المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط العاصمة - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الفصل السابع عشر: في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه

- ‌الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل

- ‌الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله

- ‌الفصل العشرون: في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا

- ‌الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالبة للتأويل

- ‌الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم

- ‌الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله

- ‌الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان

- ‌مدخل

- ‌الطاغوت الأول: قولهم نصوص الوحي أدلة لفظية وهي لا تفيد اليقين

الفصل: ‌الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله

‌الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله

ذكر الحميدي في هذا فصلا من كلام أبي محمد بن حزم وهو من أحسن كلامه فرأينا سياقه بلفظه قال الحميدي قال لنا الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه تطلعت النفس بعد تيقنها أن الأصل المتفق عليه المرجوع إليه أصل واحد لا يختلف وهو ما جاء عن

ص: 520

صاحب الشرع إما في القرآن وإما من فعله أو قوله الذي لا ينطق عن الهوى فيه. لما رأيت وشاهدت من اختلاف علماء الأمة فيما سبيله واحد وأصله غير مختلف فبحثت عن السبب الموجب للاختلاف ولترك من ترك كثيرا مما صح من السنن فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء بشر ينسى كما ينسى البشر وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره فيفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أمر على المنبر ألا يزاد مهور النساء على عدد ذكره ميلا إلى أن النبي لم يزد على

ص: 521

ذلك العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء20] فترك قوله وقال: "كل أحد أعلم منك حتى النساء" وفي رواية أخرى "امرأة أصابت ورجل أخطأ" علما

ص: 522

منه رضي الله عنه بأن النبي وإن كان لم يزد في مهور النساء على عدد ما فإنه لم يمنع مما سواه والآية أعم.

وكذلك أمر رضي الله عنه برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكره علي رضي الله عنه بقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف15]

مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة233] فرجع عن الأمر برجمها.

ص: 523

وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ جفا عليه حتى ذكره الحر بن قيس بقول الله عز وجل {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف199] .

ص: 524

فأمسك عمر.

وقال رضي الله عنه يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا حتى قرئ عليه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر30] فرجع عن ذلك" وقد كان علم الآية ولكنه نسيها لعظم الخطب الوارد عليه. وقد يذكر العالم الآية والسنة ولكن يتأول

ص: 525

فيهما تأويلا من خصوص أو نسخ أو معنى ما وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا بالمدينة حوله مجتمعين وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت فمن محترف في الأسواق ومن قائم على نخله ويحضره في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله.

وقد نص على ذلك أبو هريرة فقال إن إخواني من

ص: 526

المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم وكنت امرءا مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وقد قال عمر رضي الله عنه ألهاني الصفق بالأسواق في حديث استئذان أبي موسى وكان

ص: 527

صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء ويفعل الشيء فيحضره من حضره ويغيب عنه من غاب عنه فلما مات ولي أبو بكر كان إذا جاءته القضية ليس عنده فيها نص سأل من بحضرته من الصحابة عنها فإن وجد عندهم نصا رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم فيها وكان اجتهاده واجتهاد غيره منهم رضي الله عنهم رجوعهم إلى نص عام أو إلى أصل إباحة متقدمة أو إلى نوع من هذا يرجع إلى أصل ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد احد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاد ما أو يخترع حكما لا أصل له حاشاهم من ذلك.

فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار وتفرقت

ص: 528

الصحابة في الأقطار فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو بغيرها من البلاد فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نص حكم به وإلا اجتهدوا في ذلك وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد آخر.

وقد حضر المدني مالم يحضر المصري وحضر المصري مالم يحضر الشامي وحضر الشامي مالم يحضر البصري والبصري مالم يحضر الكوفي والكوفي مالم يحضر البصري والمدني مالم يحضر الكوفي والبصري كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من

ص: 529

مغيب بعضهم عن مجلسه في بعض الأوقات وحضور غيره يم مغيب الذي حضر وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه هذا أمر مشاهد.

وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا لا يتيمم الجنب ولو لم يجد الماء شهرين.

وكان حكم المسح على الخفين عند علي وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم

ص: 530

مدنيون.

وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود وغاب ذلك عن أبي موسى وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأبي سعيد الخدري وأبي وغاب عن عمر.

ص: 531

وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سليم ولم يعلمه ابن عمر وزيد بن ثابت.

وكان حكم المتعة والحمر الأهلية عند علي وغيره ولم يعلمه ابن عباس وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وغاب ذلك عن طلحة وابن عباس وابن عمر.

ص: 532

وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنتين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم ومثل هذا كثير فمضى الصحابة على هذا ثم خلف بعدهم

ص: 533

التابعون الآخذون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقهوا بمن كان عندهم من الصحابة وكانوا لا يتعدون فتاويهم لا تقليدا لهم ولكن لأنهم أخذوا ورووا عنهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم كإتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوي ابن عمر وإتباع أهل مكة في الأكثر فتاوي ابن عباس وإتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي ابن مسعود.

ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن

ص: 534

جريج بمكة ومالك وابن الماجشون بالمدينة وعثمان البتي

ص: 535

وسوار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن

ص: 536

الصحابة فيما كان عندهم وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم وهو موجود عند غيرهم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين ومأجور فيما خفي عنه ولم يبلغه أجرا واحدا قال تعالى {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام19] وقد يبلغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض فيميل إلى أحدهما بضرب من الترجيحات ويميل غيره إلى النص الآخر الذي تركه بضرب آخر من الترجيحات كما روى

ص: 537

عثمان بن عفان في الجمع بين الأختين أحلتهما آية وحرمتهما آية وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة221] وقال لا أعلم شركا أعظم من قول المرأة إن عيسى ربها وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى ومثل هذا كثير.

فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات وعلى هذه الوجوه خالفهم

ص: 538

نظراؤهم فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء لا قصدا إلى خلاف النصوص ولا تركا لطاعتها ولكن لأحد الأعذار التي ذكرنا إما من نسيان وإما أنها لم تبلغهم وإما لتأويل ما وإما لأخذ بخبر ضعيف لم يعلم الآخذ به ضعف رواته وعلمه غيره فيأخذ بخبر آخر أصح منه أو بظاهر آية وقد يتنبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى ويلوح منه حكم بدليل ما ويغيب عن غيره وقد كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس وانتدب أقوام لجمع حديث النبي وضمه وتقييده ووصل من البلاد

ص: 539

البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث وعرف الصحيح من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغها إليه وقيام الحجة بها عليه ولم يبق إلا العناد والتقليد.

وعلى هذه الطريقة كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيام الكثيرة طلبا للسنن والتزاما لها.

وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في حديث واحد إلى عقبة بن عامر ورحل علقمة والأسود إلى

ص: 540

عائشة وابن عمر ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام وكتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا كثير انتهى كلامه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية جماع الأعذار في

ص: 541

ترك من ترك من الأئمة حديثا ثلاثة أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي قاله

الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول

الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ

وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة

السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو استصحاب فقد يوافق الحديث المتروك تارة ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأئمة واعتبر ذلك

ص: 542

بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأحواله وخصوصا الصديق الذي لم يكن يفارقه لا سفرا ولا حضرا وكان عنده غالب الأوقات حتى كان يسمر عنده بالليل وكان كثيرا ما يقول: "دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"

ص: 543

"وذهبت أنا وأبو بكر وعمر" ثم مع ذلك الاختصاص خفي على أبي بكر ميراث الجدة وكان علمه عند المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وعمران بن الحصين وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر ولا قريبا منه في العلم وخفي على عمر سنة الاستئذان وتوريث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فترك رأيه لذلك وقال

ص: 544

لو لم نسمع هذا لقضينا بخلافه وخفي عليه حكم المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وخفي عليه حكم الطاعون حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع

ص: 545

بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه".

وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي شك في صلاته فلم يكن قد بلغته السنة في ذلك حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي أنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن.

ص: 546

وكان مرة في السفر فهاجت ريح فجعل يقول من يحدثنا عن الريح قال أبو هريرة فبلغني ذلك وأنا في أخريات الناس فحثثت راحلتي حتى أدركته فحدثته بما أمر به النبي عند هبوب الريح.

فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه إياها من عمر أعلم منه بكثير.

ومواضع أخرى لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى وأفتى بغيرها كما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها وقد كان عند أبي موسى

ص: 547

وابن عباس وهما دونه في العلم أن النبي قال: "هذه وهذه سواء" فبلغت هذه السنة معاوية في إمارته فقضى بها ولم يجد المسلمون بدا من اتباع ذلك.

وكان عمر ينهى المحرم عن التطيب قبل الإحرام وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي الجمرة هو وابنه عبد الله وغيرهما من أهل العلم ولم يبلغهم حديث عائشة رضي الله عنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت

ص: 548

وكان أمر لابس الخف أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت واتبعه على ذلك طائفة من السلف ولم تبلغهم أحاديث التوقيت التي صحت عند من عمر أعلم منه.

وكذلك عثمان لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الموت حتى حدثته الفريعة بنت مالك

ص: 549

أخت أبي سعيد الخدري بقصتها لما توفي زوجها وأن النبي قال لها امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فأخذ به عثمان وترك فتواه.

وأهدي له مرة صيد كان قد صيد لأجله وهو محرم فهم بأكله حتى أخبره علي رضي الله عنهما بأن النبي رد لحما أهدي له وهو محرم.

ص: 550

وأفتى علي وابن عباس وغيرهما أن المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد أقصى الأجلين ولم تكن قد بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيعة الأسلمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها حين وضعت حملها بأنها قد حلت للأزواج.

ص: 551

وأفتى هو وزيد بن ثابت وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق وهذا باب واسع.

وأما المنقول فيه عن من بعد الصحابة والتابعين

ص: 552

فأكثر من أن يحصى فإذا خفي على أعلم الأمة وأفقهها بعض السنة فما الظن بمن بعدهم فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل فرد من الأئمة أو إماما معينا فقد أخطأ خطأ فاحشا.

قال أبو عمر وليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد خفيت عليه بعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم.

وصدق أبو عمر رضي الله عنه فإن مجموع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وإقراره لا يوجد عند رجل واحد أبدا ولو كان أعلم أهل الأرض فإن قيل فالسنة قد دونت وجمعت وضبطت وصار ما تفرق منها عند الفئة الكثيرة مجموعا عند واحد.

ص: 553

قيل هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين.

ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة ثم لو فرض انحصار السنة في هذه الدواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم ولا يكاد يحصل ذلك لأحد أبدا بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علما بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية وكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين.

ص: 554

فصل

السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو من فوقه مجهول عنده أو سيء الحفظ أو متهم أو لم يبلغه مسندا بل منقطعا أو لم يضبط له لفظ الحديث ويكون ذلك الحديث بعينه قد رواه الثقات لغيره بإسناد صحيح متصل بأن يعلم غيره عدالة ذلك المجهول أو يرويه له ثقة غيره ويتصل له من غير تلك الجهة المنقطعة ويضبطه له من لم يضبطه للآخر أو يقع له من الشواهد والمتابعات مالم يقع لغيره فيكون الحديث حجة على من بلغه من هذا الوجه وليس بحجة على من بلغه من الوجه الأول ولهذا علق كثير من الأئمة القول بموجب الحديث على صحته فيقول قولي فيها كيت وكيت وقد روي فيها حديث بخلافه فإن صح فهو قولي وأمثلة هذا كثيرة جدا.

ص: 555

فصل

السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره فقد يعتقد أحد المجتهدين ضعف رجل ويعتقد الآخر ثقته وقوته وقد يكون الصواب مع المضعف لاطلاعه على سبب خفي على الموثق وقد يكون الصواب مع الآخر لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته إما لأن جنسه غير قادح وإما لأن له فيه عذرا أو تأويلا يمنع الجرح.

وقد لا يعتقد الذي بلغه الحديث أن راويه سمعه من غيره لأسباب معروفة عنده خفيت على غيره.

وقد يكون للمحدث حالان: حال استقامة وحال اضطراب فلا يدري الرجل أن حديثه المعين حدث به في حال الاستقامة أو في حال الاضطراب فيتوقف فيه ويعلم غيره أنه حدث به في حال الاستقامة فيقبله.

ص: 556

وقد يكون المحدث قد نسي الحديث الذي قد حدث به فينكره فيبلغ المجتهد إنكاره له ولا يعمل به ويرى غيره أن نسيانه له لا يقدح في صحة الحديث ووجوب العمل به.

وأيضا فكثير من الحجازيين لا يحتج بحديث عراقي ولا شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال بعض من يذهب هذا المذهب نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقيل لبعض من كان يذهب إلى هذا المذهب سفيان عن منصور

ص: 557

عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة قال إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا. وكان الشافعي يرى هذا المذهب أولا ثم رجع عنه وقال للإمام أحمد يا أبا عبد الله إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو عراقيا

ص: 558

ولم يقل أو حجازيا لأنه لم يكن يشك هو ولا غيره في أحاديث أهل الحجاز.

وأكثر أهل العلم على خلاف هذا المذهب وأن الحديث إذا صح وجب العمل به من أي مصر من الأمصار كان مخرجه وعلى هذا إجماع أهل الحديث قاطبة.

فصل

السبب الرابع: اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطا يخالفه فيها غيره كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيها إذا خالف ما رواه القياس واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان مما تعم به البلوى واشتراط بعضهم أن لا يكون الحديث قد تضمن زيادة على نص القرآن لئلا يلزم منه نسخ القرآن به وهذه مسائل معروفة.

ص: 559

فصل

السبب الخامس: أن ينسى الحديث أو الآية كما نسي عمر قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر30] ونسي قوله {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء20] ونسي فتوى النبي له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر وكذلك ما روي أن عليا ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره فانصرف عن القتال قلت فيكون الناسي معذورا بفتواه بخلاف النص فما عذر الذاكر

ص: 560

للنص إذا قلد الناس وخالف الذاكر والذكر.

