الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- صلى الله عليه وسلم َ -
الْبَاب الْخَامِس فِي الْأَمر وَالنَّهْي
…
فخامس الْأَبْوَاب فِيهِ النشر
…
لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي فَأَما الْأَمر
…
هَذَا الْبَاب يذكر فِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي وَغَيرهمَا وخامس الْأَبْوَاب مُبْتَدأ أَو فِيهِ النشر خَبره والبحث هُنَا فِي مقامين وهما الْأَمر من جِهَة لَفظه أَي ألف مِيم رَاء فاختلفا فِي ألف مِيم را على أَقْوَال أَولهَا أَنه حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص أَي أفعل مجَاز فِي الْفِعْل نَحْو فلَان فِي أَمر عَظِيم وَقَوله {أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله}
وَثَانِيهمَا أَنه مُشْتَرك بَينه وَبَين الشَّأْن نَحْو إِن وَرَاء الْمَوْت أمرا عَظِيما وَالْغَرَض نَحْو لأمر مَا جدع قصير أَنفه وعدت لَهُ معَان أخر لَا يهمنا فِي هَذَا الْفَنّ أمرهَا إِذْ المُرَاد هُنَا ثَانِي المقامين وَهُوَ النّظر فِي مَدْلُول الْأَمر ورسمه وحدوده بِاعْتِبَار الْكَلَام النَّفْسِيّ وَبِاعْتِبَار الْكَلَام اللَّفْظِيّ وَلَيْسَ بحث الأصولي إِلَّا عَن اللَّفْظِيّ فَلِذَا رسمه النَّاظِم بقوله
…
فَهُوَ كَمَا فِي الأَصْل قَول الْقَائِل
…
لغيره لَا زلت خير فَاعل
…
افْعَل وَمَا شابهه وشاكله
…
مستعليا يُرِيد مَا تنَاوله
…
فَقَوله قَول الْقَائِل جنس يدْخل فِيهِ جَمِيع أَنْوَاع الْكَلَام وَقَوله لغيره
فصل يخرج بِهِ امْر الْقَائِل لنَفسِهِ نَحْو قَوْله صلى الله عليه وسلم قومُوا فلأصل لكم وَنَحْو قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْكفَّار فِي خطابهم للْمُؤْمِنين {ولنحمل خطاياكم} فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَمْر حَقِيقَة بل مجَاز إِذْ من شَرطه الاستعلاء وَلَا يتَصَوَّر من الْأَمر نَفسه
وَقَوله افْعَل وَمَا شاكله فصل يخرج بِهِ طلب الْفِعْل نَحْو أَنا طَالب مِنْك كَذَا وأوجبت عَلَيْك وَدخل فِيمَا شاكله لتفعل وصه ونزال وَنَحْوهَا مِمَّا يدل على الطّلب الإنشائي
وَقَوله مستعليا فصل ثَالِث يخرج بِهِ الالتماس وَهُوَ طلب الشَّيْء مِمَّن يساويك رُتْبَة بِلَا استعلاء وَالدُّعَاء وَهُوَ طلب على جِهَة الخضوع والتذلل ومرادهم بالاستعلاء عد الْآمِر نَفسه عَالِيا سَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر كَذَلِك أَولا فَيشْمَل أَمر الإعلاء لمن دونه والأدنى لمن فَوْقه وَقد زَاد فِي الْفُصُول فصلا رَابِعا وَهُوَ التحتم بِنَاء على أَن التَّعْرِيف بمدلول الْأَمر لُغَة فَلَا بُد حِينَئِذٍ من قيد التحتم وَمن حذفه كَمَا هُنَا فَهُوَ بِنَاء على أَن أَمر النّدب وَغَيره دَاخل فِي التَّعْرِيف وَيَأْتِي تَحْقِيقه
وَاعْلَم أَن الْحَد قد اشْتَمَل على مسَائِل يذكرهَا أَئِمَّة الْأُصُول مُسْتَقلَّة مُنْفَرِدَة اكتفينا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا فِي ضمن الْحَد إِذْ الْكتاب مُخْتَصر وَأَصله كَذَلِك فلنشر إِلَيْهَا
