المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثالثة: أنه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا - الصارم المسلول على شاتم الرسول

[ابن تيمية]

الفصل: ‌المسألة الثالثة: أنه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا

وتوقيره واجب وقتل سابه مشروع كما تقدم فلو جاز ترك قتله لم يكن ذلك نصرا له ولا تعزيزا ولا توقيرا بل ذلك أقل نصره لأن الساب في أيدينا ونحن متمكنون منه فإن لم نقتله مع أن قتله جائز لكان ذلك غاية في الخذلان وترك التعزيز له والتوقير وهذا ظاهر.

واعلم أن تقرير هذه المسألة له طرق متعددة غير ما ذكرناه ولم نطل الكلام هنا لأن عامة الدلائل المذكورة في المسألة الأولى تدل على وجوب قتله لمن تأملها فاكتفينا بما ذكرناه هناك وإن كان القصد في المسألة الأولى بيان جواز قتله مطلقا وهنا بيان وجوب قتله مطلقا وقد أجبنا هناك عمن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله منم أهل الكتاب والمشركين السابين وبينا أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين كان مأمورا بالعفو والصفح قبل أن يؤمر بقتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ويجاهد الكفار والمنافقين وأنه كان له أن يعفو عمن سبه لأن هذه الجريمة غلب فيها حقه وبعد موته لا عافي عنها والله أعلم

ص: 300

‌المسألة الثالثة: أنه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا

.

قال الإمام أحمد في رواية حنبل: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب".

وقال: "كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة".

وقال عبد الله: سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم يستتاب؟ قال: "قد وجب عليه القتل ولا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه".

هذا مع نصه أنه مرتد إن كان مسلما وأنه قد نقض العهد إن كان ذميا وأطلق في سائر أجوبته أنه يقتل ولم يأمر فيه باستتابة هذا مع أنه لا يختلف

ص: 300

نصه ومذهبه أن المرتد المجرد يستتاب ثلاثا إلا أن يكون ممن ولد على الفطرة فقد روي عنه أنه يقتل ولا يستتاب والمشهور عنه استتابة جميع المرتدين واتبع في استتابته ما صح في ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة وقدرها عمر رضي الله عنه ثلاثا وفسر الإمام أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه فإذا تاب لم يكن مبدلا وهو راجع يقول: قد أسلمت.

وهل استتابة المرتد واجبة أو مستحبة؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان وكذلك الخرقي أطلق القول بأن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما كان أو كافرا وأطلق أبو بكر أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك غيرهما مع أنهم في المرتد يذكرون أنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب من السب بأن يسلم أو يعود إلى الذمة إن كان كافرا أو يعود إلى الإسلام إن كان مسلما ويقلع عن السب فقال القاضي في المجرد وغيره من أصحابنا: "والردة تحصل بجحد الشهادتين وبالتعريض بسب الله تبارك وتعالى وبسب النبي صلى الله عليه وسلم" إلا أن الإمام أحمد قال: "لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لأن المعرة تلحق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" وكذلك وقال ابن عقيل: قال أصحابنا في سب النبي عليه الصلاة والسلام: إنه لا تقبل توبته من ذلك لما تدخل من المعرة من السب على النبي عليه الصلاة والسلام وهو حق لآدمي لم يعلم إسقاطه.

وقال القاضي في خلافه وابنه أبو الحسين: "إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم تقبل توبته مسلما كان أو كافرا ويجعله ناقصا للعهد" نص عليه أحمد.

وذكر القاضي النصوص التي قدمناها عن الإمام أحمد في أنه يقتل

ص: 301

ولا يستتاب وقد وجب عليه القتل قال القاضي: لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان حق لله وحق للآدمي والعقوبة إذا تعلق بها حق لله وحق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه لو تاب قبل القدرة لم يسقط حق الآدمي من القصاص ويسقط حق الله.

وقال أبو المواهب العكبري: يجب لقذف النبي صلى الله عليه وسلم الحد المغلظ وهو القتل تاب أو لم يتب ذميا كان أو مسلما.

وكذلك ذكر جماعات آخرون من أصحابنا أنه يقتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبل توبته سواء كان مسلما أو كافرا ومرادهم بأنه لا تقبل توبته أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة والتوبة اسم جامع للرجوع عن السب بالإسلام وبغيره فلذلك أتوا بها وأرادوا أنه لو رجع عن السب بالإسلام أو بالإقلاع عن السب والعود إلى الذمة إن كان ذميا لم يسقط عنه القتل لأن عامة هؤلاء لما ذكروا هذه المسألة قالوا: خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن كان مسلما يستتاب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد وإن كان ذميا فقال أبو حنيفة: لا ينتقض عهده واختلف أصحاب الشافعي فيه فعلم أنهم أرادوا بالتوبة توبة المرتد وهي الإسلام ولأنهم قد حكموا بأنه مرتد وقد صرحوا بأن توبة المرتد أن يرجع إلى الإسلام وهذا ظاهر فيه فإن كل من ارتد بقول فتوبته أن يرجع إلى الإسلام ويتوب من ذلك القول وأما الذمي فإن توبته لها صورتان:

إحداهما: أن يقلع عن السب ويقول: لا أعود إليه وأنا أعود إلى الذمة وألتزام موجب العهد.

والثانية: أن يسلم فإن إسلامه توبة من السب.

وكلا الصورتين تدخل في كلام هؤلاء الذين قالوا: لا تقبل توبته مسلما كان أو كافرا وإن كانت الصورة الثانية أدخل في كلامهم في الأولى لكن إذا

ص: 302

لم يسقط عنه القتل بتوبة هي الإسلام فأن لا يسقط بتوبة هي العود إلى الذمة أولى وإنما كانت أدخل لأنه قد علم أن التوبة من المسلم إنما هي الإسلام فكذلك من الكافر لذكرهم توبة الاثنين بلفظ واحد ولأن تعليلهم بكونه حق آدمي وقياسه على المحارب دليل على أنه لا يسقط بالإسلام ولأنهم قد صرحوا في مواضع يأتي بعضها أن التوبة من الكافر هنا إسلامه.

وقد صرح بذلك جماعة غيرهم فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في "الإرشاد" وهو ممن يعتمد نقله: "ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب ومن سبه صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة قتل وإن أسلم".

وقال أبو علي بن البناء في "الخصال والأقسام" له: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله ولا تقبل توبته وإن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يقتل أيضا ولا يستتاب" قال: ومذهب مالك كمذهبنا.

وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل المسلم والكافر وأنه لا يسقط بالتوبة من إسلام وغيره وهذه طريقة القاضي في كتبه المتأخرة من "التعليق الجديد" وطريقة من وافقه وكان القاضي في "التعليق القديم" وفي "الجامع الصغير" يقول: "إن المسلم يقتل ولا تقبل توبته وفي الكافر إذا أسلم روايتان" قال القاضي في "الجامع الصغير" الذي ضمنه مسائل التعليق القديم: "ومن سب أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم تقبل توبته فإن كان كافرا فأسلم ففيه روايتان" إحداهما: "يقتل أيضا" والثانية: "لا يقتل ويستتاب" قياسا على قوله في الساحر: "إذا كان كافرا لم يقتل وإن كان مسلما قتل" وكذلك ذكر من نقل من "التعليق القديم" مثل الشريف أبي جعفر

ص: 303

قال إذا سب أم النبي عليه الصلاة والسلام قتل ولم تقبل توبته وفي الذمي إذا سب أم النبي صلى الله عليه وسلم روايتان إحداهما: يقتل والأخرى: لا يقتل.

قال: وبهذا التفصيل قال مالك وقال أكثرهم: تقبل توبته في الحالين.

لنا أنه حد وجب كقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل: "إذا قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل التوبة منه وفي الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان" وقال أبو حنيفة والشافعي: "تقبل توبته في الحالين".

لنا أنه حد وجب لقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة دليله قذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم.

وإنما ذكرت عبارة هؤلاء ليتبين أن مرادهم بالتوبة هنا من الكافر الإسلام ويظهر أن طريقتهم هي بعينها طريقة ابن البناء في أن المسلم إذا سب لم تقبل توبته وأن الذمي إذا سب ثم أسلم قتل أيضا في الصحيح من المذهب.

فإن قيل: فقد قال القاضي في خلافه "فإن قيل: أليس قد قلتم لو نقض العهد بغير سب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن نقضه بمنع الجزية أو قتال المسلمين أو أذيتهم ثم تاب قبلتم توبته وكان الإمام فيه بالخيار بين أربعة أشياء كالحربي إذا حصل أسيرا في أيدينا هلا قلتم في سب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تاب منه كذلك قيل: لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم قذف لميت فلا يسقط بالتوبة كما لو قذف ميتا" وهذا من كلامه يدل على أن التوبة غير الإسلام لأنه لو نقض العهد بغير السب ثم أسلم لم يتخير الإمام فيه.

ص: 304

قلنا: لا فرق في التخيير بين الأربعة قبل التوبة التي هي الإقلاع وبعده عند من يقول به وإنما أراد المخالف أن يقيس على صورة تشبه صور النزاع وهي الحكم فيه بعد التوبة إذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله.

على أن توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان:

إحداهما: أن يسلم فإن إسلامه توبة من الكفر وتوابعه.

والثانية: أن يرجع إلى الذمة تائبا من الذنب الذي أحدثه حتى انتقض عهده فهذه توبة من نقض العهد فإذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز للإمام أن يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم الأسير كما أن الأسير إذا طلب أن تعقد له الذمة جاز أن يجاب إلى ذلك.

فألزم المخالف القاضي على طريقته أن الناقض التائب من الناقض يخير الإمام فيه فهلا خيرتموه في الساب إذا تاب توبة يمكن التخيير بعدها بأن يقلع عن السب ويطلب عقد الذمة له ثانيا فلذلك قيل في هذه الصورة: هلا خير الإمام فيه بعد التوبة وإن كان في صورة أخرى لا يمكن التخيير بعد توبة هي الإسلام.

وقد تقدم ذكر ذلك وقد قدمنا أيضا أن الصحيح أنه لا يخير فيمن نقض العهد بما يضر المسلمين بحال وقد ظهر أن الرواية الأخرى التي حكوها في الفرق بين المسلم والكافر مخرجة من نصه على الفرق بين الساحر الكافر والساحر المسلم وذلك أنه قد قال في الساحر الذمي: لا يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن أعصم لما سحره والساحر المسلم يقتل عنده لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وعثمان وابن عمر وحفصة رضي الله عنهم من الأحاديث ووجه الترجيح أن

ص: 305

ما الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه من السب والسحر فنسبة السب والسحر إليه واحدة بخلاف المسلم فإذا قتل الساحر المسلم دون الذمي فكذلك الساب الذمي دون المسلم لكن السب ينقض العهد فيجوز قتله لأجل نقض العهد فإذا أسلم امتنع قتله لنقض العهد وهو لا يقتل لخصوص السب كما لا يقتل لخصوص السحر فيبقى دمه معصوما.

وقد حكى هذه الرواية الخطابي عن الإمام أحمد نفسه فقال: قال مالك بن أنس: "من شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم" وكذلك قال أحمد بن حنبل وحكى آخرون من أصحابنا رواية عن الإمام أحمد أن المسلم تقبل توبته من السب بأن يسلم ويرجع عن السب كذلك ذكر أبو الخطاب في "الهداية" ومن احتذى حذوه من متأخري أصحابنا في ساب الله ورسوله من المسلمين: هل تقبل توبته أم يقتل بكل حال؟ روايتان.

فقد تلخص أن أصحابنا حكوا في الساب إذا تاب ثلاث روايات.

إحداهن: يقتل بكل حال وهي التي نصروها كلهم ودل عليها كلام الإمام أحمد في نفس هذه المسألة وأكثر محققيهم لم يذكروا سواها.

والثانية: تقبل توبته مطلقا.

والثالثة: تقبل توبة الكافر ولا تقبل توبة المسلم وتوبة الذمي التي تقبل إذا قلنا بها أن يسلم فأما إذا أقلع وطلب عقد الذمة له ثانيا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة كما تقدم.

وذكر أبو عبد الله السامري أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فهل تقبل توبته؟ على روايتين قال: "ومن سبه من أهل الذمة قتل وإن أسلم" ذكره ابن أبي موسى فعلى ظاهر كلامه يكون الخلاف في المسلم

ص: 306

دون الذمي عكس الرواية التي حكاها جماعة من الأصحاب وليس الأمر كذلك فإن ابن أبي موسى قال: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب ومن سبه من أهل الذمة قتل وإن أسلم" فلم يذكر خلافا في شيء من ذلك كما دل عليه المأثور عن الإمام أحمد وكتاب أبي عبد الله السامري تضمن نقل أبي الخطاب ونقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه أن يضمنه عدة كتب صغار فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتين في المسلم وما ذكره ابن أبي موسى في الذمي إذا أسلم ظهر نوع خلل وإلا فلا ريب أنا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذمي بإسلامه أولى فإن كل ما يفرض. في الكافر من غلظ السب فهو في المسلم وزيادة فإنهما يشتركان في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وينفرد سب المسلم بأنه يدل على زندقته وأن سابه منافق ظهر نفاقه بخلاف الذمي فإن سبه مستند إلى اعتقاد وذلك الاعتقاد زال بالإسلام.

نعم قد يوجه ما ذكره السامري بأن يقال: السب قد يكون غلطا من المسلم لا اعتقادا فإذا تاب منه قبلت توبته إذ هو عثرة لسان وسوء أدب أو قلة علم والذمي سبه أذى محض لا ريب فيه فإذا وجب الحد عليه لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود وقد ينزع هذا إلى قول من يقول: إن السب لا يكون كفرا في الباطن إلا أن يكون استحلالا وهو قول مرغوب عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

واعلم أن أصحابنا ذكروا أنه لا تقبل توبته لأن الإمام أحمد قال: لا يستتاب ومن أصله أن كل من قبلت توبته فإنه يستتاب كالمرتد ولهذا لما اختلفت الرواية عنه في الزنديق والساحر والكاهن والعراف ومن ارتد وكان مسلم الأصل هل يستتابون أم لا؟ على روايتين فإن قلنا: "لا يستتابون" قتلوا بكل حال وإن تابوا.

ص: 307

وقد صرح في رواية عبد الله بأن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجب عليه القتل ولا يستتاب فتبين أن القتل قد وجب وما وجب من القتل لم يسقط بحال.

يؤيد هذا أنه قد قال في ذمي فجر بمسلمة: يقتل قيل له: فإن أسلم؟ قال: يقتل هذا قد وجب عليه فتبين أن الإسلام لا يسقط القتل الواجب وقد ذكر في الساب أنه قد وجب عليه القتل.

وأيضا فإنه أوجب على الزاني بمسلمة بعد الإسلام القتل الذي وجب عقوبة على الزنى بمسلمة حتى إنه يقتله سواء كان حرا أو عبدا أو محصنا أو غير محصن كما قد نص عليه في مواضع ولم يسقط ذلك القتل بالإسلام ويوجب عليه مجرد حد الزنا لأنه أدخل على المسلمين من الضرر والمعرة ما أوجب قتله ونقض عهده فإذا أسلم لم تزل عقوبة ذلك الإضرار عنه كما لا تزول عنه عقوبة قطعه للطريق لو أسلم ولم يجز أن يقال: هو بعد الإسلام كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم لأن الإسلام يمنع ابتداء العقوبة ولا يمنع دوامها لأن الدوام أقوى كما لو قتل ذمي ذميا ثم أسلم قتل ولو قتله وهو مسلم لم يقتل.

ولهذا ينتقض عهد الذمي بأشياء: مثل الزنا بالمسلمة وإن لم يكن محصنا وقتل أي مسلم كان والتجسس للكفار وقتال المسلمين واللحاق بدار الحرب وإن كان المسلم لا يقتل بهذه الأشياء على الإطلاق فإذا وجب قتل الذمي بها عينا ثم أسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم أسلم إذ لا فرق بين أن يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم أو يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فإن القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود وهو يسقط بالشبهة حكما يمنع الإسلام ابتداءه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبة على المعاهد

ص: 308

وهذا ينبني على قولنا: يتعين قتل الذمي إذا فعل هذه الأشياء وأن لخصوص هذه الجنايات أثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد ويقتضي أن قتله حد من الحدود التي تجب على أهل دار الإسلام من مسلم ومعاهد ليس بمنزلة رجل من أهل دار الحرب أخذ أسيرا إذ ذاك المقصود بقتله تطهير دار الإسلام من فساد هذه الجنايات وحسم مادة جناية المعاهدين وإذا كان قد نص على أن لا تزول عنه عقوبة ما أدخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فأن لا تزول عنه عقوبة إضراره بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لأن ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يلحق بالزنا بمسلمة إذا أقيم على الزاني الحد.

ونصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سبه ثم أسلم قتل بذلك ولم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس وهو ثمانون أو سب واحد من الناس وهو التعزير كما أنه لم يوجب على من زنى بمسلمة إذا أسلم حد الزنا وإنما أوجب القتل الذي كان واجبا وعلى الرواية الأخرى التي خرجها القاضي في كتبه القديمة ومن اتبعه فإن الذمي يستتاب من السب فإن تاب وإلا قتل.

وكذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكر أبو الخطاب وغيره كما يستتاب الزنديق والساحر ولم أجد للاستتابة في كلام الإمام أحمد أصلا فأما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به وأما استتابة الذمي فإن يدعى إلى الإسلام فأما استتابة بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لأن قتله متعين.

فأما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه: "أن الإمام يخير فيه" فيشرع استتابته بالعود إلى الذمة لأن إقراره بها جائز بعد هذا لكن لا تجب هذه

ص: 309

الاستتابة رواية واحدة وإن أوجبنا الاستتابة بالإسلام على إحدى الروايتين وأما على الرواية التي ذكرها الخطابي فإنه إذا أسلم الذمي سقط عنه القتل مع أنه لا يستتاب كالأسير الحربي وغيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة ولو أسلموا سقط عنهم القتل وهذا أوجه من قول من يقول بالاستتابة فإن الذمي إذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا وهذا لا يجب استتابته بالاتفاق اللهم إلا أن يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فإذا أسلم جاز أن يقال: عصم دمه كالحربي الأصلي بخلاف المسلم فإنه إذا قبلت توبته فإنه يستتاب ومع هذا فمن تقبل توبته فقد يجوز استتابته كما يجوز استتابة الأسير لأنه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لا يجب لكن المنصوص عن أصحاب هذا القول أنه لا يقال له: أسلم ولا لا تسلم لكن إن أسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك أنهما لا يستتابان في المنصوص المشهور فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضا.

وحكي عنه في الذمي أنه إذا أسلم سقط عنه القتل وإن لم يستتب.

وحكي عنه أن المسلم يستتاب وتقبل توبته وخرج عنه في الذمي أنه يستتاب وهو بعيد.

واعلم أنه لا فرق بين سبه بالقذف وغيره كما نص عليه الإمام أحمد وعامة أصحابه وعامة العلماء.

وفرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف والسب فذكر الروايتين في المسلم وفي الكافر في القذف ثم قال: وكذلك سبه بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي صلى الله عليه وسلم أولى وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك إذا ذكر بأنواع السب فهذا مذهب الإمام أحمد.

ص: 310

وأما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب" قال ابن القاسم: "من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق" وقال أبو مصعب وابن أبي أويس: سمعنا مالكا يقول: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب" وكذلك قال محمد بن عبد الحكم: أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من النبيين من مسلم كان أو كافر قتل ولم يستتب" قال: وروى لنا مالك إلا أن يسلم الكافر قال أشهب عنه: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب" فهذه نصوصه نحو من نصوص الإمام أحمد والمشهور من مذهبه أنه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه حكم الزنديق عندهم ويقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة من السب وروى الوليد بن مسلم عن مالك أنه جعل سب النبي صلى الله عليه وسلم ردة قال أصحابه: فعلى هذا يستتاب فإن تاب نكل وإن أبى قتل ويحكم له بحكم المرتد وأما الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل؟ على الروايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب وغيره إحداهما: يسقط عنه قال مالك في رواية جماعة منهم ابن القاسم: "من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل إلا أن يسلم" وفي رواية: "لا يقال له أسلم ولا لا تسلم ولكن إن أسلم فذلك له توبة" وفي رواية مطرف عنه: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل وكذلك من فعل ذلك من اليهود والنصارى قتل ولا يستتاب إلا أن يسلم قبل القتل" قال ابن حبيب: وسمعت ابن الماجشون يقوله وقال لي ابن عبد الحكم: وقال لي أصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم: قال مالك: "إن شتم النصراني النبي صلى الله عليه وسلم شتما يعرف فإنه يقتل

ص: 311

إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة ولم يقل: يستتاب قال ابن القاسم ومحمد: قوله عندي إن أسلم طائعا وعلى هذا فإذا أسلم بعد أن يؤخذ وثبت عليه السب ويعلم أنهم يريدون قتله إن لم يسلم لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال والرواية الثانية: لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون: وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يسقط عن الذمي بإسلامه وإنما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فأما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره.

وأما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي صلى الله عليه وسلم وجهان أحدهما: هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل وهذا قول جماعة منهم وهو الذي يحكيه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي والثاني: أن حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة قالوا: ذكر ذلك أبو بكر الفارسي وادعى فيه الإجماع ووافقه الشيخ أبو بكر القفال وقال الصيدلاني قولا ثالثا وهو أن الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فإن تاب زال القتل الذي هو موجب الردة وجلد ثمانين للقذف ولهذا الوجه لو كان السب غير قذف عزر بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم إذا سب ثم أسلم ولم يتعرض للكلام في الذمي إذا سب ثم أسلم ومنهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم إذا جدد الإسلام بعد السب ومنهم من ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم أنه يسقط عنه القتل وهو الذي حكاه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من "الأم" فإنه قال بعد أن ذكر نواقض العهد وذكر فيها سب النبي صلى الله عليه وسلم: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلم أن من فعله قتل حدا أو قصاصا

ص: 312

فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو القود فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل قال: فإن فعل أو قال مما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطي الجزية" قتل وأخذ ماله فيئا فقد ذكر أن من نقض العهد فإنه تقبل توبته إما بأن يسلم أو بأن يعود إلى الذمة.

وذكر الخطابي قال: قال مالك بن أنس: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم" وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال الشافعي: "يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة" واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف وظاهر هذا القتل والاستدلال يقتضي أن لا يكف عنه إذا أظهر التوبة لأنه لم يحك عنه شيئا ولأن ابن الأشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى إظهار التوبة لو قبلت منه.

والكلام في فصلين:

أحدهما: في استتابة المسلم وقبول توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أن المشهور عن مالك وأحمد أنه لا يستتاب ولا تسقط القتل عنه توبته وهو قول الليث بن سعد وذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وحكى مالك وأحمد أنه تقبل توبته وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة المرتد فنتكلم أولا في قبول توبته والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين أنه تقبل توبة المرتد في الجملة وروي عن الحسن البصري أنه يقتل وإن أسلم جعله كالزاني والسارق وذكر عن أهل الظاهر نحو ذلك أن توبته تنفعه عند الله ولكن لا يدرأ القتل عنه

ص: 313

وروي عن أحمد أن من ولد في الإسلام قتل ومن كان مشركا فاسلم استتيب وكذلك روي عن عطاء وهو قول إسحاق بن راهويه والمشهور عن عطاء وأحمد الاستتابة مطلقا وهو الصواب ووجه عدم قبول التوبة قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري ولم يستثن ما إذا تاب وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه فإذا كان القاتل والزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة وعن حكيم بن جماعة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه" رواه الإمام أحمد ولأنه لا يقتل لمجرد الكفر والمحاربة لأنه لو كان كذلك لما قتل المترهب والشيخ الكبير الأعمى والمقعد والمرأة ونحوهم فلما قتل هؤلاء علم أن الردة حد من الحدود والحدود لا تسقط بالتوبة.

والصواب ما عليه الجماعة لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأخبر الله أنه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة وذلك يقتضى مغفرته له في الدنيا والآخرة ومن هذه حاله لم يعاقب بالقتل.

يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد قال: حدثنا على بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام ولحق

ص: 314

بالمشركين فأنزل الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} إلى آخر الآية فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وخلى عنه ورواه النسائي من حديث داود مثله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي عن خالد عن عكرمة بمعناه وقال: "والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله والله أصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وخلى عنه.

وقال: ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} في أبي عامر بن النعمان ووحوح بن الأسلت والحارث بن سويد بن الصامت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في الحارث بن سويد بن الصامت.

وقال: ثنا عبد الرزاق نا جعفر عن حميد عن مجاهد قال: "جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: والله إنك ما علمت لصادق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه".

وكذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد وجماعة معه ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة كهيئة البدء ولحقوا بمكة كفارا

ص: 315

فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث وأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه.

فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى الإسلام ولأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه وقد يعذب وإنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة.

وذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة وأن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له مخشي بن حمير وقال بعضهم: كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برئ من نفاقه وقال: "اللهم إني لا أزال أسمع آية تقر عيني تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك" وذكروا القصة.

وفي الاستدلال بهذا نظر ولأنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ

ص: 316

يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} .

وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه وأنهم لا يعذبون في الدنيا ولا في الآخرة عذابا أليما: بمفهوم الشرط ومن جهة التعليل ولسياق الكلام والقتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل لأن الله سبحانه قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ومن غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه عليه في الدنيا ولا في الآخرة.

وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة: خرج ناس من المسلمين يعني المهاجرين فأدركهم المشركون ففتنوهم فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} الآية ونزل فيهم: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه} الآية ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} إلى آخر الآية ولأنه سبحانه

ص: 317

قال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} فعلم أن من لم يمت وهو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار وذلك دليل على قبول التوبة وصحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل ولعموم قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا تاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا.

وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بمكة وافترى على الله ورسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه وسلم وحقن دمه وكذلك الحارث بن سويد وكذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم وقصص هؤلاء وغيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث والسيرة.

وأيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة والمدينة والطائف واتبع قوم منهم من تنبأ فيهم مثل مسيلمة والعنسي وطليحة الأسدي فقاتلهم الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك ولم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام ومن رؤوس من كان قد ارتد ورجع طليحة الأسدي المتنبي والأشعث بن قيس وخلق كثير لا يحصون والعلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد وهذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى

ص: 318

عليه ولعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة ونحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما ونحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فنقول بموجبه فإنما يكون مبدلا إذا دام على ذلك واستمر عليه فأما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل وكذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك بدينه ملازم للجماعة وهذا بخلاف القتل والزنى فإنه فعل صدر عنه لا يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال إنه ليس بزان ولا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه وإن عزم على أن لا يعود إليه لأن العزم على ترك العود لا يقطع مفسدة ما مضى من الفعل.

على أن قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها" فهذا المستثنى هنا هو المذكور في قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" ولهذا وصفه بفراق الجماعة وإنما يكون هذا بالمحاربة.

يؤيد ذلك أن الحديثين تضمنا أنه لا يحل دم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والمرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين ويفرق بين ترك الدين وتبديله أو يكون المراد به من ارتد وحارب كالعرنيين ومقيس بن حبابة ممن ارتد وقتل وأخذ المال فإن هذا يقتل بكل حال إن تاب بعد القدرة عليه ولهذا والله أعلم استثني هؤلاء الثلاثة الذين يقتلون بكل

ص: 319

حال وإن أظهروا التوبة بعد القدرة ولو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله: "المفارق للجماعة" فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث وهو والله أعلم مقصود هذا الحديث.

وأما قوله: "لا يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلامه" فقد رواه ابن ماجه من هذا الوجه ولفظه: "لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين" وهذا دليل على قبول إسلامه إذا رجع إلى المسلمين وبيان أن معنى الحديث أن توبته لا تقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال الذين قتلوا ببدر ومعناه أن من أظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فإنه لا تقبل توبته وعمله حتى يهاجر إلى المسلمين وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِم} الآية وأيضا فإن ترك الدين وتبديله وفراق الجماعة يدوم ويستمر لأنه تابع للاعتقاد والاعتقاد دائم فمتى قطعه وتركه عاد كما كان ولم يبق لما مضى حكم أصلا ولا فيه فساد ولا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه مبدل للدين ولا أنه تارك لدينه كما يطلق على الزاني والقاتل بأن هذا زان وقاتل فإن الكافر بعد إسلامه لا يجوز أن يسمى كافرا عند الإطلاق ولأن تبديل الدين وتركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفر الأصلي والحراب في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالإسلام أو زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك زوال تبديل الدين وتركه بالعود إلى الدين وأخذه يقطع حكم ذلك التبديل والترك.

ص: 320

فصل.

إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب ومذهب مالك وأحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام وهل ذلك واجب أو مستحب؟ على روايتين عنهما أشهرهما عنهما: أن الاستتابة واجبة وهو قول إسحاق بن راهويه.

وكذلك مذهب الشافعي هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب فإن تاب في الحال وإلا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني وفي القول الآخر يستتاب كمذهب مالك وأحمد.

وقال الزهري وابن القاسم في رواية: "يستتاب ثلاث مرات".

ومذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب وإلا قتل والمشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة وذكر الطحاوي عنهم: لا يقتل المرتد حتى يستتاب وعندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام.

وقال الثوري: "يؤجل ما رجيت توبته وكذلك معنى قول النخعي".

وذهب عبيد بن عمير وطاوس إلى أنه يقتل ولا يستتاب لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل المبدل دينه والتارك لدينه المفارق للجماعة ولم يأمر باستتابته كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم.

يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد الأولى.

وسر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز

ص: 321

والمرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته وهذا هو علة من رأى الاستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب وإن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد ولا يجب ذلك فيهما.

نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الاستتابة هنا لا بد منها.

ويدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر يوم الفتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ودم مقيس بن حبابة ودم عبد الله بن خطل وكانوا مرتدين ولم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان وتوقف صلى الله عليه وسلم عن مبايعة بن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم وأنه لا يستتاب.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب العرنيين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم ولم يستتبهم ولأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابته كالكافر الأصلي وكالزاني وكقاطع الطريق ونحوهم فإن كل هؤلاء من قبلت توبته ومن لم تقبل يقتل قبل الاستتابة ولأن المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا.

وحجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أمر الله ورسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف وهذا معنى الاستتابة والمرتد من الذين كفروا والأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد

ص: 322

واجبة ولا يقال: "فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام" لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله ولا يجوز استبقاؤه وهو لم يستتب من هذا الكفر.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد ومن كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فيكون استتابته مشروعة ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام والإبلاغ لدينه فيكون واجبا.

وعن جابر رضي الله عنه: "أن امرأة يقال لها "أم مروان" ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" رواهما الدارقطني.

وهذا إن صح أمر بالاستتابة والأمر للوجوب والعمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال: "قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا وأطعمتوه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني" رواه مالك والشافعي وأحمد وقال: أذهب إلى حديث عمر وهذا يدل على أن الاستتابة واجبة وإلا لم يقل عمر: "لم أرض إذ بلغني".

وعن أنس بن مالك قال: لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال: ما فعل البكريون؟ قال: فلما رأيته لا يقطع قلت: يا أمير المؤمنين ما فعلوا؟ إنهم قتلوا ولحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام

ص: 323

قاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال: فقال: "لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء" وقال: فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتهم سلما؟ قال: "كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبوا استودعتهم الحبس".

وعن عبد الله بن عتبة قال: أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال: فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوا فخل عنهم وإن لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه ولم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح.

وعن العلاء أبي محمد أن عليا رضي الله عنه أخذ رجلا من بني بكر بن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فأبى فقدمه ليضرب عنقه فنادى: يا لبكر فقال علي: "أما إنك واجده أمامك في النار" رواه الخلال وصاحبه أبو بكر.

وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام فدعاه عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود.

وروى من وجه آخر أن أبا موسى استتابه شهرا ذكره الإمام أحمد.

وعن رجل عن ابن عمر قال: "يستتاب المرتد ثلاثا" رواه الإمام أحمد.

وعن أبي وائل عن أبي معين السعدي قال: "مررت في السحر بمسجد بني حنيفة وهم يقولون: إن مسيلمة رسول الله فأتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاءوا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم وضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا: أحدث قوم في أمر فقتلت بعضهم وتركت بعضهم

ص: 324

فقال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم إليه هذا وابن أثال فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقالا: أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آمنت بالله ورسله ولو كنت قاتلا وفدا لقتلتكما" قال: فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح.

فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا.

والفرق بين هذا وبين الكافر الأصلي من وجوه:

أحدها: أن توبة هذا أقرب لأن المطلوب منه إعادة الإسلام والمطلوب من ذاك ابتداؤه والإعادة أسهل من الابتداء فإذا أسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد.

الثاني: أن هذا يجب قتله عينا وإن لم يكن من أهل القتال وذاك لا يجوز أن يقتل إلا أن يكون من أهل القتال ويجوز استبقاؤه بالأمان والهدنة والذمة والإرقاق والمن والفداء فإذا كان حده أغلظ فلم يقدم عليه إلا بعد الإعذار إليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا.

