الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس لهذا نظير نعم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيا لتوجه أن يقال: لا يسقط الحد إلا عفوه بكل حال.
وأما إن أخذ وثبت السب بإقراره ثم تاب أو جاء فأقر بالسب غير مظهر للتوبة ثم تاب فذلك مبني على جواز رجوعه عن هذا الإقرار: فإذا لم يقبل رجوعه أقيم عليه الحد بلا تردد وإن قبل رجوعه وأسقط الحد عمن جاء تائبا ففي سقوطه عن هذا الوجهان المتقدمان وإن أقيم الحد على من جاء تائبا فعلى هذا أولى والقول في الذمي إذا جاء مسلما معترفا أو أسلم بعد إقراره كذلك.
فهذا ما يتعلق بالتوبة من السب ذكرنا ما حضرنا ذكره كما يسره الله سبحانه وتعالى.
وقد حان أن نذكر المسألة الرابعة فنقول:
المسألة الرابعة: في بيان السب المذكور والفرق بينه وبين مجرد الكفر
.
وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة وقد كان يليق أن تذكر في أول المسألة الأولى وذكرها هنا مناسب أيضا لينكشف سر المسألة.
وذلك أن نقول: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بما أنزل الله.
وكذلك قال محمد بن سحنون وهو أحد الأئمة من أصحاب مالك وزمنه قريب من هذه الطبقة: "أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر".
وقد نص على مثل هذا غير واحد من الأئمة قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا وكذا أعني أنت ومن خلقك: "هذا مرتد عن الإسلام يضرب عنقه" وقال في رواية عبد الله وأبي طالب: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل وذلك أنه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه وسلم" فبين أن هذا مرتد وأن المسلم لا يتصور أن يشتم وهو مسلم.
وكذلك نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى أنه قال: "هو كافر" واستدل بقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: من سب الله كفر سواء كان مازحا أو جادا لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به.
وقال القاضي أبو يعلى في "المعتمد": "من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله" فإن قال: "لم أستحل ذلك" لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة وكان مرتدا لأن الظاهر خلاف ما أخبر لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا لأنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: "أنا غير مستحل لذلك" أنه يصدق في الحكم
لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة قال: وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر الحكم فأما في الباطن فإن كان صادقا فيما قال فهو مسلم كما قلنا في الزنديق: لا تقبل توبته في ظاهر الحكم.
وذكر القاضي عن الفقهاء أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم إن كان مستحلا كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر كساب الصحابة وهذا نظير ما يحكى أن بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون أمير المؤمنين فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلده حتى أنكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا مالك وهو نظير ما حكاه أبو محمد ابن حزم أن بعض الناس لم يكفر المستخف به.
وقد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد وحمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به أو أن الفتيا كانت في كلمة اختلف في كونها سبا أو كانت فيمن تاب ذكر أن الساب إذا أقر بالسب ولم يتب منه قتل كفرا لأن قوله إما صريح كفر كالتكذيب ونحوه أو هو من كلمات الاستهزاء أو الذم فاعترافه بها وترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك وهو كفر أيضا قال: فهذا كافر بلا خلاف.
وقال في موضع آخر: إن من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة وإنما يوجب القتل فيه حدا وإنما يقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاع عنه والتوبة ونقتله حدا كالزنديق إذا تاب قال: ونحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد والنبوة وإنكاره ما شهد به عليه أو زعمه أن ذلك كان منه ذهولا ومعصية وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه
قال: وأما من علم أنه سبه معتقدا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك وكذلك إن كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفيره ونحوه فهذا ما لا إشكال فيه وكذلك من لم يظهر التوبة واعتراف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه وهذا أيضا تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبا صريحا.
وهذا موضع لا بد من تحريره ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا وإنما وقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح وصرح القاضي أبو يعلى بذلك هنا قال عقب أن ذكر ما حكيناه عنه: وعلى هذا لو قال الكافر: "أنا معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده لكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلا" لم يحكم بإسلامه في الظاهر ويحكم به باطنا قال: وقول الإمام أحمد: "من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي" محمول على أحد وجهين أحدهما: أنه جهمي في ظاهر الحكم والثاني: على أنه يمتنع من الشهادتين عنادا لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عرف ربة بقلبه ولم يكن مؤمنا ومعلوم أن إبليس اعتقد أنه لا يلزم امتثال أمره تعالى بالسجود لآدم وقد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق بلسانه مع القدرة وبقلبه وأن الإيمان قول وعمل كما هو مذهب الأئمة كلهم: مالك وسفيان والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة.
وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل وإنما الغرض البينة على ما يختص هذه المسألة وذلك من وجوه.
أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلا كفر وإلا فلا ليس لها أصل وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا في أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولا وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء وحكاية إجماعهم ممن هو أعلم الناس بمذاهبهم فلا يظن ظان أن في المسألة خلافا يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة.
الوجه الثاني: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال فإنه لما اعتقد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أن الله حرمها فإنه من فعل شيئا من ذلك مستحلا كفر مع أنه لا يجوز أن يقال: من قذف مسلما أو اغتابه كفر ويعنى بذلك إذا استحله.
الوجه الثالث: أن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن فإذا لا أثر للسب في التكفير وجودا وعدما وإنما المؤثر هو الاعتقاد وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء.
الوجه الرابع: أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال: "أنا اعتقد أن هذا حرام وإنما أقول غيظا وسفها أو عبثا أو لعبا" كما قال المنافقون: {إِنَّمَا
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَب} كما إذا قال: إنما قذفت هذا أو كذبت عليه لعبا وعبثا فإن قيل لا يكونون كفارا فهو خلاف نص القرآن وإن قيل يكونون كفارا فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرا وقول القائل أنا لا أصدقه في هذا لا يستقيم فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل فإذا كان قد قال: "أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله" فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرا؟ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ولم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر كما لو كانوا صادقين بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب.
وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فإنها أدلة بينة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودا وعدما فلا حاجة إلى أن نعيد الكلام هنا بل في الحقيقة كل ما دل على أن الساب كافر وأنه حلال الدم لكفره فقد دل على هذه المسألة إذ لو كان الكفر المبيح هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفيره وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء
ومنشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين ومن حذا حذوهم من الفقهاء أنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به ورأوا أن اعتقاد صدقة لا ينافي السب والشتم بالذات كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه كما يترك ما يعتقد وجوب فعله ويفعل ما يعتقد وجوب تركه ثم رأوا أن الأمة قد كفرت الساب فقالوا: إنما كفر لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام واعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة وإنما الإهانة دليل على التكذيب فإذا فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب كان في نفس الأمر مؤمنا وإن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره فهذا مأخذ المرجئة ومعتضديهم وهو الذين يقولون: "الإيمان هو الاعتقاد والقول" وغلاتهم وهم الكرامية الذين يقولون: "هو مجرد القول وإن عري عن الاعتقاد" وأما الجهمية الذين يقولون: "هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وإن لم يتكلم بلسانه" فلهم مأخذ آخر وهو أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن.
وجواب الشبهة الأولى من وجوه:
أحدها: أن الإيمان وإن كان أصله تصديق القلب فذلك التصديق لا بد أن يوجب حالا في القلب وعملا له وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته وذلك أمر لازم كالتألم والتنعم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئا وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول أو التكبر عليه أو الإهمال له وإعراض القلب عنه ونحو ذلك كما أن إدراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم إلا أن يعارضه معارض ومتى حصل المعارض كان وجود
ذلك التصديق كعدمه كما يكون وجود ذلك كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب وبتوسط عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الإيمان بالكلية من القلب وهذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم أو كره فراق الإلف والعادة مع علمه بأنهم صادقون وكفرهم أغلظ من كفر الجهال.
الثاني: أن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق وإنما هو الإقرار والطمأنينة وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر وكلام الله خبر وأمر فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد وإذا كان كذلك فالسب إهانة واستخفاف والانقياد للأمر إكرام وإعزاز ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام فلا يكون فيه إيمان وهذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله له فلم يكذب رسولا ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرا وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف: تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون
ولم أنهم هدوا لما هدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل أعني في الأصل قولا في القلب وعملا في القلب فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته وكلام الله ورسالته يتضمن إخباره وأوامره فيصدق القلب إخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به والتصديق هو من نوع العلم والقول وينقاد لأمره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل ولا يكون مؤمنا إلا بمجموع الأمرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين وإذا كان مصدقا فالكفر أعم من التكذيب يكون تكذيبا وجهلا ويكون استكبارا وظلما ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالا وهو الجهل ألا ترى أن نفرا من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتعبوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟ ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرا وأمرا فإنه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياد لأمر الله فإذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله" فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره فإذا قال: "وأشهد أن محمدا رسول الله" تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للأمر إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس وهذا مما يبين
لك أن الاستهزاء بالله وبرسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفرا صريح ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادا لأمره فإن الانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.
الوجه الثالث: أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند ولهذا قالوا: من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقا بأن الله ربه فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق.
وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه وكذلك لو استحلها بغير فعل والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو لخلل في الإيمان بالرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفرا ممن قبله وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى
عدم التصديق بصفة من صفاته وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا أو إتباعا لغرض النفس وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق وأنفر عنه فهذا نوع غير النوع الأول وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته أشد وفي مثله قيل: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" وهو إبليس ومن سلك سبيله وبهذا يظهر الفرق بين العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويحب أنه يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد أتى من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وعمل لكن لم يكمل العمل.
وأما إهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلأنه لم يهن ما كان الانقياد له والإكرام شرطا في إيمانه وإنما أهان من إكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه وجانب الله والرسول إنما كفر فيه لأنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق تصديقا يقتضي الخضوع والانقياد فحيث لم يقتضه لم يكن ذلك التصديق إيمانا بل كان وجوده شرا من عدمه فإن من خلق له حياة وإدراك ولم يرزق إلا العذاب كان فقد تلك الحياة والإدراك أحب إليه من حياة ليس فيها إلا الألم وإذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله وحصول النعيم له واللذة في الدنيا والآخرة فلم يحصل معه إلا فساد حاله والبؤس والألم في الدنيا والآخرة كان أن لا يوجد أحب إليه من أن يوجد.
وهنا كلام طويل في تفصيل هذه الأمور ومن حكم الكتاب والسنة على
نفسه قولا وفعلا ونور الله قلبه تبين له ضلال كثير من الناس ممن يتكلم برأيه في سعادة النفوس بعد الموت وشقاوتها جريا على منهاج الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ونبذوا الكتاب الله وراء ظهورهم وإتباعا لما تتلوه الشياطين.
وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنا ومن جوز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
الثاني: أن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان حتى اختلفوا في تكفير من قال: "إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح" وليس هذا موضع تقرير هذا.
وما ذكره القاضي رحمه الله من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع وكذلك ما دل عليه كلام القاضي عياض فإن مالكا وسائر الفقهاء من التابعين ومن بعدهم إلا من نسب إلى بدعة قالوا: "الإيمان قول وعمل" وبسط هذا له مكان غير هذا.
الثالث: أن من قال: "إن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى المنطق باللسان" يقول: لا يفتقر الإيمان في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان لكن لا يقول إن القول الذي ينافي الإيمان لا يبطله فإن القول قولان: قول يوافق تلك المعرفة وقول يخالفها فهب أن القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال
بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدا لها عالما بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا فصار كل من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما أنه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم فإذا عدم المعلول كان مستلزما لعدم العلة وإذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الآخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرا.
واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق في القلب والعمل يصدق القول والتكذيب بالقول مستلزم
للتكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثر في الجوارح فإنما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر والكلام في هذا واسع وإنما نبهنا على هذه المقدمة.
فصل.
ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول:
قد ثبت أن كل سب وشتم يبيح الدم فهو كفر وإن لم يكن كل كفر سبا ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة:
قال الإمام أحمد: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب".