الأولى قَوْلنَا افْعَل وَمَا شاكله إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة أَن لفظ الْأَمر اسْم لمُطلق اللَّفْظ الدَّال على مطلب الطّلب سَوَاء كَانَ عَرَبيا أَو فارسيا أَو من أَي لُغَة فَإِنَّهُ طلب الْفِعْل بِأَيّ صِيغَة إنشائية وَيحْتَمل أَنه أُرِيد بِمَا شاكله أَي من الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة الدَّالَّة على الطّلب إنْشَاء وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذكرهَا صَاحب الْمَحْصُول وَالْإِمَام يحيى فِي الْحَاوِي وَقَالَ الْحق إِنَّه مَوْضُوع للفظ الدَّال
على مُطلق الطّلب لَا بِاعْتِبَار كَونه عَرَبيا وَلَا فارسيا فَإِن الْعبارَات الدَّالَّة على الْمعَانِي إِنَّمَا وضعت بإجراء الْمعَانِي الذهنية أَلا ترى إِلَى أوَامِر الله فِي كتبه الْمنزلَة كَيفَ تخْتَلف عباراتها باخْتلَاف اللُّغَة فصيغ الْأَمر الَّتِي فِي التَّنْزِيل لَيْسَ هِيَ الَّتِي فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَوْله مستعليا يُشِير إِلَى الْخلاف فِي الْأَمر هَل يعْتَبر فِي الْعُلُوّ والاستعلاء أَو لَا فِيهِ أَقْوَال
وَالْأول يعْتَبر الاستعلاء وَإِلَيْهِ ذهب جَمَاهِير أَئِمَّة الْأُصُول قَالُوا وَدَلِيله ذمّ الْعُقَلَاء لمن قَالَ لمن هُوَ فَوْقه رُتْبَة افْعَل على جِهَة الاستعلاء ويصفونه بالحمق وَالْجهل وَلَوْلَا كَونه عد نَفسه عَالِيا على الْأَعْلَى مِنْهُ واعتقد ذَلِك وتفرع عَلَيْهِ أمره لَهُ لما ذموه ووصفوه بِالْجَهْلِ والحمق
وَالثَّانِي أَنه يعْتَبر الْعُلُوّ فَقَط وَمَعْنَاهُ كَون الْآمِر أرفع رُتْبَة من الْمَأْمُور وَهَذَا مَذْهَب أَكثر الْمُعْتَزلَة وَنقل عَن جَمَاهِير الْعلمَاء وَأهل اللُّغَة وَاسْتدلَّ لَهُم باستقباح الْعُقَلَاء لقَوْل الْقَائِل أمرت الْأَمِير وَعَدَمه عِنْدهم إِذا قَالَ سَأَلته وطلبته ورد بِأَنَّهُ عَلَيْهِم لَا لَهُم لِأَن الاستقباح دَلِيل أَنه قد وَقع الْأَمر وَلَوْلَا وُقُوعه لما استقبح فَلَو كَانَ الْعُلُوّ شرطا لما كَانَ ذَلِك للأمير أمرا وَإِلَّا لما استقبح مَا ذَاك إِلَّا لِأَن الْعُلُوّ غير شَرط وَقد أُجِيب عَنهُ
ثالثهما يعتبران مَعًا الْعُلُوّ والاستعلاء وَهُوَ لجَماعَة
وَالرَّابِع عَكسه قَالَه الرَّازِيّ فِي الْمَحْصُول مستدلا بقول فِرْعَوْن لِقَوْمِهِ {فَمَاذَا تأمرون} مَعَ أَنه أَعلَى رُتْبَة وَقَول عَمْرو بن الْعَاصِ لمعاوية
…
أَمرتك أمرا حازما فعصيتني
…
وَقَول دُرَيْد بن الصمَّة لمن هم فَوْقه
…
أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوى
…
قَالَ فَهَذِهِ الْأُمُور دَالَّة على عدم اعْتِبَار الْعُلُوّ والاستعلاء وَأجِيب بِأَن الاستعلاء مُعْتَبر لُغَة وَهَذِه الْأَمْثِلَة جَارِيَة على ذَلِك فَإِن فِرْعَوْن مَا خَاطب قومه إِلَّا وَقد عدهم أعلن مِنْهُ رَأيا فِي هَذِه الْحَالة وَأَنه طَالب أَن يأمروه بأمرهم وَكَذَلِكَ عَمْرو مَا خَاطب مُعَاوِيَة إِلَّا مُخَالفَته أمره لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذ بِرَأْيهِ وَيطْلب مشورته وَينزل نَفسه منزلَة الْمَأْمُور وَكَذَلِكَ دُرَيْد خَاطب قومه لأَنهم أَخْرجُوهُ ليقتدوا بِرَأْيهِ فَلم يمتثلوا أمره وَقد أَمرُوهُ على نُفُوسهم وَالَّذِي يُقَوي عِنْدِي هُوَ اعْتِبَار الْأَمريْنِ الْعُلُوّ وَهُوَ كَون رُتْبَة الْآمِر أَعلَى من رُتْبَة الْمَأْمُور عِنْده وَلَا بُد من الاستعلاء وَهُوَ عد الْأَمر نَفسه عَالِيا بِالنّظرِ إِلَى الْمَأْمُور فِي اعْتِقَاده لذَلِك واستفعل هُنَا من بَاب واستكبر واستعظم عد نَفسه كَبِيرا عَظِيما وَهُوَ أحد مَعَانِيه فِي كتب التصريف فَقَوْل الْحجَّاج للأمير مثلا افْعَل كَذَا وَقَول الطَّبِيب للخليفة اشرب كَذَا أمرا لَا التماسا اعْتقد استعلاءه عَلَيْهِ وَطلب امتثاله لأَمره وَقَول الرجل لوَلَده افْعَل ولخادمه أَمر لِأَن لَهُ علوا عِنْدهمَا وَالْحَاصِل أَنه لَا بُد من استعلاء الْأَمر فِيمَا يُؤمر بِهِ فَإِن كَانَ لَهُ علو عِنْد الْمَأْمُور فَلَا إِنْكَار لما صدر عَنهُ ويلومه الْعُقَلَاء على عدم امتثاله وَهُوَ الَّذِي شَمله النّظم
وَالْعجب من الْعِرَاقِيّ وَغَيره فِي إبطالهم الاستعلاء مستدلين بِأَن كثيرا من أوَامِر الله فِي غَايَة اللطف وَنِهَايَة الاستجلاب لاقترانها بتذكير نعمه نَحْو قَوْله {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم وَالَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا} الْآيَة وَنَحْو {فَاتبعُوني يحببكم الله} وَغَيرهمَا مِمَّا لَا يُحْصى
وَوجه التَّعَجُّب أَن أوَامِر الله كلهَا صادرة عَن الْعُلُوّ رُتْبَة بِلَا ريب وَعَن الاستعلاء فَإِنَّهُ الأحق بذلك إِلَّا أَنه لَا يُقَال فِي تَفْسِيره عد نَفسه عَالِيا واعتقدها كَذَلِك بل بِمَعْنى أَنه أهل لذَلِك الِاسْتِحْقَاق وَأما قرنه أوارمه بتذكير نعمه فَلَيْسَ لِأَنَّهُ وَلَا استعلاء بل ذكر ذَلِك عقب الْأَمر من بَاب بل الْأَمر وَقع بِلَفْظ افعلوا ثمَّ اتبعهُ بِدَلِيل يزيدهم بعثا على طَاعَته وإبانة لمنافع مَا أَمر بِهِ
وَقَول النَّاظِم يُرِيد مَا تنَاوله إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة مَعْرُوفَة وَذَلِكَ أَن صِيغَة افْعَل وَردت للتهديد والالتماس وَالدُّعَاء وَالْأَمر قَالُوا فبماذا يصير الأمرا أمرا فَاخْتلف قي ذَلِك وَالَّذِي اخْتَارَهُ النَّاظِم أَن مرجع الْأَمر إِلَى حُدُوث الصِّيغَة وَإِرَادَة محدثها الْمَأْمُور بِهِ فيعين كَونه أمرا إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ حتما وَيَكْفِي الصِّيغَة فِي كَونه أمرا لِأَنَّهَا حَقِيقَة فِيهِ وَفِي المطولات تَطْوِيل قَلِيل التَّحْصِيل لوما اخْتلف الْعلمَاء فِي صِيغَة الْأَمر هَل وضعت للْإِيجَاب أَو لغيره فَأَشَارَ إِلَى ذَلِك قَوْلنَا
وَهُوَ مُفِيد للْوُجُوب شرعا
على الَّذِي تختاره ووضعا
هَذَا التَّصْرِيح بِأَنَّهُ وضع حَقِيقَة للْوُجُوب لُغَة وَبِه وَردت الشَّرِيعَة وَهَذَا قَول الْجُمْهُور وَفِيه إثنا عشر قولا مبسوطة فِي المطولات وَالَّذِي اخترناه هُوَ الْأَقْوَى دَلِيلا كَمَا أَفَادَهُ قَوْله
فالعقلاء تذم من لم يمتثل
أمرا لمَوْلَاهُ وَأَيْضًا نستدل
…
بِأَنَّهُ مَا زَالَ هَذَا فِي السّلف
فَكَانَ إِجْمَاعًا تَلقاهُ الْخلف
تَقْرِير الدَّلِيل أَن الْعُقَلَاء من أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ قبل وُرُود الشَّرْع يذمون العَبْد إِذا لم يمتثل أَمر سَيّده ويصفونه بالعصيان وبلغتهم نزل الْقُرْآن ووردت السّنة النَّبَوِيَّة والذم والوصوف بالعصيان إِمَارَة اللُّزُوم والثبوت وَلَا يُرَاد
من الْوُجُوب إِلَّا ذَلِك وَهَذَا دَلِيل عَقْلِي لِأَن إِدْرَاك حسن هَذَا الذَّم عَقْلِي وَإِن اسْتُفِيدَ من موارد اللُّغَة فَلهَذَا نسب الذَّم إِلَى الْعُقَلَاء إِشَارَة إِلَى أَنه عَقْلِي
ثمَّ أَشَرنَا إِلَى الدَّلِيل الشَّرْعِيّ بقولنَا وأيا نستدل أَي وَنَرْجِع بعد إِقَامَة الدَّلِيل الأول إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْع وَتَقْرِيره أَنه تكَرر من الصَّحَابَة الِاسْتِدْلَال بأوامر الشَّرْع على الْوُجُوب وتكرره أَمر لَا يُنكره إِلَّا مباهت وشيوعه بَينهم كَذَلِك وَهُوَ المُرَاد من الْإِجْمَاع وَالْقَوْل بِأَنَّهُ إِجْمَاع سكوتي قد سلفت فِيهِ المناقشة وَجَوَابه أَنه يُفِيد الظَّن فِي إِثْبَات هَذَا الأَصْل بِلَا تردد وَلَا فرق بَين إِثْبَات الْأُصُول بِالدَّلِيلِ الظمني والقطعي من حَيْثُ وجوب الْعَمَل وَقد قَرَّرْنَاهُ فِي مَوَاضِع وَالدَّلِيل الْفرق وَهَذَا أَمر مَعْرُوف عِنْد كل عَاقل من متشرع وَغَيره بِأَنَّهُ إِذا أَمر الرجل من لَهُ أمره وَخَالفهُ ذمه كل وَاحِد واستحسنوا تَأْدِيب الْآمِر لمن عَصَاهُ وَهَذَا شَيْء يكَاد أَن يكون فطريا يعرفهُ من يُمَيّز قبل تَكْلِيفه وَاسْتدلَّ بآيَات قرآنية مثل قَوْله تَعَالَى {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} أَي بقولنَا {اسجدوا لآدَم} فإنكاره تَعَالَى على إِبْلِيس وذمه ولعنه وطرده دَلِيل على أَن افْعَل وَنَحْوه إِذا اطلق يفقد الْإِيجَاب وَلما قَرَّرْنَاهُ أَن الْأَمر للْإِيجَاب حَقِيقَة واخترناه أبنا أَنه يسْتَعْمل فِي معَان كَثِيرَة مجَازًا
…
وَقد أَتَت صيغته مجَازًا
…
فِي غَيره قد تركت إيجازا
…
لما ذكر أَئِمَّة الْأُصُول أَنَّهَا تَأتي صِيغَة الْأَمر لمعان مجازية وتعرضوا فِي المطولات لذكرها حَتَّى بلغ بهَا الْفَاضِل الْبرمَاوِيّ فِي منظومته وَشَرحهَا إِلَى أَكثر من ثَلَاثِينَ نوعا وعد أمثلتها أَشَرنَا إِجْمَالا إِلَيْهَا وَتَركنَا التفاصيل للإيجاز كَمَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ قد علم من الْقَوَاعِد أَن الْمجَاز مَوْضُوع بالنوع فَإِذا وجدت العلاقة والقرينة جَازَ اسْتِعْمَاله فالتعرض لعد أَفْرَاده بعد ذَلِك شغل للأوراق
بتفاصيل الْأَمْثِلَة قد أغنت عَنْهَا الْقَاعِدَة بالِاتِّفَاقِ فَلِذَا لم نتعرض لشَيْء من الْأَمْثِلَة فَإِنَّهَا لَا تهم الأصولي من حَيْثُ إِنَّه باحث عَن الْقَوَاعِد الَّتِي تستنبط مِنْهَا الاحكام إِنَّمَا يهم الأصولي معرفَة مثل هَل هُوَ للتكرار أَو الْمرة كَمَا أَفَادَهُ قَوْلنَا
…
وَمَا على الْمرة والتكرير
…
يدل فِيمَا اختير لِلْجُمْهُورِ
…
فَإِنَّهَا مَسْأَلَة اخْتلف فِيهَا فِيمَا إِذا أورد الْأَمر مُطلقًا عَن قيد الْمرة والتكرير فَقيل لَا يدل على مرّة وَلَا تكْرَار بل يدل على مُجَرّد الطّلب من غير دلَالَة على شَيْء زَائِد إِلَّا أَنه لَا يتم الِامْتِثَال وَإِخْرَاج الْمَطْلُوب إِلَى حيّز الْوُجُود إِلَّا بالمرة فَهِيَ من لَوَازِم الِامْتِثَال لِأَنَّهُ يدل عَلَيْهَا الْأَمر بِلَفْظِهِ وَوَضعه وَهَذَا هُوَ مَا اخْتَارَهُ النَّاظِم وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَئِمَّة التَّحْقِيق من الْفرق كلهَا وَلذَا عزاهُ النَّاظِم إِلَى الْجُمْهُور وَالدَّلِيل على الْمُخْتَار أَن الْأَوَامِر الْمُطلقَة الشَّرْعِيَّة ترد تَارَة للتكرار كأوامر الصَّلَاة وَأُخْرَى بالمرة كَالْحَجِّ وَهَكَذَا الْأَوَامِر الْعُرْفِيَّة نَحْو قَوْلك ادخل الدَّار فإه يُرَاد مرّة وَاحِدَة وَنَحْو احفظ الدَّابَّة فَإِن غَرَضه دوَام الْحِفْظ لَهَا فَإِذا تقرر هَذَا فَإِنَّهُ يكون مَوْضُوعا بِالْقدرِ الْمُشْتَرك بَين الْمرة والتكرار وَهُوَ طلب إِيقَاع مُطلق الْفِعْل مَعَ قطع النّظر عَنْهُمَا دفعا للاشتراك إِذا كَانَ حَقِيقَة فيهمَا وللمجاز إِذا كَانَ حَقِيقَة فِي أَحدهمَا إِذْ كل مِنْهُمَا خلاف الأَصْل وَقد أورد عَلَيْهِ أَنه إِذا كَانَ وَضعه لمُطلق الطّلب ثمَّ اسْتعْمل فِي أَحدهمَا كَانَ مجَازًا إِذْ هُوَ خلاف الْمُدَّعِي وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ قد تقرر أَن اسْتِعْمَال الْمُطلق فِي الْمُقَيد لَيْسَ بمجاز وَإِلَّا لزم أَن يكون إِطْلَاق الضمائر وَغَيرهَا من الموضوعات الْكُلية واستعمالها فِي خَاص من الْمجَاز وَلَا قَائِل بِهِ لِأَن
الْوَضع وَإِن كَانَ عَاما فالموضوع لَهُ خَاص فاستعماله فِي بعض أَفْرَاده اسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ وَمن الْأَدِلَّة على الْمُخْتَار أَن الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة إِذا أُرِيد مِنْهَا التّكْرَار قيدها صلى الله عليه وسلم كالأوامر الْوَارِدَة فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ يقيدها بِذكر كل يَوْم وَلَيْلَة حَيْثُ أُرِيد تكررها وَكَذَلِكَ أهل اللِّسَان من الْعَرَب لَا يفهمون إِلَّا إِيجَاد الْفِعْل أَلا ترى أَنه لما أَمر صلى الله عليه وسلم بِإِيجَاب الْحَج سَأَلُوهُ ألعامنا هَذَا نَحْو ذَلِك مِمَّا أقرهم صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَا وَهُوَ لِابْنِ الْحَاجِب أَن مَدْلُول الصِّيغَة طلب مُطلق الْفِعْل والمرة وَنَحْوهَا خارجان عَن حَقِيقَته فَيجب حُصُول الِامْتِثَال لإيجاد الْحَقِيقَة مَعَ أَيهمَا كَانَت وَلَا يتَقَيَّد بِأَحَدِهِمَا دون الآخر وَإِلَّا كَانَ تحكما وَاعْترض بِأَن الدَّلِيل غير الدَّعْوَى إِذْ لم يَقع النزاع إِلَّا فِي ذَلِك فإيراده المصادرة وَأورد أَيْضا ابْن الْحَاجِب دَلِيلا آخر لِلْجُمْهُورِ وَهُوَ معترض أَيْضا وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ غنية فِي ظُهُور كَلَام الْجُمْهُور فَإِنَّهُ أقرب الْأَقْوَال دَلِيلا فَأتى فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال الأول مَا ذَكرْنَاهُ وَالثَّلَاثَة مَعْرُوفَة فِي المطولات
…
وَلَا على فَور وَلَا تراخي
…
قَالَ بِهَذَا جلة الْأَشْيَاخ
…
عطف على قَوْله وَمَا على الْمرة الخ أَي وَلَا تدل صِيغَة الْأَمر على طلب فعل الْمَأْمُور بِهِ فَوْرًا أَي عقب بُلُوغ صِيغَة الْأَمر إِلَى الْمَأْمُور وَلَا على خِلَافه وَقد اخْتلف فِي ذَلِك فَقَالَ الإِمَام يحيى وَالْمهْدِي والقرشي إِنَّه لَا يدل على غير مُطلق الطّلب يَعْنِي طلب الْفِعْل وَإِلَيْهِ ذهب الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب
وَقَالَت الْمَالِكِيَّة وَبَعض الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَجَمَاعَة من الشَّافِعِيَّة قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَهُوَ الصَّحِيح من مذهبيهم وَإِلَيْهِ ذهب الْهَادِي وَجَمَاعَة من الْآل إِنَّه يدل على الْفَوْر فَيجب فعله فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان بعد سَماع الْأَمر وَفهم المُرَاد بِهِ وَإِن أخر وَجب فعله فِي الْوَقْت الثَّانِي وَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ آثِما
وَمن قَالَ إِنَّه للتراخي فَمَعْنَاه أَنه لَا يجب الْفَوْر لَا بِمَعْنى أَنه يجب التَّرَاخِي حَتَّى لَو أَتَى بِهِ فَوْرًا لم يكن ممتثلا قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد نَقله هَذَا القَوْل مُقْتَضَاهُ أَنه لَا يكون المبادر ممتثلا أَو يتَوَقَّف فِيهِ وَهَذَا بعيد وَكَلَام أَكثر النقلَة أَن المُرَاد بالتراخي عدم الْفَوْر فَهُوَ رَاجع إِلَى القَوْل الأول إِنَّه لَا يَقْتَضِي فَوْرًا وَلَا تراخيا وَالْأول هُوَ الرَّاجِح من الْأَقْوَال كَمَا أطلقهُ النَّاظِم وَدَلِيله هُوَ مَا تقدم من الدَّلِيل على الْمُخْتَار فِي عدم دلَالَته على التّكْرَار وَحَاصِله أَنه لَا يُفِيد سوى طلب مُطلق الْفِعْل من دون إِشْعَار لمرة وتكرار أَو فَور أَو تراخ وَإِذا اسْتُفِيدَ شَيْء من ذَلِك فبقرائن خارجية وَاسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بالفور وَأَنه لَو جَازَ التَّأْخِير لَكَانَ إِمَّا إِلَى غَايَة مُعينَة وَهَذَا خُرُوج عَن مَحل النزاع إِذْ يصير من الْمُقَيد أَو إِلَى غَايَة محدودة بِظَنّ الْمَأْمُور فَوَات الْأَمر إِن لم يفعل الْمَطْلُوب وَهَذَا قد لَا يَقع لكثير لغَلَبَة الْأَمر وهجوم الْأَجَل فَيُؤَدِّي إِلَى خُرُوج الْوَاجِب عَن مُقْتَضَاهُ وَهُوَ التحتم وَإِمَّا أَن يجوز تَأْخِيره إِلَى غير غَايَة من غير بدل كَانَ تكليفا بِمَا لَا يُطَاق لجَهَالَة الْوَقْت أَو مَعَ بدل وَهُوَ إِمَّا الْعَزْم وَقد عرف فِي الْوَاجِب الموسع أَنه لَا يجب أَو الْوَصِيَّة وَهِي لَا تعم جَمِيع الْوَاجِبَات الشَّرْعِيَّة فكثير من الْعِبَادَات لَا تصح الْوَصِيَّة بهَا وَإِذا بَطل كل هَذِه الْأَطْرَاف التَّرَاخِي وَتعين الْفَوْر وَأجِيب بِأَنَّهُ يخْتَار الطّرف الثَّالِث وَلَا يلْزم أَنه من تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لأَنا لم نقل بِوُجُوب التَّأْخِير مَعَ جَهَالَة الْوَقْت حَتَّى يجب التَّعْيِين بل نقُول بِجَوَاز تَأْخِيره وَلَا يلْزم مِنْهُ ذَلِك إِذْ يُمكنهُ امْتِثَال الْأَمر فِي أَي وَقت شَاءَ
قلت وَفِيه تَأمل قيل وَالتَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة أَنه قد ثَبت أَن الْأَمر للْوُجُوب وَمن شَأْنه الذَّم على تَركه وَالْقَوْل بالتراخي يَقْتَضِي ارْتِفَاع الذَّم إِلَّا فِي حالات نادرة وَهُوَ ظن الْمَوْت وَيلْزم ارْتِفَاع الْوُجُوب عَن أَكثر الْأَوَامِر
وَهُوَ يُنَافِي كَون الْأَمر للْوُجُوب على مَا هُوَ الْمُخْتَار فَالْحق أَنه إِذا ثَبت كَون الْأَمر للْوُجُوب ثَبت أَنه للفور لَا من حَيْثُ الْوَضع بل لكَونه من لوازمه كَمَا قيل فِي دلَالَته على الْمرة لِأَن الْوُجُوب يسْتَلْزم الذَّم بِالتّرْكِ كَمَا يسْتَلْزم الْمَدْح بِالْفِعْلِ وَلَا نسلم ارْتِفَاع الذَّم مَعَ التَّرَاخِي وَإِن لم يحصل ظن الْمَوْت كَمَا يقْضِي بذلك استدلالهم بذم أهل اللِّسَان من لم يمتثل أَمر سَيّده كَذَا أَفَادَهُ بعض محققي الْمُتَأَخِّرين وَأَقُول لَا يخفى أَنه قد يُقَال التّرْك الْمَلْزُوم للذم هُوَ ترك العازم على أَن لَا يفعل مَا أَمر بِهِ وَأما التارك لِأَن وَقت الطّلب لَا يتَعَيَّن بل مسافته الْعُمر فَإِنَّهُ غير مَذْمُوم وَلَا هَذَا هُوَ التّرْك الْمَأْخُوذ فِي رسم الْوَاجِب فيتأمل
وَالْحق أَنه لَا يَخْلُو أَمر عَن الْقَرِينَة الدَّالَّة على أحد الْأَمريْنِ مثل أَمر الْكَافِر أَن يَقُول كلمة التَّوْحِيد وَإِلَّا ضرب عُنُقه فوري بِلَا ريب وَأمره بِإِقَامَة الصَّلَاة إِن كَانَ قبل دُخُول وَقتهَا فَهُوَ أَمر مُقَيّد بِدُخُولِهِ وَإِن كَانَ بعده ففوره فعلهَا فِي آخر وَقتهَا الموسع وَيجْرِي مثله فِي الصَّوْم وَالزَّكَاة فَهَذِهِ كلهَا من الْأَمر الْمُقَيد وَلَيْسَ من مَحل النزاع وَكَذَلِكَ الْحَج على المستطيع من الْمُؤَقت يجب عِنْد دُخُول أَو شهوره مضيق على من لم يبلغ قَضَاء مَنَاسِكه إِلَّا بِسَفَرِهِ من أول يَوْم من شَوَّال موسع لمن لم يُدْرِكهُ وَلَو فِي ثامن الْحجَّة كالمكي فيتضيق فِي الثَّامِن أَو التَّاسِع إِذْ أول مَنَاسِكه لَهُ الْوُقُوف بعد الْإِحْرَام وَهُوَ يُدْرِكهُ فِي التَّاسِع وَقس سَائِر الْأَوَامِر عَلَيْهِ وَلذَا قُلْنَا