الثالث: أن الأصلي قد بلغته الدعوة وهي استتابة عامة من كل كفر وأما هذا فإنما نستتيبه من التبديل وترك الدين الذي كان عليه ونحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا ولا بالدعوة إلى الرجوع.

وأما ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس بن حبابة فإنه كانت لهم جرائم زائدة على الردة وكذلك العرنيون فإن أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة وأخذوا الأموال فصاروا قطاع طريق محاربين لله ورسوله وفيهم من كان يؤذي بلسانه أذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يستتابوا على أن

ص: 325

الممتنع لا يستتاب وإنما يستتاب المقدور عليه ولعل بعض هؤلاء قد استتيب فنكل.

فصل.

ذكرنا حكم المرتد استطرادا لأن الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال: "إن ساب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين " قال: إنه نوع من الكفر فإن من سب الرسول أو جحد نبوته أو كذب بآية من كتاب الله أو تهود أو تنصر ونحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا دينهم وتركوه وفارقوا الجماعة فيستتابون وتقبل توبتهم كغيرهم.

يؤيد ذلك أن في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المرأة السابة "أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب منها فإن رجع وإلا قتل".

والأعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فإن كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها وإن كانت ذمية وقد استتابها فاستتابة المسلم أولى.

وأيضا فإما أن يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه أو لخصوص السب والثاني لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام أو زني بعد إحصان أو قتل نفس فيقتل بها".

ص: 326

وقد صح ذلك عنه من وجوه متعددة وهذا الرجل لم يزن ولم يقتل فإن لم يكن قتله لأجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت أنه إنما يقتل لأنه كفر بعد إسلامه وكل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل لقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية ولما تقدم من الأدلة الدالة على قبول توبة المرتد.

وأيضا فعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما كان قبله" رواه مسلم يوجب أن من أسلم غفر له كل ما مضى.

وأيضا فإن المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم} إلى قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وقد قيل فيهم: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} مع أن هؤلاء قد آذوه بألسنتهم وأيديهم أيضا ثم العفو مرجو لهم وإنما يرجى العفو مع التوبة فعلم أن توبتهم مقبولة ومن عفى عنه لم يعذب في الدنيا ولا في الآخرة.

وأيضا فقوله سبحانه وتعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً} الآية فإنها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب

ص: 327

لم يعذب عذابا أليما في الدنيا ولا في الآخرة والقتل عذاب أليم فعلم أنه لا يقتل.

وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فأنزل الله هذه الآية.

وعن الضحاك قال: "خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ " فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله هذه الآية إكذابا لهم.

وأيضا فلا ريب أن توبتهم فيما بينهم وبين الله وإن تضمنت التوبة من حقوق الآدميين لأوجه:

أحدها: أنه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغيبه وقد ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى مثل ذلك فجاز أن يكون ما أتى به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجب لأنواع الثناء عليه والتعظيم له موجبا لما ناله من عرضه.

الثاني: أن حق الأنبياء تابع لحق الله وإنما عظمت الوقيعة في أعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر والوقيعة في دين الله وكتابه ورسالته فإذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا ليكون أعظم منه ومعلوم أن الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق

ص: 328

الأنبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض.

الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم منه أنه يدعو للتأسي به وإتباعه ويخبرهم أن من فعل ذلك فقد غفر الله له كل ما أسلفه في كفره فيكون قد عفا لمن قد أسلم عما ناله من عرضه.

وبهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سب واحد من الناس فإنه إذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب وسبه حق آدمي محض لم يعف عنه والمقتضى للسب هو موجود بعد التوبة والإسلام كما كان موجودا قبلهما إن لم يزجر عنه بالحد وهنا كان الداعي إليه الكفر وقد زال بالإيمان وإذا ثبت أن توبته وإيمانه مقبول منه فيما بينه وبين الله فإذا أظهرها وجب أن يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في القسمة فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: "لا لعله أن يكون يصلي" قال خالد: "وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" رواه مسلم.

وقال لأسامة في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله: "كيف قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله" قال: إنما قالها تعوذا قال: "فهلا شققت عن قلبه".

وكذلك في حديث المقداد نحو هذا وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف وهو مطلق أو مقيد

ص: 329

يصح إسلامه وتقبل توبته من الكفر وإن كانت دلالة الحال تقضي أن باطنه بخلاف ظاهره.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من المنافقين علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع إخبار الله له أنهم اتخذوا أيمانهم جنة وأنهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فعلم أن من أظهر الإسلام والتوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء وسيأتي إن شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة والجواب عن هذه الحجج.

الفصل الثاني

في الذمي إذا سبه ثم تاب.

وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يقتل بكل حال وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك إذا تاب بعد أخذه وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي.

الثاني: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام وهو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك وأحمد.

والثالث: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو بالعودة إلى الذمة كما كان وعليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول وعلى هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة ولا يقتل.

فمن قال: "إن القتل يسقط عنه بالإسلام" فإنه يستدل بمثل ما ذكرناه في المسلم فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب ويدل على ذلك أيضا أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو غادر محارب وأنه ناقض للعهد ومعلوم أن من حارب ونقض العهد إذا أسلم

ص: 330

عصم دمه وماله وقد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير وأبي سفيان بن الحارث وغيرهم يهجون النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم وأموالهم وهؤلاء وإن كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط عنه حقوق الله ولهذا أجمع المسلمون إجماعا مستنده كتاب الله وسنة نبيه الظاهرة أن الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه معتقد حل ذلك وعقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فإن عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه وإن كان يوجب علينا الكف عن سب دينهم والطعن فيه فهذا أقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء وإن كان الاستدلال به خطأ.

وأيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية وقطع الطريق على ذمي والثاني باطل فتعين الأول وذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف عنه والإمساك فمتى أظهر السب زال العهد وصار حربيا ولأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل ولا دليل على ذلك إذا أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل وذلك متردد بين كون القتل لكفره وحرابه أو لخصوص السب ولا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان والاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي وذلك حرام لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ

ص: 331

مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} والقياس في المسألة متعذر لوجهين:

أحدهما: أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب والشروط والموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة وقدرها وذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا وشرط القياس بقاء حكم الأصل ولأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا وقدرا واشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق وكون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل وإلا كان شرعا بالرأي ووضعا للدين بالمعقول وذلك انحلال عن معاقد الدين وانسلال عن روابط الشريعة وانخلاع من ربق الإسلام وسياسة للخلق بالآراء الملكية والأنحاء العقلية وذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره وحرابه ومعلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق.

وأيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين الله تعالى ويقول فيه ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم واعتقد نبوته ورسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات ولا يجوز أن يقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا ولا في الآخرة" ومن قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات وأشنعها وقد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر وكاهن ومجنون ومفتر وقول اليهود في مريم بهتانا عظيما ونسبتها إلى الفاحشة وأن المسيح لغير رشدة وهذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي وأقر بنبوة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وأنه بريء مما رمته به اليهود لم يبقى للمسيح عليه تبعة.

ونحن نعلم أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين ومنهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين وعادته وأغراض أخر

ص: 332

تمنع الدخول في الإسلام ومنهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه ولا يتفكر فهؤلاء قد لا يسبونه ومنهم من يعتقد فيه العقيدة الردية ويكف عن سبه وشتمه أو يسبه ويشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به ولا يظهر ذلك ومنهم من يظهر ذلك عند المسلمين ومنهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي كالقذف ونحوه وإذا أسلم الكفار غفر لهم جميع ذلك ولم يجئ في كتاب ولا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب والسنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وإذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام.

وأيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد" ثم لو تاب النصراني ونحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا ولا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم وصار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى وبهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء وسب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام وما بعده والأذى والغضاضة التي تلحق المسبوب قبل الإسلام الساب وبعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه

ص: 333

قد زال موجبه بالإسلام وتبدل بالتعزير له والتوقير والثناء عليه والمدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان وتوحيده وتقديسه وتحميده وعبادته.

يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية ونعت الرسالة كما قال: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} فمن حيث هو بشر له أحكام البشر ومن حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه وفضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين وموجب للعقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا وسبه من حيث هو رسول حق لله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب ويبقى حق بشريته من هذا السب وحق البشرية إنما يوجب جلد ثمانين.

فمن قال: "إنه يجلد لقذفه بعد إسلامه ويعزر لسبه لغير القذف" قال: إن الإسلام يسقط حق الله وحق الرسالة ويبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب سابه كما يؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه.

ومن قال: "إنه لا يعاقب بشيء" قال: هذا الحق اندرج في حق النبوة وانغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجبت القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء ولهذا اندرج حق الله المتعلق بالقتل والقذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة وفي هذين الأصلين المقيس عليهما خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم.

ص: 334

وعند أبي حنيفة أن حد القذف لا يسقط بالعفو وكذلك تردد من قال: "إن القتل يسقط بالإسلام" هل يؤدب حدا أو تعزيرا على خصوص القذف والسب؟ ومن قال هذا القول قال: لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذا سبه لا يستتاب بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي ومثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو أسلم عصم دمه.

كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل ولا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين وقد أسرناه فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل.

وكذلك أكثر نصوص مالك وأحمد وغيرهما إنما هي أنه يقتل ولا يستتاب وهذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي.

ومن قال: "إن الذمي يستتاب" فقد يقول: إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد وأولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم وتبليغهم رسالات الله غير جائز.

ومن لم يستتبه قال: هذا هو القياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير وقد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسرى من غير عرض للإسلام عليهم وإن كانوا ناقضين للعهد وذلك في قصة قريظة وخيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد وضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام وقد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض للإسلام عليه وإنما قتله لأنه كان يؤذي الله ورسوله وقد نقض العهد.

ومن قال: "إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه" قال: إنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد وهو صاغر فيجب الكف عنه.

ص: 335

واعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه وهو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسر بل إما أن يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء والصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين.

والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق فقال: يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء فقال: أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه: يا محمد يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال: هذه حاجتك ففدى بالرجلين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر وأن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه".

وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى فدى نفسه والقياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق ومجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض

ص: 336

للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد وهو في أيدينا لم يجز أن يقال: إنه يطلق بل حيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا وللإمام أن يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه وهذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد ومن لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول: إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق ولم يقتل ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أسلمت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" دليل على أن من أسلم ولا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم وهو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال وفي هذا أيضا دليل على أنه إذا بذل الجزية لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه.

فصل.

والدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة وإن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} .

وقد تقدم أن هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله وإن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى وأحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه.

ص: 337

وأيضا فإنه قال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ ويقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ.

وأيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى قبل الأخذ وهذا ملعون فدخل في الآية.

يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال: "هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة" قال: فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له واللعنة الأخرى أبلغ منها.

يقرره أن قاذف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له.

وأيضا قوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية.

وهذا الساب محارب لله ورسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله ورسوله وأن المحاد لله ورسوله مشاق لله ورسوله محارب لله ورسوله

ص: 338

ولأن المحارب ضد المسالم والمسالم الذي تسلم منه ويسلم منك ومن آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب وقد تقدم من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عدوا له ومن عاداه فقد حاربه وهو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} .

وكل ما في القرآن من ذكر الفساد مثل قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَاد} وغير ذلك فإن السب داخل فيه فإنه أصل لكل فساد في الأرض إذ هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين والدنيا والآخرة.

وإذا كان هذا الساب محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وقد قدمنا الأدلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل في قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وهذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه ولهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعقيلي: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" بل يعاقب بالاسترقاق أو بجواز الاسترقاق وغيره ولكن هذا مرتد محارب فلم يمكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتل.

ص: 339

وأيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة وقد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه وكذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة.

وفي حديث أبي بكر لما استأذنه أبو برزة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال: "إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة وعمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه وسلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك وهو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها؟.

وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه وامتنع عن مبايعته وقد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل وإن أسلم وذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل أن يجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء يريد الإسلام ثم كف عنه انتظار أن يقوم إليه رجل فيقتله.

وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وإن جاء تائبا وإن تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وهنا من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لا مجرد إسلامه وأن بالإسلام والتوبة انمحى الإثم وبعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم احتقن الدم والعفو بطل بموته صلى الله عليه وسلم وليس للأمة أن يعفوا

ص: 340

عن حقه وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله وإن جاء تائبا.

وأما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا لنا على أن نعصم دم من سب وتاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله إذا فعل ذلك وتعذر عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقد ذكرنا أيضا أن حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد وكان يهجوه فقتل من غير استتابة.

وأيضا فما تقدم من حديث أنس المرفوع وأثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه وسراريه من غير استتابة وما ذاك إلا لأجل أنه نوع من الأذى ولذلك حرمه الله ومعلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه ومن غيره ونكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه وسلم وإنما ذاك مبالغة في تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة.

وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد ومع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما يوجب القتل ولم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل والكافرة الحربية من النساء لا تقتل إن لم تقاتل والمرتدة لا تقتل حتى تستتاب وهؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن ولم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية.

وقد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا

ص: 341

وذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر وهو من جنس المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد إنما هي التوبة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة مثل سفك الدم وأخذ المال كما فعل العرنيون وكما فعل مقيس بن حبابة حيث قتل الأنصاري واستاق المال ورجع مرتدا فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيس بن حبابة وكما قيل له في مثل العرنيين "إنما جزاؤهم أن يقتلوا" فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط.

وأيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقوا بين الساب وبين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة واستتابوا الثاني وأمروا باستتابته وذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه وقد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتيبون المرتد ويأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقبلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين ومن خص المسلم بذلك قال: لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه أمر باستتابة الساب إلا ما روى عن ابن عباس وفي إسناد الحديث عنه مقال ولفظه: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل" وهذا والله أعلم فيمن كذب بنبوة شخص من الأنبياء وسبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله: "فقد كذب برسول الله عليه الصلاة والسلام" ولا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء وسبه بناء على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا.

ص: 342

يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول: "ليس لقاذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة وقاذف غيرهن له توبة" ومعلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أن مذهبه أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم وقاذفه لا توبة له وأن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه.

وأيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته دليل على فساد اعتقاده وكفره به بل هو دليل على الاستهانة به والاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان في قلبه والإيمان موجب لإكرامه وإجلاله لم يتصور منه ذمه وسبه والنقص به وقد كان من أقبح المنافقين نفاقا من يستخف بشتم النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال: سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم فحلفوا له واعتذروا إليه فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} الآية رواه أبو مسعود بن الفرات ورواه الحاكم في صحيحه وقال: فأنزل الله تعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} الآية وإذا ثبت أنه كافر مستهين به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال الكفر والاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه.

ص: 343

ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه وإن شهد عنده بذلك العدول ويجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أكبر منه "هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه باتفاق العلماء وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر العدل الواحد ومثل الأمر والنهي والعموم والقياس يجب إتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها ونظائر هذا كثيرة.

فإذا علمت هذا فنقول: هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه وعنهما أنه يستتاب وهو المشهور عن الشافعي.

وقال أبو يوسف آخرا: أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته وهذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد.

وعلى هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب ونحوه مما يدل على الكفر اعتضد السبب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله والاستهانة بفرائض الله ونحو ذلك من دلالات النفاق والزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته وكفره وفي أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور وما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا وفي أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب؟ نعم لو أنه

ص: 344

قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وكف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال وفيه خلاف بين أهل هذا القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره.

وعلى مثل هذا ومن هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق وعلى الأول تحمل آيات إقامة الحد.

ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال: بهذا يظهر الفرق بينه وبين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره وتوقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله ولم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به وهذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام وهو من القياس الجلي.

ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} إلى قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} .

قال أهل التفسير: {أَوْ بِأَيْدِينَا} بالقتل: إن أظهرتم ما في قلبوكم قتلناكم وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهره من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن نتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة.

ص: 345

وقال قتادة وغيره: قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} إلى قوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} قالوا: "في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر".

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وقوله سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وكذلك قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} وقوله سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتخذوا إيمانهم اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إلى قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .

دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة وينكرون أنهم كفروا ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر.

ص: 346

وذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه.

أحدها: أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف والإنكار ولكانوا يقولون: قلنا وقد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة.

الثاني: أنه قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} واليمين إنما تكون جنة إذا لم نأت ببينة عادلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى وتلك جنة مخروقة.

الثالث: أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب والإنكار ومعلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم البينة بخلافه ولذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ويدل على ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} الآية وقوله تعالى في موضع آخر: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال الحسن وقتادة: "بإقامة الحدود عليهم" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وعن ابن عباس وابن جريج: "باللسان وتغليظ الكلام وترك الرفق".

ووجه الدليل أن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين وأن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل وذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام

ص: 347

له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهروه من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار وكان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون والآية تقتضي جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب أن يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر.

ومعلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر ولا يعلم ما يخالفه.

أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق ولأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض وهو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه كما عرفت ولأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده.

ويدل على ذلك قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَاّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلا وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا أسروا وقتلوا وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم.

وكذلك قال الحسن: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق

ص: 348

فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه وأسروه وقال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا ولو كان إظهار التوبة بعد إظهار النفاق مقبولا لم يمكن أخذ المنافق ولا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة وهي مقبولة منه.

يؤيد ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل جزاءهم أن يقتلوا ولم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا ولم يستثن حال التوبة كما استثناه من قتل المحاربين وقتل المشركين فإنه قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقال في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إلى قوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة وأنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة.

يوضح ذلك أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الإغراء بهم وقبل الأخذ والتقتيل وهناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر والأخذ والقتل فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه وإن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه وقد أخبر سبحانه أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ ويقتل وأن هذه السنة لا تبديل لها والانتهاء في الآية إما أن يعنى به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه وعند بعض المؤمنين.

والمعنى الثاني أظهر فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى

ص: 349

مات النبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحد يجترئ على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن إسراره وإعلانه خرج من وعيد هذه الآية ومن أظهره لحقه وعيدها.

ومما يشبه ذلك قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فإنه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا والآخرة وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} إلى قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} وأما قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} فقد قال أبو: "هذا شيء واحد هم المنافقون" وكذلك قال مجاهد: "كل هؤلاء منافقون فيكون من باب عطف الخاص على العام" كقوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} وقال سلمة بن كهيل وعكرمة: "الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش والزناة ومعلوم أن من أظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق".

ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن أجاب

ص: 350

بأن هذا ليس بمنافق ولكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مبيح للدم.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه: إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت" متفق عليه.

وفي الصحيحين عن عمر وعن جابر بن عبد الله قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام:

ص: 351

دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه".

وذكر أهل التفسير وأصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق: اختصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار حتى غضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن وقال عبد الله بن أبي: أفعلوها؟ قد نافرونا وكابرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن ابن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزوة وعنده عمر بن الخطاب فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال: "إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب" فقال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر؟ إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل" وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها

ص: 352

وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا وإن زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه ولم يحفظ ما قال فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه قالوا: وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من فضلاء الصحابة ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولكن بر أباك وأحسن صحبته" وذكروا القصة قالوا: وفي ذلك نزلت سورة المنافقين.

وقد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله قال: فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى

ص: 353

أنزل الله تصديقي: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.

ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة وإن أظهر إنكار ذلك القول وتبرأ منه وأظهر الإسلام وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة وقد حلف أنه ما قال وإنما علم بالوحي وخبر زيد ابن أرقم.

وأيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله وغضب أقوام يخاف افتتانهم بقتله.

وذكر بعض أهل التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم عد المنافقين الذين وقفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليفتكوا به فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال: "أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالرسالة".

وذكر بعضهم أن رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فأقبل إلى عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم فقال لهما: رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت فأخذ السيف وأشتمل عليه ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال: هكذا أقضي بين من لم يرض

ص: 354

بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقد تقدمت هذه القصة مروية من وجهين.

ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائزا إذ لولا ذلك لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من استأذنه في قتل المنافق ولأنكر على عمر إذ قتل من قتل من المنافقين ولأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدم معصوم بالإسلام ولم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم وإن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وأن يقول القائل: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصوم ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له ونزل تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم وكما أنه دليل على القتل فهو دليل على القتل من غير استتابة على ما لا يخفى.

فإن قيل: فلم لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم؟.

قلنا: إنما ذاك لوجهين:

أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهية منهم لكثير من أحكام الله وعامتهم يعرفون في لحن القول كما قال الله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ

ص: 355

أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فأقسم أنه لا بد أن يعرفهم في لحن القول ومنهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول والعمل منهم كما في سورة براءة ومنهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد والدلالات والقرائن والأمارات ومنهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون أنهم مسلمون وقد اتخذوا أيمانهم جنة وإذا كانت هذه حالهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ولا بخبر الواحد ولا بمجرد الوحي ولا بالدلائل والشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار ألا ترى كيف أخبر عن المرأة الملاعنة أنها إن جاءت بالولد على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به وجاءت به على النعت المكروه فقال: "لولا الإيمان لكان لي ولها شأن".

وكان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال: "لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها".

وقال للذين اختصموا إليه: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" فكان ترك قتلهم مع كونهم كفارا لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية.

ويدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين ومن المعلوم أن أحسن حال

ص: 356

من ثبت نفاقه وزندقته أن يستتاب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ولم يبلغنا أنه استتاب واحدا بعينه منهم فعلم أن الكفر والردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يقتل كالمرتد ولهذا كان يقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه؟ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة ولما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" قيل: بلى قال: "أليس يصلي؟ " قيل: بلى قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين والصلاة وإن ذكر بالنفاق ورمي به وظهرت عليه دلالته إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر وكذلك قوله في الحديث الآخر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" معناه إني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام وأكل بواطنهم إلى الله والزنديق والمنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر وقامت عليه بذلك بينة وهذا حكم بالظاهر لا بالباطن وبهذا الجواب يظهر فقه المسألة.

الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد بين ذلك حيث قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" وقال: "إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب" فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنما قتلهم لأغراض وأحقاد وإنما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال: "أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه

ص: 357

أقبل يقتلهم" وأن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره.

وقد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلته وناس آخرون فيكون ذلك سببا للفتنة واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له أناس صالحون وأخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا: ونحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل.

فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم.

والذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفا هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم والصبر على أذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة أمرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل وفي مثل هذه الحال نزل قوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى

ص: 358

الكافرين والمنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزو الروم وأنزل الله تبارك وتعالى سورة براءة وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وهذه ناسخة لقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم} وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمد يقتل أصحابه فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم وقد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها وقال في الأحزاب: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَاّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} الآية فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه ونصر رسوله فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية {وَدَعْ أَذَاهُم} كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} .

فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة والسلام إذ لا نسخ بعده ولم ندع أن الحكم تغير بعده لتغير

ص: 359

المصلحة من غير وحي نزل فإن هذا تصرف في الشريعة وتحويل لها بالرأي ودعوى أن الحكم المطلق كان لمعنى وقد زال وهو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال: إن حكم المؤلفة انقطع ولم يأت على انقطاعه بكتاب ولا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة.

ويدل على المسألة ما روى أبو إدريس قال: أتى على رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال: فقتلهم ولم يستتبهم وقال: وأتى برجل كان نصرانيا وأسلم ثم رجع عن الإسلام قال: فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له: كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك؟ قال: إن هذا أقر بما كان منه وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم رواه الإمام أحمد.

وروى عن أبي إدريس قال: أتى علي برجل قد تنصر فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله وأتى برهط يصلون القبلة وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: "أتدرون لم استتبت هذا النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه وأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة وجحدوني فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة".

فهذا من أمير المؤمنين على رضي الله عنه بيان أن كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة.

ويدل على ذلك قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً

ص: 360

صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ولهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: "ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له".

قال القاضي أبو يعلي وغيره: وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر ولا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا.

وقد يستدل على المسألة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: "هذه في أهل الإيمان"{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} قال: "هذه في أهل النفاق"{وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: "هذه في أهل الشرك" هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيما أظن أنهم قالوا: "كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب".

ويدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل ورأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} وقد قال حين حضره الموت {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحه فيما بينه وبين الله لم يكن ممن قال {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} بل يكون ممن تاب من قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب بلسانه فقط ولهذا قال في الأول {ثُمَّ يَتُوبُونَ}

ص: 361

وقال هنا {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فمن قال: "إني تبت" قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته.

وربما استدل بعضهم بقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين وبقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} الآية وقوله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} الآية فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معاينة العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق ومن قال هذا فرق بينه وبين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود والمنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما والعقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس وهذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا.

وفيه طريقة أخرى وهي أن سب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أنه موجب للقتل وبينا أنه جناية غير الكفر إذ لو كان ردة محضة وتبديلا للدين وتركا له لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد ولما قتل الذين سبوه وقد عفا عمن قاتل وحارب.

وقد ذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم ولأن التنقص والسب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة والرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول وتوقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين وتركه وفارق الجماعة وإذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر

ص: 362

الحدود غير عقوبة الكفر وتبديل الدين قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} .

فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة وكذلك قال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى ونكالا عن السرقة في المستقبل منهم ومن غيرهم وأخبر أن الله يتوب على من تاب ولم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان: الجزاء والنكال والتوبة تسقط الجزاء ولا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق ولم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة والإصلاح لمقصود حفظ النفس والمال سهل.

ولهذا لم نعلم خلافا يعتمد في أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وأخبر بحسن توبتهما وحسن مصيرهما وكذلك لو قيل: "إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يسقط بالتوبة وتجديد الإسلام" لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه ولم يزجر النفوس عن الاستحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد ويصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب والأذى ثم يجدد إسلامه ويظهر إيمانه وقد ينال المرء من عرضه ويقع منه تنقص له واستهزاء ببعض أقواله أو أعماله وإن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه لا يصعب على

ص: 363

من هذه سبيله كلما نال من عرضه واستخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال لأن الانتقال عن الدين لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهوة قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة ويكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام وهنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وعيبه والطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام ويظهر التوبة وبهذا يظهر أن السب والشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنى وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه وقد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها وذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له وهذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة لكن حقيقته أنه نوع من الردة تغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل وغيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لتغلظ الجرم وإن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة ويبقى خصوص السب ولا بد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل ويبقى حق أولياء المقتول من القتل الدية أو العفو وهذه مناسبة ظاهرة وقد تقدم نص الشارع وتنبيهه على اعتبار هذا المعنى.

ص: 364

فإن قيل: تلك المعاصي يدعو إليها الطمع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الطبع لا يدعوا إليه إلا بخلل في الاعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر وعقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة وإذا لم يكن إليه مجرده باعث طبيعي لم يشرع ما يزجر عنه وإن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب والدين ونحو ذلك.

قلنا: بل قد يكون إليه باعث طبيعي غير الخلل في الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله وأفعاله والغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه والشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره وغير ذلك فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له وضرب من الأذى والانتقاص وإن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان وإذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا والحرمة محفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب وإلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام ومتى أراد الإسلام فالإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إسلام من يظهر الإسلام.

وأيضا فإن سب النبي صلى الله عليه وسلم حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف وكسب غيره من البشر.

ص: 365

ثم من فرق بين المسلم والذمي قال: المسلم قد التزم أن لا يسب ولا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر وكما يعزر على أكل لحم الميت والخنزير والكافر لم يلتزم تحريم ذلك ولا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر ولا يعزر على الميت والخنزير.

نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا وبينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر ولا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله.

وحقيقة هذه الطريقة أن سب النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته وتعزيرا له وتوقيرا ونكالا عن التعرض له والحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك وعوقب عليه كما إذا أظهر الخمر والخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين وعلى التقديرين فالإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه.

وأيضا فإن الردة على قسمين: ردة مجردة وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها وكل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر لمن ذلك تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ولم يأت نص ولا إجماع لسقوط القتل عنه والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق.

والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد

ص: 366

القدرة عليه بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره وإنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه ويقيس بعضها ببعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتدين لم يبق إلا القياس وهو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم وقد دل على تأثيره نص الشارع وتنبيهه والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة.

وتقرير هذا من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ونحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى وإضرار وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط وكذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن عزم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ وحينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب وأنه مرتد ولم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض.

الثاني: أن الله سبحانه قال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ

ص: 367

بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفرا والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن.

وهذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت وإن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فالآية أعم من ذلك.

وقد رأينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه وأمر بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا من ذلك وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وأمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء وإذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين ورأينا أن من ضر وآذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه وإن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا وكان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح ولأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله ولأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي

ص: 368

بإسلامه وهذا الساب أتى من الأذى لله ورسوله بعد المعاهدة على ترك ذلك بما أتى به وهو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد.

وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه.

الوجه الثالث: أن الردة قد تتجرد عن السب فلا تتضمنه ولا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين وأخذ أموالهم إذ السب والشتم إفراط في العداوة وإبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير والانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله (رب) وقد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستسلام والانقياد بل استكبر وعاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر.

ولا فرق بين من يعتقد أن الله ربه وأن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول: إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد أن محمدا رسول الله وأنه صادق واجب الإتباع في خبره وأمره ثم يسبه أو يعيب أمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول وذلك أن الإيمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام والذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب

ص: 369

زكاة النفس ولا صلاحا فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصر صفة ونعتا للنفس وصلاحا وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب والنجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب ولو أنه مثقال ذرة.

هذا فيما بينه وبين الله وأما في الظاهر فتجري الأحكام على ما يظهره من القول والفعل.

والغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك.

والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا.

هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلب من أنه إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع.

والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال: الكفر أن لا يقصد أن يكفر.

وإذا كان كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق وغير اعتقاده وقوله فإنما ذاك لأن المقتضى للقتل الاعتقاد الطارىء وإعدام الاعتقاد الأول فإذا عاد ذلك الاعتقاد الإيماني وزال هذا الطارئ كان بمنزلة الماء والعصير: يتنجس بتغيره ثم يزول التغير فيعود حلالا لأن الحكم

ص: 370

إذا ثبت بعلة زول بزوالها وهذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده إليه وليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذ قد يتغير الاعتقاد كثيرا ولا يكون به أذى لله ورسوله.

وإضرار بالمسلمين يزيد على تغيير الاعتقاد ويفعله من يظن سلامة الاعتقاد وهو كاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في هذه الدعوة والظن ومعلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغير الاعتقاد من هذين الوجهين: من جهة كونه إضرارا زائدا ومن جهة كونه قد يظن أو يقال إن الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لا يريد الانتقال من دين إلى دين ويكون فساده أعظم من فساد الانتقال إذ الانتقال قد علم أنه كفر فنزع عنه ما نزع عن الكفر وهذا قد يظن أنه ليس بكفر إلا إذا صدر استحلالا بل هو معصية وهو من أعظم أنواع الكفر فإذا كان الداعي إليه غير الداعي إلى مجرد الردة والمفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة وهي أشد منها لم يجز أن يلحق التائب منه بالتائب من الردة بالردة لأن من شروط القياس قياس المعنى استواء الفرع والأصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة إذا كانت خفية فإذا كان في الأصل معان مؤثرة يجوز أن تكون التوبة إنما قبلت لأجلها وهي معدومة في الفرع لم يجز إذا لا يلزم من قبول توبة من خففت مفسدة جنايته أو انتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته أو بقيت.

وحاصل هذا الوجه أن عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر ومن أتى من القول بما يضر المسلمين ويؤذي الله ورسوله وهو موجب للكفر نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه وقد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الإضرار ومن حيث إن مفسدته لا تزول بقبول التوبة.

ص: 371

فصل.

قد تضمن هذه الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين وإن تاب وأسلم ويوجبه قول من فرق بينه وبين الذمي إذا أسلم وقد تضمن الدلالة على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الأولى فإن عود المسلم إلى الإسلام أحقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته ولهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا وأمثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي إذا عاد إلى الذمة.

ومن تأمل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله لبني قريظة وبعض أهل خيبر وبعض بني النضير وإجلائه لبني النضير وبني قينقاع بعد أن نقض هؤلاء الذمة وحرصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا فلم يفعل ثم سنة خلفائه وصحابته في مثل هذا المؤذي وأمثاله مع العلم بأنه كان أحرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في أن القول بوجوب إعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة ولإجماع خير القرون وقد تقدم التنبيه على ذلك في حكم ناقض العهد مطلقا ولولا ظهوره لأشبعنا القول فيه وإنما أحلنا على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته من له بها علم فإنهم لا يستريبون أنه لم يكن الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء اليهود هدنة مؤقتة وإنما كانت ذمة مؤبدة على أن الدار دار الإسلام وأنه يجري عليهم حكم الله ورسوله فيما يختلفون فيه إلا أنهم لم يضرب عليهم جزية ولم يلزموا بالصغار الذي ألزموه بعد نزول براءة لأن ذلك لم يكن شرع بعد.