فصل

السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث إما لكون لفظ الحديث غريبا عنده مثل لفظ المزابنة والمحاقلة

ص: 561

والمخابرة والملامسة والمنابذة والحصاة والغرر

ص: 562

ونحوها من الكلمات الغريبة التي يختلف العلماء في تأويلها ومثل قوله لا طلاق ولا عتاق في إغلاق.

فإنهم فسروا الإغلاق بالإكراه قلت هذا تفسير كثير من الحجازيين.

ومنهم من فسره بالغضب وهو تفسير العراقيين ونص عليه أحمد وأبو عبيد وأبو داود.

ومنهم من فسره بجمع الثلاث في كلمة واحدة فإنه مأخوذ من غلق الباب أي أغلق عليه باب الطلاق جملة وصحح بعضهم هذاالتفسير وجعله أولى التفاسير

ص: 563

وممن حكى الأقوال الثلاثة صاحب مطالع الأنوار وصاحب مشارق الأنوار وهذا الباب يعرض منه اختلاف كثير سببه أن يكون لذلك اللفظ في لغته وعرفه معنى غير معناه في لغة الرسول أو أعم منه أو أخص فتفطن لهذا الموضع فإنه منشأ لغلط كثير على صاحب الشرع

والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يغلق على صاحبه باب تصوره أو قصده كالجنون والسكر

ص: 564

والإكراه والغضب كأنه لم ينفتح قلبه لقصده ولا وطر له فيه ومن هذا لفظ الخمر فإنه في لغة الشارع اسم لكل مسكر لا يختص بنوع من أنواعه وهذا المعنى مطابق لاشتقاقه فتخصيصه ببعض الأنواع المسكرة دون بعض اصطلاح حادث حصل بحمل كلام الشارع عليه تخصيص لما قصد الشارع تعميمه ولهذا لم يختلف المخاطبون بالقرآن أولا وهم الصحابة في تحريم ذلك كله.

فصل

ومن هذا الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حمله على معناه عند الإطلاق وهو المسمى بالحقيقة أو على معناه عند التقييد وهو المسمى بالمجاز كاختلافهم في المراد من القرء هل هو الحيض أو الأطهار ففهمت طائفة منه الحيض

ص: 565

وأخرى الطهر وكما فهمت طائفة من الخيط الأبيض والأسود الخيطين المعروفين وفهم غيرهم بياض النهار وسواد الليل وكما فهمت طائفة من قوله في التيمم {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة6] المسح إلى الآباط ففعلوه وفهم آخرون المسح إلى المرافق ففعلوه وأسعد الناس بفهم الآية من فهم منها المسح إلى الكوع وهذا هو الذي فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآية وهو نظير فهمه

ص: 566

القطع من الكوع من آية السرقة.

وكما فهمت طائفة من قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} البعض مقدرا أو غير مقدر وفهم آخرون مسح الجميع وفهمهم مؤيد بفعل الرسول.

وكما فهم بعضهم من قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء11]

ص: 567

الثلاثة فصاعدا اعتمادا على الحقيقة وفهم الآخرون الإثنين فصاعدا اعتمادا على فهم الجنس الزائد على الواحد وهؤلاء أسعد بفهم الآية.

وكما فهم الصديق ومن معه من الكلالة التي يرث معها الإخوة والأخوات للأب أنها عدم الولد وإن سفل والأب وإن علا وفهم آخرون منها عدم الأب دون من فوقه والصديق أسعد بفهم الآية كما اتفق المسلمون على أن الكلالة في قوله:

ص: 568

{كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء12] أنها عدم الولد وإن سفل والأب وإن علا وكما فهم من فهم من السلف والخلف من قوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَان} [البقرة229]

أنه مرة بعد مرة مثل قوله {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة101] وقوله {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور6]

وقوله في الحديث " فلما أقر أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور58] .

ص: 569

وجميع ما ذكر فيه تعدد المرة فهذا سبيله فالثلاث المجموعة بكلمة واحدة مرة واحدة وفهم آخرون منها الجمع والإفراد ولا يخفى أي الفهمين أولى.

وكما فهم من أباح نكاح التحليل ذلك من قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة230] وفهم المحرمون المبطلون له بطلانه من نفس الآية من عدة أوجه منها قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة230] ونكاح التحليل لا يدخل في النكاح المطلق كما لم يدخل فيه نكاح الشغار والمتعة ونكاح المعتدة ونكاح المحرمة فإن الذي أخرج هذه الأنواع من النكاح المطلق المأذون فيه هو الذي أخرج نكاح التحليل منه بنصوص أكثر وأصرح من تلك النصوص.

ومنها تسميته سبحانه لهذا الثاني زوجا وأحكام الزوج عرفا وشرعا منتفية عن المحلل وانتفاء الأحكام

ص: 570

مستلزم لانتفاء الاسم شرعا وعرفا وكذلك هو فإن أهل العرف لا يسمونه زوجا والشارع إنما سماه تيسا مستعارا فلا يجوز تسميته زوجا إلا على وجه التقييد بأن يقال زوج ملعون أو زوج في نكاح تحليل أو في نكاح باطل.

ومنها أنه جعل الزوج الثاني وطلاقه بمنزلة الزوج الأول وطلاقه فالمفهوم منها واحد وغير ذلك من الوجوه التي أفهمت منها الآية بطلان نكاح المحلل وهي عشرة قد ذكرناها في موضع آخر ولا ريب أن فهم هؤلاء أولى بالصواب.

ص: 571

ومن هذا فهم بعضهم إباحة العينة من قوله تعالى {إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة282] وفهم آخرون منها تحريمها وبطلانها فإن لفظ التجارة البيع المقصود الذي يقصد به كل واحد من المتعاقدين الربح والانتفاع ولا يعرف أهل اللغة والعرف من لفظ التجارة إلا ذلك ولا يعد أحد منهم قط الحيلة على الربا تجارة وإن كان المرابي يعد ذلك تجارة كما يعد بيع الدرهم بالدرهمين فالعينة لا تعد تجارة لغة ولا شرعا ولا عرفا.

وكما فهم من فهم من قوله تعالى {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور3] أنه العقد وفهم آخرون أنه نفس الوطء وفهم الأولين أصوب لخلو الآية عن الفائدة إذا حمل على الوطء. وكما فهم أهل الحجاز من قوله تعالى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة33] .

ص: 572

طرده من الأرض من موضع إلى موضع وفهم أهل العراق منه الحبس. وبالجملة فهذا الفصل معترك النزاع.

فصل

السبب السابع: أن يكون عارفا بدلالة اللفظ وموضوعه ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعين تحت اللفظ إما لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد وأنه مماثل لغيره من الأفراد الداخلة تحته وإما لعدم حضور ذلك الفرد بباله وإما لاعتقاده اختصاصه بخصيصة يخرجه من اللفظ العام وإما لاعتقاده العموم فيما ليس بعام أو الإطلاق فيما هو مقيد فيذهل عن المقيد كما يذهل عن المخصص.