وقال في موضع آخر: "كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة".
وقال أصحابنا: "التعرض بسب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم ردة وهو موجب للقتل كالتصريح ولا يختلف أصحابنا أن قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم من جملة سبه الموجب للقتل وأغلظ لأن ذلك يفضي إلى القدح في نسبه وفي عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سب أم النبي صلى الله عليه وسلم يقتل مسلما كان أو كافرا وينبغي أن يكون مرادهم بالسب هنا القذف كما صرح به الجمهور لما فيه من سب النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال القاضي عياض: "جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهة بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو ساب
له والحكم فيه حكم الساب: يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا تمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا وكذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو عيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال: هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه وهلم جرا".
وقال ابن القاسم عن مالك: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب" قال ابن القاسم: "أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره".
وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه: "من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب".
وروى ابن وهب عن مالك من قال: "إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويروى برده "وسخ" وأراد به عيبه قتل".
وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة.
وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم:
منها: رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال: تريدون تعرفون صفته؟ هذا المار في خلقه ولحيته.
ومنها: رجل قال: النبي صلى الله عليه وسلم أسود.
ومنها: رجل قيل له: "لا وحق رسول الله" فقال: فعل الله برسول الله كذا
وكذا ثم قيل له: ما تقول يا عدو الله فقال أشد من كلامه الأول ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب قالوا: لأن ادعاء للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا موقر له فوجبت إباحة دمه.
ومنها: عشار قال: أدوا شك إلى النبي أو قال: إن سألت أو جهلت فقد سأل النبي وجهل.
ومنها: متفقه كان يستخف بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسميه في أثناء مناظرته اليتيم وختن حيدره ويزعم أن زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها وأشباه هذا.
قال: فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتأخرهم وإن اختلفوا في حكم قتله.
وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه: "إنه مرتد" وكذلك قال أصحاب الشافعي: "كل من تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح" فإن الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله أو يسقط بالتوبة؟ على الوجهين وقد نص الشافعي على هذا المعنى.
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص به كفر مبيح للدم وهم في استتابته على ما تقدم من الخلاف ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك.
فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد آذى الله ورسوله وهو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى وإن لم يقصد
أذاهم ألم تسمع إلى الذين قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فقال الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو حكم من حكمه أو يدعى لما سنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ثم لا يجدوا في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في حكم وحرج لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحش في منطقه فهو كافر بنص التنزيل ولا يعذر بأن مقصوده رد الخصم فإن الرجل لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
ومن هذا الباب قول القائل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وقول الآخر: اعدل فإنك لم تعدل وقول ذلك الأنصاري: أن كان ابن عمتك فإن هذا كفر محض حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم للزبير لأنه ابن عمته ولذلك أنزل الله تعالى هذه الآية وأقسم أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه وإنما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما عفا عن الذي قال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وعن الذي قال: اعدل فانك لم تعدل وقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنه قتل رجلا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه؟ وقد ذكر طائفة من الفقهاء منهم ابن عقيل وبعض أصحاب الشافعي أن هذا كان عقوبته التعزير ثم منهم من قال: لم يعزره النبي
صلى الله عليه وسلم لأن التعزير غير واجب ومنهم من قال: عفا عنه لأن الحق له ومنهم من قال: عاقبه بأن أمر الزبير أن يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر وهذه أقوال ردية لا يستريب من تأمل في أن هذا كان يستحق القتل بعد نص القرآن أن من هو بمثل حاله ليس بمؤمن.
فإن قيل: ففي رواية صحيحة أنه كان من أهل بدر وفي الصحيحين عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ولو كان هذا القول كفرا للزم أن يغفر الكفر والكفر لا يغفر ولا يقال عن بدري: إنه كفر.
فقيل: هذه الزيادة ذكرها أبو اليمان عن شعيب ولم يذكرها أكثر الرواة فيمكن أنها وهم كما وقع في حديث كعب وهلال بن أمية أنهما لم يشهدا بدرا وكذلك لم يذكره ابن إسحاق في روايته عن الزهري لكن الظاهر صحتها.
فنقول: ليس في الحديث أن هذه القصة كانت بعد بدر فلعلها كانت قبل بدر وسمي الرجل بدريا لأن عبد الله بن الزبير حدث بالقصة بعد أن صار الرجل بدريا فعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فقال الزبير: والله لأني أحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} متفق عليه وفي رواية للبخاري من حديث عروة قال: فاستوعى رسول الله
صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم وهذا يقوي أن القصة متقدمة قبل بدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن الأعلى يسقى ثم يحبس حتى يبلغ الماء إلى الكعبين فلو كانت قصة الزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه وهذا القضاء الظاهر أنه متقدم من حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحاجة إلى الحكم فيه من حين قدم ولعل قصة الزبير أوجبت هذا القضاء.
وأيضا فإن هؤلاء الآيات قد ذكر غير واحد أن أولها نزل لما أراد بعض المنافقين أن يحاكم يهوديا إلى ابن الأشرف وهذا إنما كان قبل بدر لأن ابن الأشرف ذهب عقب بدر إلى مكة فلما رجع قتل فلم يستقر بعد بدر بالمدينة استقرارا يتحاكم إليه وإن كانت القصة بعد بدر فإن القائل لهذه الكلمة يكون قد تاب واستغفر وقد عفا له النبي صلى الله عليه وسلم عن حقه فغفر له والمضمون لأهل بدر إنما هو المغفرة: إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما لا يغفر إلا بالاستغفار أو لم يكن كذلك وإما بدون أن يستغفروا ألا ترى أن قدامة بن مظعون وكان بدريا تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو أصحابه فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا ثم إنه تاب وكاد ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر فعلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنة وأنهم مغفور لهم وإن جاز أن يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر فإن التوبة تجب ما قبلها.
وإذا ثبت أن كل سب تصريحا أو تعريضا موجب للقتل فالذي يجب أن يعتني به الفرق بين السب الذي لا تقبل منه التوبة والكفر الذي تقبل منه التوبة فنقول:
هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسب وكذلك جاء في ألفاظ الصحابة والفقهاء ذكر السب والشتم والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض والسماء والبر والبحر والشمس والقمر ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر فإنه يرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها فيجب أن يرجع في الأذى والشتم إلى العرف فما عده أهل العرف سبا أو انتقاصا أو عيبا أو طعنا ونحو ذلك فهو من السب وما لم يكن كذلك فهو كفر به فيكون كفرا ليس بسب حكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرا له وإلا فهو زندقة والمعتبر أن يكون سبا وأذى للنبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن سبا وأذى لغيره فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي صلى الله عليه وسلم أوجب تعزيرا أو حدا بوجه من الوجوه فإنه من باب سب النبي صلى الله عليه وسلم كالقذف واللعن وغيرهما من الصورة التي تقدم التنبيه عليها وأما ما يختص بالقدح في النبوة فإن لم يتضمن إلا مجرد عدم التصديق بنبوته فهو كفر محض وإن كان فيه استخفاف واستهانة مع عدم التصديق فهو من السب وهنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من السب أو من الردة المحضة ثم ما ثبت أنه ليس بسب فإن استسر به صاحبه فهو زنديق حكمه حكم الزندقة وإلا فهو مرتد محض واستقصاء الأنواع والفرق بينها ليس هذا موضعه.
فصل.
فأما الذمي فيجب التفريق بين مجرد كفره به وبين سبه فإن كفره به لا ينقض العهد ولا يبيح دم المعاهد بالاتفاق لأنا صالحناهم على هذا وأما سبه له فإنه ينقض العهد ويوجب القتل كما تقدم.
قال القاضي أبو يعلى: "عقد الأمان يوجب إقرارهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لا على شتمهم وسبهم له".
وقد تقدم أن هذا الفرق أيضا معتبر في المسلم حيث قتلناه بخصوص السب وكونه موجبا للقتل حدا من الحدود بحيث لا يسقط بالتوبة وإن صحت وأما حيث قتلناه لدلالته على الزندقة أو لمجرد كونه مرتدا فلا فرق حينئذ بين مجرد الكفر وبين ما تضمنه من الأنواع فنقول:
الآثار عن الصحابة والتابعين والفقهاء مثل مالك وأحمد وسائر الفقهاء القائلين بذلك كلها مطلقة في من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو معاهد فإنه يقتل ولم يفصلوا بين شتم وشتم ولا بين أن يكرر الشتم أو لا يكرره أو يظهره أو لا يظهره وأعني بقولي لا يظهره: أن لا يتكلم به في ملأ من المسلمين وإلا فالحد لا يقام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتمه أو حتى يقر بالشتم وكونه يشتمه بحيث يسمعه المسلمون إظهارا له اللهم إلا أن يفرض أنه شتمه في بيته خاليا فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرق السمع منهم.
قال مالك وأحمد: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فإنه يقتل ولا يستتاب" فنصا على أن الكافر يجب قتله بتنقصه له كما يقتل بشتمه وكما يقتل المسلم بذلك وكذلك أطلق سائر أصحابنا أن سب النبي صلى الله عليه وسلم من الذمي يوجب القتل.
وذكر القاضي وابن عقيل وغيرهما أن ما أبطل الإيمان فإنه يبطل الأمان إذا أظهروه فإن الإسلام أوكد من عقد الذمة فإذا كان من الكلام ما يبطل حق الإسلام فأن يبطل حقن الذمة أولى مع الفرق بينهما من وجه آخر فإن المسلم إذا سب الرسول دل على سوء اعتقاده في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كفر والذمي قد علم أن اعتقاده ذلك وأقررناه على اعتقاده وإنما أخذ عليه كتمه وأن لا يظهره فبقي تفاوت ما بين الإظهار والإضمار.
قال ابن عقيل: "فكما أخذ على المسلم أن لا يعتقد ذلك أخذ على الذمي أن لا يظهره فإظهار هذا كإضمار ذاك وإضماره لا ضرر على الإسلام ولا إزراء فيه وفي إظهاره ضرر وإزراء على الإسلام ولهذا ما بطن من الجرائم لا يتبعها في حق المسلم ولو أظهرها أقمنا عليهم حد الله".
وطرد القاضي وابن عقيل هذا القياس في كل ما ينقض الإيمان من الكلام مثل التثنية والتثليث كقول النصارى: "إن الله ثالث ثلاثة" ونحو ذلك: أن الذمي متى أظهر ما يعلمه من دينه من الشرك نقض العهد كما أنه إن أظهر ما نعلمه بقوله في نبينا عليه الصلاة والسلام نقض العهد.
قال القاضي: وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية حنبل: "كل من ذكر شيئا يعرض به الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا هذا مذهب أهل المدينة".
وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له: كذبت فقال: "يقتل لأنه شتم" فقد نص على قتل من كذب المؤذن في كلمات الأذان وهي قول "الله أكبر" أو "أشهد أن لا إله إلا الله" أو "أشهد أن محمدا رسول الله" وقد ذكرها الخلال والقاضي في سب الله بناء
على أنه كذبه فيما يتعلق بذكر الرب سبحانه والأشبه أنه عام في تكذيبه فيما يتعلق بذكر الرب وذكر الرسول بل هو في هذا أولى لأن اليهودي لا يكذب من قال "لا إله إلا الله" ولا من قال "الله أكبر" وإنما يكذب من قال أن محمدا رسول الله وهذا قول جمهور المالكيين قالوا: إنه يقتل بكل سب سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه لأنهم وإن استحلوه فإنا لم نعطهم العهد على إظهاره وكما لا يحصن الإسلام من سبه كذلك لا تحصن منه الذمة وهو قول أبي مصعب وطائفة من المدنيين.
قال أبو مصعب في نصراني قال: "والذي اصطفى عيسى على محمد": "اختلف العلماء فيه فضربته حتى قتلته أو عاش يوما وأمرت من جر برجله وطرح على مزبلة فأكتله الكلاب".
