المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية: أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه - الصارم المسلول على شاتم الرسول

[ابن تيمية]

الفصل: ‌المسألة الثانية: أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه

يظهر دين الله على الدين كله وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

والنهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر وأعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه والصغار الذي التزموه ووجب علينا أن نجاهد الذي أظهروا كلمة الكفر وجهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم والله سبحانه أعلم.

ص: 253

‌المسألة الثانية: أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه

.

أما إن كان مسلما فبالإجماع لأنه نوع من المرتد أو من الزنديق والمرتد يتعين قتله وكذلك الزنديق وسواء كان رجلا أو امرأة وحيث قتل يقتل مع الحكم بإسلامه فإن قتله حد بالاتفاق فيجب إقامته وفيما قدمناه دلالة واضحة على قتل السابة المسلمة من السنة وأقاويل الصحابة فإن في بعضها تصريحا بقتل السابة المسلمة وفي بعضها تصريحا بقتل السابة الذمية وإذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة أولى كما لا يخفى على الفقيه.

ومن قال من أهل الكوفة: "إن المرتدة لا تقتل" فقياس مذهبه أن لا تقتل السابة لأن الساب عنده مرتد وقد كان يحتمل مذهبه أن تقتل السابة حدا كقتل الساحرة عند بعضهم وقتل قاطعة الطريق ولكن أصوله تأبى ذلك.

والصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة فالسابة أولى وهو الصحيح لما تقدم وإن كان الساب معاهدا فإنه يتعين أيضا قتله سواء كان رجلا أو امرأة عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم.

وقد ذكرنا قول ابن المنذر فيما يجب على من سب النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 253

قال: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم فحده القتل وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي.

قال: وحكى عن النعمان: لا يقتل من سبه من أهل الذمة وهذا لفظ دليل على وجوب قتله عند العامة وهذا مذهب مالك وإسحاق وسائر فقهاء المدينة وكلام أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذين:

أحدهما: انتقاض عهده.

والثاني: أنه حد من الحدود وهو قول فقهاء الحديث.

قال إسحاق بن راهويه: إن أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منهم ذلك أو تحقق عليهم قتلوا وأخطأ هؤلاء الذين قالوا: "ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال إسحاق: "يقتلون لأن ذلك نقض العهد" وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولا شبهة في ذلك لأنه يصير في ذلك ناقضا للصلح وهو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما على هذا صالحناهم".

وكذلك نص الإمام أحمد على وجوب قتله وانتقاض عهده وقد تقدم بعض نصوصه في ذلك وكذلك نص عامة أصحابه على وجوب قتل هذا الساب ذكروه بخصوصه في مواضع وهكذا ذكروه أيضا في جملة ناقضي العهد من أهل الذمة.

ثم المتقدمون منهم وطوائف من المتأخرين قالوا: إن هذا وغيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام أحمد.

وذكر طوائف منهم أن الإمام مخير فيمن نقض العهد من أهل الذمة كما يخير في الأسير بين الاسترقاق والقتل والمن والفداء ويجب عليه فعل الأصلح

ص: 254

للأمة من هذه الأربعة بعد أن ذكروه في الناقضين للعهد فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام وإطلاقه وإلا وجب أن يقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيره من ناقضي العهد لكن قيد محققو أصحاب هذه الطريقة ورؤوسهم مثل القاضي أبي يعلي في كتبه المتأخرة وغيره هذا الكلام وقالوا: التخيير هو غير ساب الرسول وأما سابه فيتعين قتله وإن كان غيره كالأسير وعلى هذا فإما أن لا يحكى في تعين قتله خلاف لكون الذين أطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع آخر بأن الساب يتعين قتله وصرح رأس أصحاب هذه الطريقة بأنه مستثنى من ذلك الإطلاق أو يحكى فيه وجه ضعيف لأن الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع آخر.

واختلف أصحاب الشافعي أيضا فيه فمنهم من قال: يجب قتل الساب حتما وإن خير في غيره.

ومنهم من قال: هو كغيره من الناقضين للعهد وفيه قولان: أضعفهما أنه يلحق بمأمنه والصحيح منهما جواز قتله قالوا: ويكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح للأمة من القتل والاسترقاق والمن والفداء.

وكلام الشافعي في موضع يقتضي أن حكم الناقض للعهد حكم الحربي فلهذا قيل: إنه كالأسير وفي موضع آخر أمر بقتله عينا من غير تخيير.

وتحريم الكلام في ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة فيما ينتقض به العهد وفي حكم ناقض العهد على سبيل العموم ثم نتكلم في خصوص مسألة السب.

أما الأول فإن ناقض العهد قسمان: ممتنع لا يقدر عليه إلا بقتال ومن هو في أيدي المسلمين.

أما الأول فأن يكون لهم شوكة ومنعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية والتزام أحكام الملة الواجبة عليهم دون ما يظلمهم به الوشاة أو يلحقوا

ص: 255

بدار الحرب مستوطنين بها فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع فإذا أسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه حكم أهل الحرب إذا أسروا يفعل بهم الإمام ما يراه أصلح.

قال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال أحمد: إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى وأما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد ومن كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شيء وذلك أن امرأة علقمة بن علاثة قالت: إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد وكذلك روى عن الحسن فيمن نقض العهد: ليس على النساء شيء.

وقال في رواية صالح وقد سئل عن قوم من أهل العهد في حصن ومعهم مسلمون فنقضوا العهد والمسلمون معهم في الحصن: ما السبيل فيهم؟ قال: ما ولد لهم من بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يسبون ومن كان قبل ذلك لا يسبون فقد نص على أن ناقض العهد إذا أسر بعد المحاربة بخير الإمام فيه وعلى أن الذرية الذين ولدوا بعد ما نقضوا العهد بمنزلة من نقض العهد يسبون فعلم أن ناقض العهد يجوز استرقاقه وهذا هو المشهور من مذهبه.

وعنه: أنهم إذا قدر عليهم فإنهم لا يسترقون بل يردون إلى الذمة قال في رواية أبي طالب في رجل من أهل العهد لحق بالعدو هو وأهله وولده وولد له في دار العدو قال: يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار العدو ويردون هم وأولادهم الذين ولدو في دار الإسلام إلى الجزية قيل له: لا يسترق

ص: 256

أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام؟ قال: لا قيل له: فإن كانوا أدخلوهم صغارا ثم صاروا رجالا قال: لا يسترقون أدخلوهم مأمنهم.

وكذلك قال في رواية ابن إبراهيم وقد سأله عن رجل لحق بدار الحرب هو وأهله وولد له في بلاد العدو وقد أخذه المسلمون قال: ليس على ولده وأهله شيء ولكن ما ولد له وهو في أيديهم يسترقون ويردون هم إلى الجزية.

فقد نص على أن الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية هو وولده الذين كانوا موجدين وأنهم لا يسترقون وأن ولده الذين حدثوا بعد المحاربة يسترقون وذلك لأن صغار ولده سبي من أولاد أهل الحرب وهم يصيرون رقيقا بنفس السبي فلا يدخلون في عقد الذمة أولا ولا آخرا وأما أولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة.

فعلى الرواية الأولى المشهورة يخير الإمام في الرجال إذا أسروا فيفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قتل واسترقاق ومن فداء وإذا جاز أن يمن عليهم جاز أن يطلقهم على قبول الجزية منهم وعقد الذمة لهم ثانيا لكن لا يجب عليه ذلك كما لا يجب عليه في الأسير الحربي الأصلي إذا كان كتابيا وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى بني قريظة وأسرى من أهل خيبر ولم يدعهم إلى إعطاء الجزية ولو دعاهم إليها لأجابوا.

وعلى الرواية الثانية يجب دعائهم إلى العود إلى الذمة كما كانوا كما يجب دعاء المرتد إلى أن يعود إلى الإسلام أو يستحب كما يستحب دعاء المرتد ومتى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد وقبول الجزية من الحربي الاصلي إذا بذلها قبل الأسر ومتى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم جعلا لنقض الأمان كنقض الإيمان ولو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته.

ص: 257

وبنحو من هذه الرواية قال أشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء قال: "لا يعود الحر قنا ولا يسترق أبدا بحال بل يردون إلى ذمتهم بكل حال".

وكذلك قال الشافعي في الأم وقد ذكر نواقض العهد وغيرها قال: "وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان ذلك فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا بنقض عهد".

وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون قد فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فإن فعل أو قال مما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطي جزية" قتل وأخذ ماله فيئا.

فقد نص على وجوب قبول الجزية منه إذا بذلها وهو في أيدينا وأنه إذا امتنع منها ومن الإسلام قتل وأخذ ماله ولم يخير فيه.

ولأصحابه في وجوب قبول الجزية من أسير الحربي الأصلي وجهان.

وعن الإمام أحمد رواية ثالثة: أنهم يصرون رقيقا إذا أسروا.

وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا أسر الروم من اليهود ثم ظهر المسلمون عليهم فإنهم لا يتبعونهم وقد وجبت لهم الجزية إلا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك.

وهذا هو المشهور من مذهب مالك قال ابن القاسم وغيره من المالكية: "إذا خرجوا ناقضين للعهد ومنعوا الجزية وامتنعوا منا من غير أن يظلموا ولحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم وإذا انتقض عهدهم ثم أسروا فهم فيء ولا يردون إلى ذمتنا

ص: 258

فأوجبوا استرقاقهم ومنعوا أن يعقد لهم الذمة ثانيا كأنه جعل خروجهم من الذمة مثل ردة المرتد يمنع إقراره بالجزية لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم أصليا.

