنه إجماع قال أحمد إنما قال الناس فيها قولين إذا اقتسم فلا شئ له وقال قوم إذا اقتسم فهو له بالثمن فأما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك فلم يقله أحد ومتى انقسم أهل العصر على قولين في حكم لم يجز إحداث قول ثالث لمخالفته الإجماع وقد روى أصحابنا عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك ماله قبل أن يقسم فهو له) وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شئ والمعول على ما ذكرنا من الإجماع وقولهم لم يزل ملك صاحبه ممنوع (فصل) فإن أخذه أحد من الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شئ فصاحبه أحق به بغير شئ وقال أبو حنيفة لا يأخذه إلا بقيمة لأنه صار ملكاً لواحد بعينه أشبه ما لو قسم ولنا ما روى أن قوماً أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياماً ثم خرجت في بعض الليل قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن انحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخذها فقلت يا رسول الله إني نذرت إن أنحرها

ص: 478

قال (بئس ما جازيتها لا نذر في معصية الله) وفي رواية (لا نذر فيما لا يملك ابن آدم) أخرجه مسلم

ولأنه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحق به بغير شئ كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه وقال القاضي وما حصل في يده بهبة أو سرقة أو شراء فهو كما لو وجده صاحبه بعد القسمة هل يكون صاحبه أحق به بالقيمة؟ على روايتين ولنا الحديث المذكور وما روى سعيد بإسناده قال أغار أهل ماه وجلولا على العرب فأصابوا شيئاً من سبايا العرب ورقيقاً ومتاعاً ثم أن السائب بن الأكوع عامل عمر غزاهم ففتح ماه فكتب إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب اليه عمر ان المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يخذله فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما انقسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد عليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا يشترى (فصل) وحكم أموال أهل الذمة إذا استولى عليها الكفار ثم قدر عليها حكم أموال المسلمين فيما ذكرنا قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ولأن أموالهم معصومة فأشبهت أموال المسلمين

ص: 479

(فصل) فإن غنم المسلمون من المشركين شيئاً عليه علامة المسلمين ولم يعلم صاحبه فهو غنيمة قال أحمد في مركب يجئ من مصر يقطع عليها الروم فيأخذونها ثم يأخذها المسلمون منهم إن عرف صاحبها فلا يؤكل منها وهذا يدل على جواز الأكل منها إذا لم يعرف صاحبها ونحو هذا قول الثوري والاوزاعي قال في المصحف يحصل في الغنائم يباع وقال الشافعي يوقف حتى يجئ صاحبه وإن وجد شئ موسوم عليه حبس في سبيل الله رد كما كان نص عليه أحمد وبه قال الأوزاعي والشافعي وقال الثوري يقسم ما لم يأت صاحبه ولنا أن هذا قد عرف هذا مصرفه وهو الحبس فهو بمنزلة مالو عرف صاحبه قيل لأحمد فالجواميس تدرك قد ساقها العدو للمسلمين وقد ردت يؤكل منها؟ قال إذا عرف لمن هي فلا يوكل منها قيل فما حازه العدو للمسلمين فأصابه المسلمون أعليهم أن يقفوه حتى يبين صاحبه؟ قال إذا عرف فقيل هذا لفلان وكان صاحبه بالقرب

قيل له أصيب غلام في بلاد الروم فقال أنا لفلان رجل بمصر؟ قال إذا عرف الرجل لم يقسم ورد على صاحبه قيل له أصبنا مركباً في بلاد الروم فيها النواتية قالوا هذا لفلان وهذا لفلان؟ قال هذا قد عرف صاحبه لا يقسم.

(مسألة)(وبذلك الكفار أموال المسلمين بالقهر ذكره القاضي وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد انهم لا يملكونها، وروى عن أحمد في ذلك روايتان) .

ص: 480

(إحداهما) أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر هذا قول مالك وأبي حنيفة.

(والرواية الثانية) لا يملكونها وهو قول الشافعي لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد حيث قال إن أدركه صاحبه قبل القسم فهو أحق به قال إنما منعه أخذه بعد القسمة لأن قسمة الإمام له تجري مجرى الحكم ومتى صادف الحكم أمراً مجتهداً فيه نفذ حكمه ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولأن من لا يملك رقبة غيره بالقهر لا يملك ماله به كالمسلم مع المسلم.

ووجه الأول أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكفار مال المسلم كالبيع، فأما الناقة فإنما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أدركها غير مقسومة ولا مشتراة فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دار الكفر وهو قول مالك، وذكر القاضي أنهم إنما يملكونها بالحيازة إلى دارهم وهو قول أبي حنيفة وحكي عن أحمد في ذلك روايتان: ووجه الأول أن الاستيلاء سبب للملك فيثبت قبل الحيازة إلى الدار كاستيلاء المسلمين على مال الكافر، ولأن ما كان سببا للملك أثبته حيث وجد كالهبة والبيع، وفائدة الخلاف في ثبوت الملك وعدمه أن من أثبت الملك للكافر في أموال المسلمين أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها والتصرف فيها ما لم يعلم صاحبها وأن الكافر إذا أسلم وهي في يده فهو أحق بها، ومن لم يثبت الملك اقتضى مذهبه عكس ذلك، قال الشيخ رحمه الله ولا أعلم خلافاً

ص: 481

في أن الكافر الحربي إذا أسلم أو دخل إلينا بأمان بعد أن استولى على مال مسلم فاتلفه أنه لا يلزمه ضمانه فإن أسلم وهو في يده فهو له بغير خلاف في المذهب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أسلم على شئ فهو له) وإن كان أخذه من المستولى

عليه بهبة أو سرقة أو شراء فكذلك لأنه استولى عليه في حال كفره فأشبه ما لو استولى عليه بقهره المسلم، وعن أحمد أن صاحبه يكون أحق به بالقيمة وإن استولى على جارية مسلم فاستولدها ثم اسلم فهي له وهي أم ولده، نص عليه أحمد لأنها مال فأشبهت سائر الاموال وإن غنمها المسلمون وأولادها قبل إسلام سابيها فعلم صاحبها ردت إليه وكان أولادها غنيمة لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها.

(فصل) وإن استولوا على حر لم يملكوه مسلما كان أو ذمياً، لا نعلم فيه خلافا لأنه لا يضمن بالقيمة ولا تثبت عليه اليد بحال، وإذا قدر المسلمون على أهل الذمة بعد ذلك وجب ردهم إلى ذمتهم ولم يجز استرقاقهم في قول عامة العلماء منهم الشعبي ومالك والليث والاوزاعي والشافعي واسحاق ولا نعلم لهم مخالفا لان ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب نقضها وكلما يضمن بالقيمة كالعروض يملكونه بالقهر وكذلك العبد القن والمدبر والمكاتب وأم الولد، وقال أبو حنيفة لا يملكون المكاتب وأم الود لأنه لا يجوز نقل الملك فيهما فهما كالحر.

ولنا أنهما يضمنان بالقيمة فملكوهما كالقن ويحتمل أن لا يملكوا أم الولد لأنها لا يجوز نقل الملك فيها ولا يثبت فيها لغير سيدها، وفائدة الخلاف أن من قال بثبوت الملك فيهما قال متى قسما أو

ص: 482

اشتراهما انسان لم يكن لسيدهما أخذهما إلا بالثمن قال الزهري في أم الولد يأخذها سيدها بقيمة عدل وقال مالك يفديها الإمام فان لم يفعل يأخذها سيدها بقيمة عدل ولا يدعها يستحل فرجها من لا تحل له، ومن قال لا يثبت الملك فيهما ردا إلى ما كانا عليه على كل حال كالحر وإن اشتراهما انسان فالحكم فيهما كالحكم في الحر إذا اشتراه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

(فصل) وإذا ابق عبد المسلم إلى دار الحرب فأخذوه ملكوه كالدابة وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يملكونه وعن أحمد مثل ذلك لأنه إذا صار في دار الحرب زالت يد مولاه عنه وصار في يد نفسه فلم يملك كالحر.

ولنا أنه مال لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه فإذا أخذوه من دار الحرب ملكوه كالبهيمة (مسألة)(وما أخذوا من دار الحرب من ركاز أو مباح له قيمة فهو غنيمة)

أما الركاز إذا وجده في موضع يقدر عليه بنفسه فهو له كما لو وجده في دار الإسلام فيه الخمس وباقيه له، وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين فهو غنيمة، ونحو هذا قول مالك والاوزاعي والليث وقال الشافعي إن وجده في مواتهم فهو كما لو وجده في دار الإسلام.

ولنا ما روى عاصم بن كليب عن أبي الجوين الحرمي قال لقيت بأرض الروم جرة فيها ذهب في

ص: 483

إمرة معاوية وعلينا معن بن يزيد السلمي فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم ثم قال لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل إلا بعد الخمس لأعطيتك) ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت أخرجه أبو داود ولأنه مال مشترك مظهور عليه بقوة جيش المسلمين فكان غنيمة كأموالهم الظاهرة.

(فصل) ومن وجد في دارهم لقطة فإن كانت من متاع المسلمين فهو كما وجده في غير دار الحرب وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة، وإن احتمل الأمرين عرفها حولا ثم جعلها في الغنيمة نص عليه أحمد، ويعرفها في بلد المسلمين لأنها تحتمل الأمرين فغلب فيها حكم مال المسلمين في التعريف وحكم مال أهل الحرب في كونها غنيمة احتياطاً (فصل) وأما غير الركاز من المباح فما كان له قيمة في دار الحرب كالصيود والحجارة والخشب فالمسلمون شركاؤه فيه وبه قال أبو حنيفة والثوري.

وقال الشافعي ينفرد آخذه بملكه لأنه لو أخذه من دار الإسلام ملكه فكذلك إذا أخذه من دار الحرب كالشئ التافه وهذا قول مكحول والاوزاعي ونقل ذلك عن القاسم وسالم

ص: 484

ولنا أنه مال ذو قيمة مأخوذ من دار الحرب بقوة المسلمين فكان غنيمة كالمطعومات، وفارق ما أخذه من دار الإسلام لأنه لا يحتاج إلى الجيش في أخذه فإن احتاج إلى أكله والانتفاع به فله أكله ولا يرده لأنه لو وجد طعاماً مملوكاً للكافر كان له أكله إذا احتاج إليه فما أخذه من الصيود والمباحات فهو أولى (فصل) فإن أخذ ما لا قيمة له في أرضهم كالمسن والأقلام والأدوية فله أخذه وهو أحق به وإن صارت له قيمة بمعالجته أو نقله نص أحمد رحمه الله على نحو هذا وبه قال مكحول والاوزاعي

والشافعي، وقال الثوري إذا جاء به إلى دار الإسلام رده في المقسم وإن عالجه فصار له ثمن أعطي بقدر علمه فيه وبقيته في المقسم، ولنا أن القيمة إنما صارت له بعمله أو بنقله فلم يكن غنيمة كما لو لم تصر له قيمة (فصل) وإن ترك صاحب المقسم شيئاً من الغنيمة عجزاً عن حمله فقال من أخذ شيئاً فهو له فمن أخذ شيئاً ملكه نص عليه أحمد، وسئل عن قوم غنموا غنائم كثيرة فبقي خرثي المتاع مما لا يباع ولا يشتري فيدعه الوالي بمنزلة الفخار وما أشبه ذلك أيأخذه الإنسان لنفسه؟ قال نعم إذا ترك ولم يشتر ونحو هذا قول مالك، ونقل عنه أبو الخطاب في المتاع لا يقدرون على حمله إذا حمله رجل: يقسم وهذا قول ابراهيم، قال الخلال روى أبو طالب هذه في ثلاثة مواضع في موضع منها وافق أصحابه وفي موضع خالفهم قال ولا اشك أن أبا عبد الله قال هذا أولا ثم تبين له بعد ذلك أن للإمام أن يبيحه وأن يحرمه وإن لهم أن يأخذوه إذا تركه الإمام إذا لم يجد من يحمله لأنه إذا لم يجد من يحمله ولم يقدر على حمله بمنزلة ما لا قيمة له فصار كالذي ذكرناه في الفصل قبل هذا

ص: 485

(مسألة) وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب ويجوز قسمها فيها) والدليل على ثبوت الملك عليها في دار الحرب ثلاثة أمور [أحدها] أن سبب الملك الاستيلاء التام وقد وجد فإن أيدينا قد ثبتت عليها حقيقة وقهرناهم ونفيناهم عنها والاستيلاء يدل على حاجة المستولي فيثبت به الملك كما في المباحات [الثاني] أن ملك الكفار قد زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في الغنيمة ولا ينفذ تصرفهم فيها ولا يزول ملكهم إلى غير مالك إذ ليست في هذه الحال مباحة علم أن ملكهم زال إلى الغانمين [الثالث] أنه لو اسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حراً وهذا يدل على زوال ملك الكافر وثبوت الملك لمن قهره (فصل) وإذا ثبت الملك فيها جازت قسمتها وبهذا قال مالك والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال أصحاب الرأي لا يقسم الا في دار الإسلام لأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء

التام ولا يحصل إلا باحرازها في دار الإسلام فإن قسمت أساء قاسمها وجازت قسمته لأنها مسألة مجتهد فيها فإذا حكم فيها الإمام بما يوافق قول بعض المجتهدين نفذ حكمه ولنا ماروى أبو إسحاق الفزاري قال قلت للاوزاعي هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغنائم بالمدينة؟ قال لا أعلمه إنما كان الناس يبتغون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم ولم يقفل

ص: 486

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه وقسمه من قبل أن يققل، ومن ذلك غزوة بني المصطلق وهوازن وخيبر، ولأن كل دار صحت القسمة فيها جارت كدار الإسلام ولأن الملك ثبت فيها بالقهر بما ذكرنا من الأدلة فصحت قسمتها كما لو أحرزت بدار الإسلام، وبهذا يحصل الجواب عما ذكروه (مسألة)(وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال، قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر وأجرائهم الذين يستعدون للقتال) قوله: وأجرائهم يعني أجراء التجار، وإنما كانت الغنيمة لمن شهد الوقعة وإن لم يقاتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأن غير المقاتل ردء له معين فشاركه كردء المحارب فصل والتاجر والصانع كالخياط والخباز والبيطار ونحوهم يسهم لهم إذا حضروا نص عليه أحمد قال أصحابنا قاتلوا أو لم يقاتلوا وبه قال في التاجر الحسن وابن سيرين والثوري والاوزاعي والشافعي وقال مالك وابو حنيفة لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا، وعن الشافعي لا يسهم لهم بحال

ص: 487

قال القاضي في التاجر والأجير إذا كانا مع المجاهدين وقصدهما الجهاد وإنما معه المتاع أن طلب؟ منه باعه والأجير قصده الجهاد أيضاً فهذان يسهم لهما لأنهما غازيان والصناع بمنزلة التجار متى كانوا مستعدين للقتال ومعهم السلاح فمتى عرض اشتغلوا به أسهم لهم لما ذكرنا من حديث عمر ولأنهم في الجهاد بمنزلة غيرهم وإنما يشتغلون بغيره عند فراغهم منه، وإن لم يكونوا مستعدين للقتال لم يسهم

لهم لأنهم لا نفع في حضورهم أشبهوا المخذل (مسألة)(فأما المريض العاجز عن القتال والمخذل والمرجف والفرس الضعيف العجيف فلا حق له) أما المريض الذي لا يتمكن من القتال فإن خرج بمرضه عن أهلية الجهاد كالزمن والأشل والمفلوج فلا سهم له لأنه لم يبق من أهل الجهاد، وإن لم يخرج بمرضه عن ذلك كالمحموم ومن به الصداع فإنه يسهم له ويعين برأيه وتكثيره ودعائه وكذلك المخذل والمرجف ومن في معناه ممن يدل على عوارات المسلمين وبؤوي جواسيس الكفار ويوقع بينهم العداوة لا يسهم له وإن قاتل لأن ضرره أكثر من نفعه، وكذلك لا يسهم لفرس ينبغي للإمام منعه كالحطم والصدع والأعجف وإن شهد عليه الوقعة وبهذا قال مالك وقال الشافعي يسهم له كما يسهم للمريض ولنا أنه لا ينتفع به فلم يسهم له كالمخذل والمرجف ولأنه حيوان يتعين منعه من الدخول فلم يسهم له كالمرجف وأما المريض فإنه يعين برأيه وتكثيره ودعائه بخلاف الفرس

ص: 488

(مسألة)(وإذا ألحق مدد وهرب أسير فأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم، وإن جاءوا بعد إحراز الغنيمة فلا شئ لهم) وجملة ذلك أن الغنيمة إنما هي لمن شهد الوقعة لما ذكرنا من قول عمر رضي الله عنه لأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب فقد شاركوا الغانمين في السبب فشاركوهم في الاستحقاق كما لو قدموا قبل الحرب فمن تجدد بعد ذلك من مدد يلحق بالمسلمين أو أسير ينفلت من الكفار فيلحق بجيش المسلمين أو كافر يسلم فلا حق له فيها وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في المدد يلحقهم قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام: شاركهم لأن ملكها لا يتم إلا بتمام الاستيلا وهو الإحراز إلى دار الإسلام أو قسمها فمن جاء قبل ذلك فقد أدركها قبل ملكها فاستحق منها كما لو جاء في أثناء الحرب، وإن مات أحد من العسكر قبل ذلك فلا شئ له لما ذكرنا وقد روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد أسهم لمن أتاك قبل أن تتفقا قتلى فارس.

ولنا ما روى أبو هريرة أن أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر

بعد أن فتحها فقال أبان أقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجلس يا أبان) ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وعن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة فكتب في ذلك الى عمر رضي الله عنه فكتب عمر أن الغنيمة لمن شهد الوقعة، رواه سعيد

ص: 489

في سننه وروي نحوه عن عثمان رضي الله عنه في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد تقضي الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة أو بعد إحرازها بدار الإسلام وقولهم إن ملكها باحرازها إلى دار الإسلام ممنوع بل هو بالاستيلاء وقد استولى عليها الجيش قبل المدد وحديث الشعبي مرسل يرويه مجالد وقد تكلم فيه ثم هم لا يعملون به ولا نحن فقد حصل الإجماع على خلافه فكيف يحتج به؟ (فصل) وحكم الأسير يهرب إلى المسلمين حكم المدد سواء قاتل أو لم يقاتل في أنه يستحق من الغنيمة إذا هرب قبل تقضي الحرب، وقال أبو حنيفة لا يسهم له إلا أن يقاتل لأنه لم يأت للقتال بخلاف المدد.

ولنا أن من استحق إذا قاتل إستحق وإن لم يقاتل كالمدد وسائر من حضر الوقعة.

(فصل) فإن لحقهم المدد بعد تقضي الحرب وقبل إحراز الغنيمة أو جاءهم الأسير فظاهر كلام الخرقي أنه يشاركهم لأنه جاء قبل إحرازها، وقال القاضي تملك الغنيمة بانقضاء الحرب قبل حيازتها فعلى هذا لا يسهم لهم، وإن حازوا الغنيمة ثم جاءهم قوم من الكفار يقاتلونهم فأدركهم المدد فقاتلوا معهم فقد قال أحمد إذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدو وجاء المسلمين مدد فقاتلوا العدو معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شئ لهم في الغنيمة لأنهم إنما قاتلوا عن أصحابهم دون الغنيمة لأن الغنيمة قد صارت في أيديهم وحووها قيل له فإن أهل المصيصة غنموا ثم استنقذه منهم العدو فجاء أهل طرسوس فقاتلوا معهم حتى استنقذوه فقال أحب إلي (إلي) أن يصطلحوا، أما في الصورة الأولى فإن الأولين

ص: 490

قد أحرزوا الغنيمة وملكوها بحيازتها فكانت لهم دون من قاتل معهم وأما في الصورة الثانية فإنما حصلت الغنيمة بقتال الذين استنقذوها في المرة الثانية فينبغي أن يشتركوا فيها لأن الإحراز الأول

قد زال باخذ الكفار لها ويحتمل أن الأولين قد ملكوها بالحيازة الأولى ولم يزل ملكهم باخذ الكفار لها منهم فلهذا أحب أحمد أن يصطلحوا على هذا.

(فصل) ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش مثل الرسول والدليل والجاسوس وأشباههم فإنه يسهم له وإن لم يحضر لأنه في مصلحه الجيش أشبه السرية ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش فهؤلاء أولى وبهذا قال أبو بكر بن أبي مريم وراشد بن سعد وعطية بن قيس قالوا وقد تخلف عثمان رضي الله عنه يوم بدر فأجرى له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهماً من الغنيمة ويروى عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يعني يوم بدر فقال (إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له) فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه ولم يضرب لأحد غاب غيره رواه أبو داود وعن ابن عمر قال إنما تغيب عثمان عن بدر لأنه كانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن لك أجر رجل ممن شهد بدار وسهمه) رواه البخاري (فصل) وسئل أحمد عن قوم خلفهم الأمير في بلاد العدو وغزا وغنم ولم يمر بهم فرجعوا هل يسهم لهم؟ قال نعم يسهم لهم لأن الأمير خلفهم قيل له وإن نادى الأمير من كان صبياً فليتخلف فتخلف قوم

ص: 491

فصاروا إلى لؤلؤة وفيها المسلمون فأقاموا حتى فصلوا فقال إذا كانوا قد التجئوا إلى مأمن لهم لم يسهم لهم، ولو تخلفوا وأقاموا في موضع خوف أسهم لهم، وقال في قوم خلفهم الأمير وأغار في جلد الخيل فقال إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع أسهم لهم، وإن رجعوا حتى صاروا إلى مأمنهم فلا شئ لهم قيل له فإن اعتل رجل أو اعتلت دابته وقد أدرب فقال له الأمير أقم أسهم لك أو انصرف إلى أهلك أسهم لك فكرهه وقال هذا ينصرف إلى أهله فكيف يسهم له؟ (مسألة)(وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها) وإن كان فيها مال لمسلم أو لذمي دفع إليه لأن صاحبه متعين ولأنه استحقه بسبب سابق ثم بمؤنة الغنيمة من أجرة النقال والجمال والحافظ والمخزن والحاسب لأنه لمصلحة الغنيمة ثم بالرضخ في أحد الوجهين لانه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة أشبه أجرة النقالين والحافظين في الآخر يبدأ

بالخمس قبله لأنه استحق بحضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين وهذا اقيس وللشافعي قولان كالروايتين (مسألة)(ثم يخمس الباقي فيقسم خمسه على خمسة أسهم سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف مصرف الفئ وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطالب حيث كانوا للذكر مثل حظ الأنثيين غنيهم وفقيرهم فيه سواء وسهم لليتامى الفقراء وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل من المسلمين) لا خلاف بين أهل العلم في أن الغنيمية مخموسة بقوله تعالى (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله

ص: 492

خمسه) الآية لكن اختلف في اشياء منها سلب القاتل والأكثرون على أنه مخموس ومنها إذا قال الإمام من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن طلع الحصن فله كذا والظاهر أن هذا غير مخموس لأنه في معنى السلب وقد ذكرنا الاختلاف في السلب ومنها إذا قال الإمام من أخذ شيئاً فهو له وقلنا بجواز ذلك فقد قيل لا خمس فيه لأنه في معنى ما قبله قال شيخنا والصحيح أن الخمس لا يسقط ههنا لدخوله في عموم الآية وليس هو في معنى السلب والنفل لأن ترك تخميسها لا يسقط خمس الغنيمة بالكلية وهذا يسقطه بالكلية فلا يكون تخصيصاً للآية بل نسخا لحكمها ونسخا بالقياس غير جائز اتفاقاً ومنها إن دخل قوم لا منعه لهم دار الحرب فغنموا بغير إذن الإمام وقد ذكرناه (فصل) والخمس مقسوم على خمسة أسهم كما ذكرنا ههنا وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي وقتادة وابن جريج والشافعي وقيل يقسم على ستة أسهم سهم لله تعالى وسهم لرسوله لظاهر قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فعد ستة وجعل الله تعالى لنفسه سهما سادساً وهو مردود على عباد الله أهل الحاجة، وقال أبو العالية سهم الله عزوجل هو أنه إذا عزل الخمس ضرب بيده فيه فما قبض عليه من شئ جعله للكعبة فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصبيا فإن لله الدنيا والآخرة ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة أسهم وروي عن الحسن وقتادة في سهم ذوي القربى: كانت طعمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله وروى ابن عباس أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قسما الخمس على ثلاثة أسهم وهو قول أصحاب الرأي قالوا يقسم الخمس على ثلاثة اليتامى والمساكين وابن السبيل

ص: 493

واسقطوا سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته وسهم قرابته أيضا وقال مالك الفيئ والخمس واحد يجعلان في بيت المال قال ابن القاسم وبلغني عن من أثق به أن مالكاً قال يعطي الإمام أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى وقال الثوروي الخمس يضعه الإمام حيث أراه الله ولنا قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) وسهم الله والرسول واحد كذا قال عطاء والشعبي، وقال الحسن بن محمد ابن الحنيفة وغيره قوله (فأن لله خمسه) افتتاح كلام يعني أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام باسمه تبركا به لا لافراده بسهم فإن لله تعالى الدنيا والآخرة وقد روي عن ابن عمر وابن عباس قالا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة، وما ذكره أبو العالية فشئ لا يدل عليه رأي ولا يقتضيه قياس فلا يصار إليه إلا بنص صحيح ولا نعلم في ذلك أثراً صحيحاً سوى قوله، فلا يترك له ظاهر النص وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله من أجل قول أبي العالية، وما قاله أبو حنيفة فمخالف لظاهر الآية فإن الله تعالى سمى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس حقاً كما سمى الثلاثة الأصناف الباقية فمن خالف ذلك فقد خالف نص الكتاب، وأما حمل ابي بكر وعمر رضي الله عنهما سهم ذي القربى في سبيل الله فقد ذكر لأحمد فسكت ولم يذهب إليه ورأى أن قول ابن عباس ومن وافقه أولى لموافقته كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم فإن ابن عباس لما سئل عن سهم ذي القربى فقال إنا كنا نزعم أنه لنا فأبى ذلك علينا قومنا، ولعله أراد

ص: 494

بقوله أبى ذلك علينا قومنا فعل ابي بكر وعمر في حملهما عليه في سبيل الله ومن تبعهما على ذلك، ومتى اختلف الصحابة وكان قول بعضهم يوافق الكتاب والسنة كان أولى وقول ابن عباس موافق للكتاب والسنة فإن جبير بن مطعم روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً كما كان يقسم لبني هاشم وبني المطلب، وإن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يعطيهم وكان عمر يعطيهم

وعثمان من بعده، رواه أحمد في مسنده وقد تكلم في رواية ابن عباس عن أبي بكر وعمر أنهما حملا على سهم ذي القربى في سبيل الله فقيل إنه يرويه محمد بن مروان وهو ضعيف عن الكلبي وهو ضعيف أيضاً ولا يصح عند أهل النقل فإن قالوا فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بباق فكيف يبقى سهمه؟ قلنا جهة صرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة المسلمين والمصالح باقية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يحل لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس وهو مردود عليكم) رواه سعيد (فصل) فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في مصالح المسلمين لما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول بيده وبرة من بعير ثم قال (والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم من سد الثغور