قال أبو مصعب في نصراني قال: "عيسى خلق محمدا" قال: "يقتل".
وأفتى سلف الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية وبنوة عيسى لله.
وقال ابن القاسم فيمن سبه فقال: "ليس بنبي أو لم يرسل أو لم ينزل عليه قرآن وإنما هو شيء يقوله" ونحو هذا: فيقتل وإن قال: "إن محمدا لم يرسل إلينا وإنما أرسل إليكم وإنما نبينا موسى أو عيسى" ونحو هذا: لا شيء عليهم لأن الله أقرهم على مثله.
قال ابن القاسم: وإذا قال النصراني "ديننا خير من دينكم إنما دينكم دين الحمير" ونحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول "أشهد أن محمدا رسول الله" فقال: كذلك يعظكم الله ففي هذا الأدب الموجع والسجن الطويل وهذا قول محمد بن سحنون وذكره عن أبيه ولهم قول آخر فيما إذا سبه بالوجه الذي به كفروا أنه لا يقتل.
قال سحنون عن ابن القاسم: "من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم".
وقال سحنون في اليهودي يقول للمؤذن إذا تشهد "كذبت": "يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل".
وقد تقدم نص الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل لأنه شتم.
وكذلك اختلف أصحاب الشافعي في السب الذي ينتقض به عهد الذمي ويقتل به إذا قلنا بذلك على الوجهين: أحدهما: ينتقض بمطلق السب لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه وإن كانوا يعتقدون ذلك دينا وهذا قول أكثرهم والثاني: أنهم إذا ذكروه بما يعتقدونه فيه دينا من أنه ليس برسول والقرآن ليس بكلام الله فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث قالوا: وهذا لا ينقض العهد بلا تردد بل يعزرون على إظهاره وأما ما ذكروه بما لا يعتقدونه دينا كالطعن في نسبه فهو الذي قيل فيه: ينقض العهد وهذا اختيار الصيدلاني وأبي المعالي وغيرهما.
وحجة من فرق بين ما يعتقدونه فيه دينا وما لا يعتقدونه كما اختاره بعض المالكية وبعض الشافعية أنهم قد أقروا على دينهم الذي يعتقدونه لكن منعوا من إظهاره فإذا أظهروه كان كما لو أظهروا سائر المناكير التي هي من دينهم كالخمر والخنزير والصليب ورفع الصوت بكتابهم ونحو ذلك وهذا إنما يستحقون عليه العقوبة والنكال بما دون القتل.
يؤيد ذلك أن إظهار معتقدهم في الرسول ليس بأعظم من إظهار معتقدهم في الله وقد علم هؤلاء أن إظهار معتقدهم لا يوجب القتل واستبعدوا أن ينتقض عهدهم بإظهار معتقدهم إذا لم يكن مذكورا في الشرط وهذا بخلاف ما إذا سبوه بما لا يعتقدونه دينا فإنا لم نقرهم على ذلك ظاهرا ولا باطنا وليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنا والسرقة وقطع الطريق وهذا القول مقارب لقول الكوفيين
وقد ظن من سلكه أنه خلص بذلك من سؤالهم وليس الأمر كما اعتقده فإن الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كلها تدل على السب بما يعتقده فيه دينا وما لا يعتقده فيه دينا وأن مطلق السب موجب للقتل ومن تأمل كل دليل بانفراده لم يخف عليه أنها جميعا تدل على السب المعتقد دينا كما تدل على السب الذي لا يعتقده دينا ومنها ما هو نص في السب الذي يعتقد دينا بل أكثرها كذلك فإن الذين كانوا يهجونه من الكفار الذين أهدر دماءهم لم يكونوا يهجونه إلا بما يعتقدونه دينا مثل نسبته إلى الكذب والسحر وذم دينه ومن اتبعه وتنفير الناس عنه إلى غير ذلك من الأمور فأما الطعن في نسبه أو خلقه أو أمانته أو وفائه أو صدقه في غير دعوى الرسالة فلم يكن أحدا يتعرض لذلك في غالب الأمر ولا يتمكن من ذلك ولا يصدقه أحد في ذلك لا مسلم ولا كافر لظهور كذبه وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى إعادته.
ثم نقول: هنا هذا الفرق متهافت من وجوه:
أحدها: أن الذمي لو أظهر لعنة الرسول أو تقبيحه أو الدعاء عليه بالسخط وجهنم والعذاب أو نحو ذلك فإن قيل: "ليس من السب الذي ينتقض به العهد" كان هذا قولا مردودا سمجا فإنه من لعن شخصا وقبحه لم يبق من سبه غاية وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن المؤمن كقتله" ومعلوم أن هذا أشد من الطعن في خلقه وأمانته أو وفائه وإن قيل: "هو سب له" فقد علم أن من الكفار من يعتقد ذلك دينا ويرى أنه من قرباته كتقريب المسلم بلعن مسيلمة والأسود العنسي.
الوجه الثاني: أنه على القول بالفرق المذكور إذا سبه بما لا يعتقده دينا مثل الطعن في نسبه أو خلقه أو خلقه ونحو ذلك فمن أين ينتقض عهده ويحل دمه؟ ومعلوم أنه قد أقر على ما هو أعظم من ذلك من الطعن في دينه الذي هو أعظم
من الطعن في نسبه ومن الكفر بربه الذي هو أعظم الذنوب ومن سب الله بقوله: إن له صاحبة وولدا وأنه ثالث ثلاثة فإنه لا ضرر يلحق الأمة في دينها بإظهار ما لا يعتقد صحته من السب إلا ويلحقهم بإظهار ما كفر به أعظم من ذلك فإذا أقر على أعظم السببين ضررا فإقراره على أدناهما ضررا أولى نعم بينهما من الفرق أنه إذا طعن في نسبه أو خلقه فإنه يقر لنا بأنه كاذب أو أهل دينه يعتقدون أنه كاذب آثم بخلاف السب الذي يعتقده دينا فإنه وأهل دينه متفقون على أنه ليس بكاذب فيه ولا آثم فيعود الأمر إلى أنه قال كلمة أثم بها عندهم وعندنا لكن في حق من لا حرمة له عنده بل مثاله عنده أن يقذف الرجل مسيلمة أو العنسي أو ينسبه إلى أنه كان أسود أو أنه كان دعيا أو كان يسرق أو كان قومه يستخفون به ونحو ذلك من الوقيعة في عرضه بغير حق ومعلوم أن هذا لا يوجب القتل بل ولا يوجب الجلد أيضا فإن العرض يتبع الدم فمن لم يعصم دمه لم يصن عرضه فلو لم يجب قتل الذمي إذا سب الرسول لكونه قد قدح في ديننا لم يجب قتله بشيء من السب أيضا فإن خطب ذلك يسير.
يبين ذلك أن المسلم إنما قتل إذا سبه بالقذف ونحوه لأن القدح في نسبه قدح في نبوته فإذا كنا بإظهار القدح في النبوة لا نقتل الذمي فأن لا نقتله بإظهار القدح فيما لا يقدح في النبوة أولى إذ الوسائل أضعف من المقاصد.
وهذا البحث إذا حقق اضطر المنازع إلى أحد الأمرين: إما موافقة من قال من أهل الرأي إن العهد لا ينقض من السب وإما موافقة الدهماء في أن العهد ينتقض بكل سب وأما الفرق بين سب وسب في انتقاض العهد واستحلال الدم فمتهافت.
ثم إنه إذا فرق لم يمكنه إيجاب القتل ولا نقض العهد بذلك أصلا ومن ادعى وجوب القتل بذلك وحده لم يمكنه أن يقيم عليه دليلا.
الثالث: أنا إذا لم نقتلهم بإظهار ما يعتقدونه دينا لم يمكنا أن نقتلهم بإظهار
شيء من السب فإنه ما من أحد منهم يظهر شيئا من ذلك إلا ويمكنه أن يقول: إني معتقد لذلك متدين به وإن كان طعنا في النسب كما يتدينون بالقدح في عيسى وأمه عليهما السلام ويقولون على مريم بهتانا عظيما ثم إنهم فيما بينهم قد يختلفون في أشياء من أنواع السب: هل هي صحيحة عندهم أو باطلة؟ وهم قوم بهت ضالون فلا يشاءون أن يأتوا ببهتان ونوع من الضلال الذي لا راد للقلوب منه ثم يقولون "هو معتقدنا" إلا فعلوه فحينئذ لا يقتلون حتى يثبت أنهم لا يعتقدونه دينا وهذا القدر هو محل اختلاف وبعضه لا يعلم إلا من جهتهم وقول بعضهم في بعض غير مقبول ونحن وإن كنا نعرف أكثر عقائدهم فيما تخفي صدورهم أكبر وتجدد الكفر والبدع منهم غير مستنكر فهذا الفرق مفضاة إلى حتم القتل بسب الرسول وهو لعمري قول أهل الرأي ومستندهم ما أبداه هؤلاء وقد قدمنا الجواب عن ذلك وبينا أنا إنما أقررناهم على إخفاء دينهم لا على إظهار باطل قولهم والمجاهرة بالطعن في ديننا وإن كانوا يستحلون ذلك فإن المعاهدة على تركه صيرته حراما في دينهم كالمعاهدة على الكف عن دمائنا وأموالنا وبينا أن المجاهرة بكلمة الكفر في دار الإسلام كالمجاهرة بضرب السيف بل أشد على أن الكفر أعم من السب فقد يكون الرجل كافرا ولا يسب وهذا هو سر المسألة فلا بد من بسطه فنقول:
التكلم في تمثيل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب واللسان ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين لكن الاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقا من غير تعيين والفقيه يأخذ حظه من ذلك فنقول: السب نوعان دعاء وخبر أما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله أو قبحه الله أو أخزاه
الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي: لا صلى الله عليه أو لا سلم أو لا رفع الله ذكره أو محا الله اسمه ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة.
فهذا كله إذا صدر من مسلم أو معاهد فهو سب فأما المسلم فيقتل به بكل حال وأما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره.
فأما إن أظهر الدعاء للنبي وأبطن الدعاء عليه إبطانا يعرف من لحن القول بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض مثل قوله: السام عليكم إذا أخرجه مخرج التحية وأظهر أنه يقول السلام ففيه قولان:
أحدهما: أنه من السب الذي يقتل به وإنما كان عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهود الذين حيوه بذلك حال ضعف الإسلام بالبقاء عليه لما كان مأمورا بالعفو عنهم والصبر على أذاهم وهذا قول طائفة من المالكية والشافعية والحنبلية مثل القاضي عبد الوهاب والقاضي أبي يعلي وأبي إسحاق الشيرازي وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وممن ذهب إلى أن هذا سب من قال قال لم يعلم أن هؤلاء كانوا أهل عهد وهذا قول ساقط لأنا قد بينا فيما تقدم أن اليهود الذين بالمدينة كانوا معاهدين وقال آخرون: كان الحق له وله أن يعفو عنهم فأما بعده فلا عفو.