وقال أصحاب أبي حنيفة: من نقض العهد فإنه يصير كالمرتد إلا أنه يجوز استرقاقه والمرتد لا يجوز استرقاقه.

فأما إن لم يقدر عليهم حتى بذلوا الجزية وطلبوا العود إلى الذمة فإنه يحوز عقدها لهم لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدوا الذمة لأهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية وثالثة بعد أن نقضوا العهد والقصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام وما أحسب في هذا خلافا فإن مالكا وأصحابه قالوا: إذا منعوا الجزية وقاتلوا المسلمين والإمام عدل فإنهم يقاتلون حتى يردوا إليه مع أن المشهور عندهم أن الأسير منهم لا يرد إلى الذمة بل يكون فيئا فإذا كان مالك لا يخالف في هذه المسألة فغيره أولى أن لا يخالف فيها لأنه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الأسير منهم إلى الذمة.

فإن بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الأصلي؟ إن قلنا إنه يجب رد الأسير منهم إلى ذمته فهؤلاء أولى وإن قلنا لا يجب هناك فيتوجه أن لا يجب هنا أيضا لأن بني قينقاع لما نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أراد قتلهم حتى ألح عليه عبد الله بن أبي في الشفاعة فيهم فأجلاهم إلى أذرعات ولم يقرهم بالمدينة مع أن القوم كانوا حراصا على المقام بالمدينة بعهد يجددونه وكذلك بنو قريظة لما حاربت أرادوا الصلح والعود إلى الذمة فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكذلك بنو النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم أنزلهم على الجلاء من المدينة مع أنهم كانوا أحرص شيء على المقام بدارهم بأن يعودوا إلى الذمة وهؤلاء الطوائف كانوا أهل ذمة عاهدوا النبي صلى الله عليه

ص: 259

وسلم أن الدار دار الإسلام يجري فيها حكم الله تعالى ورسوله وأنه مهما كان بين أهل العهد من المسلمين ومن هؤلاء المعاهدين من حدث فأمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هكذا في كتاب الصلح فإذا كانوا نقضوا العهد فبعضا قتل وبعضا أجلى ولم يقبل منهم ذمة ثانية مع حرصهم على بذلها علم أن ذلك لا يجب ولا يجوز أن يكون ذلك لكون أرض الحجاز لا يقر فيها أهل دينين ولا يمكن الكفار من المقام بها لأن هذا الحكم لم يكن شرع بعد بل قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة وبالمدينة غيره من اليهود وبخيبر خلائق منهم وهي من الحجاز ولكن عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأن لا يبقى بها دينان فأنفذ عهده في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والفرق بين هؤلاء وبين المرتدين أن المرتد إذا عاد إلى الإسلام فقد أتى بالغاية التي يقاتل الناس حتى يصلوا إليها فلا يطلب منه غير ذلك وإن ظننا أن باطنه خلاف ظاهره فإنا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس وأما هؤلاء فإن الكف عنهم إنما كان لأجل العهد ومن خفنا منه الخيانة جاز لنا أن ننبذ إليه العهد وإن لم يجز نبذ العهد إلى من خفنا منه الردة فإذا نقضوا العهد فقد يكون ذلك أمارة على عدم الوفاء وإن إجابتهم إلى العهد إنما فعلوه خوفا وتقية ومتى قدروا غدروا فيكون هذا الخوف مجوزا لترك معاهدتهم على أخذ الجزية كما كان يجوز نبذ العهد إلى أهل الهدنة بطريق الأولى.

وفي هذا دليل على أنه لا يجب رد الأسير الناقض للعهد إلى الذمة بطريق الأولى فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يردهم إلى الذمة وقد طلبوها ممتنعين فإن لا يردهم إليها إذا طلبوها موثقين أولى وقد أسر بني قريظة بعد نقض العهد فقتل مقاتلتهم ولم يردهم إلى العهد ولأن الله تعالى قال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا

ص: 260

يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} فلو كان الناكث كلما طلب العهد منا وجب أن نجيبه لم يكن للنكث عقوبة يخافها بل ينكث إذا أحب لكن يجوز أن نعيدهم إلى الذمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الزبير بن باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو وأهله وماله على أن يسكن أرض الحجاز وكان من أسرى بني قريظة الناكثين فعلم جواز إقرارهم في الدار بعد النكث وإجلاء بني قينقاع بعد القدرة عليهم إلى أذرعات فعلم جواز المن عليهم بعد النكث وإذا جاز المن على الأسير الناكث وإقراره في دار الإسلام فالمفاداة به أولى.

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الناقضين تدل على جواز القتل والمن على أن يقيموا بدار الإسلام وأن يذهبوا إلى دار الحرب إذا كانت المصلحة في ذلك وفي ذلك حجة على من أوجب إعادتهم إلى الذمة وعلى من أوجب استرقاقهم.

فإن قيل: إنما أوجبنا إعادتهم إلى الذمة لأن خروجهم عن الذمة ومفارقتهم لجماعة المسلمين كخروجهم عن الإسلام ومفارقة جماعة المسلمين أو نقض الأمان كنقض الإيمان فإذا كان المرتد عن الإسلام لا يقبل منه ما يقبل من الكافر الأصلي بل إما الإسلام أو السيف فكذلك المرتد عن العهد لا يقبل منه ما يقبل من الحربي الأصلي بل إما الإسلام أو العهد وإلا فالسيف ولأنه قد صارت لهم حرمة العهد المتقدم فمنعت استرقاقهم كما منع استرقاق المرتد حرمة إسلامه المتقدم.

قلنا: المرتد بخروجه عن الدين الحق بعد دخوله فيه تغلظ كفره فلم يقر عليه بوجه من الوجوه فتحتم قتله إن لم يسلم عصمه للدين كما تحتم غيره من الحدود حفظا للفروج وغير ذلك ولم يجز استرقاقه لأن فيه إقرارا له

ص: 261

على الردة لا لتشرفه بدين قد بدله وناقض العهد قد نقض عهده الذي كان يرعى به فزالت حرمته وصار بأيدي المسلمين من غير عقد ولا عهد فصار كحربي أسرناه وأسوء حالا منه ومثل ذلك لا يجب المن عليه بجزية ولا بغيرها لأن الله تعالى إنما أمرنا أن نقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمن أخذناه قبل أن يعطي الجزية لم يدخل في الآية لأنه لا قتال معه بل قد خيرنا الله إذا شددنا الوثاق بين المن والفداء ولم يوجب المن في حق ذمي ولا كتابي ولأن الأسير قد صار للمسلمين فيه حق بإمكان استبعاده والمفاداة به فلا يجب عليهم بذل حقهم منه مجانا وجاز قتله لأنه كافر لا عهد له وإنما هو باذل للعهد في حال لا تجب معاهدته وذلك لا يعصم دمه.

فإن قال من منع من إعادته إلى الذمة وجعله فيئا: هذا من على الأسير مجانا وذلك إضاعة لحق المسلمين فلم يجز إتلاف أموالهم.

قلنا: هذا مبني على أنه لا يجوز المن على الأسير والمرضيّ جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة ومدعي النسخ يفتقر إلى دليل.

فإن قيل: خروجه عن العهد موجب للتغليظ عليه فينبغي إما أن يقتل أو يسترق كما أن المرتد يغلظ حاله بتعين قتله فإذا جاز في هذا ما يجوز في الحربي الأصلي لم يبق بينهما فرق.

قلنا: إذا جاز استرقاقه جاز إقراره بالجزية إذا لم يكن المانع حقا لله لأنه ليس في ذلك إلا فوات ملك رقبته وقد يرى الإمام أن في إقراره بالجزية أو في المن عليه والمفاداة به مصلحة أكبر من ذلك بخلاف المرتد فإنه لا سبيل في استبقائه وبخلاف الوثني إذا جوزنا استرقاقه فإن المانع من إقراره بالجزية حق لله وهو دينه وناقض العهد دينه قبل النقض وبعده سواء ونقضه إنما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين فكان الرأي فيه إلى أميرهم.

ص: 262

فإن قيل: فهلا حكيتم خلافا أنه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي وقد قال أبو الخطاب: إذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام أحمد أنه يقتل في الحال قال: وقال شيخنا: يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء فأطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا وتبعه طائفة على الإطلاق ومن قيده قيده بأن ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم ونحوه فأما إن نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير ويؤيد هذا ما رواه عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد وقاتلوا المسلمين قال: "أرى أن لا يقتل الذرية ولا يسبون ولكن يقتل رجالهم" قلت لأبي: فإن ولد لرجالهم أولاد في دار الحرب قال: "أرى أن يسبوا أولئك ويقتلوا" قلت لأبي: فإن هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسباهم المسلمون ترى لهم أن يسترقوا؟ قال: "الذرية لا يسترقون ولا يقتلون لأنهم لم ينقضوا هم إنما نقض العهد رجالهم وما ذنب هؤلاء؟ " فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتلة من هؤلاء إما لمجرد النقض أو للنقض والقتال.

قلنا: قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد وقاتل المسلمين فإنه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام وإذا أسر حكم فيه الإمام بما رأى.