ص: 495

وكفاية أهلها وشراء الكراع والسلاح ثم الأهم فالأهم على ما نذكره في الفيئ إن شاء الله تعالى ونحوه قول الشافعي فإنه قال أختار أن يضعه الإمام في كل أمر خص به الإسلام وأهله من سد ثغر وإعداد كراع وسلاح وإعطائه أهل البلاء في الإسلام نفلا عند الحرب وغير الحرب وعن أحمد أن سهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم يختص بأهل الديوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحقه بحصول النصرة فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة، وعنه أنه يصرف في الكراع والسلاح لأن ذلك يروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا السهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة حضر أو لم يحضر كما ان بقية أصحاب الخمس يستحقون وان لم يحضروا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء فلما توفي وليه أبو بكر ولم يسقط بموته، وقد قيل إنما أضافه الله تعالى إلى نفسه وإلى رسوله ليعلم أن جهته جهة المصلحة وانه ليس بمختص بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسقط بموته وقد زعم قوم أنه سقط بموته ويرد على الانصباء الباقية من الخمس لأنهم شركاؤه، وقال آخرون بل يرد على الغانمين لأنهم استحلوها بقتالهم وحرمت منها سهام منها سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام حياً فلما مات وجب رده إلى من وجد فيه سبب الاستحقاق كما أن تركه الميت إذا خرج منها سهم بوصية ثم بطلت الوصية رد إلى التركة،

وقالت طائفة هو للخليفة بعده لأن أبا بكر رضي الله عنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أطعم الله نبياً طعمة ثم قبضه فهي للذي يقوم بها من بعده وقد رأيت أن أرده على المسلمين) والصحيح أنه باق وأنه يصرف في مصالح المسلمين لكن الإمام يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في صرفه فيما يرى فإن أبا بكر

ص: 496

قال لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته، متفق عليه، واتفق هو وعمر والصحابة رضي الله عنهم على وضعه في الخيل والعدة في سببل الله، هكذا روي عن الحسن بن محمد بن الحنفية (فصل) وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المغنم الصفي وهو شئ يخناره من المغنم قبل القسمة كالجارية والعبد والثوب والسيف ونحوه هذا قول محمد بن سيرين والشعبي وقتادة وغيرهم من أهل العلم وقال أكثرهم إن ذلك انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد الصفي إنما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصاً لم يبق بعده لا نعلم مخالفاً لهذا إلا أبا ثور فإنه قال كان الصفي ثابتاً للنبي صلى الله عليه وسلم فللامام أن يأخذه على نحو ماكان يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس فجمع بين الشك فيه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة الإجماع في ابقائه بعد موته، قال إبن المنذر لا أعلم أحداً سبق أبا ثور إلى هذا القول وقد أنكر قوم كون الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم واحتجوا بحديث جبير بن مطعم وقد روى أبو داود بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ولأن الله تعالى قال (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) فمفهومه إن باقيها للغانمين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى بني زهير بن قيس (إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم الصفي إنكم آمنون بأمان الله ورسوله)) رواه

ص: 497

أبو داود، وفي حديث وفد عبد القبيس (عبد القيس) الذي رواه ابن عباس (وإن تعطوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي) وقالت عائشة رضي الله عنها كانت صفية من الصفي رواه أبو داود، وأما انقطاعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فثابت بإجماع الأمة قبل أبي ثور وبعده وكون الخلفاء الراشدين ومن بعدهم لم يأخذوه ولا يجمعون الاعلى الحق (فصل)(والسهم الثاني) لذي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب حيث كانوا غنيهم وفقيرهم

فيه سواء للذكر مثل حظ الأنثيين وسهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه وقد دل عليه ماروى جبيربن مطعم قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وذكر الحديث وهو حديث صحيح رواه أبو داود ولم يأت لذلك نسخ ولا تغيير فوجب القول به والعمل بحكمه (فصل) وهم بنو هاشم وبنو المطلب ابنا عبد مناف دون غيرهم لما روى جبير بن مطعم قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من حنين بين بني هاشم وبني المطلب أتيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا يارسول الله أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال (إنهم لم يفارقوني في

ص: 498

جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه رواه أحمد وروى البخاري فراعى لهم النبي صلى الله عليه وسلم نصرتهم وموافقتهم بني هاشم، ولا يستحق من كانت أمه منهم وأبوه من غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفع إلى أقارب أمه وهو بنو زهرة شيئاً ولم يدفع أيضاً إلى بني عماته كالزبير بن العوام وعبد الله بن جحش ونحوهم (فصل) ويستوي فيه الذكر والأنثى لدخولهم في اسم القرابة واختلفت الرواية في قسمه بينهم فعن أحمد أنه يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين هذا اختيار الخرقي ومذهب الشافعي لأنه سهم استحق بالقرابة من الأب شرعاً ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث ويفارق الوصية وولد الأم لأن الوصية استحقت بقول الموصي وولد الأم استحقوا الميراث بقرابة الأم وعنه أنه يساوي بين الذكر والأنثى وهو قول أبي ثور والمزني وابن المنذر لأنهم أعطوا باسم القرابة والذكر والأنثى فيها سواء فاشبه مالو وقف على قرابة فلان الا ترى أن الجد يأخذ مع الأب وابن الأب يأخذ مع الابن وهذا يدل على مخالفة المواريث ولأنه سهم من خمس الخمس لجماعة فاستوى فيه الذكر والأنثى كسهم اليتامى ويسوى بين الصغير والكبير على الروايتين لاستوائهم في القرابة وقياساً على الميراث (فصل) ويفرق فيهم حيث كانوا ويجب تعميمهم به حسب الإمكان وهذا قول الشافعي وقال

قوم يختص كل أهل ناحية بخمس مغزاها الذي ليس لهم مغزى سواه فما يوجد من مغزى الروم لأهل الشام والعراق وما يوجد من مغزى الترك لمن في خراسان من ذوي القربى لما يلحق من المشقة في نقله ولأنه بتعذر تعميمهم فلم يجب كأصناف الزكاة ووجه الأول أنه سهم مستحق بقرابة الأب فوجب

ص: 499

دفعه إلى كل المستحقين كالميراث فعلى هذا يبعث الإمام إلى عماله في الأقاليم وينظر كم حصل من ذلك فإن استوت فيه فرق كل خمس خمس فيمن قاربه وإن اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه كالميراث وفارق الصدقة حيث لا تنقل لأن كل بلد لا يكاد يخلو من صدقة تفرق على فقراء أهله والخمس يوجد في بعض الأقاليم فلو لم ينقل لأدى إلى إعطاء البعض وحرمان البعض قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أنه لا يجب التعميم لأنه يتعذر فلم يجب كتعميم المساكين وما ذكر من بعث الإمام عماله فهو متعذر في زماننا لأن الإمام لم يبق له حكم إلا في بعض بلاد الإسلام ولم يبق له جهة في الغزو ولا له فيه أمر ولان هذا سهم من سهام الخمس فلم يجب تعميمه كسائر سهامه فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده (فصل) ويستوي فيه غنيهم وفقيرهم، وهذا قول الشافعي وأبي ثور.

وقيل يختص بالفقير كبقية السهام.

ولنا عموم قوله تعالى (ولذي القربى) وهو عام لا يجوز تخصيصه بغير دليل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه كلهم وفيهم الغني كالعباس وغيره ولم ينقل عنه تخصيص الفقراء منهم ولأنه مال مستحق بالقرابة فاستوى فيه الغني والفقير كالميراث والوصية للأقارب ولأن عثمان وجبيراً طلبا حقهما وسألا عن علة المنع لهما ولأقاربهما وهما موسران فعلله النبي صلى الله عليه وسلم بنصرة بني المطلب دونهم

ص: 500

وكونهم مع بني هاشم كالشئ الواحد ولو كان اليسار مانعا والفقر شرطاً لم يطلبا مع عدمه ولعل النبي صلى الله عليه وسلم منعهما بيسارهما وانتفاء فقرهما (فصل) والسهم الثالث لليتامى واليتيم الذي لا أب له ولم يبلغ الحلم لقول النبي (لايتم بعد

احتلام) قال بعض أصحابنا لا يستحقون إلا مع الفقر وهو المشهور من مذهب الشافعي لأن ذا الأب لا يستحق والمال أنفع من وجود الأب، ولأنه صرف إليهم لحاجتهم فإن اسم اليتيم يطلق عليهم في العرف للرحمة ومن كان اعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة وفارق ذوي القربى فإنهم استحقوا لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة لهم والغني والفقير في القرب سواء فاستويا في الاستحقاق.

قال شيخنا: ولم أعلم هذا نصاً عن أحمد والآية تقتضي تعميمهم وقال بعض أصحاب الشافعي له قول آحر أنه للغني والفقير لعموم النص في كل يتيم ولأنه لو خص به الفقير لكان داخلاً في جملة المساكين الذين هم أصحاب السهم الرابع وكان يستغني عن ذكرهم وتسميتهم، وقال أصحابنا ويفرقه الإمام في جميع الأقطار ولا يختص به أهل ذلك المغزى، والقول فيه كالقول في سهم ذي القربى وقد تقدم القول فيه:(فصل) والسهم الرابع للمساكين للآية وهم أهل الحاجة فيدخل فيهم الفقراء فالفقراء والمساكين صنفان في الزكاة وصنف واحد ههنا وفي سائر الأحكام وإنما يقع التميز بينهما إذا جمع بينهما بلفظين ولم يرد ذلك إلا في الزكاة، وقد ذكرناهم في اصنافها.

قال أصحابنا: ويعم بها جميعهم في جميع

ص: 501

البلاد كقولهم في سهم ذي القربى واليتامى وقد تقدم القول في ذلك ولأن تعميمهم يتعذر فلم يجب كما لا يجب تعميمهم في الزكاة (فصل) والسهم الخامس لأبناء السبيل وقد ذكرناه في الزكاة ويعطي كل واحد منهم قدر ما يصل به إلى بلده كما ذكرنا في الزكاة فإن اجتمع في واحد اسباب كالمسكين واليتيم وابن السبيل استحق بكل واحد منهما لأنها اسباب لأحكام فوجب أن تثبت أحكامها كما لو انفردت، فإن أعطاه ليتمه فزال فقره لم يعط لفقره شيئاً (فصل) ولا حق في الخمس لكافر لانه عطية من الله تعالى فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة ولا لعبد لأن ما يعطاه لسيده فكانت العطية لسيده دونه (مسألة)(ثم يعطي النفل بعد ذلك)

لأنه حق ينفرد به بعض الغانمين فقدم على القسمة كالاسلاب والنفل من أربعة أخماس الغنيمة وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى (مسألة)(ويرضخ لمن لا سهم له وهم العبيد والنساء والصبيان) ومعنى الرضخ أن يعطوا شيئاً من الغنيمة دون السهم ولا تقدير لما يعطونه بل ذلك إلى اجتهاد الإمام فإن رأي التسوية بينهم سوى، وإن رأى التفضيل فضل وهذا قول أكثر العلماء منهم سعيد ابن المسيب والثوري والليث واسحاق والشافعي وبه قال مالك في المرأة والعبد وروي عن ابن عباس

ص: 502

وقال أبو ثور يسهم للعبد، وروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن والنخعي لما روي عن الأسود بن يزيد أنه شهد فتح القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم ولأن حرمه العبد في الدين كحرمة الحر وفيه من الغناء مثل ما فيه فوجب أن يسهم له كالحر وحكي عن الأوزاعي ليس للعبيد سهم ولا رضخ إلا أن يجيئوا بغنيمة أو يكون لهم غناء فيرضخ لهم قال ويسهم للمرأة لما روى جبير بن زياد عن جدته أنها حضرت فتح خيبر قالت فأسهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسهم للرجال وأسهم أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه، وقال أبو بكر بن أبي مريم أسهم للنساء يوم اليرموك، وروى سعيد بإسناده عن ابن شبل أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لسهلة بنت عاصم يوم حنين فقال رجل من القوم أعطيت سهلة مثل سهمي.

ولنا ماروى ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن رواه مسلم، وروى سعيد عن يزيد بن هارون أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من الغنيمة شئ؟ وفي رواية ليس لهما سهم وقد يرضخ لهما وعن عمير مولى أبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أبي مملوك فأمر لي بشئ من خرثي المتاع رواه أبو داود واحتج به أحمد ولانهما ليسا من أهل وجوب القتال أشبها الصبي فأما ما روي في سهام النساء فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل أن في حديث حشرج أنه جعل لهن نصيباً تمراً ولو كان سهما ما اختص التمر ولأن خيبر قسمت على أهل

ص: 503

الحديبية نفر مخصوصين في غير حديثها ولم يذكرن منهم ويحتمل أنه أسهم لهن مثل سهم الرجال من التمر خاصة أو من المتاع دون الأرض وأما حديث سهلة فإن في الحديث أنها ولدت فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لها ولولدها فبلغ رضخهما سهم رجل ولذلك عجب الرجل فقال أعطيت سهلة مثل سهمي ولو كان هذا مشهورا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما عجب منه (فصل) والمدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد فمن عتق منهم قبل تقضي الحرب أسهم له وكذلك إن قتل سيد المدبر قبل تقضي الحرب فخرج من الثلث فأما من بعضه حر فقال أبو بكر يرضخ له بقدر ما فيه من الرق ويسهم له بقدر ما فيه من الحرية فإذا كان نصفه حرا أعطي نصف سهم ونصف رضخ لأن هذا مما يمكن تبعيضه فقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق كالميراث وظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له لأنه ليس من أهل وجوب القتال فأشبه الرقيق (فصل) والخنثى المشكل يرضخ له لأنه لم يثبت أنه رجل فيسهم له ولأنه ليس من أهل وجوب الجهاد فأشبه المرأة ويحتمل أن يقسم له نصف سهم ونصف الرضخ كالميراث فإن انكشف حالة فتبين أنه رجل أتم له سهم رجل سواء انكشف قبل تقضي الحرب أو بعد أو قبل القسمة أو بعدها لأنا تبينا أنه كان مستحقاً للسهم وأنه أعطي دون حقه قأشبه مالو أعطى بعض الرجال دون حقه غلطاً (فصل) والصبي يرضخ له وبه قال الثوري والليث وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وعن القاسم في الصبي يغزو أنه ليس له شئ وقال مالك يسهم له إذا قاتل وأطاق ذلك ومثله قد بلغ القتال لأنه حر

ص: 504

ذكر مقاتل فيسهم له كالرجل وقال الأوزاعي يسهم له وقال أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب وروى الجوزجاني بإسناده عن الوضين بن عطاء قال حدثتني جدتي قالت كنت مع حبيب بن سلمة وكان يسهم لأمهات الأولاد لما في بطونهن ولنا ما روى عن سعيد بن المسيب قال كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة وروى الجوزجاني بإسناده أن تميم بن قرع المهري كان في الجيش الذي فتح

الاسكندرية في المرة الأخيرة قال فلم يقسم لي عمرو من الفئ شيئاً وقال غلام لم يحتلم حتى كاد يكون بين قومي وبين أناس من قريش لذلك ثائرة فقال بعض القوم فيكم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسألوهم فسألوا أبا نضرة الغفاري وعقبة بن عامر فقالوا انظروا فإن كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إلي بعض القوم فإذا أنا قد انبت فقسم لي قال الجوزجاني هذا من مشاهير حديث مضر وجيدة ولأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالعبد ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لصبي بل كان لا يجيزهم في القتال قال ابن عمر عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني وما ذكروه يحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل ما ذكرناه (فصل) فان انفرد بالغنيمة من لا يسهم له مثل عبيد دخلوا دار الحرب فغنموا أو صبيان أو

ص: 505

عبيد وصبيان أخذ خمسه وما بقي لهم فيحتمل أن يقسم بينهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأنهم تساووا فاشبهوا الرجال الأحرار ويحتمل أن يقسم بينهم على ما يراه الإمام من المفاضلة لأنه لا تجب التسوية بينهم مع غيرهم فلا تجب مع الانفراد قياساً لاحدى الحالتين على الأخرى، وإن كان فيهم رجل حر أعطي سهما وفضل عليهم بقدر ما يفضل الأحرار على العبيد والصبيان في غير هذا الموضع ويقسم الباقي بين من بقي على ما يراه الإمام من التفضيل لان فيهم من له سهم بخلاف التي قبلها (مسألة)(وفي الكافر روايتان إحداهما يرضخ له والأخرى يسهم له) اختلفت الرواية في الكافر يغزو مع الإمام بإذنه فروي عن أحمد أنه يسهم له كالمسلم وبهذا قال الزهري والاوزاعي والثوري واسحاق قال الجوزجاني هذا قول أهل الثغور وأهل العلم بالصوائف والبعوث وعن أحمد لا يسهم له وهو مذهب مالك وابي حنيفة والشافعي لأنه من غير أهل الجهاد فلم يسهم له ولكن يرضخ له كالعبد ولنا ماروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم رواه سعيد في سننه وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة ولأن الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق وبهذا فارق

العبد فإن نقصه في دنياه وأحكامه، وإن غزا بغير إذن الإمام فلا سهم له لأنه غير مأمون على الدين فهو كالمرجف وشر منه وإن غزا جماعة من الكفار وحدهم فغنموا احتمل أن تكون غنيمتهم لهم لا خمس

ص: 506

فيها لأن هذا اكتساب مباح لم يوجد على وجه الجهاد فكان لهم لا خمس فيه كالاحتشاش والاحتطاب ويحتمل أن يؤخذ خمسة والباقي لهم لائه غنيمة قوم من أهل دار الاسلام فاشبهت غنيمة المسلمين (مسألة)(ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا للفارس سهم فارس) كما لا يبلغ بالتعزير الحد ولا بالحكومة دية العضو، ويقسم الإمام بين أهل الرضخ كما يرى فيفضل العبد المقاتل ذو البأس على من ليس مثله ويفضل المرأة المقاتلة والتي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتنفع على غيرها، فإن قيل هلا سويتم بينهم كما سويتم بين أهل السهمان؟ قلنا السهم منصوص عليه غير موكول إلى الاجتهاد فلم يختلف كالحد ودية الحر، والرضخ غير مقدر بل هو مجتهد فيه مردود إلى اجتهاد الإمام فاختلف كالتعزير وقيمة العبد والرضخ بعد الخمس في أحد الوجهين، وفيه وجه آخر أنه من أصل الغنيمة وقد ذكرناه (مسألة) (فإن تغيرت حالهم قبل تقضي الحرب أسهم لهم) يعني إن بلغ الصبي أو عتق العبد أو أسلم الكافر أسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة وهم من أهل القتال فأسهم لهم كغيرهم ولقول عمر رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة (مسألة)(وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم لفرس ورضخ للعبد) أما الرضخ للعبد فلما تقدم.

وأما الفرس الذي تحته فيستحق مالكها سهمها، فإن كان معه فرسان

ص: 507

أو أكثر أسهم لفرسين كما لو كانتا مع السيد.

ويرضخ للعبد نص على هذا أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كان تحت مخذل ولنا أنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فأسهم له كما لو كان السيد راكبه.

إذا ثبت هذا فإن سهم الفرس ورضخ العبد لسيده لأنه مالكه ومالك فرسه وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه،

وفارق فرس المخذل لأن الفرس له فإذا لم يستحق شيئاً بحضوره فلأن لا يستحق بحضور فرسه أولى (فصل) فإن غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر إذا قلنا لا يسهم له لم يسهم للفرس في ظاهر قول أصحابنا لأنهم قالوا لا يبلغ بالرضخ للفرس سهم فارس وظاهر هذا أنه يرضخ له ولفرسه ما لم يبلغ سهم الفارس، ولأن سهم الفرس له فإذا لم يستحق السهم بحضوره فبفرسه أولى بخلاف العبد فإن الفرس لغيره (فصل) وإن غزا المخذل أو المرجف على فرس فلا شئ له ولا للفرس لما ذكرنا، وإن غزا العبد بغير إذن سيده لم يرضخ له لأنه عاص بغزوه فهو كالمخذل والمرجف، وإن غزا الرجل بغير إذن والدية أو بغير إذن غريمه استحق السهم لأن الجهاد تعين عليه بحضور الصف فلا يبقى عاصياً به بخلاف العبد (فصل) ومن استعار فرساً ليغزو عليه فسهم الفرس للمستعير وبهذا قال الشافعي لأنه متمكن

ص: 508

من الغزو عليه بإذن صحيح شرعي أشبه مالو استأجره وعن أحمد أن سهم الفرس لمالكه لأنه من نمائه فأشبه ولده وبهذا قال بعض الحنفية، وقال بعضهم لا سهم للفرس لأن مالكه لم يستحق سهما فلم يستحق الفرس شيئاً كالمخذل والمرجف، والأول أصح لأنه فرس قاتل عليه من يستحق سهما وهو مالك نفعه فاستحق سهم الفرس كالمستأجر ولأن سهم الفرس مستحق بمنفعته وهي للمستعير بإذن المالك فيها، وفارق النماء فإنه غير مأذون فيه، فأما إن استعاره لغير الغزو ثم غزا عليه فهو كالفرس المغصوب عليه ما سنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) فإن استأجر فرساً للغزو فغزا عليه فسهم الفرس له، لا نعلم فيه خلافاً لأنه مستحق لنفعه استحقاقاً لازماً أشبه المالك وإن كان المستأجر والمستعير ممن لا سهم له إما لكونه لا شئ له كالمخذل والمرجف أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه على ما ذكرنا، وإن غزا على فرس حبيس فسهم الفرس له كما لو استأجره (فصل) ينبغي أن يقدم قسم اربعة الأخماس على قسم الخمس لأن أهلها حاضرون وأهل الخمس غائبون ولأن رجوع الغانمين إلى أوطانهم يقف على قسمه الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم، ولأن

الغنيمة حصلت بتحصيل الغانمين وتعبهم وأهل الخمس بخلاف ذلك فكان الغانمون أولى بالتقديم، ولأن الغنيمة إذا قسمت بين الغانمين أخذ كل واحد نصيبه فكفي الإمام همه ومؤنته بخلاف الخمس

ص: 509

فإن الإمام لا يكتفي مؤنته بقسمه فلا تحصل الفائدة به، ولأن الخمس لا يمكن قسمه بين أهله كلهم لأنه يحتاج إلى معرفتهم وعددهم ولا يمكن ذلك مع غيبتهم، ولأن الغانمين ينتفعون بسهامهم ويتمكنون من التصرف فيها والله تعالى أعلم (مسألة)(ثم يقسم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه) أجمع أهل العلم على أن للغانمين أربعة أخماس الغنيمة، وقد دل النص على ذلك بقوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) يفهم منه أن أربعة أخماسها الباقية لهم لأنه أضافها إليهم ثم أخذ منها سهما لغيرهم فبقي سائرها لهم كقوله تعالى (وورثه أبواه فلأمه الثلث) ففهم منه أن الباقي للأب وقال عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة (فصل)(ويقسم بينهم للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه) هذا قول أكثر أهل العلم أن الغنيمة تقسم للفارس ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان وللراجل سهم، قال إبن المنذر هذا مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعوام علماء الإسلام قي القديم والحديث منهم مالك ومن تبعه من أهل المدينة والثوري ومن وافقه من أهل العراق والليث ومن تبعه من أهل مصر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة للفرس سهم واحد لما روى مجمع بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس

ص: 510

سهمين وأعطى الراجل سهما، رواه أبو داود ولأنه حيوان ذو سهم فلم يزد على سهم كالآدمي ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه وسهم له متفق عليه وعن أبي رهم وأخيه أنهما كانا فارسين يوم خيبر فأعطيا ستة أسهم أربعة أسهم لفرسيهما وسهمين لهما رواه سعيد بن منصور وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس ثلاثة

أسهم وأعطى الرجال سهما وقال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم هكذا للفرس سهمين ولصاحبه سهما وللراجل سهما، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: أما بعد فإن سهمان الخيل فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين للفرس وسهما للراجل ولعمري لقد كان حديثا ما أشعر أن أحداً من المسلمين هم بانتقاص ذلك والسلام عليك رواهما سعيد والاثرم وهذا يدل على ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وأنه أجمع عليه فلا يعول على ما خالفه، فأما حديث مجمع فيحتمل أنه أراد أعطى الفارس سهمين لفرسه وأعطى الراجل سهما يعني صاحبه فيكون ثلاثة أسهم على أن حديث ابن عمر أصح منه وقد وافقه حديث أبي رهم وأخيه وابن عباس وهؤلاء أحفظ وأعلم وابن عمر وأبورهم وأخوه ممن شهدوا وأخذوا السهمان وأخبروا عن أنفسهم فلا يعارض ذلك بخبر شاذ تعين غلطه أو حمله على ما ذكرنا وقياس الفرس على الآدمي لا يصح لأن أثرها في الحرب أكثر وكلفتها أعظم فينبغي أن يكون سهما أكثر

ص: 511

(مسألة)(إلا أن يكون فرسه هجينا أو برذونا فيكون له سهم وعنه له سهمان كالعربي) الهجين الذي أبوه عربي وأمه برذونه والعربي بالعكس قالت هند بنت النعمان ابن (1) بشير وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغسل فإن ولدت مهراً كريماً فبالحري وإن يك أقراف فما اتجب الفحل وقد حكي عن أحمد أنه قال الهجين البرذون واختلفت الرواية عنه في سهمانها فقال الخلال تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر والخرقي وهو قول الحسن، قال الخلال وروى عنه ثلاثة منقطعون أنه يسهم للبرذون سهم العربي اختاره الخلال وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي والثوري لأن الله تعالى قال (والخيل والبغال) وهذا من الخيل، ولأن الرواة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وهذا عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي وحكى أبو بكر عن أحمد رواية ثالثة ان البرازين إن أدركت إدراك العراب أسهم لها سهم العربي وإلا فلا وهذا قول ابن أبي شيبة وابن

ابي خثيمة وأبي ايوب ولجوزجاني لأنها من الخيل وقد عملت عمل العراب فأعطيت سهما كالعربي وحكي القاضي رواية رابعة أنها لا سهم لها وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه حيوان لا يعمل عمل الخيل العراب فأشبه البغال ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب إنا وجدنا بالعراق خيلا عرابا دكنا فما

(1) لعله ابن المنذر

ص: 512

ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها؟ فكتب إليه تلك البراذين بما قارب العتاق منها فاجعل له سهما واحداً وألغ ما سوى ذلك ووجه الأولى ما روى سعيد بإسناده عن أبي الأقمر قال أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن صحي الغدو على الخيل رجل من همدان يقال له المنذر ابن أبي حميضة فقال لا أجعل الذي أدرك من يومه مثل الذي لم يدرك ففضل الخيل العراب فقال عمر هبلت الوادعي أمه أمضوها على ما قال ولم يعرف عن الصحابة خلاف هذا القول وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما رواه سعيد ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أكثر فيكون سهمه أرجح كتفاضل من يرضخ له وأما قولهم إنه من الخيل قلنا الخيل في أنفسها تتفاضل فتتفاضل سهامها وقولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفرس سهمين من غير تفريق قلنا هذه قضية في عين لا عموم لها فيحتمل أنه لم يكن فيها برذون وهو الظاهر فإنها من خيل العرب ولا براذين فيها ويدل على صحة ذلك أنهم لما وجدوا البراذين في العراق أشكل عليهم أمرها وإن عمر فرض لها سهماً واحداً وأمضى ما قال المنذر بن أبي حميضة في تفضيل العراب عليها ولو خالفه لما سكت الصحابة عن انكاره عليه سيما وابنه هو راوي الخبر فكيف يخفى عليه ذلك؟ ويحتمل أنه فضل العراب فلم يذكر الرواي ذلك لغلبة العراب وقلة البراذين وقد دل على ذلك التأويل خبر مكحول الذي رويناه

ص: 513

وقياسها على الآدمي لا يصح لأن العربي منهم لا أثر له في الحرب زيادة على غيره بخلاف العربي من الخيل فإنه يفضل على غيره والله أعلم

(فصل) ويعطى الراجل سهما بغير خلاف لما ذكرنا من الأخبار ولأن الراجل لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفارس من النفقة ولا يغني كغنائة فاقتضى ان ينقص سهمه عن سهمه وسواء كانت الغنيمة من فتح مدينة أو حصن وبه قال الشافعي وقال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي عن إسهام الخيل من غنائم الحصون فقال كانت الولاة قبل عمر بن عبد العزيز لا يسهمون للخيل من الحصون ويجعلون الناس كلهم رجالة حتى ولي عمر فأنكر ذلك وأمر باسهام الخيل من الحصون والمدائن ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر ففضل الفارس وهي حصون ولأن الخيل ربما احتيح إليها إن خرج أهلا الحصن ويلزم صاحبه مؤنة له فأشبه الغنيمة من غير الحصن (مسألة)(ولا يسهم لأكثر من فرسين) .