وأما من قال: "إن الساب يقتل وإن تاب وأسلم وسواء كان كافرا أو مسلما" فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة وأن الذمي يقتل وإن طلب العود إلى الذمة.

ص: 372

وأما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب وإن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي:

الطريقة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب.

والدليل مبني على مقدمتين:

إحداهما: أنه داخل في هذه الآية.

والثانية: أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة.

أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم وإن تابوا بعد الأخذ وذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه أحد هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق

ص: 373

المسلمين وقد قال تعالى في آية السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم وأقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرأ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} بالتنوين وبالإضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذه ليجزيه وللجزاء.

ولهذا قال الأكثرون: إنه نصب على المفعول له والمعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم.

وقد قيل: إنه نصب على المصدر لأن معنى "اقطعوا" اجزوهم ونكلوا.

وقيل: إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم أو جازين منكلين.

وبكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا وقد أخبر أن جزاء المحاربين أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل ومعنى المجزي به لأن القتل والقطع والصلب وهي أفعال وهي عين ما يجزي به وليست أجساما بمنزلة المثل من النعم.

يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه إذا ليس لله أحكام في أهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها.

وأيضا فإنه قال: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} والخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها.

ص: 374

وأيضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} .

وأيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والإجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وإنما اختلفوا في هذه الحدود: هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا؟ كما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول: جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالإنفاء وإذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود وقد أخذ قبل التوبة وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد.

فلنبين المقدمة الأولى وهي أن هذا من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا وذلك من وجوه:

أحدها: ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال: ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف

ص: 375

وأما النفي فهو أن يهرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع آخر وذكر هذه الآية من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله ثم قال: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} قال: "كان ناس من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي أن يهرب في الأرض ولا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل".

وقال الضحاك: "أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه".

ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض وكذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وإن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد أنها نزلت في قوم موادعين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن أن يهاج.

ص: 376

قال: "فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم" فقد ذكر أنها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير أهل الكتاب.

وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن أنها نزلت في المشركين ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية.

والذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال: "يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له" وقد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي وغيره كما تقدم.

وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال: "مرت امرأة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: "أن اصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة: "يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد" قيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: "إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه".

ص: 377

فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمر وأبو عبيدة وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وأن العهد انتقض بذلك فعلم أنهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله وصلبه وإلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابه.

وقد قال آخرون منهم ابن عمر وأنس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم: "إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الأوزاعي في هذه الآية: هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه وفيمن حارب من أهل الذمة.

وقد جاءت آثار صحيحة عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الآية.

والمقصود هنا أن هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وإن كان يدخل فيها بعض

ص: 378

من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية.

ومما يدل على أنه قد عنى بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب وقتل بني قريظة وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الآية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مرادون منها.

الوجه الثاني: أن ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله ورسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله ورسوله ثم لا يخلو إما أن لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وإن لم يقاتلهم والأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر.

وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال والأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية.

ص: 379

فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه.

قيل: وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقد قيل فيها: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم} علم أن التائب بعد القدرة مبقى على حكم الآية.

الوجه الثالث: أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا إما أن يقتصر على نقض العهد بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية وإن كان الثاني فقد حارب وسعى في الأرض فسادا مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغصب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه أو يفتن مسلما عن دينه فإن هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم وهذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل أو يقتل ويصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده ورجله إن كان قد قطع الطرق وأخذ المال ولا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه وهو المطلوب.

الوجه الرابع: أن هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية وذلك لأنه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سبه: "من يكفنني عدوي؟ " وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه إذا كان عدوا له فهو محارب

ص: 380

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".

وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة وإذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله ورسوله.

فإن قيل: فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم وإذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا لا يدخل في المحاربة المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد.

قيل: هذا باطل من وجوه:

أحدها: أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} بعد أن أطلق أنه من آذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله وإذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالي المؤمن ولا يعاديه وإن عاقبه

ص: 381

عقوبة شرعية كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .

الثاني: أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سباب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن أنه تجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول "إنه نبي" يوجب أن يعامل معاملة المتنبيين وذلك يوجب أبلغ العداوات له.

الثالث: لو فرض أن سب غير النبي صلى الله عليه وسلم عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه أن شاء الله تعالى عليه.

الرابع: أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله أخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم وذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول.

ص: 382

الخامس: أن الجزاء في الآية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وإن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بإفساد عام لدين الناس أو دنياهم وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي ويجب عليهم الإيمان بنبوة النبي.

السادس: أن ساب الولي لو فرض أنه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر.

السابع: أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق مثل أن يضربه ونحو ذلك فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد واللسان بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم.

وإذا ثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان: فساد الدنيا من الدماء والأموال والفروج وفساد الدين والذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى إنما قال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} قيل أنه نصب على المفعول له أي ويسعون في الأرض للفساد وكما قال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

ص: 383

وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا وإن خاب سعيه وقيل: إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أو كما يقال: جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وإن لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ولم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد.

وأيضا فإنه لا ريب أن الطعن في الدين وتقبيح حال الرسول في أعين الناس وتنفيرهم عنه من أعظم الفساد كما أن الدعاء إلى تعزيره وتوقيره من أعظم الصلاح والفساد ضد الصلاح فكما أن كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح فكل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} يعني الكفر والمعصية بعد الإيمان والطاعة ولكن الفساد نوعان: لازم وهو مصدر فسد يفسد فسادا ومتعد وهو اسم مصدر أفسد يفسد إفسادا كما قال تعالى: {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا هو المراد هنا لأنه قال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} وهذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا وإنما يقال في الأرض لما انفصل عن الإنسان كما قال سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَاب}

ص: 384

وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم} وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ} .

وأيضا فإن الساب ونحوه انتهك حرمة الرسول ونقص قدره وآذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وأجرأ النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام وطلب إذلال النفوس المؤمنة وإزالة عز الدين وإسفال كلمة الله وهذا من أبلغ السعي فسادا.

ويؤيد ذلك أن عامة ما ذكر في القرآن من السعي في الأرض فسادا والإفساد في الأرض فإنه قد عنى به إفساد الدين فثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية.

الوجه الخامس: أن المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد كما تقدم تقريره في المسألة الأولى ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته فإنها إنما تمكن باللسان وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله ورسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق.

الوجه السادس: أن المحاربة خلاف المسألة والمسألة: أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب

ص: 385

ومعلوم أن محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله ورسوله إذ المحاربة لذات الله ورسوله محال فمن سب الله ورسوله لم يسالم الله ورسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم مغالبة لله ورسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله وقد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية.

وقد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله ورسوله مشاق لله تعالى ورسوله وكل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله لأن المحاربة والمشاقة سواء فإن الحرب هو الشق ومنه سمي المحارب محاربا وأما كونه مفسدا في الأرض فظاهر.

واعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دلل على أنه محاربة لله ورسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد وقد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع فبقى أنه سعى في الأرض فسادا وهذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه ورسله وكل سبب بينه وبين خلقه لا يكون شيء أشد منه فسادا وعامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وإنما كان إفسادهم نفاقهم وكفرهم وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}

ص: 386

وقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وإذا كان هذا محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية وشملته.

ومما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان: منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهد ونحوها ومنهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه وفي غيره ولا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة وغيره: قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "هذا لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى" لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد والناقض للعهد فمحاربته تارة باليد وباللسان أخرى ومن زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة مع ما ذكرناه هنا تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة ونقض للعهد.

واعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين والدلالة منها ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها.

فإن قيل: مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وإنما يكون هذا فيمن يكون ممتنعا والشاتم ليس ممتنعا.

قيل: الجواب من وجوه:

أحدها: أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجواز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم

ص: 387

الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا والممتنع إذا تاب بعد القدرة.

الثاني: أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه.

سئل عطاء عن الرجل يجيء بالسرقة تائبا قال: ليس عليه قطع وقرأ: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وكل من لم يؤخذ فهو ممتنع لا سيما إذا لم يؤخذ ولم تقم عليه حجة وذلك لأن الرجل وإن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء والهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إذا كان لا يواريه في الصحراء خمر ولا غابة بخلاف المقيم في المصر وقد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه فكل من تاب قبل أن يؤخذ ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه.

وأيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به ويثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة وهو في أيدينا قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا.

الثالث: أن المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا وقد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين وكما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل وإن الغالب أن القاطع بسيفه إنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الساب ونحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه.

ص: 388

ومما يقرر الدلالة الاستدلال بالآية من وجهين آخرين:

أحدهما: أنها قد نزلت في قوم ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس فيما علمناه وإن كانت نزلت أيضا فيمن حارب وهو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها ونحو ذلك يصير به محاربا وعلى هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه وإن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى ولا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك وكذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال ولو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة وكان قد قتله وله عهد كما لو قتله وهو مسلم.

وأيضا فقطع الطرق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق وغيره من الأمور التي تضر المسلمين وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده وهو القتل إذا تاب بعد القدرة وإن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق وقد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم.

الثاني: أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ولا الشفاعة فيها بخلاف ما قبل الرفع ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس وتوبة من حضره الموت فقال: إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقطت الحد

ص: 389

لتعطلت الحدود وانبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع بالاعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها وهي بعينها موجودة في الساب فيجب أن لا يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه وكذلك توبة كل كافر قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} في موضعين والحد قد وجب بالرفع وهذه توبة إكراه أو اضطرار وفي قبولها تعطيل للحد ولا ينتقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية ولأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق ويستعبد وهو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام والساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق والمرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية ولا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام وإنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله وزال المحذور الذي يمكننا إزالته وإنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام ولم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا والساب ونحوه من المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى والضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده.

وأما الأذى والضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه ولم يقتل ليفعلها بل قوتل

ص: 390

أو لا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها فبذل الجزية كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه وأسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه.

الطريق الثانية: قوله سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} الآيات.

وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والأصمعي وغيرهم عن أبي عمر (لا إيمان لهم) بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة.

وهذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان ولا يمين ثانية.

أما على قراءة الأكثرين فإن قوله {لا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا وفاء بالأيمان ومعلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عهد ثان أبدا.

وأما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان ولم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى: (لا إيمان لهم) وأدل على علة الحكم ولكن يشبه والله أعلم أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى: {لا إيمان} نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء وأنه يجب قتله وإن أظهر الإيمان.

ص: 391

يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب ولا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم.

والمعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون وأنهم لو أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" لأن الشيخ قد عسا في الكفر وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص: "ستلقون أقواما محوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله تعالى قال: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} والله أصدق القائلين" فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه ولم يطعن في الدين أو طعن ولم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان.

يبين ذلك أنه قال: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} أي عن النقض والطعن كما سنقرره وإنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون.

ومما يوضح ذلك أن هذه الآية قد قيل: إنها نزلت في اليهود الذين كانوا قد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود

ص: 392

والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداء من المشركين وهموا بمعاونة الكفار والمنافقين على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر ونكث العهد فأمر بقتالهم.

ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثل مسألتنا سواء.

وقد قيل: إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة وقالت طائفة من العلماء: وبراءة إنما نزلت بعد تبوك وبعد فتح مكة ولم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء ولم يبق قتله من الكفر إذا أظهروا النفاق.

ويؤيد هذا قراءة مجاهد والضحاك: {نكثوا إيمانهم} بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام وطعن في الدين فإنه يقاتل وإنه لا إيمان له قال من نصر هذا لأنه قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ثم قال: {وَإِنْ نَكَثُوا إيمانهم} فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} وقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} الآية وقد تقدم أن الأيمان من العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان ومن نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل وأنه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول ونحوه من المسلمين وأهل الذمة لا إيمان له ولا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك.

ص: 393

فإن قيل: قد قيل قوله تعالى: {لا إيمان لهم} أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أومنه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .

قيل: إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد وإنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر والمستقبل وحينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال.

فإن قيل: إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل وقد قال بعدها: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فعلم أن التوبة منه مقبولة قيل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة وأخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصر المؤمنين عليهم ثم بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا ممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود ولذلك قال: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وإنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم.

يوضح ذلك أنه قال: {وَيَتُوبُ اللَّه} بالضم وهذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر وذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم ولا هي حاصلة بقتالهم وإنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث والطعن والمضمون بقتالهم تعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وفي ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل ويقاتل لأجلها.

يؤيد هذا أنه قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله:

ص: 394

{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ثم قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد والطعن في الدين وجعل للمعاهد ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين.

الحالة الثانية: أن يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وإنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه: {وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

وذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخلية سبيله إذ حاجته إنما هي إلى ذلك وجاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} والمعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلى التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة ولا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا والمؤمنون إخوة فيكون أخا.

الحالة الثالثة: أن ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتاله وبين أنه ليس له أيمان ولا إيمان والمقصود من قتاله أن ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر ولم يكن قتاله جائزا فعلم

ص: 395

أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وإنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتفائها في الحال الأخرى.

وذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام وللزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون ولا يخزون ولا تشفى الصدور منهم وهو خلاف ما أمر به في الآية وصار هؤلاء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن ارتد وسفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله وإن عاد إلى الإسلام وإن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل والله سبحانه أعلم.

الطريقة الثالثة: قوله سبحانه: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا

ص: 396

إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ} وقد تقدم تقرير الدلالة من هذه الآيات في قتل المنافق وذكرنا الفرق بين توبة الحربي والمرتد المجرد وتوبة المنافق والمفسد من المعاهدين ونحوهما وفرقنا بين التوبة التي تدرأ العذاب والتوبة التي تنفع في المآب.

الطريقة الرابعة: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} الآيات وقد قررنا فيما مضى أن هذه الآية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا وهي تدل على قتل من أظهر الأذى من أهل الذمة لأن اللعنة المذكورة موجبة للقتل كما في تمام الكلام وقد تقدم تقرير هذا.

وقد ذكرنا أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} نزلت في ابن الأشرف لما طعن في دين الإسلام وقد كان عاهد النبي صلى الله عليه وسلم فانتقض عهده بذلك وأخبر الله أنه ليس له نصير ليبين أن لا ذمة له إذ الذمي له نصر والنفاق له قسمان: نفاق المسلم استبطان الكفر ونفاق الذمي استبطان المحاربة وتكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على أن لا يؤذي الله ورسوله ثم نافق بأذى الله ورسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين أغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه {إِلَاّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} ففي الآية دلالتان.

إحداهما: أن هذا ملعون والملعون هو الذي يؤخذ أين وجد ويقتل فعلم أن قتله حتم لأنه لم يستثن حالا من الأحوال كما استثنى في سائر الصور ولأنه قال (قتلوا) وهذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره والله لا يخلف

ص: 397

الميعاد فعلم أنه لا بد من تقتيلهم إذا أخذوا ولو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام ولم يتحقق الوعد مطلقا.

الثانية: أنه يجعل انتهاءهم النافع قبل الأخذ والتقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم أنهم إن انتهوا عن إظهار النفاق من الأذى ونحوه النفاق في العهد والنفاق في الدين وإلا أغراه الله بهم حتى لا يجاورونه في البلد ملعونين يؤخذون ويقتلون وهذا الطاعن الساب لم ينته حتى أخذ فيجب قتله.

وفيها دلالة ثالثة وهو أن الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهد إذا أخذ أقيم عليه حد ذلك الأذى ولم تدرأه عنه التوبة الآن فالذي يؤذي الله ورسوله بطريق الأولى لأن الآية تدل على أن حاله أقبح في الدنيا والآخرة.

الطريقة الخامسة: أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل حدا من الحدود لا لمجرد الكفر وكل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام.

وهذا الدليل مبني على مقدمتين:

إحداهما: أنه يقتل لخصوص سب رسول الله صلى الله عليه وسلم المستلزم للردة ونقض العهد وإن كان ذلك متضمنا للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة ومجرد نقض العهد في بعض المواضع والدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه صلى الله عليه وسلم عند الأعمى الذي كان يأوي إليها ولا يجوز أن يكون قتلها لمجرد نقض العهد لأن المرأة الذمية إذا انتقض عهدها فإنها تسترق ولا يجوز قتلها ولا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تقاتل وهذه المرأة لم تكن تقاتل ولم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم إنها لو

ص: 398

كانت تقاتل ثم أسرت صارت رقيقة ولم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي رضي الله عنه لاسيما إن كانت رقيقة فإن قتلها يمتنع لكونها امرأة ولكونها رقيقة لمسلم فثبت أن قتلها كان لخصوص السب للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المرأة الذمية أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلما أو كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرتدة بل هذا أبلغ لأنه ليس في قتل المرتدة من السنة المأثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية.

يوضح ذلك أن بني قريظة نقضوا العهد ونزلوا على حكم سعد ابن معاذ فحكم فيهم بأن تقتل مقاتليهم وتسبى الذرية من النساء والصبيان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" ثم قتل النبي صلى الله عليه وسلم الرجال واسترق النساء والذرية ولم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق صلى الله عليه وسلم بين الذرية التي لم يثبت في حقهم إلا مجرد انتقاض العهد وبين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين وهذه المرأة الذمية لم ينتقض عهدها بأنها لحقت بدار الحرب وامتنعت عن المسلمين وإنما نقضت العهد بأن ضرت المسلمين وآذت الله ورسوله وسعت في الأرض فسادا بالصد عن سبيل الله والطعن في دين الله كما فعلت المرأة الملقية للرحى فعلم أنها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد وهي لم تكن مسلمة حتى يقال: إنها قتلت للردة ولا هي أيضا بمنزلة امرأة قاتلت ثم أسرت حتى يقال: تصير رقيقة بنفس السبي لا تقتل أو يقال: يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل إذا أسلمت عصم الإسلام الدم وبقيت رقيقة لوجهين:

ص: 399

أحدهما: أن هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن تقوله للمشركين ولا لعموم المسلمين حتى يقال: هو بمنزلة إعانة الكفار على القتال من كل وجه.

الثاني: أنها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها وحالها قبله وبعده سواء.

فالسب وإن كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعة أسرت بعد ذلك بل من امرأة ملتزمة للحكم بيننا وبينها العهد على الذمة ومعلوم أن السب من الأمور المضرة بالمسلمين وأنه من أبلغ الفساد في الأرض لما فيه من ذل الإيمان وعز الكفر وإذا ثبت أنها لم تقتل للكفر ولا لنقض العهد ولا لحراب أصلي متقدم على القدرة عليها ثبت أن قتلها حد من الحدود والقتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني والقاطع والقاتل وغيرهم من المفسدين.

ومما يقرر الأمر أن السب إما أن يكون حرابا أو جناية مفسدة ليست حرابا فإن كان حرابا فهو حراب من ذمي أو مسلم وسعي في الأرض فسادا والذمي إذا حارب وسعى في الأرض فسادا وجب قتله وإن أسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل وحراب هذه المرأة موجب للقتل كما جاءت به السنة وإن كانت جناية مفسدة ليست حرابا وهي موجبة للقتل قتلت أيضا بعد الأخذ بطريق الأولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل وهذا كلام مقرر ومداره على حرف واحد وهو أن السب وإن كان من أعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد والمحاربة بعمل الجوارح وأشد ولذلك قتلت هذه المرأة.

وتمام ذلك أن قياس مذهب من يقول: "إن الساب إذا قتل إنما يقتل لأنه نقض العهد" أن لا يجوز قتل هذه بل لو كانت قد قتلت باليد واللسان

ص: 400

ثم أخذت لم تقتل عنده فإذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الآخر إذ لا ثالث بينهما ولا ريب عند أحد أن من قتل لحدث أخذ به أوجب نقض عهده ولم يقتل لمجرد أن انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لأن فساد ذلك الحدث لا يزول بالإسلام.

ألا ترى أن الجنايات الناقضة للعهد مثل قطع الطريق وقتل المسلم والتجسس للكفار والزنى بمسلمة واستكراهها على الفجور ونحو ذلك إذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال: "متى أسلم لم آخذه إلا بما يوجب القتل إذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل أن يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله أو زنى فأحده أو قتل مسلما فأقيده لأنه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا" ومن قال: "أقتله لمحاربة الله ورسوله وسعيه في الأرض فسادا" قال: أقتله وإن أسلم وتاب بعد أخذه كما أقتل المسلم إذا حارب ثم تاب بعد القدرة لأن الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لآدمي بحال وإن منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا أو قذفه ثم أسلم فإن حده لا يسقط ولو قتله أو قذفه ابتداء لم يجب عليه قود ولا حد ولا يسقط ما كان منها لله إذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فإنه لا يسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما أعلم وكذلك لو زنى ثم أسلم فإن حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند أحمد وعند الشافعي حده حد المسلم فحد السب إن كان حقا لآدمي لم يسقط بالإسلام وإن كان حقا لله فليس حدا على الكفر الطارئ والمحاربة الأصلية كما دلت عليه السنة ولا على مجرد الكفر الأصلي بالاتفاق فيكون حدا لله على محاربة موجبة كقتل المرأة وكل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فإن الذمية إذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول: "قتل

ص: 401

الذمي المحارب إنما هو لنقض العهد" ومن قتلها كما دلت علية السنة فلا فرق في هذا الباب بين أن تسلم بعد القدرة أو لا تسلم.

واعلم أن من قال: "إن هذه الذمية تقتل فإذا أسلمت سقط عنها القتل لم يجد هذا في الأصول نظيرا أن ذمية تقتل وهي في أيدينا ويسقط عنها القتل بالإسلام بعد الأخذ ولا أصلا يدل على المسألة والحكم إذا لم يثبت بأصل ولا نظير كان تحكما ومن قال "إنها تقتل بكل حال" فله نظير يقيس به وهو المحاربة باليد والزانية ونحوهما.

الطريقة السادسة: الاستدلال من قتل بنت مروان وهو كالاستدلال من هذه القصة لأنا قد قدمنا أنها كانت من المهادنين الموادعين وإنما قتلت للسب خاصة والتقرير كما تقدم.

الطريقة السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" وقد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه قد أمنهم على دمه وماله باعتقاده بقاء العهد ولأنهم جاءوه مجيء من قد آمنه ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا أمنهم كما تقدم لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمانا وكذلك كل من يجوز أمانه فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة والسلام وأذاه لله تعالى ورسوله لا ينعقد معه أمان ولا عهد وذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل وإن أومن كما يقتل الزاني والمرتد وإن أومن وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا.

الطريقة الثامنة: أنه قد دل هذا الحديث على أن أذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة أخرى غير مجرد الكفر والردة

ص: 402

فإن ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على أنه علة والأذى لله ورسوله يوجب القتل ويوجب نقض العهد ويوجب الردة.

يوضح ذلك أن أذى الله ورسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير فلما علل قتله بالوصف الأخص علم أنه مؤثر في الأمر بقتله لا سيما في كلام من أوتي جوامع الكلم وإذا كان المؤثر في قتله أذى الله ورسوله وجب قتله وإن تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي عليه الصلاة والسلام من المسلمين فإن كلاهما أوجب قتله أنه آذى الله ورسوله وهو مقر للمسلمين بأن لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما ولأنه قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} وقال في خصوص هذا المؤذي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} وقد أسلفنا أن هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ ولأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ولا خلاف علمناه أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله ورسوله أحق وأولى لأن القرآن قد بين أن هؤلاء أسوأ حالا في الدنيا والآخرة فلو أسقطنا عنهم العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حالا.

وليس للمنازع هنا إلا كلمة واحدة وهو أن يقول: هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لأنه نوع من المرتدين وناقض العهد والكافر تقبل توبته من الكفر وتسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق.

ص: 403

فيقال له: هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر وقد دلت السنة على أن الموجب لقتله إنما هو أذى الله ورسوله وهذا أخص من عموم الكفر وكما أن الزنا والسرقة والشرب وقطع الطريق أخص من عموم المعصية والشارع رتب الأمر بالقتل على هذا الوصف الأخص الذي نسبته إلى سائر أنواع الكفر نسبة أذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي فإلحاق هذا النوع بسائر الأنواع جمع بين ما فرق الله بينه ورسوله وهو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا وإنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء والصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها وتغلظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها انتهاء بل يوجب تغلظها مطلقا إذا كان الجرم عظيما وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء ولا انتهاء مثل هذا فإنه يجوز إقرارهم بجزية واسترقاقهم في الجملة ويجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب وهذا بخلاف ذلك.

وأيضا فإن الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله ورسوله كان محاربا لله ورسوله وساعيا في الأرض فسادا وقد أومأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك في حديث ابن الأشرف كما تقدم وهذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة ما لم يرتب على غيره من أنواع الكفر وتحتمت عقوبة صاحبه إلا أن يتوب قبل القدرة.

الطريقة التاسعة: أنا قد قدمنا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أهدر عام الفتح دماء نسوة لأجل أنهن كن يؤذينه بألسنتهن منهن القينتان لابن خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه ومولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه وبينا بيانا واضحا أنهن لم يقتلن لأجل حراب ولا قتال وإنما قتلن لمجرد السب وبينا أن سبهن لم يجر مجرى قتالهن بل كان أغلظ لأن النبي عليه الصلاة والسلام آمن عام الفتح المقاتلة كلهم إلا من له جرم خاص يوجب

ص: 404

قتله ولأن سبهن كان متقدما على الفتح ولا يجوز قتل المرأة في بعض الغزوات لأجل قتال متقدم قد كفت عنه وأمسكت في هذه الغزوة وبينا بيانا واضحا أن قتل هؤلاء النسوة أدل شيء على قتل المرأة السابة من مسلمة ومعاهدة وهو دليل قوي على جواز قتل السابة وإن تابت من وجوه:

أحدها: أن هذه المرأة الكافرة لم تقتل لأجل أنها مرتدة ولا لأجل أنها مقاتلة كما تقدم فلم يبق ما يوجب قتلها إلا أنها مفسدة في الأرض محاربة لله ورسوله وهذه يجوز قتلها بعد التوبة إذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب والسنة والإجماع.

الثاني: أن سب أولئك النسوة إما أن يكون حرابا أو جناية موجبة للقتل غير الحراب إذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فإن كان حرابا فالذمي إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا يجب قتله بكل حال كما دل عليه القرآن وإن كان جناية أخرى مبيحة للدم فهو أولى وأحرى وقد قدمنا فيما مضى ما يبين أن هؤلاء النسوة لم يقتلن لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح وإنما قتلن جزاء على الجرم الماضي نكالا عن مثله وهذا يبين أن قتلهن بمنزلة قتل أصحاب الحدود من المسلمين والمعاهدين.

الثالث: أن اثنتين منهن قتلتا والثالثة أخفيت حتى استؤمن لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فآمنها لأنه كان له أن يعفوا عمن سبه كما تقدم وله أن يقتله ولم يعصم دم أحد ممن أهدر دمه عام الفتح إلا أمانه فعلم أن مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المرأة وإنما عصم دمها عفوه.

وبالجملة فقصة قتله لأولئك النسوة من أقوى ما يدل على جواز قتل السابة بكل حال فإن المرأة الحربية لا يبيح قتلها إلا قتالها وإذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة أخرى واستسلمت وانقادت لم يجز قتلها في هذه المرة الثانية ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن.

ص: 405

وللحديث وجهان:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان عاهد أهل مكة والظاهر أن عهده انتظم الكف عن الأذى باللسان فإن في كثير من الحديث ما يدل على ذلك وحينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي عليه الصلاة والسلام قتلهن بذلك وإن تبن وهذه ترجمة المسألة.

الثاني: أنه كان له أن يقتل من هجاه إذا لم يتب حتى قدر عليه وإن كان حربيا لكن سقط هذا بموته كما يسقط بموته العفو عن المسلم والذمي الساب ويكون قد كان أمر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه أعلم بالمصلحة فإذا مات تحتم قتل من التزم أن لا يسب وكان الحربي الساب كغيره من الحربيين إذا تاب.

وهذا الوجه ضعيف فإنه إثبات حكم باحتمال والأول جار على القياس ومن تأمل قصة الذين أهدرت دمائهم عام الفتح علم أنهم كلهم كانوا محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا.

الطريقة العاشرة: أنه صلى الله عليه وسلم أمر في حال واحدة بقتل جماعة ممن كان يؤذيه بالسب والهجاء مع عفوه عمن كان أشد منهم في الكفر والمحاربة بالنفس والمال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء وكذلك النضر بن الحارث لما كانا يؤذيانه ويفتريان عليه ويطعنان فيه مع استبقائه عامة الأسرى.

وقد تقدم أنه قال: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم" ومعلوم أن مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على

ص: 406

النبي صلى الله عليه وسلم سبب آخر أخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل وأهدر عام الفتح دم الحويرث بن نقيد ودم أبي سفيان بن الحارث ودم ابن الزبعرى وأهدر بعد ذلك دم كعب ابن زهير وغيرهم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أهدر دم من ارتد وحارب ودم من ارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم ودم من ارتد وحارب وآذى الله ورسوله مع أمانه لجميع الذين حاربوا ونقضوا عهده فعلم أن أذاه سبب منفرد بإباحة القتل وراء الكفر والحراب بالأنفس والأموال كقطع الطريق وقتل النفس.

وقد تقدم ما كان يأمر به ويقر عليه إذا بلغه وما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى إنه لا يحقن دم الساب إلا عفوه بعد ذلك فعلم أنه كان يلحق الساب بذوي الأفعال الموجبة للقتل من قطع طريق ونحوه وهذا ظاهر لمن تأمله فيما مضى من الأحاديث وما لم نذكره ومثل هذا يوجب قتل فاعله من مسلم ومعاهد وإن تاب بعد القدرة وإذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله وعلم أن الأذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد آمن الذين قاتلوه بالأنفس والأموال من الرجال.

فأمان المرأة التي أتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس القتال ولأن المرأة إذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة وعلموا أنها لم تقاتل فيها بيد ولا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه وهؤلاء النسوة كان أذاهن متقدما على فتح مكة ولم يكن لهن في غزو الفتح معرة

ص: 407

بيد ولا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن أن إظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره فهل يعتقد أحد أن مثل هذه المرأة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فإن منصوصه أن قتل المرأة والصبي إذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما وإن أفضى إلى قتلهما فإذا انكفا بدون القتل كأسر أو ترك للقتال ونحو ذلك لم يجز قتلهما كما لا يجوز قتل الصائل.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل من كان يؤذيه ويهجوه من النساء وقد تركن ذلك واستسلمن وربما كن يوددن أن يظهرن الإسلام إن كان عاصما وقد آمن المقاتلين كلهم علم أن السب سبب مستقل موجب يحل دم كل أحد وأن تركه ذلة وعجز.

يؤيد ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام آمن أهل مكة إلا من قاتل إلا هؤلاء النفر فإنه أمر بقتلهم قاتلوا أو لم يقاتلوا فعلم أن هؤلاء النسوة قتلن لأجل السب لا لأجل أنهن يقاتلن.

الطريقة الحادية عشرة: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ونذر رجل من المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان أياما حتى اطمأن أهل مكة ثم جاء تائبا ليبايع النبي عليه الصلاة والسلام ويؤمنه فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره.

ففي هذا دلالة على أن المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم الطاعن عليه قد كان له أن يقتله وأن دمه مباح وإن جاء تائبا من كفره وفريته لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ولا قال للرجل: هلا وفيت بنذرك بقتله.

ص: 408

ولا خلاف بين المسلمين علمناه أن الكافر إذا جاء تائبا مريدا للإسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك ولا فرق في ذلك بين الأصلي والمرتد إلا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع أن هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام ويقرأ عليه القرآن لوجب أمانه لذلك.

قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} .

وقال تعالى في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} .

وعبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بل جاء بعد أن أسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه كان مريدا لقتله وقال للقوم: "هلا قام بعضكم إليه ليقتله" و"هلا وفيت بنذرك في قتله" فعلم أنه قد كان جائزا له أن يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار وإن جاء مظهر للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه يجوز له قتل فاعله وإن أظهر الإسلام والتوبة.

ومما يشبه هذا إعراضه عن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي أمية وقد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام أو قد أسلما وعلل ذلك بأنهما كانا يؤذيانه ويقعان في عرضه مع أنه لا خلاف علمناه أن الحربي إذا جاء يريد الإسلام وجبت المسارعة إلى قبوله منه وكان الاستئناء به حراما وقد عده بعض الناس كفرا.