ونص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على أنه يسترق في رواية وعلى أن يعاد إلي ذمته في رواية أخرى فلم يجز أن يقال: ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف والذين قالوا ذلك إنما أخذوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها؟ على أن أبا الخطاب وغيره لم يذكروا هذه الصورة ولم يدخل في كلامهم أعني صورة اللحاق بدار الحرب وإنما ذكروا من نقض العهد بأن ترك ما يجب عليه في العهد أو فعل ما ينتقض به عهده وهو في قبضة المسلمين.

ص: 263

وذكروا أن ظاهر كلام أحمد يعين قتله وهو صحيح ممن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهمه أتي لا من كلامهم ومن ذكر اللحاق بدار الحرب وقتال المسلمين والامتناع من أداء الجزية وغير ذلك في النواقض فإنه احتاج أن يفرق بين اللحاق بدار الحرب وبين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد وغيره من الأئمة على الناقض الممتنع.

والفرق بينهما أنه من لم يوجد منه إلا اللحاق بدار الحرب فإنه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها وإنما ترك العهد الذي بيننا وبينه فصار ككافر لا عهد له كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره.

ويجب أن يعلم أن من لحق بدار الحرب صار حربيا فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها إن أسلم أو عاد إلى الذمة ولذلك قال الخرقي: "ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا" وكذلك أيضا إذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية أو الحكم ولهم شوكة ومنعة قاتلوا بها عن أنفسهم فإنهم قد قاتلوا بعد أن انتقض عهدهم وصار حكمهم حكم المحاربين فلا يتعين قتل من استرق منهم بل حكمه إلى الإمام ويجوز استرقاقه كما نص الإمام أحمد على هذه الصورة بعينها لأن المكان الذي تحيزوا فيه وامتنعوا بمنزلة دار الحرب ولم يجنوا على المسلمين جناية ابتدءوا بها للمسلمين وإنما قاتلوا عن أنفسهم بعد أن تحيزوا وامتنعوا وعلم أنهم محاربون فمن قال من أصحابنا إن من قاتل المسلمين يتعين قتله ومن لحق بدار الحرب خير الإمام فيه فإنما ذاك إذا قاتلهم ابتداء قبل أن يظهر نقض العهد ويظهر الامتناع بأن يعين أهل الحرب على قتال المسلمين ونحو ذلك فأما إذا قاتل بعد أن صار في شوكة ومنعة يمتنع بها عن أداء الجزية فإنه يصير

ص: 264

كالحربي سواء كما تقدم ولهذا قلنا على الصحيح: إن المرتدين إذا أتلفوا دما أو مالا بعد الامتناع لم يضمنوه وما أتلفوه قبل الامتناع ضمنوه وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الفرق.

وأما ما ذكره الإمام أحمد في رواية عبد الله فإنما أراد به الفرق بين الرجال والذرية ليتبين أن الذرية لا يجوز قتلهم وأن الرجال يقتلون كما يقتل أهل الحرب ولهذا قال في الذرية الذين ولدوا بعد النقض "يسبون ويقتلون" وإنما أراد أنهم يسبون إذا كانوا صغارا ويقتلون إذا كانوا رجالا أي يجوز قتلهم كأهل الحرب الأصليين ولم يرد أن القتل يتعين لهم فإنهم على خلاف الإجماع والله أعلم.

القسم الثاني: إذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفة أن مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد ولا ينقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة ومنعة فيمتنعوا بذلك على الإمام ولا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم أو تخلفوا بدار الحرب لأنهم إذا لم يكونوا ممتنعين أمكن الإمام أن يقيم عليهم الحدود ويستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابتة كمن خرج عن طاعة الإمام من أهل البغي ولم تكن له شوكة.

وقال الإمام: مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ناقضين للعهد ومنعا للجزية وامتنعوا منا من غير أن يظلموا أو يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم لكن يقتل عنده الساب والمستكره للمسلمة على الزنى وغيرهما.

وأما مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد فإنهم قسموا الأمور المتعلقة بذلك قسمين أحدهما يجب عليهم فعله والثاني يجب عليهم تركه.

فأما الأول فإنهم قالوا: إذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله وهو أداء الجزية أو جريان أحكام الملة عليه إذا حكم بها حاكم المسلمين انتقض العهد بلا تردد

ص: 265

قال الإمام أحمد في الذي يمنع الجزية: إن كان واجدا أكره عليها وأخذت منه وإن لم يعطها ضربت عنقه وذلك لأن الله تعالى أمر بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والإعطاء له مبتدأ وتمام فمبتدأه الالتزام والضمان ومنتهاه الأداء والإعطاء ومن الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم فمتى لم يتم إعطاء الجزية أو أعطوها وليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي أمرنا بقتالهم إليها فيعود القتال ولأن حقن دمائهم إنما ثبت ببذل الجزية والتزام جريان أحكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه وأتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام إذا امتنع منه وأتى بكلمة الكفر.

وعلى ما ذكره الإمام أحمد فلا بد أن يمتنع من ذلك على وجه لا يمكن استيفاؤه منه مثل أن يمتنع من حق بدني لا يمكن فعله ونيابة عنه دائما أو يمتنع من أداء الجزية ولعيب ماله كما قلنا في المسلم إذا امتنع من الصلاة أو الزكاة فأما إن قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة أو الزكاة.

وأما القسم الثاني وهو ما يجب عليهم تركه فنوعان: أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين والثاني ما لا ضرر فيه عليهم والأول قسمان أيضا: أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وأموالهم: مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يعين على قتال المسلمين أو يتجسس للعدو بمكاتبه أو كلام أو إيواء عين من عيونهم أو يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح والقسم الثاني ما فيه أذى وغضاضة عليهم: مثل أن يذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بالسوء والنوع الثاني ما لا ضرر فيه عليهم: مثل إظهار أصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس والكتاب ونحو ذلك ومثل مشابهة المسلمين في هيآتهم ونحو ذلك وقد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الأقسام

ص: 266

فإذا نقض الذمي العهد ببعضها وهو في قبضة الإمام مثل أن يزني بمسلمة أو يتجسس للكفار فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يقتل قال في رواية حنبل: كل من نقض العهد أو أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا يعني مثل سب النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة فقد نص على أن من نقض العهد وأتى بمفسدة مما ينقض العهد قتل عينا وقد تقدمت نصوصه أن من لم يوجد منه إلا نقض العهد بالامتناع فإنه كالحربي.

وقال في مواضع متعددة في ذمي فجر بامرأة مسلمة: يقتل ليس على هذا صولحوا والمرأة إن كانت طاوعته أقيم عليها الحد وإن كان استكرهها فلا شيء عليها.

وقال في يهودي زنى بمسلمة: يقتل: لأن عمر رضي الله عنه أتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى أشد من نقض العهد قيل: فعبد نصراني زنى بمسلمة قال: "يقتل أيضا وإن كان عبدا".

وقال في مجوسي فجر بمسلمة: يقتل هذا نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه.

وقال مهنا: سالت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة: ما يصنع به؟ قال: "يقتل" فأعدت عليه قال: "يقتل" قلت: إن الناس يقولون غير هذا قال: "كيف يقولون؟ " فقلت: يقولون عليه الحد قال: "لا ولكن يقتل" فقلت له: في هذا شيء؟ قال: "نعم عن عمر أنه أمر بقتله".

ص: 267

وقال في رواية جماعة من أصحابه في ذمي فجر بمسلمة: يقتل قيل: فإن أسلم قال: يقتل هذا قد وجب عليه.

فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا أو غير محصن وأن القتل واجب عليه وإن أسلم وأنه لا يقام عليه حد الزنا الذي يفرق فيه بين المحصن وغير المحصن واتبع ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك أن رجلا نخس بامرأة فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب ورواه المروزي عن مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة: "أن رجلا من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام وهي على الحمار فصرعها وألقى نفسه عليها فرآه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فأتى عوف عمر فحدثه حديثه فأرسل إلى المرأة يسألها فصدقت عوفا فقال: قد شهدت أختنا فأمر به عمر فصلب قال: فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر: "أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له".

وروى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة وذكر فيها أن الحمار صرع المرأة وأن النبطي أرادها فامتنعت واستغاثت قال عوف: "فأخذت عصاي فمشيت في أثره فأدركته فضربت رأسه ضربة ذا عجر ورجعت إلى منزلي" وفيه: "فقال للنبطي: "أصدقني فأخبره".

وقال الإمام أحمد أيضا في الجاسوس: إذا كان ذميا قد نقض العهد يقتل وقال في الراهب: لا يقتل ولا يؤذى ولا يسأل عن شيء إلا أن نعلم منه أنه يدل على عورات المسلمين ويخبر عن أمرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه.

وقد نص الإمام أحمد على أنه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فإنه يقتل

ص: 268

ثم اختلف أصحابنا بعد ذلك فقال القاضي وأكثر أصحابه مثل أبيه أبي الحسين والشريف أبي جعفر وأبي المواهب العكبري وابن عقيل وغيره وطوائف بعدهم: إن من نقض العهد بهذه الأشياء وغيرها فحكمه كحكم الأسير يخير الإمام فيه كما يخير بالأسير بين القتل والمن والاسترقاق والفداء وعليه أن يختار من الأربعة ما هو أصلح للمسلمين قال القاضي في المجرد: "إذا قلنا قد انتقض عهده فإنا نستوفي منه الحقوق والقتل والحد والتعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه وهذه أحكامنا فإذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل والاسترقاق ولا يرد إلى مأمنه لأنه بفعل هذه الأشياء قد نقض العهد وإذا نقض عاد بمعناه الأول فكأنه رجل نصراني بدار الإسلام".