يعني إذا كان مع الرجل خيل أسهم لفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهما ولم يزد على ذلك، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها فلم يسهم لما زاد عليها كالزائد على الفرسين.

ولنا ما روى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين

ص: 514

وإن كانت معه عشرة أفراس، وعن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح إن يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهما فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهي جنائب رواهما سعيد ولأن به إلى الثاني حاجة فإن إدامة ركوب واحد تضعفه وتمنع القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث فإنه مستغنى عنه.

(مسألة)(ولا يسهم لغير الخيل، وقال الخرقي من غزا على بعير لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان) .

أما ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة وغيرها فلا سهم لها وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل، وذكر القاضي أن الفيلة حكمها حكم الهجين لها سهم ذكره في الأحكام السلطانية والأول أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لها ولا أحد من خلفائه ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم

يسهم لها كالبقر، وأما الابل فقدروي عن أحمد أنه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره وحكي نحو هذا عن الحسن لأن الله تعالى قال (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) ولأنه خيل تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس.

يحققه أن تجويز المسابقة بعوض إنما أبيح في ثلاثة أشياء دون غيرها لأنها آلات الجهاد فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها تحريضاً على رباطها وتعلم الاتقان فيها، وروى عن أحمد مثل ما ذكر الخرقي وظاهر ذلك أن لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو

ص: 515

على فرس إذا ثبت ذلك فلا يزاد على سهم البرذون لأنه دونه ولا يسهم له إلا أن يشهد الوقعة عليه ويكون مما يمكن القتال عليه فأما هذه الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا تستحق شيئاً لأن راكبها لا يكر ولا يفر فهو أدنى حالا من الراجل، واختار أبو الخطاب أنه لا سهم له وهو قول الأكثرين قال إبن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل كذلك قال الحسن ومكحول والثوري والشافعي وأصحاب الراي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً ولم تخل غزوة من غزواته من الابل بل هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل أنه أسهم لها ولو اسهم لها لنقل وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ولو أسهم لم يخف ذلك ولأنه لا يمكن صاحبه الكر والفر فلم يسهم له كالبغل.

(مسألة)(ومن دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرسا أو استعاره أو أستأجره فشهد به الوقعة فله سهم فارس ومن دخل فارسا فنفق فرسه أو شرد حتى تقضي الحرب فله سهم راجل) .

قال أحمد أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان راجلا فراجل لأن عمر رضي الله عنه قال الغنيمة لمن شهد الوقعة، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وابو ثور وإسحاق ونحوه قال ابن عمر وقال أبو حنيفة الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل

ص: 516

فارسا فله سهم فارس وإن نفق فرسه قبل القتال وإن دخل راجلا فله سهم الرجال وإن استفاد فرسا

فقاتل عليه وعنه رواية أخرى كقولنا قال أحمد كان سليمان بن موسى يعرضهم إذا أدركوا الفارس فارس والراجل راجل لأنه دخل في الحرب بنية القتال فلا يتغير سهمه بذهاب دابته أو حصول دابة له كما لو كان بعد القتال وقال الخرقي الاعتبار بحال إحراز الغنيمة فإن احرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس فيحتمل أنه أراد بحيازة الغنيمة الاستيلاء عليها فيكون كما ذكرنا ويحتمل أن يكون أراد جمع الغنيمة وضمها وإحرازها وقد ذكرنا فيما إذا لحق مدد أو هرب أسير بعد تقضي الحرب وقبل إحراز الغنيمة هل يسهم له منها؟ على وجهين فيخرج ههنا مثل ذلك والله أعلم.

ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حالة القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي والأصل في هذا أن حالة استحقاق السهم حال تقضي الحرب بدليل قول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها فلا ندري هل يظفر بهم أولى ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئاً ولو وجد مدداً في تلك الحال استحقوا السهم فدل على أن الاعتبار بحالة الاستيلاء فوجب اعتباره دون غيره

ص: 517

(مسألة)(ومن غصب فرسا فقاتل عليه فسهم الفرس لمالكه) نص عليه أحمد وقال بعض الحنفية لا سهم للفرس وهو وجه لأصحاب الشافعي وقال بعضهم سهم الفرس للغاصب وعليه أجرته لمالكه لأنه آلة فكان الحاصل بها لمستعملها كما لو غصب منجلا فاحتش بها أو سيفاً فقاتل به.

ولنا أنه فرس قاتل عليه من يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه فإذا ثبت أن له سهما كان لمالكه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما وما كان للفرس كان لصاحبه وفارق ما يحتش به فإنه لا شئ له ولأن السهم مستحق بنفع الفرس ونفعه لمالكه فوجب أن يكون ما يستحق به له.

(فصل) فإن الغاصب ممن لا سهم له إما لكونه لا شئ له كالمخذل أو ممن يرضخ له كالصبي احتمل أن يكون حكم فرسه حكمه على ما ذكرنا لان الفرس تتبع الفارس في حكمه فتتبعه إذا كان مغصوباً قياساً على فرسه واحتمل أن يكون سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه والنقص فيه فيخص المنع به وبما هو تابع له وفرسه تابعه له لأن ما كان لها فهو له والفرس ههنا لغيره وسهمها لمالكها فلا ينقص سهمها بنقص سهمه كما لو قاتل العبد على فرس لسيده ولو قاتل العبد بغير إذن سيده على فرس لسيده خرج فيه الاحتمالان اللذان ذكرناهما فيما إذا غصب فرساً فقاتل عليه لأنه ههنا بمنزلة المغصوب.

ص: 518

(مسألة)(وإذا قال الإمام من أخذ شيئاً فهو له أو فضل بعض الفانمين على بعض لم يجز في إحدى الروايتين ويجوز في الأخرى) إذا قال الإمام من أخذ شيئاً فهو له جاز في إحدى الروايتين وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، قال أحمد في السرية تخرج فيقول الوالي من جاء بشئ فهو له ومن لم يجئ بشئ فلا شئ له: الأنفال إلى الإمام ما فعل من شئ جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم بدر (من أخذ شيئاً فهو له) ولانهم على هذا غزوا ورضوا به (والثانية) لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم والخلفاء بعده ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم فلا يجوز ولأن الاغتنام سبب لاستحقاقهم لها على سبيل التساوي فلا يزول ذلك بقول الإمام كسائر الاكتساب فأما قضية بدر فإنها منسوخة فإنهم اختلفوا فيها فأنزل الله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) الآية (فصل) فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض فإن كان على سبيل النفل لبعضهم زيادة على سهمه فقد ذكرناه في الأنفال فأما غير ذلك فلا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وسوى بينهم ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فتجب التسوية بينهم كسائر الشركاء ولأنه يفضي إلى إيقاع العداوة بينهم وافساد قلوبهم

ص: 519

(مسألة)(ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد والكفار فليس له إلا الأجرة إذا استأجر الإمام قوما يغزون مع المسلمين لم يسهم لهم وأعطوا ما استؤجروا به نص عليه أحمد في رواية جماعة فقال في رواية عبد الله وحنبل في الإمام يستأجر قوما يدخل بهم في بلاد العدو: لا يسهم لهم ويوفي لهم بما استؤجروا عليه وقال القاضي هذا محمول على استئجار من لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفار، اما الرجال المسلمون الأحرار فلا يصح استئجارهم على الجهاد لأن الغزو يتعين بحضوره على من كان من أهله، فإذا تعين عليه الفرض لم يجز أن يفعله عنه غيره كمن عليه حجة الإسلام لا يجوز أن يحج عنه غيره، وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ظاهره في صحة الاستئجار على الغزو لمن لم يتعين عليه وهو ظاهر ما ذكره الخرقي لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون الجعل ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها) ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد أو لم يتعين عليه الجهاد فصح أن يؤجر نفسه عليه كالعبد، ويفارق الحج حيث انه

ص: 520

ليست بفرض عين وإن الحاجة داعية إليه، وفي المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له مما للمسلمين فيه نفع وبهم إليه حاجة فينبغي أن يجوز بخلاف الحج إذا ثبت هذا فإن قلنا بالأول فالإجارة فاسدة وعليه رد الأجرة وله سهمه لأن غزوة بغير أجرة وإن قلنا بصحة الإجارة فظاهر كلام أحمد والخرقي انه لا يسهم له لما روى أبو داود بإسناده عن يعلى ابن منير قال أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيراً يكفيني وأجري له سهمه فوجدت رجلا فلما دنى الرحيل قال ما أدري ما السهمان؟ وما يبلغ سهمي؟ فسم لي شيئاً

كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمره فقال (ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى) ولأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلم يستحق شيئاً ويحتمل أن يسهم له وهذا اختيار الخلال قال وروى جماعة عن أحمد أن للأجير السهم إذا قاتل وروي عنه جماعة أن كل من شهد القتال فله السهم إذا قاتل قال وهذا اعتمد عليه من قول أبي عبد الله ووجهه ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وحديث جبير بن نفير وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنه حضر الوقعة وهو من أهل القتال فيسهم له كغير الأجير

ص: 521

فأما الذين يعطون حقهم من الفئ فلهم سهامهم لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا ولأنه عوض عن جهادهم بل نفع جهادهم لهم لا لغيرهم، وكذلك من يعطى من الصدقات للغزو فإنهم يعطون معونة لهم لاعوضا، وكذلك إذا دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به ويستعينون به كان له فيه الثواب ولم يكن عوضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من جهز غازياً كان له مثل أجره) (فصل) فأما الأجير للخدمة في الغزو والذي يكري دابة له ويخرج معها ويشهد الوقعة فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) لا سهم له وهو قول الأوزاعي وإسحاق قالا: المستأجر على خدمة القوم لا سهم له لحديث يعلى بن منبه (والثانية) يسهم له إذا شهد القتال مع المسلمين وهو قول مالك وابن المنذر وبه قال الليث إذا قاتل، وإن اشتغل بالخدمة فلا سهم له واحتج ابن المنذر بحديث سلمة بن الأكوع أنه كان أجيراً لطلحة حين أدرك عبد الرحمن بن عيينه حين أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل وقال القاضي يسهم له إذا كان مع المجاهدين وقصد الجهاد فأما لغير ذلك فلا، وقال الثوري يسهم له إذا قاتل ويرفع عمن استأجره نفقة ما اشتغل عنه (فصل) ومن أجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة وحملها وسوق الدواب ورعيها أبيح له

ص: 522

أخذ الأجرة على ذلك ولم يسقط من سهمه شئ لأن ذلك من مؤنة الغنيمة فهو كعلف الدواب وطعام السبي يجوز للإمام بذله ويباح للأجير أخذ الأجرة عليه لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة فحلت له الأجرة كالدلالة على الطريق ولا يجوز له أن يركب من دواب المغنم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها) قال أحمد لا بأس أن يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره أن يستأجر القوم على سباق الرمك على فرس حبس لأنه يستعمل الفرس الموقوفه للجهاد فيما يختص نفعه بنفسه فإن آجر نفسه فركب الدابة الحبيس أو دابة من المغنم لم تطب له أجرة لأن المعين له على العمل يختص نفع نفسه فلا يجوز أن يستعمل فيه دواب المغنم ولا دواب الحبس وينبغي أن يلزمه بقدر أجره الدابة ترد في الغنيمة إن كانت من الغنيمة أو تصرف في نفقة دواب الجيش إن كانت جيشاً فإن شرط في الإجارة ركوب دابة من الحبس لم يجز لأنها إنما حبست على الجهاد وليس هذا بجهاد وإنما هو نفع لأهل الغنيمة وإن شرط ركوب دابة من الغنيمة جاز لأن ذلك بمنزلة أجرة تدفع إليه من المغنم ولو أجر نفسه بدابة معينه من المغنم صح فإذا جعلت أجرته ركوبها كان أولى ويشترط أن يكون العمل معلوما فإن كان مجهولا لم يجز لأن من شرط صحة إجارتها كون عوضها معلوما

ص: 523

(مسألة)(ومن مات بعد انقضاء الحرب فسهمه لوارثه) إذا مات الغازي أو قتل قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له في ظاهر كلام الخرقي لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها وسواء مات حال القتال أو قبله وإن مات بعد ذلك فسهمه لورثته لأنه مات بعد ثبوت ملكه عليها فكان سهمه لورثته كسائر أمواله، وإن مات بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة الغنيمة فقال الشافعي وأبو ثور متى حضر القتال اسهم سواء مات قبل حيازة الغنيمة أو بعدها وإن لم يحضر فلا سهم له ونحوه قال مالك والليث، والذي ذكر شيخنا في هذا الكتاب أنه إذا مات بعد انقضاء الحرب أنه يستحق السهم ويقتضيه كلام القاضي لأنه قال في الأسير يهرب بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة الغنيمة لا يستحق شيئاً فدل على أنهم بملكونها بالاستيلاء عليها ونفي الكفار عنها

ووجه الأول أنه إذا مات قبل حيازتها فقد مات قبل ثبوت اليد عليها فلم يستحق شيئاً كما لو مات قبل انقضاء الحرب، وقال أبو حنيفة إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام أو قسهما (قسمها) في دار الحرب فلا شئ له لأن ملك المسلمين لا يتم عليها إلا بذلك، وقال الأوزاعي إن مات بعد ما يدرب فاصلا في سبيل الله قبل أو بعد أسهم له ولنا على أبي حنيفة أنه مات بعد الاستيلاء عليها في حال لو قسمت صحت قسمتها وكان له سهمه منها فيجب أن يستحق سهمه فيها كما لو مات بعد إحرازها في دار الإسلام وعلى الأوزاعي أنه مات

ص: 524

قبل الاستيلاء عليها فلم يتسحق شيئاً كما لو مات قبل دخول الدرب وإن أسر أو مات أو قتل قبل تقضي الحرب فلا شي له بغير خلاف في المذهب لأنه لم يملك شيئاً والله أعلم (مسألة)(ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم) وجملة ذلك أن الجيش إذا فصل غازياً فخرجت منه سرية أو أكثر فأيهما غنم شاركه الآخر في قول عامة العلماء منهم مالك والثوري والاوزاعي والليث وحماد والشافعي واسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال النخعي إن شاء الإمام خمس ما تأتي به السرية وإن شاء نفلهم إياه كله ولنا ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك بينها وبين الجيش قال إبن المنذر روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وترد سراياهم على قعدهم) رفي وفي تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك لأنهم لو اختصوا بما غنموه لما كان ثلثه نفلا ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهم ردء لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش وان أقام الأمير ببلاد الإسلام وبعث سرية أو جيشا فما غنمت السرية فهو لها وحدها لأنه إنما يشترك المجاهدون والمقيم في بلد الإسلام ليس بمجاهد، وإن نفذ من بلد الإسلام جيشين أو سريتين فكل واحدة تنفرد بما غنمته لأن كل واحدة منهما انفردت بالغزو فانفردت بالغنيمة بخلاف ما إذا فصل الجيش فدخل بجملته بلاد الكفار فان جميعهم اشتركوا في الجهاد فاشتركوا في الغنيمة

ص: 525

(مسألة)(وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم غلب عليها العدو فهي مال المشتري في إحدى الروايتين اختارها الخلال وصاحبه والأخرى هي من مال البائع اختارها الخرقي) يجوز للأمير البيع في الغنيمة قبل القسمة للغانمين ولغيرهم إذا رأى المصلحة فيه لأن الولاية ثابتة له عليها وقد تدعوا الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة نقلها أو تعذر قسمتها بعينها ويجوز لكل واحد من الغانمين بيع ما يحصل له بعد القسم والتصرف فيه كيف شاء لأن ملكه ثابت فيه فإن باع الأمير أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئاً فغلب عليه العدو قبل إخراجه إلى دار الإسلام فإن كان التفريط من المشتري مثل أن يخرج به منه العسكر ونحو ذلك فضمانه عليه لان ذهابه حصل بتفريطه فكان من ضمانة كما لو أتلفه وإن كان بغير تفريطه ففيه روايتان (إحداهما) ينفسخ البيع ويرد الثمن إلى المشتري من الغنيمة إن باعه الإمام أو من مال البائع وإن كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه وهي اختيار الخرقي لأن القبض لم يكمل لكون المال في دار الحرب غير محرز وكونه على خطر من العدو فأشبه الثمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ (والثانية) هو من ضمان المشتري وعليه ثمنه وهذا أكثر الروايات عن أحمد رحمه الله واختاره الخلال وصاحبه أبو بكر وهو مذهب الشافعي لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه فكان عليه ضمانة كما لو أحرز إلى دار الإسلام ولأن أخذ العدو له تلف فلم يضمنه البائع كسائر أنواع التلف ولأن

ص: 526

نماءه للمشتري فكان ضمانه عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وإن اشتراه مشتر من المشتري الأول وقلنا هو من ضمان البائع رجع البائع الثاني على البائع الأول بما رجع به عليه (فصل) قال أحمد في الرجل يشتري الجارية من المغنم معها الحلي في عنقها والثياب: يرد ذلك في المغنم إلا شيئاً تلبسه من قميص ومقنعة وإزار وهذا قول حكيم بن حزام ومكحول ويزيد بن أبي مالك وإسحاق وابن المنذر ويشبه قول الشافعي واحتج إسحاق بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبداً وله مال فماله للبائع) وقال الشعبي يجعله في بيت المال وكان مالك يرخص في اليسير كالقرطين وأشباههما ولا

يرد ذلك في الكثير، قال شيخنا ويمكن التفصيل في ذلك فيقال ما كان ظاهراً يشاهده البائع والمشتري كالقرط والخاتم والقلادة فهو للمشتري لأن الظاهر أن البائع إنما باعها بما عليها والمشتري اشتراها بذلك فيدخل في البيع كثياب البذلة وحلية السيف، وما خفي فلم يعلم به البائع رده لأن البيع وقع عليها بدونه فلم يدخل في البيع كجارية أخرى.

(فصل) قال أحمد لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئاً لأنه يحابي ولأن عمر رضي الله عنه رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء وقال أنه يحابى احتج به أحمد ولأنه هو البائع أو وكيله فكأنه يشتري من نفسه أو من وكيله قال أبو داود قيل لأبي عبد الله إذا قوم أصحاب المغانم شيئاً معروفاً فقالوا في جلود المعاعز بكذا وفي جلود الخرفان بكذا يحتاج إليه يأخذه بتلك القيمة ولا يأتي المغانم فرخص فيه

ص: 527

لأنه يشق الاستئذان فيه فسومح فيه كما سومح في دخول الحمام وركوب سفينة الملاح من غير تقدير أجرة (فصل) ومن اشترى من المغنم اثنين أو أكثر أو حسبوا عليه بنصيبه بناء على أنهم أقارب يحرم التفريق بينهم فبان أنه لا نسب بينهم رد الفضل الذي فيهم على المغنم لأن قيمتهم تزيد بذلك فإن من اشترى اثنتين بناء على أن إحداهما أم الأخرى لا يحل له الجمع بينهما في الوطئ ولا بيع إحداهما دون الأخرى كانت قيمتهما قليلة لذلك فإذا أبان أن إحداهما أجنبية من الأخرى أبيح له وطؤهما وبيع إحداهما فتكثر قيمتهما فيجب رد الفضل كما لو اشتراهما فوجد معهما حلياً أو ذهباً وكما لو أخذ دراهم فبانت أكثر مما حسب عليه.

(مسألة) .

(وإن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو لولده أدب ولم يبلغ به الحد وعليه مهرها إلا أن تلد منه فيكون عليه قيمتها وتصير أم ولد له والولد حر ثابت النسب) .

إذا وطئ جارية من المغنم وكان له في الغنيمة حق أو لولده أدب لأنه فعل ما لا يحل له ولم يبلغ به الحد، لأن الملك ثبت للغانمين في الغنيمة فيكون للواطئ حق في الجارية الموطوءة وإن قل فيدرأ عنه الحد للشبهة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك وابو ثور عليه الحد لقول الله تعالى (الزانية

والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا زان ولأنه وطئ في غير ملك عامداً عالماً بالتحريم

ص: 528

فلزمه الحد كما لو وطئ جارية غيره وقال الأوزاعي كل من سلف من علمائنا يقول عليه أدنى الحدين مائة جلدة ومنع بعض الفقهاء ثبوت الملك في الغنيمة وقال إنما يثبت بالاحتياز بدليل أن أحدهم لو قال اسقطت حقي سقط ولو ثبت ملكه لم يزل بذلك كالوارث.

ولنا ان له فيها شبهة ملك فلم يجب عليه الحد كوطئ جارية له فيها شرك والآية مخصوصة بوطئ الجارية المشتركة وجارية ابنه فنقيس عليه هذا ومنع الملك لا يصح لأن ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى مالك ولأنه تصح قسمته ويملك الغانمون طلب قسمتها فأشبهت حال الوارث وإنما كثر الغانمون فقل نصيب الواطئ ولم يستقر في شئ بعينه وكان للإمام تعيين نصيب كل واحد بغير اختياره فلذلك جاز أن يسقط بالإسقاط بخلاف الميراث وضعف الملك لا يخرجه عن كونه شبهة في الحد الذي يدرأ بالشبهات ولهذا أسقط الحد بادنى شئ وإن لم يكن حقيقة الملك فهو شبهة.

إذا ثبت هذا فإنه يعزر ولا يبلغ بالتعزير الحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى ويؤخذ منه مهرها فيطرح في المغنم، وبهذا قال الشافعي وقال القاضي إنه يسقط عنه من المهر قدر حصته منها وتجب عليه بقيته كالجارية المشتركة بينه وبين غيره ولا يصح ذلك لأننا إذا أسقطنا عنه حصته وأخذنا الباقي فطرحناه في المغنم ثم قسمناه على الجميع وهو فيهم عاد إليه سهمه من حصة غيره ولأن حصته قد لا تمكن معرفتها

ص: 529

لقلة المهر وكثرة الغانمين ثم إذا أخذناه فإن قسمناه مفرداً على من سواه لم يمكن وإن خلطناه بالغنيمة ثم قسمنا الجميع أخذ سهما مما ليس فيه حقه فإن ولدت منه فالولد حر يلحقه نسبه، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو رقيق لا يلحقه نسبه، لأن الغانمين إنما يملكون بالقسمة فقد صادف وطؤه غير ملكه ولنا أنه وطئ سقط فيه الحد بشبهة الملك فيلحق فيه النسب كوطئ جارية ابنه وما ذكره غير مسلم ثم يبطل بوطئ جارية ابنه وفارق الزنا فإنه يوجب الحد، وإذا ثبت ذلك فإن الأمة تصير أم ولد

له في الحال وقال الشافعي لا تصير أم ولد له في الحال لأنها ليست ملكاً له فإذا ملكها بعد ذلك فهل تصير أم ولد له؟ فيها قولان ولنا أنه وطئ يلحق به النسب لشبهة الملك فتصير به أم ولد كوطئ جارية ابنه وبه يبطل ما ذكروه ولا نسلم أنه ليس له فيها ملك فإنا قد تبينا أن الملك قد ثبت في الغنيمة بمجرد الاغتنام وعليه قيمتها تطرح في المغنم لأنه فرتها؟ عليهم بفعله فلزمته قيمتها كما لو قتلها فإن كان معسراً كان في ذمته قيمتها وقال القاضي إن كان معسراً حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد وباقيها رقيق للغانمين لأن كونها أم ولد إنما يثبت بالسراية إلى ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالاعتاق.