ص: 409

وقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في المسارعة إلى قبول الإسلام من كل من أظهره وتأليف الناس عليه بالأموال وغيرها أشهر من أن يوصف فلما أبطأ عن هذين وأراد أن لا يلتفت إليهما البتة علم أنه كان له أن يعاقب من كان يؤذيه ويسبه وإن أسلم وهاجر وأن لا يقبل منه من الإسلام والتوبة ما يقبل من الكافر الذي لم يكن يؤذيه وفي هذا دلالة على أن السب وحده موجب للعقوبة.

يوضح ذلك ما ذكره أهل المغازي أن علي بن أبي طالب قال لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .

ففي هذا دلالة على أن ما ناله من عرضه كان له أن يعاقب عليه وأن يعفو كما كان ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يعاقب إخوته على ما فعلوا به من الإلقاء في الجب وبيعه للسيارة ولكن لكرمه عفا صلى الله عليه وسلم ولو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شيء من هذا.

وقد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب وبينا أنه نص في جواز قتل المرتد الساب بعد إسلامه فكذلك قتل الساب المعاهد لأن المأخذ واحد.

ومما يوضحه أن المسلمين قد كان استقر عندهم أن الكافر الحربي إذا أظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الأولين مثل عثمان ابن عفان

ص: 410

ونحوه وقد علموا قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} وقصة أسامة بن زيد وحديث المقداد فلما كان أولئك الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم: منهم من قتل ومنهم من أخفي حتى اطمأن أهل مكة وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبايعه دل على أن عثمان رضي الله عنه وغيره من المسلمين علموا أن إظهار عبد الله ابن سعد بن أبي سرح ونحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون أن يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فقد كان يمكنهم أن يأمروهم بإظهار الإسلام والخروج من أول يوم.

والظاهر والله أعلم أنهم قد كانوا أسلموا وإنما تأخرت بيعتهم للنبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام حتى يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك دليل على أنه قد كان للنبي عليه الصلاة والسلام قتلهم لأجل سبه مع إظهار التوبة.

وقد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران.

وهذا الذي ذكروه نص في المسألة وهو أشبه بالحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ وابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد أسلم حينئذ ولما بلغه أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمه تغيب حتى استؤمن له والحديث لمن تأمله دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وأن يؤمنه وأن الإسلام وحده

ص: 411

لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن ذلك أن عثمان جاء ليشفع له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا وأعرض عنه مرة بعد مرة وعثمان يأتيه من كل وجهة وهو معرض عنه رجاء أن يقوم بعضهم فيقتله وعثمان في ذلك يكب على النبي صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويطلب منه أن يبايعه ويذكر أن لأمه عليه حقوقا حتى استحيا النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع أنه كان يود أن لا يفعل فعلم أن قتله كان حقا له أن يعفو عنه ويقبل فيه شفاعة شافع وله أن لا يفعل ولو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شافع ولم يجز رد الشفاعة.

ومنها: أن عثمان لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يقر منك قال: "ألم أبايعه وأومنه" قال: بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه فقال: "الإسلام يجب ما قبله" وفي هذا بيان لأن خوفه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله إنما زال بأمانه وبيعته لا لمجرد الإسلام فعلم أن الإسلام يمحو إثم السب وأما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أزال خوفه من القتل بالأمان وأزال خوفه من الذنب بالإسلام.

ومما يدل على أن الأنبياء لهم أن يعاقبوا من آذاهم بالهلاك وإن أظهر التوبة والندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن قارون كان يؤذي موسى وكان ابن عمه فبلغ من أذاه إياه أن قال لامرأة بغي: إذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي وقولي: إن موسى راودني عن نفسي فلما كان الغد واجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس: إن قارون قال لي كذا وكذا وإن موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ ذلك

ص: 412

موسى عليه الصلاة والسلام وهو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال: أي رب إن قارون قد آذاني وفعل وفعل وبلغ من أذاه إياي أن قال ما قال فأوحى الله إلى موسى: أن يا موسى إني قد أمرت الأرض أن تطيعك وكان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فأتاه موسى ومعه جلساؤه فقال لقارون: قد بلغ من أذاك أن قلت كذا وكذا يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى كعبهم فهتفوا: يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أنصاف سوقهم فهتفوا وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فلم يزل يقول: يا أرض خذيهم حتى تطابقت عليهم وهم يهتفون فأوحى الله إليه يا موسى ما أفظك أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخلصتهم".

ورواه عبد الرزاق قال: حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا علي بن زيد ابن جدعان فذكره أبسط من هذا وفيه: "أن المرأة قالت: إن قارون بعث إلي فقال: هل لك إلى أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي تقولين: يا قارون ألا تنهى موسى عن أذاي.

وإني لم أجد اليوم توبة أفضل من أن أكذب عدو الله وأبرئ رسول الله قال: فنكس قارون رأسه وعرف أنه قد هلك وفشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى عليه الصلاة والسلام وكان موسى صلى الله عليه وسلم شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضأ فسجد وبكى وقال: يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر أشياء ثم لم يتناه حتى أراد فضيحتي يا رب فسلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك

ص: 413

قال: فجاء موسى يمشي إلى قارون فلما رآه قارون عرف الغضب في وجهه فقال: يا موسى ارحمني فقال موسى: يا أرض خذيهم فاضطربت داره وخسف به وبأصحابه إلى ركبهم وساخت داره على قدر ذلك وجعل يقول: يا موسى ارحمني ويقول موسى: يا أرض خذيهم" وذكر القصة.

فهذه القصة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه قول القائل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله "دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".

فهذا مع ما ذكرناه من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لهم أن يعاقبوا من آذاهم وإن تاب ولهم أن يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم أن يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل والإهلاك وليس لغيرهم أن يعاقبه بمثل ذلك.

وذلك دليل على أن عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فإن عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب وقارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة ولهذا في الحديث: "أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخلصتهم" وفي لفظ "لرحمتهم" وإنما كان يرحمهم سبحانه والله أعلم بأن يستطيب نفس موسى من أذاهم له كما يستوهب المظالم لمن رحمه من عباده ممن هي له ويعوضه منها.

الطريقة الثانية عشرة: ما تقدم من حديث أنس بن زنيم الديلي الذي ذكر عنه أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءه وأنشده قصيدة تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهدا فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم فيه وجعل يسأل العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمه ولا احتاج إلى العفو

ص: 414

عنه ولولا أن للرسول صلى الله عليه وسلم حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن أسلم ولا تبعه عليه وحديثه لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدين ثم أسلم كما أن حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم أسلم وذلك أنه لما بلغه أنه هجاه وقد كان مهادنا موادعا وكان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن إظهار أذاه وكان على ما قيل عنه قد هجاه قبل أن يقتل بنو بكر خزاعة وقبل أن ينقضوا العهد فلذلك نذر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ثم أنشد قصيدة تتضمن أنه مسلم يقول فيها "تعلم رسول الله" و"هبني رسول الله" وينكر فيها أن يكون هجاه ويدعو على نفسه بذهاب اليد إن كان هجاه وينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته واعتذاره قبل أن يجئ إليه وشفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية وكان نوفل هذا هو الذي نقض العهد وقال: يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بك عن الهلك وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك فقال: "دع الركب عنك فإنا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب ولا بعيد كان أبر من خزاعة" فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عنه" قال نوفل: فداك أبي وأمي.

فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج إليه من أسلم ولا حد عليه ولكان قال: الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقول له من يقول: ألا نقتل هذا بعد إسلامه؟ فيقول: "الإسلام يجب ما قبله" وصاحب الشريعة بين أن ما أسقط قتله عفوه وذلك أن قوله: "عفوت عنه" إما أن يكون أفاده سقوط ما كان أهدره من دمه

ص: 415

أو لم يفده ذلك فإن لم يفده فلا معنى لقوله: "عفوت عنه" وإن كان قد أفاده سقوط ذلك الإهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد أن أسلم وقبل أن عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم لكان جائزا لأنه متبع لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله أمرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما أن أمره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى أن عفا عنه وكذلك عتبهم إذ لم يقتلوه قبل عفوه وهذا بين في هذه الأحاديث بيانا واضحا ولو كان عند المسلمين أن من هجاه من معاهد ثم أسلم عصم دمه لكان نوفل وغيره من المسلمين علموا ذلك وقالوا له كما قالوا لكعب بن زهير ونحوه ممن هجاه وهو حربي: إنه لا يقتل من جاءه مسلما ألا ترى أنهم لم يظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير وابن الزبعرى فإنهما جاءا بأنفسهما لثقتهما بأنه لا يمكن قتل الحربي إذا جاء مسلما وإمكان أن يقتل الذمي الساب والمرتد الساب وإن جاءا مسلمين وإن كانا قد أسلما ثم إنه في قصيدته قال:

فإني لا عرضا خرقت ولا دما

هرقت ففكر عالم الحق واقصد

فجمع بين خرق العرض وسفك الدم فعلم أنه مما يؤخذ به وإن أسلم ولولا أن قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الإنكار والاعتذار.

ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينذر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد إلا هذا مع أنهم فعلوا تلك الأفاعيل فعلم أن خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة والمحاربة باليد وقد تقدم الحديث بدلالته وإنما نبهنا عليه هنا إحالة على ما مضى.

الطريقة الثالثة عشرة: أنه قد تقدم أنه كان له عليه الصلاة والسلام أن يقتل من أغلظ له وآذاه وكان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له إنما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة وإذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين

ص: 416

المسلم والذمي فإنه قد أهدر دم من آذاه من أهل الذمة وقد تقدم أن ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم أنه كان لأذاه وإذا كان له أن يقتل من أذاه وسبه من مسلم ومعاهد وله أن يعفو عنه علم أنه بمنزلة القصاص وحد القذف وتعزير السب لغير الأنبياء من البشر وإذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم ولا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه الحدود بالتوبة وهذه طريقة قوية وذلك أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد أباح الله له أن يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر إلا أن حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد وإذا كان المغلب حقه وكان الأمر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة ويقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به أيضا على الدرجات فإنه صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة وهو الضحوك القتال والذمي قد عاهده على أن لا يخرق عرضه وهو لو أصاب لواحد من المسلمين أو المعاهدين حقا من دم أو مال أو عرض ثم أسلم لم يسقط عنه فأولى أن لا يسقط عنه هذا.

وإذ قد قدمنا أن قتله لم يكن لمجرد نقض العهد وإنما كان لخصوص السب وإذا كان يجوز له أن يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما وله أن يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو عنه وتمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفى؟ إذا القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي إلى أن يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا واستبقائه وهو قول لم نعلم له قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة وأصولها وقد تقدم فيما مضى الفرق بين حال حياته وحال مماته.

الطريقة الرابعة عشرة: أنه قد تقدم الحديث المرفوع إن كان ثابتا: "من

ص: 417

سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد" فأمر بالقتل مطلقا كما أمر بالجلد مطلقا فعلم أن السب للنبي عليه الصلاة والسلام موجب بنفسه للقتل كما أن سب غيره موجب للجلد وأن ذلك عقوبة شرعية على السب وكما لا يسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل.

الطريقة الخامسة عشرة: أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعالهم.

فمن ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي ربيعة في المرأة التي غنت بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر" فأخبره أبو بكر أنه لولا الفوت لأمره بقتلها من غير استتابة ولا استيناء حال توبة مع أن غالب من تقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة أو الإسلام إذا علم أنه يدرأ عنه القتل ولم يستفصله الصديق عن السابة: هل هي مسلمة أو ذمية؟ بل ذكر أن القتل حد من سب الأنبياء وأن حدهم ليس كحد غيرهم مع أنه فصل في المرأة التي غنت بهجاء المسلمين بين أن تكون مسلمة أو ذمية.

وهذا ظاهر في أن عقوبة الساب حد للنبي واجبة عليه له أن يعفو عنها في بعض الأحوال وأن يستوفيها في بعض الأحوال كما أن عقوبة ساب غيره حد له واجبة على الساب.

وقوله: "فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد" ليس فيه دلالة على قبول توبته لأن الردة جنس تحتها أنواع: منها ما تقبل فيه التوبة ومنها ما لا تقبل كما تقدم التنبيه على هذا ولعله أن تكون لنا إليه عودة وإنما غرضه أن يبين الأصل الذي يبيح دم هذا وكذلك قوله: "فهو محارب غادر" فإن المحارب

ص: 418

الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل وإن أسلم كما لو حارب بقطع الطريق أو باستكراه مسلمة على الزنا ونحو ذلك.

قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية ثم إنه لم يرفع العقوبة إلا إذا تابوا قبل القدرة عليهم وقد قدمنا أن هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الآية.

وعن مجاهد قال: أتى عمر برجل يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ثم قال عمر: "من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه".

هذا مع أن سيرته في المرتد أنه يستتاب ثلاثا ويطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فإذا أمر بقتل هذا من غير استتابة علم أن جرمه أغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من أهل العهد أغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لا سيما وقد أمر بقتله مطلقا من غير ثنيا.

وكذلك المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها خالد بن الوليد ولم يستتبها دليل على أنها ليست كالمرتدة المجردة.

وكذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا وطلبه لقتله بعد ذلك مدة طويلة ولم ينكر المسلمون ذلك عليه مع أنه لو قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما أتى به بعد ذلك من الشهادتين والصلوات ولم يقتل حتى يستتاب.

وكذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي أمهات المؤمنين: "إنه لا توبة له" نص في هذا المعنى وهذه القضايا قد اشتهرت ولم يبلغنا أن أحدا أنكر شيئا

ص: 419

من ذلك كما أنكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب وكما أنكر ابن عباس رضي الله عنهما تحريق الزنادقة وأخبر أن حدهم القتل فعلم أنه كان مستفيضا بينهم أن حد الساب أن يقتل إلا ما روي عن ابن عباس: "من سب نبيا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن تاب وإلا قتل" وهذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الأنبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن من قال عن بعض الأنبياء أنه ليس بنبي وسبه بناء على أنه ليس بنبي فهذه ردة محضة ويتعين حمل حديث ابن عباس على هذا أو نحوه إن كان محفوظا عنه لأنه أخبر أن قاذف أمهات المؤمنين لا توبة له فكيف تكون حرمتهن لأجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من حرمة نبي معروف مذكور في القرآن؟.

الطريقة السادسة عشرة: أن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وحرم سبحانه لحرمة رسوله مما يباح أن يفعل مع غيره أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته.

فمن ذلك: أنه أمر بالصلاة عليه والتسليم بعد أن أخبر أن الله وملائكته يصلون عليه والصلاة تتضمن ثناء الله عليه ودعاء الخير له وقربته منه ورحمته له والسلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة فقد جمعت الصلاة عليه والتسليم جميع الخيرات ثم إنه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة واحدة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك وليرحمهم الله بها.

ص: 420

ومن ذلك: أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} .

فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام.

وقال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر والجهاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .

ومن حقه: أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية مع الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي" فقال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال: "فأنت والله يا رسول الله أحب إلي من نفسي" قال: "الآن يا عمر" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" متفق عليه.

ص: 421

ومن ذلك: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} والتعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.

ومن ذلك: أنه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فنهى أن يقولوا: يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولوا: يا رسول الله يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء فلم يدعه باسمه في القرآن قط بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} مع أنه سبحانه قد قال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} الآية

ص: 422

{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاس} {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِك} .

ومن ذلك: أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن وحرم رفع الصوت فوق صوته وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على أنه قد يقتضي الكفر لأن العمل لا يحبط إلا به وأخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى وأن الله يغفر لهم ويرحمهم وأخبر أن الذين ينادونه وهو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا أصواتهم عليه ولكونهم لم يصبروا حتى يخرج ولكن أزعجوه إلى الخروج.

ومن ذلك: أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} .

وأوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام فقال سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} .

وأما ما أوجبه من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله فهذا باب واسع

ص: 423

لكن ذاك قد يقال: هو من لوازم الرسالة وإنما الغرض هنا أن ننبه على بعض ما أوجبه الله من الحقوق الواجبة والمحرمة على الأمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز أن يبعث الله رسولا ولا يوجب له هذه الحقوق.

ومن كرامته المتعلقة بالقول: أنه فرق بين أذاه وأذى المؤمنين فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}

وقد تقدم في هذه الآية ما يدل على أن حد من سبه القتل كما أن حد من سب غيره الجلد.

ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله وأوجب ذكره في كل خطبة وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع.

هذا إلى خصائص له أخر يطول تعدادها.

وإذا كان كذلك فمعلوم أن سابه ومنتقصه قد ناقض الإيمان به وناقض تعزيره وتوقيره وناقض رفع ذكره وناقض الصلاة عليه والتسليم وناقض تشريفه في الدعاء والخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به أشر الخلق.

يوضح ذلك أن مجرد إعراضه عن الإيمان به يبيح الدم مع عدم العهد وإعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد سكوته عن تشريفه وتكريمه فإذا أتى بضد ذلك من الذم والسب والانتقاص

ص: 424

والاستخفاف فلا بد أن يوجب ذلك زيادة على الذم والعقاب فإن مقادير العقوبات على مقادير الجرائم ألا ترى أن الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكن عقوبته القود وهو التسليم إلى ولي المقتول فإن انضم إلى ذلك قتله لأخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فإن انضم إلى ذلك أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب وعوقب عند بعض العلماء أيضا بقطع اليد والرجل حتما مع أن أخذ المال سرقة لا يوجب إلا قطع اليد فقط وكذلك لو قذف عبدا أو ذميا أو فاجرا لم يجب عليه إلا التعزير فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل: "إنه لا يجب عليه مع ذلك إلا ما يجب على من ترك الإيمان به أو ترك العهد الذي بيننا وبينه" لسوى بين الساكت عن ذمه وسبه والمبالغ في ذلك وهذا غير جائز كما أنه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه والصلاة عليه والمبالغ في ذلك ولزم من ذلك أن لا يكون لخصوص سبه وذمه وأذاه عقوبة مع أنه من أعظم الجرائم وهذا باطل قطعا.

ومعلوم أن لا عقوبة فوق القتل ثم ليس سوى الزيادة على ذلك إلا تعين قتله وتحتمه تاب أو لم يتب كحد قاطع الطريق إذ لا يعلم أحد وجب أن يجلد لخصوص السب ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود وهذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل والعلة إذا ثبت بالنص أو بالإيماء لم يحتج إلى أصل يقاس عليه الفرع وبهذا يظهر أنا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل إلا بما دل عليه من الكتاب والسنة والأثر لا بمجرد الاستحسان والاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بمآخذ الأحكام على أن الأصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت وهو:

الطريقة السابعة عشرة: وذلك أنا وجدنا الأصول التي دل عليها الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة حكمت في المرتد وناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه

ص: 425

إلا مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد وهو في ناقض العهد أيضا موجود بقوله في بعض من نقض العهد: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام من أسلم من بني بكر وكانوا قد نقضوا العهد وعدوا على خزاعة فقتلوهم وقبل إسلام قريش الذين أعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم بذلك ودلت سنته على أن مجرد إسلامهم كان عاصما لدمائهم وكذلك في حصره لقريظة والنضير مذكر أنهم لو أسلموا لكف عنهم وقد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم وأموالهم منهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية وأسد ابن عبيد أسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبرهم مشهور ومن تغلظت ردته أو نقضه بما يضر المسلمين إذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل أو يعاقب بما دونه إن لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية وكما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن أبي سرح وابن زنيم وفي قصة ابن خطل وقصة مقيس بن حبابة وقصة العرنيين وغيرهم وكما دل عليه الأصول المقررة فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى أو غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام أخذت منه الحدود وكذلك لو اقترن بنقض عهده الإضرار بالمسلمين من قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى بمسلمة فإن الحدود تستوفى منه بعد الإسلام: إما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك أو الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام وهذا الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمنا من الإضرار بالمسلم الذي

ص: 426

صار به أغلظ جرما من مجرد نقض العهد أو فعل ما هو أعظم من أكثر الأمور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده أذى المسلمين في دم أو مال أو عرض وأشد وإذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الإضرار كما دلت عليه الأصول في مثله وعقوبة هذا الإضرار قد ثبت أنه القتل بالنص والإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فإن المسلم لو ابتدأ بمثل هذا قتل قتلا لا يسقط بالتوبة كما تقدم.

وإذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فأن لا يمنع بقاءها ودوامها أولى وأحرى لأن الدوام والبقاء أقوى من الابتداء والحدوث في الحسيات والعقليات والحكميات.

ألا ترى أن العدة والإحرام والردة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع دوامه والإسلام يمنع ابتداء الرق ولا يمنع دوامه ويمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميا ولا يمنع دوامه عليه إذا أسلم بعد القتل والقذف.

ولو فرض أن الإسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب أن يسقط القتل بإسلامه لأن الدوام أقوى من الابتداء وجاز أن يكون بمنزلة القود وحد القذف فإن الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لا سيما والسب فيه حق لآدمي ميت وفيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين وإذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين.

يحقق ذلك أن الذمي إذا قطع الطريق وقتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم وأخذ ماله وإنما حرمه عليه العهد الذي بيننا وبينه كما أنه يعتقد جواز السب في دينه وإنما حرمه عليه العهد وقطع الطريق قد يفعل استحلالا وقد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما أن سب الرسول قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه إلا أن مفسدة ذلك في الدنيا ومفسدة هذا في الدين وهي أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله

ص: 427

العالمين به وبأمره فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهار اعتقاد تحريم دم المسلم وماله مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد وكذلك إذا أسلم الساب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه ويجب أن يقال: إذا كان ذلك لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة.

ومن أمعن النظر لم يسترب في أن هذا محارب مفسد كما أن قاطع الطريق محارب مفسد.

ولا يرد على هذا سب الله تعالى لأن أحدا من البشر لا يسبه اعتقادا إلا بما يراه تعظيما وإجلالا كزعم أهل التثليث أن له صاحبة وولدا فإنهم يعتقدون أن هذا من تعظيمه والتقرب إليه ومن سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين وهو المختار كما سنقرره ومن فرق قال: إنه تعالى لا تلحقه غضاضة ولا انتقاص بذلك ولا يكاد أحد يفعل ذلك أصلا إلا أن يكون وقت غضب ونحو ذلك بخلاف سب الرسول فإنه يسبه انتقاصا له واستخفافا به سبا يصدر عن اعتقاد وقصد إهانة وهو من جنس تلحقه الغضاضة ويقصد بذلك وقد يسب تشفيا وغيظا وربما حل منه في النفوس خبائل ونفر عنه بذلك خلائق ولا تزول نفرتهم عنه بإظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنا وقطع الطريق ونحو ذلك بإظهار التوبة وكما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول.

فإن قيل: قد تكون زيادة العقوبة على عقوبة مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فإن عقد الأمان والهدنة والذمة

ص: 428

واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة بهم جائز في الجملة فإذا أتى مع حل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه وهكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي صلى الله عليه وسلم فيها من سبه أو أمر بقتله أو أمر أصحابه بذلك فإنها تدل على أن الساب يقتل وإن لم يقتل من هو مثله من الكافرين.

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ليهود في قصة ابن الأشرف: "إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل ولكنه نال منا وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحدا منكم إلا كان السيف".

وإذا كان كذلك فيكون القتل وجب لأمرين: للكفر ولتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر ولتغلظه بترك الدين الحق والخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للذم فلم يستقل بقاء أثر السب بإحلال الدم وتبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فإنه فرع للكفر ونوع منه فإذا زال الأصل زالت جميع فروعه وأنواعه.

وهذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على أن السب فرع للردة ونوع منها وقد لا يمكن لأنه لم يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر.

قلنا: وهذا أيضا دليل على أن قتل الساب حد من الحدود فإنه قد تقدم أنه يجب قتله إن كان معاهدا ولا يجوز استبقاؤه بعد السب بأمان ولا استرقاق ولو كان إنما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز أمانه واسترقاقه والمفاداة به فلما كان جزاؤه القتل علم أن قتله حد من الحدود ليس بمنزلة قتل سائر الكفار.

ومن تأمل الأدلة الشرعية نصوصها ومقاييسها مما ذكرناه ومما لم نذكره

ص: 429

ثم ظن بعد هذا أن قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الأسير فليس على بصيرة من أمره ولا ثقة من رأيه.

وليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فإن من تأمل دلالات الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وما توجبه الأصول الشرعية علم قطعا أن للسب تأثيرا في سفح الدم زائدا على تأثير مجرد الكفر الخالي عن عهد.

نعم قد يقال: هو مقتول بمجموع الأمرين بناء على أن كفر الساب نوع مغلظ لا يحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره وسبه ويكون القتل حدا بمعنى أنه يجب إقامته ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد فهذا ليس بمساغ فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه ومع هذا فإنه لا يقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما فيه خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة.

وإنما يبقى أن يقال: هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا؟

فنقول: جميع ما ذكرناه من الدلالات وإن دلت على وجوب قتله بعد إظهار التوبة فهي دالة على أن قتله حد من الحدود وليس لمجرد الكفر وهي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب والسنة والإجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارىء أو نقض العهد وبين من سب الرسول من هؤلاء وإذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق إلا أن يكون حدا وإذا ثبت أنه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد أو لعموم كونه مرتدا فيجب أن لا يسقط بالتوبة والإسلام لأن الإسلام والتوبة لا يسقط شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك إذا كانت التوبة بعد الثبوت والرفع إلى الإمام بالاتفاق.

ص: 430

وقد دل القرآن أن حد قاطع الطريق والزاني والسارق والقاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد.

ودلت السنة على مثل ذلك في الزاني وغيره ولم يختلف المسلمون فيما علمناه أن المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فرفع إلى السلطان وثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك أنه تجب إقامة الحد عليه إلا أن يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله وكذلك لو وجب عليه قصاص أو حد أو قذف أو عقوبة سب لمسلم أو معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة وكذلك أيضا لم يختلفوا فيما علمناه أن الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد السرقة أو قصاص أو حد قذف أو تعزير ثم أسلم وتاب من ذلك لم تسقط عنه عقوبة ذلك وكذلك أيضا لو زنى فإنه إذا وجب عليه حد الزنا ثم أسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنا عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام ويقتل حتما عند الإمام أحمد إن كان زنى نقض عهده.

هذا مع الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع إقامة الحد عليه تطهيرا له وتنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة وهي زجر الملتزمين للإسلام أو الصغار عن مثل ذلك الفساد فإنه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة لم يتأت إقامة حد في الغالب فإنه لا يشاء المفسد في الأرض إذا أخذ أن يظهر التوبة إلا أظهرها وأوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الأقوال والأفعال أن يرتكبها ثم إذا أحيط به قال: إني تائب.

ومعلوم أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود وظهر الفساد في البر والبحر ولم يكن في شرع العقوبات والحدود كبير مصلحة وهذا ظاهر لا خفاء به.

ص: 431

ثم الجاني لو تاب توبة نصوحا فذلك نافعة فيما بينه وبين الله يغفر له ما سلف ويكون الحد تطهيرا له وتكفيرا لسيئته وهو من تمام التوبة كما قال ماعز بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم "طهرني" وقد جاء تائبا وقال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطأ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} وقال تعالى في كفارة الظهار: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} .

فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين:

مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة وهي أهم المصلحتين فإن الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء وإنما كمال الجزاء في الآخرة وإنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر والنكال وإن كان فيها مقاصد أخر كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم وإن كان فيها مقاصد أخر ولهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة.

والمصلحة الثانية: تطهير الجاني وتكفير خطيئته إن كان له عند الله خير أو عقوبة والانتقام منه إن لم يكن كذلك وقد يكون زيادة في ثوابه ورفعه في درجاته.

ونظير ذلك المصائب المقدرة في النفس والأهل والمال فإنها تارة تكون كفارة وطهورا وتارة تكون زيادة في الثواب وعلوا في الدرجات وتارة تكون عقابا وانتقاما.

لكن إذا تاب الإنسان سرا فإن الله يقبل توبته سرا ويغفر له من غير إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه أما إذا أعلن الفساد بحيث يراه الناس ويسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان أو اعترف هو به عند السلطان فإنه لا يطهره مع التوبة بعد القدرة إلا إقامته منه عليه

ص: 432

إلا أن في التوبة إذا كان الحد لله وثبت بإقراره خلافا سنذكره إن شاء الله تعالى ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وقال النبي عليه الصلاة والسلام لما شفع إليه في السارقة: "تطهر خيرا لها" وقال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره" وقال: "من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله".

إذا تبين ذلك فنقول: هذا الذي أظهر سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسلم أو معاهد قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت مع الكفر ونقض العهد أذى الله ورسوله وانتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين والوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الأعراض والطعن في صفات الله وأفعاله وفي دين الله وكتابه وجميع أنبيائه والمؤمنين من عباده فإن الطعن في واحد من الأنبياء طعن في جميع الأنبياء كما قال سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} وطعن في كل من آمن بنبينا من الأنبياء والمؤمنين المتقدمين والمتأخرين وقد تقدم تقرير هذا.

ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد إيمانه أو أمانه أنه لا يفعل ذلك فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم امتنع أن يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضا.

ثم هنا مسلكان:

المسلك الأول: وهو مسلك طائفة من أصحابنا وغيرهم أن يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق وللردة وللكفر لأن السب للرسول عليه

ص: 433

الصلاة والسلام قد تعلق به حق الله وحق كل مؤمن فإن أذاه ليس مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط كمن سب واحدا من عرض الناس بل هو أذى لكل مؤمن كان ويكون بل هو عندهم من أبلغ أنواع الأذى ويود كل منهم أن يفتدي هذا العرض بنفسه وأهله وماله وعرضه كما تقدم ذكره عن الصحابة من أنهم كانوا يبذلون دماءهم في صون عرضه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح من فعل ذلك سواء قتل أو غلب ويسميه ناصر الله ورسوله ولو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس وقد قال حسان بن ثابت يخاطب أبا سفيان بن الحارث:

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

فإن أبى ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

وذلك أنه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا والآخرة وبها ينالها كل واحد سواهم وبها يقام دين الله ويرضى الله عن عباده ويحصل ما يحبه وينتفي ما يبغضه كما أن قاطع الطريق وإن قتل واحدا فإن مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الأمر فيه إلى ولي المقتول.

نعم كان الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مفوضا إليه فيمن سبه: إن أحب عفا عنه وإن أحب عاقبه وإن كان في سبه حق الله ولجميع المؤمنين لأن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص وحقوق الآدميين تابعة لحق الرسول فإنه أولى بهم من أنفسهم ولأن في ذلك تمكينه صلى الله عليه وسلم من أخذ العفو والأمر بالعرف والإعراض عن الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه وتمكينه من العفو والإصلاح الذي يستحق به

ص: 434

أن يكون أجره على الله وتمكينه من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة كما أمره الله وتمكينه من استعطاف النفوس وتأليف القلوب على الإيمان واجتماع الخلق عليه وتمكينه من ترك التنفير عن الإيمان وما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء الساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} .

وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس هذه الحكمة حيث قال: "أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" وقال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة "رجوت أن يؤمن بذلك ألف من قومه" فحقق الله رجاءه ولو عاقب كل من آذاه بالقتل لخامر القلوب عقدا أو وسوسة أن ذلك لما في النفس من حب الشرف وأنه من باب غضب الملوك وقتلهم على ذلك ولو لم يبح له عقوبته لانتهك العرض واستبيحت الحرمة وانخل رباط الدين وضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الأمرين فلما انقلب إلى رضوان الله وكرامته ولم يبق واحدا مخصوص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبة والعفو عنها والحق فيها ثابت لله سبحانه ورسول الله عليه الصلاة والسلام ولعباده المؤمنين وعلم كل ذي عقل أن المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين وحفظ حمى الرسول ووقاية عرضه فقط كما يقتلون قاطع الطريق لأمن الطرقات من المفسدين وكما يقطعون السارق لحفظ الأموال وكما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين عن الخروج عنه ولم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان يتوهم في زمانه أن قتل الساب كذلك

ص: 435

وتقرير ذلك بالساب له من المسلمين فإنه قد كان له أن يعفو عنه مع أنه لا يحل للأمة إلا إراقة دمه فحاصله أنه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء والعفو وبعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها وهذا مسلك جيد لمن تدبر غوره.

ثم هنا تقريران:

أحدهما: أن يقال: الساب من جنس المحارب المفسد وقد تقدم في ذلك زيادة بيان ومما يؤيده أنه سبحانه وتعالى قال: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} فعلم أن كل ما أوجب القتل حقا لله كان فسادا في الأرض وإلا لم يبح.

وهذا السب قد أباح الدم فهو فساد في الأرض وهو أيضا محاربة لله ورسوله على ما لا يخفى لأن المحاربة هنا والله أعلم إنما عني بها المحاربة بعد المسالمة لأن المحاربة الأصلية لم يدخل حكمها في هذه الآية وسبب نزولها إنما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم أنهما جميعا دخلا فيها وهذا قد حارب بعد المسالمة وأفسد في الأرض فيتعين إقامة الحد عليه.