والقول الثاني: أنه ليس من السب الذي ينتقض العهد لأنهم لم يظهروا السب ولم يجهروا به وإنما أظهروا التحية والسلام لفظا وحالا وحذفوا اللام حذفا خفيا يفطن له بعض السامعين وقد لا يفطن له الأكثرون ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود إذا سلموا فإنما يقول أحدهم: السام عليكم فقولوا: وعليكم" فجعل هذا شرعا باقيا في حياته وبعد موته حتى صارت السنة أن يقال للذمي إذا سلم: وعليكم وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال: "أتدرون ما قال؟ إنما قال: السام عليكم" ولو كان هذا من السب الذي هو سب لوجب أن يشرع عقوبة اليهودي إذا سمع منه ذلك ولو بالجلد فلما لم يشرع ذلك علم
أنه لا يجوز مؤاخذتهم بذلك وقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فجعل عذاب الآخرة حسبهم يدل على أنه لم يشرع على ذلك عذابا في الدنيا وهذا لو أنهم قد قرروا على ذلك لقالوا إنما قلنا السلام وإنما السمع يخطئ وأنتم تتقولون علينا فكانوا في هذا مثل المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويعرفون في لحن القول ويعرفون بسيماهم فإنه لا يمكن عقوبتهم باللحن والسيما فإن موجبات العقوبات لا بد أن تكون ظاهرة الظهور الذي يشترك فيه الناس وهذا القدر وإن كان كفرا من المسلم فإنما يكون نقضا للعهد إذا أظهره الذمي وإتيانه به على هذا الوجه غاية ما يكون من الكتمان والإخفاء ونحن لا نعاقبهم على ما يسرونه ويخفونه من السب وغيره وهذا قول جماعات من العلماء من المتقدمين ومن أصحابنا والمالكيين وغيرهم وممن أجاز هذا القول ممن زعم أن هذا دعاء بالسام وهو الموت على أصح القولين أو دعاء بالسامة وأما الذين قالوا إن الموت محتوم على الخليقة قالوا: وهذا تعريض بالأذى لا بالسب وهذا القول ضعيف فإن الدعاء على الرسول والمؤمنين بالموت وترك الدين من أبلغ السب كما أن الدعاء بالحياة والعافية والصحة والثبات على الدين من أبلغ الكرامة.
النوع الثاني: الخبر فكل ما عده الناس شتما أو سبا أو تنقصا فإنه يجب به القتل كما تقدم فإن الكفر ليس مستلزما للسب وقد يكون الرجل كافرا ليس بساب والناس يعلمون علما عاما أن الرجل قد يبغض الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه وقد يضم إلى ذلك مسبة وإن كانت المسبة مطابقة للمعتقد فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا ولا ما يحتمل أن يقال سرا يحتمل أن يقال جهرا والكلمة الواحدة تكون في حال سبا وفي حال ليست بسب فعلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال وإذا لم يكن للسب حد
معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء وما لا فلا ونحن نذكر من ذلك أقساما فنقول:
لا شك أن إظهار التنقص والاستهانة عند المسلمين سب كالتسمية باسم الحمار أو الكلب أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة أو الإخبار بأنه في العذاب وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتال وأنه يضر من اتبعه وأن ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك فإن نظم ذلك شعرا كان أبلغ في الشتم فإن الشعر يحفظ ويروى وهو الهجاء وربما يؤثر في نفوس كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تأثير البراهين فإن غني به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره وأما من أخبر عن معتقده بغير طعن فيه مثل أن يقول: أنا لست متبعه أو لست مصدقه أو لا أحبه أو لا أرضى دينه ونحو ذلك فإنما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصا لأن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الأسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي خلاف ما إذا قال من كان ومن هو رأى كذا وكذا هو ونحو ذلك وإذا قال: لم يكن رسولا ولا نبيا ولم ينزل عليه شيء ونحو ذلك فهو تكذيب صريح وكل تكذيب فقد تضمن نسبته إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب لكن بين قوله: "ليس بنبي" وقوله: "هو كذاب" فرق من حيث إن هذا إنما تضمن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول: إني رسول الله وليس من نفى عن غيره بعض صفاته نفيا مجردا كمن نفاها عنه ناسبا له إلى الكذب في دعواها والمعنى الواحد قد يؤدى بعبارات بعضها يعد سبا وبعضها لا يعد سبا وقد ذكرنا أن الإمام أحمد نص على أن من قال للمؤذن "كذبت" فهو شاتم وذلك لأن ابتداءه بذلك للمؤذن معلنا
بذلك بحيث يسمعه المسلمون طاعنا في دينهم مكذبا للأمة في تصديقها بالوحدانية والرسالة لا ريب أنه شتم.
فإن قيل: ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الرسول عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني" فقد قرن بين التكذيب والشتم.
فيقال قوله: "لن يعيدني كما بدأني" يفارق قول اليهودي للمؤذن "كذبت" من وجهين:
أحدهما: أنه لم يصرح بنسبته إلى الكذب ونحن لم نقل: إن كل تكذيب شتم إذ لو قيل ذلك لكان كل كافر شاتما وإنما قيل: إن الإعلان بمقابلة داعي الحق بقوله: "كذبت" سب للأمة وشتم لها في اعتقاد النبوة وهو سب للنبوة كما أن الذين هجوا من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على إتباعهم إياه كانوا سابين للنبي صلى الله عليه وسلم مثل شعر بنت مروان وشعر كعب بن زهير وغيرهما وأما قول الكافر: "لن يعيدني كما بدأني" فإنه نفي لمضمون خبر الله بمنزلة سائر أنواع الكفر.
الثاني: أن الكافر المكذب بالبعث لا يقول: إن الله أخبر أنه سيعيدني ولا يقول: إن هذا الكلام تكذيب لله وإن كان تكذيبا بخلاف القائل للرسول أو لمن صدق الرسول "كذبت" فإنه مقر بأن هذا طعن على المكذب وعيب له وانتقاص به وهذا ظاهر وكل كلام تقدم ذكره في المسألة الأولى من نظم ونحوه عده النبي صلى الله عليه وسلم سبا حتى رتب على قائله حكم الساب فإنه سب أيضا وكذلك ما كان في معناه وقد تقدم ذكر ذلك والكلام على أعيان الكلمات لا ينحصر وإنما جماع ذلك أن ما يعرف
الناس أنه سب فهو سب وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك وما اشتبه فيه الأمر ألحق بنظيره وشبهه والله سبحانه أعلم.
فصل.
وكل ما كان من الذمي سبا ينقض عهده ويوجب قتله فإن التوبة توبته منه لا تقبل على ما تقدم هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أصحابنا وغيرهم.
وقد تقدم عن الشيخ أبي محمد المقدسي رضي الله عنه أنه قال: إن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم سقط عنه القتل وإنه إذا قذفه ثم أسلم ففي سقوط القتل عنه روايتان وينبغي أن يبنى كلامه على أنه إن سبه بما يعتقده فيه دينا سقط عنه القتل بإسلامه كاللعن والتقبيح ونحوه وإن سبه بما لا يعتقده فيه كالقذف لم يسقط عنه لأن ما يعتقده فيه كفر محض سقط حده بالإسلام باطنا فيجب أن يسقط ظاهرا أيضا لأن سقوط الأصل الذي هو الاعتقاد يستتبع سقوط فروعه وأما ما لا يعتقده فهو فرية يعلم هو أنها فرية فهي بمنزلة سائر حقوق الآدميين وإن حمل الكلام على ظاهره في أنه يستثنى القذف فقط من بين سائر أنواع السب فيمكن أن يوجه بأن قذف غيره لما تغلظ بأن جعل على صاحبه الحد المؤقت وهو ثمانون بخلاف غيره من أنواع السب فإن عقوبته التعزير المفوض إلى اجتهاد ذي السلطان كذلك يفرق في حقه بين القذف وغيره فيجعل على قاذفه الحد مطلقا وهو القتل وإن أسلم ويدرأ عن الساب الحد إذا تاب لكن هذا الفرق ليس بمرضي فإن قذفه إنما أوجب القتل ونقض العهد لما قدح في نسبه وكان ذلك قدحا في نبوته وهذا معنى يستوي فيه السب بالقذف وبغيره من أنواع الأكاذيب بل قد توصف من الأفعال أو الأقوال المنكرة بما يلحق بالموصوف شيئا وغضاضة
أعظم من هذا وإنما فرق في حق غيره بين القذف وغيره لأنه لا يمكن تكذيب القاذف به كما يمكن تكذيب غيره فصار العار به أشد.
وهنا كلمات السب القادحة في النبوة سواء في العلم ببطلانها ظهورا وخفاء فإن العلم بكذب القاذف كالعلم بكذب الناسب له إلى منكر من القول وزور لا فرق بينهما.
وبالجملة فالمنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه وسائر أهل العلم أنه لا فرق في هذا الباب بين السب بالقذف وغيره بل من قال: "إنه ينتقض عهده ويتحتم قتله" لم يفرق بين القذف وغيره ومن قال: "يسقط عنه القتل بإسلامه" لم يفرق بين القذف وغيره ومن فرق من الفقهاء بين ما يعتقده وما لا يعتقده فإنما فرق في انتقاض العهد لا في سقوط القتل عنه بالإسلام لكن هو يصلح أن يكون معاضدا لقول الشيخ أبي محمد لأنه فرق بين النوعين في الجملة وأما الإمام أحمد وسائر العلماء المتقدمين فإنما خلافهم في السب مطلقا وليس في شيء من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه تعرض للقذف لخصوصه وإنما ذكره أصحابه في القذف لأنهم تكلموا في أحكام القذف مطلقا فذكروا هذا النوع من القذف أنه موجب للقتل وأنه لا يسقط القتل بالتوبة لنص الإمام على أن السب الذي هو أعم من القذف موجب للقتل لا يستتاب صاحبه ثم منهم من ذكر المسألة بلفظ السب كما هي في لفظ أحمد وغيره ومنهم من ذكرها بلفظ القذف لأن الباب باب القذف فكان ذكرها بالاسم الخاص أظهر تأثيرا في الفرق بين هذا القذف وغيره ثم علل الجميع وأدلتهم تعم أنواع السب بل هي في غير القذف أنص منها في القذف وإنما تدل على القذف بطريق العموم أو بطريق القياس والدليل يوافق ما ذكره الجمهور من التسوية كما تقدم ذكره نفيا وإثباتا ولا حاجة إلى الإطناب هنا فإن من سلم أن جميع أنواع السب من القذف وغيره ينقض العهد ويوجب القتل ثم فرق بين بعضهما وبعض في السقوط بالإسلام فقد
أبعد جدا لأن السب لو كان بمنزلة الكفر عنده لم ينقض العهد ولوجب قتل الذمي وإذا لم يكن بمنزلة الكفر فإسلامه إما أن يسقط الكفر فقط أو يسقط الكفر وغيره من الجناية على عرض الرسول فأما إسقاطه لبعض الجنايات دون بعض مع استوائهما في مقدار العقوبة فلا يتبين له وجه محقق.
والاحتجاج بأن الإسلام يسقط عقوبة من سب الله فإسقاطه عقوبة من سب النبي أولى إن صح فإنما يدل على أن الإسلام يسقط عقوبة الساب مطلقا قذفا كان السب أو غير قذف ونحن في هذا المقام لا نتكلم إلا في التسوية بين أنواع السب لا في صحة هذه الحجة وفسادها إذ قد تقدم التنبيه على ضعفها وذلك لأن سب النبي إن جعل بمنزلة سب الله مطلقا وقيل بالسقوط في الأصل فيجب أن يقال بالسقوط في الفرع وإن جعل بمنزلة سب الخلق أو جعل موجبا للقتل حدا لله أو سوي بين السبين في عدم السقوط ونحو ذلك من المآخذ التي تقدم ذكرها فلا فرق في هذا الباب بين القذف وغيره في السقوط بالإسلام فإن الذمي لو قذف مسلما أو ذميا أو شتمه بغير القذف ثم أسلم لم يسقط عنه التعزير المستحق بالسب كما لا يسقط الحد المستحق بالقذف فعلم أنهما سواء في الثبوت والسقوط وإنما يختلفان في مقدار العقوبة بالنسبة إلى غير النبي أما بالنسبة إلى النبي فعقوبتهما سواء فلا فرق بينهما بالنسبة إليه البتة.
وإذ قد ذكرنا حكم الساب للرسول عليه الصلاة والسلام فنردفه بما هو من جنسه مما قد تقدم في الأدلة المذكورة بأصل حكمه فإن ذلك من تمام الكلام في هذه المسألة على ما لا يخفى ونفصله فصولا.
فصل: فيمن سب الله تعالى.
فإن كان مسلما وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر فإن الكافر يعظم الرب ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له.
ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته بمعنى أنه هل يستتاب كالمرتد ويسقط عنه القتل إذا أظهر التوبة من ذلك بعد رفعه إلى السلطان وثبوت الحد عليه؟ على قولين:
أحدهما: أنه بمنزلة ساب الرسول فيه الروايتان في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب وأكثر من احتذى حذوه من المتأخرين وهو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد حيث قال: كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة فأطلق وجوب القتل عليه ولم يذكر استتابته وذكر أنه قول أهل المدينة ومن وجب عليه القتل يسقط بالتوبة وقول أهل المدينة المشهور أنه لا يسقط القتل بتوبته ولو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يقتل وإنما اختلفوا في توبته فلما أخذ بقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي علم أنه قصد محل الخلاف بإظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول.
وأما الرواية الثانية فإن عبد الله قال: سئل أبي عن رجل قال: "يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك" قال أبي: "هذا مرتد عن الإسلام" قلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: "نعم نضرب عنقه" فجعله من المرتدين.
والرواية الأولى قول الليث بن سعد وقول مالك روى ابن القاسم عنه قال: "من سب الله تعالى من المسلمين قتل ولم يستتب إلا أن يكون افترى على الله بارتداده إلى دين دان به وأظهره فيستتاب وإن لم يظهره لم يستتب وهذا قول ابن القاسم ومطرف وعبد الملك وجماهير المالكية.
والثاني: أنه يستتاب وتقبل توبته بمنزلة المرتد المحض وهذا قول القاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي علي بن البناء وابن عقيل مع قولهم: "إن من سب الرسول لا يستتاب" وهذا قول طائفة من المدنيين: منهم محمد بن مسلمة والمخزومي وابن أبي حازم قالوا: "لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب وكذلك اليهودي والنصراني فإن تابوا قبل منهم وإن لم يتوبوا قتلوا ولا بد من الاستتابة" وذلك كله كالردة وهو الذي ذكره العراقيون من المالكية.
وكذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه قالوا: سب الله ردة فإذا تاب قبلت توبته وفرقوا بينه وبين سب الرسول على أحد الوجهين وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة أيضا.
وأما من استتاب الساب لله ولرسوله فمأخذه أن ذلك من أنواع الردة ومن فرق بين سب الله وسب الرسول قالوا: سب الله تعالى كفر محض وهو حق لله وتوبة من لم يصدر منه إلا مجرد الكفر الأصلي أو الطارئ مقبولة مسقطة للقتل بالإجماع ويدل على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم: هو ثالث ثلاثة وبقولهم: إن له ولدا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد" وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ
ثَلاثَة} إلى قوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} وهو سبحانه قد علم منه أنه يسقط حقه عن التائب فإن الرجل لو أتى من الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب تاب الله عليه وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضة ولا معرة وإنما يعود ضرر السب على قائله وحرمته في قلوب العباد أعظم من أن يهتكها جرأة الساب وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول فإن السب هناك قد تعلق به حق آدمي والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة والرسول تلحقه المعرة والغضاضة بالسب فلا تقوم حرمته وتثبت في القلوب مكانته إلا باصطلام سابه لما أن هجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس ويقدح في مكانه في قلوب كثيرة فإن لم يحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك وإلا أفضى الأمر إلى فساد.
وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حد سب الرسول حقا لآدمي كما يذكره كثير من الأصحاب وبالنظر إلى أنه حق الله أيضا فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد فأشبه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
وأيضا فإن سب الله ليس له داع عقلي في الغالب وأكثر ما هو سب في نفس الأمر إنما يصدر عن اعتقاد وتدين يراد به التعظيم لا السب ولا يقصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر بخلاف سب الرسول فإنه في الغالب إنما يقصد به الإهانة والاستخفاف والدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر ومنافق وصار من جنس الجرائم التي تدعوا إليها الطباع فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها.
ونكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داع غالب
الأوقات فيندرج في عموم الكفر بخلاف سب الرسول فإن لخصوصه دواعي متوفرة فناسب أن يشرع لخصوصه حد والحد المشروع لخصوصه لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود فلما اشتمل سب الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه وحرص أعداء الله عليه وأن الحرمة تنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها وأن فيه حق لمخلوق تحتمت عقوبته لا لأنه أغلظ إثما من سب الله بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل.
ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر والردة أعظم إثما من الزنا والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ثم الكافر والمرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما ولو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم مع أن الكفر أعظم من الفسق ولم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثما من الكافر؟ فمن أخذ تحتم العقوبة سقوطها من كبر الذنب وصغره فقد نأى عن مسالك الفقه والحكمة.
ويوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة والأرض مملوءة من المشركين وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرات والأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراكم هذا لتعتبروا" ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يعاقب به الكافر الذمي مع أن ذلك أحسن حالا عند الله وعندنا من الكافر.
فقد رأيت العقوبات المقدورة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبة ما هو أشد منها وسبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجزاء وإنما الجزاء
يوم الدين يجزي الله العباد بأعمالهم: إن خبرا فخير وإن شرا فشر لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يخص فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه فالخطيئة إذا خيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبة فاعلها فلما كان الكفر والردة إذا قبلت التوبة منه بعد القدرة لم تترتب على ذلك مفسدة تتعدى التائب وجب قبول التوبة لأن أحدا لا يريد أن يكفر أو يرتد ثم إذا أخذ أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يحصل مقصوده بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا أسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحا لباب الفسوق فإن الرجل يعمل ما اشتهى ثم إذا أخذ قال: إني تائب وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها فكذلك سب الله هو أعظم من سب الرسول لكن لا يخاف أن النفوس تتسرع إلى ذلك إذا استتيب فاعله وعرض على السيف فإنه لا يصدر غالبا إلا عن اعتقاد وليس للخلق اعتقاد يبعثهم على إظهار السب لله تعالى وأكثر ما يكون ضجرا وبرما وسفها وروعه بالسيف والاستتابة تكف عن ذلك بخلاف إظهار سب الرسول فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه متى علم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كف عنه لم يزعه ذلك عن مقصوده.
ومما يدل على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في قبول إسلام أحد منهم ولا عهد بقتل واحد منهم بعينه وقد توقف في قبول توبة من سبه مثل أبي سفيان وابن أبي أمية وعهد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء مثل الحويرث بن نقيد والقينتين وجارية لبني عبد المطلب ومثل الرجال والنساء الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة وقد تقدم الكلام على تحقيق الفرق عند من يقول به بما هو أبسط من هذا في المسألة الثالثة.
وأما من قال: "لا تقبل توبة من سب الله سبحانه وتعالى كما لا تقبل توبة من سب الرسول" فوجهه ما تقدم من عمر رضي الله تعالى عنه من التسوية بين سب الله وسب الأنبياء في إيجاب القتل ولم يأمر بالاستتابة مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد لكن قد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يستتاب لأنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل ذلك على السب الذي يتدين به.
وأيضا فإن السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد فإن الكافر يتدين بكفره ويقول: إنه حق ويدعوا إليه وله عليه موافقون وليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا واستهزاء وسبا لله وإن كان في الحقيقة سبا كما أنهم لا يقولون: إنهم ضلال جهال معذبون أعداء الله وإن كانوا كذلك وأما الساب فإنه مظهر للتنقص والاستخفاف والاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزئ ويعلم من نفسه أنه قد قال عظيما وأن السماوات والأرض تكاد تنفطر من مقالته وتخر الجبال وأن ذلك أعظم من كل كفر وهو يعلم أن ذلك كذلك ولو قال بلسانه: "إني كنت لا أعتقد وجود الصانع ولا عظمته والآن فقد رجعت عن ذلك" علمنا أنه كاذب فإن فطرة الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع وتعظيمه فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب ولا شهوة له في ذلك بل هو مجرد سخرية واستهزاء واستهانة وتمرد على رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب أو من سفيه لا وقار لله عنده كصدور قطع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة وإذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبة تخصه حدا من الحدود وحينئذ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود.
ومما يبين أن السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
ومن المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهى المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم لله فعلم أن سب الله أعظم عنده من أن يشرك به ويكذب رسوله ويعادي فلا بد له من عقوبة تختصه لما انتهكه من حرمة الله كسائر الحرمات التي تنتهكها بالفعل وأولى فلا يجوز أن يعاقب على ذلك بدون القتل لأن ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل إلا بأبلغ العقوبات.
ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} فإنها تدل على قتل من يؤذي الله كما تدل على قتل من يؤذي رسوله والأذى المطلق إنما هو باللسان وقد تقدم تقرير هذا.
وأيضا فإن إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله تعالى فإنه لا يشاء شاء أن يفعل ذلك ثم إذا أخذ أظهر التوبة إلا فعل كما في سائر الجرائم الفعلية.
وأيضا فإنه لم ينتقل إلى دين يريد المقام عليه حتى يكون الانتقال عنه تركا له وإنما فعل جريمة لا تستدام بل هي مثل الأفعال الموجبة للعقوبات فتكون العقوبة على نفس تلك الجريمة الماضية ومثل هذا لا يستتاب عند من يعاقب على ذنب مستمر من كفر أو ردة.
وأيضا فإن استتابة مثل هذا توجب أن لا يقام حد على ساب لله فإنا نعلم أن ليس أحد من الناس مصرا على السب لله الذي يرى أنه سب فإن ذلك لا يدعو إليه عقل ولا طبع وكل ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلا
ولما كان استتابة الفساق بالأفعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه فاستتابة الساب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كل أحد أولى أن لا يشرع إذا تضمن تعطيل الحد وأوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به.
وهذا كلام فقيه لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب.
ولمن ينصر الأول أن يقول: تحقيق إقامة الحد على الساب لله ليس لمجرد زجر الطباع عما تهوى بل تعظيما لله وإجلالا لذكره وإعلاء لكلمته وضبطا للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجناية وتقييدا للألسن أن تتفوه بالانتقاص لحقه.
وأيضا فإن حد سب المخلوق وقذفه لا يسقط بإظهار التوبة فحد سب الخالق أولى.
وأيضا فحد الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة فكذلك حد الأقوال بل شأن الأقوال وتأثيرها أعظم.
وجماع الأمر أن كل عقوبة وجبت جزاء ونكالا على فعل أو قول ماض فإنها لا تسقط إذا أظهرت التوبة بعد الرفع إلى السلطان فسب الله أولى بذلك ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي فلا يصلح نقضا لوجهين:
أحدهما: أن عقوبة الساب لله ليست كذنب استصحبه واستدامه
فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي الكفر الذي هو مصر عليه مقيم على اعتقاده.
الثاني: أن الكافر إنما يعاقب على اعتقاد هو الآن في قلبه وقوله وعمله دليل على ذلك الاعتقاد حتى لو فرض أنا علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقاد لموجبها لم نكفره بأن يكون جاهلا بمعناها أو مخطئا قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلافها ونحو ذلك والساب إنما يعاقب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيقتل وإن علمنا أنه لا يستحسن السب لله ولا يعتقده دينا إذ ليس أحد من البشر يدين بذلك ولا ينتقض هذا أيضا بتارك الصلاة والزكاة ونحوهما فإنهم إنما يعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض فإذا فعلوها زال الترك وإن شئت أن تقول: إن الكافر والمرتد وتاركي الفرائض يعاقبون على عدم فعل الإيمان والفرائض أعني على دوام هذا العدم فإذا وجد الإيمان والفرائض امتنعت العقوبة لانقطاع العدم وهؤلاء يعاقبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة لا على دوام وجودها فإذا وجدت مرة لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك.
وبالجملة فهذا القول له توجه وقوة وقد تقدم أن الردة نوعان: مجردة ومغلظة وبسطنا هذا القول فيما تقدم في المسألة الثالثة ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح.
ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا آخر وهو أنه جعله من باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول لأن وجود السب منه مع إظهاره للإسلام دليل على خبث سريرته لكن هذا ضعيف فإن الكلام هنا إنما هو في سب لا يتدين به فإن السب الذي
يتدين به كالتثليث ودعوى الصاحبة والولد فحكمه حكم أنواع الكفر وكذلك المقالات المكفرة مثل مقالة الجهمية والقدرية وغيرهم من صنوف البدع.
وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يؤدب أدبا وجيعا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك هكذا ذكره بعض أصحابنا وهو قول أصحاب مالك في كل مرتد.
فصل.
وإن كان الساب لله ذميا فهو كما لو سب الرسول وقد تقدم نص الإمام أحمد على أن من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه فإنه يقتل سواء كان مسلما أو كافرا وكذلك أصحابنا قالوا: من ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء فجعلوا الحكم فيه واحدا وقالوا: الخلاف في ذكر الله وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سواء وكذلك مذهب مالك وأصحابه وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا لمن سب الله أو رسوله أو كتابه من أهل الذمة حكما واحدا لكن هنا مسألتان:
إحداهما: أن سب الله تعالى على قسمين أحدهما: أن يسبه بما لا يتدين به مما هو استهانة به عند المتكلم وغيره مثل اللعن والتقبيح ونحوه فهذا هو السب الذي لا يرب فيه.
والثاني: أن يكون مما يتدين به ويعتقده تعظيما ولا يراه سبا ولا انتقاصا مثل قول النصراني: إن له ولدا وصاحبة ونحوه فهذا مما اختلف فيه إذا أظهره الذمي فقال القاضي وابن عقيل من أصحابنا: ينتقض به العهد كما ينتقض إذا أظهروا اعتقادهم في النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتضى ما ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وغيرهما فإنهم ذكروا أن ما ينقض
الإيمان ينقض الذمة ويحكى ذلك عن طائفة من المالكية ووجه ذلك أنا عاهدناهم على أن لا يظهروا شيئا من الكفر وإن كانوا يعتقدونه فمتى أظهروا مثل ذلك فقد آذوا الله ورسوله والمؤمنين بذلك وخالفوا العهد فينتقض العهد بذلك كسب النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه أنه قال للنصراني الذي كذب بالقدر: لئن عدت إلى مثل ذلك لأضربن عنقك وقد تقدم ما تقرر ذلك.
والمنصوص عن مالك أن من شتم الله من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي كفروا به قتل ولم يستتب قال ابن القاسم: إلا أن يسلم تطوعا فلم يجعل ما يتدين به الذمي سبا وهذا قول عامة المالكية وهو مذهب الشافعي ذكره أصحابه وهو منصوصه قال في "الأم" في تحديد الإمام ما يأخذه من أهل الذمة وعلى أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما هو أهله ولا يطعنوا في دين الإسلام ولا يعيبوا من حكمه شيئا فإن فعلوه فلا ذمة لهم ويأخذ عليهم أن لا يسمعوا المسلمين شركهم وقولهم في عزير وعيسى فإن وجودهم فعلوا بعد التقدم في عزير وعيسى إليهم عاقبهم على ذلك عقوبة لا يبلغ بها حدا لأنهم قد أذن لهم بإقرارهم على دينهم مع علم ما يقولون وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد لأنه سئل عن يهودي مر بمؤذن فقال له: "كذبت" فقال: يقتل لأنه شتم فعلل قتله بأنه شتم فعلم أن ما يظهره به من دينه الذي ليس بشتم ليس كذلك قال رضي الله عنه: من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كان كافرا وهذا مذهب أهل المدينة وإنما مذهب أهل المدينة فيما هو سب عند القائل وذلك أن هذا القسم ليس من باب السب والشتم الذي يلحق بسب الله وسب النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكافر لا يقول هذا طعنا ولا عيبا وإنما يعتقده تعظيما وإجلالا وليس هو ولا أحد من الخلق يتدين بسب الله تعالى بخلاف ما يقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم
من السوء فإنه لا يقال إلا طعنا وعيبا وذلك أن الكافر يتدين بكثير من تعظيم الله وليس يتدين بشيء من تعظيم الرسول ألا ترى أنه إذا قال: "محمد عليه الصلاة والسلام ساحر أو شاعر" فهو يقول: إن هذا نقص وعيب وإذا قال: "إن المسيح أو عزيرا ابن الله" فليس يقول: إن هذا نقص وعيب وإن كان هذا عيبا ونقصا في الحقيقة وفرق بين قول يقصد به قائله العيب والنقص وقول لا يقصد به ذلك ولا يجوز أن يجعل قولهم في الله كقولهم في الرسول بحيث يجعل الجميع نقضا للعهد إذ يفرق في الجميع بين ما يعتقدونه وبين ما لا يعتقدونه لأن قولهم في الرسول كله طعن في الدين وغضاضة على الإسلام وإظهار لعداوة المسلمين يقصدون به عيب الرسول ونقصه وليس مجرد قولهم الذي يعتقدونه في الله مما يقصدون به عيب الله ونقصه ألا ترى أن قريشا كانت تقار النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده ولا يقارونه على عيب آلهتهم والطعن في دينهم وذم آبائهم وقد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان لئلا يسب المشركون الله مع كونهم لم يزالوا على الشرك فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به فلا يجعل حكمهما واحدا.
المسألة الثانية.
في استتابة الذمي من هذا وقبل توبته.
أما القاضي وجمهور أصحابه مثل الشريف وابن والبناء وابن عقيل ومن تبعهم فإنهم يقبلون توبته ويسقطون عنه القتل بها وهذا ظاهر على أصلهم فإنهم يقبلون توبة المسلم إذا سب الله فتوبة الذمي أولى وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلامه حيث قال في شروط أهل الذمة: وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله
ودينه بما لا ينبغي فقد برئت منه ذمة الله ثم قال: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان قولا إلا أنه لم يصرح بالسب لله فقد يكون عنى إذا ذكروا ما يعتقدونه وكذلك قال ابن القاسم وغيره من المالكية: إنه يقتل إلا أن يسلم وقال ابن مسلمة وابن أبي حازم والمخزومي: إنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب وإلا قتل والمنصوص عن مالك أنه يقتل ولا يستتاب كما تقدم وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايتين.
قال في رواية حنبل: من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة وظاهر هذه العبارة أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة كما لا يسقط القتل عن المسلم بالتوبة فإنه قال مثل هذه العبارة في شتم النبي صلى الله عليه وسلم في رواية حنبل أيضا قال: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا فعليه القتل" وكان حنبل يعرض عليه مسائل المدنيين ويسأله عنها.
ثم إن أصحابنا فسروا قوله في شاتم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يسقط عنه القتل بالتوبة مطلقا وقد تقدم توجيه ذلك وهذا مثله وهذا ظاهر إذا قلنا إن المسلم الذي يسب الله لا يسقط عنه القتل بالتوبة لأن المأخذ عندنا ليس هو الزندقة فإنه لو أظهر كفرا غير السب استتبناه وإنما المأخذ أن يقتل عقوبة على ذلك وحدا عليه مع كونه كافرا كما يقتل لسائر الأفعال.
ويظهر الحكم في المسألة بأن يرتب هذا السب ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن من شان الرب بما يتدين به وليس فيه سب لدين الإسلام إلا أنه سب عند الله تعالى مثل قول النصارى في عيسى ونحو ذلك فقد قال الله تعالى فيما يرويه عنه رسوله: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك" ثم قال: "وأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد
الذي لم ألد ولم أولد" فهذا القسم حكمه حكم سائر أنواع الكفر سميت شتما أو لم تسم وقد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد بإظهار مثل هذا وإذا قيل بانتقاض العهد به فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجه وهو في الجملة قول الجمهور.
المرتبة الثانية: أن يذكر ما يتدين به وهو سب لدين المسلمين وطعن عليهم كقول اليهودي للمؤذن "كذبت" وكرد النصراني على عمر رضي الله عنه وكما لو عاب شيئا من أحكام الله أو كتابه ونحو ذلك فهذا حكمه حكم سب الرسول في انتقاض العهد به وهذا القسم هو الذي عناه الفقهاء في نواقض العهد حيث قالوا: إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوء ولذلك اقتصر كثير منهم على قوله: أو ذكر كتاب الله أو دينه أو رسوله بسوء وأما سقوط القتل عنه بالإسلام فهو كسب الرسول إلا أن في ذلك حقا لآدمي فمن سلك ذلك المسلك في سب الرسول فرق بينه وبين هذا وهي طريقة القاضي وأكثر أصحابه ومن قتله لما في ذلك من الجناية على الإسلام وأنه محارب لله ورسوله فإنه يقتل بكل حال وهو مقتضى أكثر الأدلة التي تقدم ذكرها.
المرتبة الثالثة: أن يسبه بما لا يتدين به بل هو محرم في دينه كما هو محرم في دين الله تعالى كاللعن والتقبيح ونحو ذلك فهذا النوع لا يظهر بينه وبين سب المسلم فرق بل ربما كان فيه أشد لأنه يعتقد تحريم مثل هذا الكلام في دينه كما يعتقد المسلمون تحريمه وقد عاهدناه على أن نقيم عليه الحد فيما يعتقد تحريمه فإسلامه لم يجدد له اعتقادا لتحريمه بل هو فيه كالذمي إذا زنى أو قتل أو سرق ثم أسلم سواء ثم هو مع ذلك مما يؤذي المسلمين كسب الرسول بل أشد فإذا قلنا لا تقبل توبة المسلم من سب الله فأن نقول لا تقبل توبة الذمي أولى بخلاف الرسول فإنه يتدين
بتقبيح من يعتقد كذبه ولا يتدين بتقبيح خالقه الذي يقر أنه خالقه وقد يكون من هذا الوجه أولى بأن لا يسقط عنه القتل ممن سب الرسول ولهذا لم يذكر عن مالك نفسه وأحمد استثناء فيمن سب الله تعالى كما ذكر عنهما الاستثناء لمن سب الرسول وإن كان كثير من أصحابهما يرون الأمر بالعكس وإنما قصدا هذا الضرب من السب ولهذا قرنا بين المسلم والكافر فلا بد أن يكون سبا منهما وأشبه شيء بهذا الضرب من الأفعال زناه بمسلمة فإنه محرم في دينه مضر بالمسلمين فإذا أسلم لم يسقط عنه بل إما أن يقتل أو يحد حد الزنا كذلك سب الله تعالى حتى لو فرض أن هذا الكلام لا ينقض العهد لوجب أن يقام عليه حده لأن كل أمر يعتقده محرما فإنا نقيم عليه فيه حد الله الذي شرعه في دين الإسلام وإن لم يعلم مأخذه في كتابه مع أن الأغلب على القلب أن أهل الملل كلهم يقتلون على مثل هذا الكلام كما أن حده في دين الله القتل ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام على الزاني منهم حد الزنا قال: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" ومعلوم أن ذلك الزاني منهم لم يكن يسقط عنه لو أسلم فإقامة الحد على من سب الرب تبارك وتعالى سبا هو سب في دين الله ودينهم عظيم عند الله وعندهم أولى أن يحيا فيه أمر الله ويقام عليه حده.
وهذا القسم قد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الذمي يستتاب منه كما يستتاب المسلم منه هذا قول طائفة من المدنيين كما تقدم وكأن هؤلاء لم يروه نقضا للعهد لأن ناقض العهد يقتل كما يقتل المحارب ولا معنى لاستتابة الكافر الأصلي المحارب وإنما رأوا حده القتل فجعلوه كالمسلم وهو يستتيبون المسلم فكذلك يستتاب الذمي
وعلى قول هؤلاء فالأشبه أن استتابته من السب لا تحتاج إلى إسلامه بل تقبل توبته مع بقائه على دينه.
القول الثاني: أنه لا يستتاب لكن إن أسلم لم يقتل وهذا قول ابن القاسم وغيره وهو قول الشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعلى طريقة القاضي لم يذكر فيه خلاف بناء على أنه قد نقض عهده فلا يحتاج قتله إلى استتابة لكن إذا أسلم سقط عنه القتل كالحربي.