ص: 530

ولنا أنه استيلاء جعل بعضها أم ولد فيجعل جميعها أم ولد كاستيلاء جارية الابن وفارق العتق لأن الاستيلاء أقوى لكونه فعلاً وينفذ من المجنون فأما قيمة الولد فقال أبو بكر فيها روايتان (إحداهما) تلزمه قيمته حين وضعه تطرح في المغنم لأنه فوت رقه فأشبه ولد المغرور (والثانية) لا تلزمه لأنه ملكها حين علقت ولم يثبت ملك الغانمين في الولد بحال فأشبه ولد الأب من جارية ابنه إذا وطئها ولأنه يعتق حين علوقها به ولا قيمة حينئذ وقال القاضي إذا صار نصفها أم ولد يكون الولد كله حراً وعليه قيمة نصفه (مسألة)(ومن أعتق منهم عبداً عتق عليه قدر حصته وقوم عليه باقيه إن كان موسراً وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه) إذا أعتق بعض الغانمين أسيراً من الغنيمة وكان رجلاً لم يعتق لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وعم علي وعقيلاً أخا علي كانا في أسرى بدر فلم يعتقا عليهما ولأن الرجل لا يصير رقيقاً بنفس السبي وإن استرق وقلنا بجواز استرقاقه أو كان امرأة أو صبياً عتق منه قدر نصيبه وسرى إلى باقيه إن كان موسراً وإن كان معسراً لم يعتق عليه إلا ما ملكه منه ويؤخذ منه قيمة باقيه تطرح في المغنم إذا كان موسراً فإن كان بقدر حقه من الغنيمة عتق ولم يأخذ شيئاً وإن كان دون حقه أخذ باقي حقه فإن أعتق عبداً ثانياً وفضل من حقه عن الاول شئ عتق بقدره من الثاني وإن لم يفضل شئ لم يعتق

من الثاني شئ وكذلك الحكم اذا كان فيهم من يعتق عليه لأنه نسب إلى ملكه أشبه مالو اشتراه

ص: 531

وقال ابن أبي موسى في الإرشاد لا يعتق إلا أن يحصل في سهمه أو بعضه وقال الشافعي لا يعتق منه شئ وهذا مقتضى قول أبي حنيفة لأنه لا يملكه بمجرد الاغتنام ولو ملك لم يتعين ملكه فيه وإن قسم وحصل في نصيبه واختار تملكه عتق عليه وإلا فلا وإن جعل له بعضه فاختار تملكه عتق عليه وقوم عليه الباقي ولنا ما بيناه من أن الملك يثبت للغانمين لكون الاستيلاء التام وجد منهم وهو سبب للملك ولأن ملك الكفار زال ولا يزول إلا إلى المسلمين (مسألة)(والغال من الغنيمة يحرق رحله كله إلا السلاح والمصحف والحيوان) الغال الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ولا يطلع الإمام عليه ولا يطرحه في الغنيمة فحكمه أن يحرق رحله كله وبه قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول والاوزاعي والوليد بن هشام ويزيد بن يزيد بن جابر وأني سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر فلم يعبه وقال يزيد بن يزيد بن جابر السنة في الذي يغل أن يحرق رحله رواهما سعيد في سننه وقال مالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي لا يحرق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق فإن عبد الله بن عمرو روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال (سمعت بلالاً ينادي

ص: 532

ثلاثاً قال نعم قال (فما منعك ان تجئ به) فاعتذر فقال (كن انت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك) رواه أبو داود ولأن إحراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولنا ماروى صالح بن محمد بن زائدة قال دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالماً عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه) قال فوجدنا في متاعه مصحفاً فسأل سالماً عنه فقال

بعه وتصدق بثمنه رواه سعيد وابو داود والاثرم وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال رواه أبو داود فإما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الرجل لم يعترف أنه أخذ ما أخذ على سبيل الغلول ولا أخذه لنفسه وإنما توانى في المجئ به وليس الخلاف فيه ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائباً معتذراً والتوبة تجب ما قبلها وأما النهي عن إضاعة المال فإنما نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة فأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس ولا يعد تضييعاً كإلقاء المتاع في البحر عند خوف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه فأكله إتلافه وإيقافه اذهابه ولا يعد شئ من ذلك تضييعاً ولا إفساداً ولا ينهى عنه.

إذا ثبت ذلك فإن السلاح لا يحرق لأنه يحتاج إليه في القتال ولا نفقته لأنه مما لا يحرق عادة ولا يحرق المصحف لحرمته ولما ذكرنا من حديث سالم فيه فعلى هذا يحتمل أن يباع ويتصدق بثمنه لما ذكرنا

ص: 533

من حديث سالم ويحتمل أن يكون له كالحيوان والسلاح وكذلك الحيوان لا يحرق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم إن يعذب بالنار إلا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور بإحراقه وهذا لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضاً نص عليه أحمد لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق أشبه جلد المصحف وكيسه وقال الأوزاعي يحرق سرجه واكافه ولنا أنه ملبوس حيوان فلا يحرق كثياب الغال فانه لا تحرق ثيابه التي عليه لأنه لا يجوز أن يترك عرياناً ولا يحرق ما غل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد فالذي أصاب في الغلول أي شئ يصنع به قال يرفع إلى المغنم وكذلك قال الأوزاعي وجميع ما لا يحرق وما أبقت النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه كان ثابتاً عليه ولم يوجد ما يلزمه وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان، وإن كان معه شئ من كتب العلم والحديث فينبغي أن لا يحرق أيضاً لأن نفع ذلك يعود إلى الدين وليس المقصود الإضرار به في دينه وإنما القصد الإضرار به في بعض دنياه (فصل) فإن لم يحرق رحله حتى استحدث متاعاً آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال الغلول، نص عليه أحمد في الذي يرجع إلى بلده قال ينبغي أن يحرق ما كان معه في أرض العدو فإن

مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه لأنه عقوبة فيسقط بالموت كالحدود ولأنه بالموت انتقل إلى ورثته وإحراقه عقوبة لغير الجاني

ص: 534

وإن باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق لأنه صار لغيره أشبه انتقاله بالموت واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة فوجب تقديمه كالقصاص في حق الجاني (فصل) وإن كان العال صبياً لم يحرق متاعه وبه قال الأوزاعي لان الاحراق عقوبة وليس هو من أهلها فأشبه الحد، وإن كان عبداً لم يحرق متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده، وإن استهلك ما غله فهو في رقبته لأنه من جنايته وإن غلت المرأة أو ذمي أحرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة ولذلك يقطعان في السرقة ويحدان في الزنا، وإن أنكر الغلول وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار لأنه عقوبة قلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد ولا يقبل في بينته إلا عدلان لذلك (فصل) ولا يحرم الغال سهمه، وقال أبو بكر في ذلك روايتان (إحداهما) يحرم سهمه لأنه قد جاء في الحديث يحرم سهمه فإن صح فالحكم له، وقال الأوزاعي في الصبي يغل يحرم سهمه ولا يحرق متاعه ولنا أن سبب الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يغل ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا يدل عليه قياس فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله (فصل) إذا تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده إلى أهله فإن تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي وهذا قول

ص: 535

الحسن والزهري ومالك والاوزاعي والثوري والليث.

وقال الشافعي لا أعرف للصدقة وجهاً، وحديث الغال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (لا أقبله منك حتى تجئ به إلى يوم القيامة) ولنا ماروى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف قال غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة

وتفرق الناس ندم فأتى عبد الرحمن فقال قد غللت مائة دينار فامضها فقال قد تفرق الناس فلن أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة، فأتى معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج وهو يبكي فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال ما يبكيك؟ فأخبره فقال إنا لله وإنا إليه راجعون أمطيع أنت يا عبد الله؟ قال نعم قال فانطلق إلى معاوية فقل له خذ مني خمسك فأعطه عشرين ديناراً وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فإن الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وإن الله يقبل التوبة عن عبادة، فقال معاوية: أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من أن يكون لي مثل كل شئ امتلكت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه فقد قال به ابن مسعود ومعاوية ومن بعدهم ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعاً، ولأن تركه تضييع له وتعطيل لمنفعته التي خلق لها ولا يتخفف به شئ من إثم الغال، وفي الصدقة به نفع لمن يصل إليه من

ص: 536

المساكين، وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الإثم عن الغال فيكون أولى (مسألة)(وما أخذ من الفدية أو أهداه الكفار إلى أمير الجيش أو بعض قواده فهو غنيمة) ما أخذ من فدية الأسارى فهو غنيمة، لا نعلم فيه خلافا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأنه مال حصل بقوة الجيش أشبه الخيل والسلاح وأما الهدية للإمام والقواد فان كان في حال الغزو فهي غنيمة وهكذا ذكر أبو الخطاب لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا لخوف من المسلمين فظاهر هذا يدل على أن ما أهدي لآحاد الرعية فهو له، وقال القاضي هو غنيمة لما ذكرنا، وإن كانت الهدية من دار الحرب إلى دار الإسلام فهي لمن أهديت له سواء كان الإمام أو غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس فكانت له دون غيره، وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة هو للمهدي له بكل حال لأنه خص بها أشبه ما إذا كان في دار الإسلام، وحكي ذلك رواية عن أحمد ولنا أنه أخذ ذلك بظهر الجيش أشبه مالو أخذه قهراً ولأنه إذا أهدى إلى الإمام أو أمير فالظاهر

أنه يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهراً، وأما الهدية لآحاد المسلمين فلا يقصد بها ذلك في الظاهر لعدم الخوف منه فيكون كما لو أهدى إليه إلى دار الإسلام، ويحتمل أن ينظر فإن كانت بينهما مهاداة قبل ذلك فله ما أهدى إليه.

وان تجدد ذلك بالدخول إلى دارهم فهو للمسلمين كقولنا في الهدية إلى القاضي

ص: 537

(باب حكم الأرضين المغنومة) وهي على ثلاثة أضرب (أحدها) ما فتح عنوة وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف فيخير الإمام بين قسمها ووقفها للمسلمين ويضرب عليها خراجا مستمراً يؤخذ ممن هي في يده يكون أجرة لها.

وعنه تصير وقفاً بنفس الاستيلاء وعنه تقسم بين الغانمين الأرضون المغنومة تنقسم قسمين عنوة وصلح (فالعنوة) ما أجلي عنها أهلها بالسيف وهي نوعان (أحدهما) ما فتح ولم يقسم بين الغانمين فتصير وقفاً للمسلمين يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام يكون أجرة لها وتقر بأيدي أربابها ما دامو يؤدون خراجها مسلمين كانوا أو من أهل الذمة لا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم لأنه بمنزلة أجرتها ولم نعلم أن شيئاً مما فتح عنوة قسم بين الغانمين إلا خيبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم نصفها فصار لأهله لاخراج عليه وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر رضي الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم يقسم منه شئ فروى أبو عبيد في كتاب الاصول أن عمر رضي الله عنه قدم الجابية فأراد قسم الأرض بين المسلمين فقال له معاذ رضي الله عنه والله إذاً ليكونن ما تكره إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة ثم يأتي من بعدهم قوم يمدون من الإسلام

ص: 538

الإسلام مسداهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم فصار عمر إلى قول معاذ وروي أيضاً قال قال: الماجشون قال بلال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القرى التي افتتحوها عنوة اقسمها بيننا وخذ خمسها فقال عمر لا هذا عن المال ولكني أحبسه فيئاً يجري عليهم وعلى المسلمين فقال بلال

وأصحابه اقسمها بيننا فقال عمر اللهم اكفني بلالاً وذويه قال فما جاء الحول وفيهم عين تطرف وروى بإسناده عن سفيان بن وهب الخولاني قال لما افتتح عمرو بن العاص مصر قال الزبير يا عمرو بن العاص اقسمها فقال عمرو لاأقسمها فقال الزبير لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال عمرو لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إلى عمر فكتب إليه دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة قال القاضي ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه قسم أرضاً عنوة إلا خيبر (فصل) قال أحمد ومن يقوم على أرض الصلح وأرض العنوة؟ ومن أين هي؟ وإلى أين هي؟ وقال أرض الشام عنوة إلا حمص وموضعاً آخر وقال ما دون النهر صلح وما وراء عنوة وقال فتح المسلمون السواد عنوة إلا ما كان منه صلح وهي أرض الحيرة وأرض بانقيا وقال أرض الري خلطوا في أمرها فأما ما فتح عنوة فمن نهاوند وطبرستان خراج وقال أبو عبيد أرض الشام عنوة ما خلا مدنها فإنها فتحت صلحاً إلا قيسارية افتتحت عنوة وأرض السواد والجبل ونهاوند والأهواز ومصر والمغرب وقال موسى بن علي بن رباع عن أبيه: المغرب كله عنوة فأما أرض الصلح فأرض هجر والبحر بن

ص: 539

وأيله ودومه الجندل وأذرح فهذه القرى التي أدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية ومدن الشام ما خلا أرضيها إلا قيسارية وبلاد الجزيرة كلها وبلاد خراسان كلها أو أكثرها صلح وكل موضع فتح عنوة فإنه وقف على المسلمين (النوع الثاني) ما استأنف المسلمون فتحه عنوة ففيه ثلاث روايات (إحداهما) أن الامام مخير بين قسمها على الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين ويضرب عليها خراجا مستمراً على ما ذكرنا هذا ظاهر المذهب لأن كلا الأمرين قد ثبت فيه حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه ووقف عمو الشام والعراق ومصر وسائر ما فتحه وأقره على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه به، وكذلك من بعده من الخلفاء ولم نعلم أن أحداً منهم قسم شيئاً من الأرض التي افتتحوها

(والثانية) أنها تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم عليه وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم خيبر كانت قي بدء الإسلام وشدة الحاجة وكانت المصلحة فيه وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض فكان هو الواجب (والثالثة) أن الوجب قسمها وهو قول مالك وأبي ثور لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره مع عموم قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه يفهم من ذلك أن أربعة أخماسها للغانمين

ص: 540

(والرواية الأولى) أولى لما ذكرنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن عمر رضي الله عنه قال لولا آخر الناس لفسمت الأرض كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فقد وقف الأرض مع علمه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن فعله ذلك لم يكن متعيناً كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد وقف نصف خيبر ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها، قال أبو عبيد تواترت الأخبار في افتتاح الارض عنوة بهذين الحكمين، حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر حين قسمها، وبه أشار بلال وأصحابه على عمر في أرض الشام والزبير في أرض مصر وحكم عمر في أرض السواد وغيره حين وقفه، وبه أشار علي ومعاذ على عمر وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم راداً لفعل عمر لأن كل واحد منهما اتبع آية محكمة قال الله تعالى (واعلموا أنما غنمتم منه شئ فأن لله خمسه - وقال - ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) الآية فكان كل واحد من الأمرين جائزاً والنظر في ذلك إلى الامام فما رأى منه ذلك فعليه وهذا قول الثوري وأبي عبيد.

إذا ثبت هذا فإن التخيير المفوض إلى الإمام تخيير مصلحة لا تخيير تشهي فيلزمه فعل ما يرى فيه المصلحة لا يجوز له العدول عنه كالخيرة في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء ولا يحتاج إلى النطق بالوقف بل تركه لها من غير قسمه وقف لها كما أن قسمتها بين الغانمين لا يحتاج معه إلى لفظ ولأن عمر وغيره لم ينقل عنهم في وقف الأرض لفظ بالوقف ولأن معنى وقفها

ص: 541

هاههنا أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ خراجها يصرف في مصالحهم ولا يخص أحد بملك شئ منها وهذا حاصل بتركها

(فصل) وكلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف وقسمه أو فعله الأئمة بعده فليس لأحد نقضه ولا تغييره وإنما الروايات فيما استؤنف فتحه على ما ذكرنا والذي قسم بين الغانمين ليس عليه خراج، وكذلك ما أسلم أهله عليه كالمدينة ونحوها فهي ملك لأربابها لهم التصرف فيها كيف شاؤا، وكذلك ما صولح أهله على أن الأرض لهم كأرض اليمن والحيرة وبانقيا وما أحياه المسلمون كأرض البصرة كانت سبخة أحياها عتبة بن غزوان وعثمان بن أبي العاص (مسألة)(الضرب الثاني) ما جلا عنها أهلها خوفاً وفزعاً فهذه تصير وقفاً بنفس الظهور عليها لأن ذلك يتعين فيها لأنها ليست غنيمة فنقسم فكان حكمها حكم الفيئ يكون للمسلمين كلهم، وعنه يكون حكمها حكم العنوة قياساً عليها، فعلى هذا لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام لأن الوقف لا يثبت بنفسه (الضرب الثالث) ما صولحوا عليه وهو قسمان (أحدهما) أن يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها معهم بالخراج فهذه تصير وقفاً أيضاً حكمها حكم ما ذكرنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر وصالح أهلها على أن يعمروا أرضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين دونهم، وصالح بني النضير على أن يجليهم من المدينة

ص: 542

ولهم ما أقلت الابل من المتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح وكانت مما أفاء الله على رسوله (القسم الثاني) أن يصالحم على الارض لهم ويؤدون إلينا خراجها معلوماً فهذه ملك لأربابها وهذا الخراج في حكم الجزية متى أسلموا اسقط عنهم لأن الخراج الذي ضرب عليها إنما كان من أجل كفرهم فهو كالجزية على رؤوسهم فإذا أسلموا سقط كما تسقط الجزية وتبقى الأرض ملكاً لهم لا خراج عليها يتصرفون فيها كيف شاءوا بالبيع والهبة والرهن، وإن انتقل إلى مسلم فلا خراج عليه لما ذكرنا (مسألة)(ويقرون فيها بغير جزية) لأنهم في غير دار الإسلام بخلاف التي قبلها (مسألة)(والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان على قدر الطاقة وعنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد ولا ينقص وعنه تجوز الزيادة دون النقص) ظاهر المذهب أن المرجع في الخراج إلى اجتهاد الإمام وهو اختيار الخلال وعامة شيوخنا لأنه أجرة فلم يقدر بمقدار لا يختلف كأجرة المساكن وفيه رواية ثانية أنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي

الله عنه لا يزاد عليه ولا ينقص منه لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره كيف ولم ينكره أحد من الصحابة مع شهرته فكان إجماعاً؟ وعنه رواية ثالثة أن الزيادة تجوز دون النقص لما روى عمر بن ميمون أنه سمع عمر يقول لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان والله لو زدت عليهم فلا تجهدهم فدل على إباحة الزيادة ما لم تجهدهم وأما الجزية فتذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى

ص: 543

قال أحمد رضي الله عنه وأبو عبيد القاسم بن سلام: أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون، ويعني أن عمر رضي الله عنه وضع على كل جريب درهما وقفيزاً، وقدر القفيز ثمانية أرطال يعني بالمكي، نص عليه أحمد واختاره القاضي فيكون ستة عشر رطلاً بالعراقي، وقال أبو بكر قد قيل أن قدره ثلاثون رطلاً وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض لأنه روي عن عمر أنه ضرب على الطعام درهما وقفيز حنطة وعلى الشعير درهماً وقفيز شعير ويقاس عليه غيره من الحبوب.

والجريب عشر قصبات في عشر قصبات والقصبة ستة أذرع بذراع عمر وهو ذراع وسط لا أطول ذراع ولا أقصرها وقبضة وإبهام قائمة، وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها، فان ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لانه ظلم فلم يحتسب به من العشر كالغصب، وعنه يحتسبه من العشر لأن الأخذ لهما واحد اختاره أبو بكر وقد اختلف عن عمر رضي الله عنه قي قدر الخراج فروى أبو عبيد بإسناده عن الشعبي أن عمر بعث ان حنيف إلى السواد فضرب الخراج على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب القضب وهو الرطبة ستة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون أثني عشر درهماً، هذا ذكره أبو الخطاب في كتاب الهداية وذكر بعده حديث عمرو بن ميمون الذي ذكرناه وهو اصح على ما ذكره أحمد وأبو عبيد

ص: 544

(مسألة)(وما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه فلا خراج عليه) لأن الخراج أجرة الأرض وما لا منفعة فيه لا أجرة له، وعنه يجب فيه الخراج إذا كان على صفة

يمكن إحياؤه ليحييه من هو في يده أو يرفع يده عنه فيحييه غيره وينتفع به (مسألة)(فإن أمكن زرعه عاماً بعد عام وجب نصف خراجه في كل عام) لأن نفع هذه الأرض على النصف فكذلك الخراج لكونه في مقابلة النفع (مسألة)(ويجب الخراج على المالك دون المستأجر) لأنه يجب على رقبة الأرض فكان على مالكها كما تجب الفطرة على مالك العبد وعنه أنه على المستأجر كالعشر والأول أصح (مسألة)(والخراج كالدين يحبس به الموسر وينظر المعسر) لأنه أجرة أشبه أجرة المساكن (مسألة)(ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها) من كانت في يده أرض فهو أحق بها بالخراج كالمستأجر وتنتقل إلى وارثه بعده على الوجه الذي كانت في يد موروثه فإن آثر بها أحداً صار الثاني أحق بها، فإن عجز من هي في يده عن عمارتها

ص: 545

وأداء خراجها أجبر على رفع يده عنها بإجارة أو غيرها ويدفعها إلى من يعمرها ويقوم بخراجها لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم (فصل) ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج المزارع لأن في الخراج معنى الذلة وبهذا وردت الأخبار عن عمر رضي الله عنه وغيره ومعنى الشراء ههنا ان يتقبل الأرض بما عليها من خراجها لأن شراء هذه الأرض غير جائز أو يكون على الرواية التي أجازت شراءها لكونه استنقاذا لها فهو كاستنقاذ الأسير (فصل) ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل ليدفع عنه الظلم في خراجه لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه ولا يجوز له ذلك ليدفع له شيئاً من خراجه لأنه رشوة لابطال حق فحرمت على الآخذ والمعطي كرشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق (مسألة)(وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج أو تخفيفه عن إنسان جاز لانه فيئ فكان النظر فيه إلى الإمام) ولأنه لو أخذ الخراج وصار في يده جاز له أن يخص به شخصاً إذا رأى المصلحة فيه فجاز له تركه بطريق الأولى

ص: 546

باب الفيئ وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال كالجزية والخراج والعشر وما تركوه فزعا وخمس الغنيمة ومال من مات لا وارث له فهو معروف في مصالح المسلمين لهم كلهم فيه حق غنيهم وفقيرهم إلا العبيد هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وذكر أحمد رحمه الله الفيئ فقال فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير وقال عمر رضي الله عنه ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد ليس لهم فيه شئ وقرأ عمر (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى - حتى بلغ - والذين جاءوا من بعدهم) فقل استوعبت المسلمين عامة ولان عشت ليأتين الراعي بستر وحمير نصيبه منها لم تعرق فيه جبينه وذكر القاضي أن الفيئ مختص بأهل الجهاد من المرابطين في الثغور وجند المسلمين ومن يقوم بمصالحهم لأن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لحصول النصرة والمصلحة به فلما مات صارت مختصة بالجند ومن يحتاج إليه المسلمون فصار لهم ذلك دون غيرهم فأما الأعراب ونحوهم ممن لا يعد نفسه للجهاد فلا حق لهم فيه والذين يعرضون إذا نشطوا يعطون من سهم سبيل الله من الصدقة قال القاضي ومعنى كلام أحمد أنه بين الغني والفقير يعني الذي فيه مصلحة للمسلمين من المجاهدين والقضاة والفقهاء قال ويحتمل أن يكون معنى كلامه أن لجميع المسلمين الانتفاع بذلك المال لكونه يصرف إلى من يعود نفعه إلى جميع المسلمين وكذلك ينتفعون بالعبور على القناطر والجسور المعقودة بذلك المال وبالأنهار

ص: 547

والطرقات التي أصلحت به وسياق كلام أحمد يدل على أنه غير مختص بالجند وإنما هو معروف في مصالح المسلمين لكن يبدأ بجند المسلمين لأنهم أهم المصالح لكونهم يحفظون المسلمين فيعطون كفاياتهم فما فضل قدم الأهم فالأهم من عمارة الثغور وكفايتها بالكراع والسلاح وما يحتاج إليه ثم الأهم فالأهم من عمارة المساجد والقناطر وإصلاح الطرق وكراء الأنهار وسد بثوقها وأرزاق القضاه والأئمة والمؤذنين والفقهاء وما يحتاج إليه المسلمون وكلما يعود نفعه على المسلمين ثم يقسم ما فضل على المسلمين لما ذكرنا من الآية وقول عمر رضي الله عنه وللشافعي قولان كنحو ما ذكرناه

واستدلوا على أن أربعة أخماس الفيئ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بما روى مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر بن الخطاب والعباس وعليا يختصمان إليه في أموال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول صلى الله عليه وسلم خالصاً دون المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل جعله في الكراع والسلاح ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوليها أبو بكر بمثل ماوليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وليتها بمثل ماوليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر متفق عليه إلا أن فيه فيجعل ما بقي أسوة المال قال شيخنا وظاهر أخبار عمر تدل على أن لجميع المسلمين في الفيئ حقاً وهو ظاهر الآية فانه لما قرأ الآية التي في سورة الحشر قال هذه استوعبت جميع المسلمين وقال ما أحد إلا له في هذا المال نصيب فأما أموال

ص: 548

بني النضير فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها على أهله لأن ذلك من أهم المصالح فبدأ بهم ثم جعل باقيه أسوة المال ويحتمل أن تكون أموال بني النضير اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيئ وترك سائرة لمن سمي في الآية وهذا مبين في قول عمر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً دون المسلمين (مسألة)(ولا يخمس وقال الخرقي يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه في المصالح) ظاهر المذهب أن الفيئ لا يخمس نقلها أبو طالب فقال إنما تخمس الغنيمة وعنه يخمس كما تخمس الغنيمة اختارها الخرقي وهو قول الشافعي لقول الله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فظاهر هذا أن جميعه لهؤلاء وهو أهل الخمس وجاءت الأخبار دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه عن عمر رضي الله عنه مستدلاً بالآيات التي بعدها فوجب الجمع بينهما كيلا تتناقض الآية والاخبار وتتعارض وفي إيجاب الخمس فيه جمع بينهما وتوقيف فإن خمسه لمن سمي في الآية وسائره يصرف إلى ما ذكر في الآيتين الآخيرتين والأخبار وقد روى البراء بن عازب قال لقيت خالي ومعه الراية فقلت إلى أين؟ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم الى رجل عرس بامرأة أبيه أن أضرب عنقه وأخمس ماله والرواية الأولى هي

المشهورة قال القاضي لم أجد بما قال الخرقي من أن الفيئ مخموس نصاً فأحكيه وإنما نص على أنه غير

ص: 549

مخموس وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر لانحفظ عن أحد قبل الشافعي في أن في الفيئ خمساً كخمس الغنيمة والدليل على ذلك قوله تعالى (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) الآيات إلى قوله (والذين جاءوا من بعدهم) فجعله كله لهم ولم يذكر خمساً ولما قرأ عمر هذه الآية قال هذه استوعبت جميع المسلمين (فصل) فان قلنا إنه يخمس صرف خمسه إلى أهل الخمس في الغنيمة عند من يرى تخميس الفيئ من أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكمهما واحد لااختلاف بينهم في هذا لأنه في معنى خمس الغنيمة ثم يصرف الباقي في مصالح المسلمين على ما ذكرنا ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وأرزاق الجند ونحو ذلك.

(مسألة) (فإن فضل منه فضلة قسمه بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ينبغي أن يبدأ في القسمة بالمهاجرين ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى أبو هريرة قال قدمت على عمر رضي الله عنه ثمانمائة ألف درهم فلما أصبح أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد جاء الناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال لا ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم الاقرب فالاقرب

ص: 550

فوضع الديوان على ذلك وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم ويجعل لكل طائفة عريفاً يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ووقت الغزو لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في أقل من ذلك لئلا يشغلهم عن الغزو ويبدأ ببني هاشم لأنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من خبر عمر ثم ببني المطلب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (انما بنوا هاشم وبنوا المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه ثم ببني عبد شمس لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه ثم بني نوفل لأنه أخو هاشم لأبيه ثم يعطي بني عبد الدار

وعبد العزى ويقدم عبد العزى لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة منهم وعلى هذا يعطى الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش وهم بنو النضر بن كنانة وقيل بنو فهر بن مالك (مسألة)(ثم الأنصار ثم سائر المسلمين وهل يفاضل بينهم؟ على روايتين) .