الثاني: أن يكون السب جناية من الجنايات الموجبة للقتل كالزنى وإن لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فإن من الفساد ما يوجب القتل وإن لم يكن حرابا وهذا فساد قد أوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من أنواع الفساد إذ لا يستثنى من ذلك إلا القتل للكفر الأصلي أو الطارىء وقد قدمنا أن هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار.

ص: 436

فإن قيل: فإذا كان السب حدا لله فيجب أن يسقط بالإسلام كما يسقط حد المرتد بالإسلام وكما يسقط قتل الكافر بالإسلام وذلك أن مجرد تسميته حدا لا يمنع سقوطه بالتوبة أو بالإسلام فإن قتل المرتد حد فإن الفقهاء يقولون: باب حد المرتد ثم إنه يسقط بالإسلام ثم إن هذا أمر لفظي لا تناط به الأحكام وإنما تناط بالمعاني وكل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره وتمنعه عن تلك الجريمة وإن لم تسم حدا لكن لا ريب أنه إنما يقتل للكفر والسب والسب لا يمكن تجريده عن الكفر والمحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله وهو مؤمن أو معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني والسارق والقاذف فإن أولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم وهي قبل الإسلام وبعده سواء وهذا إنما وجب عقوبته بجرم هو من فروع الكفر وأنواعه فإذا زال الأصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل أنه كافر محارب وأنه مؤذ لله ولرسوله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعقبة بن أبي معيط لما قال "مالي أقتل من بينكم صبرا" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك على رسول الله" والعلة إذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال أحدهما.

ونحن قد نسلم أنه يتحتم قتله إذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفره بأذى الله ورسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم ألحقتم هذا الحد بقاطع الطريق والزاني والسارق ولم تلحقوه بالمرتد؟ فهذا نكتة هذا الموضع.

فنقول لا يسقط شيء من الحدود بالإسلام ولا فرق بين المرتد وغيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض أو حاضر فإنها تجب

ص: 437

لوجود سببها وتعدم لعدمه فالكافر الأصلي والمرتد لم يقتل لأجل ما مضى من كفره فقط وإنما يقتل للكفر الذي هو الآن موجود إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه فإذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لأن الدم لا يباح بالكفر إلا حال وجود الكفر إذ المقصود بقتله أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله فإذا انقاد لكلمة الله ودان بدين الله حصل مقصود القتال ومطلوب الجهاد وكذلك المرتد إنما يقتل لأنه تارك للدين مبدل له فإذا هو عاد لم يبقى مبدلا ولا تاركا وبذلك يحصل حفظ الدين فإنه لا يترك مبدلا له.

أما الزاني والسارق وقاطع الطريق فإنه سواء كان مسلما أو معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنا والسب وقطع الطريق فإن هذا غير ممكن ولم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك أو إرادته له فإن الذمي لا يباح دمه بهذا الاعتقاد ولا يباح دم مسلم ولا ذمي بمجرد الإرادة فعلم أن ذلك وجب جزاء على ما مضي وزجرا عما يستقبل منه ومن غيره فمن أظهر سب الرسول من أهل الذمة أو سبه من المسلمين ثم ترك السب وانتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد وغيره على كفره بل أفسد في الأرض كما أفسد غيره من الزناة وقطاع الطريق ونحن نخاف أن يتكرر مثل هذا الفساد منه ومن غيره كما نخاف مثل ذلك في الزاني وقاطع الطريق لأن الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه ومن غيره من الناس فوجب أن يعاقب جزاء بما كسب ونكالا من الله له ولغيره وهذا فرق ظاهر بين قتل المرتد والكافر الأصلي وبين قتل الساب والقاطع والزاني.

وبيانه لأن السب من جنس الجريمة الماضية لا من جنس الجريمة الدائمة لكن مبناه على أن السب يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كافرا وقد تقدم بيان ذلك.

ص: 438

يوضح ذلك أن قتل المرتد والكافر الأصلي إلا أن يتوب يزيل مفسدة الكفر لأن الهام بالردة متى علم أنه لا يترك حتى يقتل أو يتوب لم يأتها لأنه ليس له غرض في أن يرتد ثم يعود إلى الإسلام وإنما غرضه في بقائه على الكفر واستدامته.

فأما الساب من المسلمين والمعاهدين فإن غرضه من السب يحصل بإظهاره وينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل والزاني من الزنا وتسقط حرمة الدين والرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس والأموال في قطع الطريق والسرقة ويؤذي عموم المسلمين أذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع والسارق ونحوهما ثم إنه إذا أخذ فقد يظهر الإسلام والتوبة مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع والسارق والزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند إمكان الفرصة بل ربما يتمكن من هذا السب بعد إظهار الإسلام عند شياطينه ما لم يتمكنه قبل ذلك ويتنوع في أنواع التنقص والطعن غيظا على ما فعل به من القهر والضغط حتى أظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى أسلم فإنه لا مفسدة ظهرت لنا منه وبخلاف المحارب الأصلي إذا قتل وفعل الأفاعيل فإنه لم يكن قد التزم الأمان على أنه لا يفعل شيئا من ذلك.

وهذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة أن لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن إليه أن يلتزم بعقد الأيمان أن لا يؤذينا بذلك ولا يفي بعقده وذلك لأنه واجب عليه في دينه أن يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا وعالم أن ذلك من التزام الأمور التي عاهدناه على أن لا يؤذينا بها وهو خائف من سيف الإسلام إن خالف كما أنه واجب عليه في دين الإسلام أن لا يتعرض للرسول بسوء وهو خائف من سيف الإسلام إن هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك وإن كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة ألا ترى أنه

ص: 439

لا يشرع الستر عليه ولا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه وتجب إقامة الشهادة عليه عند الحاكم ولا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم وإن كان قد ارتد سرا لأنه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار وإن لم يتب قتله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضة بخلاف من استسر لقاذورة من القاذورات فإنه لا ينبغي التعرض إليه لأنه إذا رفع يقتل حتما وقد يتوب إذا لم يرفع فلم يكن الرفع له مصلحة محضة وإنما المصلحة للناس فإذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم.

ومن سب الرسول فإنما يقتله لأذاه لله ولرسوله وللمؤمنين ولطعنه في دينهم فكان بمنزلة من أظهر قطع الطريق والزنى ونحوه المغلب فيه جانب الردع والزجر وإن تضمن مصلحة الجاني وكان قتله لأنه أظهر الفساد في الأرض وكذلك لو سب الذمي سرا لم يتعرض له وكذلك لم ينبغي الستر عليه لأن من أظهر الفساد لا يستر عليه بحال.

وقوله: "السب مستلزم للكفر والحراب بخلاف تلك الجرائم" قلنا: ليس لنا سب خال عن كفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الأمرين وهذه الملازمة لا توهن أمر السب فإن كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فإذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم أن لا يكون موجبا للعقوبة إذا كان هو في نفسه يتضمن من المفسدة ما يوجب العقوبة والزجر كما دل عليه الكتاب والسنة والأثر والقياس.

ثم نقول: أقصى ما يقال أنه حد على كفر مغلظ فيه ضرر على المسلمين صدر عن مسلم أو معاهد فمن أين لهم أن مثل هذا تقبل منه التوبة بعد القدرة؟ فإنا قد قدمنا أن التوبة إنما شرعت في حق من تجردت ردته أو تجرد نقضه للعهد فأما من تغلظت ردته أو نقضه بكونه مضرا بالمسلمين فلا بد من عقوبته بعد التوبة.

ص: 440

وقولهم: "إن السب من فروع الكفر وأنواعه" فإن عنوا أن الكفر يوجب ذلك فليس بصحيح وإن عنوا أن الكفر يبيح ذلك فنقول: لكن عقد الذمة حرم عليه في دينه إظهار ذلك كما حرم قتل المسلمين وسرقة أموالهم وقطع طريقهم وافتراش نسائهم وكما حرم قتالهم وإن كان دينه يبيح له ذلك كله فإذا هو آذى المسلمين بما يقتضيه الكفر المجرد عن عهد فإنه يعاقب على ذلك وإن زال الكفر الموجب لذلك فيقتل ويقطع ويعاقب كذلك هنا يعاقب على ما آذى به الله ورسوله والمؤمنين مما يخالف عهده وإن كان دينه يبيحه.

وقولهم: "إن الزاني والسارق وقاطع الطريق قبل الإسلام وبعده سواء" قلنا: هو مثل الساب لأنه قبل الإسلام يعتقد استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم لولا العهد الذي بينهم وبينه وبعد الإسلام إنما يعتقد تحريمها لأجل الدين وكذلك انتهاكه لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد حله لولا العهد الذي بيننا وبينه وبعد الدين إنما يمنعه منه الدين ولا فرق بين أن يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم.

وأما قولهم: "إنما وجب قتله لأجل الأمرين فيسقط بزوال أحدهما" فنقول: بل اجتمع فيه سببان كل منهما يوجب نوعا من القتل يخالف لنوع الآخر وإن كان أحدهما يستلزم الآخر فالكفر يوجب القتل للكفر الأصلي أو للكفر الارتدادي وله أحكام معروفة والسب يوجب القتل لخصوصه حتى يندرج فيه قتل الكفر وقتل الردة وهذا القتل هو المغلب في حق مثل هذا حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له القتل والعفو وله القتل مع امتناع القتل بالكفر والردة وله القتل بعد سقوط القتل بالكفر والردة كما قدمنا من الدلائل على ذلك أثرا ونظرا وبينا أن في خصوص السب ما يقتضي القتل لو فرض تجرده عن الكفر والردة فإذا انفصل عنه في أثناء الحال

ص: 441

فسقط موجب الكفر والردة لم يسقط موجب السب وقد قدمنا في المسألة الثانية دلائل على ذلك.

ثم نقول: هب أنه وجب لأجل الأمرين فالقتل الواجب لكفر متغلظ بالإضرار إذا زال لا تسقط عقوبة فاعله فوجب أن لا تسقط عقوبة فاعل هذا والعقوبة التي استحقها هي القتل.

وأيضا فإن الإسلام الطارىء لا يمنع ما وجب من العقوبة وإن كان الإسلام يمنع وجوبها ابتداء كالقتل قودا وكحد القذف فإنه إنما يجب بشرط كون الفاعل ذميا ولا يسقط بإسلامه بعد ذلك إذا كان المقتول والمقذوف ذميا.

وأيضا فإن الإسلام لا يمنع قتل الساب ابتداء فأن لا يمنع قتله دواما بطريق الأولى فقوله: "اجتمع سببان فزال أحدهما" ممنوع بل الموجب لقتل هذا لم يزل.

المسلك الثاني: أن يقتل حدا للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقتل قودا وكما يجلد القاذف والساب لغيره من المؤمنين وقد تقدمت الدلالة على أن عقوبة شاتم النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن عقوبة شاتم غيره الجلد وهذا مسلك كثير من أصحابنا وغيرهم.

ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن الرجل لو سب واحدا من المؤمنين أو سب واحدا من أعيان الأمة وهو ميت أو غائب لوجب على من حضره من المسلمين أن ينتصروا له وإذا بلغ الأمر إلى السلطان فإنه يعاقب هذا الجريء بما يزعه عن أذى المؤمنين ثم إن كان حيا وعلم فله أن يعفو عن سابه وأما إن تعذر علمه لموته أو غيبته لم يجز للمسلمين الإمساك عن عقوبة هذا وإذا رفع إلى السلطان عاقبه وإن أظهر التوبة لأن هذا من المعاصي والذنوب المتعلقة بحق آدمي لا يمكن قيامه بطلب هذا الحد وكل ما كان كذلك لم تحتج

ص: 442

العقوبة عليه إلى طلب أحد ولا تسقط بالتوبة إذا رفع إلى السلطان ولهذا قلنا: إن من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب أن يعزر ويؤدب أو يقتل وإن لم يطالب بحقهم معين لأن نصر المسلم واجب على كل مسلم بيده ولسانه فكيف على ولي الأمر؟.

وعلى هذا التقدير فنقول: إن سب النبي صلى الله عليه وسلم كان موجبا للقتل في حياته كما تقدم تقريره وكان إذا علم بذلك تولى هذا الحق فإن أحب استوفى وإن أحب عفا فإذا تعذر إعلامه لغيبته أو موته وجب على المسلمين القيام بطلب حقه ولم يجز العفو عنه لأحد من الخلق كما لا يجوز العفو عن من سب غيره من الأموات والغياب.

وقد قدمنا الدلائل على القتل بخصوص سبه وأن المغلب فيه حقه حتى كان له أن يقتل من سبه أو يعفو عنه كما للرجل أن يعاقب سابه وأن يعفو عنه.

فإن قيل: هذا ينبني على مقدمتين:

إحداهما: أن قذف الميت موجب للحد وقد ذهب أبو بكر بن جعفر صاحب الخلال إلى أنه لا حد لقذف ميت لأن الحي وارثه لم يقذف وإنما قذف الميت وحد القذف لا يستوفى إلا بعد المطالبة وقد تعذرت منه والحد لا يورث إلا بمطالبة الميت وهي منتفية والأكثرون يثبتون الحد لقذف الميت لكن من الفقهاء من يقول: إنما يثبت إذا تضمن القدح في نسب الحي وهو قول الحنفية وبعض أصحابنا وقيل عن الحنفية: لا يأخذ به إلا الوالد أو الولد ومن الفقهاء من يقول: يثبت مطلقا ثم هل يرثه جميع الورثة أو من سوى الزوجين لبقاء سبب الإرث أو العصبة فقط لمشاركتهم له في عمود نسبه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب الشافعي وأحمد.

ص: 443

الثانية أن حد قذف الميت لا يستوفي إلا بطلب الورثة وذلك أنهم لا يختلفون أنه لا يستوفي إلا بمطالبة الورثة أو بعضهم ومتى عفوا سقط عند الأكثرين.

فعلى هذا ينبغي أن يسقط الحد لقذف النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يورث ويكون كقذف من لا وارث له وهذا ليس فيه حد قذف عند أكثر الفقهاء أو يقال: لا يستوفي حتى يطالب بعض الهاشميين أو بعض القرشيين.

فنقول: الجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنا لم نجعل سب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه من حد القذف الذي لا يستوفى حتى يطلبه المستحق فإن ذاك إنما هو إذا علم به وإنما هو من باب السب والشتم الذي يعلم أنه حرام باطل وقد تعذر علم المسبوب به كما لو رمى رجل بعض أعيان الأمة بالكفر أو الكذب أو شهادة الزور أو سبه سبا صريحا فإنا لا نعلم مخالفا في أن هذا الرجل يعاقب على ذلك كما يعاقب على ما ينتهكه من المحارم انتصارا لذلك الرجل الكريم في الأمة وزجرا عن معصية الله كمن يسب الصحابة أو العلماء أو الصالحين.

الوجه الثاني: أن سبه سب لجميع أمته وطعن في دينهم وهو سب تلحقهم به غضاضة وعار بخلاف سب الجماعة الكثيرة بالزنا فإنه يعلم كذب فاعله وهذا يوقع في بعض النفوس ريبا وإذا كان قد آذى جميع المؤمنين أذى يوجب القتل وهو حق تجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم إقامة الدين فيكون شبيها بقذف الميت الذي فيه قدح في نسب الحي إذا طالب به وذاك يتعين إقامته.

ص: 444

وبهذا يظهر الفرق بينه وبين غيره من الأموات على قول أبي بكر فإن ذلك الميت لا يتعدى ضرر قذفه في الأصل إلى غيره فإذا تعذرت مطالبته أمكن أن يقال: لا يستوفي حد قذفه وهنا ضرر السب في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها وذل عصمتها وإهانة مستمسكها وإلا فالرسول صلوات الله عليه وسلامه في نفسه لا يتضرر بذلك.

وبه يظهر الفرق بينه وبين غيره في أن حد قذف الغير إنما يثبت لورثته أو لبعضهم وذلك لأن العار هناك إنما يلحق الميت أو ورثته وهنا العار يلحق جميع الأمة لا فرق في ذلك بين الهاشميين وغيرهم بل أي الأمة كان أقوى حبا لله ورسوله وأشد إتباعا له وتعزيرا وتوقيرا كان حظه من هذا الأذى والضرر أعظم وهذا ظاهر لا خفاء به وإذا كان هذا ثابتا لجميع الأمة فإنه مما يجب عليهم القيام به ولا يجوز لهم العفو عنه بوجه من الوجوه لأنه وجب لحق دينهم لا لحق دنياهم بخلاف حد قذف قريبهم فإنه وجب لحظ نفوسهم ودنياهم فلهم أن يتركوه وهذا يتعلق بدينهم فالعفو عنه عفو عن حدود الله وعن انتهاك حرماته فظهر الجواب عن المقدمتين المذكورتين.

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث فلا يصح أن يقال: إن حق عرضه يختص به أهل بيته دون غيرهم كما أن ماله لا يختص به أهل بيته دون غيرهم بل أولى لأن تعلق حق الأمة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله وحينئذ فيجب المطالبة باستيفاء حقه على كل مسلم لأن ذلك من تعزيره ونصره وذلك فرض على كل مسلم.

ونظير ذلك أن يقتل مسلم أو معاهد نبيا من الأنبياء فإن قتل ذلك الرجل متعين على الأمة ولا يجوز أن يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا له لو كان يورث: إن أحب قتل وإن أحب عفا على الدية أو مجانا ولا يجوز تقاعد الأمة عن قتل قاتله فإن ذلك أعظم من جميع أنواع الفساد ولا يجوز

ص: 445

أن يسقط حق دمه بتوبة القاتل أو إسلامه فإن المسلم أو المعاهد لو ارتد أو نقض العهد وقتل مسلما لوجب عليه القود ولا يكون ما ضمه إلى القتل من الردة ونقض العهد مخففا لعقوبته وما أظن أحدا يخالف في مثل هذا مع أن مجرد قتل النبي ردة ونقض للعهد باتفاق العلماء وعرضه كدمه فإن عقوبته القتل كما أن عقوبة دمه وعرضه ممنوع من المسلم بإسلامه ومن المعاهد بعهده فإذا انتهكا حرمته وجبت عليهما العقوبة لذلك.

الطريقة الثامنة عشرة: وهي طريقة القاضي أبي يعلى أن سب النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان: حق لله وحق لآدمي.

فأما حق الله فهو ظاهر وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه.

وأما حق الآدمي فظاهر أيضا فإنه أدخل المعرة على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السب وأناله بذلك غضاضة وعارا.

والعقوبة إذا تعلق فيها حق لله وحق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه يتحتم قتله ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من انحتام القتل والصلب ولم يسقط حق الآدمي من القود كذلك هنا.

فإن قيل: المغلب هنا حق الله ولهذا لو عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لم يسقط بعفوه.

قلنا: قد قال القاضي أبو يعلى: في هذا نظر على أنه إنما لم يسقط بعفوه لتعلق حق الله به فهو كالعدة إذا أسقط الزوج حقه منها لم تسقط لتعلق حق الله بها ولم يدل هذا على أنه لا حق لآدمي فيها كذلك هنا فقد تردد القاضي أبو يعلى في جواز عفو النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع وقطع في موضع آخر أنه كان له أن يسقط حق سبه لأنه حق له وذكر في قول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: "أن كان ابن عمتك" وقد عرض للنبي بما يستحق به العقوبة ولم يعاقبه لأنه حمل قول النبي صلى الله

ص: 446

عليه وسلم للزبير اسق بأنه قضى له على الأنصاري للقرابة وفي الرجل الذي أغلظ لأبي بكر ولم يعزره فقال القاضي: التعزير هنا وجب لحق آدمي وهو افتراؤه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وله أن يعفو عنه وكذلك ذكر ابن عقيل عنه أن الحق كان للنبي صلى الله عليه وسلم وله تركه وقال ابن عقيل: قد عرض هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي العقوبة والتهجم على النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التعزير لحق الشرع دون أن يختصه في نفسه قال: وقد عزره النبي صلى الله عليه وسلم بحبس الماء عن زرعه وهو نوع ضرر وكسر لعرضه وتأخير لحقه وعندنا أن العقوبات بالمال باقية غير منسوخة وليس يختص التعزير بالضرب في حق كل أحد.

وقول ابن عقيل هذا يضمن ثلاثة أشياء:

أحدها: أن هذا القول إنما كان يوجب التعزير لا القتل.

والثاني: أن ذلك واجب لحق الشرع ليس له أن يعفو عنه.

الثالث: أنه عزره بحبس الماء.

والثلاثة ضعيفة جدا والصواب المقطوع به أنه كان له العفو كما دلت عليه الأحاديث السابقة لما ذكرناه من المعنى فيه وحينئذ فيكون ذلك مؤيدا لهذه الطريقة.

وقد دل على ذلك ما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب من سبه وآذاه في الموضع الذي سقطت فيه حقوق الله نعم صار سب النبي صلى الله عليه وسلم سبا لميت وذلك لا يسقط بالتوبة البتة.

وعلى هذه الطريقة فالفرق بين سب الله وسب رسوله ظاهر فإن هناك الحق لله خاصة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وهنا الحق لهما فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة.

الطريقة التاسعة عشرة: أنا قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من المسلمين قتل ابن أبي سرح وقد جاء مسلما تائبا ونذر دم أنس بن زنيم

ص: 447

إلى أن عفا عنه بعد الشفاعة وأعرض عن أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وقد جاءا مسلمين مهاجرين وأراق دماء من سبه من النساء من غير قتال وهن منقادات مستسلمات وقد كان هؤلاء حربيين لم يلتزموا ترك سبه ولا عاقدونا على ذلك فالذي عقد الأيمان أو الأمان على ترك سبه إذا جاء يريد الإسلام ويرغب فيه إما أن يجب قبول الإسلام منه والكف عنه أو لا يجب فإن قيل "يجب" فهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قيل "لا يجب" فهو دليل على أنه إذا جاء ليتوب ويسلم جاز قتله وكل من جاز قتله وقد جاء مسلما تائبا مع علمنا بأنه قد جاء كذلك جاز قتله وإن أظهر الإسلام والتوبة لا نعلم بينهما فرقا عند أحد من الفقهاء في جواز القتل فإن إظهار إرادة الإسلام هي أول الدخول فيه كما أن التكلم بالشهادتين هو أول الالتزام له ولا يعصم الإسلام إلا دم من يجب قبوله منه فإذا أظهر أنه يريده فقد بذل ما يجب قبوله فيجب قبوله كما لو آذاه.

وهنا نكتة حسنة وهي أن ابن أبي أمية وأبا سفيان لم يزالا كافرين وليس في القصة بيان أنه أراد قتلهما بعد مجيئهما وإنما فيها الإعراض عنهما وذلك عقوبة من النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث ابن أبي سرح فهو نص في إباحة دمه بعد مجيئه لطلب البيعة وذلك لأن ابن أبي سرح كان مسلما فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يتمم له القرآن ويلقنه ما يكتبه من الوحي فهو ممن ارتد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ومن ارتد بسبه فقد كان له أن يقتله من غير استتابة وكان له أن يعفو عنه وبعد موته تعين قتله.

وحديث ابن زنيم فإنه أسلم قبل أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم مع بقاء دمه مندورا مباحا إلى أن عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن روجع في ذلك.

ص: 448

وكذلك النسوة اللاتي أمر بقتلهن إنما وجهه والله أعلم أنهن كن قد سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن فقتلت اثنتان والثالثة لم يعصم دمها حتى استؤمن لها بعد أيام ولو كان دمها معصوما بالإسلام لم يحتج إلى الأمان وهذه الطريقة مبناها على أن من جاز قتله بعد أن أظهر أنه جاء ليسلم جاز قتله بعد أن أسلم فإن من لم يعصم دمه إلا عفو وأمان لم يكن الإسلام هو العاصم لدمه وإن كان قد تقدم ذكر هذا لكن ذكرناه لخصوص هذا المأخذ.

الطريقة الموفية عشرين: أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مطلقة بقتل سابه لم يؤمر فيها باستتابة ولم يستثن منها من تاب وأسلم كما هي مطلقة عنهم في قتل الزاني المحصن ولو كان يستثني منها حال دون حال لوجب بيان ذلك فإن سب النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع منه وهو الذي علق القتل عليه ولم يبلغنا حديث ولا أثر يعارض ذلك وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فإن المبدل للدين هو المستمر على التبديل دون من عاد وكذلك قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" فإن من عاد إلى دينه لم يجز أن يقال: هو تارك لدينه ولا مفارق للجماعة وهذا المسلم أو المعاهد إذا سب الرسول ثم تاب لم يكن أن يقال: ليس بساب للرسول أو لم يسب الرسول فإن هذا الوصف واقع عليه تاب أو لم يتب كما يقع على الزاني والسارق والقاذف وغيرهم.

الطريقة الحادية والعشرون: أنا قد قررنا أن المسلم إذا سب الرسول يقتل وإن تاب بما ذكرناه من النص والنظر والذمي كذلك فإن أكثر ما يفرق به إما كون المسلم تبين بذلك أنه منافق أو أنه مرتد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفى منه ونحو ذلك وهذا المعنى موجود في الذمي فإن إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة فإذا لم يكن صادقا في عهده وأمانه

ص: 449

لم نعلم أنه صادق في إسلامه وإيمانه وهو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفي منه كسائر الحدود.

وقول من يقول "قتل المسلم أولى" يعارضه قول من يقول "قتل الذمي أولى" وذلك أن الذمي دمه أخف حرمة والقتل إذا وجب عليه في حال الذمة لسبب لم يسقط عنه بالإسلام.

يبين ذلك أنه لا يبيح دمه إلا إظهار السب وصريحه بخلاف المسلم فإن دمه محقون وقد يجوز أنه غلظ بالسب فإذا حقق الإسلام والتوبة من السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح والذمي المبيح محقق والعاصم لا يرفع ما وجب فيكون أقوى من هذا الوجه.

ألا ترى أن المسلم لو كان منافقا لم يقتصر على السب فقط بل لا بد أن تظهر منه كلمات مكفرة غير ذلك بخلاف الذمي فإنه لا يطلب على كفره دليل وإنما يطلب على محاربته وإفساده والسب من أظهر الأدلة على ذلك كما تقدم.

الطريقة الثانية والعشرون: أنه سب لمخلوق لم يعلم عفوه فلا يسقط بالإسلام كسب سائر المؤمنين وأولى فإن الذمي لو سب مسلما أو معاهدا ثم أسلم لعوقب على ذلك بما كان يعاقب به قبل أن يسلم فكذلك إذا سب الرسول وأولى وكذلك يقال في المسلم إذا سبه.

تحقيق ذلك أن القاذف والشاتم إذا قذف إنسانا فرفعه إلى السلطان فتاب كان له أن يستوفي منه الحد وهذا الحد إنما وجب لما ألحق به من العار والغضاضة فإن الزنا أمر يستخفى منه فقذف المرء به يوجب تصديق كثير من الناس به وهو من الكبائر التي لا يساويها غيرها في العار والمنقصة إذا تحقق ولا يشبهه غيره في لحوق العار إذا لم يتحقق فإنه إذا

ص: 450

قذفه بقتل كان الحق لأولياء المقتول ولا يكاد يخلو غالبا من ظهور كذب الرامي به أو براءة المرمي به من الحق بإبراء أهل الحق أو بالصلح أو بغير ذلك على وجه لا يبقي عليه عار وكذلك الرمي بالكفر فإن ما يظهره من الإسلام يكذب هذا الرامي به فلا يضر إلا صاحبه ورمي الرسول صلى الله عليه وسلم بالعظائم يوجب إلحاق العار به والغضاضة لأنه بأي شيء رماه من السب كان متضمنا للطعن في النبوة وهي وصف خفي فقد يؤثر كلامه أثرا في بعض النفوس فتوبته بعد أخذه قد يقال: إنما صدرت عن خوف وتقية فلا يرتفع العار والغضاضة الذي لحقه به كما لا يرتفع العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة ولذلك كانت توبته توجب زوال الفسق عنه وفاقا وتوجب قبول شهادته عند أكثر الفقهاء ولا يسقط الحد الذي للمقذوف فكذلك شاتم الرسول.

فإن قيل: ما أظهره الله لنبيه من الآيات والبراهين المحققة لصدقه في نبوته تزيل عار هذا السب وتبين أنه مبرأ بخلاف المقذوف بالزنا.

قيل: فيجب على هذا أن لو قذفه أحد بالزنا في حياته أن لا يجب عليه حد قذف وهذا ساقط وكان يجب على هذا أن لا يعبأ بمن يسبه ويهجوه بل يكون من يخرج عن الدين والعهد بهذا وبغيره على حد واحد وهو خلاف الكتاب والسنة وما كان عليه السابقون ويجب إذا قذف رجل سفيه معروف بالسفه والفرية من هو مشهور عند الخاصة والعامة بالعفة مشهود له بذلك أن لا يحد وهذا كله فاسد وذلك لأن مثل هذا السب والقذف لا يخاف من تأثيره في قلوب أولي الألباب وإنما يخاف من تأثيره في عقول ضعيفة وقلوب مريضة ثم سمع العالم بكذبه له من غير نكير يصغر الحرمة عنده وربما طرق له شبهة وشك فإن القلوب سريعة

ص: 451

التقلب وكما أن حد القذف شرع صونا للعرض من التلطخ بهذه القاذورات وسترا للفاحشة وكتما لها فشرع ما يصون عرض الرسول من التلطيخ بما قد ثبت أنه بريء منه أولى وستر الكلمات التي أوذي بها في نيل منه فيها أولى لما في ذكرها من تسهيل الاجتراء عليه إلا أن حد هذا السب والقذف القتل لعظم موقعه وقبح تأثيره فإنه لو لم يؤثر إلا تحقيرا لحرمته أو فساد قلب واحد أو إلقاء شبهة في قلب كان بعض ذلك يوجب القتل بخلاف عرض الواحد من الناس فإنه لا يخاف منه مثل هذا وسيجيء الجواب عما يتوهم فرقا بين سب النبي صلى الله عليه وسلم وسب غيره في سقوط حده بالتوبة دون حد غيره.

الطريقة الثالثة والعشرون: أن قتل الذمي إذا سب إما أن يكون جائزا غير واجب أو يكون واجبا والأول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية وبينا أنه قتل واجب وإذا كان واجبا فكل قتل يجب على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي بقدر زائد على الكفر فإنها لا تسقط بالإسلام أصلا جامعا وقياسا جليا فإنه يجب قتله بالزنا والقتل في قطع الطريق وبقتل المسلم أو الذمي ولا يسقط الإسلام قتلا واجبا وبهذا يظهر الفرق بين قتله وقتل الحربي الأصلي أو الناقض المحض فإن القتل هناك ليس واجبا عينا وبه يظهر الفرق بين هذا وبين سقوط الجزية عنه بالإسلام عند أكثر الفقهاء غير الشافعي فإن الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر وعند بعضهم عوض عن حقن الدماء وقد يقال: أجرة سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت لقدر زائد على الكفر.

الطريقة الرابعة والعشرون: أنه قتل لسبب ماض فلم يسقط بالتوبة والإسلام كالقتل للزنى وقطع الطريق وعكسه القتل لسبب حاضر وهو القتل لكفر قديم باق أو محدث جديد باق أعني الكفر الأصلي والطارئ

ص: 452

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" فأمر بقتله للأذى ماض ولم يقل "فإنه يؤذي الله ورسوله" وكذلك ما تقدم من الآثار فيها دلالة على أن السب أوجب القتل والسب كلام لا يدوم ويبقى بل هو كالأفعال المنصرمة من القتل والزنى وما كان هكذا فالحكم فيه عقوبة فاعله مطلقا بخلاف القتل للردة أو للكفر الأصلي فإنه إنما يقتل لأنه حاضر موجود حين القتل لأن الكفر اعتقاد والاعتقاد يبقى في القلب وإنما يظهر أنه اعتقاد بما يظهر من قول ونحوه فإذا ظهر فالأصل بقائه فيكون هذا الاعتقاد حاصلا في القلب وقت القتل وهذا وجه محقق ومبناه على أن قتل الساب ليس لمجرد الردة ونقض العهد فقط كغيره ممن جرد الردة وجرد نقض العهد بل لقدر زائد على ذلك وهو ما جاء به من الأذى والإضرار وهذا أصل قد تمهد على وجهه لا يستريب فيه لبيب.

