المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط العاصمة - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الفصل السابع عشر: في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه

- ‌الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل

- ‌الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله

- ‌الفصل العشرون: في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا

- ‌الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالبة للتأويل

- ‌الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم

- ‌الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله

- ‌الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان

- ‌مدخل

- ‌الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين

الفصل: ‌الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين

المحتج بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله إلا لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت واعتصم به واتخذه جنة يصد به عن سبيل الله والله تعالى بحوله وقوته ومنه وفضله قد كسر هذه الطواغيت طاغوتا طاغوتا على ألسنة خلفاء رسله وورثة أنبيائه فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض ويرجمونهم بشهب الوحي وأدلة المعقول ونحن نفرد الكلام عليها طاغوتا طاغوتا

ص: 633

‌الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين

قال متكلمهم مسألة الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقن أمور عشرة عصمة رواة تلك الألفاظ وإعرابها وتصريفها وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص بالأشخاص والأزمنة وعدم الإضمار والتقديم والتأخير والنسخ وعدم المعارض العقلي الذي لو كان لرجح عليه إذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح

ص: 633

في العقل المستلزم للقدح في النقل لافتقاره إليه فإذا كان المنتج ظنيا فما ظنك بالنتيجة

قال شيخ الإسلام والجواب عن هذا من وجوه

أحدها: أنا لا نسلم أنه موقوف على هذه المقدمات العشر بل نقول ليس موقوفا على ما به يعرف مراد المتكلم فإن مراد القائل بقوله الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين أنه لا يعلم بها مراد المتكلم فأما كون مراده مطابقا للحق فذاك مبني على ثبوت صدقه وعلمه وليس مرادهم هذا وإن أرادوا ذلك دون الأول فهو موقوف على ثبوت عصمة المتكلم ومعرفة صدقه فقط فمن عرف أن الرسول أراد هذا المعنى وعرف أنه صادق حصل له العلم اليقيني

والمقدمة الثانية: إيمانية فإن كل من شهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه خبر مطابق لمخبره فلا يجوز عليه الإخبار بما لا يطابق مخبره وأما المقدمة الأولى فتعرفها علماء أمته وورثته وخلفاؤه قلت هاهنا أمران أحدهما اليقين بمراد المتكلم والثاني اليقين بأن ما أراده هو الحق فقول القائل كلام

ص: 634

الله ورسوله لا يفيد اليقين يحتمل أن يريد به مجموع الأمرين أي لا يفيد علما بمراده ولو أفاد علما بالمراد لم يفد علما بكون ذلك المراد مطابقا للحق في نفس الأمر ويحتمل أن يريد به المعنى الأول فقط وأنه لو حصل لنا اليقين بمراده لحصل لنا اليقين بكونه حقا في نفس الأمر ويحتمل أن يريد به المعنى الثاني فقط وهو أنه لو حصل اليقين بمراده لم يحصل اليقين بكونه مطابقا للحق فإن ذلك لا يعلم إلا بأدلة والمعقول لا يعلم بمجرد الخبر فهذه ثلاثة احتمالات فإن أراد المعنى الأول أو الثالث كان ذلك قدحا في الإيمان به وتجويز الكذب عليه وأمثال ذلك مناف للجزم بتصديقه وإن أراد المعنى الثاني وحده وهو أنها لا يحصل منها اليقين بمراده ولو حصل ذلك منها لحصل اليقين بكونه حقا فهذا وإن لم يقدح في تصديقه فهو قادح في تحكيمه والتحاكم إليه والاهتداء بكلامه موجب لعزله عن ذلك والإعراض عنه لأن التحاكم إلى من لا يفيدك كلامه علما ولا يقينا لا يحصل به المقصود.

فإذا انضم إلى هذه المقدمة أن النقل إذا عارض العقل وجب تقديم العقل كمل عزل الوحي واستحكم الإعراض عنه في باب معرفة الله عز وجل واسمائه وصفاته وأفعاله فنقول معرفة مراد المتكلم تحصل بالنقل المتواتر كما حصل العلم بأنه قال ذلك اللفظ بالنقل المتواتر فإنا نعلم أن قوله {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران97]

ص: 635

متواتر نقل لفظه ونقل معناه عن الرسول ونعلم أن المراد بالله رب العالمين وبالناس بنو آدم وبالبيت الكعبة التي يحجها الناس بمكة كما علمنا بالمتواتر أن الرسول بلغ هذا الكلام عن الله وكذلك نعلم بالتواتر أن قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة185] المراد به هذا الشهر الذي بين شعبان وشوال وأن القرآن هذا الكتاب الذي بين دفتي المصحف وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعا مراد الله ورسوله منها كما نعلم قطعا أن الرسول بلغها عن الله فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله خبرا كانت أو طلبا بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه لكمال علم المتكلم وكمال بيانه وكمال هداه وإرشاده وكمال تيسيره للقرآن حفظا وفهما عملا وتلاوة فكما بلغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة بلغهم معانيه بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى من لم يصل إليه حفظ ألفاظه والنقل لتلك المعاني أشد تواترا وأقوى اضطرارا فإن حفظ المعنى أيسر من حفظ اللفظ وكثير من الناس يعرف صورة المعنى ويحفظها ولا يحفظ اللفظ والذين نقلوا الدين عنه علموا مراده قطعا لما تلا عليهم من تلك الألفاظ.

ومعلوم أن المقتضى التام لفهم الكلام الذي بلغهم إياه

ص: 636

قائم وهم قادرون على فهمه وهو قادر على إفهامهم وإذا حصل المقتضى التام لزم وجود مقتضاه وبالجملة فالأدلة السمعية اللفظية قد تكون مبنية على مقدمتين يقينتين

إحداهما: أن الناقلين إلينا فهموا مراد المتكلم

والثانية: أنهم نقلوا إلينا ذلك المراد كما نقلوا اللفظ الدال عليه وكلا المقدمتين معلومة بالاضطرار فإن الذين خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء والغسل وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال والأعيان والأزمنة والأمكنة وغيرها يعلم بالاضطرار أنهم فهموا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها أعظم من حفظهم لها وهذا مما جرت به العادة في كل من خاطب قوما بخطبة أو دارسهم علما أو بلغهم رسالة وإن حرصه وحرصهم على معرفة مراده أعظم من حرصهم على مجرد حفظ ألفاظه ولهذا يضبط الناس من معاني المتكلم أكثر مما يضبطونه من لفظه فإن المقتضى لضبط المعنى أقوى من المقتضى لحفظ اللفظ لأنه هو المقصود واللفظ وسيلة إليه وإن كانا مقصودين فالمعنى أعظم المقصودين والقدرة عليه أقوى فاجتمع عليه قوة الداعي وقوة القدرة وشدة الحاجة فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلغا لها عن الله

ص: 637

وألفاظه التي تكلم بها يقينا فكذلك نقلهم لمعانيها فهم سمعوها يقينا وفهموها يقينا ووصل إلينا لفظها يقينا ومعانيها يقينا وهذه الطريقة إذا تدبرها العاقل علم أنها قاطعة وأن الطاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شر من الطاعن في حصول العلم بألفاظه ولهذا كان الطعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة وأما الطعن في حصول العلم بمعانيه فإنه من فعل الباطنية الملاحدة فإنهم سلموا بأن الصحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول وأن القرآن منقول عنه لكن ادعوا أن لها معاني تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون وتلك هي باطن القرآن وتأويله. وقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين دهليز

ص: 638

إلى مذهب هؤلاء ومرقاة إليه لكن الفرق بينهما أنه يقول لا أعلم مراد المتكلم بها وهم يقولون مراده هذه التأويلات الباطنة.

وما جاء به الرسول نوعان طلب وخبر فالطلب يقولون المراد به تحصيل الأخلاق التي تستعد بها النفس لنيل العلوم العقلية فإذا حصلت لها تلك المعارف لم يكن لاشتغالها بتلك الأسباب التي أمرت بها فائدة فسقط عنها ما يجب على غيرها من النفوس الجاهلة ويباح لها ما يحرم على غيرها وعند هؤلاء مقصود الشرائع تعديل النفوس بالأخلاق التي تعدها لإدراك العلوم.

وأما الأخبار فعقلاؤهم ورؤوسهم يعلمون قطعا أن الرسل إنما أرادت إفهام الخلق ظواهرها وما دلت عليه لكن لا حقيقة لها في نفس الأمر والرسل كانت تعلم ذلك لكن خيلوا إلى الناس ما ينتفعون به ويكونون به أدعى إلى الانقياد ولم يكن ذلك إلا بإظهار ما لا حقيقة له وذلك سائغ للمصلحة إذ كان فهم الجمهور عندهم للحقائق في نفس الأمر يوجب انحلالهم وانهماكهم في الشهوات.

وطائفة منهم تزعم أن الرسل إنما قصدت إفهام تلك التأويلات لكن أهل الظاهر غلظ حجابهم وكثفت أفهامهم عن إدراكها فوقعوا بسبب قصور أفهامهم في العناء والمشقة وتحمل أعباء التكاليف وهؤلاء وضعوا لهم قانونا في تأويل الأمر والنهي والخبر كما وضعت الجهمية

ص: 639

والقدرية لهم قانونا في تأويل آيات الصفات وأخبارها واتفقت الطائفتان على تقديم ما ظنوه من العقليات على نصوص الوحي وأنها لا يستفاد منها علم أصلا ولا يعرف أحد من فرق الإسلام قبل ابن الخطيب وضع هذا الطاغوت وقرره وشيد بنيانه وأحكمه مثله بل المعتزلة والأشعرية والشيعة والخوارج وغيرهم يقولون بفساد هذا القانون وإن اليقين يستفاد من كلام الله ورسوله وإن كان بعض هذه الطوائف يوافقون صاحب هذا القانون في بعض المواضع فلم يقل أحد منهم قط إنه لا يحصل اليقين من كلام الله ورسوله البتة.

ص: 640

فصل

الطريق الثاني: في إبطال هذا الأصل أن يقال من المعلوم أن دلالة الأدلة اللفظية لا تختص بالقرآن والسنة بل جميع بني آدم يدل بعضهم بعضا بالأدلة اللفظية والإنسان حيوان ناطق فالنطق ذاتي له وهو مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش وحده كما يعيش الوحش بل لا يمكنه أن يعيش إلا مع بني جنسه فلا بد أن يعرف بعضهم مراد بعض ليحصل التعاون فعلمهم الحكيم العليم تعريف بعضهم بعضا مراده بالألفاظ كما قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن4 ، 1] وقال تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة31] وقال {عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق5] فكانت حكمة ذلك التعليم تعريف مراد المتكلم فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطال لحكمة الله وإفساد لمصالح بني آدم وسلب الإنسان خاصيته التي ميزه بها على سائر الحيوان وهذه الطريق يستدل بها من وجوه

ص: 641

أحدها: أن هذا المقصود ضروري في حياة بني آدم فلا بد من وجوده فلو لم تفد الأدلة اللفظية العلم بمراد المتكلم لم يعش بنو آدم واللازم منتف فالملزوم مثله

الثاني: أنا نعلم قطعا أن جميع الأمم يعرف بعضهم مراد بعض بلفظه ويقطع به ويتيقنه فقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين قدح في العلوم الضرورية التي اشترك الناس في العلم بها.

الثالث: أن معرفة الناس بمراد المتكلم منهم بكلامه أعظم من معرفتهم عامة العلوم العقلية فمعرفتهم مراد المتكلم لهم بكلامه أتم وأقوى من معرفتهم بتلك القوانين التي وضعها أربابها للقدح في إفادة الخطاب لليقين.

الرابع: أن الطفل أول ما يميز يعرف مراد من يربيه بلفظه قبل أن يعرفه شيئا من العلوم الضرورية فلا أقدم عنده ولا اسبق من تيقنه لمراد من يخاطبه بلفظه فالعلم بذلك مقدم على سائر العلوم الضرورية فمن جعل العقليات تفيد اليقين والسمعيات لا تفيد معرفة مراد المتكلم فقد قلب الحقائق وناقض الفطرة وعكس الواقع.

ص: 642

الخامس: أن كل إنسان يدل غيره بالأدلة اللفظية على ما يعرفه ويعرف مراد غيره بالأدلة اللفظية وأما الاستدلال بالعقليات الكلية فلا يعرفه إلا بعض الناس وما يعرفه كل أحد ويتيقنه فهو أظهر مما لا يعرفه إلا بعض الناس.

السادس: أن التعريف بالأدلة اللفظية أصل للتعريف بالأدلة العقلية فمن لم يكن له سبيل إلى العلم بمدلول هذه لم يكن له سبيل إلى العلم بمدلول تلك بل العلم بمدلول الأدلة اللفظية أسبق فإنه يوجد في أول تمييز الإنسان وحينئذ فالقدح في حصول العلم بمدلول الأدلة اللفظية قدح في حصول العلم بمدلول الأدلة العقلية بل هي أصل العلم بها فإذا بطل الأصل بطل فرعه يوضحه:

الوجه السابع: وهو أن الإنسان في فهمه وإفهامه للدليل العقلي محتاج إلى معرفة مراد المخبر به الذاكر له لمن يخاطبه فإذا لم يحصل له علم بمراده من الدليل فكيف يحصل له علم بالمدلول.

الوجه الثامن: أن تعليم الأدلة اللفظية يحسنه كل أحد فما من أحد إلا ويمكنه أن يعرف غيره لغته ويعرفه ما يعرفه بالأدلة اللفظية وأما تعليم الدلالة العقلية فلا يحسنه كل أحد.

ص: 643

الوجه التاسع: أن الله سبحانه هدى البهائم والطير أن يعرف بعضها بعضا مرادها بأصواتها كما يشاهد في أجناس الحيوان والطيور فالديك يصوت فيعرف الدجاج مراده والفرس يصهل فيعرف الخيل مراده والكلب ينبح فتعرف الكلاب مراده والهر تنوء فتعرف أولادها مرادها والدجاجة تعرف أفراخها مرادها بصوتها وهذا من تمام عناية الخالق سبحانه بخلقه وهدايته العامة كما قال موسى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه50] وقال تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى3-1]

فكيف لا يعلم الآدميون مراد بعضهم من بعض وخطابهم بألفاظهم ولا يجزمون به.

الوجه العاشر: أن أبلد الناس وأبعدهم فهما يعلم مراد أكثر من يخاطبه بالكلام الركيك العادم للبلاغة والفصاحة فكيف لا يعلم أذكى الناس وأصحهم أذهانا وأفهاما مراد المتكلم بأفصح

ص: 644

الكلام وأبينه وأدله على المراد ويحصل لهم اليقين بالعلم بمراده وهل ذلك إلا من أمحل المحال.

الوجه الحادي عشر: أن هذا يستلزم الطعن والقدح في بيان المتكلم وفصاحته أو في فهم السامع وذهنه أو فيهما معا فإن عدم العلم بمراده إن كان لتقصير في بيانه كان ذلك قدحا فيه وإن كان لقصور فهم السامع كان كذلك فإذا كان المتكلم تام البيان والمخاطب تام الفهم فكيف يتخلف العلم عنه بمراده.

الوجه الثاني عشر: أنه إذا كان التفاهم والعلم بمراد الحيوان من غيره حاصلا للحيوانات فما الظن بأشرف أنواعها وهو الإنسان فما الظن بأشرف هذا النوع وهم العقلاء المعتنون بالبيان والإيضاح فما الظن بالأنبياء المخصوصين من العلم والبيان والأفهام بما ليس مثله لسواهم فما الظن بأفضل الأنبياء وأعلمهم وأكملهم بيانا وأتمهم فصاحة وأقدرهم على التعبير عن المعنى باللفظ الذي لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ولا يوهم غيره وأحرصهم على تعليم الأمة وتفهيمهم وأصحابه أكمل الأمم عقلا وفهما وفصاحة وحرصا على فهم مراده فكيف لا يكونون قد تيقنوا مراده بألفاظه وكيف لا يكون التابعون لهم بإحسان قد تيقنوا مرادهم مما بلغوهم إياه عن نبيهم ونقلوه إليهم.

ص: 645

الوجه الثالث عشر: أنا نعلم بالضرورة أن شيوخنا الذين كانوا يخاطبوننا كانوا يعرفونا مرادهم بألفاظهم وقد عرفنا مرادهم يقينا وهكذا نحن فيمن نعلمه ونخاطبه وهم كانوا أفضل منا وأكمل علما وتعليما ومن قبلهم كانوا أفضل منهم وأكمل علما وتعليما ومن قبلهم كذلك وهلم جرا إلى أوائل هذه الأمة فكيف يكون هؤلاء كلهم لم يعلموا مراد الله ورسوله من كلامه ولا حصل لهم يقين بمعرفة مراده من ألفاظه؟ ومن تدبر هذا أو تصوره تبين له أن قول القائل الأدلة اللفظية التي جاء بها الرسول لا تفيدنا علما ولا يقينا من أعظم أنواع السفسطة وأكثر أسباب الزندقة وأن هؤلاء

ص: 646

شر من اللاأدرية وشر من الباطنية

الوجه الرابع عشر: أن دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلم أقوى من دلالة الأدلة العقلية على الحقائق الثابتة كما تقدم تقريره فكيف بدلالة المقدمات المشتبهة التي غايتها أن يكون فيها حق وباطل وليس مع أصحابها إلا إحسان الظن بمن قالها فإذا طولبوا بالبرهان على صحتها قالوا هكذا قال العقلاء وهذا أمر قد صقلته أذهانهم وقبلته عقولهم فبين دلالة الأدلة اللفظية على مراد المتكلم ودلالة هذه المقدمات على الحقائق تفاوت عظيم فكيف تفيد هذه اليقين دون تلك وهل هذا إلا قلب للفطر وتعكيس للأذهان.

الوجه الخامس عشر: أن دلالة قول الرسول على مراده أكمل من دلالة شبهات هؤلاء العقلية على معارضته بما لا نسبة بينهما فكيف تكون شبهاتهم تفيد اليقين وكلام الله ورسوله لا يفيد اليقين

ص: 647

الوجه السادس عشر: أنك إذا تأملت العقليات التي زعموا أنها تفيد اليقين وقدموها على كلام الله ورسوله وجدتها مخالفة لصريح المعقول وقد اعترفوا أنها مخالفة لظاهر المنقول وهذا لا يعرف إلا بالامتحان كحكم عقولهم بأن العرض لا يبقى زمانين وأن الأجسام كلها متماثلة فجسم النار مساو لجسم الماء في الحقيقة وإنما اختلفا بالأعراض وجسم البول مساو لجسم المسك بالحقيقة وإنما اختلفا في أعراضهما وحكم عقولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وأن ذلك المصدر لا يسمى باسم ولا يوصف بصفة ولا له ماهية غير الوجود المطلق ثم الذي صدر عنه إن وجب أن يكون كذلك كان مصدره أيضا كذلك ولم يكن بالعالم تكثر وإن كان فيه نوع تكثر فقد صدر عنه أكثر من واحد ومثل حكمهم بأن العاقل والمعقول والعقل شيء واحد فالمبدأ الأول عاقل ومعقول وعقل ومثل حكمهم بأن في الخارج كليات لا تتقيد بقيد ولا تتشخص بتشخيص ولا تتعين بتعيين وليست داخلة العالم ولا خارجة وأنها جزء من هذه المعينات ومثل حكمهم بأن ذات الرب تعالى مع كونها خارجة الذهن فليست خارجة العالم ولا داخلة فيه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا حالة فيه ولا مباينة له ومثل حكمهم

ص: 648

بأن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل في الأزل وحصول المقدور فيه محال ثم انتقل الفعل من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي فلا يحدد بسبب أصلا وحدث من غير تجدد أمر يقتضي حدوثه بل حال الفاعل قبله ومعه وبعده واحدة ومثل حكمهم بأن كلامه معنى واحد لا ينقسم ولا يتجزأ ولا له بعض ولا كل وأن الأمر هو عين النهي وهما عين الخبر والاستخبار فالكل حقيقة واحدة وأن الحواس والإدراكات يصح تعلقها بكل موجود فتؤكل الأصوات وتشم وتذاق وتسمع الروائح والطعوم إلى أضعاف أضعاف ذلك من خواص علومهم التي جعلوها قواطع عقلية تفيد اليقين وكلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد اليقين فقد تبين أن ما نفى عنه هؤلاء اليقين من أعظم ما يفيد اليقين وما أثبتوا له اليقين أبعد شيء عن اليقين.

الوجه السابع عشر: أن هذا من أنواع السفسطة بل هو شر أنواعها فإن أنواعها ثلاثة

أحدها: التجاهل وهو لا أدري وأصحابه يسمون اللاأدرية

الثاني: النفي والجحود الثالث قلب الحقائق وهو جعل الموجود معدوما

ص: 649

والمعدوم موجودا إما في نفس الأمر وإما بحسب الاعتقاد والذي يدعي قلب الحقائق في نفس الأمر أشد سفسطة ممن يدعي أنها تبع لاعتقاد الإنسان فيها فإذا جعلت الأدلة العقلية التي هي من جنس ما تقدم وغيره تفيد اليقين بمدلولاتها الخارجية والأدلة اللفظية التي أعلاها كلام الله ورسوله لا تفيد اليقين كان ذلك من أعظم أنواع السفسطة وأكثر أسباب الزندقة فإن قلت فهم لم يجعلوا كل دليل عقلي يفيد اليقين بل ما كانت مقدماته يقينية وتأليفه صحيحا يوضحه.

الوجه الثامن عشر: إن قول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين إما أن يريد به نفي العموم أو عموم النفي فإن أراد نفي العموم لم يفده شيئا فإن عاقلا لا يدعي أن كل دليل لفظي يفيد اليقين حتى ينصب معه الخلاف ويحتج عليه وإن أراد به عموم النفي كان هذا مكابرة للعيان وبهتا ومجاهرة بالكذب والباطل.

ص: 650

الوجه التاسع عشر: أنا نعلم بالاضطرار أن مصنفي العلوم على اختلاف أنواعها علم الناس مرادهم من ألفاظهم علما يقينيا وإنما يقع الشك في قليل من كلامهم ويقل ذلك ويكثر بحسب القابل وقوة إدراكه وجودة تصوره وإلفه لكلامهم وغرائبه منه ومعلوم قطعا أن علم الرسول بما يقوله وحرصه على إفهامه وتعليمه وشدة بيانه له وحرص أمته على فهمه أعظم من حرص هؤلاء المصنفين ومن يتعلم منهم فإذا حصل لأولئك اليقين بمعرفة مراد أرباب التصانيف فحصول اليقين لأهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله أولى وأحرى.

وليس الكلام في هذا المقام في تثبيت نبوته بل الكلام مع من يقر بنبوته ويشك في معرفة مراده بألفاظه فيقال لا ريب عند كل مؤمن بالله ورسوله أنه كان أعلم الخلق بما يخبر به وما يأمر به فهو أعلم الخلق بما أخبر به عن الله واليوم الآخر وأعلمهم بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده وأنه كان أفصح الأمة وأقدرهم على البيان وكشف المعاني فإنه عربي والعرب أفصح الأمم وقرشي وقريش أفصح العرب وهو في نفسه كان أفصح قريش على الإطلاق وقد أقر له أعداؤه بذلك ولهذا قال أنا أفصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر وقد تكلم

ص: 651

الناس في فصاحة الحاضرة والبادية وفي شعر الحاضرة والبادية ورجح هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له كمال فصاحة البادية والحاضرة ومن تدبر كلامه الذي تكلم به والقرآن الذي بلغه عن الله وأخبر أن الله تكلم به وجد التفاضل بين كلامه هو عليه السلام وكلام غيره من البشر ثم من المعلوم بالاضطرار من حاله أنه كان أحرص الناس على هدى أمته وتعليمهم والبيان لهم فاجتمع في حقه كمال القدرة وكمال الداعي وكمال العلم فهو أعلم الناس بما يدعو إليه وأقدرهم على أسباب الدعوة وأعظمهم رغبة وأتمهم نصيحة فإذا كان من هو دونه بمراتب لا تحصى في كل صفة من هذه الصفات قد بين مراده بلفظه كان هو أحق وأولى من كل وجه أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان.

فمن قال إن اليقين لا يحصل بألفاظه ولا يستفاد العلم من كلماته كان قدحه في بيانه أعظم من قدحه في مراد سائر العلماء المصنفين ومن قدحه في حصول العلم واليقين بمرادها وإلا كان قدحه في مراد عامة الآدميين أقرب وقدحه

ص: 652

في معرفته مراد البهائم بلغاتها أقرب ومن كان قوله مستلزما لهذه اللوازم كان قوله من أفسد أقوال بني آدم وكان قوله قدحا في العقليات والشرعيات والضروريات.

الوجه العشرون: إنه من المعلوم أن الصحابة سمعوا القرآن والسنة من النبي وقرأوه وأقرأوه من بعدهم وتكلم العلماء في معانيه وتفسيره ومعاني الحديث وتفسيره وما يتعلق بالأحكام ومالا يتعلق بها وهم مجمعون على غالب معاني القرآن والحديث ولم يتنازعوا إلا في قليل من كثير لا سيما القرون الأولى فإن النزاع بينهم كان قليلا جدا بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه وكان النزاع في التابعين أكثر وكلما تأخر الزمان كثر النزاع وحدث من الاختلاف بين المتأخرين ما لم يكن في الذين قبلهم فإن القرآن تضمن الأمر بأوامر ظاهرة وباطنة والنهي عن مناه ظاهرة وباطنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين مقادير الصلوات ومواقيتها وصفاتها والزكوات ونصبها ومقاديرها وكذلك سائر العبادات وعامة هذه الأمور نقلتها الأمة نقلا عاما متواترا خلفا عن سلف وحصل العلم الضروري للخلق بذلك كما حصل لهم العلم الضروري بأنه بلغهم ألفاظها وأنه قاتل المشركين وأهل الكتاب وأنه بعث بمكة

ص: 653

وهاجر إلى المدينة وأنه دعا الأمة إلى أن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن هذا القرآن كلام الله الذي تكلم به لا كلامه ولا كلام مخلوق وأنه ليس قول البشر وأنه علمهم أن ربه فوق سمواته على عرشه وإن الملك نزل من عنده إليه ثم يعرج إلى ربه وأن ربه يسمع ويرى ويتكلم وينادي ويحب ويبغض ويرضى ويغضب وأن له يدين ووجها وأنه يعلم السر وأخفى فلا يخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض وأنه يقيمهم من قبورهم أحياء بعدما مزقهم البلى إلى دار النعيم أو إلى الجحيم فالعلم الضروري بأنه جاء بذلك وأراده كالعلم الضروري بوجوده ومبعثه ومخرجه وقتاله لمن خالفه فالقدح فيما أخبر به من ذلك وأنه لا يفيد اليقين كالقدح في مخبر الأخبار المتواترة وأنه لا يفيد اليقين.

الوجه الحادي والعشرون: إن كل صنف من أصناف العلماء تكفلوا بعلم من العلوم المنقولة عن الرسول متفقون على أكثر علمهم مسائله ودلائله.

فالفقهاء متفقون على غالب الشريعة عامها وخاصها وهم متفقون على أكثر خاصها الذي لا يعرفه العامة وإذا كانوا قد عرفوا مراده بهذا فكيف لا يعرفون مراده بالذي هو أظهر وأشهر وأكثر نصوصا وأعظم بيانا.

ص: 654

والمفسرون فسروا القرآن واتفقوا على المراد منه في غالب القرآن ونزاعهم في القليل من ذلك وأكثره عند التحقيق ليس نزاعا في نفس الأمر بل هو اختلاف في التعبير واختلاف تمثيل وتنويع لا اختلاف تناقض ولا تضاد.

وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدا وهم متفقون على لفظها ومعناها كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه وهذا مما ينفرد بعلمه الخاصة وهم القليل من الناس وهم مع ذلك يعلمون بالاضطرار بطلان تأويل القرآن والحديث بما يتأوله به الفلاسفة والقرامطة والجهمية ويعلمون أنه خلاف مراد الرسول بالضرورة فكيف بما اشتركت الأمة عامتها وخاصتها في نقله قرنا بعد قرن فكيف لا يعرفون مراد الرسول منه يقينا فإن الأمة كلها تنقل عن من قبلها ومن قبلها عمن قبلها حتى ينتهي الأمر إلى الرسول أن الله يرى ويسمع ويتكلم ويعلم وأنه فوق السموات السبع على العرش وأنه يرى يوم القيامة جهرة وعلم الأمة بمراد الرسول من ذلك فوق علمهم بمراده من أحاديث الشفعة والربا والحيض والفرائض ونحوها فكيف يقال حصل لهم اليقين بمراده من ذلك دون هذا وهل هذا إلا من أقبح المكابرة.

ص: 655

الوجه الثاني والعشرون: أن يقال من المعلوم بالضرورة أن المخاطبين أولا بالقرآن والسنة لم يتوقف حصول اليقين لهم بمراده على تلك المقدمات العشر التي ذكروها ولا على شيء منها أما عصمة رواة اللغة فإنهم خوطبوا شفاها فلم يحتاجوا إلى واسطة في نقل الكلام فضلا عن واسطة في نقل اللغة ولا إلى قاعدة ينفون بها نفي احتمال اللفظ لغير المعنى الذي قصده المتكلم فإنهم علموا مراده بالضرورة وإذا كانوا عالمين بمراده بالضرورة مع علمهم بصدقه امتنع عندهم أن يكون في نفس الأمر معارض ينافي مراده.

وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي من كبار التابعين حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا وكان يمكث أحدهم في السورة مدة حتى يتعلمها وقد أقام ابن عمر على تعلم سورة البقرة ثماني

ص: 656

سنين وقال أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا ولم يتوقف معرفة مراد الله ورسوله من كلامه عندهم على شيء من تلك الأمور العشرة ولا تابعي التابعين ولا أئمة الفقه المتبوعين ولا أئمة الحديث ولا أئمة التفسير حتى نبغت قلف الأذهان عجم القلوب فزعموا أنهم لا يحصل لهم اليقين بمراده إلا بعد هذه الأمور ثم قالوا ولا سبيل إلى العلم بانتفائه إذ غاية ما يقدر بعد البحث والطلب التام عدم العلم بها ولا يلزم من عدم العلم عدم المعلوم فلا سبيل لنا إلى العلم بمراد الرسول البتة وطلبت نفوسهم ما يحصل لها به العلم فعادوا إلى العقول فوجدوها قد تصادمت فيما تقضي به من جائز على الله وواجب ومستحيل أعظم تصادم فخرجوا عن السمع الصحيح ولم يظفروا بدلالة العقل الصريح ففاتهم العقل والسمع جميعا.

الوجه الثالث والعشرون: إن جميع ما ذكروه من الوجوه العشرة يرجع إلى حرف واحد وهو احتمال اللفظ لمعنى آخر غير ما يظهر من الكلام فإنه لا ينازع عاقل أن غالب ألفاظ النصوص لها ظواهر هي موضوعة لها ومفهومة عند الإطلاق منها لكن النزاع أن

ص: 657

اعتقاد ذلك المعنى يقيني لا يحتمل غيره أو ظني يحتمل غيره فالمدار كله على احتمال إرادته معنى آخر غير الظاهر وعدم ذلك الاحتمال ومعلوم أن الطرق التي يعلم بها انتفاء إرادته معنى يناقض ذلك المعنى طرق كثيرة لا يحتاج شيء منها إلى ما ذكروه بل قد يعلم السامع انتفاء معنى يناقض المعنى الذي ذكره المتكلم ضرورة وتارة يغلب على ظنه قرينة من الضرورة وتارة يحصل له ذلك ظنا وتارة لا يفهم مراده وتارة يشتبه عليه المراد بغيره وهذا القطع والظن والشك له أسباب غير الأمور التي ذكروها فقد يكون سبب الاحتمال كون السامع لم يألف ذلك اللفظ في لغة قومه أو أن له في لغتهم معنى غير معناه في لغة المتكلم أو أن اللفظ قد اقترنت به قرينة يقطع السامع معها بالمراد فخفيت عليه أو ذهل عنها ولو نبه عليها لتنبه كما اقترن بلفظ المفاداة في أنه الخلع تقدم طلقتين وتأخر طلقة ثالثة ووقع بين الطلقتين والطلقة الثالثة ففهم جمهور

ص: 658

الصحابة منه أنه غير محسوب من الثلاث واحتج بذلك ابن عباس وغيره وقد تكون القرينة منفصلة في كلام آخر بحيث يجزم السامع بالمراد من مجموع الكلام فيخفى أحدهما على السامع أو لا يتفطن له فلا يعرف المراد فهذا قد يقع لأعلم الناس بخطابه وهو من لوازم الطبيعة الإنسانية ولكنه قليل جدا بالإضافة إلى ما يتقنونه من مراده لا نسبة له إليه فلا يجوز أن يدعي لأجله أن كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين بمراد ولا سبيل لنا إلى اقتباس العلم واليقين منه.

الوجه الرابع والعشرون: إن قول القائل الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند أمور عشرة نفي عام وقضية سالبة كلية فإن أراد قائلها أن أحدا من الناس لا يعلم مراد متكلم ما يقينا إلا عند هذه الأمور العشرة فكذب ظاهر وإن أراد به أنه لا يعلم أحد المراد بألفاظ القرآن والسنة إلا عند هذه الأمور ففرية ظاهرة أيضا فإن الصحابة كلهم من أولهم إلى آخرهم والتابعين كلهم وأئمة الفقه كلهم وأئمة التفسير كلهم لم يتوقف علمهم بمراد الرسول على هذه الأمور بل لم يخطر ببالهم ولم يذكرها أحد منهم في كلامه.

وإن أراد أن من بعد الصحابة لا يعرف مراد الرسول

ص: 659

إلا بهذه الأمور العشرة فكذب أيضا فإن التابعين ومن بعدهم جازمون متيقنون لمراده أعظم تيقن بل نحن ونسبتنا إليهم أقل نسبة متيقنون لمراد الله ورسوله من كلامه يقينالا ريب فيه وجازمون به جزما لا شك فيه ومن قبلنا كان أعلم منا وأعظم جزما ومن قبلهم كان كذلك فكيف يستحل الرجل أن يحكم حكما عاما كليا أن أحدا لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله وإن أراد به أنها لا تفيد اليقين في شيء وتفيده في شيءآخر قيل له هذا لا يفيدك شيئا حتى تبين أن محل النزاع بينك وبين أهل السنة وأنصار الله ورسوله من النوع الذي لا يفيد اليقين فهم يزعمون أن استفادتهم اليقين منه أعظم من استفادتهم اليقين من كلام كل متكلم وليس لك أن تحكم عليهم بأنهم لم يستفيدوا منه اليقين فإن غاية ما عندك أنك أنت فاقد اليقين لم تظفر ببرده ولم تفز به فكيف ساغ لك أن تحكم على غيرك بهذا. فإن أردت بذلك أني أنا لا أستفيد اليقين من هذه الأدلة إلا بعد هذه الأمور العشرة فعلمت أن غيري كذلك قيل له هذا من أبطل الباطل عند كل عاقل فإنه من المعلوم بالضرورة أن الشيء الواحد يكون مجهولا عند رجل أو طائفة ومعلوما عند آخر وضروريا عند شخص ونظريا عند آخر والاشتراك في المعلومات الضروريات غير واجب ولا واقع والواقع خلافه فالصحابة كانوا يعلمون من أحوال النبي بالاضطرار

ص: 660

ما لم يعلمه غيرهم وكان أبو بكر يعلم من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامه يقينا مالا يعلمه غيره ولا يفهمه كما قال أبو سعيد الخدري وكان أبو بكر أعلمنا به وكان التابعون يعلمون من أحوال الصحابة بالاضطرار مالا يعلمه غيرهم والفقهاء وأهل الحديث يعلمون بالاضطرار أن النبي سجد سجدتي السهو في الصلاة وقضى بالشفعة وجعل الدية على العاقلة وأخبر أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة وأنه يرى بالأبصار جهرة يوم القيامة وأنه يدخل النار قوما من أهل التوحيد ثم يخرجهم بالشفاعة وأنه أخبر بخروج الدجال ونزول المسيح من السماء وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يجهله كثير من الناس ومن أقر به فهو عنده ظني وأهل الحديث جازمون به متيقنون له كتيقنهم أنه بعث من مكة وهاجر إلى المدينة ومات بها وأهل المغازي والسير والحديث يعلمون بالاضطرار أن غزوة بدر كانت قبل أحد وأن أحدا قبل الخندق والخندق قبل الحديبية والحديبية قبل خيبر وخيبر قبل فتح مكة وفتح مكة قبل حنين وحنين قبل الطائف والطائف قبل تبوك وتبوك آخر الغزوات ولم يكن فيها قتال وكان الغزو

ص: 661

فيها للنصارى أهل الكتاب وفي خيبر لليهود وفي بدر وأحد للمشركين وأنه أوقع باليهود أربع مرات ببني قينقاع وكانت بعد بدر وبالنضير وكانت بعد أحد وبقريظة وكانت بعد الخندق وبأهل خيبر وكانت بعد الحديبية وأكثر الناس بل كثير من العلماء والفقهاء لا يعلمون هذا التفصيل وكذلك العلماء بالتفسير والحديث يعلمون بالاضطرار أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة مدنيات نزلن بعد الهجرة وسورة الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف والنحل مكيات نزلن قبل الهجرة وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ضرورة ولا نظرا فليس المعلوم من أقوال الرسول وسيرته ومراده بكلامه أمرا مشتركا بين جميع الناس ولا بين المسلمين ولا بين العلماء وإذا لم يكن هذا أمرا مضبوطا لا من العالم ولا في العلوم أمكن في كثير من مراد الرسول بالاضطرار أن تكون مكتسبة عند قوم ضرورية عند آخرين وغير معلومة البتة عند آخرين وإن قال أردت أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين عند من لا يعرف مدلولها إلا بهذه المقدمات قيل له فهذا لا فائدة فيه فكأنك قلت من لم يعرف مراد المتكلم إلا بمقدمة ظنية كان استدلاله بكلامه ظنيا وذلك من باب تحصيل الحاصل وكذلك من لم يعرف

ص: 662

الدليل العقلي إلا بمقدمة ظنية كان استدلاله به ظنيا وأيضا فإنه إذا كان هذا مرادك فكيف تحكم حكما عاما كليا أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فبطل حكم هذه القضية الكاذبة أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين على كل تقدير ولله الحمد يوضحه.

الوجه الخامس والعشرون: إن الذين لم يحصل لهم اليقين بالأدلة العقلية أضعاف أضعاف الذين حصل لهم اليقين بالأدلة السمعية والشكوك القادحة في العقليات أكثر بكثير من الشكوك القادحة في السمعيات فأهل العلم والكتاب والسنة متيقنون لمراد الله ورسوله جازمون به معتقدون لموجبه اعتقادا لا يتطرق إليه شك ولا شبهة أما المتكلمون الذين عدلوا عن الاستدلال بالأدلة السمعية إلى الأدلة العقلية في المسائل الكبار كمسألة حدوث العالم ومسألة ما هي الحوادث ومسألة تماثل الأجسام وبقاء الأعراض ومسألة وجود الشيء هل هو زائد على ماهيته أو هو نفس ماهيته ومسألة المعدوم هل هو شيء أم لا ومسألة المصحح للتأثير هل هو الحدوث أو الإمكان وهل يمكن أن يكون الممكن قديما أم لا ومسألة الجوهر الفرد وهل الأجسام مركبةمنه أم لا ومسالةالكلام وحقيقته واضعاف ذلك من المسائل التي عولوا فيها على مجرد عقل أفضلهم وأشدهم حيرة وتناقضا واضطرابا فيها

ص: 663

لا يثبت له فيها قول بل تارة يقول بالقول ويجزم به وتارة يقول بضده ويجزم به وتارة يحار ويقف وتتعارض عنده الأدلة العقلية وأهل الكلام والفلسفة أشد اختلافا وتنازعا بينهم فيها من جميع أرباب العلوم على الإطلاق ولهذا كلما كان الرجل منهم أفضل كان إقراره بالجهل والحيرة على نفسه أعظم كما قال بعض العارفين أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام وقال أفضل المتأخرين من هؤلاء لتلاميذه عند الموت أشهدكم أني أموت وما عرفت مسألة واحدة إلا مسألة افتقار الممكن إلى واجب ثم قال والافتقار أمر عدمي فهاأنذا أموت وما عرفت شيئا وقال ابن الجويني عند موته لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم وما أدري على ماذا أموت أشهدكم أني أموت على عقيدة أمي وقال آخر في خطبة كتابه في الكلام لعمري:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

ص: 664

وقال الرازي في كتابه أقسام اللذات وقد ذكر أنواعها وأن أشرفها لذةالعلم والمعرفة وأشرف العلم العلم الإلهي لشرف معلومه وشدة الحاجة إليه وأنه على ثلاثة أقسام العلم بالذات وعليه عقدة وهي أن الوجود هل هو الماهية أو زائد عليها والعلم بالصفات وعليه عقدة وهي أن الصفات هل هي أمور وجودية زائدة على ذات الموصوف أم ليست بزائدة على الذات والعلم بالأفعال وعليه عقدة وهي هل الفعل مقارن للفاعل أو متراخ عنه ثم قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب أو ذاق من هذا الشراب ثم أنشد:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال فماتوا والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات:

ص: 665

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر10] واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11]{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110]

ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي فليتأمل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من العبر فإنه لم يأت في المتأخرين من حصل من العلوم العقلية ما حصله ووقف على نهايات أقدام العقلاء وغايات مباحث الفضلاء وضرب بعضها ببعض ومخضها أشد المخض فما رآها تشفي علة داء الجهالة ولا تروي غلة ظمأ الشوق والطلب وأنها لم تحل عنه عقدة واحدة من هذه العقد الثلاث التي عقدها أرباب المعقولات على قافية القلب فلم يستيقظ لمعرفة ذات الله ولا صفاته ولا أفعاله وصدق والله فإنه شاك في ذات رب العالمين هل له ماهية غير الوجود المطلق يختص بها أم ماهيته نفس وجوده الواجب ومات ولم تنحل له عقدتها وشاك في صفاته هل هي أمور وجودية أم نسب إضافية عدمية ومات ولم تنحل له عقدتها وشاك في أفعاله هل هي مقارنة له أزلا وأبدا لم تزل معه أم الفعل متأخر عنه تأخرا لا نهاية لأمده فصار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ومات لم تنحل له عقدتها فننظر في كتبه الكلامية قول المتكلمين وفي كتبه

ص: 666

الفلسفية قول الفلاسفة وفي كتبه التي خلط فيها بين الطريقتين يضرب أقوال هؤلاء بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء ويجلس بينهما حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وكذلك أفضل أهل زمانه ابن أبي الحديد فإنه مع بحثه ونظره وتصديه للرد على الرازي حتى يقول في قصيدة له:

وحقك لو أدخلتني النار قلت لل

ذين بها قد كنت ممن أحبه

وأفنيت عمري في فنون دقيقة

وما بغيتي إلا رضاه وقربه

أما قلتم من كان فينا مجاهدا

سيكرم مثواه ويعذب شربه

أما رد شك ابن الخطيب وزيفه

وتمويهه في الدين إذ حل خطبه

ص: 667

يعترف بأن المعقولات لم تعطه إلا حيرة وأنه لم يصل منها إلى يقين ولا علم حيث يقول:

فيك يا أغلوطة الفكر

ضاع دهري وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا أذى السفر

قاتل الله الأولى زعموا

أنك المعروف بالنظر

كذبوا إن الذي ذكروا

خارج عن قوة البشر

وقال بعض الطالبين من المتأخرين وقد سافر في طلب ربه على هذه الطريق فلم يزدد إلا حيرة وبعدا من مطلبه حتى قيض الله له من أخذ بيده وسلك به على الطريق التي سلك عليها الرسل وأتباعهم فجعل يهتف بصوته لأصحابه هلموا فهذه والله الطريق وهذه أعلام مكة والمدينة وهذه آثار القوم لم تنسخها الرياح ولم تزلها الأهوية ثم قال:

وكنت وصحبي في ظلام من الدجى

نسير على غير الطريق ولا ندري

ص: 668

وكنا حيارى في القفار ولم يكن

دليل لنا نرجوا الخلاص من القفر

ظماء إلى ورد يبل غليلنا

وقد قطع الأعناق منا لظى الحر

فما هو إلا أن تبدى لناظري

سنا بارق يبدو كخيط من الفجر

فقلت لصحبي هل ترون الذي أرى

فقالوا اتئد ذاك السراب الذي يجري

فخلفتهم خلفي وأقبلت نحوه

فأوردني عين الحياة لدى البحر

فناديت أصحابي فما سمعوا الندا

ولو سمعوه ما استجابوا إلى الحشر

فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سيرهم بما أفادتهم الأدلة العقلية من ضد اليقين ومن الحيرة والشك فمن الذي شكا من القرآن والسنة والأدلة اللفظية هذه الشكاية ومن الذي ذكر أنها حيرته ولم تهده أو ليس بها هدى الله أنبياءه ورسله وخير خلقه قال تعالى لأكمل خلقه وأوفرهم عقلا: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ50]

ص: 669

فهذا أكمل الخلق عقلا يخبر أن اهتداءه بالأدلة اللفظية التي أوحاها الله إليه وهؤلاء المتهوكون المتحيرون يقولون أنها لا تفيد يقينا ولا علما ولا هدى وهذا موضع المثل المشهور رمتني بدائها وانسلت.

الوجه السادس والعشرون: أن ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا وظواهر تحتمل غير معناها احتمالا بعيدا مرجوحا وألفاظ تحتاج إلى بيان فهي بدون البيان عرضة الاحتمال.

فأما القسم الأول فهو يفيد اليقين بمدلوله قطعا كقوله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت14] فلفظ الألف لا يحتمل غير مسماه وكذلك لفظ الخمسين وكذلك لفظ نوح ولفظ قومه وكقوله {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف142] .

ص: 670

وقوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة4] وقوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة196] وقوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة234] وعامة ألفاظ القرآن من هذا الضرب هذا شأن مفرداته وأما تركيبه فجاء على أصح وجوه التركيب وأبعدها من اللبس وأشدها مطابقة للمعنى فمفرداته نصوص أو كالنصوص في مسماها وتراكيبه صريحة في المعنى الذي قصد بها والمخاطبون به تلك اللغة سجيتهم وطبيعتهم غير متكلفة لهم فهم يعلمون بالاضطرار مراده منها.

والقسم الثاني: ظواهر قد تحتمل غير معانيها الظاهرة منها ولكن قد اطردت في موارد استعمالها على معنى واحد فجرت مجرى النصوص التي لا تحتمل غير مسماها والقسمان يفيدان اليقين والقطع بمراد المتكلم.

وأما القسم الثالث: إذا أحسن رده إلى القسمين قبله

ص: 671

عرف مراد المتكلم منه فالأول يفيد اليقين بنفسه والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله وهذا ظاهر جدا لمن له عناية بالقرآن وألفاظه ومعانيه واقتباس المعارف واليقين منه فاستفادته اليقين من أدلته أعظم من استفادة كل طالب علم اليقين من مواد علمه وبراهينه.

الوجه السابع والعشرون: إن الذي حال بين هؤلاء وبين استفادتهم اليقين من كلام الله ورسوله أن كثيرا من ألفاظ القرآن والسنة قد صار لها معان اصطلح عليها النظار والمتكلمون وغيرهم وألف ذلك الاصطلاح وجرى عليه النشء وصار هو المقصود بالتخاطب وإليه التحاكم فصار كثير من الناس لا يعرف سواه فلما أرادوا أن يطابقوا بين معاني ألفاظ القرآن وبين تلك المعاني التي اصطلحوا عليها أعجزهم ذلك فمرة قالوا ألفاظ القرآن مجاز ومرة طلبوا لها وجوه التأويل ومرة قالوا لا تفيد اليقين ومرة جعلوها وقفا تتلى في الصلاة ويتبرك بقراءتها ولا يتحاكم إليها مثال ذلك لفظ الجسم في القرآن هو البدن كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون4] وهم اصطلحوا على تسمية كل قائم بنفسه جسما مرئيا

ص: 672

كان أو غير مرئي وسموا الموصوف بالصفات جسما وسموا من له وجه ويدان جسما ثم نفوا الجسم عن الصانع وأوهموا أنهم ينفون معناه لغة وقصدهم نفي معناه اصطلاحا فسموه بخلاف اسمه في اللغة ونفوا به ما أثبته الرب لنفسه من صفات الكمال وكذلك سموا صفاته أعراضا ثم نفوا عنه الأعراض بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بالمعنى الذي وضعت له ألفاظ الأعراض في اللغة وكذلك سموا أفعاله حوادث ثم نفوها عنه بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بمعناه في اللغة فإن النبي قال لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا وقال إياكم والحدث في الإسلام وقال:

ص: 673

لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأفإذا قالوا لا تحله الحوادث أوهموا الناس هذه الحوادث ومرادهم أنه لا يتكلم ولا يكلم ولا يرى ولا يسمع ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا ينادي عباده يوم القيامة ولا يشاء مشيئة إلى أمثال ذلك.

وكذلك لفظ الاستواء حقيقة في العلو ثم حدث له معنى الاستيلاء في قول الشاعر إن كان قاله:

قد استوى بشر على العراق

ص: 674

فهذا شعر مولد حدث بعد كتاب الله ولم يكن معروفا قبل نزول القرآن ولا في عصر من أنزل عليه القرآن فحملوا لفظ القرآن على الشعر المولد الحادث بعد نزوله ولم يكن من لغة من نزل القرآن عليه.

وكذلك لفظ المحلل والمحلل له فإنه في لغة من تكلم به ولغة أصحابه هو محلل النكاح الذي يريد أن يتزوج المرأة ليحلها لمطلقها وفي اصطلاح بعض الفقهاء هو الذي يحلل موليته لغيره بلا مهر والذي يشترط التحليل لفظا في صلب العقد.

وكذلك لفظ الخمر في لغة من تكلم به وصرح بتحريمه كل مسكر فاصطلح بعض الفقهاء على تخصيص بعض أنواع الأشربة المسكرة باسم الخمر ثم حملوا النصوص على تلك المعاني التي اصطلحوا عليها.

وكذلك لفظ الجار في لغته هو الجار المعروف فإذا اصطلح على تسمية الشريك جارا قياسا على تسمية الزوجة جارا في قول الشاعر:

ص: 675

أجارتنا بيني فإنك طالقة

ثم حمل لفظ الشارع على المعنى الاصطلاحي لم يجز ذلك ومن هذا لفظ التركيب فإنه في لغة القرآن تركيب الشيء في غيره كقوله {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار8] ثم اصطلح عليه بعض الناس وجعل كل ما تميز منه شيء عن شيء مركبا وإن كان حقيقته واحدة فالعرب إنما تطلق لفظ التركيب والمركب في نحو تركيب الدواء وتركيب الخشبة على الجدار وتركيب المادة في صورة من الصور ولا يسمى الهواء مركبا ولا النار ولا الماء ولا التراب وإنما المركب عندهم ما ركب فيه شيء على شيء.

خالف المتأخرون الاصطلاح الحادث ثم نفوا

ص: 676

مسماه الاصطلاحي عن الرب سبحانه ورأوا الأدلة اللفظية من القرآن والسنة لا تساعدهم على ذلك فقالوا لا تفيد اليقين.

الوجه الثامن والعشرون: إن هؤلاء القائلين إن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم ولا يقين إما أن يريد به نفي اليقين في باب الأسماء والصفات فقط دون باب المعاد والأمر والنهي أو في باب الصفات وباب المعاد فقط دون الأمر أوفي الجميع فإن أراد الأول وهو مراد الجهمية قيل له فما جوابك للفلاسفة المنكرين لمعاد الأبدان حيث احتججت عليهم بأنا نعلم بالضرورة أن الرسل جاءوا به فرده عليهم تكذيب لهم فقالوا الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فإن قلت الفرق بيننا وبينهم أن آيات الصفات وأخبارها قد عارضتها قواطع عقلية تنفيها بخلاف نصوص المعاد قيل أما أهل القرآن والسنة فيجيبونك بأن تلك المعارضات هذيانات لا حقيقة لها وشبهات خيالية: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور39] وأما أشباهك من الفلاسفة فيقولون ونصوص

ص: 677

المعاد قد عارضها قواطع عقلية تنفيها فإن قلت بل هذه شبهات باطلة ومقدمات كاذبة قيل صدقت والشبهات التي تعارض نصوص الصفات أبطل والمقدمات التي تخالفها أكذب بكثير فإن الشبهات العقلية المعارضة لنصوص الأنبياء ليس لها حد تقف عليه بل قد عارض أرباب المعقول الفاسد جميع ما جاءوا به من أوله إلى آخره بعقولهم ومعارضة المشركين لما دعت إليه الرسل من التوحيد بشبهاتهم من جنس معارضة الدهرية لما أخبروا به من المعاد بشبهاتهم فهلموا نضع الشبهات جميعها في الميزان ونحكها على المحك يتبين أنها زغل وزيف كلها وإن زعمت أنها لا تفيد اليقين لا في باب الخبر عن الله وصفاته ولا في باب المعاد واليوم الآخر ولا في باب الأمر والنهي فقد انسلخت من العقل والإيمان انسلاخ الحية من قشرها وجاهرت بالقدح في النبوات والشرائع وكنت في العقل الصحيح أشد قدحا فإنه ليس في المعقول شيء أصح مما جاءت به الرسل عن الله وقد تقدم تقرير هذا والمؤمنون يعرفونه جملة والراسخون في العلم يعرفونه تفصيلا.

ص: 678

الوجه التاسع والعشرون: إن دعوى المدعي أن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه يقين ولا علم إما أن يدعيه حيث لا يعارض العقل السمع بل يوافقه أو حيث يعارضه في زعمه أو حيث لا يعارضه ولا يوافقه فإن ما جاء به الشرع عند هؤلاء ثلاثة أقسام:

أحدها ما يخالف ظاهره صريح العقل

والثاني ما يوافق العقل

والثالث مالا يحيله العقل ولا يقتضيه فقول القائل إن كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين يقال له لا يفيد في شيء من هذه الأقسام الثلاثة عندك أو في الأول منها خاصة أو فيه وفي الثالث فإن كان مراده النفي في جميع الأقسام كان ذلك عنادا ظاهرا وإلحادا في كلام الله ورسوله وإن كان مراده أنه لا يفيده فيما يخالف صريح العقل وهو الذي يريده هؤلاء قيل له هذا الفرض وإن اعتقدته واقعا فهو محال فلا يعارض السمع الصحيح الصريح إلا معقول فاسد تنتهي مقدماته إلى المكابرة أو التقليد أو التلبيس والإجمال وقد تدبر أنصار الله ورسوله وسنته هذا فما وجدوا بحمد الله العقل الصريح يفارق النقل الصحيح أصلا بل هو خادمه وصاحبه والشاهد له وما وجدوا العقل المعارض له إلا من أفسد العقول وأسخفها وأشدها منافاة لصريح العقل وصحيحه ولولاالإطالة لذكرنا ذلك

ص: 679

على التفصيل وقد تقدمت الإشارة إلى اليسير منه ويجب على المسلم الذي لله ولكتابه وقار وعظمة في قلبه ان يعتقد هذا وإن لم يظهر له تفصيله فإذا ظهر له تفصيله كان نورا على نور فإن الله سبحانه أقام الحجة على الخلق بكتابه ورسوله فلا يمكن أن يكون فيهما ما يظهر منه خلاف الحق ولا ما يخالف العقل ولا يمكن أن يحيل الرسول الناس في الهدى والعلم وصفاته وأفعاله على ما يناقض كلامه من عقلياتهم وهذا واضح ولله الحمد

الوجه الثلاثون: إن قول القائل الأدلة اللفظية موقوفة على هذه المقدمات أتريد به أن كل دليل منها يقف على مجموع الأمور العشرة أم تريد به أن جنسها يقف على جنس هذه العشرة فإن أردت الأول فهو مكابرة ظاهرة يردها الواقع فإن جمهور الناس يعلم مدلول الكلام من غير أن تخطر هذه العشرة أو شيء منها بباله وإن أردت الثاني فالأدلة العقلية تتوقف على ما به مقدمة أو أكثر بهذا الاعتبار فإنه ما من مسألة عقلية إلا وهي متوقفة على مقدمات غير المقدمات التي يتوقف عليها مسألة أخرى فما يتوقف عليه دلالة الدليل لا ضابط له وإنما هو أمر نسبي إضافي.

الوجه الحادي والثلاثون: إن حكمك بتوقف دلالة الدليل على معرفة الإعراب والتصريف خطأ ظاهر فإن من عرف أن لله الأسماء الحسنى

ص: 680

كالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن وأن الاسم يدل على المسمى في لغة العرب لم يتوقف في العلم بدلالة هذه الأسماء على الرب سبحانه على معرفته بأن الاسم مشتق من السمو أو من السمة والاختلاف بين البصريين والكوفيين في ذلك ومعرفةأرجح القولين فإن جماهير أهل الأرض يعرفون أن الله اسم لذات الخالق فاطر السموات والأرض ولا يعرفون تصريف الاسم واشتقاقه وأما الإعراب فهؤلاء العامة يجزمون ويتيقنون مراد مكلمهم بكلامه ولا يتوقف ذلك على معرفتهم بوجوه الإعراب.

فإن قلت إنما كلامنا في كلام العرب الفصحاء الذين يتوقف فهم معاني كلامهم على الإعراب قيل ما يتوقف عليه فهم كلامهم من الإعراب سجية وطبيعة لهم وأما من بعدهم فقد نقل إلينا ذلك نقلا متواترا عنهم كما نقل إلينا معاني مفردات ألفاظهم.

الوجه الثاني والثلاثون: قولك إن ذلك يتوقف على نفي التخصيص والإضمار فهذا لا يحتاج إليه في فهم معاني الألفاظ المفردة فإنها تدل على مسماها دلالة سائر الألفاظ على معانيها كدلالة الأعلام ولفظ العدد وأسماء الأزمنة والأمكنة والأجناس على موضوعاتها.

واحتمال كون اللفظ العام خاصا كاحتمال كون اللفظ الذي له حقيقة مستعملا في غير حقيقته وهذا منفي بالأصل ولا يحتاج في فهم ما هو جار على أصله إلى أن يعلم

ص: 681

انتفاء الدليل الذي يخرجه عن أصله وإلا لم يفهم مدلول لفظ أبدا لجواز أن يكون خرج عن أصل موضوعه بنقل أو مجاز أو غير ذلك ولو ساغ ذلك لم يكن أحد يحتج بدليل شرعي لجواز أن يكون منسوخا وهو لا يعلم ناسخه ولم يشهد أحد لأحد بملك لجواز أن يكون خرج عن ملكه ببيع أو تبرع ولم يشهد أحد لأحد بزوجية امرأة ولا رق عبد لجواز أن يكون طلق وأعتق وفتح باب التجويزات لا آخر له ولا ثقة معه البتة.

وهذا الباب قد دخل منه على الإسلام مدخل عظيم وخطب جسيم وأهل الباطل على اختلاف أصنافهم لا يزالون يتعلقون به ولا تزال تعمد كل طائفة منهم إلى آية من كتاب الله فيقودها إلى مذهبه الذي يدعو إليه ويدعي أن لها دلالة خاصة عليه وكذلك يفعل في كثير من الأخبار التي يجرها إلى معتقده.

وليست المحنة التي عرضت في هذا الباب مقصورة على أهل الإسلام فقط بل هي مشتركة بين جميع أهل الأديان والملل ومن أعطى التأمل حقه وجد أكثر ما ادعاه أهل التأويلات المستشنعة وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها وتغليب الخصوص على العموم وادعائهم أن الأغلب في ألفاظ العموم إنما هو الخصوص دون العموم ذهابا منهم في ذلك إلى أن البيان الشافي إنما هو في المعنى الخاص دون

ص: 682

العام وأنه المتيقن من اللفظ فإن طفر به وإلا قال المراد خاص مجمل فتعطل دلالة اللفظ العام الكلي بهذه الطريق كما تعطل دلالة اللفظ على حقيقته باحتمال إرادة المجاز والاستعارة ودلالة أوامر الله ورسوله على وجوب الإمتثال باحتمال إرادة الاستحباب ومطلق الرجحان ودلالة نواهيه على التحريم باحتمال دلالتها على مجرد الكراهة وترك الأولى ودلالة النص الصريح الذي لا يحتمل غير معناه باحتمال كونه منسوخا فقد أعد لكل دليل قانونا يدفع به دلالته فإن كان خبر واحد قال يحتمل أن يكون راويه كذب أو أخطأ فإن أعجزه القدح في راويه لشهرته بالصدق والعدالة قال لعله رواه بالمعنى الذي فهمه وهو غير فقيه فإذا عارضه القياس كان المصير إليه أولى كما قال هؤلاء إذا عارض النص العقل كان المصير إليه أولى فإن غلب وأمكنه ادعاء انعقاد الإجماع على خلافه عارضه بالإجماع فإن غلب عن ذلك عارضه باحتمال النسخ فإن غلب عارض دلالته بالاحتمالات وأنواع التأويلات فلله ما لقيت النصوص من هذه الفرق وأرباب التأويلات والمتعصبين لمذاهبهم وإلى منزلها الشكاية وبه المستعان وعليه التكلان.

الوجه الثالث والثلاثون: إن القدح في دلالة العام باحتمال الخصوص وفي الحقيقة باحتمال المجاز والنقل والاشتراك وسائر ما ذكر يبطل حجج الله على خلقه بآياته ويبطل أوامره ونواهيه وفائدة أخباره ونحن نبين ذلك بحمد الله بيانا شافيا ونقدم

ص: 683

قبل بيانه مقدمة بين يديه وهي ذكر الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن وهي عشرة أقسام

القسم الأول: تعريفه سبحانه نفسه لعباده بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأنه واحد لا شريك له وما يتبع ذلك.

القسم الثاني: ما استشهد به على ذلك من آيات قدرته وآثار حكمته فيما خلق وذرأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريته وأصناف خليقته محتجا به على من ألحد في أسمائه وتوحيده وعطله عن صفات كماله وعن أفعاله وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها.

القسم الثالث: ما اشتمل عليه بدء الخلق وإنشاؤه ومادته وابتداعه له وسبق بعضه على بعض وعدد أيام التخليق وخلق آدم وإسجاد الملائكة وشأن إبليس وتمرده وعصيانه وما يتبع ذلك

القسم الرابع: ذكر المعاد والنشأة الأخرى وكيفيته وصورته وإحالة الخلق فيه من حال إلى حال وإعادتهم خلقا جديدا.

القسم الخامس: ذكر أحوالهم في معادهم وانقسامهم

ص: 684

إلى شقي وسعيد ومسرور بمنقلبه ومثبور به وما يتبع ذلك. القسم السادس ذكر القرون الماضية والأمم الخالية وما جرى عليهم وذكر أحوالهم مع أنبيائهم وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المثلات وما حل بهم من العقوبات ليكون ما جرت عليه أحوال الماضين عبرة للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان.

القسم السابع: الأمثال التي ضربها لهم والمواعظ التي وعظهم بها ينبههم بها على قدر الدنيا وقصر مدتها وآفاقها ليزهدوا فيها ويتركوا الإخلاد إليها ويرغبوا فيما أعد لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدائم.

القسم الثامن: ما تضمنه من الأمر والنهي والتحليل والتحريم وبيان ما فيه طاعته ومعصيته وما يحبه من الأعمال والأقوال والأخلاق وما يكرهه ويبغضه منها وما يقرب إليه ويدني من ثوابه وما يبعد منه ويدني من عقابه وقسم هذا القسم إلى فروض فرضها وحدود حدها وزواجر زجر عنها وأخلاق وشيم رغب فيها.

القسم التاسع: ما عرفهم إياه من شأن عدوهم ومداخله عليهم ومكايده لهم وما يريده بهم وعرفهم إياه من طريق التحصن منه والاحتراز من بلوغ كيده منهم وما يتداركون به ما أصيبوا به في معركة الحرب بينهم وبينه وما يتبع ذلك.

ص: 685

القسم العاشر: ما يختص بالسفير بينه وبين عباده عن أوامره ونواهيه وما اختصه به من الإباحة والتحريم وذكر حقوقه على أمته وما يتعلق بذلك فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن وإذا تأملت الألفاظ المتضمنة لها وجدتها ثلاثة أنواع.

أحدها: ألفاظ في غاية العموم فدعوى التخصيص فيها يبطل مقصودها وفائدة الخطاب بها. الثاني: ألفاظ في غاية الخصوص فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه.

الثالث: ألفاظ متوسطة بين العموم والخصوص فالنوع الأول كقوله {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة282] و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة109] و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام102] وقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر15} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة21] و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء1] وأمثال ذلك والنوع الثاني كقوله

ص: 686

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة67] وقوله {قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب37] وقوله {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب50] والنوع الثالث كقوله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج39] وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة104] و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران64] و {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر53] ونحو ذلك مما يخص طائفة من الناس دون طائفة وهذا النوع وإن كان متوسطا بين الأول والثاني فهو عام فيما قصد به ودل عليه.

وغالب هذا النوع أو جميعه قد علقت الأحكام فيه بالصفات المقتضية لتلك الأحكام فصار عمومه لما تحته من جهتين من جهة اللفظ والمعنى فتخصيصه ببعض نوعه إبطال لما قصد به وإبطال دلالته إذ الوقف فيها لاحتمال

ص: 687

إرادة الخصوص به أشد إبطالها وعودا على مقصود المتكلم به بالإبطال فادعى قوم من أهل التأويل في كثير من عمومات هذا النوع التخصيص وذلك في باب الوعد والوعيد وفي باب القضاء والقدر أما باب الوعيد فإنه لما احتج عليهم الوعيديه بقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء93] وبقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء10] وأمثال ذلك لجأوا إلى دعوى الخصوص وقالوا هذا في طائفة معينة ولجأوا إلى هذا القانون وقالوا الدليل اللفظي العام مبني على مقدمات منها عدم التخصيص وانتفاؤه غير معلوم وأما باب القدر فإن أهل الإثبات لما احتجوا على القدرية بقوله {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد16] وقوله {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة120] ونحوه ادعوا تخصيصه وأكثر طوائف أهل الباطل ادعاء لتخصيص العمومات هم الرافضة فقل أن تجد في

ص: 688

القرآن والسنة لفظا عاما في الثناء على الصحابة إلا قالوا هذا في علي وأهل البيت وهكذا تجد كل أصحاب مذهب من المذاهب إذا ورد عليهم عام يخالف مذهبهم ادعوا تخصيصه وقالوا أكثر عمومات القرآن مخصوصة وليس ذلك بصحيح بل أكثرها محفوظة باقية على عمومها.

فعليك بحفظ العموم فإنه يخلصك من أقوال كثيرة باطلة وقد وقع فيها مدعو الخصوص بغير برهان من الله وأخطأوا من جهة اللفظ والمعنى أما من جهة اللفظ فلأنك تجد النصوص التي اشتملت على لا وعيد أهل الكبائر مثلا في جيمع آيات القرآن خارجة بألفاظها مخرج العموم المؤكد المقصود عمومه كقوله {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان19] وقوله {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} [الأنفال16] وقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء93] و {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة8 ، 7]

ص: 689

وقد سمى النبي هذه الآية جامعة فاذة أي عامة فذة في بابها وقوله {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه74 ، 75] وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} وقوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان68]

وأضعاف أضعاف ذلك من عمومات القرآن المقصود عمومها التي إذا أبطل عمومها بطل مقصود عامة القرآن ولهذا قال شمس الأئمة السرخسي إنكار العموم بدعة حدثت في الإسلام بعد القرون الثلاثة.

وأما خطؤهم من جهة المعنى فلأن الله سبحانه إنما

ص: 690

علق الثواب والعقاب على الأفعال المقتضية له اقتضاء السبب لمسببه وجعلها عللا لأحكامها والاشتراك في الموجب يقتضي الاشتراك في موجبه والعلة إذا تخلف عنها معلولها من غير انتفاء شرط أو وجود مانع فسدت بل يستحيل تخلف المعلول عن علته التامة وإلا لم تكن تامة ولكن غلط ها هنا طائفتان من أهل التأويل الوعيدية حيث حجرت على الرب تعالى بعقولها الفاسدة أن يترك حقه ويعفو عن من يشاء من أهل التوحيد وأوجبوا عليه أن يعذب العصاة ولا بد وقالوا إن العفو عنهم وترك تعذيبهم إخلال بحكمته وطعن في خبره وقابلتهم الطائفة الآخرى فقالوا لا نجزم بثبوت الوعيد لأحد فيجوز أن يعذب الله الجميع وأن يعفو عن الجميع وأن ينفذ الوعيد في شخص واحد يكون هو المراد من ذلك اللفظ ولا نعلم هل هذه الألفاظ للعموم أو للخصوص وهذا غلو في التعطيل والأول غلو في التقييد والصواب غير المذهبين وأن هذه الأفعال سبب لما علق عليها من الوعيد والسبب قد يتخلف عن مسببه لفوات شرط أو وجود مانع والموانع متعددة منها ما هو متفق عليه بين الأمة كالتوبة النصوح ومنها الحسنات الماحية والمصائب المكفرة وما يلحق العبد بعد موته من ثواب تسبب إلى تحصيله أو دعاء أو استغفار له أو صدقة عنه ومنها شفاعة بإذن الله فيها لمن أراد أن يشفع فيه ومنها رحمة تدركه من أرحم الراحمين يترك بها حقه قبله ويعفو عنه وهذا لا يخرج العموم عن مقتضاه وعمومه ولا يحجر على الرب تعالى حجر الوعيدية والقدرية وللرد على الطائفتين

ص: 691

موضع غير هذا والمقصود أن الأقسام الثلاثة التي تضمنها القرآن وهي الأعم والعام والأخص كل منها يفيد العلم بمدلوله ولا يتوقف فهم المراد منه على العلم بانتفاء المخصص والإضمار والحذف والمجاز فإن ذلك يبطل أحكام تلك الأقسام العشرة التي اشتمل عليها القرآن وتحول بين الإنسان وبين فائدتها مع كونها أهم الأمور والعناية الإلهية بها أشد وبيانها واقع موقع الضرورة فلو صح قول القائل إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لم يحصل لنا اليقين من القرآن في شيء من تلك الأقسام العشرة البتة وهذا من أبطل الباطل وأبين الكذب.

ص: 692

الوجه الرابع والثلاثون: إنك تجد عند كثير من المعروفين بالتفسير من رد كثير من ألفاظ القرآن عن العموم إلى الخصوص نظير ما تجده من ذلك عند أرباب التأويلات المستنكرة ومتى تأملت الحال فيما سوغوه من ذلك وجدتها عائدة من الضرر على الدين بأعظم مما عاد من ضرر كثير من التأويلات وذلك لأنهم بالقصد إلى ذلك فتحوا لأرباب التأويلات الباطلة السبيل إلى التهافت فيها فعظمت بذلك الجناية من هؤلاء وهؤلاء على الدين وأهله.

وتجد الأسباب الداعية للطائفتين قصد الإغراب على الناس في وجوه التفسير والتأويل وادعاؤهم أن عندهم منها نوادر لا توجد عند عامة الناس لعلمهم أن الأمر الظاهر المعلوم يشترك الناس في معرفته فلا مزية فيه والشيء النادر المستظرف يحل محل الإعجاب وتتحرك الهمم لسماعه واستفادته لما جبل الناس عليه من إيثار المستظرفات والغرائب وهذا من أكثر أسباب الأكاذيب في المنقولات والتحريف لمعانيها ونحلتها معاني غريبة غير مألوفة وإلا فلو اقتصروا على ما يعرف من الآثار وعلى ما يفهمه

ص: 693

العامة من معانيها لسلم علم القرآن والسنة من التأويلات الباطلة والتحريفات وهذا أمر موجود في غيرهم كما تجد المتعنتين بوجه القرآن يأتون من القراءات البديعة المستشنعة في ألفاظها ومعانيها الخارجة عن قراءة العامة وما ألفوه ما يغربون به على العامة وأنهم قد أوتوا من علم القرآن ما لم يؤته سواهم وكذلك أصحاب الإعراب يذكرون من الوجوه المستكرهة البعيدة المتعقدة ما يغربون به على الناس وكذلك كثير من المفسرين يأتون بالعجائب التي تنفر عنها النفوس ويأباها القرآن أشد الإباء كقول بعضهم طه لفظة نبطية معناها يا رجل ويا إنسان وقال بعضهم هي من أسماء النبي مع يس وعدوا في أسمائه طه ويس وقال بعضهم في نون والقلم إنها الدواة كأنه لما رأى هذا الحرف قد اقترن بالقلم جعله الدواة وقال بعضهم في صاد إنها فعل ماض مثل رام وقاض وكما قال بعضهم في قوله {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان8] هو الذي له سحر أي رئة افترى أراد بقوله لموسى {إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء101] هذا المعنى وأراد الكفار بقولهم

ص: 694

{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر15] هذا المعنى وكما قال آخرون في قوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الحج15] أن المعنى يرزقه واستشهدوا بقولهم أرض منصورة أي ممطورة ولو تأمل هذا القائل سياق الآية وآخرها لعلم أن تفسير النصر بالرزق يزيل معنى الآيات عن وجهه الذي قصد به وقال آخرون في قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس92] أي بدرعك وننجيك نلقيك على نجوة من الأرض وقال آخرون في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر2] إن المراد به ضع يدك على نحرك وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاةوالنسك وقال آخرون في قوله: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد20] إنهم الزراع وهل أطلق سبحانه الكفار في موضع واحد على غير الكافرين به وكما قيل في قوله: {نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور35]

ص: 695

إن المشكاة هذا الموضع الذي يشكو المتعبد فيه إلى الله وأضعاف أضعاف ذلك من التفاسير المستنكرة المستكرهة التي قصد بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يتعارفه الناس كحقائق السلمي وغيره مما لو تتبع وبين بطلانه لجاء عدة أسفار كبار ولولا قصد الإغراب والإتيان بما لم يسبق إليه غيره لما أقدم على ذلك كما قال بعض الرافضة في قوله {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن19] هما علي وفاطمة.

{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن 20] هو النبي صلى الله عليه وسلم.

{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن 22] هما الحسن والحسين.

وجناية هؤلاء على القرآن جناية عظيمة. وبسبب

ص: 696

ما اعتمدوه قال القائل كلام الله لا يستفاد منه يقين لاحتمال اللفظة منه عدة وجوه وقد فسرت بذلك كله ولو شرح كتاب من كتب العلوم هذا الشرح لأفسده الشارح على صاحبه ومسخ مقاصده وأزالها عن مواضعها والمقصود أن حمل عمومات القرآن على الخصوص تعطيل لدلالتها وإخراج لها عما قصد بها وهضم لمعناها وإزالة لفائدتها كقول بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة55] إن المراد به علي بن أبي طالب

وهذا كذب قطعا على الله أنه أراد عليا وحده بهذا اللفظ العام الشامل لكل من اتصف بهذه الصفة وقول هذا القائل أو غيره في قوله تعالى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر33 ، 34} إنه علي بن أبي طالب.

وفي قوله {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف157] إنه علي بن أبي طالب.

ص: 697

وقول الآخر في قوله {مُحَمَّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر بن الخطاب

{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أبو بكر

{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} عثمان {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح 29] علي.

وقول الآخر في قوله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر34] هم الخبز

وفي قوله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء 105] إنهاأرض فلسطين والأردن وفي قوله {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص20] هو أما بعد

فهضموا هذا المعنى العظيم لإعطائه الحق في أتم بيان.

وفي قوله {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف31] المراد به المشط ومن هذا يضع الرافضة المشط بين أيديهم في الصلاة.

ص: 698

فصل

وقد يقع في كلام السلف تفسير اللفظ العام بصورة خاصة على وجه التمثيل لا على تفسير معنى اللفظة في اللغة بذلك فيغير به المعنى فيجعله معنى اللفظة في اللغة كما قال بعضهم في قوله {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر8] إنه الماء البارد في الصيف فلم يرد به أن النعيم المسؤول عنه هو هذا وحده.

وكما قيل في قوله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون7] إنه القدر والفأس والقصعة فالماعون اسم جامع لجميع ما ينتفع به فذكر بعض السلف هذا للسائل تمثيلا وتنبيها بالأدنى على الأعلى فإذا كان الويل لمن منع هذا فكيف بمن منع ما الحاجة إليه أعظم وإذا كان العبد يسأل عن شكر الماء البارد فكيف بما هو أعظم نعيما منه.

وفي قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر34] هم الغداء والعشاء وفي قله {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة201]

ص: 699

إنها المرأة الموافقة فهذا كله من التمثيل للمعنى العام ببعض أنواعه فإن أراد القائل أن الأدلة اللفظية موقوفة على عدم التخصيص أنها موقوفة على عدم قصرها على هذا وأشباهه فنعم هي غير مقصورة عليه ولا مختصة به ولا يقال لفهم هذه الأنواع منها تخصيصا.

ونظير هذا ما يذكره كثير من المفسرين في آيات عامة أنها في قوم مخصوصين من المؤمنين والكفار والمنافقين وهذا تقصير ظاهر منهم وهضم لتلك العمومات المقصود عمومها وكأن الغلط في ذلك إنما عرض من جهة أن أقواما في عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه قالوا أقوالا وفعلوا أفعالا في الخير والشر فنزلت بسبب الفريقين آيات حمد الله فيها المحسنين وأثنى عليهم ووعدهم جزيل ثوابه وذم المسيئين ووعدهم وبيل عقابه فعمد كثير من المفسرين إلى تلك العمومات فنسبوها إلى أولئك الأشخاص وقالوا إنهم المعنيون بها.

وكذالك الحال في أحكام وقعت في القرآن كان بدو افتراضها أفعال ظهرت من أقوام فأنزل الله بسببها أحكاما صارت شرائع عامة إلى يوم القيامة فلم يكن من الصواب أضافتها إليهم وأنهم هم المرادون بها إلا على وجه ذكر سبب النزول فقط وأن تناولها لهم ولغيرهم تناول واحد فمن التقصير القبيح أن يقال في قوله تعالى {أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة 21]

ص: 700

إن المراد بالناس أهل مكة فيأتي إلى لفظ من أشمل ألفاظ العموم أريد به الناس كلهم عربهم وعجمهم قرنا بعد قرن إلى أن يطوي الله الدنيا فيقول المراد به أهل مكة نعم هم أسبق وأول من أريد به إذ كانوا هم المواجهين بالخطاب أولا وهذا كثير في كلامهم كقولهم المراد بقوله كذا وكذا أبو جهل أو أبي بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو عبد الله بن أبي

ص: 701

أو عبد الله بن سلام من سادة المؤمنين كما يقولون في كل موضع ذكر فيه {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد43] إنه عبد الله بن سلام وهذا باطل قطعا فإن هذا مذكور في سورة مكية كسورة الرعد حيث لم يكن عبد الله بن سلام قد أسلم ولا كان هناك. وكذلك يقولون في قوله {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون] إن المراد به عبد الله بن أبي وكان من أحسن الناس جسما والصواب أن اللفظ عام في من اتصف بهذه الصفات وهي صحة الجسم وتمامه وحسن الكلام وخلوه من روح الإيمان ومحبة الهدى وإيثاره كخلو الخشب المقطوعة التي قد تساند بعضها إلى بعض من روح الحياة التي يعطيها النمو أو الزيادة والثمرة واتصافهم بالجبن والخور الذي يحسب صاحبه أن كل صيحة عليه فمن

ص: 702

التقصير الزائد أن يقال إن المراد بهذا اللفظ هو عبد الله بن أبي ومن هذا قولهم في قوله تعالى {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان43 ، 44] إنه أبو جهل ابن هشام

وكذلك في قوله {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة31 ، 32] إنه أبو جهل ابن هشام

وكذلك قوله {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} إلى آخرها [المطففين29] وكذلك قوله {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَاّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} إلى آخرها [القلم10 ، 11} إنه الوليد بن المغيرة

وكذلك قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان6]

ص: 703

إنه النضر بن الحارث وفي قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة8]

إنها في أناس معينين وأضعاف ذلك مما إذا طرق سمع كثير من الناس ظن أن هذا شيء أريد به هؤلاء ومضى حكمه وبقي لفظه وتلاوته حتى قال بعض من قدم العقل على النقل وقد احتج عليه بشيء من القرآن دعني من كلام قيل في أناس مضوا وانقرضوا.

ومن تأمل خطاب القرآن وألفاظه وجلالة المتكلم به وعظمة ملكه وما أراد به من الهداية العامة لجيمع الأمم قرنا بعد قرن إلى آخر الدهر وأنه جعله إنذارا لكل من بلغه من الكلفين لم يخف عليه أن خطابه العام إنما جعل بإزاء أفعال حسنة محمودة وأخرى قبيحة مذمومة وأنه ليس منها فعل إلا والشركة فيه موجودة أو ممكنة وإذا كانت الأفعال مشتركة كان الوعد والوعيد المعلق بها مشتركا ألا ترى أن الأفعال التي حكيت عن أبي جهل بن هشام والوليد بن

ص: 704

المغيرة والعاص بن وائل وأضرابهم وعن عبد الله بن أبي وأضرابه كان لهم فيها شركاء كثيرون حكمهم فيها حكمهم.

ولهذا عدل الله سبحانه عن ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم إلى ذكر أوصافهم وأفعالهم وأقوالبهم لئلا يتوهم متوهم اختصاص الوعيد بهم وقصره عليهم وأنه لا يجاوزهم فعلق سبحانه الوعيد وقصره عليهم وأنه لا يجاوزهم فعلق سبحانه الوعيد على الموصوفين بتلك الصفات دون أسماء من قامت به إرادة لتعميم الحكم وتناوله لهم ولأمثالهم ممن هو على مثل حالهم.

وهكذا الحكم فيمن أثنى عليه ومدحه بما صدر منه من قول أو فعل عدل سبحانه عن ذكره باسمه وعينه إلى ذكره بوصفه وفعله ليتناول المدح لمن شركه في ذلك من سائر الناس فإذا حمل السامع قوله {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر33]

ص: 705

وقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد19] ونظائرها على أبي بكر الصديق أو علي بن أبي طالب فقد ظلم اللفظ والمعنى وقصر به غاية التقصير وإن كان الصديق أول وأولى من دخل في هذا اللفظ العام وأريد به ونظير ذلك ما ذكره بعضهم في قوله {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} إلى قوله {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان 5 - 8] إن المراد بذلك علي بن أبي طالب فجمع إلى حمل هذا اللفظ العام المجاهرة بالكذب والبهت في دعواه نزولها في علي فإن السورة مكية وعلي كان بمكة فقيرا قد رباه النبي في حجره فإن أبا طالب لما مات اقتسم بنو عبد المطلب أولاده لأنه لم يكن له مال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ورباه عنده وضمه إلى عياله فكان فيهم.

ومن تأمل هذه السورةعلم يقينا أنه لا يجوز أن يكون المراد بألفاظها العامة إنسانا واحدا فإنها سورة عجيبة التبيان افتتحت بذكر خلق الإنسان ومبدئه وجميع أحواله من بدايته إلى نهايته وذكره أقسام الخلق في أعمالهم واعتقاداتهم ومنازلهم من السعادة والشقاوة فتخصيص العام فيها

ص: 706

بشخص واحد ظلم وهضم ظاهر للفظها ومعناها وشبيه بهذا ما ذكره بعضهم في قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف15] إنها نزلت في أبي بكر الصديق وابنه عبد الرحمن ونظيره ما تقدم من تفسير قوله {مُحَمَّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم} [الفتح29] إلى آخر الآية وقسمة جملها بين العشرة من الصحابة ومن تأمل ذلك علم أن هذا تفسير مختل مخل بمقصود الآية معدول به عن سنن الصواب وهذا باب يطول تتبعه جدا ولو أن الذين ارتكبوا ما ذكرنا من التفاسير المستكرهة المستغربة وحملوا العموم على الخصوص وأزالوا لفظ الآية عن موضوعه علموا ما في ذلك من تصغير شأن القرآن وهضم معانيه من النفوس وتعريضه لجهل كثير من الناس بما عظم الله قدره وأعلى خطره لأقلوا مما استكثروا منه ولزهدوا فيما أظهروا الرغبة فيه وكان ذلك من فعلهم أحسن وأجمل وأولى بأن يوفى معه القرآن بعض حقه من الإجلال والتعظيم والتفخيم ولو لم يكن في حمل تفسير القرآن على الخصوص دون العمومم إلا ما يتصوره التالي له في نفسه من أن تلك الآيات إنما قصد بها أقوام من الماضين

ص: 707

دون الغابرين فيكون نفعه وعائدته على البعض دون البعض لكان في ذلك ما يوجب النفرة عن ذلك والرغبة عنه وبحكمة بالغة عدل الرب تعالى عن تسمية من ذكر هؤلاء أنه مراد باللفظ إلى ذكر الأوصاف والأفعال التي يأخذ كل أحد منها حظه ولو سمى سبحانه أصحابها بأسمائهم لقال القائل لست منهم يوضح ذلك.

الوجه الخامس والثلاثون إن ألفاظ القرآن التي وقعت في باب الحمد والذم وقعت بما فيها من الفخامة والجلالة عامة وكان عمومها من تفخيمها وجلالة قدرها وعظمة شأنها وذلك أن من شأن من يقصد تفخيم كلامه من عظماء الناس أن يستعمل فيه أمرين أحدهما العدول بكلامه عن الخصوص إلى العموم إلى حيث تدعو الحاجة إلى ذكر الخصوص لأمر لا بد منه ليكون خطابه كليا شاملا يدخل تحته الخلق الكثير وكلما كان الداخلون تحت خطابه أعم واكثر كان ذلك أفخم لكلامه وأعظم لشأنه فأين العظمة والجلالة في قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة 21]

ص: 708

إلى العظمة في قوله يا أهل مكة اعبدوا ربكم فمن فخامة الكلام وجلالة المتكلم به أن يدخل في اللفظة الواحدة جميع ما يصلح له فيدل باللفظ القصير على المعاني الكثيرة العظيمة فتجمع العموم والإيجاز والاختصار والبيان وحسن الدلالة فتأتي بالمعنى طبق اللفظ لا يقصر عنه ولا يوهم غيره ومن علم هذا وتدبر القرآن وصرف إليه فكره علم أنه لم يقرع الأسماع قط كلام أوجز ولا أفصح ولا أشد مطابقة بين معانيه وألفاظه منه

وليس يوجد في الكتب المنزلة من عند الله كتاب جمعت ألفاظه من الإيجاز والاختصار والإحاطة بالمعاني الجليلة والجزالة والعذوبة وحسن الموقع من الأسماع والقلوب ما تضمنته ألفاظ القرآن وقد شهد له بذلك أعداؤه وسمع بعض الأعراب قارئا يقرأ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر94] فسجد فقيل له ليست بآية سجود فقال سجدت لفصاحة هذا الكلام. فإذا تأملت طريقته وجدتها طريقة مخاطبة ملك الناس كلهم لعبيده ومماليكه وهذا أحد الدلائل الدالة على أنه كلامه الذي تكلم به حقيقة لا كلام غيره من المخلوقين وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلام وبين كلامه وكلام الله مالا يحصره نسبة فكيف

ص: 709

يجوز في الأوهام والعقول أن تحمل جوامع كلمات الرب تعالى على ما يناقض عمومها ويحطها من مرتبة عظمة العموم ومحاسنه وجلالة شأنه إلى حضيض الخصوص بل الواجب أن يقال إن خطاب الله عز وجل في كل ما أمر به ونهى عنه وحمد أو ذم عليه ووعد عليه بثوابه وعقابه خرج في ذلك كله مخرجا عاما كليا بحسب ما تقتضيه جلالة الربوبية ومرتبة الملك والسلطان العام لجميع الخلق.

ولو ترك المتأولون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها لأفادتهم اليقين وجزموا بمراد المتكلم بها ولانحسمت بذلك مواد أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة ولما تهيأ لكل مبطل أن يعمد إلى آيات من القرآن فينزلها على مذهبه الباطل ويتأولها عليه ويجعلها شاهدة له وهي في التحقيق شاهدة عليه ولسلم القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأولون وألصقها بهما المحرفون والله المستعان فهذا ما يتعلق بقوله إن الأدلة النقلية موقوفة على العلم بعدم التخصيص بالأزمنة والأمكنة والأشخاص.

الوجه السادس والثلاثون قوله وعدم الإضمار يقال الإضمار على ثلاثة أنواع نوع يعلم انتفاؤه قطعا وأن إرادته باطلة وهو الحال

ص: 710

وهو حال أكثر الكلام فإنه لو سلط عليه الإضمار فسد التخاطب وبطلت العقود والأقارير والطلاق والعتاق والوصايا والوقوف والشهادات ولم يفهم أحد مراد أحد إذ يمكنه أن يضمر كلمة تغير المعنى ولا يدل المخاطب عليها.

وباب الإضمار لا ضابط له فكل من أراد إبطال كلام متكلم ادعى فيه إضمارا يخرجه عن ظاهره فيدعي ملحد الإضمار في قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء164] أي وكلم ملك الله موسى ويدعي في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] إضمار ملك الرحمن كما ادعى بعضهم الإضمار في قوله ينزل ربنا أي ملك ربنا وفي قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر22] أي ملك ربك ولو علم هذا القائل أنه قد نهج الطريق وفتح الباب لكل ملحد على وجه الأرض وزنديق وصاحب بدعة يدعي فيما يحتج به لمذهبه عليه إضمار كلمة أو كلمتين نظير ما ادعاه لاختار أن يخرس لسانه

ص: 711

ولا يفتح هذا الباب على نصوص الوحي فإنه مدخل لكل ملحد ومبتدع ومبطل لحجج الله من كتابه ومن رأى ما أضمره المتأولون من الرافضة والجهمية والقدرية والمعتزلة مما حرفوا به الكلم عن مواضعه وأزالوه به عن ما قصد له من البيان والدلالة.

علم أن لهم أوفر نصيب من مشابهة أهل الكتاب الذين ذمهم الله بالتحريف واللي والكتمان أفترى يعجز الجهمي عن الإضمار في قوله إنكم ترون ربكم عيانا فيضمر ملك ربكم ونعيمه وثوابه ونحو ذلك ويعجز الملحد عن الإضمار في قوله {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج7] أي أرواح من في القبور وإذا انفتح سد يأجوج ومأجوج أقبلوا من كل حدب ينسلون.

ص: 712

النوع الثاني ما يشهد السياق والكلام به فكأنه مذكور في اللفظ وإن حذف اختصارا كقوله تعالى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء63] فكل واحد يعلم أن المعنى فضربه فانفلق فذكره نوع من بيان الواضحات فكان حذفه أحسن فإن الوهم لا يذهب إلى خلافه.

وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} [يوسف 62 ، 63] فكل أحد يفهم من هذا السياق أنهم جعلوها في رحالهم وأنهم وصلوا بها إلى أبيهم ومثل هذا في القرآن كثير جدا وفهم الكلام لا يتوقف على أن يضمر فيه ذلك مع أنه مراد ولا بد فكيف يتوقف فهم الكلام الذي لا دليل فيه على الإضمار بوجه وهو كلام مفيد قائم بنفسه معط لمعناه على دليل منفصل يدل على أن المتكلم لم يضمر فيه خلاف ما أظهره وهل يتوقف أحد من العقلاء في فهم خطاب غيره له على هذا الدليل أو يخطر بباله.

والنوع الثالث كلام يحتمل الإضمار ويحتمل عدمه فهذا إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ وأن هذا هو المعروف المألوف من

ص: 713

خطابه وأنه اللائق بحكمته لم يشك السامع في أن مراده ما دل عليه ظاهر كلامه دون ما يحتمله باطنه من إضمار مالم يجعل للسامع عليه دليلا ولا له إلى معرفته سبيلا إلا أن يجوز عليه أنه أراد منه ذلك وكلفه ما لا يطيقه وعرضه للعناء والمشقة والعزلة ولم يقصد البيان ولا نكير على من ظن ذلك في المتكلم أن يظن بكلامه ما هو مناسب لظنه به يوضحه

الوجه السابع والثلاثون إن الإضمار هو الإخفاء وهو أن يخفي المتكلم في نفسه معنى ويريد من المخاطب أن يفهمه فهذا إما أن يجعل له عليه دليلا من الخطاب أو لا فإن جعل له عليه دليلا من السياق لم يكن ذلك إضمارا محضا بل يكون قد أظهره له بما دله عليه من السياق ودلالة اللفظ قد تحصل من صريحه تارة ومن سياقه ومن قرائنه المتصلة به فهذا لا محذور فيه إذا كان المخاطب قد دل السامع على مقصوده ومراده وإن لم يجعل له عليه دليلا فإنه لم يقصد بيانه له بل عدل عن بيانه إلى بيان المذكور فلا يقال إن كلامه دل عليه بالإضمار فإن هذا كذب صريح عليه فتأمله فإنه واضح.

الوجه الثامن والثلاثون قوله وعدم التقديم والتأخير فهذا أيضا من نمط ما قبله فإنه نظم الكلام الطبيعي المعتاد الذي علمه الله للإنسان نعمة منه عليه أن يكون جاريا على المألوف المعتاد

ص: 714

منه فالمقدم مقدم والمؤخر مؤخر فلا يفهم أحد قط من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلا تقديم هذا وتأخير هذا وحيث قدموا المؤخر من المفعول ونحوه وأخروا المقدم من الفاعل ونحوه فلا بد أن يجعلوا في الكلام دليلا على ذلك لئلا يلتبس الخطاب فإذا قالوا ضرب زيدا عمرو لم يكن في هذا التقديم والتأخير إلباس فإذا قالوا ضرب موسى عيسى لم يكن عندهم المقدم إلا الفاعل فإذا أرادوا بيان أنه المفعول أتوا بما يدل السامع على ذلك من تابع منصوب يدل على أنه مفعول فلا يأتون بالتقديم والتأخير إلا حيث لا يلتبس على السامع ولا يقدح في بيان مراد المتكلم كقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة124] وقوله {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج37] وقوله {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم47] وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء8] وقوله {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَنْ قَالُوا} [الأعراف82]

ص: 715

ونحوه فهذا من التقديم الذي لا يقدح في المعنى ولا في الفهم وله أسباب تحسنه وتقتضيه مذكورة في علم المعاني والبيان.

وأما ما يدعى من التقديم والتأخير في غير ذلك كما يدعي من التقديم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ} [يوسف 24] وإن هذا قد تقدم فيه جواب لولا عليها فهذا أولا لا يجيزه النحاة ولا دليل على دعواه ولا يقدح في العلم بالمراد وكذلك ما يدعون من التقديم والتأخير في قوله {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل28] قالوا تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم فكأنهم لما فهموا من قوله {تَوَلَّ عَنْهُمْ} مجيئه إليه ذاهبا عنهم احتاجوا إلى أن يتكلفوا ذلك وهذا لا حاجة إليه وإنما أمره بما جرت به عادة المرسل كتابه إلى غيره ليعلم ما يصنع به أن يعطيه الكتاب ثم ينعزل عنه حتى ينظر ماذا يقابله به وليس مراده بقوله {تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أقبل إلي ولو أراد ذلك لقال فألقه إليهم وأقبل وقد علم من كونه رسولا له أنه لا بد أن يرجع إليه فليس في ذلك كبير فائدة بخلاف أمره بتأمله أحوال القوم عند قراءة كتابه وقد انعزل عنهم ناحية.

ص: 716

والتقديم والتأخير نوعان: نوع يخل تقديم المؤخر وتأخير المقدم فيه بفهم أصل المعنى فهذا لا يقع في كلام من يقصد البيان والتفهيم وإنما يقع في الألغاز والأحاجي وما يقصد المتكلم تعمية المعنى فيه وقد يقع بسبب شدة الاختصار وضيق القافية عن الترتيب المفهم كقول الفرزدق

وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي أبوه يقاربه

فهذه شبيه باللغز ومعناه وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه وهذا النوع لا يقع في كلام الله ولا رسوله.

النوع الثاني التقديم والتأخير الذي لا يخل بأصل المعنى وإن أخل بالغرض المقصود فيكون مراعاته من باب إخراج الكلام على مقتضى الحال وهذا هو الذي يتكلم

ص: 717

عليه علماء المعاني والبيان قال سيبويه وهو يذكر الفاعل والمفعول كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم انتهى كلامه.

وهذا يقع في باب الاستفهام والنفي والمبتدأ والخبر والفاعل والمفعول فمن ذلك أنك إذا قلت أفعلت كذا وبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان الغرض بالاستفهام علمك بوجوده وإذا قلت أنت فعلت كذا فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه ففرق بين قولك أكتبت الكتاب وبين قولك أأنت كتبته وهذا كما أنه قائم في الاستفهام فكذلك هو في التقرير فإذا قلت أنت فعل هذا? كان المقصود تقريره بأنه هو الفاعل كما قال قوم إبراهيم له {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء62] فلم يكن مرادهم السؤال عن الفعل هل وجد أم لا ولو أرادوا ذلك لقالوا أكسرت أصنامنا? وإنما مرادهم السؤال عن الفاعل ولهذا كان الجواب قوله:

ص: 718

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء63] قالقائل أفعلت? سائل عن الفعل من غير تردد بين الفاعل وغيره وإذا قال أأنت فعلت? كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره ولم يكن منه تردد في نفس الفعل ومن هذا استفهام الإنكار كقوله تعالى {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء40] وقوله: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات153] وقوله: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف45] فهذا إذا قدم الاسم فيه استحال الكلام من إنكار الفعل إلى الإنكار في الفاعل مثل قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة116]{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس59] وقول أهل النار {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} [سبأ32] فهذا سؤال عن فعل وقع فتوجه الإنكار إلى نسبته إلى الفاعل الذي نسب إليه وهذا كما إذا بلغك قول عن من لم تكن تظنه به قلت أفلان قال ذلك ? وأما قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام143]

ص: 719

فإن الإنكار وإن توجه إلى نفس التحريم والمراد إنكاره من أصله فإنه خطاب لمن قد أثبت تحريما في أشياء وحلا في نظائرها فسئل عن عين المحرم أهو هذا فيشمل التحريم نظيره مما حلله أو الآخر فيشمل نظيره أيضا فكأنهم قيل لهم أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو أفي هذا أم في ذاك أم في الثالث?ليتبين بطلان قولهم وتظهر فريتهم على الله وهذا كما تقول لمن يدعي أمرا وأنت تنكره متى كان هذا أفي ليل أم نهار? وكذلك تقول من أمرك بهذا? أو من إذن لك فيه? وأنت لا تريد أن آمر أمرعه به وأذن له فيه ولكن أخرجت الكلام مخرج من كان قد يتنزل مع مخاطبه إلى أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان عينه ووقته ومكانه والآمر به لكي يضيق عليه الجواب ويظهر كذبه حيث لا يمكنه أن يحيل على شيء مما سئل عنه فيفتضح وكذلك إذا قلت أتفعل كذا? كنت مستفهما له عن نفس الفعل وإذا قلت أأنت تفعل كذا? كنت مستفهما له عن كونه هو الفاعل فقوله تعالى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس99] فخرجه غير مخرج قوله {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف28] وقوله {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة3]

ص: 720

وقوله {نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود28] فأنت تجد تحت قولك أأنت الذي تقهرني? أن القاهر لي غيرك لا أنت وكذلك قوله {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس99]{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف40] وكذلك الشأن في تقديم المفعول وتأخيره كقوله تعالى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام14]{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام114] وقوله {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام40 ، 41] فلو أخر لكان الاستفهام عن مجرد الفعل فلما قدم كان الاستفهام عن الفعل وكون المفعول المقدم مختصا به وكذلك قوله {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر24] لما كان الإنكار متوجها إلى كون المتبوع بشرا وأنه

ص: 721

منهم وأنه واحد وردوه ولم يقع إنكارهم على مجرد الاتباع في قوة كلامهم أنه لو كان ملكا أو من غيرنا لا تلحقنا غضاضة برئاسته علينا أو عصبة كثيرة لا يمتنع من متابعتهم لاتبعناهم وكذلك التقديم بدل التأخير في النفي فإذا قلت ما فعلت كنت قد نفيت عنك الفعل ولم تتعرض لكونه فعل أو لم يفعل وإذا قلت ما أنا فعلت كنت قد نفيته عن نفسك مدعيا بأن غيرك فعله ومن ها هنا كان ذلك تعريضا بالقذف يوجب الحد في أصح القولين وبه عمل الصحابة في قول القائل أنا زنيت كما رفع إلى عمر بن الخطاب رجل لاحى آخر فقال ما أنا بزان ولا أمي بزانية فضربه الحد وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وكذلك إذا قلت ما ضربت زيدا كنت قد نفيت الضرب لزيد عنك ولم تتعرض لضرب وقع منك على غيره نفيا وإثباتا وإذا قلت ما زيدا ضربت كنت مفهما أن الضرب قد وقع منك على إنسان غير زيد.

ص: 722

وكذلك الأمر في المبتدأ والخبر فهذا التقديم والتأخير يرجع إلى إيراد الكلام على مقتضى الحال التي يقصدها المتكلم ومن عرف أسلوب كلام العرب وطريقتهم في كلامهم فهم أحكام التقديم والتأخير وهذا غير مخرج لاستفادة السامع اليقين من كلام المتكلم ولا موقف لفهمه على دليل يدل على أنه أراد تأخير ما قدمه وتقديم ما أخره ليفهم خلاف المعنى الظاهر من كلامه.

الوجه التاسع والثلاثون: قوله وموقوف على نفي المعارض العقلي لئلا يفضي إلى القدح في العقل الذي يفتقر إليه النقل جوابه أنا لا نسلم أن القدح فيما عارض النقل من المعقول قدح فيما يحتاج إليه النقل فإن صحة النقل.

لا شيء عنده بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته.

وتأمل دلائلهم على ذلك يتبين أن العقل الصريح مع رسل الله كما معهم الوحي الصحيح.

وتأمل أقوالهم على تناقضها واختلافها في كلامه كيف? تجدها مخالفة لصريح العقل مخالفة بينة ودلائلهم على تلك

ص: 723

الأقوال المختلفة أبطل منها وكيف يجد العقل الصريح أنا نشهد بما جاءت به الرسل أن الله سبحانه تكلم بكلام سمعه منه جبريل وبلغه إلى من أمر بتبليغه وكلم نبيه موسى وكلم ملائكته بكلام حقيقي سمعوه منه وأنه يتكلم بمشيئته وإرادته وكل قول خالف هذا فهو خلاف العقل الصريح وإن زخرفت له الألفاظ ونسجت له الشبه وتأمل ما جاءت به النصوص إن كلماته لا نهاية لها وهل يقتضي العقل الصريح غير ذلك? وتأمل ما جاءت به النصوص من شمول قدرته ومشيئته لجميع الكائنات أعيانها وصفاتها وأفعالها وما خالف ذلك فهو مخالف لصريح العقل.

كما أن النصوص جاءت بأن أفعال العباد أعمال لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم ليست أفعالا لله وإن كانت مفعولة له تجد ما خالف ذلك مخالفا لصريح العقل.

وتأمل ما جاءت به النصوص أنه سبحانه لم يزل ملكا ربا غفورا رحيما محسنا قادرا لا يعجزه الفعل ولا يمتنع عليه وكيف لا تجد ما خالف ذلك مخالفا لصريح العقل كقول الفلاسفة أنه لا يفعل باختياره ومشيئته وقول المتكلمين أنه كان من الأزل إلى حيث خلق هذا العالم

ص: 724

معطلاعن الفعل غير متمكن منه والفعل مستحيل ثم انقلب من اإلإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي بأن تجدد سبب اقتضى ذلك فانظر أي هذه المذاهب مخالف لصريح العقل كما هو مخالف لصحيح النقل وتأمل قولهم في الإرادة والقدرة والعلم كيف أثبتوا إرادة لا تفعل وقدرة لا تفعل وعلما لا يعقل فقابلهم طائفة من الفلاسفة كيحيى بن عدي النصراني قولها في الكلمة إنها الله كقول المتكلمين في السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة أنها نفس الذات فانظر مخالفة هذه الطوائف لصريح العقل وتأمل قولهم إن السمع هو عين البصر والبصر هو عين السمع والبصر هو عين العلم والكل صفة واحدة فهل في مخالفة العقل الصريح أشد من ذلك وتأمل قولهم إن الرب تعالى علة ثابتة في الأزل لجميع المعلولات.

ص: 725

ووجودها في آن واحد مستحيل فجلعوه علة ثابتة لنا هو ممتنع الوجود في غير وقته وهذا قول الفلاسفة فقابلهم المتكلمون في ذلك ولم يجعلوا الفعل ممكنا له في الأزل بحال ولم يفرقوا بين نوع الفعل وعينه وخالف الفريقان صريح العقل.

فتأمل قول الفريقين في الموجب بالذات والفاعل بالاختيار كيف تجدهم قد خرجوا فيه عن صريح العقل وقالوا ما يشهد العقل ببطلانه.

وتأمل قولهم في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كيف خرجوا عن صريح العقل في المصدر والصادر عنه.

وتأمل قولهم في إنكار قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه التي ترجموها بمسألة حلول الحوادث كيف خرجوا فيها عن المعقول الصريح وكابروه أبين مكابرة والتزموا لأجله تعطيل الحي الفعال عن كل فعل والتزموا لأجله حصول مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق فإن الفعل عندهم عين المفعول والخلق نفس المخلوق وهذا مكابرة لصريح العقل.

ص: 726

وتأمل خروجهم عن العقل الصريح في إنكار الحكم والغايات التي يفعل الرب تعالى لأجلها وإنه لا يرى عيانا لا فوق الذاتي ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره ثم زادوا جواز تعلق الرؤية بكل موجود من الأصوات والروائح والمعاني وتعلق الإدراكات الخمس بذلك فجوزوا سماع الرائحة وشم الأصوات وسماع الطعوم فخرجوا عن صريح المعقول كما خرجوا عن صحيح المنقول أن المسلمين يرون ربهم من فوقهم.

وتأمل خروجهم عن صريح العقل في مسألة الطفرة والأحوال والكسب ومسألة النبوات وأن النبوة

ص: 727

لا ترجع إلى صفة وجودية وإنما هي تعلق الخطاب القديم بالشيء والتعلق أمر عدمي.

وتأمل خروجهم عن صريح العقل بتجويزهم رؤية الشيء في غير جهة من الذاتي وقولهم بأن المتولدات لا فاعل لها وقولهم بأن الله مريد بإرادة يخلقها لا في محل فخالفوا صريح العقل من وجهين من إثبات كونه مريدا من غير قيام صفة الإرادة به ومن جعلهم صفة الإرادة قائمة بغير محل ومن ذلك خروجهم عن صريح العقل في قولهم إن الرب تعالى عالم بلا علم سميع بلا سمع بصير بلا بصر قادر بلا قدرة حي بلا حياة فأنكر ذلك عليهم طوائف العقلاء ففر بعضهم إلى أن قال علمه وسمعه وبصره وقدرته وحياته هي ذاته وقال أعقلهم عند نفسه وعند أتباعه إنه سبحانه علم كله وقدرة كله وحياة كله وسمع كله وبصر كله إلى إضعاف أضاف ما ذكرنا من

ص: 728

أقوالهم التي خرجوا فيها عن صريح العقل فهل تجد في نصوص الوحي التي عارضوا فيها بين العقل والنقل مثل ذلك أو قريبا منه فتأملها وتأمل أقوالهم تعلم أي النوعين معه العقل ومن الذي خرج عن صريحه وبالله التوفيق.

الوجه الأربعون: إن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول في كل ما يخبر به ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة تلك الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء ولا يستريب في ذلك إلا موؤف في عقله مصاب في قلبه وفطرته فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه وتكلمه بمشيئته وتكليمه لخلقه ولصفات كماله ولرؤيته بالأبصار في الدار الآخرة ولقيام أفعاله به إلى براهين نبوته وصدقه التي زادت على الألف وتنوعت كل تنوع فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشبه الخيالية المتناقضة إلا من هو من أفسد

ص: 729

الناس عقلا ونظرا وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبديهيات فإنها وإن عجز كثير من الناس عن حلها فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والإضطرار فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف جزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها وكذلك الحال في الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول سواء فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صدقه ولا في الإيمان به وإن عجز عن حلها فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري وهذه الشبه عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل يوضحه:

الوجه الحادي والأربعون: وهو أن الرسول بين مراده وقد بين لنا أكثر مما تبين لنا كثيرا من دقائق المعقولات الصحيحة فمعرفتنا بمراد الرسول من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحة المقدمات في نفسها صادقة النتيجة غير كاذبة فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك فتلك التي تسمى معقولات قد تكون خطأ

ص: 730

ولكن لم يتفطن لخطئها وأما كلام المعصوم فقد قام البرهان القاطع على صدقه وأنه حق ولكن قد يحصل الغلط في فهمه فيفهم منه ما يخالف صريح العقل فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل فهذا لا يدفع ولكن إذا تأمله من وهبه الله حسن القصد وصحة التصور تبين له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النفاة من النصوص وبين العقل الصريح وأنها غير واقعة بين ما دل عليه النقل وبين العقل.

ومن أراد معرفة هذا فليوازن بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليبين له مطابقة أحدهما للآخر ثم يوازن بين أقوال النفاة وبين العقل الصريح فإنه يعلم حينئذ أن النفاة أخطأوا خطأين خطأ بينا على السمع بأن فهموا منه خلاف مراد المتكلم وخطأ على العقل بخروجهم عن حكمه فخرجوا عن العقل والسمع جميعا.

الوجه الثاني والأربعون: إن المعارضين بين العقل والنقل وبين ما أخبر به الرسول قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقا لا سبيل إليه إذ ما من معارض بنفسه إلا ويحتمل أن يكون له معارض آخر وهذا مما اعتمد عليه صاحب نهاية

ص: 731

العقول وجعل السمعيات لا يحتج بها على العلم بحال وحاصل هذا أنا لا نعلم ثبوت ما أخبر به الرسول حتى نعلم انتفاء ما يعارضه ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطلقا لما تقدم وأيضا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض العلم بانتفاء المعارض ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا.

الوجه الثالث والأربعون: أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن على الرسول البلاغ المبين فقال تعالى {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور54] ، [العنكبوت18] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة67]

ص: 732

وقال {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل44] وقد شهد الله له وكفى به شهيدا بالبلاغ الذي أمر به فقال {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات54] وشهد له أعقل الخلق وأفضلهم وأعلمهم بأنه قد بلغ فأشهد الله عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله فقال في خطبته بعرفات في حجة الوداع إنكم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون قالوا نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدا بربه الذي فوق سمواته وقال اللهم اشهد فلو لم يكن قد عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به وحصل لهم منه العلم اليقين لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين ولما رفع الله عنه اللوم ولما شهد له أعقل الأمة بأنه قد بلغ وبين وغاية ما عند النفاة أنه بلغهم ألفاظا لا تفيدهم علما ولا يقينا وأحالهم في

ص: 733

طلب العلم واليقين على عقولهم ونظرهم وأبحاثهم لا على ما أوحي إليه وهذا معلوم البطلان بالضرورة.

الوجه الرابع والأربعون: إن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجح بها كلها وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان كما لم يكن يدري الكتاب.

فقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى52] وقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى7 ، 6] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ50] .

ص: 734

فكيف يحصل لسفهاء العقول وأخفاء الأحلام وفراش الألباب الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم90 ، 89]

الوجه الخامس والأربعون: إن الله سبحانه قد أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله فقال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان1] وقال {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام19] فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله به وقال تعالى:

ص: 735

{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء165] وقال تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء15] وقال تعالى {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك9 ، 8]{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك11 ، 10] وقال تعالى {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر71] وقال {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام130]

ص: 736

فلو كان كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين والعلم والعقل معارض للنقل فأي حجة تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرسول وهل هذا القول إلا مناقض لإقامة حجة الله على خلقه بكتابه من كل وجه وهذا ظاهر لكل من فهمه ولله الحمد.

الوجه السادس والأربعون: إن الله سبحانه وصف نفسه بأنه بين لعباده غاية البيان وأمر رسوله بالبيان وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس ولهذا قال الزهري من الله البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده أو المعنى وحده أو اللفظ والمعنى جميعا ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرسالة وبيان المعنى وحده بدون دليله وهو اللفظ الدال عليه ممتنع فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ والمعنى. والله تعالى أنزل كتابه ألفاظه ومعانيه وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى فكما أنا نقطع ونتيقن أنه بين اللفظ

ص: 737

فكذلك نقطع ونتيقن أنه بين المعنى بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي فإن المعنى هو المقصود وأما اللفظ فوسيلة إليه ودليل عليه فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود وكيف نتيقن بيانه للوسيلة ولا نتيقن بيانه للمقصود وهل هذا إلا من أبين المحال فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن جاز عليه أن لا يبين بعض ألفاظه فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها ومدلولاتها وقد كتمه عن الأمة ولم يبينه لها كان ذلك قدحا في رسالته وعصمته وفتحا للزنادقة والملاحدة من الرافضة وإخوانهم باب كتمان بعض ما أنزل عليه وهذا مناف للإيمان به وبرسالته يوضحه:

ص: 738

الوجه السابع والأربعون: إن القائل بأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين إما أن يقول إنها تفيد ظنا أو لا تفيد علما ولا ظنا فإن قال لا تفيد علما ولا ظنا فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم الناس كفرا وإلحادا وإن قال بل تفيد ظنا غالبا وإن لم تفد يقينا قيل له فالله سبحانه قد ذم الظن المجرد وأهله فقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم28] فأخبر أنه ظن لا يوافق الحق ولا يطابقه وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23] وقال أهل النار {إِنْ نَظُنُّ إِلَاّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية32] ولكان قوله تعالى عنهم {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة4] خبرا غير مطابق فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من

ص: 739

الأدلة اللفظية لا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل فإذا كان النقل لا يفيد يقينا لم يكن في الأمة من يوقن بالآخرة إذ الأدلة العقلية لا مدخل لها فيها وكفى بهذا بطلانا وفسادا فإنه سبحانه لم يكتف من عباده بالظن بل أمرهم بالعلم كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} [محمد19] وقوله {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة98] وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة223] ونظائر ذلك وإنما يجوز اتباع الظن في بعض المواضع للحاجة كحادثة يخفى على المجتهد حكمها أو في الأمور الجزئية كتقويم السلع ونحوه.

وأما ما بينه الله في كتابه وعلى لسان رسوله فمن لم يتيقن بل ظنه ظنا فهو من أهل الوعيد ليس من أهل الإيمان فلو كانت الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لكان ما بينه الله ورسوله بالكتاب والسنة لم يتيقنه أحد من الأمة.

ص: 740

الوجه الثامن والأربعون: إن الله سبحانه أخبر أن قلوب المؤمنين مطمئنة بذكره وهو كتابه الذي هدى به عباده فقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد28 ، 27] أجابهم سبحانه عن سؤالهم ترك إنزال آيات الاقتراح بجوابين:

أحدهما أنها لا توجب إيمانا بل الله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا الآيات التي اقترحتموها

الثاني أنه نبههم على أعظم الآيات وأشدها اقتضاء للإيمان وأنها في اقتضائها للإيمان أبلغ من الآيات التي تقترحونها وهي كتابه الذي هو ذكره وما تضمنه من الحق الذي تطمئن إليه القلوب وتسكن إليه النفوس ولو كان باطلا لم يزد القلوب إلا شكا وريبا فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة فلو كانت كلماته وألفاظه لا تفيد اليقين بمدلولها لم تطمئن به القلوب فإن الطمأنينة هي سكون القلب إلى الشيء ووثوقه به وهذا لا يكون إلا مع اليقين بل هو اليقين بعينه.

ولهذا تجد قلوب أصحاب الأدلة السمعية مطمئنة بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم

ص: 741

الآخر لا يضطربون في ذلك ولا يتنازعون فيه ولا يعرض لهم الشك عند الموت ولا يشهدون على أنفسهم ويشهدون على غيرهم بالحيرة والوقوف والشك فيكفي في صحة مدلول الأدلة اللفظية وبطلان مدلول الشبه العقلية التي تخالفها هذا القدر وحده.

فمتى رأيت أصحاب الأدلة السمعية يقول أحدهم عند الموت نهاية إقدام العقول عقال أو يقول لعمري لقد طفت المعاهد كلها أو يقول فيك يا أغلوطة الفكر أو يقول والله ما أدري على أي عقيدة أموت إلى أضعاف ذلك من أحوال أصحاب الشبه العقلية وبالله التوفيق.

الوجه التاسع والأربعون: قوله إن العلم بمدلول الأدلة اللفظية موقوف على نقل اللغة كلام ظاهر البطلان فإن دلالة القرآن والسنة على معانيها من جنس دلالة لغة كل قوم على ما يعرفونه ويعتادونه من تلك اللغة وهذا لا يخص العرب بل هو أمر

ص: 742

ضروري لجميع بني آدم يتوقف العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطب ولهذا لم يرسل الله رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم فتقوم عليهم الحجة بما فهموه من خطابه لهم.

فدلالة اللفظ هي العلم بقصد المتكلم به ويراد بالدلالة أمران نقل الدال وكون اللفظ بحيث يفهم معنى ولهذا يقال دله بكلامه دلالة ودل الكلام على هذا دلالة فالمتكلم دال بكلامه وكلامه دال بنظامه وذلك يعرف من عادة المتكلم في ألفاظه فإذا كانت عادته أنه قصد بهذا اللفظ هذا المعنى علمنا متى خاطبنا به أنه أراده من وجهين:

أحدهما: أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه ولهذا استدل على مراده بلغته التي عادته أن يتكلم بها فإذا عرف السامع ذلك المعنى وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظ أن يقصده علم أنه مراده قطعا وإلا لم يعلم مراد المتكلم أبدا وهو محال.

الثاني: إن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامه وعلم السامع من طريقته وصفته أن ذلك قصده لا أن قصده التلبيس والإلغاز أفاده مجموع العلمين اليقين بمراده ولم يشك فيه ولو تخلف عنه العلم لكان ذلك قادحا في أحد العلمين إما قادحا في علمه بموضوع ذلك

ص: 743

اللفظ وإما في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده فمتى عرف موضوعه وعرف عادة المتكلم أفاده ذلك القطع يوضحه:

الوجه الخمسون: إن السامع متى سمع المتكلم يقول لبست ثوبا وركبت فرسا وأكلت لحما وهو عالم بمدلول هذه الألفاظ من عرف المتكلم وعالم أن المتكلم لا يقصد بقوله لبست ثوبا معنى ذبحت شاة ولا من قوله ركبت فرسا معنى لبست ثوبا علم مراده قطعا.

فإن من قصد خلاف ذلك عد ملبسا مدلسا لا مبينا مفهما وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظم استحالة وإن جاز على أهل التخاطب فيما بينهم فاءذا إفادة كلام الله ورسوله لليقين فوق استفادة ذلك من كلام كل متكلم وهو أدل على كلام الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده.

وكلما كان السامع أعرف بالمتكلم وصفاته وقصده وبيانه وعادته كان استفادته للعلم بمراده أكمل وأتم.

الوجه الحادي والخمسون: إن معرفة مراد المتكلم تعرف بإطراد استعماله ذلك اللفظ في ذلك المعنى في مجاري كلامه ومخاطباته فإذا ألف منه إطلاق ذلك اللفظ أو اضطراده في استعماله في معنى ألف منه أنه متى أطلقه أراد ذلك المعنى وألف منه تجريده في

ص: 744

موارد استعماله من اقتران ما يدل على خلاف موضوعه أفاد ذلك علما يقينا لا ريب فيه لمراده.

الوجه الثاني والخمسون: إن من تأمل عامة ألفاظ القرآن وجدها نصوصا صريحة دالة على معناها دلالة لا تحتمل غيرها بوجه من الوجوه وهذا كأسماء الأنبياء وأسماء الأجناس وكأسماء الأعلام وكأسمائه سبحانه التي أطلقها على نفسه فإنها لا تصلح أن يكون المراد بها غيره البتة ظاهرة كانت أم مضمرة وكأسماء يوم القيامة والجنة والنار والسماء والأعداد وذكر الثقلين وخطابهم وعامة ألفاظ القرآن فهل يفهم أحد قط من قوله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [الناس3 ، 1] غير الله سبحانه ومن {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس4] غير الشيطان ومن {صُدُورِ النَّاسِ} [الناس5] .

ص: 745

غير بني آدم وهل يفهم من قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الصمد1] غير ذات رب العالمين وأنه واحد لا شريك له وأنه لم يولد من غيره ولم يلد منه غيره وليس له من يماثله ويكائفه وهل يفهم من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها [المسد5 ، 1] غير ما دلت عليه وهكذا جميع سور القرآن وآياته مفيدة لليقين بالمراد منها وإن أشكل على كثير من الناس كثير من ألفاظه فإن هذا لا يخرجه عن إفادته اليقين ولا يسلب الأدلة اللفظية عن إفادتها اليقين بل كل علم من علوم بني آدم اليقينية القطعية تشتمل على مسائل يتيقنها أصحاب ذلك العلم وهي مسلمة عندهم ومجهولة عند كثير منهم ولا يخرج ذلك العلم عن كونه يقينيا قطعيا فعزل الأدلة اللفظية جملة عن اليقين لألفاظ يسيرة مشتبهة على بعض الناس كعزل العلوم اليقينية القطعية عن موضوعها لمسائل يسيرة فيها غير يقينية ولا قطعية.

الوجه الثالث والخمسون: إن قوله إن فهم الأدلة اللفظية موقوف على نقل النحو والتصريف جوابه إن القرآن نقل إعرابه كما نقلت ألفاظه

ص: 746

ومعانيه لا فرق في ذلك كله فألفاظه متواترة وإعرابه متواتر ونقل معانيه أظهر من نقل ألفاظه وإعرابه كما تقدم بيانه فإن القرآن لغته ونحوه وتصريفه ومعانيه كلها منقولة بالتواتر لا يحتاج في ذلك إلى نقل غيره بل نقل ذلك كله بالتواتر أصح من نقل كل لغة نقلها ناقل على وجه الأرض وقواعد الإعراب والتصريف الصحيحة مستفادة منه مأخوذة من إعرابه وتصريفه وهو الشاهد على صحة غيرها مما يحتج له بها فهو الحجة لها والشاهد وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره حتى إن فيه من قواعد الإعراب وقواعد علم المعاني والبيان مالم تشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني إلى الآن كما أن فيه من قواعد البراهين العقلية والأدلة القطعية ووجوهها مالم تشتمل عليه قواعد الأصوليين والجدليين إلى الآن وفيه من علم الأحكام وفقه القلوب وأعمال الجوارح وطرق الحكم بين العباد مالم تتضمنه قواعد الفقهاء إلى الآن وهذا أمر يتسارع الجهال والمقلدون إلى إنكاره والذين أوتوا العلم يعرفونه حقا فبطل قولا هؤلاء إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ ورواة إعرابها وتصريفها وظهر تدليسهم وتلبيسهم في هذا القول وبالله التوفيق.

ص: 747

الوجه الرابع والخمسون: أن يقال هب أنه يحتاج إلى نقل ذلك لكن عامة ألفاظ القرآن منقول معناها وإعرابها بالتواتر لا يحتاج الناس فيه إلى النقل عن عدول أهل العربية كالخليل وسيبويه والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي

ص: 748

والفراء حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل {أُبْسِلُوا} و {قِسْمَةٌ ضِيزَى} و {عَسْعَسَ} ونحوها معانيها منقولة في اللغة بالتواتر لا يختص بنقلها الواحد والاثنان فلم تتوقف دلالتها على عصمة رواة معانيها فكيف في الألفاظ الشهيرة كالشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والجبال والشجر والدواب فهذه الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والألفاظ الشهيرة.

الوجه الخامس والخمسون: إن أصحاب هذا القانون الذي عزلوا به نصوص الوحي عن إفادتها للعلم واليقين قالوا إن أظهر الألفاظ لفظ الله وقد اختلف الناس فيه أعظم اختلاف هل

ص: 749

هو مشتق أم لا وهل هو مشتق من التأله أو من الوله أو من لاه إذا احتجب وكذلك اسم الصلاة وفيه من الاختلاف ما فيه وهل هو مشتق من الدعاء أو من الاتباع أو من تحريك الصلوين فإذا كان هذا في أظهر الأسماء فما الظن بغيره فتأمل هذا الوهم والإيهام واللبس والتلبيس فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجهالهم ومن يعرف الاشتقاق ومن لا يعرفه وعربهم وعجمهم يعلمون أن الله اسم لرب العالمين خالق السموات والأرض الذي يحيي ويميت وهو رب كل شيء ومليكه فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم يراد به هذا المسمى وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسم وضع لكل مسمى وإن كان الناس متنازعين في اشتقاقه فليس ذلك بنزاع منهم في معناه وكذلك الصلاة لم يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله وإن اختلفوا في اشتقاقها وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال64] لم يتنازعوا في المراد به وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وإن اختلفوا في اشتقاقه هل هو من النبأ أو من النبوة فليس ذلك نزاعا منهم في مسماه وكذلك مواضع كثيرة تتنازع النحاة في وجه دلالتها مع اتفاقهم على المعنى كقوله:

ص: 750

{وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف3] فالبصريون يجعلونها مخففة من الثقيلة واللام فارقة بين المخففة والنافية والكوفيون يجعلونها نافية واللام بمعنى إلا. وليس هذا نزاعا في المعنى وإن كان نزاعا في وجه الدلالة عليه وكذلك قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء176] يقدره البصريون كراهة أن تضلوا والكوفيون لئلا تضلوا وكذلك اختلافهم في التنازع وأمثال ذلك إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذلك المعنى مع اتفاقهم على أن المعنى واحد وهذا القدر لا يخرج اللفظ عن إفادته للسامع اليقين بمسماه.

الوجه السادس والخمسون أن يقال هذه الوجوه العشرة مدارها على حرف واحد وهو أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنى واحد فلا نقطع بإرادة المعنى الواحد فهذه الوجوه العشرة مضمونها كلها احتمال اللفظ لمعنيين فصاعدا حتى لا يعرف

ص: 751

عين مراد المتكلم فنقول من المعلوم أن أهل اللغة لم يسوغوا للمتكلم أن يتكلم بما يريد به خلاف ظاهره إلا مع قرينة تبين المراد والمجاز إنما يدل مع القرينة بخلاف الحقيقة فإنها تدل على التجرد وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه وكذلك التخصيص ليس لأحد أن يدعيه إلا مع قرينة تدل عليه فلا يسوغ العقلاء لأحد أن يقول جاءني زيد وهو يريد ابن زيد إلا مع قرينة كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف82] واسأل العير عند من يقول إنه من هذا الباب فإنه يقول القرية والعير لا يسألون فعلم أنه أراد أهلها ومن جعل القرية اسما للسكان والمسكن والعير اسما للركبان والمركوب لم يحتج إلى هذا التقدير وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجرد الكلام عن القرائن المبينة للمراد فحيث تجردت علمنا قطعا أنه لم يرد بها ذلك وليس لقائل أن يقول قد تكون القرائن موجودة ولا نعلم بها لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيا كمخصصات الأعداد وغيرها ومنها ما يكون معنويا كالقرائن الحالية

ص: 752

والمقالية والنوعان لا بد أن يكونا ظاهرين للمخاطب ليفهم من تلك القرائن مراد المتكلم فإذا تجرد الكلام عن القرائن فهم معناه المراد عند التجرد وإذا اقترن بتلك القرائن فهم معناه المراد عند الاقتران فلم يقع لبس في الكلام المجرد ولا في الكلام المقيد إذ كل من النوعين مفهم لمعناه المختص به.

وقد اتفقت اللغة والشرع على أن اللفظ المجرد إنما يراد به ما ظهر منه وما يقدر من احتمال مجاز أو اشتراك أو حذف أو إضمار ونحوه إنما يقع مع القرينة أما مع عدمها فلا والمراد معلوم على التقديرين يوضحه:

الوجه السابع والخمسون: إن غاية ما يقال إن في القرآن ألفاظا استعملت في معان لم تكن تعرفها العرب وهي الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والاعتكاف ونحوها والأسماء الدينية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق ونحوها وأسماء

ص: 753

مجملة لم يرد ظاهرها كالسارق والسارقة والزاني والزانية ونحوه وأسماء مشتركة كالقرء وعسعس ونحوهما فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها فيقال هذه الأسماء جارية في القرآن ثلاثة أنواع نوع بيانه معه فهو مع بيانه يفيد اليقين بالمراد منه ونوع بيانه في آية أخرى فيستفاد اليقين بالمراد من مجموع الإثنين ونوع بيانه موكول إلى الرسول فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول ولم نقل نحن ولا أحد من العقلاء إن كل لفظ فهو مفيد لليقين بالمراد منه بمجرده من غير احتياج إلى لفظ آخر متصل به أو منفصل عنه بل نقول إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد تارة والمقرون تارة ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل المتكلم عليه تارة وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام.

ص: 754

{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء12] مع قوله {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية [النساء176] أفاد مجموع النصين العلم بالمراد من الكلالة وأنه من لا ولد له وإن سفل ولا والد له وإن علا وكذلك قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق6] مع قوله {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق2] أفاد مجموع الخطابين في الرجعيات دون البوائن ومنه قوله {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير17/18] مع قوله {كَلَاّ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر34-32] فإن مجموع الخطابين يفيدان العلم بأن الرب سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال هذا أو بإقبال كل منهما على من

ص: 756

فسر أدبر بأنه دبر النهار أي جاء في دبره وعسعس بأقبل فعلى هذا القول يكون الإقسام بإقبال الليل وإقبال النهار وعلى القول الأول يكون قد وقع الإقسام بإدبار الليل وإقبال النهار وقد يقال وقع الإقسام في الاثنين بالنوعين.

وأما البيان الذي يحيل المتكلم عليه فكما أحال الله سبحانه وتعالى على رسوله في بيان ما أمر به عباده من الصلاة والزكاة والحج وفرائض الإسلام التي إنما علم مقاديرها وصفاتها وهيئاتها من بيان الرسول فلا يخرج خطاب القرآن عن هذه الوجوه ولم يخاطب الله عباده بلفظ إلا وقد بين لهم مراده به بأحد هذه الوجوه الأربعة فصار الخطاب مع بيانه مفيدا لليقين بالمراد منه وإن لم يكن بيانه متصلا به وذلك لا يعزل كلام الله ورسوله عن إفاة العلم واليقين.

الوجه الثامن والخمسون: إن حصول اليقين بمدلول الأدلة السمعية والعلم بمراد المتكلم بها أيسر وأظهر من حصوله بمدلول الأدلة العقلية.

ص: 757

فإن الأدلة السمعية تدل بقصد الدال وإرادته وعلم المخاطب بذلك أيسر عليه من علمه باقتضاء الدليل العقلي مدلوله ولهذا كان أول ما يفعله الطفل معرفة مراد أبويه بخطابهما له قبل علمه بالأدلة العقلية وأيضا فمن قصد تعليم غيره مقتضى الدليل العقلي لم يمكنه ذلك حتى يعرفه مدلول الألفاظ التي صاغ بها الدليل العقلي فعلمه بمدلول الدليل السمعي الدال على مقتضى الدليل العقلي أسبق إليه وأيسر عليه وهذا هو الترتيب الطبيعي الموجود في الناس كما يخاطب المعلم المتعلم بالألفاظ الدالة على الدليل العقلي فلا بد أن يعرف مدلول تلك الألفاظ أولا ثم يرتب مدلولها في ذهنه ترتيبا ينتج له العلم بالنتيجة وليس أحد من البشر يستغني عن التعلم السمعي كيف وآدم أبوهم أول من علمه الله أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها وكلمه قبيلا ونبأه وعلمه بخطاب الوحي مالم يعلمه بمجرد العقل وهكذا جميع الأنبياء من ذريته علمهم بالأدلة السمعية وهي الوحي مالم يعلموه بمجرد عقولهم وحصل لهم من اليقين

ص: 758

والعلم بالأدلة السمعية التي هي خطاب الله لهم مالم يحصل لهم بمجرد العقل وأحيلوا هم وأممهم على الأدلة السمعية ولم يحالوا على العقل وهداهم الله بالأدلة السمعية لا بمجرد العقل وأقام حجته على أممهم بالأدلة السمعية لا بالعقل يوضحه:

الوجه التاسع والخمسون: وهو ما اتفقت عليه أهل الملل أن النبوة خطاب سمعي بوحي يوحيه الملك إلى النبي عن الرب تعالى ليست مجرد معرفة الحقائق بقوة قدسية في البشر تميز بها عن غيره وقوة تخيل وتخييل يتمكن بها من التصور وحسن البصيرة وقوة تأثير يتمكن بها من التصرف في عناصر العالم كما يقول المتفلسفة ويقولون إن ما يحصل للنبي من المعارف إنما هو بواسطة القياس العقلي كغيره من البشر لكن هو أسرع وأكمل إدراكا للحد الأوسط من غيره ويزعمون أن علم الرب كذلك والقائلون بأن اليقين والعلم إنما يحصل من الأدلة العقلية لا من الأدلة السمعية هم هؤلاء وعنهم تلقى هذا الأصل ومنه أخذ فهو أحد أصول الفلسفة

ص: 759

والإلحاد والزندقة الذي يتضمن عزل النبوات وما جاءت به الرسل عن الله من الأدلة السمعية وتولية القواعد المنطقية والآراء الفلسفية فأخذه منهم متأخرو الجهمية فصالوا به على أهل الكتاب والسنة ولقد كان قدماؤهم لا يصرحون بذلك ولا يتجاسرون عليه فكشف المتأخرون القناع وألقوا جلباب الدين وصرحوا بعزل الوحي عن درجه والمسلمون بل وأهل الملل قاطبة يعلمون بالضرورة أن أكمل التعليم تعليم الله لصفيه آدم الأسماء كلها وأكمل التكليم تكليمه سبحانه لكليمه موسى وأعلى أنواع العلوم وأعظمها إفادة لليقين العلوم التي ألقاها الله سبحانه إلى أنبيائه بواسطة السمع وأن نسبة العلوم العقلية المشتركة بين الناس إليها أقل وأصغر من نسبة علوم العجائز والأطفال إلى تلك العلوم فبين العلوم الحاصلة من الأدلة السمعية للرسل وأتباعهم وبين العلوم الصحيحة الحاصلة بأفكار العقلاء من التفاوت أضعاف ما بين الخردلة إلى الجبل

ص: 760

العظيم فكيف النسبة بين العلوم السمعية اليقينية للرسل وأتباعهم وبين الشبه الخيالية التي هي من جنس شبه السوفسطائية في التحقيق فدعوى هؤلاء المخدوعين المخادعين أن ما جاءت به الأنبياء لا يفيد اليقين وأن تلك الهذيانات التي بنوا عليها واستدلوا بها هي المفيدة لليقين من جنس دعوى فرعون وقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر29] وقال عن موسى وما جاء به {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر26] فدعوى هؤلاء من جنس دعواه سواء وبالله التوفيق.

الوجه الستون: إن دلالة الأدلة السمعية على مدلولها من جنس دلالة الآيات المعينة على مدلولها وهذان النوعان هما أكمل الأدلة وهما المستلزمان للعلم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته والمعاد وإثبات صدق الرسل بخلاف الأدلة العقلية الكلية التي

ص: 761

طريقها صناعة المنطق فإنها إذا صحت مقدماتها وكانت يقينية وكانت منتجة فإنما تنتج مطلوبا كليا لا يحصل به إثبات رب معين ولا رسول معين ولا إثبات شيء من أصول الإيمان التي لا سعادة للعبد بدونها فإن غاية ما عند هؤلاء أن الممكن يفتقر إلى واجب فبعد تقرير إمكان العالم والتخلص من الشبه الواردة على الإمكان إنما استفادوا إثبات وجود واجب ومعلوم أن فرعون وهامان ونمرود بن كنعان والمجوس والصابئة لا يشكون في إثبات وجود واجب بل عباد الأصنام أهدى من هؤلاء حيث اعترفوا برب قيوم خالق قادر يفعل بمشيئته وقدرته وأصحاب هذه الأدلة العقلية التي تفيد اليقين لم يصلوا فيما استفادوه بها إلى هذا ولا قريب منه بل أثبتوا وجودا واجبا وهل هو هذا الفلك أو فلك وراءه أو وجود مطلق أو علة أولى أو الوجود الكلي العام الساري في الموجودات كما قال بكل من ذلك طائفة وأما كونه الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم القاهر فوق عباده الذي استوى على عرشه يعلم ما تخفيه الضمائر ويرى ويسمع

ص: 762

ويتكلم ويكلم ويرضى ويغضب ويخلق ما يشاء فهذا لا تدل عليه مقدماتهم المنطقية وأدلتهم الكلية فلا تفيد شيئا من مطالب الإيمان المشتركة بين أهل الملل البتة وأما أدلة الرب سبحانه بآياته السمعية والخلقية فهي التي دلت عباده على توحديه وصفات كماله ونعوت جلاله وصدق رسله وصحة معاد الأبدان وقيام الناس من قبورهم إلى دار شقاوة وسعادة فلولا هذه الآيات السمعية لم يعرفوا شيئا من ذلك وقد أخبر سبحانه عن هذه الآيات السمعية والخلقية بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت53] فبين سبحانه أنه يري عباده من الآيات المشهودة العيانية في الآفاق وفي أنفسهم ما يبين لهم به أن آياته السمعية القرآنية حق وصدق فآيات الرب تعالى العيانية الأفقية والنفسية مستلزمة لإثبات الأدلة السمعية ثم دلالة آياته السمعية التي لا تفيد اليقين عند هؤلاء أكمل دلالة على المطالب الإيمانية من الأدلة الكلية المؤلفة من القياسات المنطقية بل دلالتها على تلك المطالب كدلالة الشمس على

ص: 763

النهار ودلالة ضوء الصبح علىالصباح ودلالة الدخان على النار والمصنوع على الصانع ودلالة النجوم على الطرق ونحو ذلك وهذا يبين أن أضعف أنواع الأدلة هي الأدلة القياسية العقلية التي هي عند كثير من الفلاسفة والمتكلمين أكمل الأدلة ثم الدليل القياسي التمثيلي أقوى وأظهر دلالة من الدليل القياسي الشمولي خلاف ما يدعيه المنطقيون ومن اتبعهم فأدلة هؤلاء هي آخر المراتب وأضعفها وأدلة القرآن في أعلى مراتب الأدلة وأشدها ارتباطا بمدلولها واستلزاما له خلاف لمن عكس ذلك كابن سينا وابن الخطيب والآمدي وأشباههم.

فدلالة المقال أكمل من دلالة الحال ودلالة الحال المعينة

ص: 764

أكمل من الدلالة الكلية المنطقية ودلالة كلام الله أكمل من دلالة كل كلام وإفادته اليقين فوق إفادة كل دليل اليقين بمدلوله ودلالة آياته العيانية على مدلولها فوق إفادة كل دليل عقلي لمدلوله فقول من قال إنها لا تفيد اليقين بمكدلولها لأنها أدلة لفظية والأدلة العقلية لا تفيد لكونها أمثالا جزئية لا أقيسة كلية فيسمون آياته السمعية أدلة لفظية وآياته العيانية تمثيلات جزئية ويقولون هذا تمثيل لا دليل وفي الأول هذا دليل لفظي لا عقلي فقول هؤلاء قلب للحقائق وعكس لما فطر الله عليه عباده وقدح في المعلوم قطعا ويقينا بالشبه الخيالية والأقيسة المنطقية وقد أفسدوا من الفطر وغيروها عما فطرت عليه خلائق لا يحصيهم إلا الله وهؤلاء للملل بمنزل السوس في الخشب والثياب وغيرهما ولهذا سماهم أنصار الله ورسوله سوس الملل وإذا شئت أن تعرف حقيقة الأمر فانظر إلى أهل الأدلة السمعية وأهل الأدلة المنطقية العقلية ووازن بين معارف هؤلاء وعلومهم وإيمانهم وهدايتهم ونفع الخلق بهم وسيرتهم وبين علوم أولئك ومعارفهم وسيرتهم وضرر الخلق بهم وإخراجهم لمن أنشبوا مخالبهم فيه من العقل والدين خروج الشعرة من العجين.

ص: 765

الوجه الحادي والستون إنه من أعظم المحال أن يكون المصنفون في جميع العلوم قد بينوا مرادهم وعلم الناس مرادهم منها يقينا سواء كان ذلك المعلوم مطابقا للحق أو غير مطابق له ويكون الله ورسوله لم يبين مراده بكلامه ولا تيقنت الأمة إلى الآن ما أراد بكلامه فهذا لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس بالله ورسوله وكلامه ونحن لا ننكر أن في أرباب المعقولات من هو في غاية البعد عن معرفة الله ورسوله وما جاء به وأنه لم يحصل له اليقين من كلام الله ورسوله وذلك لبعده منه وعدم الثقة به وسوء ظنه به واعتقاده أن كلامه خطابة لا برهان وإنه تخييل خيل به إلى النفوس وشبه لها الأمور العقلية وأخرجها في الصور المحسوسة وأن القرآن إنما هو خطاب للعرب الجهال الذين هم من أجهل الأمم بالعلوم والحقائق وأنهم لم تمكن دعوتهم إلا بالطريق الخطابية التخييلية لا بالطريق البرهانية العقلية الحكمية وأن طريق الحكمة والبرهان هي طرق الفلاسفة والمنطقيين والصابئة وأتباعهم فلا ريب أن القرآن في حق مثل هذا لا يفيده اليقين بل هو عمى عليه وضلال في حقه كما قال تعالى:

ص: 766

{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت44] قال مجاهد بعيد من قلوبهم فهم ما يتلى عليهم وقال الفراء تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد وقال صاحب النظم أي أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم وهذا حال هؤلاء الذين لا يستفيدون من كلام الله ورسوله يقينا ولا علما وهذه أيضا حال الجهال ومن نشأ بالبوادي ومن لا فهم له من أهل البله والبلادة وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء لا يستفيدون من كلام الله ورسوله علما ولا يقينا فقول القائل الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لم يذكر المفعول بل حذفه فإن أراد أنها لا تفيد اليقين لهاتين الطائفتين فصدق وإن أراد أنها لا تفيده للراسخين في العلم وأهل الذكاء الذين هم أحسن الناس قصودا وأصحهم أذهانا فقد كذب عليهم وبهتهم فإنهم قد استفادوا

ص: 767

منها من اليقين مالم يستفده أهل منطق اليونان وأتباع الفلاسفة وأفراخ الصابئة وورثة الملاحدة وأوقاح الجهمية من قواعدهم الباطلة فدعواهم أنهم لم يستفيدوا منها يقينا مكابرة لهم في الأمور الوجدانية الحاصلة لهم.

وإن قالوا نحن لم نستفد منها يقينا قيل لهم لا يلزم من ذلك أن لا تفيد اليقين لأهل العلم والإيمان وقد قال من لم يستفد العلم واليقين من القرآن للنبي ما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت5] ولم يمنع هذا ارتفاع هذه الموانع واستفادة الهدى واليقين في حق المؤمنين المصدقين بل كان في حقهم هدى وشفاء.

وإن قال هي لا تفيد اليقين في نفسها وليست موضعا لذلك فهذا غاية البهت والإلحاد يوضحه:

الوجه الثاني والستون أن يقال لهم ما تريدون بهذا النفي أتريدون بالأدلة اللفظية جنس كلام بني آدم الدال على مرادهم في الخطاب والتصنيف وغيره أو كلام الله ورسوله وهل مرادكم بهذا

ص: 768

السلب أن شيئا منها لا يفيد اليقين أو أن مجموعها لا يفيده وإن أفاده بعضها. وهل المراد أنه لا يستفيد أحد منها اليقين البتة أو أن الناس كلهم لا يستفيدون منها اليقين بل يستفيده بعضهم دون البعض.

وهل المراد بها لا تفيد اليقين بمراد المتكلم بها أو لا تفيد اليقين بثبوت ما أخبر بثبوته ونفي ما أخبر بنفيه وإن تيقنا مراده فهما مقامان والفرق بينهما معلوم فهذه ثمانية تقادير فبينوا مرادكم منها فإن أحدا من العقلاء لا يمكنه أن ينفي حصول اليقين منها على هذه التقادير كلها.

وإذا كان المراد نفي اليقين على بعض التقادير المذكورة فبينوه بالدعوى ليتوارد النفي والإثبات على محل واحد والظاهر والله أعلم أنكم تريدون أن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم ولا يقين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وإثبات ملائكته وصفاتهم وأنواعهم وإذا لم يفد اليقين في ذلك وهو أعظم أقسام القرآن وأظهرها وأكثرها ورودا فيه فكيف يفيد في باب المعاد والأحكام كما تقدم تقريره

الوجه الثالث والستون: إن هذا القانون مضمونه جحد الرسالة في الحقيقة وإن أقر بها صاحبه بلسانه بل مضمونه إن ترك الناس بلا رسول

ص: 769

يرسل إليهم خير من أن يرسل إليهم رسول وإن الرسل لم يهتد بهم أحد في أصول الدين بل ضل بهم الناس وذلك أن القرآن على ما اعتقده أرباب هذا القانون لا يستفاد منه علم ولا حجة بل إذا علمنا بعقولنا سببا اعتقدناه ثم نظرنا في القرآن فإن كان موافقا لذلك أقررناه على ظاهره لكونه معلوما بذلك الدليل العقلي الذي استفدناه به لا بكون الرسول أخبر به وإن كان ظاهره مخالفا لما عرفناه واستنبطناه بعقولنا اتبعنا العقل وسلكنا في السمع طريقة التأويل أو الإعراض والتفويض فأي فائدة حصلت إذا بإخبار الرسول بل مضمون ذلك أنا حصلنا على العناء الطويل لاستخراج وجوه التأويلات المستلزمة أو التعرض لاعتقاد الباطل والضلال بحمل الكلام على ظاهره فكانت الأدلة اللفظية مقتضية لضلال هؤلاء ولعناء أولئك فأين الهدى والشفاء الذي حصل بها لهؤلاء وهؤلاء ومن العجب اعتراف أرباب هذا القانون بهذا وجوابهم عنه بجواب أهل الإلحاد وهو أن المخاطبين لم يكونوا يفهمون الحقائق فضربت لهم الأمثال من غير أن يكون المخبر ثابتا في نفس الأمر فراجع كتب القوم تجد ذلك فيها.

ص: 770

الوجه الرابع والستون: إن أصحاب هذا القانون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك فتارة يقولون نحن نعلم انتفاء الظاهر قطعا وأنه غير المراد وإن كنا لا نعلم عين المراد وتارة يقولون بل الرسول خاطب الخلق خطابا جمهوريا يوافق ما عندهم وما ألفوه ولو خاطبهم بإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يتكلم ولا يكلم ولا يرى عيانا ولا يشار إليه لقالوا هذه صفات معدوم لا موجود فوقعوا في التعطيل فكان الأصلح أن يأتي بألفاظ دالة على ما يناسب ما نحلوه وألفوه فيخلصهم من التعطيل.

فكيف يجمع هذا القول وقولهم إن الظاهر غير مراد فإن كان قد أراد منهم الظاهر بطل قولهم إن الظاهر غير مراد وإن أراد منهم التأويل يبطل قولهم إنه قصد خطابهم بما يخيل إليهم ويتمكنون معه من إثبات الصانع ويتخلصون من التعطيل فأي تناقض أشد من هذا فإن اراد الظاهر فقد أراد عندكم إفهام الباطل الذي دل عليه لفظه وإن لم يرد الظاهر بل أراد منهم التأويل لم يحصل الغرض الذي ذكرتموه ولم يخلصوا من التعطيل وهذا لا حيلة لكم في دفعه. فهما طريقتان باطلتان مضادتان لقصد الرسالة هؤلاء

ص: 771

يقولون أراد منهم أن يتخيلوا ما ينفعهم وإن لم يكن حقا في نفس الأمر وأصحاب التأويل يقولون أراد منهم ضد ذلك المعنى الذي دل عليه كلامه ونصه وتارة يقولون أراد منهم تأويل النصوص وتارة يقولون أراد منهم تفويضها وقد نزه الله رسوله عن أن يريد المعاني الباطلة أو يقصر في بيان ما أراده فإن الأول كذب وتدليس وتلبيس والثاني تقصير في البيان وإذا كان الرسول منزها عن هذا وهذا فالرب تعالى أولى بتنزيهه عن الأمرين.

وقد قام الدليل القطعي على تنزيه الله ورسوله عن ذلك فلا يقدح فيه بالشبه الخيالية الفاسدة.

الوجه الخامس والستون: إن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين محكم ومتشابه وجعل المحكم أصلا للمتشابه وأما له يرد إليه فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يرد إلى المحكم وقد اتفق المسلمون على هذا وأن المحكم هو الأصل والمتشابه مردود إليه وأصحاب هذا القانون جعلوا الأصل المحكم ما يدعونه من العقليات وجعلوا القرآن كله مردودا إليه فما خالفه فهو متشابه وما وافقه فهو المحكم ولم يبق

ص: 772

عند أهل القانون في القرآن محكم يرد إليه المتشابه ولا هو أم الكتاب وأصله.

الوجه السادس والستون إنه على قول أرباب القانون لا سبيل لأحد أن يعرف أن شيئا من القرآن محكم فإن ذلك إنما يعرف إذا حصل اليقين بانتفاء المعارض العقلي وهذا النفي غير معلوم إذ غاية ما يمكن انتفاء العلم بالمعارض لا العلم بانتفائه.

فإن قلتم نحن نقول إن صرف اللفظ عن ظاهره وإخراجه عن كونه محكما لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القطعي على أن ظاهره محال ممتنع قيل وأنتم تقولون مع ذلك إن حمله على ظاهره لا يجب إلا إذا قام الدليل العقلي على أن ظاهره حق فما لم يعضده دليل عقلي لم يجزم بثبوته فالمعتمد إذا عندكم في النفي والإثبات على الدليل العقلي والقرآن عديم التأثير لا يجزم بنفي ما نفاه ولا بإثبات ما أثبته وهذا قول من لم يؤمن بما أنزل الله من الكتاب ولا بما أرسل به الرسول.

الوجه السابع والستون: إن أصحاب القانون لا يمكنهم إنكار أن الأدلة اللفظية تفيد ظنا غالبا وإن لم تفدهم يقينا وما عندهم مما يسمونه أدلة عقلية على نفي ما دل عليه القرآن والسنة من الصفات

ص: 773

إنما هي أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا بل جهلا مركبا يظن صاحبها أن معه علما وإنما معه الجهل المركب فهي في العلوم كأعمال من خالف الرسل في الأعمال: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور39] فهذا مثل أعمال هؤلاء وعلوم أولئك ولا ريب أن الظن المستفاد من الأدلة السمعية خير من هذا الجهل المركب إلا أن يقول أرباب القانون إن الأدلة اللفظية لا يستفاد منها علم ولا ظن البتة ولا يبتعد هذا من قولهم. وهم يقولون إن ظاهرها باطل وتشبيه وتجسيم وإذا انتهى الأمر إلى هنا انتقلنا إلى إثبات أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن زاعم ذلك غير مقر برسالته في نفس الأمر كما تقدم والله أعلم.

الوجه الثامن والستون: إن هذا يتضمن القدح في أعظم آيات الرب الدالة على ربوبيته وحكمته وجحد ما هو من أعظم نعمه على عباده.

ص: 774

أما الأول فلأن الله سبحانه جعل من آيات ربوبيته الهداية العامة لخلقه كما قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى3-1] وقال فرعون لموسى {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه50 ، 49] فهدى كل نفس لجلب ما يصلحها وينفعها ودفع ما يضرها ويفسدها وخص النوع الإنساني بأنواع أخر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره وذلك إنما هو بصفة النطق التي هي أظهر ما في الإنسان ولذلك شبه الله سبحانه بها ما أخبر به من الغيب فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات23] .

ص: 775

وأما أن ذلك من أعظم نعم الله على عباده فلأن الإنسان إنما يميز عن سائر الحيوان بكمال هذه القوة وتمامها فيه واقتداره منها على مالم تقتدر عليه الحيوانات العجم.

ولذلك عدد ذلك من نعمه على عباده في جملة ما أنعم به عليهم فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن4-1] وقال {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [اقرأ5-3] وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد10-8] فإنكار حصول العلم واليقين من كلام المتكلم قدح في أعظم آيات الله وجحد لما هو من أعظم نعمه.

وكنا نظن أن قائل ذلك أراد أن بعض الأدلة اللفظية لا تفيد العلم واليقين حتى رأيناه قد صرح بأن شيئا منها لا يفيد اليقين البتة ولا قدح في آياته ولا جحد لنعمه أبلغ من ذلك.

ص: 776

الوجه التاسع والستون: إن هذا القول الذي قاله أصحاب القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم لا طوائف المسلمين ولا اليهود ولا النصارى ولا أحد من أهل الملل ولا طوائف الأطباء ولا النحاة ولا أهل اللغة ولا أهل المعاني والبيان ولا غيرهم قبل هؤلاء وذلك لظهور العلم بفساده فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق فإن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة وقد أنطق الله سبحانه بعض الجمادات وبعض أنواع الحيوانات بمثل نطق بني آدم فلم يسترب سامع ذلك النطق في حصول العلم واليقين به بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية.

فقالت النملة لأمة النمل {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل18] فلم يشك النمل ولا سليمان في مرادها وفهموه يقينا ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم ضاحكا منه وخاطب الهدهد وخاطبه الهدهد فحصل للهدهد العلم اليقيني بمراد سليمان من كلامه وحصل لسليمان ذلك من كلام

ص: 777

الهدهد وذهب الهدهد بكتاب سليمان لما حصل له اليقين من كلامه وأرسل سليمان الهدهد والكتاب وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه.

وأنطق سبحانه الجبال بالتسبيح مع داود وعلم سليمان منطق الطير وسمع الصحابة تسبيح الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع رسوله تسليم الحجر عليه أفيقول مؤمن أو عاقل إن اليقين لم يكن

ص: 778

يحصل للسامع بشيء من مدلول هذا الكلام فعلم أن هذا القول في غاية السفسطة ومجد الحقائق وقلبها وإفساد العقول والفطر.

الوجه السبعون: إن حاصل كلام أرباب القانون يدور على ثلاث مقدمات

الأولى: إن العلم بمراد المتكلم موقوف على حصول العلم بما يدل على مراده

الثانية: إنه لا سبيل إلى العلم بمراده إلا بانتفاء هذه الأمور العشرة

الثالثة: إنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها فهذه ثلاث مقدمات الأولى منها صادقة والأخريان كاذبتان أما المقدمة الأولى فصحيحة والعلم بمراد المتكلم كثيرا ما يكون علما اضطراريا كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة فإن الإنسان إذا سمع مخبرا يخبر بأمر حصل عنده ظن ثم يقوى بالمخبر الآخر حتى يصير علما ضروريا فكذلك إذا سمع كلام المتكلم فقد يعلم مراده ابتداء بالضرورة وقد يظنه ثم يتكرر كلام المتكلم

ص: 779

أو يتكرر سماعه له ولما يدل على مراده فيصير علمه بمراده ضروريا.

وقد يكون الكلام بالمراد استدلالا نظريا وحينئذ فقد يتوقف على مقدمة واحدة وقد يتوقف على مقدمتين أو أكثر بحسب حاجة السامع وما عنده من القوة القريبة والبعيدة وسرعة إدراكه وبطئه وقلة تحصيله وكثرته وحضور ذهنه وغيبته وكمال بيان المتكلم وضعفه فدعوى المدعي أن كل استدلال بدليل لفظي فإنه يتوقف على عشر مقدمات فهذا باطل قطعا.

وأبطل منه دعواه أن كل مقدمة فهي ظنية فإن عامة المقدمات التي يتوقف عليها فهم مراد المتكلم قطعية في الغالب.

وأبطل من ذلك دعواه أنه لا يعلم المراد إلا بعد العلم بانتفاء الدليل الدال على نقيضه فإن هذا باطل قطعا إذ من المعلوم أن العلم بثبوت أحد الضدين ينفي العلم بثبوت الضد الآخر فنفس العلم بالمراد ينفي كل احتمال يناقضه.

وهكذا الكلام في نفي المعارض العقلي والسمعي فإنه

ص: 780

إذا علم المراد علم قطعا أنه لا ينفيه دليل آخر لا عقلي ولا سمعي لأن ذلك نقيض له. وإذا علم ثبوت الشيء علم انتفاء نقيضه وحينئذ فينقلب هذا القانون عليهم بأن نقول العلم بمدلول كلام الله ورسوله علم يقيني قطعي لا يحتمل النقيض فنحن نستدل على بطلان كل ما يخالفه ويناقضه بثبوت العلم به.

فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الضد الاخر وحينئذ فيقطع ببطلان كل شبهة عقلية تناقض مدلول كلام الله ورسوله وإن لم ينظر فيها على التفصيل.

وهذا الأصل العظيم أصح من قانونهم وأقرب إلى العقل والإيمان وتصديق الرسل وإقرار كلام الله ورسوله على حقيقته وما يظهر منه يوضحه.

الوجه الحادي والسبعون: وهو أن أرباب هذا القانون الذي منعهم استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطربون في العقل الذي يعارض النقل أشد اضطراب فالفلاسفة مع شدة اعتنائهم بالمعقولات أشد الناس اضطرابا في هذا الباب من طوائف أهل الملل ومن أراد معرفة ذلك فليقف على مقالاتهم في

ص: 781

كتب أهل المقالات كالمقالات الكبير للأشعري والآراء والديانات للنوبختي وغير ذلك وأما المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب من أشد اضطراب في العالم فتأمل اختلاف فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ومقالاتهم المذكورة في كتب المقالات. وقد ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات

ص: 782

المصلين وغيره ممن صنف في المقالات وكل منهم يدعي أن صريح العقل معه وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل فنحن نصدق جميعهم ونبطل عقل كل فرقة بعقل الفرقة الأخرى ثم نقول للجميع بعقل من منكم يوزن كلام الله ورسوله وأي عقولكم تجعل معيارا له فما وافقه قبل وأقر على ظاهره وما خالفه رد أو أول أو فوض.

وأي عقولكم هو إحدى المقدمات العشر التي تتوقف إفادة كلام الله ورسوله لليقين على العلم بعدم معارضته له أعقل أرسطو وشيعته

ص: 783

أم عقل أفلاطون وشيعته أم فيثاغورس أم أنبادقليس....................

ص: 784

أم سقراط أم تامسطيوس أم الإسكندر بن فيلبس أم عقل الفارابي أم عقل جهم بن

ص: 785

صفوان أم عقل النظام أم عقل العلاف أم عقل الجبائي أم عقل بشر المريسي أم عقل

ص: 786

الإسكافي أم عقل حسين النجار أم أبي يعقوب الشحام أم أبي الحسين الخياط أم أبي القاسم

ص: 787

البلخي أم ثمامة بن أشرس أم جعفر بن مبشر أم جعفر بن حرب أم أبي الحسين الصالحي

ص: 788

أم أبي الحسين البصري أم أبي معاذ التومني أم معمر بن عباد أم هشام الفوطي أم عباد بن سليمان

ص: 789

أم ترضون بعقول المتأخرين الذين هذبوا العقليات ومحضوا زبدتها واختاروا لنفوسهم ولم يرضوا بعقول سائر من تقدمهم فهذا أفضلهم عندكم محمد بن عمر الرازي فبأي معقولاته تزنون نصوص الوحي وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد الاضطراب فلا يثبت على قول فعينوا لنا عقلا واحدا من معقولاته ثبت عليه ثم اجعلوه ميزانا.

أم ترضون بعقل نصير الشرك والكفر والإلحاد الطوسي فإن له عقلا آخر خالف فيه سلفه من الملحدين ولم يوافق فيه أتباع الرسل.

أم ترضون عقول القرامطة والباطنية والإسماعيلية

ص: 790

أم عقول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود فكل هؤلاء وأضعافهم وأضعاف أضعافهم يدعي أن المعقول الصريح معه وأن مخالفيه خرجوا عن صريح المعقول وهذه عقولهم تنادي عليهم في كتبهم وكتب الناقلين عنهم ولولا الإطالة لعرضناها على السامع عقلا عقلا وقد عرضها المعتنون بذكر المقالات فاجمعوها إن استطعتم أو خذوا منها عقلا واجعلوه ميزانا لنصوص الوحي وما جاءت به الرسل وعيارا على ذلك ثم اعذروا بعد من قدم كتاب الله وسنة رسوله الذي يسمونه الأدلة اللفظية على هذه العقول المضطربة المتناقضة بشهادة أهلها وشهادة أنصار الله ورسوله عليها وقال إن كتاب الله وسنة رسوله يفيد العلم واليقين وهذه العقول المضطربة المتناقضة إنما تفيد الشكوك والحيرة والريب والجهل المركب فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصريح ورمي بهذه العقول تحت الأقدام وحطت حيث حطها الله وحط أصحابها.

الوجه الثاني والسبعون: إن الله سبحانه دعى إلى تدبر كتابه وتعقله وتفهمه وذم الذين لا يفهمونه ولا يعقلونه وأسجل عليهم بالكفر والنفاق فقال عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد16] .

ص: 791

وقال {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود24]

الوجه الثالث والسبعون: إن أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء الأدلة اللفظية نوعان

أحدهما يدل بمجرد الخبر

والثاني يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول وهو مجرد الخبر فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدل على صدقها بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه شفاء وهدى وكفاية فقول القائل إن تلك الأدلة لا تفيد اليقين إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية العيانية فهذا من أعظم البهت والوقاحة والمكابرة فإن آيات الله التي جعلها أدلة

ص: 793

وحججا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تفد يقينا لم يفد دليل بمدلول أبدا. وإن أراد به النوع الأول الدال بمجرد الخبر فقد أقام سبحانه الأدلة القطعية والبراهين اليقينية على ثبوته فلم يحل عباده فيه على خبر مجرد لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر نفسه دون الدليل الدال على صدق الخبر.

وهذا غير الدليل العام الدال على صدقه فيما أخبر به بل هو الأدلة المتعددة الدالة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان فلا تجد كتابا قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن فأدلته لفظية عقلية فإن لم يفد اليقين: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية6]

انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله فصل فهذا الطاغوت الأول

ص: 794