يقدم الأنصار بعد قريش لفضلهم وسابقتهم وآثارهم الجميلة ثم سائر العرب ثم العجم والموالي فإن استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما هجرة وسابقة ويخص في كل ذا الحاجة.

(فصل) واختلف الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في قسم الفئ بين أهله فذهب ابو بكر رضي الله عنه إلى التسوية بينهم وهو المشهور عن علي رضي الله عنه فروي أن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأدخل فيه العبيد فقال له عمر يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجعل الذين جاهدوا في سبيل

ص: 551

الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم له كمن إنما دخلوا في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله وانما الدنيا بلاغ فلما ولي عمر رضي الله عنه فاضل بينهم وأخرج العبيد فلما ولي علي رضي الله عنه سوى بينهم وأخرج العبيد وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه فضل بينهم في القسمة فعلى هذا مذهب اثنين منهم أبي بكر وعلي التسوية ومذهب اثنين عمر وعثمان التفضيل وقد روي عن أحمد رحمه الله فروى عنه الحسن بن (علي) بن الحسن أنه قال للإمام أن يفضل قوماً على قوم لأن عمر قسم بينهم على السوابق وقال لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلاً على قدر غنائهم وهذا في معناه وروي عنه أنه لا يجوز التفضيل قال أبو بكر اختار أبو عبد الله أن لا يفضلوا وهو قول الشافعي لما ذكرنا من فعل أبي بكر رضي الله عنه قال الشافعي إني رأيت أنه قسم المواريث على العدد يكون الأخوة متفاضلين في الغناء عن الميت والصلة في الحياة والحفظ بعد الموت فلا يفضلون وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الغنيمة على العدد ومنهم من يغني غاية الغناء ويكون الفتح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما ضرر ابا لجبن والهزيمة وذلك إنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو انتصابهم للجهاد فصاروا كالغانمين، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أن ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام يفعل ما يراه

من تسوية وتفضيل لما ذكرنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأنفال وهذا في معناه وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه فرض للمهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف ولأهل بدر من الأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف وفرض لأهل الحديبية ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ولاهل الفتح ألفين ألفين.

(فصل) قال القاضي ويتعرف قدر حاجة أهل العطاء وكفايتهم ويزيد ذا الولد من أجل ولده

ص: 552

وذا الفرس من أجل فرسه وإن كان له عبيد في مصالح الحرب حسبت مؤنتهم في كفايتهم وإن كانوا لزينة أو تجارة لم تحسب مؤنتهم وينظر في أسعارهم في بلدانهم لأن أسعار البلاد تختلف والغرض الكفاية ولهذا تعتبر الذرية والولد فيختلف عطاؤهم لاختلاف ذلك وإن كانوا سواء في الكفاية لا يفضل بعضهم على بعض وإنما تتفاضل كفايتهم ويعطون قدر كفايتهم في كل عام مرة وهذا والله أعلم على قول من رأى التسوية، فأما من رأى التفضيل فإنه يفضل أهل السوابق والغناء في الإسلام على غيرهم بحسب ما يراه كما فعل عمر رضي الله عنه ولم يقدر ذلك بالكفاية والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله القتال ويكون عاقلاً حراً بصيراً صحيحاً ليس به مرض يمنعه القتال فإن مرض الصحيح مرضاً غير مرجو الزوال كالزمانة ونحوها خرج من المقاتلة وسقط سهمه فإن كان مرضاً مرجو الزوال كالحمى والصداع والبرسام لم يسقط عطاؤه لأنه في حكم الصحيح ولذلك لا يستنيب في الحج كالصحيح.

(مسألة)(ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى وارثه كسائر الموروثات)(مسألة)(ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى امرأته وأولاده الصغار ما يكفيهم) لان فيه تطييب قلوب المجاهدين فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم توفروا على

ص: 553

الجهاد وإذا علموا خلاف ذلك توفروا على الكسب وآثروه على الجهاد مخافة الضيعة على عيالهم ولهذا قال أبو خالد الهناي:

لقد زاد الحياة إلي حباً بناتي أنهن من الضعاف مخافة أن يرين الفقر بعدي وأن يشربن رنقا بعد صافي وأن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف ولولا ذاك قد سومت مهري وفي الرحمن للضعفاء كافي ومتى تزوجت المرأة سقط حقها لأنها خرجت عن عيال الميت (مسألة) (فإذا بلغ ذكورهم فاختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم وإن لم يختاروا تركوا سقط حقهم من عطاء المقاتلة

ص: 554

(باب الأمان) يصح أمان المسلم المكلف ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً مطلقاً أو أسيراً، وفي أمان الصبي المميز روايتان) وجملة ذلك أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكراً كان أو انثى حرا أو عبدا وبهذا قال الثوري والشافعي والاوزاعي واسحاق وابن القاسم وأكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذوناً له في القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانة كالصبي ولأنه مجلوب من دار الحرب فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم ولنا ما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منهم صرف ولا عدل) رواه البخاري والعبد إما أن يكون أدناهم فيصح أمانه بالحديث أو يكون غيره أدنى منه فيصح أمانة بطريق التنبيه.

وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشاً فكنت فيهم فحضرنا موضعاً فرأينا أنا نستفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح وبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال:

العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولأنه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر والمرأة، وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا أذن له في القتال فإنه يصح أمانه وبالمرأة.

ص: 555

(فصل) ويصح أمان المرأة في قول الجميع.

قالت عائشة رضي الله عنها ان كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وعن أم هانئ أنها قالت يارسول الله قد أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ إنما يجير على المسلمين أدناهم) رواهما سعيد.

وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل) ويصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره لدخوله في عموم الخبر، ولأنه مسلم مكلف مختار أشبه غير الأسير، وكذلك يصح أمان الأجير والتاجر في دار الحرب وبهذا قال الشافعي، وقال الثوري لا يصح أمان أحد منهم ولنا عموم الحديث والقياس.

فأما الصيي المميز ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح أمانه وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون (والثانية) يصح أمانه وهو قول مالك.

قال أبو بكر يصح أمانه رواية واحدة وحمل رواية المنع على غير المكلف واحتج بعموم الحديث ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه كالبالغ بخلاف المجنون فإنه لا قول له أصلاً (فصل) ولا يصح أمان كافر وإن كان ذمياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم، ولانه تهم على الإسلام وأهله فأشبه الحربي ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأن كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم.

ولا يصح أمان زائل العقل بنوم أو سكر أو إغماء لذلك ولانه لايعرف المصلحة من غيرها أشبه المجنون.

ولا يصح من مكره لانه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار (مسألة)(ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم)

ص: 556

لأن ولايته عامة على المسلمين.

ويصح أمان الأمير لمن جعل باذائه من الكفار فأما في حق

غيرهم فهو كآحاد المسلمين لأن ولايته على قتال أولئك دون غيرهم، ويصح أمان أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن الذي ذكرنا حديثه ولا يصح امانه لاهل بلدة ورستاق وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام.

ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه أمن الهرمزان وهو أسير.

رواه سعيد.

ولأن الأمان دون المن عليه وقد جاز المن عليه.

فأما أحد الرعية فليس له ذلك وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أنه يصح أمانه لأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بعد أسره فأمضاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكي عن الأوزاعي ولنا أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام فلم يجز الافتيات عليه بما يمنعه ذلك كقتله.

وحديث زينب رضي الله عنها في أمانها إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم (فصل) وإذا شهد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين أنهم أمنوه قبل إذا كانوا بصفة الشهود وقال الشافعي لاتقبل شهادتهم لانهم يشهدون على فعل أنفسهم ولنا أنهم عدول من المسلمين غير متهمين شهدوا بأمانه فوجب أن يقبل كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه وما ذكره لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن الحارث فإن شهد واحد: إني أمنته فقال القاضي قياس قول أحمد أنه يقبل كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت حكمت لفلان على فلان بحق فإنه يقبل قوله وعلى قول أبي الخطاب يصح امانه فقبل خبره لانه كالحاكم

ص: 557

في حال ولايته وهو قول الأوزاعي ويحتمل أن لا يقبل لأنه ليس له أن يؤمنه في الحال فلم يقبل إقراره به كما لو اقر بحق على غيره وهذا قول الشافعي (مسألة)(ومن قال لكافر أنت آمن أو لا بأس عليك أو اجرتك أوقف أو ألق سلاحك أو مترس نفذ أمنه) قد ذكرنا من يصح امانه وقد ذكرنا ههنا صفة الأمان والذي ورد به الشرع لفظتان أجرتك وأمنتك قال الله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من

أجرت وأمنا من أمنت - وقال - من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وفي معنى ذلك قوله (لا تخف لا تذهل لا تخش لاخوف عليك لا بأس عليك) وقد روي عن عمر أنه قال إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله تعالى يعلم الألسنة وروي عن عمر رضي الله عنه انه قال للهرمزان تكلم ولا بأس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن مالك ليس لك إلى ذلك سبيل قد أمنته قال عمر كلا قال الزبير إنك قد قلت تكلم ولا بأس عليك فدرأ عنه عمر القتل رواه سعيد وغيره ولا نعلم في هذا كله خلافاً وأما إن قال له قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا هو أمان أيضاً لأن الكافر يعتقد هذا أماناً فأشبه قوله أمنتك وقال الأوزاعي إن ادعى الكافر أنه أمان وقال

ص: 558

إنما وقفت لذلك فهو آمن وإن لم يدع ذلك فلا يقبل قال شيخنا ويحتمل أن هذا ليس بأمان لان لفظه لايشعر به وهو يستعمل للارهاب والتخويف فأشبه قوله لاقتلنك لكن يرجع إلى القائل فإن قال نويت به الأمان فهو أمان وإن قال لم أرد أمانه نظرنا في الكافر فإن قال اعتقدته أماناً رد إلى مأمنه ولم يجز قتله وإن لم يعتقده أماناً فليس بأمان كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه أماناً (فصل) فإن أشار إليهم بما اعتقدوه أماناً وقال أردت به الأمان فهو أمان، وإن قال لم أرد به الأمان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على أن هذه الإشارة أمان لم يجز قتلهم ويردون إلى مأمنهم فقد قال عمر رضي الله عنه والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانة فقتله لقتلته به رواه سعيد وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر فإن قيل فكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق؟ قلنا تغليباً لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليباً لحقن دمه ولان الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين ولا يفهم المسلمون كلامهم فدعت الحاجة إلى الاشار بخلاف غيره ومن قال لكافر أنت آمن فرد الأمان لم ينعقد لأنه إيجاب حق بقد (بعقد) فلم يصح مع الرد كالبيع وإن قبله ثم رده انتقض لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق (فصل) إذا سبيت كافرة وجاء ابنها يطلبها وقال ان عندي أسيراً مسلماً فاطلقوها حتى أحضره

فقال الإمام أحضره فأحضره لزم إطلاقها لأن المفهوم من هذا إجابته إلى ما سأل فإن قال الامام لم

ص: 559

أراد إجابته لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي يطلق الأسير ولا تطلق المشركة لأن المسلم حر لا يجوز أن يكون ثمن مملوكة ويقال إن اخترت شراءها فائت بثمنها ولنا أن هذا يفهم منه الشرط فوجب الوفاء به كما لو صرح به ولأن الكافر فهم منه ذلك وبنى عليه فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة وقولهم لا يكون الحر ثمن مملوكة قلنا لكن يصلح أن يفادى بها فقد فادى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الاكوع برجلين من المسلمين وفادى برجلين من المسلمين بأسير من الكفار ووفي لهم برد من جاء مسلماً وقال (إنه لا يصلح في ديننا الغدر) وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم، ولأنه التزم اطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام (المسلمون على شروطهم - وقوله - إنه لا يصلح في ديننا الغدر)(مسألة)(ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره فالقول قوله وعنه القول قول الأسير وعنه قول من يدل الحال على صدقة) إذا جاء المسلم بمشرك فادعى المشرك أنه أمنه وادعى المسلم أسره ففيه ثلاث روايات (إحداهن) القول قول المسلم لأن الأصل إباحة دم الكافر وعدم الأمان (والثانية) القول قول الأسير لأن صدقة محتمل فيكون ذلك شبهة تمنع قتله وهذا اختيار أبي بكر (والثالثة) يرجع إلى قول من يدل ظاهر الحال على صدقة فإن كان الكافر ذا قوة معه سلاحه فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفاً مسلوب السلاح فالظاهر كذبه فلا يلتفت الى قوله وقال أصحاب

ص: 560

الشافعي لا يقبل قوله وإن صدقه المسلم لأنه لا يقدر على أمانه فلم يقبل إقراره به ولنا أنه كافر لم يثبت أسره ولا نازعه فيه منازع فقبل قوله في الأمان كالرسول (فصل) ومن طلب الامان ليسمع كلام الله تعالى ويعرف شرائع الاسلام لزمه اجابتهم ثم يرد إلى مأمنه لا نعلم فيه خلافاً وبه قال قتادة ومكحول والاوزاعي والشافعي وكتب بذلك عمر بن عبد العزيز إلى الناس لقول الله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام

الله ثم أبلغه مأمنه) قال الأوزاعي هي إلى يوم القيامة (مسألة)(ومن أعطي أماناً ليفتح حصناً ففتحه واشتبه علينا حرم قتلهم واسترقاقهم) .

إذا حصر المسلمون حصناً فناداهم رجل أمنوني افتح لكم الحصن جاز أن يعطوه أماناً فإن زياد بن لبيد لما حصر النحير قال الأشعث بن قيس أعطوني الأمان لعشرة افتح لكم الحصن ففعلوا فإن أشكل عليهم وادعى كل واحد من الحصن أنه الذي أمنوه لم يجز قتل واحد منهم، لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرم فيما لاضرورة إليه فحرم الكل كما لو اشتبهت ميته بمذكاة وأخته بأجنبيات أو زان محصن بمعصومين، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا ويحرم استرقاقهم أيضاً في أحد الوجهين وذكر القاضي أن أحمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في تحريم

ص: 561

القتل فإن استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم (والوجه الثاني) يقرع فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ويسترق الباقون، قاله أبو بكر لأن الحق لواحد منهم غير معلوم فأخرج بالقرعة كما لو أعتق عبداً من عبيده وأشكل ويخالف القتل فإنه إراقة دم يندرئ بالشبهات بخلاف الرق، ولهذا يمتنع القتل في النساء والصبيان دون الاسترقاق، وقال الأوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه أشرف علينا ثم أشكل فادعى كل واحد منهم أنه الذي أسلم سعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته وقياس المذهب أن فيها وجهين كالتي قبلها.

(فصل) قال أحمد إذا قال الرجل كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوماً ليدلهم فامتنع من الدلالة فلهم ضرب عنقه لأن أمانه بشرط ولم يوجد.

قال أحمد إذا لقي علجاً وطلب منه الأمان فلا يؤمنه لأنه يخاف شره وإن كانوا سرية فلهم أمانه يعني أن السرية لا يخافون من غدر العلج بخلاف الواحد وإن لقيت السرية اعلاجا فادعوا أنهم جاءوا مستأمنين فإن كان معهم سلاح لم يقبل منهم لأن حملهم السلاح يدل على محاربتهم وإن لم يكن معهم سلاح قبل قوله لأنه دليل على صدقهم.

(مسألة) (ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية وعند أبي

الخطاب لا يقيمون سنة إلا بجزية) .

ص: 562

يجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسولا مسليمة (مسيلمة) قال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لأننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ويجوز عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقاً ومقيداً بمدة سواء كانت طويلة أو قصيرة بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقة ترك للجهاد وهذا بخلافه ويجوز أن يقيموا مدة الهدنة بغير جزية، ذكره القاضي، قال أبو بكر هذا ظاهر كلام أحمد.

وقال أبو الخطاب عندي أنه لا يجوز أن يقيم سنة بغير جزية وهو قول الأوزاعي والشافعي لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ووجه الأول أنه كافر أبيح له الاقامة في دار الإسلام من غير التزام جزية فلم يلزمه كالنساء والصبيان ولأن الرسول لو كان مما لا يجوز أخذ الجزية منه لاستوى في حقه السنة وما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين فإذا جازت له الإقامة في إحداهما جازت في الأخرى قياساً لها عليها وقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون) أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فإنه تجوز له الإقامة من غير التزام لها ولأن الآية تخصصت بما دون الحول فنقيس على المحل المخصوص.

ص: 563

(مسألة)(ومن دخل دار الإسلام بغير أمان وادعى أنه رسول أو تاجر معه متاع يبيعه قبل منه) .

إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان وادعى أنه رسول قبل منه ولم يجز التعرض له لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما) ولأن العادة جارية بذلك وإن ادعى أنه تاجر وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا لم يعرض له إذا كان معه ما يبيعه لأنهم دخلوا يعتقدون الامان أشبه مالو دخلوا بإشارة مسلم.

قال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شئ وإن لم يكن معه تجارة فقال جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الإمام فيه مخيراً ونحو هذا قول الاوزاعي والشافعي وكذلك إن كان جاسوساً لأنه حربي أخذ بغير أمان فأشبه المأخوذ في حال الحرب وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين لأنه أخذ بغير قتال في دار الإسلام فكان لآخذه كالصيد والحشيش والأخرى يكون فيئاً للمسلمين لأنه أخذ بغير قتال أشبه مالو أخذ في دار الحرب، وقد روي عن أحمد رحمه الله أنه سئل عن الدابة تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم يضلون عن الطريق فيدخلون القرية من

ص: 564

قرى المسلمين فيأخذونهم فقال يكون لأهل القرية كلهم وسئل عن مركب بعث به ملك الروم وفيه رجاله فطرحته الريح إلى طرسوس فخرج إليه أهل طرسوس فقتلوا الرجالة واخذوا الأموال فقال هذا فيئ للمسلمين مما أفاء الله عليهم، وقال الزهري هو غنيمة وفيه الخمس.

(فصل) ومن دخل دار الحرب رسولاً أو تاجراً بأمانهم فخيانتهم محرمة عليه لانهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بترك خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ فهو معلوم في المعنى وكذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا فهو ناقض لأمانه ولأن خيانتهم غدر ولا يصلح في ديننا الغدر فإن خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئاً وجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان رده إليهم وإلا بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه يحرم عليه أخذه فلزمه رده كما لو أخذه من مال مسلم.

(مسألة)(وإذا أودع المستأمن ماله مسلماً أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار الحرب بقي الأمان في ماله يبعث إليه إن طلبه) وجملة ذك (ذلك) أن من دخل من أهل الحرب إلى دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلماً أو ذمياً أو أقرضهما إياه ثم عاد إلى دار الحرب لحاجة يقضيها أو رسولاً ثم يعود إلى دار الاسلام فهو على أمانه في

نفسه وماله لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الإسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك، وإن دخل مستوطناً

ص: 565

أو محارباً بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله الذي معه تبعاً فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل في نفسه فيختص البطلان به، فإن قيل إنما يثبت الأمان لماله تبعاً فإذا بطل في المتبوع بطل في التبع قلنا بل يثبت له الامان لمعنى وجد فيه وهو إدخاله معه وهذا يقتضي ثبوت الأمان له وإن لم يثبت في نفسه بدليل مالو بعثه مع مضارب له أو وكيل فإنه يثبت له الأمان وإن لم يثبت في نفسه ولم يوجد فيه ههنا ما يقتضي نقض الأمان فيه فبقي على ما كان عليه فإن أخذه معه إلى دار الحرب انتقض الأمان فيه كما انتقض في نفسه لوجود المبطل فيهما.

إذا ثبت هذا فإذا طلبه صاحبه بعث إليه وإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو نحوهما صح تصرفه لأنه ملكه وإن مات في دار الحرب انتقل المال إلى وارثه ولم يبطل الأمان فيه، وقال أبو حنيفة يبطل وهو قول الشافعي لأنه قد صار لوارثه ولم يعقد فيه أماناً فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله ولنا أن الأمان حق واجب لازم متعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحقه كسائر الحقوق من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولأنه مال له أمان فينقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه كالمال الذي مع مضاربه وإن لم يكن له وارث صار فيئاً لبيت المال كمال الذمي إذا مات وليس له وارث فإن كان له وارث في دار الإسلام لم يرثه ذكره القاضي لاختلاف الدارين والأولى أنه يرثه

ص: 566

لأن ملتهما واحدة فورثه كالمسلمين فإن مات المستأمن في دار الإسلام فهو كموته في دار الحرب سواء لأن المستأمن حربي تجري عليه أحكامهم وإن رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي يكون أمره موقوفاً حتى يعلم آخر أمره فإن مات كان فيئاً لأن الرقيق لا يورث وإن عتق كان له وإن لم يسترق ولكن من عليه الإمام أو فاداه فماله له وإن قتله فماله لورثته كما لو مات إن لم يسب لكن دخل دار الإسلام بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله وسبيه لأن ثبوت الأمان لماله لا يثبت الأمان لنفسه كما لو كان ماله وديعة بدار الإسلام وهو مقيم بدار الحرب

(فصل) وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالاً مضاربه أو وديعة ودخل به دار الاسلام فهو في أمان حكمه حكم ما ذكرنا وإن أخذه ببيع في الذمة أو قرض فالثمن في ذمته عليه أداؤه إليه وإن اقترض حربي من حربي مالاً ثم دخل الينا فأسلم فعليه رد البدل لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فأشبه ما لو تزوج حربية ثم أسلم لزمه مهرها (فصل) وإذا سرق المستأمن في دار الإسلام أو قتل أو غصب ثم عاد إلى دار الحرب ثم خرج مستأمناً مرة ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الأول كما لو لم يدخل دار الحرب وإن اشترى عبداً مسلماً فخرج به إلى دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لأنه لم يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلاً

ص: 567

ويرد بائعه الثمن إلى الحرب لأنه حصل في أمان فإن كان العبد تالفاً فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل (فصل) وإذا دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذمياً في دارناً ثم أرادت الرجوع لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة تمنع ولنا أنه عقد لا يلزم الرجل به المقام فلا يلزم المرأة كعقد الاجارة (مسألة)(وإذا أسر الكفار مسلماً فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة لزمه الوفاء لهم ولم يكن له أن يهرب) نص عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) وقال الشافعي لا يلزمه، وإن أطلقوه وأمنوه صاروا في أمان منه لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فإن أمكنه المضي إلى دار الإسلام لزمه وإن تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب فإن خرج فأدركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الأمان لأنهم طلبوا منه الأمان وهو معصية (مسألة)(فإن لم يشترطوا شيئاً أو شرطوا كونه رقيقاً فله أن يقتل ويسرق ويهرب) أما إذا أطلقوه ولم يؤمنوه فله أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب لم يؤمنهم ولم يؤمنوه وكذلك إن شرطوا كونه رقيقاً فرضي بذلك أولم يرض لأن كونه رقيقاً حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض أماناً له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب الشافعي وإن أحلفوه على ذلك وكان مكرهاً لم تنعقد يمينه وإن كان مختاراً انعقدت يمينه ويحتمل أن تلزمه الإقامة إذا قلنا يلزمه

الرجوع إليهم على ما نذكره في المسألة التي بعدها وهو قول الليث

ص: 568

(مسألة)(وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالاً وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم وقال الخرقي لا يرجع الرجل أيضاً) وجملة ذلك أن الأسير إذا أطلقه الكفار وشرطوا عليه أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم واحلفوه فإن كان مكرهاً لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهو عليه، وإن لم يكره وقدر على الفداء الذي شرط على نفسه لزمه أداؤه وبه قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي والثوري والاوزاعي ونص الشافعي على أنه لا يلزمه لأنه حر لا يستحقون بدله ولنا قول الله تعالى (وأوفو بعهد الله إذا عاهدتم) ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على رد من جاءه مسلما وفي لهم وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه فلزمه الوفاء كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة ولأنه عاهدهم على أداء مال فلزمه الوفاء لهم كثمن المبيع والمشروط في عقد الهدنة في موضع يجوز شرطه فإن عجز عن الفداء وكانت امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل لها ذلك لقول الله تعالى (فلا ترجعونهن إلى الكفار) ولأن في رجوعها تسليطاً لهم على وطئها حراماً وقد منع الله رسوله رد النساء إلى الكفار

ص: 569

بعد صلحه على ردهن في قضية الحديبية وفيها فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن رواه أبو دواد وغيره وإن كان المفادى رجلا فقيه روايتان (إحداهما) لا يرجع اختاره الخرقي وهو قول الحسن والنخعي والثوري والشافعي لأن الرجوع إليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط قتل مسلم أو شرب الخمر (والثانية) يلزمه وهو قول عثمان والزهري والاوزاعي لما ذكرنا في بعث الفداء ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً على رد من جاءه مسلما فرد أبا بصير وأبا جندل وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) وفارق

رد المرأة فإن الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً على رد من جاءه منهم مسلماً فأمضى الله سبحانه ذلك في الرجال ونسخه في النساء وسنذكر الفرق بينهما في هذا الباب الذي بعده انشاء الله تعالى (فصل) فإن اشترى الأسير شيئاً مختاراً أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لأنه عقد معاوضة فأشبه مالو فعله غير الأسير وإن كان مكرهاً لم يصح وإن أكرهوه على قبضه لم يضمنه ولكن عليه رده إليهم إن كان باقيا لأنهم دفعوه إليه بحكم العقد وإن قبضه باختياره ضمنه لأنه قبضه باختياره عن عقد فاسد وإن باعه والعين قائمة لزمه ردها وإن عدمت رد قيمتها (فصل) وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو فإن كان بإذنه لزمه أن يؤدي إلى الذي اشتراه ما أداه فيه بغير خلاف علمناه لأنه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر كالوكيل، وإن كان بغير إذنه لزم الأسير الثمن أيضاً وبه قال الحسن والزهري والنخعي

ص: 570

ومالك والاوزاعي، وقال الثوري والشافعي وابن المنذر لا يلزمه لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم يؤذن له فيه أشبه ما لو عمر داره ولنا ما روى سعيد بن عثمان بن مطر ثنا أبو جرير عن الشبعي (الشعبي) قال أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا العرب فكتب السائب بن الأكوع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم فكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه.

وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا يشترى.

فحكم للتجار برؤوس أموالهم، ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه حقاً امتنع من أدائه، فعلى هذا إذا اختلفا في قدر الثمن فالقول قول الأسير وهو قول الشافعي إذا أذن له، وقال الأوزاعي القول قول المشتري لأنهما اختلفا في فعله وهو أعلم به ولنا ان الأسير منكر للزيادة والقول قول المنكر ولأن الأصل براءة ذمته من الزيادة فيرجح قوله بالأصل

(فصل) ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق.

ويروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي رضي الله عنهما على من فكاك الأسير؟ قال على الأرض التي يقاتل عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني)

ص: 571

وروى سعيد بإسناده عن حبان بن أبي جبلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم) وفادي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل، وفادى بالمرأة التي استوهب من سلمة بن الاكوع رجلين.