الطريقة الخامسة والعشرون: أن هذا قتل تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيا وذلك أن المسلم أو المعاهد إذا قتل نبيا ثم أسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل فإنه لو قتل بعض الأمة لم يسقط عنه القتل بإسلامه فكيف يسقط عنه إذا قتل النبي؟ ولا يجوز أن يتخير فيه خليفة بعد الإسلام بين القتل والعفو على الدية أو أكثر منها كما يتخير في قتل قاتل من لا وارث له لأن قتل النبي أعظم أنواع المحاربة والسعي في الأرض فسادا فإن هذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا بلا ريب وإذا كان من قاتل على خلاف أمره محاربا له ساعيا في الأرض فسادا فمن قاتله أو قتله فهو أعظم محاربة وأشد سعيا في الأرض فسادا وهو من أكبر أنواع الكفر ونقض العهد وإن زعم أنه لم يقتله مستحلا كما ذكره إسحاق بن راهويه من أن هذا إجماع من المسلمين وهو ظاهر وإذا وجب قتله عينا وإن أسلم وجب قتل سابه أيضا وإن أسلم لأن كلاهما أذى له يوجب القتل لا لمجرد كونه ردة أو نقض

ص: 453

عهد ولا تمثيلا له بقتل غيره أو سبه فإن سب غيره لا يوجب القتل وقتل غيره إنما فيه القود الذي يتخير فيه الوارث أو السلطان بين القتل أو أخذ الدية وللوارث أن يعفو عنه مطلقا بل لكون هذا محاربة لله ورسوله وسعيا في الأرض فسادا ولا يعلم شيء أكثر منه فإن أعظم الذنوب الكفر وبعده قتل النفس وهذا أقبح الكفر وقتل أعظم النفوس قدرا ومن قال: "إن حد سبه يسقط بالإسلام" لزمه أن يقول: إن قاتله إذا أسلم يصير بمنزلة قاتل من لا وارث له من المسلمين لأن القتل بالردة ونقض العهد سقط ولم يبق إلا مجرد القود كما قال بعضهم: إن قاذفه إذا أسلم جلد ثمانين أو أن يقول: يسقط عنه القود بالكلية كما أسقط حد قذفه وسبه بالكلية وقال: انغمر حد السب في موجب الكفر لا سيما على رأيه إن كان السب من كافر ذمي يستحل قتله وعداوته ثم أسلم بعد ذلك وأقبح بهذا من قول ما أنكره وأبشعه وأنه لا يقشعر منه الجلد أن تطل دماء الأنبياء في موضع تثأر فيه دماء غيرهم وقد جعل الله عامة ما أصاب بني إسرائيل من الذلة والمسكنة والغضب حتى سفك منهم من الدماء ما شاء الله ونهبت الأموال وزال الملك عنهم وسبيت الذرية وصاروا تحت أيدي غيرهم إلى يوم القيامة إنما هو بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق وكل من قتل نبيا فهذا حاله وإنما هذا بقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُم} عطف خاص على عام وإذا كان هذا باطلا فنظيره باطل مثله فإن أذى النبي إما أن يندرج في عموم الكفر والنقض أو يسوى بينه وبين أذى غيره فيما سوى ذلك أو يوجب القتل لخصوصه فإذا بطل القسمان الأولان تعين الثالث ومتى أوجب القتل لخصوصه فلا ريب أنه يوجبه مطلقا.

ص: 454

واعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعهما جامع وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم أو في العرض إذا فرض عود المنتهك إلى الإسلام وهو مما يعلم بطلانه ضرورة ويقشعر الجلد من التفوه به فإن من قتله للردة أو للنقض فقط ولم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا وإنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر إما أن يهدر خصوص الأذى أو يسوى فيه بينه وبين غيره زعما منه أن جعله كفرا ونقضا هو غاية التعظيم وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق.

وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه ثم يجر إلى شعبة نفاق ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر وأنه لخليق به ومن قال هذا القول من الفقهاء لا يرتضي أن يلتزم مثل هذا المحذور ولا يفوه به فإن الرسول أعظم في صدورهم من أن يقولوا فيه مثل هذا لكن هذا لازم قولهم لزوما لا محيد عنه وكفى بقول فسادا أن يكون هذا حقيقته بعد تحريره وإلا فمن تصور أن له حقوقا كثيرة عظيمة مضافة إلى الإيمان به وهي زيادة في الإيمان به كيف يجوز أن يهدر أذاه إذا فرض عريا عن الكفر أو يسوى بينه وبين غيره؟ أرأيت لو أن رجلا سب أباه وآذاه كانت عقوبته المشروعة مثل عقوبة من سب غير أبيه أم يكون أشد لما قابل الحقوق بالعقوق؟ وقد قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} الآية

ص: 455

وفي مراسيل أبي داود عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ضرب أباه فاقتلوه" وبالجملة فلا يخفى على لبيب أن حقوق الوالدين لما كانت أعظم كان النكال على أذاهما باللسان وغيره أشد مع أنه ليس كفرا فإذا كان قد أوجب له من الحقوق ما يزيد على التصديق وحرم من أنواع أذاه ما لا يستلزم التكذيب فلا بد لتلك الخصائص من عقوبات على الفعل والترك ومما هو كالإجماع من المحققين امتناع أن يسوى بينه وبين غيره في العقوبة على خصوص أذاه وهو ظاهر لم يبق إلا أن يكون القتل جزاء ما قوبل به من حقوقه بالعقوق جزاء وفاقا وأنه لقليل له ولعذاب الآخرة أشد وقد لعن الله مؤذيه في الدنيا والآخرة وأعد له عذابا مهينا.

الطريقة السادسة والعشرون: أنا قد قدمنا من السنة وأقوال الصحابة ما دل على قتل من آذاه بالتزوج بنسائه والتعرض بهذا الباب لحرمته في حياته أو بعد موته وأن قتله لم يكن حد الزنا من وطء ذوات المحارم وغيرهن بل لما في ذلك من أذاه فإما أن يجعل هذا الفعل كفرا أو لا يجعل فإن لم يجعل كفرا فقد ثبت قتل من آذاه مع تجرده عن الكفر وهو المقصود فالأذى بالسب ونحوه أغلظ وإن جعل كفرا فلو فرض أنه تاب منه لم يجز أن يقال: يسقط القتل عنه لأنه يستلزم أن يكون من الأفعال ما يوجب القتل ويسقط بالتوبة بعد القدرة وثبوته عند الإمام وهذا لا عهد لنا به في الشريعة ولا يجوز إثبات مالا نضير له إلا بنص وهو لعمري سمح فإن إظهار التوبة باللسان من فعل تشتهيه النفوس سهل على ذي الغرض إذا أخذ

ص: 456

فيسقط مثل هذا الحد بهذا وإذا لم يسقط القتل الذي أوجبه هذا الأذى عنه فكذلك القتل الذي أوجبه أذى اللسان وأولى لأن القرآن قد غلظ هذا على ذاك والتقدير أن كلاهما كفر فإذا لم يسقط قتل من أتى بالأدنى فأن لا يسقط قتل من أتى بالأعلى أولى.

الطريقة السابعة والعشرون: أنه سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر والبتر: القطع يقال: بتر يبتر بترا وسيف بتار إذا كان قاطعا ماضيا ومنه في الاشتقاق الأكبر تبره تتبيرا إذا أهلكه والتبار: الهلاك والخسران وبين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد لأنهم قالوا: إن محمدا ينقطع ذكره لأنه لا ولد له فبين الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وإن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانئ بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل فإن ذلك سهل على من يخاف السيف.

تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه والاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره وذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي

ص: 457

انقطاع العين والأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه وأثره وإذا اقتضى الشنآن قطع عينه وأثره كان كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شيء يوجب قتل الذمي إلا هو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق وهذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فلا يذكر إلا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى أنه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وإن كان غير فقيه قطع أثر من شنأه من المنافقين وإخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وإن بقيت أعيانهم وقتا ما إذا لم يظهروا الشنآن فإذا أظهروه محقت أعيانهم وآثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا.

يوضح ذلك أن العقوبات التي شرعها الله نكالا مثل قطع السارق ونحوه لا تسقط بإظهار التوبة إذ النكال لا يحصل بذلك فما شرع لقطع صاحبه وبتره ومحقه كيف يسقط بعد الأخذ فإن هذا الفظ يشعر بأن المقصود اصطلام صاحبه واستئصاله واجتياحه وقطع شنآنه وما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته أبعد من كل أحد وهذا بين لمن تأمله والله أعلم.

والجواب عن حججهم: أما قولهم "هو مرتد فيستتاب كسائر المرتدين" فالجواب أن هذا مرتد بمعنى أنه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا بنوبته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقصه في كلامه ارتفع حكم التصديق وصار

ص: 458

بمنزلة اعتراف إبليس لله بالربوبية فإنه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالإيمان بالله وبرسوله قول وعمل أعني بالعمل ما ينبعث عن القول والاعتقاد من التعظيم والإجلال فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار والاستخفاف صار كافرا وكذلك كان قتل النبي كفرا باتفاق العلماء فالمرتد: كل من أتى بعد الإسلام من القول أو العمل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه وإذا كان كذلك فليس كل من وقع عليه اسم المرتد يحقن دمه بالإسلام فإن ذلك لم يثبت بلفظ علم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وإنما جاء عنه وعن أصحابه في ناس مخصوصين أنهم استتابوهم أو أمروا باستتابتهم ثم إنهم أمروا بقتل الساب وقتلوه من غير استتابة.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل العرنيين من غير استتابة وأنه أهدر دم ابن خطل ومقيس بن حبابة وابن أبي سرح من غير استتابة فقتل منهم اثنان وأراد من أصحابه أن يقتلوا الثالث بعد أن جاء تائبا.

فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة تبين لك أن من المرتدين من يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ومنهم من يستتاب وتقبل توبته فمن لم يوجد منه إلا مجرد تبديل الدين وتركه وهو مظهر لذلك فإذا تاب قبلت توبته كالحارث بن سويد وأصحابه والذين ارتدوا في عهد الصديق رضي الله عنه ومن كان مع ردته قد أصاب ما يبيح الدم من قتل مسلم وقطع الطريق وسب الرسول والافتراء عليه ونحو ذلك وهو في دار الإسلام غير ممتنع بفئة فإنه إذا أسلم يؤخذ بذلك الموجب للدم فيقتل للسب وقطع الطريق مع قبول إسلامه

ص: 459

هذه طريقة من يقتله لخصوص السب وكونه حدا من الحدود أو حقا للرسول فإنه يقول: الردة نوعان: ردة مجردة وردة مغلظة والتوبة إنما هي مشروعة في الردة المجردة فقط دون الردة المغلظة وهذه ردة مغلظة وقد تقدم تقرير ذلك في الأدلة.

ثم الكلمة الوجيزة في الجواب أن يقال: جعل الردة جنسا واحدا تقبل توبة أصحابه ممنوع فلا بد له من دليل ولا نص في المسألة والقياس متعذر لوجود الفرق.

ومن يقتله لدلالة السب على الزندقة فإنه يقول: هذا لم يثبت إذا لا دليل يدل على صحة التوبة كما تقدم.

وبهذا حصل الجواب عن احتجاجهم بقول الصدق وتقدم الجواب عن قول ابن عباس وأما استتابة الأعمى أم ولده فإنه لم يكن سلطانا ولم تكن إقامة الحدود واجبة عليه وإنما النظر في جواز إقامته للحد ومثل هذا لا ريب أنه يجوز له أن ينهى الساب ويستتيبه فإنه ليس عليه أن يقيم الحد ولا يمكنه أن يشهد به عند السلطان وحده فإنه لا ينفع ونظيره في ذلك من كان يسمع من المسلمين كلمات من المنافقين توجب الكفر فتارة ينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة ينهي صاحبها ويخوفه ويستتيبه وهو بمثابة من ينهى من يعلم منه الزنا أو السرقة أو قطع الطريق عن فعله لعله يتوب قبل أن يرفع إلى السلطان ولو رفع قبل التوبة لم يسقط حده بالتوبة بعد ذلك.

وأما الحجة الثانية فالجواب عنها من وجوه:

أحدها: أنه مقتول بالكفر بعد الإسلام وقولهم "كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل".

قلنا: هذا ممنوع والآية إنما دلت على قبول توبة من كفر بعد إيمانه

ص: 460

إذا لم يزدد كفرا أما من كفر وزاد على الكفر فلم تدل الآية على قبول توبته بل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} قد يتمسك بها من خالف ذلك على أنه إنما استثنى من تاب وأصلح وهذا لا يكون فيمن تاب بعد أخذه وإنما استفدنا سقوط القتل عن التائب لمجرد توبته من السنة وهي إنما دلت على من جرد الردة مثل الحارث بن سويد ودلت على أن من غلظها كابن أبي سرح يجوز قتله بعد التوبة والإسلام.

الوجه الثاني: أنه مقتول لكونه كفر بعد إسلامه ولخصوص السب كما تقدم تقريره فاندرج في عموم الحديث مع كون السب مغلظا لجرمه ومؤكدا لقتله.

الوجه الثالث: أنه عام قد خص منه تارك الصلاة وغيرها من الفرائض عند من يقتله ولا يكفره وخص منه قتل الباغي وقتل الصائل بالسنة والإجماع فلو قيل "إن السب موجب للقتل بالأدلة التي ذكرناها وهي أخص من هذا الحديث" لكان كلاما صحيحا.

وأما من يحتج بهذا الحديث في الذمي إذا سب ثم أسلم فيقال له: هذا وجب قتله قبل الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد إباحة الدم بعد حقنه بالإسلام ولم يتعرض لمن وجب قتله ثم أسلم أي شيء حكمه ولا يجوز أن يحمل الحديث عليه فإنه إذا حمل على حل الدم بالأسباب الموجودة قبل الإسلام وبعده لزم من ذلك أن يكون الحربي إذا قتل أو زنى ثم شهد شهادتي الحق أن يقتل بذلك القتل والزنى لشمول الحديث على هذا التقدير له وهو باطل قطعا ولا يجوز أن يحمل على أن كل من أسلم لا يحل دمه إلا بإحدى الثلاث إن صدر عنه بعد ذلك لأنه يلزمه أن لا يقتل الذمي لقتل أو زنى

ص: 461

صدر منه قبل الإسلام فعلم أن المراد أن المسلم الذي تكلم بالشهادتين يعصم دمه لا يبيحه بعد هذا إلا إحدى الثلاث ثم لو اندرج هذا في العموم لكان مخصوصا بما ذكرناه من أن قتله حد من الحدود وذلك أن كل من أسلم فإن الإسلام يعصم دمه فلا يباح بعد ذلك إلا بإحدى الثلاث وقد يتخلف الحكم عن هذا المقتضى لمانع من ثبوت حد قصاص أو زنى أو نقض عهد فيه ضرر وغير ذلك ومثل هذا كثيرا في العمومات.

وأما الآية على الوجهين الأولين فنقول: إنما تدل على أن من كفر بعد إيمانه ثم تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم ونحن نقول بموجب ذلك أما من ضم إلى الكفر انتهاك عرض الرسول والافتراء عليه أو قتله أو قتل واحد من المسلمين أو انتهك عرضه فلا تدل الآية على سقوط العقوبة عن هذا على ذلك والدليل على ذلك قوله سبحانه: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فإن التوبة عائدة إلى الذنب المذكور والذنب المذكور هو الكفر بعد الإيمان وهذا أتى بزيادة على الكفر توجب عقوبة بخصوصها كما تقدم والآية لم تتعرض من للتوبة من غير الكفر ومن قال "هو زنديق" قال: أنا لا أعلم أن هذا تاب ثم إن الآية إنما استثنى فيها من تاب وأصلح وهذا الذي رفع إليّ لم يصلح وأنا لا أؤخر العقوبة الواجبة عليه إلى أن يظهر صلاحه نعم الآية قد تعم من فعل ذلك ثم تاب وأصلح قبل أن يرفع إلى الإمام وهذا قد يقول كثير من الفقهاء بسقوط العقوبة على أن الآية التي بعدها قد تشعر بأن المرتد قسمان: قسم تقبل توبته وهو من كفر فقط وقسم لا تقبل توبته وهو من كفر ثم ازداد كفرا قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وهذه الآية وإن كان قد تأولها أقوام على من ازداد كفرا إلى أن عاين الموت فقد يستدل بعمومها

ص: 462

على هذه المسألة فقال: من كفر بعد إيمانه وازداد كفرا بسب الرسول ونحوه لم تقبل توبته خصوصا من استمر به ازدياد الكفر إلى أن ثبت عليه الحد وأراد السلطان قتله فهذا قد يقال: إنه ازداد كفرا إلى أن رأى أسباب الموت وقد يقال فيه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} إلى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وأما قوله سبحانه وتعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فإنه يغفر لهم ما قد سلف من الآثام وأما من الحدود الواجبة على مسلم مرتد أو معاهد فإنه يجب استيفاؤها بلا تردد على أن سياق الكلام يدل أنها في الحربي.

ثم نقول: الانتهاء إنما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فمن لم يتب حتى أخذ فلم ينته ويقال أيضا: إنما تدل الآية على أنه يغفر لهم وهذا مسلم وليس كل من غفر له سقطت العقوبة عنه في الدنيا فإن الزاني أو السارق لو تاب توبة نصوحا غفر الله له ولا بد من إقامة الحدود عليه وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" كقوله: "التوبة تجب ما قبلها" ومعلوم أن التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد كما دل عليه القرآن وذلك أن الحديث خرج جوابا لعمرو بن العاص لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن التوبة تهدم ما كان قبلها وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" فعلم أنه عنى

ص: 463

بذلك أنه يهدم الآثام الذنوب التي سأل عمرو مغفرتها ولم يجر للحدود ذكر وهي لا تسقط بهذه الأشياء بالاتفاق وقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث ابن أبي سرح أن ذنبه سقط بالإسلام وأن القتل إنما سقط عنه يعفو النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ولو فرض أنه عام فلا خلاف أن الحدود لا تسقط عن الذمي بإسلامه وهذا منها كما تقدم.

وأما قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} فالجواب عنها من وجوه:

أحدها: أنه ليس في الآية دليل على أن هذه الآية نزلت فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وإنما فيها أنها نزلت في المنافقين وليس كل منافق يسبه ويشتمه فإن الذي يشتمه من أعظم المنافقين وأقبحهم نفاقا وقد ينافق الرجل بأن لا يعتقد النبوة وهو لا يشتمه كحال كثير من الكفار ولو أن كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما ولاستحالت هذه المسألة وليس الأمر كذلك فإن الشتم قدر زائد على النفاق والكفر على ما لا يخفى وقد كان ممن هو كافر من يحبه ويوده ويصطنع إليه المعروف خلق كثير وكان ممن يكف عنه أذاه من الكفار خلق أكثر من أولئك وكان ممن يحاربه ولا يشتمه خلق آخرون بل الآية تدل على أنها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فإنه سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} إلى قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}

ص: 464

فليس في هذا ذكر سب وإنما فيه ذكر استهزاء ومن الاستهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا ولا شتما للرسول.

وفي هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها إلا أن يقال: تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه وهذا ليس بجيد.

الوجه الثاني: أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم يتكلم وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه وأما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم.

يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب وإن لم يتب صاحبه كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} والكفر لا يعفى عنه فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا أو غير ذلك وعلى هذا فتكون الآية دالة على أنه لا بد من تعذيب أولئك المستهزئين وهو دليل على أنه لا توبة لهم لأن من أخبر الله بأنه يعذب وهو معين امتنع أن يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح أن يجعل هذا دليلا في المسألة.

الوجه الثالث: أنه سبحانه وتعالى أخبر أنه لا بد أن تعذب طائفة من هؤلاء إن عفا عن طائفة وهذا يدل على أن العذاب واقع بهم لا محالة وليس فيه ما يدل على وقوع العفو لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل وأما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو وهو بتقدير عدمه أوقع فعلم أنه لا بد من التعذيب: إما عاما أو خاصا لهم ولو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لأنهم إذا تابوا لم يعذبوا وإذا ثبت أنهم لا بد أن

ص: 465

يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم وإنه يحرم تعذيبهم إذا أظهروها وسواء أراد بالتعذيب التعذيب بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين لأنه سبحانه وتعالى أمر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار والمنافقين فكان من أظهره عذب بأيدي المؤمنين ومن كتمه عذبه الله بعذاب من عنده وفي الجملة فليس في الآية دليل على أن العفو واقع وهذا كاف هنا.

الوجه الرابع: أنه إن كان في هذه الآية دليل على قبول توبتهم فهو حق وتكون هذه التوبة إذا تابوا قبل أن يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآيتين فإنها دليل على أن من لم ينته حتى أخذ فإنه يقتل وعلى هذا فلعله والله أعلم عنى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} وهم الذين أسروا النفاق حتى تابوا منه: {نُعَذِّبْ طَائِفَة} وهم الذين أظهروه حتى أخذوا فتكون دالة على وجوب تعذيب من أظهره.

الوجه الخامس: أن هذه الآية تضمنت أن العفو عن المنافق إذا أظهر النفاق وتاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} كما أسلفناه وبيناه.

ويؤيده أنه قال: {إِنْ نَعْفُ} ولم يبت وسبب النزول يؤيد أن النفاق ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كان في غزوة تبوك قبل أن تنزل براءة وفي عقبها نزلت سورة براءة فأمر فيها بنبذ العهود إلى المشركين وجهاد الكفار والمنافقين.

فالجواب عما احتج به منها من وجوه:

أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما ذكر أنهم قالوا كلمة الكفر وهموا بما لم ينالوا وليس في هذا ذكر للسب والكفر أعم من السب ولا يلزم من ثبوت

ص: 466

الأعم ثبوت الأخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على أنها نزلت فيمن سب فيبطل هذا.

الوجه الثاني: أنه سبحانه وتعالى إنما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا وهذا حال من أنكر أن يكون تكلم بكفر وحلف على إنكاره فأعلم الله نبيه أنه كاذب في يمينه وهذا كان شأن كثير ممن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم عنه الكلمة من النفاق ولا تقوم عليه به بينة ومثل هذا لا يقام عليه حد إذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحكم في الحدود ونحوها بالظاهر والذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها إنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما قالوه بخبر واحد إما حذيفة أو عامر بن قيس أو زيد بن أرقم أو غير هؤلاء أو أنه أوحي إليه وحي بحالهم وفي بعض التفاسير أن المحكي عنه هذه الكلمة الجلاس بن سويد اعترف بأنه قالها وتاب من ذلك من غير بينة قامت عليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه وهذا كله دلالة واضحة على أن التوبة من مثل هذا مقبولة وهي توبة من ثبت عليه نفاق وهذا لا خلاف فيه إذا تاب فيما بينه وبين الله سرا كما نافق سرا أنه تقبل توبته ولو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم ولتوبته منه من غير أن تقوم عليه بينه بالنفاق قبلت توبته أيضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنى أو سرقة ولم يثبت عليه على الصحيح وأولى من ذلك وأما من ثبت نفاقه بالبينة فليس في الآية ولا فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على قبول توبته بل وليس في نفس الآية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز أن يحمل على توبته فيما بينه وبين الله فإن ذلك نافع وفاقا وإن أقيم عليه الحد كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ

ص: 467

سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} وقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} إلى غير ذلك من الآيات مع أن هذا لا يوجب أن يسقط الحد الواجب بالبينة عمن أتى فاحشة موجبة للحد أو ظلم نفسه بشرب أو سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينه أو إقرار "ليس في الآية ما يدل على سقوط الحد عنه" لكان لقوله مساغ.

الوجه الثالث: أنه قال سبحانه وتعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية وهذا تقرير لجهادهم وبيان لحكمته وإظهار لحالهم المقتضي لجهادهم فإن ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على أنه علة له وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} وصف لهم وهو مناسب لجهادهم فإن كونهم يكذبون في أيمانهم ويظهرون الإيمان ويبطنون الكفر موجب للإغلاظ عليهم بحيث لا يقبل منهم ولا يصدقون فيما يظهرونه من الإيمان بل ينتهرون ويرد ذلك عليهم.

وهذا كله دليل على أنه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد أخذه إذ لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي أنه لم يكفر وفيما يخبره من الحاضر أنه ليس بكافر فإذا بين سبحانه وتعالى من حالهم ما يوجب أن لا يصدقوا وجب أن لا يصدق

ص: 468

في إخباره أنه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لكن بشرط أن يظهر كذبه فيها فأما بدون ذلك فإنا لم نأمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم وعلى هذا فقوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} أي قبل ظهور النفاق وقيام البينة به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع وللتوبة موضع وإلا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية.

الوجه الرابع: أنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وفسر ذلك في قوله تعالى: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} وهذا يدل على أن هذه التوبة قبل أن نتمكن من تعذيبهم بأيدينا لأن من تولى عن التوبة حتى أظهر النفاق وشهد عليه به وأخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا والقتل عذاب أليم فيصلح أن يعذب به لأن المتولي أبعد أحواله أن يكون ترك التوبة إلى أن لا يتركه الناس لأنه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لأن عذاب الدنيا قد فات فلا بد أن يكون التولي ترك التوبة وبينه وبين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد الأخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ومن تأمل هذه الآية والتي قبلها وجدهما دالتين على أن التوبة بعد أخذه لا ترفع عذاب الله عنه.

وأما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله وإن تضمنت التوبة من

ص: 469

عرض الرسول فنقول أولا وإن كان حق هذا الجواب أن يؤخر إلى المقدمة الثانية: هذا القدر لا يمنع إقامة الحد عليه إذا رفع إلينا ثم أظهر التوبة بعد ذلك كما أن الزاني والشارب وقاطع الطريق إذا تاب فيما بينه وبين الله قبل أن يرفع إلينا قبل الله توبته وإذا اطلعنا عليه ثم تاب فلا بد من إقامة الحد عليه ويكون ذلك من تمام توبته وجميع الجرائم من هذا الباب.

وقد يقال: إن المنتهك لأعراض الناس إذا استغفر لهم ودعا لهم قبل أن يعلموا بذلك رجي أن يغفر الله له على ما في ذلك من الخلاف المشهور ولو ثبت ذلك عند السلطان ثم أظهر التوبة لم تسقط عقوبته وذلك أن الله سبحانه لا بد أن يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فإذا كان عليه تبعات للخلق فعليه أن يخرج منها جهده ويعوضهم عنها ما يمكنه ورحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع أن نقيم عليه الحد إذا ظهرنا عليه ونحن إنما نتكلم في التوبة المسقطة للحد والعقوبة لا في التوبة الماحية للذنب.

ثم نقول ثانيا: إن كان ما أتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين وناقضي العهد من سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم وانتهاك أعراضهم فإنهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب إباحة ذلك ثم إذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبه المتعلق بحق الله وحق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب اعتقاده إذا تاب منه مع أن المرتد أو الناقض متى فعل شيئا من ذلك قبل الامتناع أقيم عليه حده وإن عاد إلى الإسلام سواء كان لله أو لآدمي فيحد على الزنا والشرب وقطع الطريق وإن كان في زمن الردة ونقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه بملك اليمين إذا قهر مسلمة على نفسها ويعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم

ص: 470

كما يؤخذ منه القود وحد القذف وإن كان يعتقد حلهما ويضمن ما أتلفه من الأموال وإن اعتقد حلها.

والحربي الأصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام فكان الفرق أن ذاك كان ملتزما بأيمانه وأمانه أن لا يفعل شيئا من ذلك فإذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الأصل ولأن في إقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الأصل فإن ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام ولأن الحربي الأصل ممتنع وهذان ممكنان.

وكذلك قد نص الإمام أحمد على أن الحربي إذا زنى بعد الأسر أقيم عليه الحد لأنه صار في أيدينا كما أن الصحيح عنه وعن أكثر أهل العلم أن المرتد إذا امتنع لم تقم عليه الحدود لأنه صار بمنزلة الحربي إذ الممتنع يفعل هذه الأشياء باعتقاد وقوة من غير زاجر له ففي إقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير وإغلاق لباب التوبة عليهم وهو بمنزلة تضمين أهل الحرب سواء وليس هذا موضع استقصاء هذا وإنما نبهنا عليه وإذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد والناقض إذا آذيا الله ورسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما إذا حاربا باليد في قطع الطريق أو زنيا وتابا بعد أخذهما وثبوت الحد عليهما ولا فرق بينهما وذلك لأن الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الأمور في دينه وإن كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له.

وكذلك المرتد قد كان يعتقد أن هذه الأمور محرمة فاعتقاده إباحتها إذا لم يتصل به قوة ومنعه ليس عذرا له في أن يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق ولما هو به من الضعف ولما في سقوط الحد عنه من الفساد وإن

ص: 471

كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته أو سبه بأكبر مما يوجبه اعتقاده أو بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة إبليس وهو من نوع العناد أو السفه وهو بمنزلة من شتم بعض المسلمين أو قتلهم وهو يعتقد أن دمائهم وأعراضهم حرام.

وقد اختلف الناس في سقوط حد المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا أو غيره فمن اعتقد أن التوبة لا تسقط حق الآدمي له أن يمنع هنا أن توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الإطلاق وله أن يقول: إن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يطالب هذا بشتمه مع علمه بأنه حرام كسائر المؤمنين لهم أن يطالبوا شاتمهم وسابهم بل ذلك أولى وهذا القول قوي في القياس وكثير من الظواهر تدل عليه.

ومن قال "هذا من باب السب والغيبة ونحوهما مما يتعلق بأعراض الناس وقد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء والاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما يأخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له واستغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب أو شتم فليكثر من الصلاة والتسليم ويقابلها بضدها" فمن قال: "إن ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا وباطنا" أدخله في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" ومن قال: "لا بد من القصاص" قال: قد أعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص وليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا وإنما الغرض أن الحد لا يسقط بالتوبة لأنه إن كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الآخرة وهي لا تسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم وإن كانت من غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف.

ص: 472

فإن قيل: "لا يسقط" فلا كلام وإن قيل: "يسقط الحق ولم يسقط الحد كتوبة الأول وأولى" فحاصله أن الكلام في مقامين:

أحدهما: أن هذه التوبة إذا كانت صحيحة نصوحا فيما بينه وبين الله هل يسقط معها حق المخلوق؟ وفيه تفصيل وخلاف فإن قيل: "لم يسقط" فلا كلام وإن قيل: "يسقط" فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر أنواع الفساد وتلك التوبة إذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود وإن كانت تجب الإثم في الباطن.

وحقيقة هذا الكلام أن قتل الساب ليس لمجرد الردة ومجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظة ونقض مغلظ بالضرر ومثله لا يسقط موجبه بالتوبة لأنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا أو هو من جنس الزنا والسرقة أو هو من جنس القتل والقذف فهذه حقيقة الجواب وبه يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة.

ثم نبينه مفصلا فنقول: أما قولهم: "إن ما جاء به من الإيمان به ماح لما أتى به من هتك عرضه" فنقول: إن كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه وأما من زاد على موجب الاعتقاد أو أتى بضده وهم أكثر السابين فقد لا يسلم أن ما يأتي به من التوبة ماح إلا بعد عفوه بل يقال: له المطالبة وإن سلم ذلك فهو كالقسم الأول وهذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة.

وأما قولهم: "حقوق الأنبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجوب فتبعته في السقوط" فنقول: هذا مسلم إن كان السب موجب اعتقاد وإلا ففيه الخلاف وأما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد أو غير اعتقاد فإن التائب من اعتقاد الكفر وموجباته والتائب من الزنا

ص: 473

سواء ومن لم يسو بينهما قال: ليست أعظم من حق الله إذا لم يسقط في الباطن بسقوطه ولكن الأمر إلى مستحقها: إن شاء جزى وإن شاء عفا ولم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه قد أعلمنا أنه يغفر لكل من تاب.

وأيضا فإن مستحقها من جنس تلحقهم المضرة والمعرة بهذا ويتألمون به فجعل الأمر إليهم والله سبحانه وتعالى إنما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فإنه لا ينتفع بالطاعة ولا يستضر بالمعصية فإذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما أراده ربه منه فلما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر ولهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله ونعت حق سائر العباد وإنما يكون حقهم مندرجا في حق الله إذا صدر عن اعتقاد فإنهم لما وجب الإيمان بنبوتهم صار كالإيمان بوحدانية الله فإذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما إذا لم يقر بوحدانية الله وصار الكفر بذلك كفرا برسالات الله ودينه وغير ذلك فإذا كان السب موجبا بذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة أو النبوة ونحو ذلك وتاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث وإذا زاد على ذلك مثل قدح في نسب أو وصف لمساوي الأخلاق أو فاحشة أو غير ذلك مما يعلم هو أنه باطل أو لا يعتقد صحته أو كان مخالفا للاعتقاد مثل أن يحسد أو يتكبر أو يغضب لفوات غرض أو حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب فهنا إذا تاب لم يتجدد له اعتقاد أزال موجب السب إنما غير نيته وقصده وهو قد آذاه فهذا السب إذا يتألم به البشر ولم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو لحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله وبين خلقه فوجب قتله وهو كحق البشر من حيث أنه آذى آدميا يعتقد أنه لا يحل أذاه فلذلك كان له أن يطالبه بحق أذاه وأن يأخذ من حسناته بقدر أذاه وليست له حسنة تزن ذلك إلا ما يضاد السب من الصلاة والتسليم ونحوهما وبهذا يظهر أن

ص: 474

التوبة من سب صدر من غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر ثم هو حق متعلق بالنبوة لا محالة فهذا قول هذا القائل وإن كنا لم نرجح واحدا من القولين.

ثم إذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي يقول: إن حقوق الله تسقط عن المرتد وناقض العهد بالتوبة؟ فإنا قد بينا أن هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة وإنما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة والنقض المجرد وهذا ليس كذلك.