ص: 573

فصل

السبب الثامن: اعتقاده أن لا دلالة في ذلك اللفظ على الحكم المتنازع فيه فهاهنا أربعة أمور أحدها أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع فيحمله على خلاف مدلوله. الثاني أن يكون له في عرف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما ويحمله غيره على المعنى الآخر.

الثالث أن يفهم من العام خاصا أو من الخاص عاما أو من المطلق مقيدا أو من المقيد مطلقا.

الرابع أن ينفي دلالة اللفظ وتارة يكون مصيبا في نفس الدلالة وتارة يكون مخطئا فمن نفى دلالة قوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة187] على حل أكل ذي الناب والمخلب أصاب ومن نفى دلالة قوله {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور32] .

ص: 574

على جواز نكاح الزانية أصاب ومن نفى دلالة قوله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام145] على الإذن في أكل ما عدا المذكور في الآية أصاب ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط ومن نفى دلالته على ما عدا محل السبب غلط ومن نفى دلالة الأمر على الوجوب والنهي على التحريم غلط ومن هذا ما يعرض من الاختلاف في الأفعال المنفية بعد وجود صورتها كقوله "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ""ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"

ص: 575

ولا صلاة لفذ خلف الصف ونحو ذلك. وطائفة لم تفهم المراد منه فجعلته مجملا يتوقف العمل به على البيان.

وطائفة فهمت منه نفي الكمال المستحب وهذا ضعيف جدا فإن النفي المطلق بعيد منه.

وطائفة فهمت نفي الأجزاء والصحة وفهم هؤلاء أقرب إلى اللغة والعرف والشرع.

وطائفة فهمت نفي المسمى الشرعي وهؤلاء أسعد الناس بفهم المراد.

فصل

هذا كله قبل الوصول إلى السبب التاسع: وهو اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما هو مساو لها

ص: 576

فيجب التوقف أو ما هو أقوى منها فيجب تقديمه وهذه المعارضة نوعان معارضة في الدليل ومعارضة في مقدمة من مقدماته.

فالمعارضة في الدليل أن يعتقد أنه قد عارضه ما هو أرجح منه فيجب عليه العمل بالراجح وقد يكون مصيبا في ذلك وقد لا يكون مصيبا فالمصيب من اعتقد المعارضة بناسخ يصح فيه دلالته ومقاومته وتأخره فإن انتفى بعضها كان واهما في اعتقاد المعارضة وإبطال النص بها.

وأما المعارضة في المقدمة فأن يقوم عنده معارض كجزء الدليل مثاله أن يعتقد تحريم الميسر بالنص الدال على تحريمه ويدل عنده دليل على دخول الشطرنج فيه ثم يقوم عنده دليل معارض لهذا الدليل يدل على أن الشطرنج ليس من الميسر فها هنا أربعة أمور

ص: 577

أحدها: أن لا يعتقد دلالة اللفظ على المعنى.

الثاني: أن يعتقد دلالته ولكن يقوم عنده معارض للدليل.

الثالث: أن يقوم عنده معارض لمقدمة من مقدماته.

الرابع: أن يتعارض عنده الدلالتان والتعارض قد يقع في الدليلين وقد يقع في الدلالتين والفرق بينهما أن تعارض الدليلين يكون مع اعتقاد دلالة كل واحد منهما على مطلوبه.

وتعارض الدلالتين يقع في الدليل الواحد فيكون له وجهان ثم قد يتبين رجحان المعارض فيصير إلى الراجح وقد لا يتبين له الرجحان فيتوقف وقد يترك الحديث لظنه انعقاد الإجماع على خلافه إذ لم يبلغه الخلاف ويكون إنما معه عدم العلم بالمخالف لا العلم بوجود المخالف وهذا العذر لم يكن أحد من الأئمة

ص: 578

والسلف يصير إليه وإنما لهج به المتأخرون وقد أنكره أشد الإنكار الشافعي والإمام أحمد وقال الشافعي مالا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع هذا لفظه وأما الإمام أحمد فقال من ادعى الإجماع فقد كذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا وقد كتبت نصوصه ونصوص الشافعي في غير هذا الموضع ولا خلاف بين الأئمة أنه إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عدم العلم بالقائل به مسوغا لمخالفته فإنه دليل موجب للاتباع وعدم العلم بالمخالف لا يصلح أن يكون معارضا فلا يجوز ترك الدليل له وإذا تأملت هذا الموضع وجدت كثيرا من أعيان العلماء قد صاروا إلى أقوال متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع قيام الأدلة الظاهرة على

ص: 579

خلاف تلك الأقوال وعذرهم رضي الله عنهم أنهم لم يكن لأحد منهم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه فيتركب من هذا العلم وعدم ذلك العلم الإمساك عن اتباع ذلك الدليل.

وها هنا انقسم العلماء ثلاثة أقسام: فقسم أخذوا بما بلغهم من أقوال أهل العلم وقالوا لا يجوز لنا أن نخالفهم ونقول قولا لم نسبق إليه وهؤلاء معذورون قبل وصول الخلاف إليهم فأما من وصل إليه الخلاف وعلم بذلك القول قائلا فما أدري ما عذره عند الله في مخالفته صريح الدليل.

وقسم توقفوا وعلقوا القول فقالوا إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما اتبع وإلا فالقول فيها كيت وكيت وهو موجب الدليل ولو علم هؤلاء قائلا به لصرحوا بموافقته فإذا علم به قائل فالذي ينبغي ولا يجوز غيره أن يضاف ذلك القول إليهم لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه لا قائل

ص: 580

به وأنه لو كان به قائل لصاروا إليه فإذا ظهر به قائل لم يجز أن يضاف إليهم غيره إلا على الوجه المذكور وهذه الطريقة أسلم.

وقسم ثالث: اتبعوا موجب الدليل وصاروا إليه ولم يقدموا عليه قول من ليس قوله حجة ثم انقسم هؤلاء قسمين.

فطائفة علمت أنه يستحيل أن تجمع الأمة على خلاف هذا الدليل وعلمت أنه لا بد أن يكون في الأمة من قال بموجبه وإن لم يبلغهم قوله فما كل ما قاله كل واحد من أهل العلم وصل إلى كل واحد من المجتهدين وهذا لا يدعيه عاقل ولا يدعي في أحد وقد نص الشافعي على مثل ذلك فذكر البيهقي عنه في المدخل أنه قال له

ص: 581

بعض من ناظره فهل تجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثابتة متصلة خالفها الكل قلت لا لم أجدها قط كما وجدت المرسل.

وطائفة قالت: يجوز أن لا يتقدم به قائل ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثير منهم أو أكثرهم بذلك القول ولم يستفت فيها الباقون ولم تبلغهم فحفظ فيها قول طائفة من أهل العلم ولم يحفظ لغيرهم فيها قول والذين حفظ قولهم فيها ليسوا كل الأمة فيحرم مخالفتهم.