ويجب فداء أسير أهل الذمة سواء كانوا في معونتنا أو لا هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا المدافعة من ورائهم والقيام دونهم فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه إتلاف شئ فإذا أتلفه ضمن غرمه وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الامام في قتالهم فسبوا وجب عليه ذلك لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد، ومتى وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم لأن حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دينه الحق بخلاف أهل الذمة

ص: 572

(باب الهدنة) ومعناها أن يعقد الإمام أو نائبه عقداً على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وهي جائزة لقوله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) وقوله تعالى (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وروى مروان والمسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو على وضع القتال عشر سنين، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون، وإنما تجوز للنظر للمسلمين أما لضعفهم عن القتال أو للطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية أو غير ذلك من المصالح، وتجوز على غير مال لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح يوم الحديبية على غير مال، وتجوز على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى، فأما إن

صالحهم على ما يبذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغاراً للمسلمين قال شيخنا وهذا محمول على غير حال الضرورة مثل أن يخاف على المسلمين الهلاك والاسر فيحوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال كذا هذا.

ولأن بذل المال وإن كان صغارا ًفإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم

ص: 573

وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن الزهري قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبينة بن حصن وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب (أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟) فأرسل إليه عبينة إن جعلت لي الشطر فعلت قال فحدثني ابن أبي نجيح أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا يا رسول الله والله لقد كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة حول المدينة ما يطيق أن يدخلها فالآن حين جاء الله بالإسلام نعطيهم ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فنعم إذا) ولولا أن ذلك جائز لما بذله النبي صلى الله عليه وسلم (مسألة)(ولا يجوز عقد الهدنة إلا من الإمام أو نائبه) لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراد من المصلحة على ما قدمنا، ولأن تجويزه لغير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه إفتيات على الإمام، فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح، فإن دخل بعضم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمناً لأنه دخل معتقداً للأمان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح، وإن عقد الإمام الهدنة ثم مات أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لان الإمام عقده باجتهاده فلم يجز نقضه اجتهاد غيره كما لا يجوز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاده، وإذا عقد الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى

ص: 574

مدتهم) ولأنه إذا لم يف بها لم يسكن إلى عهده وقد يحتاج إلى عقدها (فصل) فان نقضوا العهد بقتال أو مظاهرة أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقض عهدهم لأن

الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد وإذا انتقض جاز قتالهم لقول الله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) الآيتين.

وقال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ولما نقضت قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم وقاتلهم وفتح مكة، وإن نقض بعضهم دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم انكار ولا مراسلة الإمام ولا تبرؤ فالكل ناقضون لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هادن قريشاً دخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وبنو بكر في حلف قريش فعدت بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقص عهدهم وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم ولأن سكوتهم يدل على رضاهم كما أن عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه جميعهم لدلالة سكوتهم على رضاهم كذلك في النقض، فإن أنكر من لم ينقض على الباقين بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال أو راسل الإمام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد لم ينتقض في حقه ويأمره الإمام بالتمييز ليأخذ الناقض وحده فإن امتنع من التميز أو إسلام الناقض صار ناقضاً لأنه منع من أخذ الناقض فصار بمنزلته، وإن

ص: 575

لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لأنه كالأسير.

فإن أسر الإمام منهم قوماً فادعى الأسير أنه لم ينقض وأشكل ذلك عليه قبل قول الأسير لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من قبله (مسألة)(فمتى رأى المصلحة جاز له عقدها مدة معلومة وإن طالت وعنه لا يجوز في زيادة على العشر فإن زاد على عشر بطل في الزيادة وفي العشر وجهان) إذا رأى الإمام المصلحة في عقد الهدنة جاز عقدها لما ذكرنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً ولا يجوز عقدها إذا لم يرى المصلحة فيه لأنه يتصرف لهم على وجه النظر أشبه ولى اليتيم ولايجوز عقدها إلا على مدة معلومة لأن مهادنتهم مطلقاً تفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية لكونها تقتضي التأييد فلم يجز ذلك وتجوز على المدة القصيرة والطويلة على حسب ما يراه الإمام من المصلحة في إحدى الروايتين وبهذا قال أبو حنيفة لأنه عقد يجوز في العشر فجاز في الزيادة عليها كعقد الإجارة (والرواية

الثانية) لا يجوز على أكثر من عشر سنين قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد واختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي لأن قوله تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم الحديبية عشراً فما زاد يبقى على مقتضى العموم فعلى هذا إن زاد على العشر يبطل في الزيادة وهل يبطل في العشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وكذلك إن هادنهم أكثر من قدر الحاجة

ص: 576

(مسألة)(وإن هادنهم مطلقاً لم يصح) لأن ذلك يقتضي التأبيد فيفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وذلك لا يجوز (مسألة)(وإن شرط فيها شرطاً فاسداً كنقضها متى شاء أو رد النساء إليهم أو صداقهن أو سلاحهم أو ادخالهم الحرم لم يصح الشرط وفي العقد وجهان) الشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين صحيح وفاسد فالفاسد مثل أن يشترط نقضها لمن شاء منهما فلا يصح ذلك لأنه يفضي الى ضد المقصود منها وإن قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين، وإن قال ما شئنا أو شاء فلان أو شرط ذلك لنفسه دونهم لم يجز أيضاً ذكره أبو بكر لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح وقال القاضي يصح وهذا قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل خيبر على أن يقرهم ما أقرهم الله تعالى ولنا أنه عقد لازم فلم يجز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمه ولم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر هدنة فإنه فتحها عنوة وإنما ساقاهم وقال لهم ذلك وإنما يدل ذلك على جواز المساقاة وليس هو بهدنة اتفاقاً، وقد واقفوا الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة إني أقركم ما أقركم الله لم يصح فكيف يصح منهم الاحتجاج به مع الإجماع على أنه لا يجوز اشتراط؟ وكذلك إن شرط رد النساء المسلمات إليهم

ص: 577

أو مهورهن أو رد سلاحهم أو إعطائهم شيئاً من سلاحنا أو من آلة الحرب أو يشرط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة إليه فهذه كلها شروط فاسدة

وكذلك إن شرط ادخالهم الحرم لقول الله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربو المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ولا يجوز الوفاء بشئ من هذه الشروط وإنما لم يصح شرط رد النساء المسلمات لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله منع الصلح في النساء) وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه (أحدها) أنها لا تأمن أن تزوج كافراً يستحلها أو يكرهها من ينالها واليه أشار الله سبحانه بقوله (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)(الثاني) إنها ربما فتنت عن دينها لأنها أضعف قلباً وأقل معرفة من الرجل (الثالث) أن المرأة لا يمكنها الهرب عادة بخلاف الرجل ولا يجوز رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا مسلمين لانهم بمنزلة المرأة في ضعف العقل والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب، فأما الطفل الذي لا يصح اسلامه فيجوز شرط رده لأنه ليس بمسلم وهل يفسد العقد بالشروط الفاسدة؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع إلا فيما إذا شرط أن لكل واحد منهما نقضها متى شاء فينبغي أن لا يصح العقد وجهاً واحداً لأن طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الأمن منهم ولا أمنهم

ص: 578

منا فيفوت معنى الهدنة ومتى وقع العقد باطلا فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقداً للأمان كان آمناً لأنه دخل بناء على العقد ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح (فصل) وإذا عقد الهدنة من غير شرط فجاءنا منهم إنسان مسلماً أو بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك سواء كان حرا أو عبدا أو رجلاً أو امرأة ولا يجب رد مهر المرأة، وقال أصحاب الشافعي إن خرج العبد إلينا لم يصر حراً لأنهم في أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر وقال الشافعي في قول له: إذا جاءت امرأة مسلمة وجب رد مهرها لقول الله تعالى (وآتوهم ما أنفقوا) يعني رد المهر إلى زوجها إذا جاء يطلبها وإن جاء غيره لم يرد اليه شئ ولنا أنه من غير أهل دار الإسلام خرج إلينا فلم يجب رده ولا رد شئ عنه كالحر من الرجال

وكالعبد إذا خرج ثم أسلم، قولهم إنهم في أمان منا.

قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام الذين هم في قبضة الامام فأما من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد قبل إسلامه ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء ليرده لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضمنه ولما انفرد هو وأبو جندل وأصحابهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم واخذوا المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامه ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم وقهرهم على نفسه فصار حراً كما لو أسلم بعد خروجه وأما المرأة فلا يجب رد مهرها لأنها لم تأخذ منهم شيئاً ولو أخذته كانت قد قهرتهم عليه في

ص: 579

دار القهر، ولو وجب عليها عوضه لوجب مهر المثل دون المسمى، وأما الآية فقد قال قتادة نسخ رد المهر، وقال عطاء والزهري والثوري لا يعمل بها اليوم، وعلى أن الآية إنما نزلت في قضية الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط رد من جاءه مسلما، فلما منع الله رد النساء وجب رد مهورهن، وكلامنا فيما إذا وقع الصلح من غير شرط فليس هو في معنى ما تناوله الأمر، وإن وقع الكلام فيما إذا شرط رد النساء لم يصح أيضاً لأن الشرط الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم شرطه كان صحيحاً وقد نسخ فإذا شرط الآن كان باطلاً ولا يجوز قياسه على الصحيح والالحاق به.

(مسألة)(وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلماً جاز ولا يمنعهم أخذه ولا يجبره على ذلك وله أن يأمرهم بقتالهم والفرار منهم) .

قد ذكر قسم الشروط الفاسدة والشروط الصحيحة مثل أن يشترط عليهم مالاً أو معونة المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط رد من جاء من الرجال مسلماً أو بأمان فهذا صحيح وقال أصحاب الشافعي لا يصح شرط رد المسلم إلا أن تكون له عشيرة تحميه وتمنعه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص بالشرط ذا العشيرة ولأن ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له لكن إنما يجوز هذا الشرط عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به

بمعنى أنهم إذا جاءوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره عل المضي معهم، وله أن يأمره سراً بالهرب.

ص: 580

منهم ومقاتلتهم فان أبا بصير لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي صلى الله عليه وسلم (إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً) فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم وأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلمه بل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال) فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وأنحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة، فجعلوا لا تمر عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها، فارسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم ان يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحداً جاءه ففعل، فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار ويأخذوا أموالهم ولا يدخلون في الصلح، فإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأخذ اموالهم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هارباً من الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل يرده قال عمر فقمت إلى جانب أبي جندل وقلت إنهم الكفار وإنما دم أحدهم دم كلب وجعلت أدني منه قائم السيف لعله أن يأخذه فيضرب به أباه قال فضن الرجل بأبيه، (فصل) وإذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي قالت يا ابن عم إلى من تدعني فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة.

ص: 581

(مسألة)(وعلى الامام حماية من هادنه من المسلمين دون غيرهم وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم) .

وذلك أن الإمام إذا عقد الهدنة لقوم فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لأنه امنه ممن هو

في قبضته وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم، ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئاً فعليه ضمانه ولا يلزمه حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض، لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط، فإن أغار عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لأنهم في عهدهم ولا يجوز لهم شراؤهم ولا استرقاقهم، وذكر عن الشافعي ما يدل على هذا ويحتمل جواز ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجب عليه من يدفع عنهم فلم يحرم استرقاقهم بخلاف أهل الذمة، فعلى هذا إن استولى المسلمون على الذين اشتروهم وأخذوا اموالهم لم يلزم رده إليهم على هذا القول، ومقتضى القول الأول وجوب رده كما يجب رد أموال أهل الذمة.

(مسألة)(وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليم على سواء) .

أي أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي وقوع ذلك في قلبه حتى يكون عن امارة تدل عليه، ولا يفعل ذلك إلا الإمام لأن نقضها لخوف الخيانة يحتاج إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم ومتى

ص: 582

نقضها وفي دارنا منهم أحد وجب ردهم إلى مأمنهم لانهم دخلوا بأمان فوجب ردهم إلى مأمنهم كما لو أفردهم بالأمان، وإن كان عليهم حق استوفي منهم، ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة قبل إعلامهم بنقض العهد للآية، ولأنهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم ولا أخذ مالهم، فإن قيل فقد قلتم أن الذمي إذا خيف منه الخيانة لم ينتقض عهده؟ قلنا عقد الذمة آكد لأنه يجب على الإمام إجابتهم إليه وهو نوع معاوضة وعقده مؤبد يخلاف الهدنة والأمان، ولهذا لو نقض بعض أهل الذمة لم ينتقض عهد الباقين بخلاف الهدنة، ولأن أهل الذمة في قبضه الإمام وتحت ولايته ولا يخشى الضرر كثيراً من نقضهم بخلاف أهل الهدنة فإنه يخشى منهم الغارة والضرر الكثير (فصل) ومن أتلف منهم شيئاً على مسلم فعليه ضمانه وإن قتله فعليه القصاص وإن قذفه فعليه الحد، لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم خمراً أو زنى لم يحد لأنه حق لله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة، وإن سرق مال مسلم

ففيه وجهان (أحدهما) لا يقطع لأنه حد خالص لله تعالى أشبه حد الزنا (والثاني) يقطع لأنه يجب صيانة لحق الآدمي فهو كحد القذف (فصل) وإذا نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة حين نقضوا عهدهم وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم ولما هادن قريشاً فنقضوا عهده حل له منهم ما كان حرم عليه منهم، ولأن الهدنة عقد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه وفسخه كعقد الإجارة بخلاف عقد الذمة

ص: 583

(باب عقد الذمة) لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه وبهذا قال الشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأنه عقد مؤبد فلم يجز أن يفتات به على الإمام، فإن فعله غيرهما لم يصح لكن إن عقده على مال لا يجوز أن يطلب منهم أكثر منه لزم الإمام إجابتهم إليه وعقدها عليه، والأصل في جواز عقد الذمة وأخذ الجزية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وأما السنة فما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه انه قال لجند كسرى يوم نهاوند: أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية رواه البخاري: وعن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً وقال له إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منه وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) رواه مسلم في أخبار كثيرة وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة (مسألة) (ولا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين

ص: 584

بالتوارة والإنجيل كالسامرة والفرنج ومن له شبهة كتاب وهم المجوس وعنه يجوز عقدها لجميع الكفار إلا

عبدة الأوثان من العرب) وجملة ذلك أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان أهل كتاب ومن له شبهة كتاب في ظاهر المذهب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوارة ويعملون بشريعة موسى وإنما خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرتج والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالأنجيل وانتسب إلى دين عيسى والعمل بشريعته فكلهم من أهل الأنجيل ومن عدا هؤلاء من الكفار فليسوا من أهل الكتاب بدليل قوله تعالى (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) فأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم الجزية لأنهم من غير الطائفتين ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما هي مواعظ وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم صحف إبراهيم وزبور داود في حديث أبي ذر، وأما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم وأخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم هذا قول أكثر أهل العلم ونقل عن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب وتحل ذبائحهم ونساؤهم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعي أهل مملكته وقال أتعلمون ديناً خيراً من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته؟ فأنا على دين آدم قال فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي

ص: 585

في صدورهم فهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - وأراه قال - وعمر منهم الجزية رواه الشافعي وسعيد وغيرهما ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولنا قول الله تعالى (ان تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) والمجوس من غير الطائفتين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) فدل على أنهم غيرهم وروى البخاري بإسناده عن بجالة أنه قال: ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس

حتى قال له عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ولو كانوا اهل كتاب لما وقف عمر في أخذ الجزية منهم مع أمر الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب.

وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة كتاب.

وما رووه عن علي فقد قال أبو عبيد لا أحسبه محفوظاً ولو كان له أصل لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك، ويحوز أن يصح هذا الذي ذكر عن علي مع تحريم نسائهم لأن الكتاب المبيح لذلك هو الكتاب المنزل على إحدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم ولأن كتابهم رفع فلم ينتهض للإباحة وثبت به حقن دمائهم، فأما قول أبي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الإجماع فلا يلتفت إليه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (سنو بهم سنة أهل الكتاب) أي في أخذ الجزية منهم إذا ثبت ذلك فإن أخذ الجزية من أهل الكتابين والمجوس اذا لم يكونوا من العرب ثابت بالإجماع لا نعلم فيه خلافا فان الصحابة رضي الله عنه أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم مع دلالة الكتاب العزيز على أخذ الجزية من أهل الكتابين ودلالة السنة المذكورة على أخذها من المجوس فإن كانوا من العرب فحكمهم حكم العجم فيما ذكرنا وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو يوسف لا تؤخذ الجزية من العرب لأنهم شرفوا بكونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 586

ولنا عموم الآية وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فأخذ أكيدر دومة فصالحه على الجزية وهو من العرب رواه ابودواد وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب وبعث معاذاً إلى اليمن فقال إنك تأتي قوماً من أهل كتاب وأمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً ولو كانوا عرباً ولأن ذلك إجماع فإن عمر أراد أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وابوا ذلك وسألوه أن يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على ما يأخذ منهم عوضاً عن الجزية فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعاً.

وقد ثبت بطريق القطع أن كثيراً من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر الصحابة في بلاد الإسلام ولايجوز إقرارهم

فيها بغير جزية فثبت يقيناً انهم أخذوا الجزية منهم (فصل) ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين (أحدهما) التزام إعطاء الجزية في كل حول (والثاني) التزام أحكام الإسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة (فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ولا تعتبر حقيقة الإعطاء ولا جريان الأحكام لأن الإعطاء إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل.

والمراد بقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد) أي يلتزموا وهذا كقوله (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فإن المراد به التزام ذلك فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول

ص: 587

(فصل) فأما غير اليهود والنصارى والمجوس من الكفار فلا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل هذا ظاهر المذهب.

وروى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغليظ كفرهم من وجهين (أحدهما) دينهم (والثاني) كونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وجهان (أحدهما) يقرون بالجزية لأنهم أهل كتاب فأشبهوا اليهود والنصارى.

وقال أبو حنيفة تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية لأنه يقر بالاسترقاق فأقر بالجزية كالمجوس.

وعن مالك أنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش لأنهم ارتدوا.

وعن الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولأنه كافر فأقر بالجزية كأهل الكتاب ولنا قول الله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) وهذا عام خص منه جميع أهل الكتاب بالآية والمجوس بالسنة فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم وقد بينا أن

أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية

ص: 588

(فصل) وإذا عقد الذمة لكفار زعموا انهم أهل كتاب ثم تبين أنهم عبدة أوثان فالعقد باطل من أصله وإن شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك لأن الأصل صحته فإن أقر بعضهم بذلك دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي فيمن لم يقر بحاله (مسألة)(فأما الصابئ فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله وإلا فلا) اختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى وقال في موضع آخر بلغني أنهم يسبتون فإذا اسبتوا فهم من اليهود وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هم يسبتون وقال مجاهد هم بين اليهود والنصارى وقال السدي والربيع هم بين أهل الكتاب وتوقف الشافعي في أمرهم والصحيح ما ذكر ههنا من أنه ينظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم، وإن خالفوهم في ذلك فليسوا منهم ويروى عنهم أنهم يقولون الفلك حي ناطق وإن الكواكب السبعة آلهة فإن كانوا كذلك فهم كعبدة الأوثان (مسألة)(ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو ولد بين أبوين لا يقبل الجزية من أحدهما فعلى وجهين)(أحدهما) أنه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده ولا بين أن يكون ابن كتابيين أو كتابي ووثني وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال أبو الخطاب من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لم تقبل منهم الجزية لأنه دخل في دين باطل ومن ولد بين أبوين احدهما تقبل من

ص: 589

الجزية والآخر لا تقبل منه ففيه وجهان وهذا مذهب الشافعي والصحيح الأول لعموم النص فيهم ولأنهم من أهل دين تقبل منه الجزية فيقرون بها كغيرهم وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية أي يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم

(مسألة)(ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من أموال المسلمين) بنو تغلب بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر رضي الله عنه إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عدوك عليك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الابل من كل خمس شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم وفيما

ص: 590

سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه أحد من الصحابة فكان اجماعا وقال به العلماء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى على نصارى بني تغلب الا الجزية وقال لا والله إلا الجزية وإلا فقد آذنتكم بالحرب وحجته عموم الاية فيهم وروي عن علي رضي الله عنه انه قال لأن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لاقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن لا ينصروا أولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا من الإجماع وأما الآية فإن هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فإن الجزية يجوز أخذها عروضا (مسألة)(ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم) كذلك قال أصحابنا تؤخذ الزكاة منهم مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وبه قال أبو حنيفة وأبو عبيد وذكر أنه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم.

زمناهم ومكافيفهم وشيوخهم إلا أن أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون من المسلمين فكذلك الواجب في مال بني تغلب لا يجب على صبي ولا مجنون إلا في الارض خاصة وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة فعنده لا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء

والصبيان والمجانين قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم

ص: 591

وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم فكان جزية كما لو أخذ باسم الجزية، يحققه أن الزكاة طهرة وهؤلاء لاطهرة لهم قال شيخنا وهذا أقيس وحجة أصحابنا أنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضهم من بعض فأجابهم عمر إليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة من كل مال زكوي لأي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض كذلك المأخوذ من بني تغلب ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال والعقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيراً أو له مال غير زكوي كالرقيق والدور وثياب البذلة فلا شئ عليه كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ من مال لم يبلغ نصابا (مسألة)(ومصرفه مصرف الجزية اختاره القاضي) وهو مذهب الشافعي لأنه مأخوذ من مشرك ولأنه جزية مسماة بالصدقة وقال أبو الخطاب مصرفه مصرف الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به فيمن يؤخذ منه مسلك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها والأول أقيس وأصح لأن معنى الشئ أخص به من اسمه ولهذا لو سمي رجل أسداً

ص: 592

لم يصر له حكم المسمى بذلك ولأنه لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة (تؤخذ من اغنائهم فترد في فقرائهم)(فصل) فإن بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا فلا يغير، ويحتمل أن يقبل لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) أي يبذلوها وهذا قد أعطى الجزية وإن كان الذي بذلها منهم حربياً قبلت منه للآية وخبر بريدة ولأنه لم يدخل في صلح الأولين فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه فإن أراد الإمام نقض العهد

وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن عبد العزيز لم يكن له ذلك لأن عقد الذمة على التأبيد وقد عقده معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكن لأحد نقضه ماداموا على العهد.

(مسألة)(ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم، وقال القاضي تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم) وجملته أن سائر أهل الكتاب من اليهود والنصارى العرب وغيرهم تقبل منهم الجزية إذا بذلوها ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني تغلب، نص عليه أحمد رواه عن الزهري قال ونذهب إلى أن يأخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة وتضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي وابو الخطاب ان حكم من تنصر من تنوخ وبهرا وتهود من كنانة وحمير وتمجس من

ص: 593

تميم حكم بني تغلب سواء وذكر أن الشافعي نص عليه في تنوخ وبهرا لأنهم من العرب فأشبهوا بني تغلب.

ولنا عموم قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال (خذ من كل حالم دينارا) وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى وأخذ الجزية من اكيدر دومة وهو عربي ولأن حكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربياً كان أو غير عربي إلا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر إياهم ففيما عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين أحد من الأئمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه (أحدها) أن قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفة النص (الثاني) أن العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد في غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة (الثالث) أن بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرر إن لم يصالحوا ولم يوجد هذا في غيرهم فإن وجد في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية أو خيف الضرر بترك مصالحتهم فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم

ص: 594

من الجزية أو زيادة، وذكر هذا أبو إسحاق في كتابه المهذب والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم قال علي بن سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية، إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم كما صنع عمر بنصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم إذا كانوا في معناهم، أما قياس من لم يصالح عليهم في جعل جزيتهم صدقة فلا يصح (مسألة)(ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير يعجز عنها) لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن الجزية لا تجب على صبي ولا امرأة ولا زائل العقل وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأبي ثور وقال ابن المنذر لا أعلم من غيرهم خلافاً وقد دل على هذا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى رواه سعيد وابو عبيد والاثرم والمجنون كالصبي لأنه غير ملكف وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) دليل على أنها لا تجب على غير بالغ ولأن الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها ولا تجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلاً (فصل) فإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها، فإن قالت أنا أتبرع بها أو أنا أؤديها قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض فإن شرطته على نفسها ثم رجعت فلها ذلك وإن بذلت

ص: 595

الجزية لتصير إلى دار الإسلام مكنت من ذلك بغير شئ ولكن يشترط عليها التزام أحكام الإسلام وتعقد لها الذمة ولا يؤخذ منها شئ إلا أن تتبرع به بعد معرفتها ان لا شئ عليها وإن أخذ منها على غير ذلك رد إليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وأن دمها لا يحقن إلا به فأشبه من أدى مالاً إلى من يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له.

ولو حاصر المسلمون حصناً ليس فيه إلا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة عقدت لهن بغير شئ وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء، فان كان في الحصن رجال فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه

وبرءوا من تجب عليه، وان بذلوا جارية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز وكان ذلك زيادة في جزيتهم وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من لا تلزمه فإن كان القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزئ في الجزية أخذوه وسقط الباقي (فصل) ولا تجب على زمن ولا أعمى ولا شيخ فان ولا على من هو في معناهم كمن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه تجب عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان (فصل) وأما العبد فإن كان لمسلم لم تجب عليه الجزية بغير خلاف علمناه لأنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا جزية على العبد) وعن ابن عمر مثله ولأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إيجابها على

ص: 596

العبد المسلم إلى إيجابها على المسلم وإن كان لكافر فكذلك نص عليه أحمد وهو قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكرنا من الحديث ولأنه محقون الدم أشبه النساء والصبيان، أو لا مال له أشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي وجوب الجزية عليه وروي ذلك عن أحمد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضاً ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذا نفذه الله منه قال أحمد رضي الله عنه أراد عمر أن تتوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكة خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر والأول أولى (فصل) واذا اعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان معتقه مسلماً أو كافراً هذا الصحيح عن أحمد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان والليث والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعنه يقر بغير جزية وروي نحوه عن الشعبي لأن الولاء شعبة كشعبة الرق وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال هذا قول قديم رجع عنه وعن مالك كقول الجماعة وعنه إن كان المعتق له مسلماً فلا جزية عليه لأن عليه الولاء لمسلم أشبه ما لو كان عليه الرق

ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتال فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الأصلي.

إذا ثبت

ص: 597

هذا فإن حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم على ما ذكرناه (فصل) ومن بعضه حر فقياس المذهب أن عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم يختلف بالرق والحرية فينقسم على قدر ما فيه كالإرث ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل أن تجب عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروي عن بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب ديناراً لعموم النصوص ولأنه كافر صحيح حر قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس.

ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء وقد ذكرنا دليل تحريم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن ولأنه لا كسب له أشبه الفقير غير المعتمل (فصل) ولا تجب على فقير عاجز عنها وهذا أحد قولي الشافعي وله قول أنها تجب عليه لقوله عليه السلام (خذ من كل حالم ديناراً) ولأن دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر ولنا أن عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقير المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شئ عليه ولأن الله تعالى قال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ولأنه مال يجب بحلول الحول فلم يلزم الفقير العاجز كالزكاة ولأن الخراج ينقسم إلى خراج أرض وخراج رؤوس وقد ثبت أن خراج الأرض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شئ عليه كذلك خراج الرؤوس وأما الحديث فيتناول الأخذ ممن يمكن الأخذ منه والأخذ ممن لا يقدر على شئ مستحيل فكيف يؤمر به ويؤخذ منه بقدر ما أدرك؟

ص: 598

(مسألة)(ومن بلغ أو أفاق أو استغنى فهو من أهلها بالعقد الأول ويؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك) ولا يحتاج إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع هو مخير بين التزام العقد وبين أن يرد

إلى مأمنه فيجاب إلى ما يختار وهو قول الشافعي ولنا أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد عقد لهؤلاء ولأن العقد يكون مع سادتهم فدخل فيه سائرهم ولأنه عقد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه كذلك كالهدنة ولأن الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج إلى تجديده له عند تغير أحوالهم كغيرهم.

إذا ثبت هذا فإن كان البلوغ والافاقة في أول أحوال قومه أخذ منه في آخره معهم، وإن كان في أثناء الحول أخذ منه عند تمام الحول بقسطه ولم يترك حتى يتم لئلا يحتاج إلى أفراده بحول وضبط حول كل إنسان منهم وربما أفضى إلى أن يصير لكل واحد حول مفرد وذلك يشق.

(مسألة)(ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولاً أخذت منه ويحتمل أن يؤخذ في آخر كل حول بقدر إفاقته منه) .

إذا كان يجن ويفيق لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون غير مضبوط مثل من يفيق ساعة من أيام أو من يوم أو يصرع ساعة من يوم أو من أيام فهذا يعتبر حالة بالأغلب لأن هذه الإفاقة غير ممكن ضبطها فلم تمكن مراعاتها.

ص: 599

(الثاني) أن يكون مضبوطاً مثل من يجن يوماً ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففيه وجهان (أحدهما) يعتبر الأغلب من حاله وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجن ويفيق فاعتبر الأغلب من حاله كالأول.

(والوجه الثاني) تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقاً في الكل وجبت الجزية فإذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيه ما يجب به لو انفرد فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان (أحدهما) أن الأيام تلفق فإذا بلغت حولاً أخذت منه لأن أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل كمال الحول فلم يجز كالصحيح (والثاني) يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة، وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا، فإن استوت إفاقته وجنونه مثل من يجن يوماً ويفيق يوماً أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت إفاقته لأنه تعذر

اعتبار الأغلب لعدمه فتعين الوجه الآخر.

(الحال الثالث) أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنوناً مستمراً فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق كما تقدم.

ص: 600

(مسألة)(وتقسم الجزية بينهم فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الفقير اثنا عشر) .

الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في تقدير الجزية (والثاني) في كمية مقدارها فأما الأول ففيه ثلاث روايات.

(إحداهن) أنها مقدرة بمقدار لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر) وفرضها عمر بمحضر من الصحابة فلم ينكر فيكون إجماعاً.

[والثانية] أنها غير مقدرة بل يرجع فيها الى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فيزاد اليوم وينقص؟ يعني من الجزية قال نعم يزاد فيها وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الإمام وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين، قال الخلال العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك وهو قول الثوري وابي عبيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن يأخذ من كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب، رواهما أبو داود، وعمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات على الغني ثمانية وأربعين درهماً وعلى المتوسط

ص: 601

اربعه وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر درهماً وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز أن يختلف فيها، قال البخاري قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم

أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار ولأنها عوض فلم تتقدر كالأجرة.

(والرواية الثالثة) إن أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقص لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه وروي أنه زاد على ثمانية وأربعين فجعلها خمسين.

(والفصل الثاني) أننا إذا قلنا بالرواية الأولى وإنها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهماً وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول أبي حنيفة، وقال مالك هي في حق الغني أربعون درهماً أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن عمر وقال الشافعي الواجب دينار في حق كل أحد لحديث معاذ إلا أن المستحب جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من غيره.

ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خالف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رحمة الله عليهم فكان

ص: 602

إجماعاً لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلوا من وجهين (أحدهما) أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد أن ذلك من أجل اليسار (والوجه الثاني) أن يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام ولأن الجزية وجبت صغارا وعقوبة فتخلف (فتختلف) باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها عوضاً عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والمكافيف (مسألة)(والغني منهم من عده الناس غنياً في ظاهر المذهب) وليس ذلك بمقدر لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف (مسألة)(وإذا بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم) لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية إلى قوله (حتى يعطوا الجزية

عن يد وهم صاغرون) فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتادة (قتالهم) للآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة (فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) فإن قلنا أن الجزية غير مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل مالا يجوز طلب أكثر منه (فصل) وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تجب بأوله ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولنا أنه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية

ص: 603

وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون نفس الإعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها (فصل) وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من نصارى نجران ألفي حلة وكان عمر رضي الله عنه يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من الجزية وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه من صاحب الإبر إبراً ومن صاحب المسال مسالاً ومن صاحب الحبال حبالاً ثم يدعوا الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا أو اقتسموا فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه.

إذا ثبت هذا فإنه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام (أو عدله معافر) ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية رؤوسهم وخراج أرضهم لقول عمر رضي الله عنه ولوهم ببيعها وخذوا أنتم من الثمن ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها فجاز أخذ أثمانها كثيابهم (مسألة)(ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية وإن مات اخذت من تركته وقال القاضي تسقط) إذا أسلم من عليه الجزية في أثناء الحول لم تجب الجزية عليه وإن أسلم بعده سقطت عنه وهذا قول مالك والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر إن أسلم بعد الحول

ص: 604

لم تقسط لأنه دين استحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام كالخراج وسائر الديون وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان (أحدهما) عليه من الجزية بالقسط كما لو أفاق بعض الحول ولنا قول الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على المسلمين جزية) رواه الخلال وذكر أن أحمد سئل عنه فقال ليس يرويه غير جرير قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج) يعني الجزية وروي أن ذمياً أسلم فطولب بالجزية وقيل إنما أسلم تعوذا قال إن في الإسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال عمر إن في الإسلام معاذا وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحول ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل وبهذا فارق الخراج وسائر الديون (فضل) فان مات بعد الحول لم تسقط عنه الجزية في ظاهر كلام أحمد وهو مذهب الشافعي وحكي عن القاضي أنها تسقط بالموت وهو قول أبي حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنها تسقط بالإسلام فسقطت بالموت كما قبل الحول ولنا أنه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين والحد إنما سقط لفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الإسلام فإنه الأصل والجزية بدل عنه فإذا أتى بالأصل استغنى

ص: 605

عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه إلى التيمم بخلاف الموت ولأن الإسلام قربة وطاعة يصلح أن يكون معاذاً من الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه (مسألة)(وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها ولم تتداخل) وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود.

ولنا انها حق مال يجب في آخر كل حول فلم يتداخل كالدية

(مسألة)(وتؤخذ الجزية منهم في آخر الحول ويمتهنون عند أخذها ويطال قيامهم وتجر أيديهم) وإنما تؤخذ منهم في آخر الحول لانه مال يتكرر بتكرر الحول فلم يؤخذ قبل حولان الحول كالزكاة ويمتهنون عند أخذها منهم وهكذا ذكر أبو الخطاب، ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وقد قيل الصغار التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم، ولا يقبل منهم إرسالها بل يحضر الذمي بنفسه ويؤديها وهو قائم والآخذ جالس (فصل) ولا يعذبون في أخذها ولا يشط عليهم فإن عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال أبو عبيد أحسبه من الجزية فقال إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا لا والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً قال فلا سوط ولا بوط؟ قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني، وقدم عليه سعيد بن عامر بن خريم فعلاه عمر بالدرة فقال سعيد سبق سيلك مطرك إن تعاقب نصبر وإن

ص: 606

تعف نشكر وإن تستعتب نعتب فقال ما على المسلمين إلا هذا مالك تبطئ بالخراج فقال أمرتنا أن لا نزيد الفلاحين على اربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم فقال عمر: لا أعزلنك ماحييت.

رواهما أبو عبيد وقال إنما وجه التأخير إلى الغلة الرفق بهم، وقال ولم نسمع في استيداء الجزية والخراج وقتاً غير هذا واستعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا على عكبرى فقال له علي رءوس الناس لا تدعن لهم درهماً من الخراج وشدد عليه القول ثم قال ائتني عند انتصاف النهار فأتا فقال اتي كنت أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا تبيعن لم في خراجهم حماراً ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف وارفق بهم وافعل بهم (مسألة)(ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين ويبين أيام الضيافة وقدر الطعام والادام والعلف وعدد من يضاف ولا يجب ذلك من غير شرط وقيل يجب) يجوز أن يشترط في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناده عن الأحنف بن قيس أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا

القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته قال إبن المنذر وروي عن عمر أنه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم.

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار وكانوا

ص: 607

ثلثمائة نفس في كل سنة وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام، ولأن في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضراراً بهم فإذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك فإن لم يشرط عليهم الضيافة لم يجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي.

ومن أصحابنا من قال تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول أصح لأنه أداء مال لم يجب بغير رضاهم كالجزية، فإن شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة، وقال الشافعي لا يجوز قتالهم عليها (فصل) قال القاضي إذا شرط الضيافة فإنه يشترط أن يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة والفرسان فيقول تضيفون في كل سنة مائة يوم في كل يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وادم كذا وللفرس من الشعير كذا ومن التبن كذا لأنه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود فإن شرط الضيافة مطلقاً صح في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه شرط عليهم ذلك من غير عدد ولا تقدير قال أبو بكر وإذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفون الذبيحة ولا أن يضيفوهم بأرفع من طعامهم لأنه يروي عن عمر رضي الله عنه انه شكى إليه أهل الذمة أن المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال أطعموهم مما تأكلون وقال الأوزاعي ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير، وقال القاضي إذا وقع الشرط مطلقاً لم يلزمهم الشعير ويحتمل أن يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل.

وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع فإن عمر رضي الله عنه صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم

ص: 608

لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوا ركبانا، فإن لم يجدوا مكاناً فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل، وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه، والسابق إلى منزل أحق به ممن يأتي بعده فإن امتنع

بعضهم من القيام بما يجب عليه أجبر عليه، فإن امتنع الجميع أجبروا، فإن لم يكن إلا بالقتال قوتلوا فإن قاتلوا انتقض عهدهم (فصل) وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب لراهب من أهل الشام إني إن وليت هذه الأرض اسقطت عنك خراجك فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابة فعرفه وقال إني جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر إن شئت أداء الجزية وإن شئت أن تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط أن تكون الضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية إذا قلنا مقدرة الأقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر أن من الشروط الفاسدة لاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية فإذا لم يعطوها كان قتالهم مباحاً.

ولنا أن هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجاز كما لو شرط عليهم عدل الجزية معافر.

وإذا شرط في عقد الذمة شرطاً فاسداً مثل أن يشترط أن لا جزية عليهم أو إظهار المنكر أو اسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم أو نحو هذا فقال القاضي يفسد به العقد لأنه شرط فعل محرم فأفسد العقد كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يبطل الشرط وحده بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة.

ص: 609

(مسألة)(وإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه، فإن لم يعرف رجع إلى قولهم فإن بان كذبهم رجع عليهم وعند أبي الخطاب أنه يسأنف العقد معهم) إذا مات الإمام أو عزل وتولى غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة الذي قبله وكان عقداً صحيحاً أقرهم عليه ولم يحتج إلى تجديد عقد لأن الخلفاء رضي الله عنهم أقروا عهد عمر ولم يجددوا عقداً سواه ولأن عقد الذمة مؤبد، وإن كان فاسداً رده إلى الصحة وإن لم يعرف فشهد به مسلمان أو كان أمره ظاهراً عمل به، وإن أشكل عليهم سألهم فإن ادعوا العقد بما يصلح أن يكون جزية قبل قولهم وعمل به، وإن شاء استحلفهم استظهاراً فإن بان له بعد ذلك انهم نقصوا من المشروط رجع

عليهم بما نقصوا، وإن قالوا كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا كذا هدية استحلفهم يميناً واحدة لأن الظاهر فيما يدفعونه أنه جزية وإن قال بعضهم كنا نؤدي ديناراً وقال بعضهم كنا نؤدي دينارين أخذ كل واحد منهم بإقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لأن أقوالهم غير مقبولة واختار أبو الخطاب أنه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم، لأن عقد الاول لم يثبب عنده فصار كالمعدوم (فصل) وما يذكره بعض أهل الذمة من أن معهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عنهم لا يصح وسئل عن ذلك أبو العباس بن سريج فقال ما نقل ذلك أحد من المسلمين وروي أنهم طولبوا بذلك فأخرجوا كتاباً وذكروا أنه بخط علي كتبه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه شهادة سعد بن معاذ

ص: 610

ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد قبل إسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولأن قولهم غير مقبول ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته.

(مسألة)(وإذا عقد الذمة معهم كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وعددهم وحلاهم ودينهم) .

فيقول فلان بن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج العين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد عن الآخر ويجعل لكل طائفة عريفاً يجمعهم عند أداء الجزية ويعرف من يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غيابهم ومن يوت أو يسلم أو يستغني أو يسافر لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط ويبين حال من خرق شيئاً من أحكام الذمة أو نقض العهد ليفعل فيه الإمام ما يجب عليه ومن أخذت منه الجزية كتب له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها.

(باب أحكام الذمة) يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله.

لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وأروش الجنايات وقيم المتلفات فإن عقد على غير هذا من الشروط لم يصح لقول الله تعالى

ص: 611

(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، قيل الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم وتلزمه إقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه في دينهم كالزنا والسرقة والقتل والقذف سواء كان الحد واجباً في دينهم أو لا لما روى أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الإسلام فأما ما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم للمجوس فيقرون عليه ولا حد عليهم فيه لأنهم يعتقدون حله ولأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم إثماً من ذلك إلا أنهم يمنعون من إظهاره بين المسلمين لأنهم يتأذون بذلك والمأخوذ من أحكام الذمة ينقسم خمسة أقسام.

(أحدهما) ما لا يتم العقد إلا بذكره وهو التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فإن أخل بذكر واحد منها لم يصح العقد لما ذكرنا وفي معنى ذلك ترك قتال المسلمين فإنه وإن لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه.

(القسم الثاني) ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وذلك ثمانية خصال تذكر في نقض العهد إن شاء الله تعالى.

(القسم الثالث) ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو رسولهم بسوء (القسم الرابع) ما فيه إظهار منكر كإحداث الكنائس والبيع ورفع أصواتهم بكتابهم وإظهار

ص: 612

الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعليه البنيان على أبنيه المسلمين والإقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع هذه الأقسام الأربعة [القسم الخامس] التميز عن المسلمين في أربعة أشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم (مسألة) (ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفرق وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وركوبهم بترك الركوب على السروج وركوبهم عرضاً على الأكف، ولباسهم فيلبسون ثياباً تخالف ثيابهم كالعسلي والأدكن، وتشد الخرق

في قلانسهم وعمائمهم، ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص وجلجل يدخل معهم الحمام) ينبغي للإمام إذا عقد الذمة أن يشرط عليهم شروطاً نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه، وقد رويت عن عمر رضي الله عنه أخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن إسماعيل بن عياش قال حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا حين قدمنا بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا وأهل ملتنا إنا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعه راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ماكان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وإن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً وأن لا نكتم أمر من غش المسلمين وأن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر علينا صليباً

ص: 613

ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين وأن لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لانجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركاً ولا نرغب في ديننا ولا ندعوا إليه أحداً ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وأن لا نمنع أحداً من أقربائنا إذا أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على اوساطنا ولاننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد، ضمنا ذلك على أنفسنا

وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وأن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.

فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن امض لهم ما سألوا وألحق فيها حرفين اشترطها عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئاً ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده.

فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط

ص: 614

فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فلذلك يلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم ويجزون شعورهم ولا يفرقونها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره وأما في الكنى فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر وأبي الحسن وشبهها.

ولا يمنعون الكنى بالكلية فإن أحمد قال لطبيب نصراني يا أبا إسحاق وقال أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على سعد بن عبادة قال (ألا ترى ما يقول أبو الحباب؟) وقال لأسقف نجران (أسلم يا أبا الحارث) وقال عمر لنصراني يا أبا حسان أسلم تسلم وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها، ولا يركبون السروج ويركبون عرضاً، رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال أن عمر رضي الله عنه أمر بجز نواصي أهل الذمة وإن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض وأما في اللباس فهو أن يلبسوا ما يخالف لونه لون سائر الثياب فعاده اليهود العسلي وعادة النصارى الأدكن وهو الفاختي وبكون هذا في ثوب واحد لا في جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانياً أو علامة أخرى إن لم يكن نصرانياً كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوة يخالف لونه لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد وجلجل يدخل معه الحمام ليفرق بينه وبين

ص: 615

المسلمين، ويلبس نساؤهم ثوباً ملوناً وتشد الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها، ولا يمنعون فاخر الثياب ولا العمائم ولا الطيلسان لحصول التميز بالغيار والزنار

(مسألة)(ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام فإن سلم أحدهم قيل له عليكم) لا يتصدرون في المجالس عند المسلمين لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا يبدؤون بالسلام وذلك لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا غادون غداً فلا تبدءوهم بالسلام وإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم) رواه الإمام أحمد بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه قال نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل الكتاب على وعليكم وقال أبو داود قلت لأبي عبد الله رحمه الله تكره أن يقول الرجل للذمي كيف أصبحت؟ أو كيف؟ أنت أو كيف حالك؟ قال نعم أكرهه هذا عندي أكثر من السلام وقال أبو عبد الله رحمه الله إذا لقيته في طريق فلا توسع له لما تقدم من حديث أبي هريرة وروي عن ابن عمر أنه مر على رجل فسلم عليه فقيل إنه كافر فقال رد علي ما سلمت عليك فرد عليه فقال أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه فقال أكثر للجزية وقال يعقوب بن يحيى سألت أبا عبد الله ققلت نعامل اليهود والنصارى ونأتيهم في منازلهم وعندهم قوم

ص: 616

مسلمون انسلم عليهم قال نعم تنوي السلام على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة فكرهه (فصل) ولا يجوز تمكينهم من شراء مصحف ولا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فقه وإن فعل فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى قال منها سألت أبا عبد الله هل يكره للمسلم أن يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال إن أسلم فنعم وإلا فأكره أن يضع القرآن في غير موضعه قلت فنعلمه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم وقال الفضل ابن زياد سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة قال لا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (مسألة)(وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان) تهنئتهم وتعزيتهم تخرج على عيادتهم فيها روايتان (إحداهما) لا نعودهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى

عن بداءتهم بالسلام وهذا في معناه (والثانية) تجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى غلاماً من اليهود كان مريضاً يعوده فقعد عند رأسه فقال (له أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) رواه البخاري (مسألة)(ويمنعون من تعلية البنيان على المسلمين وفي مساواتهم وجهان) لقولهم في شروطهم ولا نطلع عليهم في منازلهم ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الإسلام

ص: 617

يعلو ولا يعلى) ولأن في ذلك رتبة على المسلمين فمنعوا منه كما يمنعون التصدير في المجالس وإنما يمنع من تعليته على المسلم المجاور له ولا يمنع من تعليتها على من ليس بمجاور له لأن الضرر إنما يحصل عليه دون غيره وفي المساواة وجهان (أحدهما) يجوز لأنه لا يفضي إلى علو الكفر (والثاني) المنع لقوله عليه السلام (الإسلام يعلو ولا يعلى) ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم وكذلك في بنيانهم فإن كان للذمي دار عالية فملك المسلم داراً إلى جانبها أو بنى المسلم إلى جنب دار الذمي داراً دونها أو اشترى ذمي داراً عالية من المسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها لأنه ملكها على هذه الصفة ولأنه لم يعل على المسلمين شيئاً ويحتمل أن يلزمه لقوله عليه السلام (الإسلام يعلو ولا يعلى) فإن انهدمت داره العالية ثم جدد بناءه لم تجز له تعليته على بناء المسلمين وإن انهدم ما علا منها لم تكن له اعادته فإن تشعث منه شئ ولم ينهدم فله رمه وإصلاحه لأنه ملك استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة (مسألة)(وإن ملكوا داراً عالية من مسلم لم يجب نقضها لأنهم ملكوها على هذه الصفة) ويحتمل أن يجب لقولهم فيما شرطوا على أنفسهم ولا نطلع عليهم في منازلهم ولقوله عليه السلام (الإسلام يعلو ولا يعلى)(مسألة)(ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ولا يمنعون رم شعثها وفي بناء ما استهدم منها روايتان) أمصار المسلمين ثلاثة أقسام (أحدها) ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد

وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم ولا يجوز صلحهم على ذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوساً ولا يشربوا فيه خمراً ولا يتخذوا فيه خنزيراً رواه الإمام أحمد واحتج

ص: 618

به ولأن هذا البلد ملك للمسلمين ولا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من البيع والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه (القسم الثاني) ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز احداث شئ من ذلك فيه لأنها صارت ملكاً للمسلمين وما فيه من ذلك ففيه وجهان (أحدهما) يجب هدما (هدمها) وتحرم تبقينه (تبقيته) لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن تكون فيها بيعة كالبلاد التي اختطها المسلمون (والثاني) يجوز لأن في حديث ابن عباس أيما مصر مصرته العجم ثم فتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيراً من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئاً من الكنائس ويشهد بصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم أنها لم تحدث فلزم أن تكون موجودة فأبقيت، وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله أن لا تهدموا بيعه ولا كنيسة ولا بيت نار ولأن الإجماع قد حصل على ذلك فإنها موجودة في بلاد المسلمين من غير نكير (القسم الثالث) ما فتح صلحاً وهو نوعان (أحدهما) أن يصالحهم على أن الأرض لهم، ولنا الخراج عنها فلم احداث ما يخنارون لأن الدار لهم (الثاني) أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح من إحداث ذلك وعمارته لأنه إذا جاز أن يصالحهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن بعض البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معنا والاولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله

ص: 619

عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم وفيه أن لا تحدثوا كنيسة ولا

بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية، وإن وقع الصلح مطلقاً من غير شرط عمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه، فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها وما وجدوا في بلاد المسلمين من الكنائس والبيع فهي على ما كانت عليه في زمن من فتحها ومن بعدهم وكل موضع قلنا بجواز إقرارها لم يجز هدمها ولهم رم ما تشعث منها وإصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي إلى خرابها فجرى مجرى هدمها فأما إن استهدمت كلها ففيها روايتان (إحداهما) لا يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي (والثانية) يجوز وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه بناء لما استهدم أشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولأن استدامتها جائزة وبناؤها كاستدامتها وحمل الخلال قول أحمد لهم أن يبنوا ما انهدم منها على ماذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين.

ووجه الرواية الأولى أن في كتاب أهل الجزيرة لعياض بن غنم ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، وروى كثير بن مرة قال علي سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها) ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فلم يجز كما لو ابتدأ بناءها وفارق رم ماشعث فإنه إبقاء واستدامة وهذا إحداث (مسألة)(ويمنعون من إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم) يمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وضرب الناقوس ورفع أصواتهم بكتابهم وإظهار أعيادهم

ص: 620

وصلبهم لأن في شروطهم لعبد الدحمن بن غنم أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في صلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليباً ولا كتابا في سوق المسلمين وأن لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا وأن لا نجاورهم بالخنازير ولا نظهر شركا وقد ذكرنا بقية الكتاب (مسألة)(وإن صولحوا في بلادهم على إعطاء الجزية لم يمنعوا شيئاً من ذلك ولم يؤخذوا بغيار ولا زنار ولا تغيير شعورهم ولا مراكبهم) لأنهم في بلدانهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم كأهل

الحرب في الهدنة (مسألة)(ويمنعون من دخول الحرم) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لهم دخوله كالحجاز ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة والمنع من الاستيطان لا يمنع الدخول والتصرف كالحجاز ولنا قوله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقوبوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) والمراد به الحرم بدليل قوله (سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وإنما أسري به من بيت أم هانئ وهو خارج المسجد ويخالفه الحجاز لأن الله تعالى منع منه مع إذنه في الحجاز فإن هذه الآية نزلت واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز ولم يمنعوا الإقامة به وأول من أجلاهم عمر رضي الله عنه ولأن الحرم أشرف لتعلق النسك به ويحرم شجرة وصيده والملتجئ إليه فلا يصح قياس غيره عليه (مسألة)(فإن قدم رسول لا بدله من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له فإن دخل عزر وهدد وأخرج فإن مرض أو مات أخرج وإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي)

ص: 621

إذا أراد كافر الدخول إلى الحرم منع على ما ذكرنا فإن كانت معه تجارة أو ميرة خرج إليه من يشتري منه ولم يمكن من الدخول للآية وإن كان رسولا إلى الإمام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته فإن قال لابد لي من لقاء الإمام خرج إليه الإمام ولم يأذن له فإن دخل عالماً بالمنع عزر وإن دخل جاهلاً هدد وأخرج فإن مرض بالحرم أو مات أخرج ولم يدفن به لأن حرمه الحرم أعظم ويفارق الحجاز من وجهين (أحدهما) أن دخوله إلى الحرم حرام وإقامته به حرام بخلاف الحجاز (والثاني) أن خروجه من الحرم سهل ممكن لقرب الحل منه وخروجه من الحجاز في مرضه صعب ممتنع وإن دفن نبش وأخرج لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فدفن جيفته أولى أن لا يجوز فإن كان قد بلي أو يصعب إخراجه لنتنه وتقطعه ترك للمشقة فيه (فصل) فإن صالحهم الامام على دخول الحرم بعوض فالصلح باطل فان دخلوا إلى الموضع

الذي صالحهم عليه لم يرد عليهم العوض لانهم قد استوفوا ما صالحهم عليه، وان وصلوا إلى بعضه أخذ من العوض بقدره، ويحتمل أن يرد عليهم العوض بكل حال لأن ما استوفوه لا قيمة له، والعقد لم يوجب العوض لبطلانه (مسألة)(ويمنعون من الإقامة بالحجاز كالمدينة واليمامة وخيبر وفدك وما والاها) وبهذا قال مالك والشافعي إلا أن مالكا قال أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) وروى أبو داود بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلماً) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء قال (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) وسكت عن الثالث رواه أبو داود

ص: 622

وجزيرة العرب مابين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز، وقال الاصمعي وابو عبيد هي من ريف العراق إلى عدن طولا ومن تهامة وما وراها إلى أطراف الشام عرضاً وقال أبو عبيدة هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى منقطع السماوة عرضا وقال الخيل إنما قيل لها جزيرة العرب لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها.