وأما قوله: "إن الرسول يدعوا الناس إلى الإيمان به ويخبرهم أن الإيمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه" فنقول: هذا جيد إذا كان السب موجب الاعتقاد فقط لأنه هو الذي اقتضاه ودعاه إلى الإيمان به فإنه من أزال اعتقاد الكفر به باعتقاد الإيمان به زال موجبه أما من زاد على ذلك وسبه بعد أن آمن به أو عاهده فلم يلتزم أن يعفو عنه وقد كان له أن يعفو وله أن لا يعفو والتقدير المذكور في السؤال إنما يدل على سب أوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الإيمان لأنه هو الذي كان يدعو إليه الكفر وقد زال بالإيمان وأما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبين سب سائر الناس من هذه الجهة وذلك أن الساب إن كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول أو لواحد من الناس من هذه الجهة وإن كان مسلما أو ذميا فإذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فإن تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل وينهاه عنه وإن لم يرفع موجبه فإن موجب هذا السب لم يكن الكفر به إذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فريه عليه يعلم أنها فرية ونحو ذلك لكن إذا أسلم الساب فقد عظم في قلبه عظمة تمنعه أن يفتري عليه كما أنه إذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته وجاز أن

ص: 475

لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب كان شيئا غير الكفر وقد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما يضعف هذه التوبة عن موجب الأذى وفرق بين ارتفاع الأمر بارتفاع سببه أو بوجود ضده فإن ما أوجبه الاعتقاد إذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده إلا بعود السبب وما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية ونحوها على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره يرفعها الإسلام والتوبة رفع الضد للضد إذ قبح هذا الأمر وسوء عاقبته والعزم الجازم على فعل ضده وتركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين أنه لا فرق في الحقيقة بين أن يتوب من سب لم يوجبه مجرد الكفر بالإيمان به الموجب لعدم ذلك السب وبين أن يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبة لعدم ذلك السب.

واعتبر هذا برجل له غرض في أمر فزجر عنه وقيل له: هذا قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إليه فحمله فرط الشهوة وقوة الغضب لفوات المطلوب على أن لعن وقبح فيما بينه وبين الله مع أنه لا يشك في النبوة ثم إنه جدد إسلامه وتاب وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل باكيا من كلمته ورجل أراد أن يأخذ مال مسلم بغير حق فمنعه منه فلعن وقبح سرا ثم إنه تاب من هذا واستغفر لذلك الرجل ولم يزل خائفا من كلمته أليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته؟ وإن كانت توبة هذا يجب أن تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من إنما يلعن ويقبح من يعتقده كذابا ثم تبين له أنه كان ضالا في ذلك الاعتقاد وكان في مهواة التلف فتاب ورجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فإنه يندرج فيه جميع ما أوجبه.

ومما يقرر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغه سب مرتد أو معاهد سئل أن يعفو عنه بعد الإسلام ودلت سيرته على جواز قتله بعد

ص: 476

إسلامه وتوبته ولو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم أنه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين.

فهذا الكلام في توبة الساب فيما بينه وبين الله هل تسقط حق الرسول أم لا؟ وبكل حال سواء أسقطت أم لم تسقط لا يقتضي ذلك أن إظهارها مسقط للحد إلا أن يقال: هو مقتول لمحض الردة أو محض نقض العهد فإن توبة المرتد مقبولة وإسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل.

وقد قدمنا فيما مضى بالأدلة القاطعة أن هذا مقتول لردة مغلظة ونقض مغلظ بمنزلة من حارب وسعى في الأرض فسادا.

ثم من قال: "يقتل حقا لآدمي" قال: العقوبة إذا تعلق بها حقان حق لله وحق لآدمي ثم تاب سقط حق الله وبقي حق الآدمي من القود وهذا التائب إذا تاب سقط حق الله وبقي حق الآدمي.

ومن قال: "يقتل حدا لله" قال: هو بمنزلة المحارب وقد يسوى بين من سب الله وبين من سب الرسول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقولهم في المقدمة الثانية: "إذا أظهر التوبة وجب أن نقبلها منه" قلنا: هذا مبني على أن هذه التوبة مقبولة مطلقا وقد تقدم الكلام فيه.

ثم الجواب هنا من وجهين:

أحدهما: القول بموجب ذلك فإنا نقبل منه هذه التوبة ونحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف ونحكم بعدالته ونقبل توبة السارق وغيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه ومن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء من الحدود الواجبة بقدر زائد على الردة أو النقض ومن تاب قبلها لم تسقط

ص: 477

عنه حقوق العباد إذا قبلنا توبته أن يطهر بإقامة الحد عليه كسائر هؤلاء وذلك أنا نحن لا ننازع في صحة توبته ومغفرة الله له مطلقا فإن ذلك إلى الله وإنما الكلام في: هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه وليس في الحديث ما يدل على ذلك فإنا قد نقبل إسلامه وتوبته ونقيم عليه الحد تطهيرا له وهذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه.

الثاني: أن هذا الحديث في قبول الظاهر إذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي وهنا قد ثبت خلافه وهذا جواب من يقتله لزندقته وقد يجيب به من يقتل الذمي أيضا بناء على أنه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه.

وأما إسلام الحربي والمرتد ونحوهما عند معاينة القتل فإنما جاز لأنا إنما نقاتلهم لأن يسلموا ولا طريق إلى الإسلام إلا ما يقولونه بألسنتهم فوجب قبول ذلك منهم وإن كانوا في الباطن كاذبين وإلا لوجب قتل كل كافر أسلم أو لم يسلم ولا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما وهذا باطل ثم إنه قد يسلم الآن كارها ثم إن الله يحبب إليه الإيمان ويزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال ونحوه أو لرهبته من السيف ونحوه ولا دليل يدل على فساد الإسلام إلا كونه مكرها عليه بحق وهذا لا يلتفت إليه.

أما هنا فإنما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس أو لزناه بمسلمة وكما نقتل المرتد لقتله مسلما ولقطعه الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بإرادة قتله أن يسلم ولا تجب مقاتلته على أن يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما آذانا ونكالا لأمثاله على مثل هذه الجريمة فإذا أسلم فإن صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد

ص: 478

أو الناقض إذا أسلم بعد القدرة وقد قتل فإنه يقتل وفاقا فيما علمناه وإن حكم بصحة إسلامه وإن لم يصحح إسلامه فالفرق بينه وبين الحربي والمرتد من وجهين:

أحدهما: أن الحربي والمرتد لم يتقدم منه ما دل على أن باطنه بخلاف ظاهره بل إظهاره للردة لما ارتد دليل على أن ما يظهره من الإسلام صحيح وهذا ما زال مظهر للإسلام وقد أظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك وكذلك ناقض العهد قد عاهدنا على أن لا يسب وقد سب فثبتت جنايته وغدره فإذا أظهر الإسلام بعد أن أخذ ليقتل كان أولى أن يخون ويغدر فإنه كان ممنوعا من إظهار السب فقط وهو لم يف بذلك فكيف إذا أصبح ممنوعا من إظهاره وإسراره؟ ولم يكن له عذر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فإذا لم يف به صار من المنافقين في العهد.

الثاني: أن الحربي أو المرتد نحن نطلب منه أن يسلم فإذا أعطانا ما أردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه والحكم بصحته والساب لا نطلب منه إلا القتل عينا فإذا أسلم ظهر أنما أسلم ليدرأ عن نفسه القتل الواجب عليه كما إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه أو أسلم أو تاب سائر الجناة بعد أخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله.

وحقيقة الأمر أن الحربي والمرتد يقتل لكفر حاضر ويقاتل ليسلم فلا يمكن أن يظهر وهو مقاتل أو مأخوذ الإسلام إلا مكرها فوجب قبوله منه إذ لا يمكن بذله إلا هكذا وهذا الساب والناقض لم يقتل لمقامه على الكفر أو كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الأدلة

ص: 479

الدالة على أن السب مؤثر في قتله ويكون قد بذل التوبة التي لم تطلب منه في حال الأخذ للعقوبة فلا تقبل منه.

وعلى هذين المأخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله.

أحدهما: لا يحكم بصحة إسلامه وهو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية.

والثاني: يحكم بصحة إسلامه وعليه يدل كلام الإمام أحمد وأصحابه في الذمي مع وجوب إقامة الحد وأما المسلم إذا سب ثم قتل بعد أن أسلم فمن قال: "يقتل عقوبة على السب لكونه حق آدمي أو حدا محضا لله" قال بصحة هذا الإسلام وقبله وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم وهو قول من قال يقتل من أصحاب الشافعي.

وكذلك من قال: "يقتل من سب الله" ومن قال: "يقتل لزندقته" أجرى عليه إذا قتل بعد إظهار الإسلام أحكام الزنادقة وهو قول كثير من المالكية وعليه يدل كلام بعض أصحابنا وعلى ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر الإسلام من المنافقين فإن الحجة إما أن تكون في قبول ظاهر الإسلام منهم في الجملة فهذا لا حجة فيه من أربعة أوجه قد تقدم ذكرها.

أحدها: أن الإسلام إنما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه وكانوا ينكرون أنهم تكلموا بخلافه فأما أن البينة تقوم عند رسول الله عليه الصلاة والسلام على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط إلا أن يكون في بادئ الأمر.

الثاني: أنه كان في أول الأمر مأمورا في مبادئ الأمر أن يدع أذاهم

ص: 480

ويصبر عليهم لمصلحة التأليف وخشية التنفير إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} .

الثالث: أنا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام ونقيم عليه حد السب كما لو أتى حدا غيره وهذا جواب من يصحح إسلامه ويقتله حدا لفساد السب.

الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتب أحدا منهم ويعرضه على السيف ليتوب ممن مقالة صدرت منه مع أن هذا مجمع على وجوبه فإن الرجل منهم إذا شهد عليه بالكفر والزندقة فإما أن يقتل عينا أو يستتاب فإن لم يتب وإلا قتل.

وأما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما أعلم به قائلا بل أقل ما قيل فيه أنه يكتفي منهم بالنطق بالشهادتين والتبري من تلك المقالة فإذا لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم أن ترك هذا الحكم لفوات شرطه وهو إما ثبوت النفاق أو العجز عن إقامة الحد أو مصلحة التأليف في حال الضعف حتى قوي الدين فنسخ ذلك.

وإن كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خامس وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يعفو عمن شتمه في حياته وليس هذا العفو لأحد من الناس بعده.

وأما تسمية الصحابة الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه وليس كل من نقض العهد وحارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما أو قطع الطريق عليه أو زنى بمسلمة بل تسميته محاربا مع كون السب فسادا يوجب دخوله في حكم الآية كما تقدم.

ص: 481

وأما الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الأولى لما ذكرنا قصصهم وبينا أن السب غلب فيه حق الرسول إذا علم فله أن يعفو وأن ينتقم وليس في هؤلاء ما يدل على أن العقوبة إنما سقطت عنهم مع عفوه وصفحه لمن تأمل أحوالهم معه والتفريق بينهم وبين من لم يهجه ولم يسبه.

وأيضا فهؤلاء كانوا محاربين والحربي لا يؤخذ بما أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والمسلم والمعاهد يؤخذ بذلك.

وقولهم: "الذمي يعتقد حل السب كما يعتقده الحربي وإن لم يعتقد حل الدم والمال" غلط فإن عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا وأوجب عليهم الكف عن أن يسبوا نبينا كما منعهم دماءنا وأموالنا وأبلغ فهو إن لم يعتقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحن لم نعاهد على أن نكف عن سب دينهم الباطل وإظهار معايبهم بل عاهدناهم على أن يظهروا في دارنا ما شئنا وأن يلتزموا جريان أحكامنا عليهم وإلا فأين الصغار؟.

وأما قولهم: "الذمي إذا سب فإما أن يقتل لكفره وحرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود" قلنا: هذا تقسيم منتشر بل يقتل لكفره وحرابه بعد الذمة وليس من حارب بعد الذمة بمنزلة الحربي الأصلي فإن الذمي إذا قتل مسلما اجتمع عليه أنه نقض العهد وأنه وجب عليه القود فلو عفا ولي الدم قتل لنقض العهد بهذا الفساد وكذلك سائر الأمور المضرة بالمسلمين يقتل بها الذمي إذا فعلها وليس حكمه فيها كحكم الحربي الأصلي إجماعا وإذا قتل لحرابه وفساده بعد العهد فهو حد من الحدود فلا تنافي بين الوصفين حتى يجعل أحدهما قسيما للآخر وقد بينا بالأدلة الواضحة أن قتله

ص: 482

ليس لمجرد كونه كافرا غير ذي عهد بل حد أو عقوبة على سب نبينا الذي أوجبت عليه الذمة تركه والإمساك عنه مع أن السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه وأنه يصير بالسب محاربا غادرا وليس هو كحد الزنا ونحوه مما لا مضرة علينا فيه وإنما أشبه الحدود به حد المحاربة.

وأما قولهم "ليس في السب أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لا يوجب إلا الجلد" ففي الكلام عنه ثلاثة أجوبة:

أحدها: أن هذا كلام في رأس المسألة فإنه إذا لم يوجب إلا الجلد والأمور الموجبة للجلد لا تنقض العهد لم ينتقض العهد به كسب بعض المسلمين وقد قدمنا الدلالات التي لا تحل مخالفتها على وجوب قتل الذمي إذا فعل ذلك وأنه لا عهد له يعصم دمه مع ذلك وبينا أن انتهاك عرض عموم المسلمين يوجب الجلد وأما انتهاك عرض الرسول فإنه يوجب القتل وقد صولح على الإمساك عن العرضين فمتى انتهك عرض الرسول فقد أتى بما يوجب القتل مع التزامه أن لا يفعله فوجب أن يقتل كما لو قطع الطريق أو زنى والتسوية بين عرض الرسول وعرض غيره في مقدار العقوبة من أفسد القياس.

والكلام في الفرق بينهما يعد تكلفا فإنه عرض قد أوجب الله على جميع الخلق أن يقابلوه من الصلاة والسلام والثناء والمدحة والمحبة والتعظيم والتعزير والتوقير والتواضع في الكلام والطاعة للأمر ورعاية الحرمة في أهل البيت والأصحاب بما لا خفاء به على أحد من علماء المؤمنين عرض به قام دين الله وكتابه وعباده المؤمنون به وجبت الجنة لقوم والنار لآخرين به كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس عرض قرن الله ذكره بذكره وجمع بينه وبينه في كتابة واحدة وجعل بيعته بيعة له وطاعته

ص: 483

طاعة له وأذاه أذى له إلى خصائص لا تحصى ولا يقدر قدرها أفيليق لو لم يكن سبه كفرا أن تجعل عقوبة منتهك هذا العرض كعقوبة منتهك عرض غيره؟.

ولو فرضنا أن لله نبينا بعثه إلى أمة ولم يوجب على أمة أخرى أن يؤمنوا به عموما ولا خصوصا فسبه رجل ولعنه عالما بنبوته إلى أولئك أفيجوز أن يقال: إن عقوبته وعقوبة من سب واحدا من المؤمنين سواء؟ هذا أفسد من قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.

قولهم: "الذمي يعتقد حل ذلك" قلنا: لا نسلم فإن العهد الذي بيننا وبينه حرم عليه في دينه السب كما حرم عليه دماءنا وأموالنا وأعراضنا فهو إذا أظهر السب يدري أنه قد فعل عظيمة من العظائم التي لم نصالحه عليها ثم إن كان يعلم أن عقوبة ذلك عندنا القتل فبها وإلا فلا يجب لأن مرتكب الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى أو سرق أو شرب أو قذف أو قطع الطريق فإنه إذا علم تحريم ذلك عوقب العقوبة المشروعة وإن كان يظن أن لا عقوبة على ذلك وأن عقوبته دون ما هو مشروع.

وأيضا فإن دينهم لا يبيح لهم السب واللعنة للنبي وإن كان دينا باطلا أكثر ما يعتقدون أنه ليس بنبي أو ليس عليهم إتباعه أما أن يعتقدوا أن لعنته وسبه جائزة فكثير منهم أو أكثرهم لا يعتقدون ذلك على أن السب نوعان أحدهما: ما كفروا به واعتقدوه والثاني: ما لم يكفروا به فهذا الثاني لا ريب أنهم لا يعتقدون حله.

وأما قولهم: "صولح على ترك ذلك فإذا فعله انتقض العهد" فإنه إذا فعله انتقض عهده وعوقب على نفس تلك الجريمة وإلا كان يستوي حال من ترك العهد ولحق بدار الحرب من غير أذى لنا وحال من قتل وسرق وقطع الطريق وشتم الرسول مع نقض العهد وهذا لا يجوز.

ص: 484

وأما قولهم: "كون القتل حدا حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي" فصحيح وقد تقدمت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والأثر والنظر الدالة على أن نفس السب من حيث خصوصيته موجب للقتل ولم يثبت ذلك استحسانا صرفا واستصلاحا محضا بل أثبتناه بالنصوص وآثار الصحابة وما دل عليه إيماء الشارع وتنبيهه وبما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الخصوصية لهذا السب والحرمة لهذا العرض التي يوجب أن لا يصونه إلا القتل لا سيما إذا قوي الداعي على انتهاكه وخفة حرمته بخفة عقابه وصغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا إذا ساوى في قدر العرض زيدا وعمروا وتمضمض بذكره أعداء الدين من كافر غادر ومنافق ماكر فهل يستريب من قلب الشريعة ظهرا لبطن أن محاسنها توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين وحرمتها متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس؟ مع قطع النظر عن الكفر والارتداد فإنهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد ولسنا الآن نتكلم في المصالح المرسلة فإنا لم نحتج إليها في هذه المسألة لما فيها من الأدلة الخاصة الشرعية وإنما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا لحكمة الشرع لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقيادا والنفوس إذا ما تطلع على مصلحته أعطش أكبادا ثم لو لم يكن في المسألة نص ولا أثر لكان اجتهاد الرأي يقضي بأن يجعل القتل عقوبة هذا الجرم لخصوصه لا لعموم كونه كفرا أو ردة حتى لو فرض تجرده عن ذلك لكان موجبا للقتل أخذا له من قاعدة العقوبات في الشرع فإنه يجعل أعلى العقوبات في مقابلة أرفع الجنايات وأوسطها في مقابلة أوسطها وأدناها في مقابلة أدناها فهذه الجناية إذا انفردت تمتنع أن تجعل في مقابلة الأذى فتقابل بالجلد أو الحبس تسوية بينها وبين الجناية على عرض زيد وعمرو فإنه لا يخفى على من له أدنى نظر بأسباب الشرع أن هذا من أفسد أنواع الاجتهاد ومثله في الفساد خلوها من عقوبة تخصها

ص: 485

وأما جعله في الأوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي أمية حتى قطع يد الجارية السابة وقلع ثنيتها فباطل أيضا كما أنكره عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الجناية جناية على أشرف الحرمات ولأنه لا مناسبة بينها وبين أوسط العقوبات من قطع عضو من الأعضاء فتعين أن تقابل بأعلى العقوبات وهو القتل.

ولو نزلت بنا نازلة السب وليس معنا فيها أثر يتبع ثم استراب مستريب في أن الواجب إلحاقها بأعلى الجنايات لما عد من بصراء الفقهاء ومثل هذه المصلحة ليست مرسلة بحيث أن لا يشهد لها الشرع بالاعتبار فإذا فرض أنه ليس لها أصل خاص تلحق به ولا بد من الحكم فيها فيجب أن يحكم فيها بما هو أشبه بالأصول الكلية وإذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة والله لا يحب الفساد.

ولا شك أن العلماء في الجملة من أصحابنا وغيرهم قد يختلفون في هذا الضرب من المصالح إذا لم يكن فيها أثر ولا قياس خاص والإمام أحمد قد يتوقف في بعض أفرادها مثل قتل الجاسوس المسلم ونحوه إن جعلت من أفرادها وربما عمل بها وربما تركها إذا لم يكن معه فيها أثر أو قياس خاص ومن تأمل تصاريف الفقهاء علم أنهم يضطرون إلى رعايتها إذا لم يخالف أصلا من الأصول ولم يخالف في اعتبارها الطوائف من أهل الجدل والكلام من أصحابنا وغيرهم ولو أنهم خاضوا مخاض الفقهاء لعلموا أنه لا بد من اعتبارها وذوق الفقه ممن لجج فيه شيء والكلام على حواشيه من غير معرفة أعيان المسائل شيء آخر وأهل الكلام والجدل إنما يتكلمون في القسم الثاني فيلزمون غيرهم ما لا يقدرون على التزامه ويتكلمون في الفقه كلام من لا يعرف إلا أمورا كلية وعمومات إحاطية وللتفاصيل خصوص نظر ودلائل يدركها من عرف أعيان المسائل.

ص: 486

وأثبتناه أيضا بالقياس الخاص وهو القياس على كل من ارتد ونقض العهد على وجه يضر المسلمين مضرة فيها العقوبة بالقتل وبينا أن هذا أخص من مجرد الردة ومجرد نقض العهد وأن الأصول فرقت بينهما.

وأثبتناه أيضا بالنافي لحقن دمه وبينا أن هذا حل دمه بما فعله والأدلة العاصمة لم أسلم من مرتد وناقض لا تتناوله لفظا ولا معنى.

وقولهم: "القياس في الأسباب لا يصح" خلاف ما عليه الفقهاء وهو قول باطل قطعا لكن ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك.

وقولهم: "معرفة نوع الحكمة وقدرها متعذر" قلنا: لا نسلم هذا على الإطلاق بل قد يمكن وقد يتعذر بل ربما علم قطعا لأن الفرع مشتمل على الحكمة الموجودة في الأصل وزيادة.

وقولهم: "هو يخرج السبب عن أن يكون سببا" ليس كذلك فإن سبب السبب لا يمنعه أن يكون سببا والإضافة إلى السبب لا تقدح في الإضافة إلى سبب السبب والعلم بها ضروري.

وأما قولهم: "ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يجوز إلحاق السب بها" قلنا: بل هو يلحق بالردة المقترنة بما يغلظها والنقض المقترن بما يغلظه وإن الفساد الحاصل في السب أبلغ من الفساد الحاصل بتلك الأمور المغلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الأصول الشرعية على أن هذا الحكم مستغن عن أصل يقاس به بل هو أصل في نفسه كما تقدم ثم إن هذا الكلام يقابل بما هو أنور منه بيانا وأبهر منه برهانا وذلك أن القول بوجوب الكف عن هذا الساب بعد الاتفاق على حل دمه قول لا دليل عليه إلا قياس له على بعض المرتدين وناقضي العهد مع ظهور الفرق بينهما

ص: 487

ومن قاس الشيء على ما يخالفه ويفارقه كان قياسه فاسدا فإن جعل هذا سببا عاصما قياس لسبب على سبب مع تباينهما في نوع الحكمة وقدرها ثم إنه إخلاء للسب الذي هو أعظم الجناية على الأعراض من العقوبات ولا عهد لنا بهذا في الشرع فهو إثبات حكم خارج عن القياس وجعل لكونه موجبا للقتل موجبا لكونه أهون من أعراض الناس في باب السقوط وهذا تعليق على العلة ضد مقتضاها وخروج عن موجب الأصول فإن العقوبات لا يكون تغلظها في الوجوب سببا لتخفيفها في السقوط قط لكن إن كان جنسها مما يسقط سقطت خفيفة كانت أو غليظة كحقوق الله في بعض المواضع ولم تسقط خفيفة كانت أو غليظة كحقوق العباد.

ثم إن القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله ويخالف صريح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وأصحابه والقول بأن لا حق للرسول على الساب إذا أسلم الذمي أو المسلم ولا عقوبة له عليه قول يخالف المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخالف أصول الشريعة ويثبت حكما ليس له أصل ولا نظير إلا أن يلحق بما ليس مثلا له.

الجواب الثاني: أنا لم ندع أن مجرد السب موجب للقتل وإنما بينا أن كل سب فهو محاربة ونقض للعهد بما يضر المسلمين فيقتل بمجموع الأمرين السب ونقض العهد ولا يجوز أن يقال: خصوص السب عديم التأثير فإن فساد هذا معلوم قطعا بما ذكرناه من الأدلة القاطعة على تأثيره وإذا كان كذلك فلم نثبته سببا خارجا عن الأسباب المعهودة وإنما هو مغلظ للسبب المعروف وهو الكفر كما أن قتل النفس موجب لحل دمه ثم إن كان قد قتله في المحاربة تغلظ بتحتم القتل وإلا بقي الأمر فيه إلى الأولياء

ص: 488

ومعلوم أن المقتول من قطاع الطريق لا يقال فيه "قتل قودا ولا قصاصا" حتى يرتب عليه أحكام من يجب عليه القود وإنما يضاف القتل إلى خصوص جنايته وهو القتل في المحاربة كذلك هنا الموجب هو خصوص المحاربة.

وقولهم: "الأدلة مترددة بين كون القتل لمجرد المحاربة أو لخصوص السب" قلنا: هي نصوص في أن السب مؤثر تأثيرا زائدا على مطلق تأثير الكفر الخالي عن عهد فلا يجوز إهمال خصوصه بعد اعتبار الشرع له وأن يقال: إنما المؤثر مجرد ما في ضمنه وطيه من زوال العهد ولذلك وجب قتل صاحبه عينا من غير تخيير كما قررنا دلالته فيما مضى وإذا كان كذلك فليس مع المخالف ما يدل على أن القتل المباح يسقط بالإسلام وإن كان هذا من فروع الكفر كما أن الذمي إذا استحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فانتهكها لاعتقاده أنهم كفار وأن ذلك حلال له منهم ثم أسلم فإنه يعاقب على ذلك: إما بالقتل إن كان فيها ما يوجب القتل أو بغيره ولذلك لو استحل ذلك ذمي من ذمي مثل أن يقتل نصراني يهوديا أو يأخذ ماله لاعتقاده أن ذلك حلال له أو يقذفه أو يسبه فإنه يعاقب على ذلك عقوبة مثله وإن أسلم وكذلك لو قطع الطريق على قافلة فيهم مسلمون ومعاهدون فقتل بعض أولئك المسلمين أو المعاهدين قتل لأجل ذلك حتما وانتقض عهده وإن أسلم بعد ذلك وإن كان هذا من فروع الكفر فهذا رجل انتقض عهده بأمر يعتقد حله قبل العهد ولو فعله مسلم لم يقتل عند كثير من الفقهاء إذا كان المقتول ذميا وكل واحد من الكفر ومن القتل مؤثر في قتله وإن كان عهده إنما زال بهذا القتل فهذا نظير السب ثم لو أسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل إما حدا أو قصاصا سواء كان ذلك القتل مما يقتل به المسلم بأن يكون

ص: 489

المقتول مسلما أو لا يقتل به بأن يكون المقتول ذميا وعلى التقديرين يقتل هذا الرجل بعد إسلامه لقطعه الطريق مثلا وقتله ذلك المعاهد من غير أهل دينه وإن كان إنما فعل هذا مستحلا له لكفره وهو قد تاب من ذلك الكفر فتكون التوبة منه توبة من فروعه وذلك لأن هذا الفرع ليس من لوازم الكفر بل هو محرم عليه في دينه لأجل الذمة كما أن تلك الدماء والأموال محرمة عليه لأجل الذمة.

ومنشأ الغلط في هذه المسألة اعتقاد أن الذمي يستبيح هذا السب فإن هذا غلط إذ لا فرق بالنسبة إليه بين إظهار الطعن في دين المسلمين وبين سفك دمائهم وأخذ أموالهم إذ الجميع إنما حرمه عليه العهد لا الدين المجرد فكيف لم يندرج أخذه لعرض بعض الأمة أو لعرض واحد من غير أهل دينه من أهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع أنه فرعه واندرج أخذه لعرض نبينا عليه الصلاة والسلام في ضمن التوبة من كفره؟.

الجواب الثالث: هب أنه إنما يقتل للكفر والحراب فقوله: "الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق" غلط وذلك أنا إنما اتفقنا على أنه يسقط القتل الثابت للكفر والحراب الأصلي فإن ذلك إذا أسلم لم يؤخذ بما أصاب في الجاهلية من دم أو مال أو عرض للمسلمين أما الحراب الطارىء فمن الذي وافق على أن القتل الثابت بجميع أنواعه يسقط بالإسلام؟ نعم نوافق على ما إذا نقض العهد بما لا ضرر على المسلمين فيه ثم أسلم أما إذا أسلم ثم حارب وأفسد بقطع طريق أو زنى بمسلمة أو قتل مسلم أو طعن في الدين فهذا يقتل بكل حال كما دل عليه الكتاب والسنة وهو يقتل في مواضع بالإجماع كما إذا قتل في المحاربة وحيث لم يكن مجمعا عليه فهو كمحل النزاع والقرآن يدل على أنه

ص: 490

يقتل لأنه إنما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة فهذه المقدمة ممنوعة والتمييز بين أنواع الحراب يكشف اللبس.

وأما ما ذكروه من أن الكافر أو المسلم إذا سب فيما بينه وبين الله وقذف الأنبياء ثم تاب قبل الله توبته ولم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا ولا في الآخرة وأن الإسلام يجب قذف اليهود لمريم وابنها وقولهم في الأنبياء والرسل فهو كما قالوا ولا ينبغي أن يستراب في مثل هذا وقد صرح به بعض أصحابنا وغيرهم وقالوا: إنما الخلاف في سقوط القتل عنه أما توبته وإسلامه فيما بينه وبين الله فمقبولة فإن الله يقبل التوبة عن عباده من الذنوب كلها وعموم الحكم في توبة المسلم والذمي فأما توبة المسلم فقد تقدم القول فيها وأما توبة الذي من ذلك فإن كان ذلك السب ليس ناقضا للعهد بأن يقوله سرا فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله ويفعله وتوبة الذمي من جميع ما يقر عليه من الكفر فإن هذا لم يكن ممنوعا منه بعقد الذمة وليس كلامنا فيه وبه يخرج الجواب عما ذكروه فإن السب الذي قامت الأدلة على مغفرته بالإسلام ليس هو السب الذي ينتقض به عهد الذمي إذا فعله وإنما فرق في الذمي بين الجهر بالسب والإسرار به بخلاف المسلم لأن ما يسره من السب لا يمنعه منه إيمان ولا أمان ألا ترى أنه لو قذف واحدا من المسلمين سرا مستحلا لذلك ثم أسلم كما لو قذفه وهو حربي ثم أسلم ومعلوم أن الكافر الذي لا عهد معه يمنعه من شيء متى أسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا للكفر نعم لو أتى من السب بما يعتقده حراما في دينه ثم أسلم ففي سقوط حق المسبوب هنا نظر ونظيره أن يسب الأنبياء بما يعتقده محرما في دينه وأما إن كان السب ناقضا للعهد فإظهاره له مستحلا له في الأصل وغير مستحل كقتله المسلم مستحلا أو غير مستحل فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن وأما إسقاطها لحق الآدمي

ص: 491

ففيه نظر والذي يقتضيه القياس أنه كتوبة المسلم: إن كان قد بلغ المشتوم فلا بد من استحلاله وإن لم يبلغه ففيه خلاف مشهور وذلك لأنه حق آدمي يعتقده محرما عليه وقد انتهكه فهو كما لو قتل المعاهد مسلما سرا ثم أسلم وتاب أو أخذ له مالا سرا ثم أسلم فإن إسلامه لم يسقط عنه حق الآدمي الذي كان يعتقده محرما بالعهد لا ظاهرا ولا باطنا وهذا معنى قول من قال من أصحابنا: "إن توبته فيما بينه وبين الله مقبولة" فإن الله يقبل التوبة من الذنوب كلها وإن الله يقبل التوبة من حقوقه مطلقا أما من حقوق العباد فإن التوبة لا تبطل حقوقهم بل إما أن يستوفيها صاحبها ممن ظلمه أو يعوضه الله عنها من فضله العظيم.

وجماع هذا الأمر أن التوبة من كل شيء كان يستحله في كفره تسقط حقوق الله وحقوق العباد ظاهرا وباطنا لكن السب الذي نتكلم فيه هو السب الذي يظهره الذمي وليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن يستحل دماءنا وأموالنا وإن كان ذلك مما يستحله لولا العهد.

وقد تقدم ذكر هذا وبينا أن العهد يحرم عليه في دينه كثيرا مما كان يعتقده حلالا لولا العهد ونظير هذا توبة المرتد من السب الذي يعتقد صحته وأما ما لم يكن يستحله وهو إظهار السب ففيه حقان: حق الله وحق للآدمي فتوبته تسقط فيما بينه وبين الله حقه لكن لا يلزم أن تسقط حق الآدمي في الباطن فهذا الكلام على قبول التوبة فيما بينه وبين الله.

وحينئذ فالجواب من وجوه:

أحدها: أن الموضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه وبين الله من حق الله وحق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده ويقتل وإن تاب فإن ادعى أنه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منع لما فيه من

ص: 492

الخلاف فلا بد من إقامة الدلالة على ذلك والأدلة المذكورة لم تتناول السب الظاهر الذي ينتقض به العهد.

الوجه الثاني: أن صحة التوبة فيما بينه وبين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا فإن من تاب من قتل أو قذف أو قطع طريق أو غير ذلك فيما بينه وبين الله فإن ذلك لا يسقط حقوق العباد من القود وحد القذف وضمان المال وهذا السب فيه حق لآدمي فإن كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله وحق عباده فإن ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة.