ثم إن القاضي في الخلاف قال: "حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء: القتل والاسترقاق والمن والفداء" لأن الإمام أحمد قد نص في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء وحكم الأسير لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان قال: ويحمل كلام الإمام أحمد إذا رآه الإمام صلاحا واستثنى في الخلاف وهو الذي صنفه آخرا ساب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة قال: فإنه لا تقبل توبته ويتحتم قتله ولا يخير الإمام في قتله وتركه لأن قذف النبي صلى الله عليه وسلم حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي.

وقد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد وتعليله حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال: إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى وعلى هذا نقول:

ص: 269

فللإمام أن يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الأصلي.

وهذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي والقول الآخر للشافعي أن من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مأمنه ثم من أصحابه من استثنى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره ومنهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره أصحابه وأما لفظه فإنه قال في الأم: "إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط" إلى أن قال: "وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما أعطي من الأمان وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما يحل أموال أهل الحرب ودمائهم وعلى أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده وأحل دمه وماله وإن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم".

ثم قال: فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فإن لم يرضها فلا عقد له ولا جزية.

ثم قال: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا

ص: 270

يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل.

قال: فإن فعل أو قال ما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول "أسلم أو أعطى جزية" قتل وأخذ ماله فيئا وهذا اللفظ يعطى وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام والعود إلى الذمة.

وسلك أبو الخطاب في "الهداية" والحلواني وكثير من متأخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها وهو الصواب فإن الإمام أحمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام وجعل هذا أشد من نقض العهد باللحاق بدار الحرب ثم إنه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير ونص هنا على أن على الإمام يخير أن يقتل ولا يخفى لمن تأمل نصوصه أن القول بالتخيير مطلقا مخالف لها.

وأما أبو حنيفة فلا تجئ هذه المسألة على أصوله لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة ومنعة فيمتنعون بذلك على الإمام ولا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم.

ومذهب مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين منا مانعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب لكن مالكا يوجب قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم عينا وقال: "إذا استكره الذمي مسلمة على الزنى قتل إن كانت حرة وإن كانت أمة عوقب العقوبة الشديدة" فمذهبه إيجاب القتل لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال؟: "إنه يرد إلى مأمنه" قال: لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مأمنه كما لو دخلها بأمان صبي وهذا ضعيف جدا لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية

ص: 271

فهذه الآية وإن كانت نزلت في أهل الهدنة فعمومها لفظا ومعنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى وقد أمر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك مأمنهم وغير مأمنهم ولأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية أو لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الآية ولأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من رأوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الأشرف وكانوا معه معاهدين ولم يأمر بردهم إلى مأمنهم وكذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مأمنهم ولما نقضت بنو قريظة العهد قاتلهم وأسرهم ولم يبلغهم مأمنهم وكذلك كعب بن الأشرف نفسه أمر بقتله غيلة ولم يشعره أنه يريد قتله فضلا عن أن يبلغه مأمنه وكذلك بنو النضير أجلاهم على أن لا ينقلوا إلا ما حملته الإبل إلا الحلقة وليس هذا بإبلاغ للمأمن لأن من بلغ مأمنه يؤمن على نفسه وأهله وماله حتى يبلغ مأمنه وكذلك سلام ابن أبي الحقيق وغيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير ولم يبلغهم مأمنهم ولأنه قد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وأبا عبيدة ومعاذ ابن جبل وعوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد أن يفجر بالمسلمة وصلبوه ولم ينكره منكر فصار إجماعا ولم يردوه إلى مأمنه ولأن في شروط عمر التي شرطها على النصارى "فإن نحن خالفا عن شيء شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل لأهل المعاندة والشقاق" رواه حرب بإسناد صحيح وقد تقدم عن عمر وغيره من الصحابة مثل أبي بكر وعمر وابن عباس وخالد بن الوليد وغيرهم رضوان الله عليهم أنهم قتلوا وأمروا بقتل ناقض العهد ولم يبلغوه مأمنه ولئن دمه كان مباحا وإن عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة بقي على الإباحة ولأن الكافر لو دخل دار الإسلام بغير أمان وحصل في أيدينا جاز قتله في دارنا وأما من دخل بأمان صبى فإنما ذاك لأنه يعتقد أنه مستأمن

ص: 272

فصارت له شبهة أمان وذلك يمنع قتله كمن وطء فرجا يعتقد أنه حلال لا حد عليه وكذلك لا ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط وأما هذا فإنه ليس له أمان ولا شبهة أمان لأن مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة أمان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينتقض به العهد مفرط في ذلك عالم أنا لم نصالحه على ذلك فأي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمأمنه؟ نعم لو فعل من نواقض العهد ما لم يعلم أنه يضرنا مثل أن يذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بشيء يحسبه جائزا عندنا كان معذورا بذلك فلا ينقض العهد كما تقدم ما لم يتقدم إليه كما فعل عمر بقسطنطين النصراني.

وأما من قال أنه كالأسير الحربي إذا حصل في أيدينا فقال: لأنه كافر حلال الدم حصل في أيدينا وكل من كان كذلك فإنه مأسور فلنا أن نقتله كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ولنا أن نمن عليه كما من النبي صلى الله عليه وسلم على ثمامه بن أثال الحنفي وعلى أبي عزة الجمحي ولنا أن نفادي به كما فادى النبي صلى الله عليه وسلم بعقيل وغيره ولنا أن نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الأسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر ومماليك العباس وغيرهم أما قتل الأسير واسترقاقه فما أعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه والمفادة هل هو باق أو منسوخ؟ على ما هو معروف في مواضعه وهذا لأنه إذا نقض العهد عاد كما كان والحربي الذي لا عهد له إذا قدر عليه جاز قتله واسترقاقه ولأنه ناقض للعهد فجاز قتله واسترقاقه كاللاحق بدار الحرب والمحارب في طائفة ممتنعة إذا أسر بل هذا أولى لأن نقض العهد بذلك متفق عليه فهو أغلظ فإذا جاز أن يحكم فيه بحكم الأسير ففي هذا أولى نعم إذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق عليه ونحو ذلك أقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا أو جلدا ثم إن بقي حيا بعد إقامة حد تلك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لا حد عليه.

ص: 273

ومن فرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سائر النواقض قال: لأن هذا حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعف عنه فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق ولا بالتوبة كسب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله تحرير مأخذ السب.

وأما من قال إنه يتعين قتله إذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما إذا لم يوجد منه إلا مجرد اللحاق بدار الحرب والامتناع عن المسلمين فلأن الله تعالى قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} فأوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد وطعنوا في الدين ومعلوم أن مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد وأوكد فلا بد أن يفيد هذا زيادة توكيد وما ذاك إلا لأن الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عنى قتاله إذا اقتضت المصلحة ذلك إلى وقت فيجوز استبقائه بخلاف هذا الذمي نقض وطعن فإنه يجب قتاله من غير استتابة وكل طائفة وجب قتالها من غير استئناف لفعل يبيح دم آحادها فإنه يجب قتل الواحد منهم إذا فعله وهو في أيدينا كالردة والقتل في المحاربة والزنى ونحو ذلك بخلاف البغي فإنه لا يبيح دم الطائفة إلا إذا كانت ممتنعة وبخلاف الكفر الذي لا عهد معه فإنه يجوز الاستيناء بقتل أصحابه بالجملة وقوله سبحانه: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} دليل على أن الله تعالى يريد الانتقام منهم وذلك لا يحصل من الواحد إلا إذا قتل ولا يحصل إن من عليه أو فودي به أو استرق نعم دلت الآية على أن الطائفة الناقضة الممتنعة يجوز أن يتوب الله على من يشاء منها بعد أن يعذبها

ص: 274

ويخزيها بالغلبة لأن ما حاق بهم من العذاب والخزي يكفي في ردعهم وردع أمثالهم عما فعلوه من النقض والطعن أما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن قوله عن فعله.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سبى بني قريظة قتل المقاتلة واسترق الذرية إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك وحديثها مع عائشة رضي الله عنها معروف ففرق صلى الله عليه وسلم بين من اقتصر على نقض العهد وبين من آذى المسلمين مع ذلك وكان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين أنه آذى المسلمين إلا ندب إلى قتله وقد أجلى كثير ومن على كثير ممن نقض العهد فقط.