القول الثالث: أنه يقتل بكل حال وهو ظاهر كلام مالك وأحمد لأن قتله وجب على جرم محرم في دين الله وفي دينه فلم يسقط عنه موجبه بالإسلام كعقوبته على الزنا والسرقة والشرب وهذا القول هو الذي يدل عليه أكثر الأدلة المتقدم ذكرها.
فصل.
السب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو: الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
فهذا أعظم ما تفوه به الألسنة فأما ما كان سبا في الحقيقة والحكم لكن من الناس من يعتقده دينا ويراه صوابا وحقا ويظن أن ليس فيه انتقاص ولا تعييب فهذا نوع من الكفر حكم صاحبه إما حكم المرتد المظهر للردة أو المنافق المبطن للنفاق والكلام في الكلام الذي يكفر به صاحبه أو لا يكفر وتفصيل الاعتقادات وما يوجب منها الكفر أو البدعة فقط
أو ما اختلف فيه من ذلك ليس هذا موضعه وإنما الغرض أن لا يدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا وإثباتا والله أعلم.
فصل.
فإن سب موصوفا بوصف أو مسمى باسم وذلك يقع على الله سبحانه أو بعض رسله خصوصا أو عموما لكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك: إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه لكن ظهر أنه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره فهذا القول وشبهه حرام في الجملة يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام ويعزر مع العلم تعزيرا بليغا لكن لا يكفر بذلك ولا يقتل وإن كان يخاف عليه الكفر.
مثال الأول: أن يسب الدهر الذي فرق بينه وبين الأحبة أو الزمان الذي أحوجه إلى الناس أو الوقت الذي أبلاه بمعاشرة من ينكد عليه ونحو ذلك مما يكثر الناس قوله نظما ونثرا فإنه إنما يقصد أن يسب من يفعل ذلك به ثم إنه يعتقد أو يقول إن فاعل ذلك هو الدهر الذي هو الزمان فيسبه وفاعل ذلك إنما هو الله سبحانه فيقع السب عليه من حيث لم يعتمده المرء وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر بيده الأمر" وقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى يقول: "يا ابن آدم تسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" فقد نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن هذا القول وحرمه ولم يذكر كفرا ولا قتلا والقول المحرم يقتضي التعزيز والتنكيل.
ومثال الثاني: أن يسب مسمى باسم عام يندرج فيه الأنبياء وغيرهم لكن يظهر أنه لم يقصد الأنبياء من ذلك العام مثل ما نقل الكرماني قال:
سألت أحمد قلت: رجل افترى على رجل فقال: يا ابن كذا وكذا إلى آدم وحواء فعظم ذلك جدا وقال: نسأل الله العافية لقد أتى هذا عظيما وسئل عن الحد فيه فقال: لم يبلغني في هذا شيء وذهب إلى حد واحد وذكر هذا أبو بكر عبد العزيز أيضا فلم يجعل أحمد رضي الله عنه بهذا القول كافرا مع أن اللفظ يدخل فيه نوح وإدريس وشيث وغيرهم من النبيين لأن الرجل لم يدخل آدم وحواء في عمومه وإنما جعلهما غاية وحدا لمن قذفه وإلا لو كانا من المقذوفين تعين قتله بلا ريب ومثل هذا العموم في مثل هذا الحال لا يكاد يقصد به صاحبه من يدخل فيه من الأنبياء فعظم الإمام أحمد ذلك لأن أحسن أحواله أن يكون قذف خلقا من المؤمنين ولم يوجب إلا حدا واحدا لأن الحد هنا ثبت للحي ابتداء على أصله وهو واحد وهذا قول أكثر المالكية في مثل ذلك.
وقال سحنون وأصبغ وغيرهما في رجل قال له غريمه: صلى الله على النبي محمد فقال له الطالب: لا صلى الله على من صلى عليه قال سحنون: "ليس هو كمن شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه إذا كان على ما وصف من الغضب لأنه إنما شتم الناس" وقال أصبغ وغيره: "لا يقتل إنما شتم الناس" وكذلك قال ابن أبي زيد فيمن قال: "لعن الله العرب ولعن الله بني إسرائيل ولعن الله بني آدم وذكر أنه لم يرد الأنبياء وإنما أردت الظالمين منهم": إن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان.
وذهب طائفة منهم الحارث بن مسكين وغيره إلى القتل في مسألة المصلي ونحوها وكذلك قال أبو موسى بن مياس فيمن قال: "لعنه الله إلى آدم" إنه يقتل وهذه مسألة الكرماني بعينها وهذا قياس أحد الوجهين لأصحابنا فيمن قال: عصيت الله في كل ما أمرني به فإن أكثر أصحابنا قالوا: ليس ذلك بيمين لأنه إنما التزم المعصية كما لو قال: محوت المصحف
أو شربت الخمر إن فعلت كذا ولم يظهر قصد إرادة الكفر من هذا العموم لأنه لو أراده لذكره باسمه الخاص ولم يكتف بالاسم الذي يشركه فيه جميع المعاصي.
ومنهم من قال: هو يمين لأن مما أمره الله به الإيمان ومعصيته فيه كفر ولو التزم الكفر بيمينه بأن قال: هو يهودي أو نصراني أو هو برئ من الله أو من الإسلام أو هو يستحل الخمر والخنزير أو لا يراه الله في مكان كذا إن فعل كذا ونحوه كان يمينا في المشهور عنه ووجه هذا القول أن اللفظ عام فلا يقبل منه دعوى الخصوص ولعل من يختار هذا يحمل كلام الإمام أحمد على أن القائل كان جاهلا بأن في النسب أنبياء.
ووجه الأول أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية في المرأة التي كانت تهجو المسلمين يلومه على قطع يدها ويذكر له أنه كان الواجب أن يعاقبها بالضرب مع أن الأنبياء يدخلون في عموم هذا اللفظ ولأن الألفاظ العامة قد كثرت وغلب إرادة الخصوص بها فإذا كان اللفظ لفظ سب وقذف وللأنبياء ونحوهم من الخصائص والمزايا ما يوجب ذكرهم بأخص أسمائهم إذا أريد ذكرهم والغضب يحمل الإنسان على التجوز في القول والتوسع فيه كان ذلك قرائن عرفية ولفظية وحالية في أنه لم يقصد دخولهم في العموم لا سيما إذا كان دخول ذلك الفرد في العموم لا يكاد يشعر به.
ويؤيد هذا أن يهوديا قال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي اصطفى موسى على العالمين" فلطمه المسلم حتى اشتكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيله على موسى لما فيه من انتقاص المفضول بعينه والغض منه ولو أن اليهودي أظهر القول بأن
موسى أفضل من محمد لوجب التعزير عليه إجماعا بالقتل أو بغيره كما تقدم التنبيه عليه.
فصل.
والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا فمن سب نبيا مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين كالمذكورين في القرآن أو موصوفا بالنبوة مثل ما يذكر حديثا أن نبيا فعل كذا أو قال كذا فيسب ذلك القائل أو الفاعل مع العلم بأنه نبي وإن لم يعلم من هو أو يسب نوع الأنبياء على الإطلاق فالحكم في هذا كما تقدم لأن الإيمان بهم واجب عموما وواجب الإيمان خصوصا بمن قصه الله علينا في كتابه وسبهم كفر وردة إن كان من مسلم ومحاربة إن كان من ذمي.
قد تقدم في الأدلة الماضية ما يدل على ذلك بعمومه لفظا أو معنى وما أعلم أحدا فرق بينهما وإن كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبيا فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه وأنه وجب التصديق له والطاعة له جملة وتفصلا ولا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره وإن شاركه سائر إخوانه من النبيين والمرسلين في أن سابهم كافر محارب حلال الدم.
فأما إن سب نبيا غير معتقد لنبوته فإنه يستتاب من ذلك إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة لأن هذا جحد لنبوته إن كان ممن يجهل أنه نبي فإنه سب محض ولا يقبل قوله: إني لم أعلم أنه نبي.
فصل.
فأما من سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال القاضي أبو يعلى: "من قذف
عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف" وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم.
فروي عن مالك: "من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن لأن الله تعالى قال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ".
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق: أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر فقال إسماعيل: "ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم".
قال أبو السائب القاضي: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال: "يا غلام اضرب عنقه" فقال له: العلويون: هذا رجل من شيعتنا فقال: "معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه" فضربوا عنقه وأنا حاضر رواه اللالكائي.
وروي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من
العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء فقال: "هذا سمى جدي قرنان ومن مسمي جدي قرنان استحق القتل فقتله".
وأما من سب غير عائشة من أزواجه ففيه قولان:
أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني: وهو الأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} الآية والأمر فيه ظاهر.
فصل.
فأما من سب أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته وغيرهم فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب ضربا نكالا وتوقف عن قتله وكفره.
قال أبو طالب: سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القتل أجبن عنه ولكن أضربه ضربا نكالا".
وقال عبد الله: سألت أبي عمن شتم رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أرى أن يضرب" قلت له: حد فلم يقف على الحد إلا أنه قال: "يضرب" وقال: "ما أراه على الإسلام".
وقال: سألت أبي من الرافضة؟ فقال: "الذين يشتمون أو يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما".
وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الإصطخري وغيره: وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع.
وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم.
وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: "ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية" وقال لي: "يا أبا الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام".
فقد نص رضي الله عنه على جواب تعزيره واستتابة حتى يرجع بالجلد وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع وقال: "ما أراه على الإسلام" وقال: "واتهمه على الإسلام" وقال: "أجبن عن قتله".
وقال إسحاق بن راهويه: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس.
وهذا قول كثير أصحابنا منهم ابن أبي موسى قال: "ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة إلا أن يتوب ويظهر توبته وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين.
قال الحارث بن عتبة: "إن عمر بن عبد العزيز أتى برجل سب عثمان فقال: ما حملك على أن سببته؟ قال: أبغضه قال: وإن أبغضت رجلا سببته؟ قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطا".
وقال إبراهيم بن ميسرة: "ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا رجل شتم معاوية فضربه أسواطا.
رواهما اللالكائي وقد تقدم أنه كتب في رجل سبه: "لا يقتل إلا من سب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اجلده فوق رأسه أسواطا ولولا أني رجوت أن ذلك خير له لم أفعل".
وروى الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول قال: "أتيت برجل قد سب عثمان قال: فضربته عشرة أسواط قال: ثم عاد لما قال فضربته عشرة أخرى قال: فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا".
وهو المشهور من مذهب مالك قال مالك: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ومن سب أصحابه أدب".
وقال عبد الملك بن حبيب: "من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن المنذر: "لا أعلم أحدا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال القاضي أبو يعلى: "الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة: إن كان مستحلا لذلك كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم".
وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة
وكفر الرافضة قال محمد بن يوسف الفريابي "وسئل عمن شتم أبا بكر قال: كافر قيل: فيصلى عليه؟ قال: لا وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته".
وقال أحمد بن يونس: "لو أن يهوديا ذبح شاة وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام".
وكذلك قال أبو بكر بن هاني: "لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد وأهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية".
وكذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة: "ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم".
وقال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: "والله إن قتلك لقربة إلى الله وما امتنع من ذلك إلا بالجواز وفي رواية قال: رحمك الله قذفت إنما تقول هذا تمزح قال: لا والله ما هو بالمزاح ولكنه الجد قال: وسمعته يقول: لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم".
وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم.
وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع: "فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج".
ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى أنه إن سبهم سبا يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك وإن سبهم سبا لا يقدح مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر.
قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذه زندقة وقال في رواية المروزي: من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام.
قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله وكمال الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره.
قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "ما أراه على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال: ويحتمل قوله: "ما أراه على الإسلام" على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله: كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان: إحداهما يكفر والثانية يفسق وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين.
قال القاضي: "ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف".
ونحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما: في سبهم مطلقا والثاني: في تفصيل أحكام السب.