الوجه الثالث: أن من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بكل حال يقول: إن توبة العبد فيما بينه وبين الله ممكنه من جميع الذنوب حتى إنه لو سب سرا آحادا من الناس موتى ثم تاب واستغفر لهم بدل سبهم لرجي أن يغفر الله له ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها فكذلك ساب الأنبياء والرسل لو لم تقبل توبته وتغفر زلته لانسد باب التوبة وقطع طريق المغفرة والرحمة وقد قال تعالى لما نهى عن الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فعلم أن المغتاب له سبيل إلى التوبة بكل حال وإن كان الذي اغتيب ميتا أو غائبا بل على أصح الروايتين ليس عليه أن يستحله في الدنيا إذا لم يكن علم فإن فساد ذلك أكثر من صلاحه وفي الأثر: "كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته" وقد قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أما إذا كان الرسول حيا وقد بلغه السب فقد يقول هنا: إن التوبة لا تصح حتى يستحل الرسول ويعفو الرسول عنه كما فعل أنس بن زنيم وأبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وابن الزبعرى وإحدى القينتين

ص: 493

وكعب بن زهير وغيرهم كما دلت عليه السيرة لمن تدبرها وقد قال كعب بن زهير:

نبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

وإنما يطلب العفو في شيء يجوز فيه العفو والانتقام وإنما يقال "أوعده" إذا كان حكم الإيعاد باقيا بعد الإسلام وإلا فلو كان الإيعاد معلقا ببقائه على الكفر لم يبق إيعاد.

إذا تقرر هذا فصحة التوبة فيما بينه وبين الله وسقوط حق الرسول بما أبدله من الإيمان به الموجب لحقوقه لا يمنع أن يقيم عليه حد الرسول إذا ثبت عند السلطان وإن أظهر التوبة بعد ذلك كالتوبة من جميع الكبائر الموجبة للعقوبات المشروعة سواء كانت حقا لله أو حقا لآدمي فإن توبة العبد فيما بينه وبين الله بحسب الإمكان صحيحة مع أنه إذا ظهر عليه أقيم عليه الحد وقد أسلفنا أن سب الرسول فيه حق لله وحق لآدمي وأنه من كلا الوجهين يجب استيفاؤه إذا رفع إلى السلطان وإن أظهر الجاني التوبة بعد الشهادة عليه.

وأما ما ذكره من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله وأن ما فيه من الشرف فلأجله ففي الجواب عنه طريقان:

أحدهما: أنه لا فرق بين البابين فإن ساب الله أيضا يقتل ولا تسقط التوبة القتل عنه إما لكونه دليلا على الزندقة في الإيمان والأمان أو لكونه ليس مجرد ردة ونقض وإنما هو من باب الاستخفاف بالله والاستهانة ومثل هذا لا يسقط القتل عنه إذا تاب بعد الشهادة عليه كما لا يسقط القتل عنه إذا انتهك محارمه فإن انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك ومن قاله من أصحابنا وغيرهم ومن أجاب بهذا لم يورد عليه صحة إسلام النصراني ونحوه وقبول توبتهم لأنه لا خلاف في قبول

ص: 494

التوبة فيما بينه وبين الله وفي قبول التوبة مطلقا إذا لم يظهروا السب وإنما الخلاف فيما إذا أظهر النصراني ما هو سب وطعن ودعاؤهم إلى التوبة لا يمنع إقامة الحدود عليهم إذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} وكانت فتنتهم أنهم ألقوهم في النار حتى كفروا ولو فعل هذا معاهد بمسلم فإنه يقتل وإن أسلم بالاتفاق وإن كانت توبته فيما بينه وبين الله مقبولة.

وأيضا فإن مقالات الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور فإنهم يعتقدون هذا تعظيما لله ودينا له وإنما الكلام في السب الذي هو السب عند الساب وغيره من الناس وفرق بين من يتكلم في حقه بكلام يعتقده تعظيما له وبين من يتكلم بكلام يعلم أنه استهزاء به واستخفاف به ولهذا فرق في القتل والزنى والسرقة والشرب والقذف ونحوهن بين المستحل لذلك المعذور وبين من يعلم التحريم.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وقوله فيما يروي عن ربه عز وجل: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وإنما يقصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة وسواء قلنا أنه الدهر اسم من أسماء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد أو قلنا إنه ليس باسم وإنما قوله: "أنا الدهر" أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه كما قاله أبو عبيدة والأكثرون ولهذا لا يكفر من سب الدهر ولا يقتل لكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه والسب المذكور في قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً

ص: 495

بِغَيْرِ عِلْمٍ} قد قيل: إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار سب الكفار من يأمرهم بذلك وإلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم وإلههم فيقع سبهم على الله لأنه إلهنا ومعبودنا فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا قال سبحانه: {عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهو شبيه بسب الدهر من بعض الوجوه وقيل: كانوا يصرحون بسب الله عدوا وغلوا وفي الكفر قال قتادة: "كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله بغير علم فانزل الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} " وقال أيضا: "كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله" وذلك أنه في اللجاجة أن يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى:

سبوا عليا كما سبوا عتيقكم

كفرا بكفر وإيمانا بإيمان

وكما يقول بعض الجهال: مقابلة الفاسد بمثله وكما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من الموجبات للقتل.

الطريقة الثانية: طريقة من فرق بين سب الله وسب رسوله وذلك من وجوه:

أحدها: أن سب الله حق محض لله وذلك يسقط بالتوبة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وسب النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقان: لله وللعبد فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافه.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلحقه المعرة بالسب لأنه

ص: 496

مخلوق وهو من جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم وكذلك يثابون على سبهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضا على ما أصابهم من المصيبة بالشتم فمن سبه فقد انتقص حرمته والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك فإنه منزه عن لحوق المنافع والمضار كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" وإذا كان سب النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤثر انتقاصه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم وربما كان سببا للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته شرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه فلا تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يقتل.

وهذا الفرق ذكره طوائف من المالكية والشافعية والحنابلة منهم القاضي عبد الوهاب بن نصر والقاضي أبو يعلي في "المجرد" وأبو علي بن البناء وابن عقيل وغيرهم وهو يتوجه مع قولنا: إن سب النبي صلى الله عليه وسلم حد لله كالزنى والسرقة.

يؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنا ثم لم يشرع عليه حد مقدر كما شرع على الرمي بالزنا وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنا لأنه بما يظهر من الإيمان يعلم كذب القاذف وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرة بخلاف الزنا فإنه يستسر به ولا يمكنه إظهار البراءة منه ولا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة فكذلك ساب الرسول يلحق بالدين وأهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسب الله ظاهرا معلوما لكل أحد يشترك فيه كل الناس.

ص: 497

الوجه الثالث: أن عليه الصلاة والسلام إنما يسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داع: من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله ومن جهة المخالفة في دينه ومن جهة الانقهار تحت حكم دينه وشرعه ومن جهة المراغمة لأمته وكل مفسدة يكون إليها داع فلا بد من شرع العقوبة عليها حدا وكل ما شرعت العقوبة عليه لم يسقط بالتوبة كسائر الجرائم وأما سب الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافا واستهانة وإنما يقع تدينا واعتقادا وليس للنفوس في الغالب داع إلى إلقاء السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيما وتمجيدا وإذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرع زاجر بل هو نوع من الكفر فيقتل الإنسان عليه كردته وكفره إلا أن يتوب.

وهذا الوجه من نمط الذي قبله والفرق بينهما أن ذلك بيان لأن مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة بخلاف مفسدة سب الله تعالى والثاني بيان لأن سب الرسول إليه داع طبعي فيشرع الزجر عليه لخصوصه كشرب الخمر وسب الله تعالى ليس إليه داع طبعي فلا يحتاج خصوصه إلى زجر آخر كشرب البول وأكل الميتة والدم.

والوجه الرابع: أن سب النبي عليه الصلاة والسلام حد وجب لسب آدمي ميت لم يعلم أنه عفا عنه وذلك لا يسقط بالتوبة بخلاف سب الله تعالى فإنه قد علم أنه قد عفا عمن سبه إذا تاب وذلك أن سب الرسول متردد في سقوطه حده بالتوبة بين سب الله وسب سائر الآدميين فيجب إلحاقه بأشبه الأصلين به ومعلوم أن سب الآدمي إنما لم تسقط عقوبته بالتوبة لأن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم ولا ينتفعون بتوبة التائب فإذا تاب من للآدمي عليه حق قصاص أو قذف فإن له أن يأخذه منه لينتفع

ص: 498

به تشفيا ودرك ثأر وصيانة عرض وحق الله قد علم سقوطه بالتوبة لأنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العباد فإذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الإيجاب وحينئذ فلا ريب أن حرمة الرسول ألحقت بحرمة الله من جهة التغليظ لأن الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه وهو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه وقد ذكرنا ما دل على ذلك من أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان له أن يعاقب من آذاه وإن جاءه تائبا وهو عليه الصلاة والسلام كما أنه بلغ الرسالة لينتفع بها العباد فإذا تابوا ورجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصوده فهو أيضا يتألم بأذاهم له فله أن يعاقب من آذاه تحصيلا لمصلحة نفسه كما أنه يأكل ويشرب فإن تمكين البشر من استيفاء حقه ممن بغى عليه من جملة مصالح الإنسان ولولا ذلك لماتت النفوس غما ثم إليه الخيرة في العفو والانتقام فقد تترجح عنده مصلحة الانتقام فيكون فاعلا لأمر مباح وحظ جائز كما له أن يتزوج النساء وقد يترجح العفو والأنبياء عليهم السلام منهم من كان قد يترجح عنده أحيانا الانتقام ويشدد الله قلوبهم فيه حتى تكون أشد من الصخر كنوح وموسى ومنهم من كان يترجح عنده العفو فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكون ألين من اللبن كإبراهيم وعيسى فإذا تعذر عفوه عن حقه تعين استيفاؤه وإلا لزم إهدار حقه بالكلية.

قولهم: "إذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى".

قلنا: هو تابع من حيث تغلظت عقوبته لا من حيث إن له حقا في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة.

قولهم: "ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام وبعده بخلاف ساب الرسول".

ص: 499

عنه جوابان:

أحدهما: المنع فإن سب الذمي للمسلم جائز عنده لأنه يعتقد كفره وضلاله وإنما يحرمه عنده العهد الذي بيننا وبينه فلا فرق بينهما وإن فرض الكلام في سب خارج عن الدين مثل الرمي بالزنا والافتراء عليه ونحو ذلك فلا فرق في ذلك بين سب الرسول وسب الواحد من أهل الأمة ولا ريب أن الكافر إذا أسلم صار أخا للمسلمين يؤذيه ما يؤذيهم وصار معتقدا لحرمة أعراضهم وزال المبيح لانتهاك أعراضهم ومع ذلك لا يسقط حق المشتوم بإسلامه وقد تقدم هذا الوجه غير مرة.

الثاني: أن شاتم الواحد من الناس لو تاب وأظهر براءة المشتوم وأثنى عليه ودعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له أن يستوفي حده مع ذلك فلا فرق بينه وبين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته وعلو منزلته وسبب ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة لا يزيل ما لحق المشتوم من الغضاضة والمعرة بل قد يحمل ذلك على خوف العقوبة وتبقى آثار السب الأول جارحة فإن لم يمكن المشتوم من أخذ حقه بكل حال لم يندمل جرحه.

قولهم: "القتل حق الرسالة وأما البشرية فإنما لها حقوق البشرية والتوبة تقطع حق الرسالة".

قلنا: لا نسلم ذلك بل هو من حيث هو بشر مفضل في بشريته على الآدميين تفضيلا يوجب قتل سابه ولو كان القتل إنما وجب لكونه قدحا في النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر ولم يكن خصوص السب موجبا للقتل وقد قدمنا من الأدلة ما يدل على أن خصوص السب موجب للقتل وأنه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر ومن سوى بين الساب للرسول وبين المعرض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب والسنة الظاهرة والإجماع الماضي وخالف المعقول وسوى بين الشيئين المتباينين

ص: 500

وكون القاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ثمانين أوضح دليل على أن القتل عقوبة لخصوص السب وإلا كان قد اجتمع حقان: حق لله وهو تكذيب رسوله فيوجب القتل وحق لرسوله وهو سبه فيوجب الجلد على هذا الرأي فكان ينبغي قبل التوبة على هذا أن يجتمع عليه الحدان كما لو ارتد وقذف مسلما وبعد التوبة يستوفى منه حد القذف فكان إنما للنبي عليه الصلاة والسلام أن يعاقب من سبه وجاء تائبا بالجلد فقط كما أنه ليس للإمام أن يعاقب قاطع الطريق إذ جاء تائبا إلا بالقود ونحوه مما هو خالص حق الآدمي ولو سلمنا أن القتل حق الرسالة فقط فهو ردة مغلظة بما فيه ضرر أو نقض مغلظ بما فيه ضرر كما لو اقترن بالنقض حراب وفسادا بالفعل من قطع طريق وزنى بمسلمة وغير ذلك فإن القتل هنا حق لله ومع هذا لم يسقط بالتوبة والإسلام وهذا متحقق سواء قلنا إن ساب الله يقتل بعد التوبة أو لا يقتل كما تقدم تقريره.

قولهم: "إذا أسلم سقط القتل المتعلق بالرسالة".

قلنا: هذا ممنوع أما إذا سوينا بينه وبين سب الله فظاهر وإن فرقنا فإن هذا شبه من باب فعل المحارب لله ورسوله الساعي في الأرض فسادا والحاجة داعية إلى ردع أمثاله كما تقدم وإن سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول وسبه فإن هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع التزام تركها فإن الذمي يلتزم لنا أن لا يظهر السب وليس ملتزما لنا أن لا يكفر به فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما أقررناه عليه؟ وجماع الأمر أن هذه الجناية على الرسالة له نقض يتضمن حرابا وفسادا أو ردة تضمنت فسادا وحرابا وسقوط القتل عن مثل هذا ممنوع كما تقدم.

ص: 501

قولهم: "حق البشرية انغمر في حق الرسالة وحق الآدمي انغمر في حق الله".

قلنا: هذه دعوة محضة ولو كان كذلك لما جاز للنبي عليه الصلاة والسلام العفو عمن سبه ولا جاز عقوبته بعد مجيئه تائبا ولا احتيج خصوص السب أن يفرد بذكر العقوبة لعلم كل أحد أن سب الرسول أغلظ من الكفر به فلما جاءت الأحاديث والآثار في خصوص سب الرسول بالقتل علم أن ذلك لخاصة في السب وإن اندرج في عموم الكفر.

وأيضا فحق العبد لا ينغمر في حق الله قط نعم العكس موجود كما تندرج عقوبة القاتل والقاذف على عصيانه لله في القود وحد القذف أما أن يندرج حق العبد في حق الله فباطل فإن من جنى جناية واحدة تعلق بها حقان لله ولآدمي ثم سقط حق الله لم يسقط حق الآدمي سواء كان من جنس أو جنسين كما لو جنى جنايات متفرقة كمن قتل في قطع الطريق فإنه إذا سقط عنه تحتم القتل لم يسقط عنه القتل ولو سرق سرقة ثم سقط عنه القطع لم يسقط عنه الغرم بإجماع المسلمين حتى عند من قال "إن القطع والغرم لا يجتمعان" نعم إذا جنى جناية واحدة فيها حقان لله ولآدمي: فإن كان موجب الحقين من جنس واحد تداخلا وإن كانا من جنسين ففي التداخل خلاف معروف مثال الأول قتل المحارب فإنه يوجب القتل حقا لله وللآدمي والقتل لا يتعدد فمتى قتل لم يبق للآدمي حق في تركته من الدية وإن كان له أن يأخذ الدية إذا قتل عدة مقتولين فيقتل ببعضهم عند الشافعي وأحمد وغيرهما أما إن قلنا: "إن موجب العمد القود عينا" فظاهر وإن قلنا: "إن موجبه أحد شيئين" فإنما ذاك حيث يمكن العفو وهنا لا يمكن العفو وصار موجبه القود عينا وولي استيفائه الإمام لأن ولايته أعم ومثال الثاني أخذ المال

ص: 502

سرقة وإتلافه فإنه موجب للقطع حدا لله وموجب للغرم حقا للآدمي ولهذا قال الكوفيون: إن حد الآدمي يدخل في القطع فلا يجب وقال الأكثرون: بل يغرم للآدمي ماله وإن قطعت يده وأما إذا جنى جنايات متفرقة لكل جناية حد فإن كانت لله وهي من جنس واحد تداخلت بالاتفاق وإن كانت من أجناس وفيها القتل تداخلت عند الجمهور ولم تتداخل عند الشافعي وإن كانت للآدمي لم تتداخل عند الجمهور وعند مالك تتداخل في القتل إلا حد القذف فهنا هذا الشاتم الساب لا ريب أنه يتعلق بسبه حق لله وحق لآدمي ونحن نقول: إن موجب كل منهما القتل ومن ينازعنا إما أن يقول: اندرج حق الآدمي في حق الله أو موجبه الجلد فإذا قتل فلا كلام إلا عند من يقول: إن موجبه الجلد فإنه يجب أن يخرج على الخلاف وأما إذا أسقط حق الله في بالتوبة فكيف يسقط حق العبد؟ فإنا لا نحفظ لهذا نظيرا بل النظائر تخالفه كما ذكرناه والسنة تدل على خلافه وإثبات حكم بلا أصل ولا نظير غير جائز بل مخالفته للأصول دليل على بطلانه.

وأيضا فهب أن هذا حد محض لله لكن لم يقال: "إنه يسقط بالتوبة"؟ وقد قدمنا أن الردة ونقض العهد نوعان: مجرد ومغلظ فما تغلظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكل حال وإن تاب وبينا أن السب من هذا النوع.

وأيضا فأقصى ما يقال أن يلحق هذا السب بسب الله وفيه من الخلاف ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وأما ما ذكر من الفرق بين سب المسلم وسب الكافر فهو وإن كان له توجه كما للتسوية بينهما في السقوط توجه أيضا فإنه معارض بما يدل على أن

ص: 503

الكافر أولى بالقتل لكل حال من المسلم وذلك أن الكافر قد ثبت المبيح لدمه وهو الكفر وإنما عصمه العهد وإظهاره السب لا ريب أنه محاربة لله ورسوله وإفساد في الأرض ونكاية في المسلمين فقد تحقق الفساد من جهته وإظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثق بها كتوبة غيره من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا بخلاف من علم منه الإسلام وصدرت منه الكلمة من السب مع إمكان أنها لم تصدر عن اعتقاد بل خرجت سفها أو غلطا فإذا عاد إلى الإسلام مع أنه لم يزل يتدين به لم يعلم منه خلافه كان أولى بقبول توبته لأن ذنبه أصغر وتوبته أقرب إلى الصحة.

ثم إنه يجاب عنه بأن إظهار المسلم تجديد الإسلام بمنزلة إظهار الذمي الإسلام لأن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من الأمان كما يزع المسلم ما أظهره من عقد الإيمان فإذا كان المسلم الآن إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فكذلك الذمي إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فإن من يتهم في أمانه يتهم في إيمانه ويكون منافقا في الإيمان كما كان منافقا في الأمان بل ربما كان حال هذا الذي تاب بعد معاينة السيف أشد على المسلمين من حاله قبل التوبة فإنه كان في ذلة الكفر والآن فإنه قد يشرك المسلمين في ظاهر العز مع ما ظهر من نفاقه وخبثه الذي لم يظهر ما يدل على زواله على أن في تعليل سبه بالزندقة نظرا فإن السب أمر ظاهر أظهره ولم يظهر منه ما يدل على استبطانه إياه قبل ذلك ومن الجائز أن يكون قد حدث له ما أوجب الردة.

نعم إن كان ممن تكرر ذلك منه أو له دلالات على سوء العقيدة فهنا الزندقة ظاهرة لكن يقال: نحن نقتله لأمرين لكونه زنديقا ولكونه

ص: 504

سابا كما نقتل الذمي لكونه كافرا غير ذي عهد ولكونه سابا فإن الفرق بين المسلم والذمي في الزندقة لا يمنع اجتماعهما في علة أخرى تقضي كون السب موجبا للقتل وإن أحدث الساب اعتقادا صحيحا بعد ذلك بل قد يقال: إن السب إذا كان موجبا للقتل قتل صاحبه وإن كان صحيح الاعتقاد في الباطن حال سبه كسبه لله تعالى وكالقذف في إيجابه للجلد وكسب جميع البشر.

وأما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حدا لأن مفسدته لا تزول بسقوطه بتجديد الإسلام بخلاف سب الكافر فمضمونه أنا نرخص لأهل الذمة في إظهار السب إذا أظهروا بعده الإسلام ونأذن لهم أن يشتموا ثم بعد ذلك يسلمون وما هذا إلا بمثابة أن يقال: على الذمي بأنه إذا زنى بمسلمة أو قطع الطريق أخذ فقتل إلا أن يسلم يزعه عن هذه المفاسد إلا أن يكون من يريد الإسلام وإذا أسلم فالإسلام يجب ما كان قبله ومعلوم أن معنى هذا أن الذمي يحتمل منه ما يقوله ويفعله من أنواع المحاربة والفساد إذا قصد أن يسلم بعده وأسلم ومعلوم أن هذا غير جائز فإن الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستهان وكثير ممن يسب الأنبياء من أهل الذمة قد يكون زنديقا لا يبالي إلى أي دين انتسب فلا يبالي أن ينال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء ثم هذا يوجب الطمع منهم في عرضه فإنه ما دام العدو يرجو أن يستبقى ولو بوجه لم يزعه ذلك عن إظهار مقصوده في وقت ما ثم إن ثبت ذلك عليه ورفع إلى السلطان وأمر بقتله أظهر الإسلام وإلا

ص: 505

فقد حصل غرضه وكل فساد قصد إزالته بالكلية لم يجعل لفاعله سبيل إلى استبقائه بعد الأخذ كالزنى والسرقة وقطع الطريق فإن كان مقصود الشارع من تطهير الدار من ظهور كلمة الكفر والطعن في الدين أبلغ من مقصوده من تطهيرها من وجود هذه القبائح ابتغى أن يكون تحتم عقوبة من فعل ذلك أبلغ من تحتم عقوبة هؤلاء.

وفقه هذا الجواب أن تعلم أن ظهور الطعن في الدين من سب الرسول ونحوه فسادا عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ماحيا لذلك الفساد.

وأما الفرق الثالث قولهم: "إن الكافر لم يلتزم تحريم السب" فباطل فإنه لا فرق بين إظهاره لسب النبي صلى الله عليه وسلم وبين إظهاره لسب آحاد من المسلمين وبين سفك دمائهم وأخذ أموالهم فإنه لولا العهد لم يكن فرق عنده بيننا وبين سائر من يخالفه في دينه من المحاربين له ومعلوم أنه يستحل ذلك كله منهم ثم إنه بالعهد صار بذلك محرما عليه في دينه منا لأجل العهد فإذا فعل شيئا من ذلك أقيم عليه حده وإن أسلم سواء انتقض عهده بما يفعله أو لم ينتقض فتارة يجب عليه الحد مع بقاء العهد كما لو سرق أو قذف مسلما وتارة ينتقض عهده ولا حد عليه فيصير بمنزلة المحاربين وتارة يجب عليه الحد وينتقض عهده كما إذا سب الرسول أو زنى بمسلمة أو قطع الطريق على المسلمين فهذا يقتل وإن أسلم وعقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتما كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاء له على ما فعل من الفساد الذي التزم بعقد الإيمان أن لا يفعله مع كون مثل ذلك الفساد موجبا للقتل ونكالا لأمثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا أنه لا يترك صاحبه حتى يقتل.

فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف مع أن فيما تقدم من كلامنا ما يغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 506

فصل: في مواضيع التوبة.

وذلك مبني على التوبة من سائر الجرائم فنقول:

لا خلاف علمناه أن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما كان حدا لله من تحتم القتل والصلب والنفي وقطع الرجل وكذلك قطع اليد عند عامة العلماء إلا في وجه لأصحاب الشافعي وقد نص الله على ذلك بقوله: {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومعنى القدرة عليهم إمكان الحد عليهم لثبوته بالبينة أو الإقرار وكونهم في قبضة المسلمين فإذا تابوا قبل أن يؤخذوا سقط ذلك عنهم.

وأما من لم يوجد منه إلا مجرد الردة وقد أظهرها فذلك أيضا تقبل توبته عند العامة إلا ما يروى عن الحسن ومن قيل إنه وافقه.

وأما القاتل والقاذف فلا أعلم مخالفا أن توبتهم لا تسقط عنهم حق الآدمي بمعنى أنه إذا طلب بالقود وحد القذف فله ذلك وإن كانوا قد تابوا قبل ذلك.

وأما الزاني والسارق والشارب فقد أطلق بعض أصحابنا أنه إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد فهل يسقط عنه الحد؟ على روايتين:

أصحهما: أنه يسقط عنه الحد بمجرد التوبة ولا يعتبر مع ذلك إصلاح العمل.

والثانية: لا يسقط ويكون من توبته تطهيره بالحد.

وقيد بعضهم إذا تاب قبل ثبوت حده عند الإمام وليس بين الكلامين خلاف

ص: 507

في المعنى فإنه لا خلاف أنه لا يسقط في الموضع الذي لا يسقط حد المحارب بتوبته وإن اختلفت عباراتهم: هل ذلك لعدم الحكم بصحة التوبة أو لإفضاء سقوط الحد إلى المفسدة؟ فقال القاضي أبو يعلى وغيره وهو ممن أطلق الروايتين: التوبة غير محكوم بصحتها بعد قدرة الإمام عليه لجواز أن يكون أظهرها تقية من الإمام والخوف من عقوبته قال: ولهذا نقول في توبة الزاني والسارق والشارب: لا يحكم بصحتها بعد علم الإمام بحدهم وثبوته عنده وإنما يحكم بصحتها قبل ذلك قال: وقد ذكره أبو بكر في "الشافي" فقال: "إذا تاب يعني الزاني بعد أن قدر عليه فمن توبته أن يطهر بالرجم أو الجلد وإذا تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته" فمأخذ القاضي أن نفس التوبة المحكوم بصحتها مسقطة للحد في كل موضع فلم يحتج إلى التقييد هو ومن سلك طريقته من أصحابه مثل الشريف أبي جعفر وأبي الخطاب ومأخذ أبي بكر وغيره الفرق بين ما قبل القدرة وبعدها في الجميع مع صحة التوبة بعد القدرة ويكون الحد من تمام التوبة فلهذا قيدوا فلا فرق في الحكم بين القولين والتقييد بذلك موجود في كلام الإمام أحمد نقل عنه أبو الحارث في سارق جاء تائبا ومعه السرقة فردها قبل أن يقدر عليه قال: "لم يقطع" وقال: قال الشعبي: "ليس على تائب قطع" وكذلك نقل حنبل ومهنا في السارق إذا جاء إلى الإمام تائبا: "يدرأ عنه القطع".

ونقل عنه الميموني في الرجل إذا اعترف بالزنا أربع مرات ثم تاب قبل أن يقام عليه الحد: إنه تقبل توبته ولا يقام عليه الحد وذكر قصة ماعز إذ وجد مس الحجر فهرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهلا تركتموه" قال الميموني: وناظرته في مجلس آخر قال: إذا رجع عما أقر به لم يرجم قلت: فإن تاب؟ قال: من توبته أن يطهر بالرجم قال: ودار بيني وبينه الكلام غير مرة أنه إذا رجع لم يقم عليه وإن تاب فمن توبته أن يطهر بالجلد

ص: 508

قال القاضي: والمذهب الصحيح أنه يسقط بالتوبة كما نقل أبو الحارث وحنبل ومهنا.

فتلخص من هذا أنه إذا أظهر التوبة بعد أن ثبت عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد وأما إن تاب قبل أن يقدر عليه بأن يتوب قبل أخذه وبعد إقراره الذي له أن يرجع عنه ففيه روايتان وقد صرح بذلك غير واحد من أئمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد الله بن حامد قال: "فأما الزنا فإنه لا خلاف أنه فيما بينه وبين الله تصح توبته منه".

فأما إذا تاب الزاني وقد رفع إلى الإمام فقول واحد: لا يسقط الحد فأما إن تاب بحضرة الإمام فإنه ينظر فإن كان بإقرار منه ففيه روايتان وإن كان ذلك ببينه فقول واحد: لا يسقط لأنه إذا قامت البينة عليه بالزنا فقد وجب القضاء بالبينة والإقرار بخلاف البينة لأنه إذا رجع عن إقراره قبل منه.

وقال في السرقة: لا خلاف أن الحق الذي لله يسقط بالتوبة سواء تاب قبل القطع أو بعده وإنما الخلاف فيمن تاب قبل إقامة الحد فإن كان ذلك قبل أن يرفع إلى الإمام سقط الحد سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع وأما إذا تاب بعد أن رفع إلى الإمام فلا يسقط الحد عنه لأنه حق يتعلق بالإمام فلا يجوز تركه.

قال: وكذلك المحارب إذا تاب من حق الله وقد قدمنا أنا إذا قلنا يسقط الحد عن غير قطاع الطريق بالتوبة فإنه يكفي مجرد التوبة وهذا هو المشهور من المذهب كما يكفي ذلك في قطاع الطريق.

وفيه وجه ثان: أنه لا بد من إصلاح العمل مع التوبة وعلى هذا فقد قيل: يعتبر مضي مدة يعتبر بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة لأن التوقيت يفتقر إلى توقيف ويتحرج أن يعتبر مضي سنة كما

ص: 509

نص عليه الإمام أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يتعين فيه مضي سنة إتباعا لما أمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية صبيغ بن عسل فإنه تاب عنده ثم نفاه إلى البصرة وأمر المسلمين بهجره فلما حال الحول ولم يظهر منه إلا خير أمر المسلمين بكلامه وهذه قضية مشهورة بين الصحابة هذه طريقة أكثر أصحابنا.

وظاهر طريقة أبي بكر أنه يفرق بين التوبة قبل أن يقر بأن يجيء تائبا وبين أن يقر ثم يتوب لأن أحمد رضي الله عنه إنما أسقط الحد عمن جاء تائبا فأما إذا أقر ثم تاب فقد رجع أحمد عن القول بسقوط الحد.

وللشافعي أيضا في سقوط سائر الحدود غير حد المحارب بالتوبة قولان أصحهما أنه يسقط لكن حد المحارب يسقط بإظهار التوبة قبل القدرة وحد غيره لا يسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح في زمن يوثق بتوبته وقيل: مدة ذلك سنة.

هكذا ذكر العراقيون من أصحابه وذكر بعض الخراسانيين أن في توبة المحارب وغيره بعد الظفر قولين إذا اقترن بها الإصلاح واستشكلوا ذلك فيما إذا أنشأ التوبة حيث أخذ لإقامة الحد فإنه لا يؤخر حتى يصلح العمل.

ومذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يسقط بالتوبة وذكر بعضهم أن ذلك إجماع وإنما هو إجماع في التوبة بعد ثبوت الحد.

فصل.

إذا تلخص ذلك فمن سب الرسول صلى الله عليه وسلم ورفع إلى السلطان وثبت ذلك عليه بالبينة ثم أظهر التوبة لم يسقط عنه الحد عند من يقول: "إنه يقتل حدا" سواء تاب قبل أداء البينة أو بعد أداء البينة لأن هذه توبة بعد أخذه والقدرة عليه فهو كما لو تاب قاطع الطريق والزاني والسارق

ص: 510

في هذه الحال وكذلك لو تاب بعد أن أريد رفعه إلى السلطان والبينة بذلك ممكنة وهذا لا ريب فيه والذمي في ذلك كالملي إذا قيل: "إنه يقتل حدا" كما قررناه.

وأما إن أقر بالسب ثم تاب أو جاء تائبا منه فذهب المالكية أنه يقتل أيضا لأنه حد من الحدود والحدود لا تسقط عندهم بالتوبة قبل القدرة ولا بعدها ولهم في الزنديق إذا جاء تائبا قولان لكن قال القاضي عياض: "مسألته أقوى لا يتصور فيها الخلاف لأنه حق يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين" وكذلك يقول من يرى أنه يقتله حدا كما يقرر الجمهور ويرى أن التوبة لا تسقط الحد بحال كأحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وأما على المشهور في المذهبين من أن التوبة قبل القدرة تسقط الحد فقد ذكرنا أنما ذاك في حدود الله فأما حدود الآدميين من القود وحد القذف فلا تسقط بالتوبة فعلى هذا لا يسقط القتل عنه وإن تاب قبل القدرة كما لا يسقط القتل قودا عن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة لأنه حق آدمي ميت فأشبه القود وحد القذف وهذا قول القاضي أبي يعلى وغيره وهو مبني على أن قتله حق لآدمي وأنه لم يعف عنه ولا يسقط إلا بالعفو وهو قول من يفرق بين من سب الله ومن سب رسوله وأما من سوى بين من سب الله ومن سب رسوله وقال: "إن الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة" فإنه يسقط القتل هنا لأنه حد من الحدود الواجبة لله تعالى تاب صاحبه قبل القدرة عليه وهذا موجب قول من قال: "إن توبته تنفعه فيما بينه وبين الله ويسقط عنه حق الرسول في الآخرة" وبه صرح بذلك غير واحد من أصحابنا وغيرهم لأن التوبة المسقطة لحق الله وحق العبد وجدت قبل أخذه لإقامة الحد عليه وذلك أن هذا الحد ليس له عاف عنه فإن لم تكن التوبة مسقطة له لزم أن يكون من الحدود ما لا تسقطه توبة قبل القدرة ولا عفو

ص: 511