قالوا فنحن في مخالفتنا لمن ليس قوله حجة أعذر منكم في مخالفتكم لمن قوله حجة فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول من بلغتكم أقوالهم مع أنهم ليسوا كل الأمة فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم وهذا كما تراه لا يمكن دفعه إلا بمكابرة أو إجماع متيقن معلوم لا شك فيه وبالله التوفيق.

ص: 582

ومما يوضح هذا أن كل من ترك موجب الدليل لظن الإجماع فإنه قد تبين لغيره أنه لا إجماع في تلك المسألة والخلاف فيها قائم ونحن نذكر من ذلك طرفا يسيرا يستدل به العالم على ما وراءه.

فمن ذلك قول مالك لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد وصدق رضي الله عنه فلم يعلم أحدا أجازها وعلمه غيره فأجازها علي بن أبي طالب وأنس بن مالك وشريح القاضي حكاه الإمام أحمد وغيره وروى أحمد عن أنس قال لا أعلم أحدا رد شهادة العبد وقال لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 583

في الصلاة ووجوبها محفوظ عن أبي جعفر الباقر وقال الشافعي أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث وقد صح توريثه عن علي وابن مسعود وقال الشافعي وقد قيل له فهل من مرسل ما قال به أحد قال نعم أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن المنكدر أن رجلا جاء إلى النبي فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مالا وعيالا وإن لأبي مالا وعيالا يريد أن يأخذ مالي

ص: 584

فيطعمه عياله فقال: "أنت ومالك لأبيك" قال الشافعي فقال محمد بن الحسن أما نحن فلا نأخذ بها ولكن هل من أصحابك من يأخذ به قلت لا لأن من أخذ بهذا جعل للأب الموسر أن يأخذ من مال ابنه قال أجل ما يقول بهذا أحد قال فلم يخالفه الناس قلت لأنه لم يثبت فإن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره وقد يكون أنقص حظا من كثير من

ص: 585

الورثة دل ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه وقد قال بهذا الحديث جماعة من السلف منهم شيخ الشافعي سفيان بن عيينة وصاحبه الإمام أحمد وغيرهما ولم يعلم به الشافعي قائلا واعتذر عن مخالفته بأنه مرسل لم يثبت ولم يعتذر عن مخالفته بالإجماع وقد صح اتصاله.

وقال الثوري فيما إذا طلق المدخول بها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخول ثان بعد الرجعة فإن أكثر العلماء على أنها تستأنف العدة قال سفيان أجمع الفقهاء على هذا وسفيان من كبار أئمة الإسلام وقد حكى الإجماع على هذا والنزاع في ذلك موجود قبله وبعده

ص: 586

فإن مذهب عطاء أنها تبنى على ما مضى كما لو طلقها قبل الرجعة وهو أحد قولي الشافعي وأحد الروايتين عن أحمد وحكى عن مالك قول ثالث أنه إن قصد الإضرار بها بنت وإلا استأنفت وحكي عن داود قول رابع أنه لا عدة عليها بحال جعلها مطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها بالطلاق الثاني والأول انقطعت عدته بالرجعة والأكثرون يقولون هي زوجة مدخول بها.

ومن ذلك أن الليث بن سعد حكى الإجماع على أن المسافر لا يقصر الصلاة في اقل من يومين هذا مع سعة علمه وفقهه وجلالة قدره والنزاع في مسافة القصر عن الصحابة والتابعين أشهر من أن يذكر.

ومن ذلك ما ذكره مالك في موطأه فقال فمن الحجة على من قال ذلك القول أي أنه لا يقضى بشاهد

ص: 587

ويمين لأنه ليس في القرآن فيقال أرأيت لو أن واحدا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه وإن حلف بطل ذلك الحق عنه وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق إن حقه لحق وثبت حقه على صاحبه قال فهذا مما لا خلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلاد اه والحلف بالقضاء بالنكول وحده دون اشتراط رد اليمين أشهر من أن يذكر.

وإبراهيم النخعي لا يقول بالرد بحال ومذهب أبي حنيفة وأصحابه لا يرون لزوم تحليف المدعي بحال بل يقضون بالنكول وأبو ثور ذكر في المسألة قولا ثالثا أنه إذا امتنع أن يحلف وسأل حبس المدين حبسه له.

وأحمد وإن كان يحلف المدعي في بعض الصور

ص: 588

كالقسامة والقضاء بشاهد ويمين فإن المشهور عنه أنه يقضي بالنكول دون الرد. وفي مذهب أحمد قول آخر أنه يقضي بالرد وهو اختيار أبي الخطاب وأبي محمد المقدسي في العمدة. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه من قضى بالنكول نقض حكمه. ومع هذا فأبو عبيد يحكي الإجماع على خلاف هذا

ص: 589

فإنه قال في كتاب القضاء لما ذكر أحاديث القضاء إن اليمين على المدعى عليه قال وفي ذلك سنة يستدل عليها بالتأويل وذلك أنه لما قضى أنه لا براءة للمطلوب إلا باليمين إلى الطالب كان فيه دليل على أن ترك أدائها إيجاب للدعوى عليه وتصديق لما يدعي.

قال وقد زعم بعض من يدعي النظر في الفقه أن إباء اليمين لا يوجب عليه حقا ولكنه زعم يحبس حتى يقر أو يحلف وهذا خلاف التأويل والأخبار وإجماع العلماء.

ومن ذلك ما قاله مالك في موطئه الأمر المجمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى به في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ بيمين المدعين في القسامة وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين إما أن يقول المقتول دمي عند

ص: 590

فلان أو يأتي ولاة الدم بلوث فهذا يوجب القسامة للمدعين للدم على من ادعوه عليه.

قال مالك ولا تجب القسامة إلا بأحد هذين الوجهين قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا والذي لم يزل عليه الناس أن المبدئين بالقسامة أهل الدم الذي يدعونه في العمد والخطأ.

قال ابن عبد البر وقد أنكر العلماء على مالك قوله إن القسامة لا تجب إلا بقول المقتول دمي عند فلان أو يأتي بلوث يشهدون به لأن المقتول بخيبر لم يدع على أحد ولا قال دمي عند أحد ولا قال النبي للأنصار تأتون بلوث قالوا وقد جعل مالك سنة ما ليس له مدخل في السنة.

وكذلك أنكروا عليه أيضا في هذا الباب قوله الأمر

ص: 591

المجمع عليه أن يبدأ المدعون بالإيمان في القسامة قالوا فكيف اجتمعت الأئمة في الفقه والحديث وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن رجل من الأنصار أن النبي بدأ اليهود في الإيمان قال وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته عن ابن شهاب فمن روايته عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دية وليه على رجل من بني سعد بن ليث وكان أجرى فرسه فوطئ على إصبع الجهني فنزى منها الدم فمات فقال عمر للذي ادعى عليهم:

ص: 592

أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها فأبوا وتحرجوا وقال للمدعين احلفوا فأبوا فقضى بشطر الدية على السعديين قالوا فأي أمة اجتمعت على هذا.