أما الأول فسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة.
أما الأول فلأن الله سبحانه يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتابا وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} والطاعن عليهم همزة لمزة وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وهم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم لأن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافقه على موجبات الرضى ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا وقوله تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} سواء كانت ظرفا محضا أو ظرفا فيها معنى التعليل فإن ذلك لتعلق الرضى بهم فإنه يسمى رضى أيضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل: بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وإنه يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد إتباعه له وكذلك أمثال هذا وهذا قول جمهور السلف وأهل الحديث وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر وعلى هذا فقد بين في مواضع أخر أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة".
وأيضا فكل من أخبر الله أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له فلو علم أنه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك.
وهذا كما في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} ولأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} الآية وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وهو أول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم فعلم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ومحبة الشيء كراهته لضده فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم" رواه مسلم.
وعن مجاهد عن ابن عباس قال: "لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وقد علم أنهم سيقتتلون" رواه الإمام أحمد.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: "الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال: ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {وَرِضْوَاناً} فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَحِيمٌ} قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت يقول: أن تستغفروا لهم" ولأن من حاز سبه بعينه أو بغيره لم يجز الاستغفار له كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وكما لا يجوز أن يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية لأن ذلك لا سبيل إليه ولأنه شرع لنا أن نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا والسب باللسان أعظم من الغل الذي لا سب معه ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا أن نسأله ترك ما لا يضر فعله ولأنه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة فعلم أن ذلك صفة للمؤثر فيهم ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز كما لا يشترط ترك سائر المباحات بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لأن استحقاق الفيء لا يشترط فيه ما ليس بواجب بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين وأصله.
وأما السنة ففي الصحيحين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".
وفي رواية لمسلم واستشهد بها البخاري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".
وفي رواية للبرقاني في صحيحه: "لا تسبوا أصحابي دعوا لي أصحابي فإن أحدكم لو أنفق كل يوم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه".
والأصحاب: جمع صاحب والصاحب: اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحابة وكثيرها لأنه يقال: صحبته ساعة وصحبته شهرا وصحبته
سنة قال الله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قد قيل: هو الرفيق في السفر وقيل: هو الزوجة ومعلوم أن صحبة الرفيق وصحبة الزوجة قد تكون ساعة فما فوقها وقد أوصى الله به إحسانا ما دام صاحبا وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" وقد دخل في ذلك قليل الصحبة وكثيرها وقليل الجوار وكثيره وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك.
فإن قيل: فلم نهى خالد عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضا؟ وقال: "لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهو أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسية خالد إلى السابقين وأبعد.
وقوله: "لا تسبوا أصحابي" خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: "أيها الناس إني أتيتكم فقلت: إني رسول الله إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" أو كما قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم قال ذلك
لما عاير بعض الصحابة أبا بكر وذاك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه.
وعن محمد بن طلحة المديني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني واختار لي أصحابا جعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" وهذا محفوظ بهذا الإسناد.
وقد روى ابن ماجة بهذا الإسناد حديثا وقال أبو حاتم في تحديثه: هذا محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به على انفراده ومعنى هذا الكلام أنه يصلح للاعتبار تحديثه والاستشهاد به فإذا عضده آخر مثله جاز أن يحتج به ولا يحتج به على انفراده.
وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي من أحبهم فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" رواه الترمذي وغيره من حديث عبيدة ابن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عنه وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وروي هذا المعنى من حديث أنس أيضا ولفظه: "من سب أصحابي فقد سبني ومن سبني فقد سب الله" رواه ابن البناء.
وعن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من سب أصحابي" رواه أبو أحمد الزبيري: حدثنا محمد بن خالد عنه وقد روى عنه عن ابن عمر مرفوعا من وجهه آخر رواهما اللالكائي.
وقال علي بن عاصم: أنبأ أبو قحذم حدثني أبو قلابة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا" رواه اللالكائي.
ولما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي: كان يقال: "شتم أبي بكر وعمر من الكبائر" وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: "شتم أبي بكر وعمر من الكبائر" التي قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وإذا كان شتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم واعتقاد محبتهم وموالاتهم وعقوبة من أساء فيهم القول.
ثم من قال: لا أقتل بشتم غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يستدل بقصة أبي بكر المتقدمة وهو أن رجلا أغلظ له وفي رواية شتمه فقال له أبو برزة: أقتله؟ فانتهره وقال: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبأنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية: "إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود" كما تقدم ولأن الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعونا في الدنيا والآخرة وقال في الثاني: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة فتكون عليه عقوبة مطلقة ولا يلزم من العقوبة جواز القتل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن
لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو رجل قتل نفسا فيقتل بها" ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضا ولم يكفر أحدا بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وأما من قال: "يقتل الساب" أو قال: "يكفر" فلهم دلالات احتجوا بها:
منها: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فلا بد أن يغيظ بهم الكفار وإذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أذلهم الله به وأخزاهم وكبتهم على كفرهم ولا يشارك الكفار في غيظهم الذين كبتوا به جزاء لكفرهم إلا كافر لأن المؤمن لا يكبت جزاء للكفر.
يوضح ذلك أن قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لأن الكفر مناسب لأن يغاظ صاحبه فإذا كان هو الموجب لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه موجب ذاك وهو الكفر.
قال عبد الله ابن إدريس الأودي الإمام: "ما آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار يعني الرافضة لأن الله تعالى يقول: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} " وهذا معنى قول الإمام أحمد: "ما أراه على الإسلام".
ومن ذلك: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" وقال: "فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل كما تقدم وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين وبين أذاهم بعد صحبتهم له فإنه على عهده قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقا ويمكن أن يكون مرتدا فأما إذا مات مقيما على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود: "اعتبروا الناس بأخدانهم" وقالوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا كان أصحابه صالحين أو كما قال: وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ومعلوم أن رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه وعد ذلك أذى له وإلى هذا أشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: "لا تسبوا أصحاب محمد فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله" رواه اللالكائي وكأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه" وهذا تفاوت عظيم جدا.
ومن ذلك: ما روي عن علي رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" رواه مسلم.
ومن ذلك: ما خرجاه في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" وفي لفظ قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق".
وفي الصحيحين أيضا عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله".
ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر".
وروى مسلم في صحيحه أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر".
فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وإنما خص الأنصار والله أعلم لأنهم هم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الأحمر والأسود من أجله وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال وكان المهاجرون إذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين ومن عرف السيرة وأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنا يحب الله ورسوله لم يملك أن لا يحبهم كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك والله أعلم أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه
فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق.
ومن هذا رواه طلحة بن مصرف قال: كان يقال: "بغض بني هاشم نفاق وبغض أبي بكر وعمر نفاق والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة".
ومن ذلك: ما رواه كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام" هكذا رواه عبد الله ابن أحمد في مسند أبيه.
وفي السنة من وجوه صحيحة عن يحيى بن عقيل: حدثنا كثير ورواه أيضا من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الخياط عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده يرفعه قال: "يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام" وكثير النواء يضعفونه.
وروى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني أو النخعي عن عمه عن علي قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا علي أنت وشيعتك في الجنة وإن قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون" قال علي: "ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك وآية ذلك أنه يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما".
ورواه عبد الله بن أحمد: حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى ورواه أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال: قال علي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على عمل إذا عملته كنت من أهل الجنة؟ وإنك من
أهل الجنة إنه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون" قال: وقال علي رضي الله عنه: "سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا يكذبون علينا مارقة آية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما".
ورواه أبو القاسم البغوي: حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن حازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال: "يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به وينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر أينما أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون".
وقال سويد: حدثنا مروان بن معاوية عن حماد بن كيسان عن أبيه وكانت أخته سرية لعلي رضي الله عنه قال: سمعت عليا يقول: "يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون" فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع.
وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث أم سلمة وفي إسناده سوار ابن مصعب وهو متروك.
وروي ابن بطة بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني واختار لي أصحابي فجعلهم أنصاري وجعلهم أصهاري وإنه سيجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم ألا فلا تواكلوهم ولا تشاربوهم ألا فلا تناكحوهم ألا فلا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم عليهم حلة اللعنة" وفي هذا الحديث نظر.
وروى ما هو أغرب من هذا وأضعف رواه ابن البناء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فإن كفارتهم القتل".
وأيضا فإن هذا مأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو الأحوص عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله بن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر فهم بقتله فقيل له: تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت؟ فقال: "لا يساكنني في دار أبدا".
وفي رواية عن شباك قال: بلغ عليا أن ابن السوداء يبغض أبا بكر وعمر قال: فدعاه ودعا بالسيف أو قال: فهم بقتله فكلم فيه فقال: "لا يساكنني ببلد أنا فيه" فنفاه إلى المدائن وهذا محفوظ عن أبي الأحوص وقد رواه النجاد وابن بطة واللالكائي وغيرهم ومراسيل إبراهيم جياد لا يظهر علي رضي الله عنه أنه يريد قتل رجل إلا وقتله حلال عنده ويشبه والله أعلم أن يكون إنما تركه خوف الفتنه بقتله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك عن قتل بعض المنافقين فإن الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه وصار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم وبسبب هذا وشبهه كانت فتنة الجمل.
وعن سلمه بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: يا أبت لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكفر أكنت تضرب عنقه؟ قال: نعم رواه الإمام أحمد وغيره ورواه ابن عيينة عن خلف بن حوشب عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى قال: قلت لأبي: لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا؟ قال: أضرب عنقه قلت: فعمر؟ قال: أضرب عنقه وعبد الرحمن ابن أبزى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أدركه وصلى خلفه وأقره عمر رضي الله عنه عاملا على مكة وقال: هو ممن رفعه الله بالقرآن بعد أن قيل له: أنه عالم بالفرائض قارئ لكتاب الله واستعمله على رضي الله عنه على خراسان.
وروى قيس ابن الربيع عن وائل عن البهي قال: وقع بين عبيد الله بن
عمر وبين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر: "علي بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده بشتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية فهم عمر بقطع لسانه فكلمه فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "ذروني أقطع لسان ابني لا يجترئ أحد بعده يسب أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" رواه حنبل وابن بطة واللالكائي وغيرهم ولعل عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولعل المقداد كان فيهم.
وعن عمر بن الخطاب أنه أتى بأعرابي يهجو الأنصار فقال: "لولا أن له صحبة لكفيتكموه" رواه أبو ذر الهروي.
ويؤيد ذلك ما روى الحكم بن جحل قال: سمعت عليا يقول: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا جلدته جلد المفتري".
وعن علقمة بن قيس قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: "إنه بلغني أن قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه ولكني أكره العقوبة قبل التقدم ومن قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر" رواهما عبد الله بن أحمد وروى ذلك ابن بطة اللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال: "تداروا في أبي بكر وعمر فقال رجل من عطارد: عمر أفضل من أبي بكر فقال الجارود: بل أبو بكر أفضل منه قال: فبلغ ذلك عمر قال: فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجله ثم أقبل إلى الجارود فقال: إليك عني ثم قال عمر: "أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا" ثم قال عمر: "من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري".
فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل عليا على أبي بكر وعمر أو من يفضل عمر على أبي بكر مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير.
فصل.
في تفصيل القول فيهم.
أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره.
وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم.
وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم.
وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم
والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الأمة التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب إلا صحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب.
وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره ومنهم من لا يحكم بكفره ومنهم من تردد فيه وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك وإنما ذكرنا هذه المسائل لأنها في تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها.
فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب ذكرنا ما يسره الله واقتضاه الوقت والله سبحانه يجعله لوجهه خالصا وينفع به ويستعملنا فيما يرضاه منم القول والعمل.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا.