الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عندما نتعلم أحكام تلاوة القرآن فنحن نتعلمها بالعقل المُدرِك، وبالمداومة على تطبيقها ترسخ هذه المعلومات في اللاشعور، فيُطبِّق المرء الأحكام دون تفكير فيها، وقد ينسى القارئ نَص الحكم التجويدي ومع ذلك يستمر في تطبيقه بصورة صحيحة.
والذي يتعلم قيادة السيارة فإنه يتعلمها بالشعور، ثم بالمداومة والممارسة ترسخ المعلومات في اللاشعور، مما يجعله يقود سيارته دون تفكير، وقل مثل هذا على الذي يتعلم الكتابة على الكمبيوتر والذي لا يستطيع في البداية كتابة حرف دون النظر إلى مكانه في لوحة الحروف، وشيئًا فشيئًا يستطيع الكتابة وهو ينظر إلى الآخرين.
إذن فتحول المعلومة من الشعور إلى اللاشعور وثباتها فيه يحتاج إلى تكرار التفكير فيها واسترجاعها بين الحين والآخر وإلَّا تلاشى وجودها شيئا فشيئا .. فكم من مهارات وأعمال وأناشيد وجُمَل مأثورة تعلمناها في الصِغر ودخلت اللاشعور، ثم تلاشت منه أو كادت بسبب إهمالها وعدم استرجاعها كل فترة.
من هنا تأتي أهمية الممارسة العملية المتكررة المعبرة عن الأفكار التي نُريد ترسيخها في اللاشعور، ولعلنا نلمح هذا المعنى من تأكيد رسولنا صلى الله عليه وسلم على أهمية المداومة على العمل - وإن قَلَّ - ليظل مدلوله راسخا في اللاشعور.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ» (1).
القرآن واللاشعور:
مما سبق يتبين لنا أن من أسباب عدم مطابقة الفعل للقول هو ما ترسب لدى الإنسان في عقله الباطن من أفكار ومعتقدات، والتي من الجائز أن يقتنع العقل المُدرك بعكسها في لحظة من اللحظات، لكنه عند التطبيق يصدر منه سلوك مُعبر عن يقينه ومعتقداته الراسخة لديه.
فعلى سبيل المثال: لو ناقشت إنسانا ما في قضية الرزق وأنه بيد الله عز وجل وقد ضَمِنه لنا، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فستجد منه اقتناعا تاما بذلك، ولكن عند التطبيق في معترك الحياة نجد أن الأمر يختلف، حيث اللهفة والحرص على المال وكثرة التفكير في المستقبل والخوف من الفقر
…
إذن فالخطوة الأولى في تغيير السلوك تبدأ بتغيير ما ترسب لدينا من أفكار ومعتقدات خاطئة واستبدالها بأفكار ومعتقدات صحيحة.
هذا التغيير - كما مرَّ علينا - يستلزم ثلاثة أمور:
أولًا: اقتناع العقل المُدرِك بالأفكار الجديدة.
ثانيًا: تكرار مرور تلك الأفكار على العقل.
ثالثًا: ممارسة مقتضيات تلك الأفكار.
وهذا ما يفعله القرآن
.
فالقرآن يُعيد تشكيل العقل من جديد، ويُصوِّب كل فكرة خاطئة لديه، ويبني فيه اليقين الصحيح لكل الأفكار والمعتقدات.
ولكن كيف يتم ذلك؟
المتأمل في كتاب الله سيجد العديد من الوسائل التي يستخدمها في ترسيخ المفاهيم الصحيحة في اللاشعور، ومن أهم هذه الوسائل:
أولا: الاقتناع:
فالاقتناع بالفكرة هو الخطوة الأولى في طريق التغيير، حيث يسمح العقل المُدرِك بمرورها بعد ذلك إلى اللاشعور ليصبح السلوك المعبر عنها يصدر بطريقة تلقائية.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5/ 2373، رقم 6100)، ومسلم (1/ 541، رقم783).
من هنا يبرز احترام القرآن للعقل ودوام مخاطبته وإقناعه بأهمية الفكرة المطروحة. والقارئ المُتدبر يجد المولى سبحانه وتعالى – وهو الكبير المتعال – يُخاطب عقولنا، ويُبيِّن لنا الكثير من الأمور التي من شأنها أن تُقنعنا بما يُريده منَّا، بل إنه سبحانه وتعالى يدعونا في كتابه إلى استخدام عقولنا والتفكر في كلامه، كقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
ويرُد القرآن على ادعاء النصارى بألوهية المسيح عليه السلام أو أمه، فيقول تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75].
ومن وسائل الإقناع التي يستخدمها القرآن: ضرب الأمثال، والتي تُعتبر من أهم وسائل تبسيط المعلومة وربط الذهن بها، فالمعلم القدير – كما يقول جودت سعيد – هو الذي يُقدم العلم للناس في أمثلة تجعلهم يقتربون من الموضوع أكثر (1).
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27].
ومن أمثلة القرآن ذلك المثال الذي يُبيِّن خطورة الرياء، وعدم الإخلاص لله، وكيف سيكون حال صاحبه وهو يرى جهده وتعبه قد ضاع، هو أحوج ما يكون إليه.
ومن وسائل الإقناع كذلك:
استخدام الطريقة الاستنتاجية بطرح الأسئلة وترك الإجابة للعقل ليصل إلى المعنى المراد من ورائها، مثل قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33].
وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
ثانيا: تكرار الموضوعات:
نعم الاقتناع بالفكرة هو الخطوة الأولى في طريق التغيير حيث تنتقل هذه الفكرة من العقل المُدرك إلى اللاشعور، ولكنها لن تستقر فيه إلا إذا حدث لها تكرار وتكرار.
ولعلنا جميعا نلحظ ذلك، فعندما يحدث اقتناع بفكرة ما في لحظة من اللحظات تجد الواحد منَّا كثيرا ما يُعبر عن هذا الاقتناع بعمل من الأعمال، كمن قرأ أو سمع عن أهمية مساعدة المحتاجين ثم وجد أمامه محتاجا، ففي الغالب أنه سيتصدق عليه ولو بالقليل، هذا الفعل قد لا يتكرر من صاحبه ثانية إلا إذا استمر التذكير بأهميته بين الفينة والأخرى.
من هنا تبرز قيمة التكرار كوسيلة من وسائل بناء اليقين الصحيح والتي يستخدمها القرآن، فالمتتبع للموضوعات المطروحة فيه يجدها متكررة ومتشابهة، كما قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50].
وصرَّفناه أي: كررناه بأساليب مختلفة ..
ومن فوائد التكرار كذلك أنه يجعل القارئ في حالة دائمة من التذكر واليقظة.
(1) كن كابن آدم، ص (85).
والموضوعات التي تتكرر في القرآن كثيرة، تَقِف على قِمَّتها تلك الموضوعات التي تتناول جوانب الهداية فيه، والتي تمَّ ذكرها في الفصل السابق.
فالتعرف على الله عز وجل يحتل مساحة ضخمة في القرآن، ولا تكاد تمر آية إلا وتجد فيها تعريف بالمولى سبحانه وتعالى وبحقوقه علينا من عبادات قلبية وجوانب تشريعية.
ومن الموضوعات التي تتكرر كثيرا في القرآن: قصة وجودنا على الأرض، وطبيعة الدنيا وأنها دار امتحان ينتهي بيوم عظيم للحساب، تُعرض فيها الأعمال، وتُعلن النتائج، ليفوز الناجحون بالجنة التي أعدَّ الله لهم فيها شتى أنواع النعيم، ويذهب الراسبون إلى النار فيذوقوا من ألوان العذاب .. أعاذنا الله منها.
ويُحذرنا القرآن دوما من عداوة الشيطان لنا وعمله الدائب لإضلالنا، ويُكرر لنا السنن والقوانين التي يحكم الله بها الحياة لنتذكرها ونستفيد بها.
ويُذكِّرنا القرآن كذلك بحقوق الناس بعضهم على بعض، ويُكرر علينا قصص السابقين لتتأكد لدينا المعاني والعِبر التي تحملها
…
ثالثا: رسم خريطة الإسلام:
ومن وسائل القرآن في إعادة تشكيل العقل: رسم خريطة الإسلام بنِسَبِها الصحيحة في ذهن قارئه، فالقرآن يُعطي لصاحبه تصورا عاما لكل ما هو مطلوب منه، وعلاقته بكل شيء حوله، ولا يكتفي بذلك بل يضع كل أمر في حجمه المناسب له في شجرة الإسلام، فهو يرتب الأولويات، ويُكون الشخصية المعتدلة، المتوازنة، والتي تُعطي كل ذي حق حقه، فعلى سبيل المثال: نجد قضية الجهاد في سبيل الله قد أخذت مساحة معتبرة في القرآن بل نجدها تتقدم في الأولوية على عبادات أخرى عند تعارضها.
فمن يترك عقله للقرآن، سيجد بلا شك أن شخصيته قد تشكلت بصورة متوازنة، وستتكون لديه ملكة معرفة الأهم فالمهم لكل قضية حين يطرحها القرآن، وستوضع في ذهنه بالحجم المناسب الذي يتناسب مع اهتمام القرآن بها.
ولك أن تتخيل - أخي القارئ - ماذا يمكن أن يحدث لو اتجهت عقول الأمة إلى القرآن ليصبح المصدر الرئيسي للتلقي؟ وكيف ستكون نسبة الاتفاق بين أفرادها؟!
…
وخلاصة القول: أن القرآن يعيد تشكيل العقل، ويقوم ببناء اليقين الصحيح فيه من خلال مخاطبته له بأساليب شتي، مما يؤدي إلي إقناعه بما يحمل من أفكار فتنتقل تلك الأفكار بسهولة ويسر إلي منطقة اللاشعور، وتترسخ فيها من خلال تكرارها في السور والآيات لتشكل بعد ذلك نقطة بداية قوية لانطلاق السلوك المعبر عنها
…
.
والقرآن لا يركز على قضايا بعينها، بل يرسم في الذهن خريطة شاملة وواضحة للإسلام، ويُعطي كل جزء فيها اهتمامًا يناسب حجمه، فينشأ عن هذا كله تصحيح للمفاهيم الخاطئة وتغيير للثوابت الموروثة، لتحل محلها معاني القرآن وثوابته، وهذا من شأنه أن يُحدث وحدة التصور لدي أفراد الأمة.