ومن ذلك قال الشافعي في مختصر المزني في مسألة اليمين الغموس ودل إجماعهم على أن من حلق في الإحرام عمدا أو خطأ أو قتل صيدا عمدا أو خطأ في الكفارة سواء وعلى أن الحالف بالله وقاتل المؤمن عمدا أو خطأ في الكفارة سواء فقد ذكر الإجماع على التسوية بين العامد والمخطئ في قتل الصيد وحلق الشعر ومعلوم ثبوت النزاع في ذلك قديما وحديثا فمذهب جماعة من السلف أن قاتل الصيد خطأ لا جزاء عليه ويروى ذلك عن ابن عباس وطاوس

ص: 593

وسعيد بن جبير ويروى ذلك عن القاسم وسالم وعطاء ومجاهد وهو قول ابن المنذر

ص: 594

وداود وأصحابه وقول إسحاق في الشعر وهو رواية عن أحمد في الصيد وخرج أصحابه في مذهبه في الحلق والتقليم قولا مثله وكذلك ذكره ابن أبي هريرة قولا للشافعي في

ص: 595

الصيد وذكر أبو إسحاق وغيره أن له قولا مخرجا في الحلق والتقليم في الخطأ أنه لا كفارة فيه كالطيب واللباس فصار في المسألة ثلاثة أقوال الكفارة فيهما وعدم الكفارة فيهما والكفارة في الصيد دون الحلق والتقليم.

ومن ذلك ما حكاه ابن المنذر قال أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار فطلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد ما انقضت عدتها ثم نكحها الحالف الأول ثم دخلت الدار أنه لا يقع عليها الطلاق لأن طلاق الملك قد انقضى والنزاع في هذه المسألة معروف فإن هذه المسألة لها صورتان:

ص: 596

إحداهما: أن لا توجد الصفة فإن الصفة تعود في المشهور في مذهب أحمد حتى إن من أصحابه من يقول تعود الصفة هنا رواية واحدة وهذا أحد أقوال الشافعي بل هو الصحيح عند العراقيين من أصحابه كما ذكره أبو إسحاق وغيره وهو قول حماد بن أبي سليمان وزفر وكذلك ذكره الطحاوي عن الأوزاعي وعثمان البتي وابن الماجشون

ص: 597

إذا طلق ثم تزوج تعود اليمين قال الطحاوي ولم يذكروا بعد الثلاث.

والقول الثاني: لا تعود الصفة بحال وهو قول أبي ثور والمزني وقد حكى ابن حامد رواية فيمن قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه قبل الدخول ثم اشتراه لم يعتق عليه بحال فذكر عنه في العتق أن الصفة لا تعود وفي الطلاق أولى كما صرح أصحابه بمثل ذلك القول.

الثالث: أنه إن أبانها بالثلاث لم ترجع

ص: 598

الصفة وبدونها ترجع وهو مذهب أبي حنيفة وقول الشافعي ومن ذلك ما حكاه ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت إن شاء فلان أنها قد ردت الأمر ولا يلزمه الطلاق إن شاء فلان كذلك قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الشافعي.

ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة وجهان حكاهما الماوردي وغيره ومن ذلك قال ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا إثنتين أنها تطلق واحدة وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أنها تطلق ثنتين فإن قال: أنت طالق

ص: 599

ثلاثا إلا ثلاثا طلقت ثلاثا وممن حفظ هذا عنه الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي

والخلاف في المسألة مشهور فمذهب أحمد المنصوص عنه إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين وقعت الثلاث لأن استثناء الأكثر عنده باطل وإذا قال ثلاثا إلا واحدة صح الاستثناء في المشهور من مذهبه.

وقال أبو بكر عبد العزيز لا يصح الاستثناء في الطلاق وهو نظير أشهر الروايتين عند شريح فيما إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار أنها تطلق ولا يتعلق بالشرط المؤخر وهي رواية ثابتة عن أحمد وأكثر أجوبته كقول الجمهور.

ومن ذلك ما حكاه أن ابن عبد البر نقل

ص: 600

الإجماع على أن الاعتكاف يلزم بالشروع فقال وقال مالك يلزمه بالنية مع الدخول وإن قطعه لزمه قضاؤه.

قال ابن عبد البر لا يختلف في ذلك الفقهاء ويلزمه القضاء عند جمهور العلماء والخلاف في ذلك أشهر شيء فمذهب الشافعي وأحمد في مشهور قوله إنه لا يلزم وقال الشافعي كل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة.

ومن ذلك ما حكاه صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال لا اختلاف أنه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة والتابعين.

ومن ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار قال وأما القراءة في الركوع والسجود

ص: 601

فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز اه وليس ذلك بإجماع فقد سئل عطاء عن ذلك فقال رأيت عبيد بن عمير يقرأوهو راكع وحكي عن سلمان بن ربيعة أنه كان يقرأوهو ساجد وقال مغيرة عن إبراهيم في الرجل يقرأ فيترك الآية فيذكرها وهو راكع قال يقرأها وهو راكع وقال مغيرة كانوا يقرأون في الركوع الآية والآيتين إذا بقي على الرجل من قراءته.

ص: 602

ومن ذلك ما حكاه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في كتاب الطهور وقد ذكر من كان يتوضأ من مس الذكر ثم قال وهو منسوخ لأن أهل العلم اجتمعوا على خلاف هذا.

ومن ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال وأما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع الفقهاء على أنه لا يقبل في شهادة شوال في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين والخلاف في ذلك مشهور وقد حكى ابن المنذر عن أبي ثور وطائفة من أهل الحديث القول بقول الواحد في الصوم والفطر.

ومن ذلك ما قاله أبو ثور لا يختلفون أن أقل الطهر خمسة عشر يوما والخلاف في ذلك مشهور وقد قال إسحاق توقيت هؤلاء بخمسة عشر باطل وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه أقله ثلاثة عشر يوما.

ص: 603

ومن ذلك ما حكاه غير واحد من العلماء أن الحالف بالطلاق والعتاق إذا حنث في يمينه أنه تطلق عليه زوجته ويعتق عليه عبده أو جاريته حكى ذلك بضعة عشر من أهل العلم وعذرهم أنهم قالوا بموجب علمهم وإلا فالخلاف في ذلك ثابت عن السلف والخلف من وجوه:

الوجه الأول: ما رواه الأنصاري حدثنا أشعث ثنا بكر عن أبي

ص: 604

رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة فكلهم قال لها أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت وأمروها أن تكفر يمينها وتخلي بينهما.

وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان

ص: 605

التيمي حدثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع فذكره عن زينب ورواه الأوزاعي حدثني حسن بن الحسن حدثني بكر بن عبد الله المزني حدثني

ص: 606

رافع فذكره وذكر فيه العتق فهذه ثلاث طرق فقد برىء سليمان التيمي من عهدة التفرد بذكر العتق بمتابعة أشعث وحسن بن الحسن له حتى ولو تفرد بها التيمي فهو أجل من أن يرد ما تفرد به وهو أجل من الذين لم يذكروا الزيادة فصح ذكر العتق في هذا الأثر وزال الارتياب فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم لهم مخالف أفتوا من قالت كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين مملوكها وبين امرأته أن تكفر يمينها وتخلي بين الرجل وامرأته وهم ابن عباس في سعة علمه وابن عمر في شدة ورعه وتحريه وأبو هريرة مع كثرة حفظه وعائشة وحفصة وأم سلمة وهؤلاء من أفقه نساء الصحابة أو أفقههن على الإطلاق.

فإن كان التقليد فمن جعل هؤلاء بينه وبين الله أعذر عند الله ممن جعل بينه وبينه من لا يدانيهم وأن

ص: 607

كان الدليل والحجة فهاتوا دليلا واحدا لا يطعن فيه من كتاب الله أو سنة رسوله أو قياس يستوي فيه حكم الأصل والفرع على وقوع الطلاق المحلوف به وأكثركم لم يعول في ذلك إلا على ما ظنه من الإجماع وهو معذور قبل الاطلاع على النزاع فما عذره بعد الاطلاع على أن المسألة مسألة خلاف بين الأئمة إذا استحل عقوبة من يفتي بها وجاهر بالكذب والبهت أنه خالف إجماع الأمة أفترى هؤلاء الذين هم من سادات الأمة وعلمائها يفتون بالكفارة في العتق وبلزوم الطلاق وهل يمكن بشر على وجه الأرض أن يفرق بين قول الحالف إن فعلت كذا فعبدي حر وبين قوله إن فعلت كذا وكذا فإمرأتي طالق بفرق تلوح منه رائحة الفقه.

الوجه الثاني: من الوجوه المثبتة أن المسألة مسألة

ص: 608

نزاع لا مسألة إجماع ما رواه عبد الرزاق في جامعه حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري.

الوجه الثالث: ما رواه سنيد بن داود في تفسيره حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة في رجل قال لغلامه إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتي طالق.

ص: 609

قال لا يجلد غلامه ولا تطلق امرأته هذا من خطوات الشيطان.

الوجه الرابع: أن في الطلاق المعلق بالشرط قولين للعلماء أحدهما يقع عند وقوع شرطه والثاني لا يقع بحال ولا يتعلق الطلاق بالشرط كما لا يتعلق النكاح به وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعي الذي أخذ عنه وكان يلازمه أبو عبد الرحمن ولا ينزل اختياره عن درجة من له وجه من المتأخرين بل هو أجل من أصحاب الوجوه وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني وابن حزم وأصحابهما.

قال أبو محمد بن حزم واليمين بالطلاق لا يلزم

ص: 610

سواء بر أو حنث لا يقع به طلاق ولا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل ولا يمين إلا كما أمر الله على لسان رسوله والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين لا يجوز وكل ذلك لا يلزم ولا يكون طلاق إلا كما أمر الله عز وجل به وعلمه وهو القصد إلى الطلاق وأما ما عدا ذلك فباطل وممن قال بقولنا في أن اليمين بالطلاق ليس شيئا ولا يقضى به على من حلف به علي بن أبي طالب وشريح وطاوس ولا يعرف لعلي مخالف من الصحابة.

الوجه الخامس: أن أبا الحسين القدوري ذكر في

ص: 611

شرحه أنه إذا قال طلاقك علي واجب أو لازم أو فرض أو ثابت أو إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو لازم أو ثابت ففعلت قال فعلى قول أبي حنيفة لا يقع الطلاق في الكل وعند أبي يوسف إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب قال صاحب الذخيرة: وكان الشيخ ظهير الدين المرغيناني يفتي بعدم الوقوع في الكل

الوجه السادس: إن القفال أفتى في قوله الطلاق

ص: 612

يلزمني أنه لا يقع به الطلاق نواه أو لم ينوه قال قال أبو القاسم عبد الرحمن بن يونس في شرح التنبيه في قول المصنف وإن قال الطلاق والعتاق لازم لي ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية وهذا اللفظ يحتمل فجعل كناية فقال الروياني الطلاق لازم صريح وعد ذلك في صرايح الطلاق ولعل وجهه عنده استعماله لإرادة الطلاق وقال القفال في فتاويه ليس بصريح ولا كناية حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه.

ص: 613

الوجه السابع: إن أشهب بن عبد العزيز وهو من أجل أصحاب مالك أفتى فيمن قال لإمرأته إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق ففعلته تقصد وقوع الطلاق به أنها لا تطلق مقابلة لها بنقيض قصدها كما لو قتل الوارث مورثه أو المدبر سيده أو الموصي له ونظائر ذلك مما يقابل به الرجل بنقيض قصده ذكر ذلك عنه ابن رشد في مقدماته وهذا محض الفقه لو كان الحلف يقع به الطلاق.

ص: 614

الوجه الثامن: أن أصحاب مالك من أشد الناس في هذا الباب فلا يعذرون الحالف بجهل ولا نسيان ويوقعون الطلاق على من حلف على مالا يعلم فبان كما حلف عليه ومع هذا فقد حكوا عدم الوقوع بالحلف بالطلاق عن علي بن أبي طالب وشريح وطاوس ونحن نذكر ألفاظهم قال أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بزيزة في كتاب مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق فقد قدمنا في كتاب الإيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي

ص: 615

وغير ذلك هل يلزم أم لا فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشريح وطاوس لا يلزم عن ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظه مع اعتقاده وقوع الطلاق على من حلف به فحنث ولم يطعن في هذا النقل ولم يعترضه باعتراض.

الوجه التاسع: إن فقهاء الإمامية من أولهم إلى آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به وهذا متواتر عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت.

وهب أن مكابرا كذبهم كلهم وقال قد تواطئوا

ص: 616

على الكذب عن أهل البيت ففي القوم فقهاء وأصحاب علم ونظر في اجتهاد وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة فلا يوجب ذلك الحكم عليهم كلهم بالكذب والجهل وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة وحملوا حديثهم واحتج به المسلمون ولم يزل الفقهاء ينقلون خلافهم ويبحثون معهم والقوم وإن أخطأوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ حتى يرد عليهم هذا لو انفردوا بذلك عن الأمة فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممن لم تقف على قوله.

الوجه العاشر: إنه لم يزل أئمة الإسلام يفتون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحد وإذا شئت أن تقف على ذلك فانظر إلى كثير من فتاوي الأئمة التي لا تحفظ عن أحد من أهل العلم قبلهم.

وقال إسحاق بن منصور الكوسج سألت إسحاق عن مسألة فذكر قوله فيها فقلت إن أخاك

ص: 617

أحمد بن حنبل أجاب فيها بمثل جوابك فقال ما ظننت أن أحدا يوافقني عليها.

وقال ابن المنذر وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف لم يسبق الشافعي إلى نجاسة الأبوال أحد يريد بول ما يؤكل لحمه وقال شيخنا لم يسبق أحمد بن حنبل إلى الحكم بإسلام أولاد أهل الذمة الصغار بموت آبائهم أحد ولم يسبقه إلى إقعاد المرأة أول ما ترى الدم يوما وليلة ثم تصلي وهي ترى الدم أحد.

وأما غيره فمن له أدنى اطلاع على أقوال السلف والخلف لا يخفى عليه ذلك ولكثرته تركنا ذكره.

الوجه الحادي عشر: أنا لو لم نعلم النزاع في هذه المسألة لم يكن لنا علم بالإجماع المعلوم الذي تكون مخالفته

ص: 618

كفرا أو فسقا عليها بل ولا ظن به فإنا قد رأينا أكثر هؤلاء الذين يحكون الإجماع إنما يحكونه على حسب اطلاعهم ومعناه عدم العلم بالمخالف وقد رأيت من نقض إجماعاتهم التي حكوها ما هو قليل من كثير.

فغاية هذه الإجماعات أن تفيدنا عدم علم ناقلها بالخلاف وهذا بمجرده لا يكون عذرا للمجتهد في ترك موجب الدليل والله أعلم.

فصل

ومن ذلك نقل من نقل الإجماع على أن المتكلم بالطلاق الثلاث في مرة واحدة يقع به الثلاث وقال بموجب علمه وما بلغه وإلا فالخلاف في هذه المسألة ثابت من وجوه:

الوجه الأول: إنه على عهد الصديق إنما كان يفتي بأنها واحدة كما روى مسلم في صحيحه أن أبا الصهباء قال

ص: 619

لعبد الله بن عباس ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر من طلق ثلاثا جعلت واحدة قال نعم وذكر الحديث ومن تتبع ألفاظه وطرقه جزم ببطلان تلك التأويلات التي غايتها أن يتطرق إلى بعض ألفاظه وسياق طرقه وألفاظه صريحة في المراد فلو قال القائل إن هذا مذهب أبي بكر الصديق وجميع الصحابة في عهده أصاب وصدق حاش من لم يصرح منهم بأنها ثلاث وهم جمع من الصحابة صح ذلك عنهم بلا ريب فأقل أحوال المسألة أن تكون مسألة نزاع بين الصحابة.

ص: 620

الوجه الثاني: إنه صح عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه أفتى بأنها واحدة ذكر ذلك أبو داود وغيره

الوجه الثالث: إن هذا مذهب الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف حكاه عنهما ابن وضاح وابن مغيث في وثائقه وغيرهما

الوجه الرابع: إنه إحدى الروايتين عن علي وابن مسعود وابن عباس

الوجه الخامس: إنه مذهب طاوس وخلاس بن عمرو

ص: 621

ومحمد بن إسحاق وداود وجمهور أصحابه

الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في غير المدخول بها صرح به في كتاب اختلاف العلماء له وهو مذهب بعض فقهاء التابعين

الوجه السابع: أنه أحد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في شرح التفريع قال ابن الجلاب ومن

ص: 622

طلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة حرمت عليه قال الشارح إذا كان ذلك في كلمات فلا خلاف في حرمتها لقوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة229] إلى قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة230] وإن كان في كلمة ففيه خلاف هل يرجع إلى الواحدة والمشهور من المذهب أنها ثلاث ثم قال الشارع في موضع آخر في قوله من طلق امرأته ثلاثا في كلمة قال هذا تنبيه على الخلاف وهو أن الثلاث في كلمة ترجع إلى الواحدة وهو قول شاذ في المذهب ووجهه ما روي أن الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت واحدة.

الوجه الثامن: أنه أحد القولين في مذهب أبي حنيفة اختاره محمد بن مقاتل الرازي حكاه عنه الطحاوي.

ص: 623

الوجه التاسع: أنه أحد القولين في مذهب أحمد حكاه شيخنا واختاره وأفتى به وأقل درجات اختياراته أن يكون وجها في المذهب ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب والشيخ أبي محمد وجوها يفتى بها واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة فالذي يجزم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمة واحدة واحدة أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو مخرج على أصوله أصح تخريج والغرض نقض قول من ادعى الإجماع في ذلك ولتقرير هذه المسألة موضع آخر.

ص: 624

الوجه العاشر: أنه من المحال أن تجمع الأمة على لزوم الثلاث وفيها حديثان صحيحان صريحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا معارض لهما ولا ناسخ وحديث آخر ظاهر في عدم الوقوع.

الحديث الأول: حديث أبي الصهباء عن ابن عباس وقد رواه مسلم في صحيحه الحديث الثاني قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقها قال طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال نعم قال فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت قال فرجعها".

ص: 625

قال وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر ورواه محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختارته التي هي أصح من صحيح الحاكم فهذا من رواية عكرمة عن ابن عباس والأول من رواية طاوس وكان طاوس وعكرمة يقولان هي واحدة.

قال إسماعيل بن إبراهيم ثنا أيوب عن عكرمة

ص: 626

إذ قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة قال أبو داود وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهؤلاء رواة الحديث عن ابن عباس قد أفتوا به ومنهم محمد بن إسحاق كان يفتي بأن من قال أنت طالق ثلاثا فهي واحدة.

وكان يقول من جهل السنة فيرد إليها وهذا عين الفقه فإن العامي الجاهل إذا جهل سنة الطلاق وطلق رد طلاقه إلى السنة لقوله كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد.

وأما الحديث الظاهر في عدم لزوم الثلاث فهو حديث محمود بن لبيد قال أخبر النبي عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان

ص: 627

ثم قال: " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" حتى قام رجل فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أقتله رواه النسائي ولم يقل إنه أجازه عليه بل الظاهر برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرب من القطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز حكما تلاعب موقعه بكتاب الله بل هو أشد ردا له وإبطالا والله المستعان.

فصل

ومن ذلك حكاية من حكى الإجماع على وقوع الطلاق في الحيض بحسب ما بلغه والمسألة مسألة نزاع لا مسألة إجماع فصح عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا تعتد بذلك وصح عن طاوس أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول وجه الطلاق أن يطلقها

ص: 628

طاهرا من غير جماع أو إذا استبان حملها وصح عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال لا يعتد بها قال أبو محمد بن حزم ويكفي من هذا كله المسند البين الثابت الذي خرجه أبو داود السجستاني قال حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال ابن عمر طلق ابن عمر امرأته وهي

ص: 629

حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض قال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئا وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك" وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق1]

قال وهذا إسناد في غاية الصحة لا يحتمل التوجيهات والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث

ص: 630

الآخر أرأيت إن عجز واستحمق وبيان عدم التعارض بينهما له موضع آخر والمقصد أن المسألة من مسائل النزاع لا من مسائل الإجماع فأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقع الطلاق في زمن الحيض اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وبالله التوفيق فلنرجع إلى ما كنا فيه وهو المقصود بذكر هذا الفصل وهو الوهم الواقع بظن الإجماع فيما فيه النزاع حتى يقدم على مقتضى الحديث أو مقتضى الدليل ثم يسلك من ظن الإجماع في تلك الأدلة مسلك التأويل فيكون الحامل له على التأويل ما ظنه من الإجماع فإذا تبين الخلاف الثابت في المسألة لم يبق للتأويل بما يخالف الظاهر مساغ وبالله التوفيق.

ص: 631