وأيضا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهدوا أهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين أو ثلاثا وكذلك مع أهل مصر ومع هذا فلم يظفروا بمعاهد آذى المسلمين بطعن في الدين أو زنى بمسلمة ونحو ذلك إلا قتلوه وأمروا بقتل هؤلاء الأجناس عينا من غير تخيير فعلم أنهم فرقوا بين النوعين.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مقيس بن حبابة وعبد الله بن خطل ونحوهما مما ارتد وجمع إلى ردته قتل مسلم ونحوه من الضرر ومع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير وقتلوا من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحة الأسدي عكاشة بن محصن وغيره ولم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فإذا كان المرتد يؤخذ بما أصابه قبل الامتناع من الجنايات ولا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لأن كليهما خرج عما عصم به دمه: هذا نقض إيمانه وهذا نقض أمانه وإن كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب وغيره فإنما قسنا على أصل ثبت بالسنة وإجماع

ص: 275

الصحابة نعم المرتد إذا عاد إلى الإسلام عصم دمه إلا من حد يقتل بمثله المسلم والمعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضرة بالمسلمين لأنه يصير مباحا بالنقض ولم يعد إلى شيء يعصم دمه فيصير كحربي يغلظ قتله يبين ذلك أن الحربي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا آذى المسلمين وضرهم قتله عقوبة له على ذلك ولم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر المسلمين أولى بذلك ألا ترى أنه لما من على أبي عزة الجمحي وعاهده أن لا يعين عليه فغدر به ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب أن يمن عليه فقال: "لا تسمح سبلاتك بمكة وتقول: سخرت بمحمد مرتين" ثم قال: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لأنه ضره بعد أن كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من أهل الذمة أنه لا يؤذي المسلمين ثم أذاهم لو أطلقوا للدغوا من جحر واحد مرتين ولمسح المشرك سبلاته وقال: سخرت بهم مرتين.

وأيضا فلأنه إذا لحق بدار الحرب وامتنع لم يضر المسلمين وإنما أبطل العقد الذي بينهم وبينه فصار كحربي أصلي أما إذا فعل ما يضر بالمسلمين من مقاتلة أو زنى بمسلمه أو قطع طريق أو حبس أو نحو ذلك فإنه يتعين قتله لأنه لو لم يقتل لخلت هذه المفاسد عن العقوبة عليها وتعطلت حدود هذه الجرائم ومثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلأن لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي أولى وأحرى ولا يجوز أن يقام عليه حدها منفردا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لأن صاحبها صار حربيا والحربي لا يقام عليه إلا القتل فتعين قتله وصار هذا كالأسير اقتضت المصلحة قتله لعلمنا أنه متى أفلت كان فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله فإنه لا يجوز المن عليه ولا المفاداة به اتفاقا ولأن الواجب في مثل هذا إما القتل أو المن أو الاسترقاق أو الفداء

ص: 276

فأما الاسترقاق فإنه أبقى له على ذمته بنحو مما كان فإنه كان تحت ذمتنا نأخذ منه الجزية بمنزلة العبد ولهذا قال بعض الصحابة لعمر في مسلم قتل ذميا: أتقيد عبدك من أخيك؟ بل ربما كان استبعاده أنفع له من جعله ذميا واستبعاد مثل هذا لا تؤمن عاقبته وسوء مغبته وأما المن عليه والمفاداة به فأبلغ في المفسدة وإعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله.

يوضح ذلك أنا على هذا التقرير لا نعاقبه إذا عاد إلى الذمة إلا بما يعاقب فيه المسلم أو الباقي على ذمته وهذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول: إن العهد لا ينقض بهذه الأشياء فلا معنى لجعل هذه الأشياء ناقضه للعهد وإيجاب إعادة أصحابها إلى العهد وأن لا يعاقبوا إذا عادوا إلا بما يعاقب به المسلم.

ويؤيد ذلك أن هذه الجرائم إذا رفعت العهد وفسخته فلأن يمنع ابتداء بطريق الأولى لأن الدوام أقوى من الابتداء ألا ترى أن العدة والردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فأما إن كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتداءه أولى وأحرى وإذا لم يجز ابتداء عقد الذمة فلأن لا يجوز المن عليه أولى ولأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلا أن المشدود وثاقه من المحاربين جعل لنا أن نعامله بما نرى والخارج عن العهد وليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه كما أن الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فإن الذي لم يدخل فيه باق على حاله والذي خرج من الإيمان والأمان قد أحدث فسادا فلا يلزم من احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لأن الدوام أقوى من الابتداء.

ص: 277

يبين ذلك أن كل أسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتله مثل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ومثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية.

وأيضا فإنه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب كان ما يتوقى من ضرره متعلقا بعزة ومنعته كالحربي الأصلي فإذا زالت المنعة بأسره لم يبق منه ما يبقى إلا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه وبين غيره أما إذا ضر المسلمين وآذاهم بين ظهرانيهم أو تمرد عليهم بالامتناع مما أوجبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفة تمنعه وتنصره فيجب إزهاق نفسه التي لا عصمة لها وهي منشأ الضرر وينبوع لأذى المسلمين ألا ترى أن الممتنع ليس فيما فعله إغراء للآحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فإن فيما يفعله فتح باب الشر فإن لم يعاقب فعل ذلك غيره وغيره ولا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار إلا السيف.

وأيضا فإن الممتنع منهم قد أمرنا بقتاله إلى أن يعطي الجزية عن يد وهو صاغر وأمرنا بقتاله حتى إذا أثخناه فشدوا الوثاق فكل آية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين ويجوز إنشاء عقد ثان لهم واسترقاقهم ونحو ذلك أما من فعل جناية انتقض بها عهده وهو في أيدينا فلم يدخل في هذه العمومات لأنه لا يقاتل وإنما يقتل إذ القتال للممتنع وإذا كان أخذ الجزية والمن والفداء إنما هو لمن قوتل هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} غير داخل في آية الجزية والفداء.

وأيضا فإن الممتنع يصير بمنزلة الحربي والحربي يندرج جميع شأنه تحت الحراب بحيث لو أسلم لم يؤاخذ بضمان شيء من ذلك بخلاف الذي في أيدينا وذلك أنه ما دام تحت أيدينا في ذمتنا فإنه لا تأويل له في ضرر المسلمين وإيذائهم أما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى أنه إذا تمكن من الهرب هرب لا سيما وبعض فقهائنا يبيح له ذلك فإذا فعل ذلك

ص: 278

بتأويل كان بمنزلة ما يتلفه أهل البغي والعدل حال القتال لا ضمان فيه وما أتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للأخرى فليس حال من تأول فيما فعله من النقض كحال من لم يتأول.

وأيضا فإن ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتقض به عهده لا بد له من عقوبة لأنه لا يجوز إخلاء الجرائم التي تدعو إليها الطباع من عقوبة زاجرة وشرع الزواجر شاهد لذلك ثم لا يخلو إما أن تكون عقوبته من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم أو ذمي بامرأة ذميه أو دون ذلك أو فوق ذلك والأول باطل لأنه يلزم أن يكون عقوبة المعصوم والمباح سواء ولأن الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره وعلى ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد وإنما أخرت عقوبة الكفر لأجل العهد فإذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الأمرين وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من فعل ذلك وهو معصوم وبين مباح دمه لم يفعل ذلك لأن هذه المعاصي إذا فعلها المسلم فإنها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين ومنفعتهم وموالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لأن فيه منفعة ومضرة وخيرا وشرا بخلاف الذمي فإنه إذا ضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته ووجود هذه الأمور المضرة وإذا لم يجز أن يعاقب بمثل ما يعاقب به المسلم فأن لا يعاقب بما هو دونه أولى وأحرى فوجب أن يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم يتحتم قتله إذا فعل مثل هذه الأشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد أولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب أن يتحتم وذلك عقوبته تارة القتل وتارة القطع وتارة الرجم أو الجلد.

فصل.

إذا تلخصت هذه القاعدة فيمن نقض العهد على العموم فنقول: شاتم

ص: 279

رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعين قتله كما قد نص عليه الأئمة.

أما على قول من يقول: يتعين قتل كل من نقض العهد وهو في أيدينا أو يتعين قتل كل من نقض العهد بما فيه ضرر على المسلمين وأذى لهم كما ذكرناه في مذهب الإمام أحمد وكما قد دل عليه كلام الشافعي الذي نقلناه أو نقول: يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول صلى الله عليه وسلم وحده كما قد ذكره القاضي أبو يعلي وغيره من أصحابنا وكما ذكره طائفة من أصحاب الشافعي وكما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد وذكروا أن الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الإجمال فإنهم ذكروا في مواضع أخر أنه يقتل من غير تخيير فظاهر.

وأما على قول من يقول: إن كل ناقض للعهد فإن الإمام يتخير فيه كالأسير فقد ذكرنا أنهم قالوا: إنه يستوفى منه الحقوق كالقتل والحد والتعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه وهذه أحكامنا ثم إذا استوفينا منه ذلك فالإمام مخير فيه كالأسير وعلى هذا القول فيمكنهم أن يقولوا: إنه يقتل لأن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنى أو قطع طريق فإنه يقام عليه حد ذلك فيقتل إن أوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود وإن لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا آخر أو زنى بذمية فإنه يستوفي منه القود وحد الزنى وعهده باق ومذهب مالك يمكن أن يوجه على هذا المأخذ إن كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده.

وبالجملة فالقول بأن الإمام يتخير في هذا إنما يدل عليه كلام بعض الفقهاء أو إطلاقه وكذلك القول بأنه يلحق بمأمنه وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة فإن تقرر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلا لما قدمناه وتوجيها لما سنذكره

ص: 280

والدليل على أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا المفاداة به من طريقين.

أحدهما: ما تقدم من الأدلة على وجوب قتل ناقض العهد إذا نقضه بما فيه ضرر على المسلمين مطلقا.

الثاني: ما يخصه وهو من وجوه:

أحدها: ما تقدم من الآيات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين.

الثاني: حديث الرجل الذي قتل المرأة اليهودية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها وقد تقدم من حديث على بن أبي طالب وابن عباس فلو كان سب النبي صلى الله عليه وسلم يرفع العهد فقط ولا يوجب القتل لكانت هذه المرأة بمنزلة كافرة أسيرة وبمنزلة كافرة دخلت إلى دار الإسلام ولا عهد لها ومعلوم أنه لا يجوز قتلها وأنها تصير رقيقة للمسلمين بالسبي وهذه المرأة المقتولة كانت رقيقة والمسلم إذا كانت له أمة كافرة حربية لم يجز له ولا لغيره قتلها لمجرد كونها حربية بل تكون ملكا لسيدها ترد عليه إذا أخذها المسلمون ولا نعلم بين المسلمين خلافا أن المرأة لا يجوز قتلها لمجرد الكفر إذا لم تكن معاهدة كما يقتل الرجل لذلك ولا نعلم أيضا خلافا في أن المرأة إذا ثبت في حقها حكم نقض العهد فقط مثل أن تكون من أهل الهدنة وقد نقضوا العهد فإنه لا يجوز قتل نسائهم وأولادهم بل تسترق النساء والأولاد وكذلك الذمي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب فمن ولد له بعد نقض العهد لم يجز قتل النساء منهم والأطفال بل يكونون رقيقا للمسلمين وكذلك أهل الذمة إذا امتنعوا بدار الحرب ونحوها.

فمن الفقهاء من قال: العهد باق في ذريتهم ونسائهم كما هو المعروف عن الإمام أحمد وقال أكثرهم: ينتقض العهد في الذرية والنساء أيضا ثم لا يختلفون أن النساء لا يقتلن وأصل ذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: في كتابه

ص: 281

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فأمر بقتال الذين يقاتلون فعلم أن شرط القتال كون المقاتل مقاتلا.

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

وعن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني ويتعجبون من قتلها حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فانفرجوا عنها فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما كانت هذه لتقاتل " فقال لأحدهم: "الحق خالدا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة.

وعن ابن كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر "نهى عن قتل النساء والصبيان " رواه الإمام أحمد.

وفي الباب أحاديث مشهورة على أن هذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف وذلك لأن المقصود بالقتال أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله وأن لا تكون فتنة أي لا يكون أحد يفتن أحدا عن دين الله فإنما نقاتل من كان ممانعا عن ذلك وهم أهل القتال فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمرأة والشيخ الكبير والراهب ونحو ذلك ولأن المرأة تصير رقيقة للمسلمين ومالا لهم ففي قتلها تفويت لذلك عليهم من غير حاجة وإضاعة المال لغير حاجة نعم لو قاتلت المرأة جاز أن تقتل بالاتفاق لوجود المعنى فيها

ص: 282

الذي جعل الله ورسوله عدمه مانعا من قتلها بقوله صلى الله عليه وسلم: " ما كانت هذه لتقاتل " لكن هل يجوز أن تقصد بالقتل كما يقصد الرجل أو يقصد كفها كما يقصد كف الصائل؟ ففيه خلاف بين الفقهاء فإذا كان الحكم في المرأة مثل ذلك وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم امرأة ذمية لأجل سبها مع أن قتلها لو كان حراما لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم كما أنكر قتل المرأة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه وإن لم تكن مضمونة بدية ولا كفارة فإنه صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن إنكار المنكر بل إقراره دليل على الجواز والإباحة علم أن السابة ليست بمنزلة الأسيرة الكافرة لأن تلك لا يجوز قتلها وعلم أن السب أوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالإجماع إذا قطعت الطريق وقتلت فيه وإذا زنت وكما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء.

فإن قيل: يجوز أن يكون سبها للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة قتالها والمرأة إذا قاتلت وكانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل إذا فعل ذلك ويجوز أن تكون حينئذ بمنزلة المرأة المقاتلة إذا أسرت يتخير الإمام فيها بين أربعة أشياء كما يتخير في الرجل المقاتل إذا أسر.

قلنا: الجواب من وجوه:

أحدها: أن هذه المرأة لم يصدر عنها إلا مجرد شتم النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة سيدها المسلم ولم تحض أحدا من المشركين للقتال ولا أشارت على الكفار برأي تعين فيه على قتال المسلمين ومعلوم أن من لم يقاتل بيده ولا أعان على القتال بلسانه لم يجز أن ينسب إليه القتال بوجه من الوجوه ونحن لا ننكر أن من لا يجوز قتله كالراهب والأعمى والشيخ الفاني والمقعد ونحوهم إذا كان لهم رأي في القتال وكلام يعينون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين لكن مجرد سب المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل وإنما هو أذى لله ولرسوله أبلغ من القتال من بعض الوجوه فلو لم يكن موجبا

ص: 283

للقتل لكانت المرأة الكافرة قد قتلت لأنها مقاتلة وهي لم تقاتل وذلك غير جائز فعلم أنه موجب للقتل وإن لم يكن قتالا وقد يكون قتالا إذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين وإغراء الكفار بحربهم فأما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف.

الجواب الثاني: أنا نسلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة محاربة المسلمين ومقاتلهم من بعض الوجوه كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك يعني سب الأنبياء من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر بل هو من أبلغ أنواع الحراب كما تقدم تقريره لكن الجواب نوعان:

أحدهما: ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة وبالاسترقاق أخرى وبالمن أو الفداء أخرى وهو حراب الكافر بالقتال يدا ولسانا فإن الحربي والحربية المقاتلة إذا أسرا فاسترقا انقطع عن المسلمين ضررهما كما قد يزول بالقتل وكذلك لو من عليهما رجاء أن يسلما إذا بدت مخائل الإسلام أو رجاء أن يكفا عن المسلمين شر من خلفهما أو فودي بهما فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الأمور.

الثاني: ما لا تزول مفسدته إلا بإقامة الحد فيه مثل حراب المسلم أو المعاهدة في دار الإسلام بقطع الطريق ونحوه فإن ذلك يتحتم إقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء.

فهذه الأمة التي كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم قد حاربت في دار الإسلام فإن قيل "تعاقب بالاسترقاق" فهي رقيقة لا يتغير حالها وإن قيل "يمن عليها أو يفادي بها" لم يجز لوجهين:

أحدهما: أنها ملك مسلم ولا يجوز إخراجها عن ملكه مع حياتها

ص: 284

الثاني: أن ذلك إحسان إليها وإزالة للرق عنها فلا يجوز أن يكون جزاء لسبها وحرابها فتعين قتلها.

الجواب الثالث: أن مفسدة السب لا تزول إلا بالقتل لأنها متى استبقيت طمعت هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء بخلاف المرأة المقاتلة إذا أسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها ولا يمكنها مع استرقاقها أن تقاتل ويمكنها أن تظهر السب والشتم فصار سبها من جنس الجنايات التي توجب العقوبات لا تزول مفسدتها إلا بإقامة الحد فيها وعلم أن الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل إذا أسرت بل هي بمنزلة الذمية التي تقطع الطريق وتزني.

الجواب الرابع: أن الحديث فيه حكم وهو القتل وسبب القتل هو السب فيجب إضافة الحكم إلى السبب والأصل إيجاد الحكم فمن زعم أن السبب حكم آخر احتاج إلى دليل وقياسه على الأسيرة لا يصح لما سيأتي إن شاء الله تعالى.

الجواب الخامس: أنها لو كانت بمنزلة الأسيرة لكان النظر فيها للإمام لا يجوز لآحاد الرعية تخير واحدة من الخصال الأربع فيها ومن قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين إن كانت فيئا وللغانمين إن كانت مغنما فعلم أن القتل كان واجبا فيها عينا.

يبقى أن يقال: الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه وجوابه من وجوه:

أحدها: أن السيد له أن يقيم الحد على عبده بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " وقوله: " إذا زنت أمة أحدكم فليحلدها " ولا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد مثل حد الزنا والقذف والشرب ولا خلاف بين المسلمين أن له أن

ص: 285

يعزره واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا مثل قتله لردته أو لسبه النبي صلى الله عليه وسلم وقطعه للسرقة؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان:

إحداهما يجوز وهو منصوص عن الشافعي والأخرى: لا يجوز كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو قول مالك وقد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق وصح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر وكان ذلك برأي ابن عمر فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده مطلقا وعلى هذا القول فالسيد له أن يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام أحمد هو إحدى الروايتين عن مالك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من سيد الأمة بينة على سبه بل صدقة في قوله: "كانت تسبك وتشتمك" ففي الحديث حجة لهذا القول أيضا.

الوجه الثاني: أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام والإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه.

الوجه الثالث: أن هذا وإن كان حدا فهو قتل حربي أيضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله وهذا يجوز قتله لكل أحد وعلى هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له إنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو سمعته لقتلته.

الوجه الرابع: أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يرض بحكمه فنزل القرآن بإقراره ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي صلى الله عليه وسلم ناصرا لله ورسوله وذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين ويفسده ليس بمنزلة من قتل لأجل معصية من زنى ونحوه.

الجواب السادس: أن الفقهاء قد اختلفوا في المرأة المقاتلة إذا أسرت هل

ص: 286

يجوز قتلها؟ ومذهب الشافعي أنها لا تقتل فلو كانت هذه إنما قتلت لكونها قد قاتلت لم يجز أن تقتل بعد الأسر عنده فلا يصح أن يورد هذا السؤال على أصله.