قال أحمد جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به المدينة وما والاها وهو مكة والمدينة وخيبر والينبع وقيل ومخاليفها وما والاها وهو قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن، وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أخرجوا اليهود من الحجاز) وأما إخراج أهل نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز وإنما سمي حجازا لأنه؟ حجز بين تهامة ونجد (مسألة)(فإن دخلوا بتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام)

يجوز لهم دخول الحجاز لتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة وقال: أنا الشيخ النصراني وإن عاملك عشرني مرتين فقال عمر وأنا الشيخ الحنيف، وكتب له عمر ألا يعشروا في السنة إلا مرة فعلى هذا لا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام على ماروى عمر رضي الله عنه ثم ينتقل عنه، وقال القاضي يقيمون أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الإذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام لا يجوز إلا بإذن الإمام فيأذن لهم إذا رأى المصلحة فيه (مسألة)(فإن مرض لم يخرج حتى يبرأ وإن مات دفن به) إذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لمشقة الانتقال على المريض وتجوز الإقامة

ص: 623

لمن يمرضه لأنه لا يستغني عنه فإن كان له دين حال أجبر غريمة على وفائه فإن تعذر لمطل أو تغيب فينبغي أن تجوز له الاقامة ليستوفي دينه لأن التعدي من غيره، وفي إخراجه ذهاب ماله، وإن كان الدين مؤجلاً لم يمكن من الإقامة ويوكل من يستوفيه له لأن التفريط منه، وإن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته احتمل الجواز لأن في تكليفه تركها وحملها معه ضياع ماله وذلك مما يمنع من الدخول إلى الحجاز بالبضائع فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم، ويحتمل أن يمنع من الإقامة لأن له من الإقامة بدا فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز ويقيم فيه أيضاً ثلاثة أيام أو أربعة على الخلاف فيه وكذلك إن انتقل منه الى مكان آخر، ولو حصلت الإقامة في الجميع شهراً، وإذا مات بالحجاز دفن لأنه يشق نقله وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى (مسألة)(ولا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما) لأن عمر لم يمنعهم من ذلك (مسألة)(وهل لهم دخول المساجد بإذن مسلم؟ على روايتين) لا يجوز لهم دخول مساجد الحل بغير إذن المسلمين لما روت ام عراب قالت رأيت علياً رضي الله عنه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من أبواب كندة، فإن أذن لهم في دخولها جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد من أهل الطائف فأنزلهم

في المسجد قبل إسلامهم وقال سعيد بن المسيب كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن وهب فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه ليفتك به فرزقه الله الإسلام وفيه رواية أخرى ليس لهم دخوله بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله فقال له عمر ادع الذي كتبه ليقرأه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم لا يدخل المسجد؟ قال أنه نصراني فانتهره عمر وهذا اتفاق منهم على إنه لا يدخل المسجد وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقريره عندهم لأن حدث الحيض

ص: 624

والجنابة والنفاس يمنع الإقامة في المسجد فحدث الشرك أولى والأول أصح لأنه لو كان محرماً لما أقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم (فصل) قال أحمد في الرجل له المرأة النصرانية لا يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعه وله أن يمنعها ذلك وكذلك في الأمة قيل له أله أن يمنعها من شرب الخمر؟ قال يأمرها فإن لم تقبل فليس له منعها قيل له فإن طلبت منه أن يشتري لها زناراً قال لا يشتري زناراً؟ تخرج هي تشتري لنفسها (فصل) قال رضي الله عنه وإن اتجر ذمي الى غير بلده ثم عاد فعليه نصف العشر وقال الشافعي ليس عليه إلا الجزية إلا أن يدخل أرض الحجاز فينظر في حاله فإن كان لرسالة أو نقل ميرة أذن له بغير شئ وإن كان لتجارة لا حاجة بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضاً بحسب ما يراه.

والأولى أن يشترط نصف العشر لأن عمر شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة ولنا ما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى) وعن أنس بن سيرين قال بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت بعثتني إلى العشور من بين عمالك قال ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمرني إن أخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر رواه الإمام أحمد وهذا كان بالعراق وروى أبو عبيد في كتاب الأموال بإسناده عن لاحق بن عميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف

إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما وهذا كان بالعراق واشتهرت هذه القصص وعمل بها الخلفاء بعده ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً ولم يأت تخصيص الحجاز بنصف العشر في شئ من الأحاديث عن عمر ولا غيره فيما علمنا ولأن ما وجب في الحجاز من الأموال وجب في غيره كالديون والصدقات إذا ثبت هذا فلا فرق في ذلك بين بني تغلب ولا غيرهم.

وروى عن أحمد أن التغلبي يؤخذ منه العشر ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة لما روي بإسناده عن زياد بن حدير أن عمر رضي الله عنه

ص: 625

بعثه مصدقاً فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الذمة نصف العشر رواه أبو عبيد قال: والعمل على حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة وهو أن يكون عليهم الضعف مما على المسلمين ألا تسمعه يقول من كل عشرين درهماً درهم؟ وإنما يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهم فذلك ضعف هذا وهو ظاهر كلام الخرقي وهو أقيس فإن الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على المسلمين لا ضعف ما على أهل الذمة (فصل) ولا يؤخذ من غير مال التجارة شئ فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة لم يؤخذ منه شئ نص عليه أحمد رحمه الله إلا أن تكون الماشية للتجارة فيؤخذ منها نصف العشر (فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال عمر: قال في موضع ولو هم بيعها ولا يكون إلا على الأخذ منها وروي بإسناده عن سويد بن غفلة في قول عمر ولو هم بيع الخمر والخنزير لعشرها قال أحمد إسناده جيد، وممن رأى ذلك مسروق والنخعي وابو حنيفة وبه قال محمد بن الحسن في الخمر خاصة وذكر القاضي أن أحمد نص على أنه لا يؤخذ وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو عبيد وأبو ثور قال عمر بن عبد العزيز الخمر لا يعشرها مسلم.

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عتبة بن فرقد بعث إليه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر بعث إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس

وقال والله لااستعملتك علي شئ بعدها قال فنزعه قال أبو عبيد معنى قول عمر ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها اذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها وروى بإسناده عن سويد بن غفلة أن بلالاً قال لعمر إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال لا تأخذوه ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن

ص: 626

(فصل) وإذا مر الذمي بالعشر وعليه دين بقدر ما معه أو ينقص ما معه عن النصاب فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذ نصف العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول فمنعه الدين كالزكاة فإن ادعى الدين احتاج إلى بينة مسلمين وإن مر بجارية فادعى أنها ابنته أو أخته قبل قوله في إحدى الروايتين لأن الأصل عدم ملكه.

(والثانية) لا يقبل لأنها في يده أشبهت البهيمة ولأنه تمكنه إقامة البينة.

(مسألة)(فان انجر حربي إلينا أخذ منه العشر ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير) .

هذا قول أحمد رحمه الله وقال أبو حنيفة لا يؤخذ منهم شئ إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئاً فنأخذ منهم مثله لما روي عن أبي مجلزقال قالوا لعمر كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟ قالوا العشر قال فكذلك خذوا منهم وعن زياد بن حدير قال كنا لانعشر مسلماً ولا معاهداً قال من كنتم تعشرون؟ قال كفار أهل الحرب نأخذ منهم كما يأخذون منا، وقال الشافعي إن دخل إلينا لتجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه وما شرطه جاز ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر رضي الله عنه، وإن أذن مطلقاً من غير شرط فالمذهب أنه لا يؤخذ منهم شئ لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شئ كالهدنة ويحتمل أن يجب عشر لأن عمر أخذه.

ولنا ما رويناه في المسألة التي قبلها ولأن عمر أخذ منهم العشر واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده والأئمة في كل عصر من غير نكيرفاي إجماع يكون أقوى من هذا؟ ولم ينقل عنه أنه شرط عليهم ذلك عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالظن من غير نقل ولأن مطلق الأمر

يحمل على المعهود في الشرع وقد اشتهر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء الراشدين فيجب أخذه فأما سؤال عمر عما يأخذون منا فإنما كان لأنهم سألوا عن كيفية الأخذ ومقداره ثم استمر الأخذ من غير سؤال، ولو تقيد أخذنا منهم بأخذهم منا لوحب أن يسأل عنه في كل وقت

ص: 627

(فصل) ويؤخذ منهم العشر لكل مال للتجارة في ظاهر كلامه ههنا وهو ظاهر قول الخرقي،.

وقال القاضي إن دخلوا في نقل ميرة بالناس إليها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر وهو قول الشافعي لأن في دخولهم نفع المسلمين.

ولنا عموم مارويناه، وقد روى صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ليكثر الحمل إلى المدينة فعلى هذا يجوز للإمام التخفيف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك أيضاً إذا رأى المصلحة لانه فيئ فملك تخفيفه وتركه كالخراج.

(فصل) ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر ذكراً كان أو انثى صغيراً أو كبيراً، وقال القاضي ليس على المرأة عشر ولا نصف عشر سواء كانت حربية أو ذمية لكن إن دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الإقامة به، قال شيخنا ولا نعرف هذا التفصيل عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بني تغلب وصبيانهم فكذلك يوجب العشر ونصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون النساء وليس هذا بجزية إنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الإسلام وانتفاعه بالتجارة فيه فيستوي فيه الذكر والأنثى كالزكاة في حق المسلمين.

(فصل) واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه العشر ونصف العشر فروى صالح عنه في نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا يعني فإذا نقصت عن العشرين فليس عليه شئ لأن ما دون النصاب لا يجب فيه زكاة على مسلم ولا على تغلبي فلا يجب على ذمي كالذي دون العشرة وروى صالح أيضاً أنه قال إذا مروا بالعاشر فإن كانوا أهل الحرب أخذ منهم العشر من العشرة واحداً فإن كانوا من

أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا فإذا نقصت فليس عليه شئ وإن نقص مال الحربي عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شئ ولا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة المسلم والذمي في ذلك سواء وروى عن أحمد أن في العشرة نصف مثقال وليس فيما دون العشرة شئ، نص عليه

ص: 628

في رواية أبي الحارث قال قلت إذا كان مع الذمي عشرة دنانير قال نأخذ منه نصف دينار قلت فإن كان معه أقل من عشرة دنانير، قال إذا نقصت لم يؤخذ منه شئ وذلك لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم ولأنه مال معشور فوجب في العشرة منه كمال الحربي وقال ابن حامد يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي من كل مال قل أو كثر لأن عمر قال خذ من كل عشرين درهماً درهماً ولأنه حق عليه فوجب في قليلة وكثيره نصيب المالك في أرضه التي عامله عليها.

ولنا أنه عشر ونصف عشر وجب بالشرع فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمرة ولأنه حق يقدر بالحول فاعتبر له النصاب كالزكاة، وأما قول عمر فالمراد به والله أعلم بيان قدر المأخوذ وأنه نصف العشر ومعناه إذا كان معه عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهماً درهماً لأن في صدر الحديث أن عمر أمر مصدقاً وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا، وإنما يؤخذ ذلك من المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيرهم (مسألة) (ويؤخذ منه في كل عام مرة، وقال ابن حامد يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا لا يعشر الذمي ولا الحربي في السنة إلا مرة، نص عليه أحمد لما روي الإمام أحمد بإسناده قال جاء شيخ نصراني إلى عمر فقال إن عاملك عشرني في السنة مرتين، قال ومن أنت؟ قال أنا الشيخ النصراني فقال وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله لا تعشروا في السنة إلا مرة، ولأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة فكذلك هذا، ومتى أخذ منهم ذلك مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون عليه فلا يعشرهم ثانية إلا أن يكون معه أكثر من المال الأول فيأخد منه الزيادة لأنها لم تعشر وحكي عن أبي عبد الله بن حامد أن الحربي يعشر كلما دخل إلينا وهو قول بعض أصحاب

الشافعي لأننا لو أخذنا منه واحدة لا يأمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت السنة لم يدخلوا فيتعذر الأخذ منهم

ص: 629

ولنا أنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كنصف العشر من الذمي، وقولهم يفوت لا يصلح فإنه يؤخذ منه أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه ثم لا يؤخذ منه شئ حتى تمضي تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل فإن لم يدخل فما فات من حق السنة الأولى شئ (مسألة)(وعلى الامام حفظهم والمنع من أذاهم واستنقاذ من أسر منهم) تلزمه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم ولهذا قال علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيراً أن يوفى لهم بعهدهم ويحاطوا من ورائهم ويجب فداء أسراهم سواء كانوا في معونتنا أو لم يكونوا وهذا ظاهر قول الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا القتال من ورائهم والقيام دونهم فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام في قتال فسبوا وجب عليه فداءهم لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد ومتى وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم ولأن حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض الفتنة عن دين الحق بخلاف أهل الذمة (فصل) ومن هرب منهم إلى دار الحرب ناقضاً للعهد عاد حربياً حكمه حكم الحربي سواء كان رجلاً أو امرأة ومتى قدر عليه أبيح منه ما يباح من الحربي من القتل والأسر وأخذ المال فإن هرب بأهله وذريته أبيح من الهاربين منهم ما يباح من أهل الحرب ولم يبح سبي الذرية لأن النقض إنما وجد من البالغين دون الذرية، وإن نقضت طائفة من أهل الذمة جاز غزوهم وقتالهم، وإن نقص بعضهم دون بعض اختص حكم النقض بالناقض وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز أن ينبذ إليهم عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم بدليل أن الإمام تلزمه إجابتهم بخلاف عقد الأمان والهدنة فإنه لمصلحة

المسلمين ولأن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة وكذلك إذا نقض بعض أهل الذمة العهد

ص: 630

وسكت بقيتهم لم يكن سكوتهم نقضاً وفي عقد الهدنة يكون نقضا (مسألة) وإن تحاكموا إلى الحاكم مع مسلم لزمه الحكم بينهم وإن تحاكم بعضهم مع بعض أو استعدى بعضهم على بعض خير بين الحكم بينهم وبين تركهم) لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واحب وطريقه الحكم لقول الله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) ولأنهما كافران فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمنين ولا يحكم بينهم إلا بحكم الإسلام لقول الله تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) وعنه يلزمه الحكم بينهم لقول الله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولأن رفع الظلم عنهم واجب وطريقه الحكم فوجب كالحكم بين المسلمين (فإن استعدت المرأة على زوجها في طلاق أو إيلاء أو ظهار فإن شاء أعداهما وإن شاء تركهما على الرواية الأولى فإن أحضرت زوجها حكم عليه بحكم المسلمين في مثل ذلك، فإن كان قد ظاهر منها منعه وطأها حتى يكفر وتكفيره بالإطعام لأنه لا يصح منه الصوم ولا يصح شراؤه للعبد المسلم ولا تملكه (مسألة)(وإن تبايعوا بيوعاً فاسدة وتقابضوا لم ينقض فعلهم لانه عقدتم قبل إسلامهم على ما يجوز ابتداء العقد عليه فأقروا عليه ولم ينقض كأنكحتهم وإن لم يتقابضوا فسخه سواء كان قد حكم بينهم حاكمهم أم لا) لأنه عقد لم يتم ولا يجوز الحكم بإتمامه لكونه فاسداً فتعين نقضه وحكم حاكمهم وجوده كعدمه لأن من شرط الحاكم النافذة أحكامه الإسلام ولم يوجد (فصل) سئل أحمد رحمه الله عن الذمي يعامل بالربا ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم وذلك المال في يده فقال لا يلزمه أن يخرج منه شيئاً لأن ذلك مضى في حال كفره فأشبه نكاحه في الكفر إذا أسلم، وسئل عن المجوسيين يجعلان ولدهما مسلماً فيموت وهو ابن خمس سنين، فقال يدفن في مقابر المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فأبواه يهودانه أو ينصرانه اويمجسانه)) يعني أن هذين لم يمجساه فبقي على الفطر (الفطرة) :، وسئل عن أطفال المشركين فقال: اذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (أعلم بما كانوا عاملين) قال وكان ابن عباس يقول (وأبواه يهودانه وينصرانه - حتى سمع - الله أعلم بما كانوا عاملين) فترك قوله

وسأله ابن الشافعي فقال يا أبا عبد الله ذراري المشركين والمسلمين؟ فقال هذه مسائل أهل الزيغ وقال أبو عبد الله سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال

ص: 631

يا صبي أنت تسأل عن هذا؟ قال أحمد ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ولا نقول شيئاً وسئل عن أطفال المسلمين فقال ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه عصفور من عصافير الجنة فقال وهذا حديث؟ وذكر فيه رجلاً ضعفه طلحة وسئل عن الرجل يسلم بشرط أن لا يصلي إلا صلاتين فقال يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس وقال معنى حديث حكيم بن حزام بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخر إلا قائماً أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع قال وحديث قتادة عن نصر بن عاصم أن رجلاً منهم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يصلي طرفي النهار.

(مسألة)(وإن تهود نصراني أو تنصر يهودي لم يقر ولم يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام فإن أبى هدد ويحبس ويحتمل أن يقبل وعنه أنه يقر) إذا انتقل الكتابي إلى دين آخر من دين أهل الكتاب ففيه ثلاث روايات (إحداهن) لا يقر لأنه انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه فلم يقر عليه كالمرتد.

فعلى هذا يجبر على الإسلام ولأن ما سواه باطل اعترف ببطلانه قبل ينتقل إليه ثم اعترف ببطلان دينه حين انتقل عنه فلم يبق إلا الاسلام (والثانية) لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه لأننا أقررناه عليه أولاً فنقره عليه ثانياً (والثالثة) يقر نص عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال وصاحبه وقول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب فأشبه غير المنتقل ولأنه دين أهل الكتاب فيقر عليه كأهل ذلك الدين وفي صفة إجباره على ترك ما انتقل إليه روايتان (احدهما) يجبر عليه بالقتل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (من بدل دينه فاقتلوه) ولأنه ذمي نقض العهد فأشبه ما لو نقضه بترك التزام الذمة وهل يستتاب؟ يحتمل وجهين (احدهما) يستتاب لأنه استرجع عن دين باطل انتقل إليه فيستتاب كالمرتد

(والثاني) لا يستتاب لأنه كافر أصلي أبيح دمه فأشبه الحربي فعلى هذا إن بادر وأسلم أو رجع إلى ما يقر عليه عصم دمه وإلا قتل (والثانية) أنه يجبر بالضرب والحبس فإن أحمد قال إذا دخل اليهودي في النصرانية رددته إلى اليهودية فقيل له اتفقله (أتقتله) قال لا ولكن يضرب ويحبس لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب فلم يقتل كالباقي على دينه ولأنه مختلف فيه فلا يقتل للشبهة

ص: 632

(مسألة)(وإن انتقل إلى غير دين أهل الكتاب أو انتقل المجوسي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر وأمر أن يسلم فإن أبى قتل إذا انتقل الكتابي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر عليه لا نعلم فيه خلافا لأنه انتقل إلى دين لا يقر عليه بالجزية كعبدة الأوثان فالأصلي منهم لا يقر فالمنتقل أولى وإن انتقل إلى المجوسية لم يقر لأنه انتقل إلى أدنى من دينه فلم يقر كالمسلم إذا أرتد وكذلك الحكم في المجوسي إذا انتقل إلى إلى أدنى من دينه كعبادة الأوثان كذلك وإذا قلنا لا يقر ففيه ثلاث روايات (إحداهن) لا يقبل منه إلا الإسلام، نص عليه أحمد واختاره الخلال وصاحبه وهو أحد قولي الشافعي لأن غير الإسلام أديان باطلة فقد أقر ببطلانها فلم يقر عليها كالمرتد وإذا قلنا لا يقبل منه إلا الإسلام فأبى أجبر عليه بالقتل لأنه انتقل إلى دين أدنى من دينه أشبه المرتد.

(والثانية) لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه لأن دينه الأول قد أقررناه عليه مرة ولم ينتقل إلى خير منه فنقره عليه إن رجع إليه ولأنه انتقل من دين يقر عليه إلى دين لا يقر عليه فقبل رجوعه إلى دينه كالمرتد إذا رجع إلى الإسلام.

(والثالثة) أنه يقبل منه أحد ثلاثة أشياء الإسلام أو الدين الذي كان عليه أو دين أهل الكتاب لأنه دين أهل الكتاب فيقر عليه كغيره من أهل ذلك الدين وإذا انتقل المجوسي إلى غير دين أهل الكتاب ثم رجع إلى المجوسية أقر عليه في إحدى الروايتين لأنه أقر عليه أولاً فيقر عليه ثانيا.

(مسألة)(وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام) إذا انتقل المجوسي إلى دين أهل الكتاب ففيه أيضاً الروايات الثلاث (إحداهن) لا يقبل منه

إلا الاسلام لما ذكرنا (والثانية) يقر على ما انتقل إليه لأنه أعلى من دينه ولأنه انتقل إلى دين يقر عليه أهله والثالثة لا يقبل منه إلا الإسلام أو دينه الذي كان عليه لما تقدم (مسألة)(وإن تمجس الوثني فهل يقر؟ على روايتين) إحداهما يقر لما ذكرنا والثانية لا يقر لأنه انتقل إلى دين لا تحل ذبائح أهله ولا تنكح نساؤهم أشبه ما لو انتقل إلى دين لا يقر عليه أهله والأولى أولى (فصل)(في نقض العهد وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام أحكام الملة انتقض عهده)

ص: 633

إذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام أحكام الملة إذا حكم بها حاكم انتقض عهده بغير خلاف في المذهب سواء شرط عليهم أو لا، وهو مذهب الشافعي لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) قيل الصغار التزام أحكام المسلمين فأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد وفي معنى هذين قتالهم للمسلمين منفردين أو مع الحرب لأن إطلاق الأمان يقتضي ذلك وقال أبو حنيفة لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام بحيث يتعذر أخذ الجزية منهم ولنا ما ذكرناه ولأنه ينافي الأمان أشبه مالو امتنعوا من بذل الجزية (مسألة) وإن تعدى على مسلم بقتل أو قذف أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس أو ذكر الله تعالى أو كتابة أو رسوله بسوء فعلى روايتين) ويلتحق بذلك أو فتن مسلم عن دينه أو إصابة المسلمة باسم نكاح (إحداهما) ينتقض عهده اختاره القاضي والشريف أبو جعفر سواء شرط عليهم أو لم يشرط ومذهب الشافعي نحو هذا فيما إذا شرط عليهم لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه رفع إليه رجل أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال ما على هذا صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس وقيل لأبن عمر إن راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعط الأمان على هذا ولما روي عن عمر أنه أمر عبد الرحمن بن غنم أن يلحق في كتاب صلح الجزيرة ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده ولأن فيه ضرراً على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية ولأنه لم يف

بمقتضى الذمة وهو الأمن من جانبه فانتقض عهده كما لو قاتل المسلمين (والثاينة) لا ينتقض العهد به لكن يقام عليه الحد فيما يوجب الحد أو يقتص منه فيما يوجب القصاص ويعذر فيما سوى ذلك بما ينكف به أمثاله عن فعله لأن ما يقتضيه العهد من التزام الجزية وأحكام المسلمين والكف عن قتالهم باق فوجب بقاء العهد (مسألة)(وان أظهر منكراً أو رفع صوته بكتابه لم ينتض عهده) وظاهر كلام الخرقي أنه ينتقض إن كان مشروطاً عليهم أما ما سوى الخصال المذكورة في المسألة

ص: 634

التي قبلها كالتميز عن المسلمين وترك إظهار المنكر ونحو ذلك فإن لم يشرط عليهم لم ينتقض عهدهم به لأن العقد لا يقتضيها ولا ضرر فيها على المسلمين وإن شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي إن عهدهم ينتقض بمخالفتنا لقوله ومن نقض العهد بمخالفة شئ مما صولحوا عليه حل دمه وماله.

ووجه ذلك أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء الشروط: وأن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ولأنه عقد بشرط فزال بزوال الشرط كما لو امتنع من بذل الجزية وقال غيره من أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ولا ينافي عقد الذمة أشبه ما لو لم يشرطه ولكنه يعزر ويلزم ما تركه (مسألة)(ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه كالأسير الحربي) لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به قال شيخنا في كتاب العمدة إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب وذكر في كتاب المغني أنه لا يباح سبي الذرية وإن ذهب بهم إلى دار الحرب وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه كالأسير الحربي فيخير فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء لأن عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه امرأة ولأنه كافر لا أمان له قدرنا عليه في دارنا بغير عقد ولا عهد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي هذا اختيار القاضي، وقال بعض أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل بكل حال وذكر أن أحمد نص عليه (مسألة)(وماله فيئ عند الخرقي وقال أبو بكر هو لورثته)

ص: 635

التي قبلها كالتميز عن المسلمين وترك إظهار المنكر ونحو ذلك فإن لم يشرط عليهم لم ينتقض عهدهم به لأن العقد لا يقتضيها ولا ضرر فيها على المسلمين وإن شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي إن عهدهم ينتقض بمخالفتنا لقوله ومن نقض العهد بمخالفة شئ مما صولحوا عليه حل دمه وماله.

ووجه ذلك أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء الشروط: وأن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ولأنه عقد بشرط فزال بزوال الشرط كما لو امتنع من بذل الجزية وقال غيره من أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ولا ينافي عقد الذمة أشبه ما لو لم يشرطه ولكنه يعزر ويلزم ما تركه (مسألة)(ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه كالأسير الحربي) لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به قال شيخنا في كتاب العمدة إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب وذكر في كتاب المغني أنه لا يباح سبي الذرية وإن ذهب بهم إلى دار الحرب وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه كالأسير الحربي فيخير فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء لأن عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه امرأة ولأنه كافر لا أمان له قدرنا عليه في دارنا بغير عقد ولا عهد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي هذا اختيار القاضي، وقال بعض أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل بكل حال وذكر أن أحمد نص عليه (مسألة)(وماله فيئ عند الخرقي وقال أبو بكر هو لورثته) لأنه إنما عصم بعقد الذمة فزال بزواله كالمرتد لأن ماله كان معصوماً فلا تزول عصمته بنقضه العهد كأولاده الصغار (آخر كتاب الجهاد والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)(تسليما كثيراً)(تم بحمد الله وعونه الجزء العاشر من كتابي المغني والشرح الكبير)(ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الحادي عشر منهما وأوله (كتاب الصيد والذبائح)

ص: 635