الدليل الثالث: أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوما بأمان يعقد له أو ذمة أو هدنة ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم والنفر الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن الأشرف جاؤا إليه على أن يستلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى وهذا كله يثبت الأمان فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافرا حربيا لم يجز قتله بعد أمانة إليهم وبعد أن أظهروا له أنهم مؤمنون له واستئذانهم إياه في إمساك يديه فعلم بذلك أن إيذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه أمان ولا عهد وذلك لا يكون إلا فيما أوجب القتل عينا من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح ولا يصيرون مستأمنين بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم فعلم أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.

يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لو قر كما قر غيره ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف" فإن ذلك دليل على أن لا جزاء له إلا القتل.

الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم إن كان ثابتا "من سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد" فأوجب القتل عينا على كل ساب ولم يخير بينه وبين غيره وهذا ما يعتمد في الدلالة إن كان محفوظا.

الدليل الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قتل ابن الأشرف لأنه كان يؤذي الله ورسوله وكذلك كان يأمر بقتل من يسبه أو

ص: 287

يهجوه إلا من عفا عنه بعد القدرة وأمره صلى الله عليه وسلم للايجاب فعلم وجوب قتل الساب وإن لم يجب قتل غيره من المحاربين وكذلك كانت سيرته لم يعلم أنه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه إلا من تاب أو كان من المنافقين وهذا يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالجهاد وإقامة الحدود فيكون على الإيجاب يؤيد ذلك أن في ترك قتله تركا لنصر الله ورسوله وذلك غير جائز.

الدليل السادس: أقاويل الصحابة فإنها نصوص في تعيين قتله مثل قول عمر رضي الله عنه: "من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه" فأمر بقتله عينا ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء عليهم السلام أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه" فأمر بقتل المعاهد إذا سب عينا ومثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ومعاهد فهو محارب غادر" فبين أن الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك ولم يجعل فيه خيرة إلى الإمام لا سيما والسابة امرأة وذلك وحده دليل كما تقدم ومثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته" ولو كان كالأسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله وهذا الدليل واضح.

الدليل السابع: أن ناقض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي وخروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين وأذى الله ورسوله ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة يزجر أمثاله عن مثل حاله والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ

ص: 288

كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فأمر الله رسوله إذا صادف الناكثين بالعهد في الحرب أن يشرد بهم غيرهم من الكفار بأن يفعل بهم ما يتفرق به أولئك وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فحض على قتال من نكث اليمين وهم بإخراج الرسول وبدأ بنقض العهد ومعلوم أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدئنا أول مرة ثم قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فعلم أن تعذيب هؤلاء وإخزاءهم ونصر المؤمنين عليهم وشفاء صدورهم بالانتقام منهم وذهاب غيظ قلوبهم مما آذوهم به أمر مقصود للشارع مطلوب في الدين ومعلوم أن هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي صلى الله عليه وسلم وآذى الله تعالى ورسوله وعباده المؤمنين إلا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه ولا بالمن عليه والمفادة به.

وكذلك أيضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يريدون إظهار السب لا يحصل على سبيل التمام إلا بذلك ولا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة إذا أسرنا واحدا منهم لأن قتال أولئك والظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف ما كان في أيدينا قبل السب وبعده فإن لم نحدث فيه قتالا لم يحصل هذا المقصود.

وجماع ذلك أن ناقض العهد لا بد له من قتال أو قتل إذ لا يحصل المقصود إلا بذلك وهذا الوجه وإن كان فيه عموم لكل من نقض

ص: 289

العهد بالأذى لكن ذكرناه هنا لخصوص الدلالة أيضا فإنها تدل عموما وخصوصا.

الدليل الثامن: أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد صدر منه فعل تضمن أمرين أحدهما: انتقاض العهد الذي بيننا وبينه الثاني: جنايته على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاكه حرمته وإيذاء الله ورسوله والمؤمنين وطعنه في الدين وهذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد.

ونظير ذلك أن ينقضه بالزنى بمسلمة أو بقطع الطريق على المسلمين وقتلهم وأخذ أموالهم أو بقتل مسلم فإن فعله مع كونه نقضا للعهد قد تضمن جناية أخرى فإن الزنى وقطع الطريق والقتل من حيث هو هو جناية ونقض العهد جناية كذلك هنا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث هو هو جناية منفصلة عن نقض العهد له عقوبة تخصه في الدنيا والآخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوته والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} فعلق اللعنة في الدنيا والآخرة والعذاب المهين بنفس أذى الله ورسوله فعلم أنه موجب ذلك وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} وقد تقدم تقريره.

يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة آمن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك والذين نقضوا العهد الذي كان بينه وبينهم وخانوه إلا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه وسارة مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة فإذا كان قد أمر بقتل التي كانت تهجوه من النساء مع أن قتل

ص: 290

المرأة لا يجوز إلا إذا قاتلت وهو صلى الله عليه وسلم قد آمن جميع أهل مكة من كان قد قاتل ونقض العهد من الرجال والنساء علم بذلك أن الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال والحراب لأن التفريق بين المتامثلين لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه أمر بقتل ابن خطل لأنه كان قد قتل مسلما ولأنه كان مرتدا ولأنه كان يأمر بهجائه وكل واحد من القتل والردة والأمر بهجائة جناية زائدة على مجرد الكفر والحراب ومما يبين ذلك أنه قد كان أمر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير والحويرث بن نقيد وابن خطل وغيرهم مع أمانه لسائر أهل البلد وكذلك أهدر دم أبي سفيان بن الحارث وامتنع من إدخاله عليه وإدخال عبد الله بن أبي أمية لما كانا يقعان في عرضه وقتل ابن أبي معيط والنضر بن الحارث دون غيرهما من الأسرى وسمى من يبذل نفسه في قتله ناصرا لله ورسوله وكان يندب إلى قتل من يؤذيه ويقول: "من يكفيني عدوي" وكذلك أصحابه يسارعون إلى قتل من آذاه بلسانه وإن كان أبا أو غيره وينذرون قتل من ظفروا به من هذا الضرب وقد تقدم من بيان ذلك ما فيه بلاغ ومن المعلوم أن هؤلاء لو كانوا بمنزلة سائر الكفار الذين لا عهد لهم لم يقتلهم ولم يأمر بقتلهم في مثل هذه الأوقات التي آمن فيها الناس وكف عمن هو مثلهم فعلم أن السب جناية زائدة على الكفر وقد تقدم تقرير ذلك في المسألة الأولى على وجه يقطع العاقل أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم جناية لها موقع يزيد على سائر الجنايات بحيث يستحق صاحبها من العقوبة ما لا يستحقه غيره وإن كان كافرا حربيا مبالغا في محاربة المسلمين وأن وجوب الانتصار ممن كان هذه حاله كان مؤكدا في الدين والسعي في إهدار دمه من أفضل الأعمال وأوجبها وأحقها بالمسارعة إليه وابتغاء رضوان الله تعالى فيه وأبلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده وفرضه عليهم ومن تأمل الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم يوم الفتح واشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم وأعرض

ص: 291

عن بعضهم وانتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر والحراب من ردة وقتل ونحو ذلك وجرم أكثرهم إنما كان من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاه بألسنتهم فأي دليل أوضح من هذا على أن سبه وهجاءه جناية زائدة على الكفر والحراب لا يدخل في ضمن الكفر كما يدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر وعلى أن المعاهدين إذا نقضوا العهد وفيهم من سب النبي صلى الله عليه وسلم كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد؟.

ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفرا وحرابا وإن كان متضمنا لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه وقد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره ولو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمرتد يجب قتله فعلم أنه قد تغلب في السب حق النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجوز له العفو عنه.

ومما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحدا من المسلمين أو المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة ما لا يستحقه بمجرد نقض العهد فيكون سب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سب واحد من البشر.

ومما يدل على ذلك أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم وشاتمه يؤذيه شتمه وهجائه كما يؤذيه التعرض لدمه وماله قال الله تعالى لما ذكر الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} فجعل الغيبة التي هي كلام صحيح بمنزلة أكل لحم المغتاب ميتا فكيف ببهتانه؟ وسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بهتانا.

ص: 292

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن المؤمن كقتله" وكما يؤذي ذلك غيره من البشر.

وأيضا فإن ذلك يؤذي جميع المؤمنين ويؤذي الله سبحانه وتعالى ومجرد الكفر والمحاربة لا يحصل بهما من أذاه ما يحصل بالوقيعة في العرض مع المحاربة فلو قيل: "إن الواقع في عرضه ممن انتقض عهده بمنزلة غيره ممن انتقض عهده" لكانت الوقيعة في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاه بذلك جرما لا جزاء له من حيث خصوص النبي صلى الله عليه وسلم وخصوص أذاه كما لو قتل رجل نبيا من الأنبياء فإن لقتله من العقوبة ما لا يستحق على مجرد الكفر والمحاربة وهذا كله ظاهر لا خفاء به فإن دماء الأنبياء وأعراضهم أجل من دماء المؤمنين وأعراضهم فإذا كان دماء غيرهم وأعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فأن لا تندرج عقوبة دمائهم وأعراضهم في عقوبة نقض العهد بطريق الأولى.

ومما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق: حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة ومن حيث طعن في ألوهيته فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآباءهم وأبناءهم وسب جميعهم كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس

ص: 293

أجمعين وتعلق به حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله وأكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفره عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة فكيف يجوز أن يعتقد عاقل أن هذه الجناية بمنزلة ذمي كان في ديار المسلمين فلحق ببلاد الكفار مستوطنا لها مع أن ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله ولا لرسوله ولا لأحد من المسلمين؟ أكثر ما فيه أن الرجل كان معتصما بحبلنا فخرق تلك العصمة فإنما أضر بنفسه لا بأحد من المؤمنين.

فعلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة وهذا ظاهر إن شاء الله.

إذا ثبت ذلك فنقول: هذه الجناية جناية السب موجبها القتل لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" فعلم أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل ولما تقدم من إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دم المرأة السابة مع أنها لا تقتل لمجرد نقض العهد ولما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بقتل من كان يسبه مع إمساكه عمن هو بمنزلته في الدين وندبه الناس إلى ذلك والثناء على من سارع في ذلك ولما تقدم من الحديث المرفوع

ص: 294

ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم أن من سب نبيا قتل ومن سب غير نبي جلد.

والذي يختص بهذا الموضع أن نقول: هذه الجناية إما أن يكون موجبها بخصوصها القتل أو الجلد أو لا عقوبة لها بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر والحراب.

وقد أبطلنا القسم الثالث والقسم الثاني أيضا باطل لوجوه.

أحدها: أنه لو كان الأمر كذلك لكان الذمي إذا نقض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يجلد لسب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حق آدمي ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر ومعلوم أن هذا خلاف ما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة فإنهم اتفقوا على القتل فقط فعلم أن موجب كلا الجنايتين القتل والقتل لا يمكن تعدده وكذلك كان ينبغي أن يجلد المرتد لحق النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقتل لردته كمرتد سب بعض المسلمين فإنه يستوفى منه حق الآدمي ثم يقتل ألا ترى أن السارق يقطع لسرقته التي هي حق لله ويرد المال المسروق إذا كان باقيا بالاتفاق ويغرم بدله إن كان تالفا عند أكثر الفقهاء ولا يدخل حق الآدمي في حق الله مع ايجاد السبب.

الثاني: أنه لو لم يكن موجبه القتل وإنما القتل موجب كونه ردة لم يجز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عنه لأن إقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق لا يجوز العفو عنه فلما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم في جناية دل على أن السب نفسه يوجب القتل حقا للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه حق الله تعالى ويكون سابه وقاذفه بمنزلة ساب غيره وقاذفه قد اجتمع في سبه حقان: حق لله وحق لآدمي فلو أن المسبوب والمقذوف عفا عن حقه لم يعزر القاذف

ص: 295

والساب على حق الله بل دخل في العفو كذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذا عفا عمن سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره كما لا يعزر ساب غيره لمعصيته مع أن المعصية المجردة عن حق آدمي توجب التعزير.

يوضح ذلك أنه قد ثبت أنه كان له أن يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر وحديث الذي أمر بقتله لما كذب عليه وحديث الشعبي في قتل الخارجي وكما دلت عليه أحاديث قد تقدم ذكرها وثبت له أن يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود وأبي سعيد وجابر وغيرهم فعلم أن سبه يوجب القتل كما أن سب غيره يوجب الجلد وإن تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله ويكون الكفر والحراب نوعين: أحداهما حق لله خالص والثاني ما فيه حق لله وحق لآدمي كما أن المعصية قسمان: أحدهما حق خالص لله والثاني حق لله ولآدمي ويكون هذا النوع من الكفر والحراب بمنزلة غيره من الأنواع في استحقاق فاعله القتل ويفارقه في الاستيفاء فإنه إلى الآدمي كما أن المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد ويفارق غيرها في أن الاستيفاء فيها إلى الآدمي.

يوضح هذا أن الحق الوجب على الإنسان قد يكون حقا محضا لله وهو ما إذا كفر أو عصى على وجه لا يؤذي أحدا من الخلق فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال وقد يكون حقا محضا لآدمي بمنزلة الديون التي تجب للإنسان على غيره من ثمن مبيع أو بدل قرض ونحو ذلك من الديون التي تثبت بوجه مباح فهذا لا عقوبة فيه بوجه وإنما يعاقب على الدين إذا امتنع عن وفائه والامتناع معصية وقد يكون حقا لله ولآدمي مثل حد القذف والقود وعقوبة السب ونحو ذلك فهذه الأمور فيها العقوبة من الحد والتعزير والاستيفاء فيها مفوض إلى اختيار الآدمي: إن أحب استوفى القود وحد القذف وإن شاء عفا فسب النبي صلى الله عليه وسلم لو كان من القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال فتعين أن يكون من القسم الثالث وقد ثبت أن

ص: 296

عقوبته القتل فعلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته القتل كما أن سب غيره من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته الجلد إما حدا أو تعزيرا وهذا معنى صحيح واضح.

وسر ذلك أنه إذا اجتمع الحقان فلا بد من عقوبة لأن معصية الله توجب العقوبة إما في الدنيا أو في الآخرة فإذا كان الاستيفاء جعل الله ذلك إلى المستحق من الآدميين لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيره فهو كله للذي أشرك كذلك من عمل عملا لغيره فيه عقوبة جعل عقوبته كلها لذلك الغير وكانت عقوبته على معصية الله تمكين ذلك الإنسان من عقوبته.

وتمام هذا المعنى أن يقال: بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يتعين القتل لأن المستحق لا يمكن منه المطالبة والعفو كما أن من سب أو شتم أحدا من أموات المسلمين عزر على ذلك الفعل لكونه معصية لله وإن كان في حياته لا يؤدى حتى يطلب إذا علم.

الوجه الثالث: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون من حيث هو سب بمنزلة سب غيره من المؤمنين لأنه عليه الصلاة والسلام يباين سائر المؤمنين من أمته في عامة الحقوق فرضا وخطرا وغيرهما مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس ووجوب تعزيره وتوقيره على وجه لا يساويه فيه أحد ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى وفي سبه إيذاء لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده وأقل ما في ذلك أن سبه كفر ومحاربة وسب غيره ذنب ومعصية ومعلوم أن العقوبات على قدر الجرائم فلو سوى بين سبه وسب غيره لكان تسوية بين السبين المتباينين وذلك لا يجوز فإذا كان سب غيره مع كونه معصية يوجب الجلد وجب أن يكون سبه مع كونه كفرا يوجب القتل ويصير ذلك نوعا من أنواع الكفر من وجه ونوعا من أنواع السب من وجه فمن حيث

ص: 297

هو من جنس الكفر أوجب القتل ومن حيث هو من جنس السب كان حقا لآدمي.

الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب أحدا منهم إلا بالقتل ولو كان هو بانفراده لا يوجب القتل وإنما يوجب ما دونه وهو صلى الله عليه وسلم قد عفا عن عقوبته فيما دونه وآمن من فعل ذلك لكان صاحب ذلك لا ينبغي قتله لأن ذنبه الذي يختصه لا يقتضي القتل.

فإن قيل: فقتله بمجموع الأمرين.

قلنا: وهذا المقصود لأن السب حيث كان فإنه مستلزم لكفر لا عهد له.

الدليل التاسع: أن سب رسول الله عليه الصلاة والسلام مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام فإنه من المسلم ردة وزيادة كما تقدم تقريره فإذا كان كفر المرتد قد تغلظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عينا فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أولى أن يتغلظ فيوجب القتل عينا لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة.

وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها ونحن قد قدمنا نصوصا عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وأصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية والمرتد يستتاب من الردة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه فعلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتله أولى.

الدليل العاشر: أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب حسب الإمكان لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله فحيث ما ظهر سبه ولم ينتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين

ص: 298

ظاهرا ولا كلمة الله عالية وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسراق وقطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب وجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة ملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة وإنما تجوز مهادنة الكافر وأمانه عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك وكل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة يتعين عقوبة فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين فوجب أن يتعين قتل هذا لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين لأنه تعين بها حق الله ورسوله وجميع المؤمنين وبهذا يظهر الفرق بين الساب وبين الكافر لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفيا به ملتزما حكم الله ورسوله بخلاف المظهر للسب.

الدليل الحادي عشر: أن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قتل كافر فهو حد من الحدود ليس قتلا على مجرد الكفر والحراب لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا وليس هذا موجب الكفر والمحاربة ولما تقدم من قول الصديق رضي الله عنه في التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم: "إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود" ومعلوم أن قتل الأسير الحربي ونحوه من الكفار والمحاربين لا يسمى حدا ولأن ظهور سبه في ديار المسلمين فساد عظيم أعظم من جرائم كثيرة فلا بد أن يشرع له حد يزجر عنه من يتعاطاه فإن الشارع لا يهمل مثل هذه المفاسد ولا يخليها من الزواجر وقد ثبت أن حده القتل بالسنة والإجماع وهو حد لغير معين حي لأن الحق فيه لله تعالى ولرسوله وهو ميت ولكل مؤمن وكل حد يكون بهذه المثابة فإنه يتعين إقامته بالاتفاق.

الدليل الثاني عشر: أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيره

ص: 299