…
لَكِن لَهُ قَرَائِن تفِيد
…
استدراكا من الْأَرْبَعَة المنفية وَالْمعْنَى أَن الْمُخْتَار فِي الْأَمر الْمُطلق
هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ من عدم الدّلَالَة من حَيْثُ هُوَ على أحد الْأَرْبَعَة أَي الْفَوْر والتراخي والمرة والتكرار لَكِن إِذا قيد الْأَمر بِمَا يَقْتَضِي أحد الْأَرْبَعَة عمل بِهِ وقرائن الْكل وَاسِعَة فللتكرار نَحْو التَّعْلِيق على عِلّة نَحْو قَوْله {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التّكْرَار اتِّفَاقًا للْإِجْمَاع على اتِّبَاع الْعلَّة المنصوصة وَذَلِكَ إِذا كَانَت الْعلَّة مُنَاسبَة كالآية بِخِلَاف قَوْله إِن دخلت هِنْد الدَّار فَطلقهَا فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق من الْمَأْمُور مرّة وَاحِدَة فَلَو تكَرر دُخُولهَا وَطَلقهَا فِي كل مرّة لم يَقع اتِّفَاقًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ينْحل الشَّرْط ويرتفع الْأَمر بارتفاع الْمَأْمُور بِهِ وَلَا يتَكَرَّر لَو أَتَى بِكُل مَا أَو مَتى على رَأْي وَأما الْآيَة فَمُقْتَضى التّكْرَار إِنَّمَا هُوَ مَا علم من الحكم الشَّرْعِيّ أَن الْجَنَابَة توجب التَّطْهِير ثمَّ عطف قَوْله
…
وَلَا القضا من ذَاك نستفيد
…
على قَوْله وَمَا على الْمرة وَهَذَا حكم من أَحْكَام الْأَمر الْمُقَيد بِالْوَقْتِ وَالْمرَاد أَن الْقَضَاء للْمَأْمُور بِهِ الْمُؤَقت لَا يُسْتَفَاد من الْأَمر الَّذِي ثَبت بِهِ الحكم بِمَعْنى أَنه إِذا خرج وقته يجب قَضَاؤُهُ بل إِنَّمَا يُسْتَفَاد مِمَّا أَفَادَهُ قَوْلنَا
…
لكنه يعلم عِنْد النَّاظر
…
وَيُسْتَفَاد من دَلِيل آخر
…
أَي إِن الْقَضَاء يُعلمهُ النَّاظر ويستفيده من دَلِيل غير دَلِيل الْأَدَاء وَعدم استفادته من دَلِيل الْأَدَاء هُوَ رَأْي الْجُمْهُور بل يُسْتَفَاد من دَلِيل آخر من نَص أَو قِيَاس أَو غَيرهمَا وَذَهَبت الْحَنَابِلَة وَالْحَنَفِيَّة والرازي وَآخَرُونَ إِلَى استفادته من دَلِيل الْأَدَاء وَاسْتدلَّ الْأَولونَ بِأَن من قَالَ لغيره صم يَوْم الْخَمِيس وَلَا يدل على صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَلَا غَيرهَا بِشَيْء من الدلالات فإثبات الْقَضَاء بِهِ إِثْبَات لحكم شَرْعِي بِلَا دَلِيل وبطلانه وَاضح أُجِيب بِأَن قَوْله صم يَوْم الْخَمِيس تضمن شَيْئَيْنِ طلب الصّيام وَكَونه يَوْم الْخَمِيس فَإِذا فَاتَ الْوَقْت بَقِي الْأَمر بالصيام فقد تضمنه الْأَمر الأول وَدلّ عَلَيْهِ فَلَا يخرج الْمُكَلف عَن عُهْدَة الطّلب إِلَّا بالإتيان بِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوب
قُلْنَا لَيْسَ الْأَمر بِمُجَرَّد الصَّوْم بل مُقَيّدا بِالْوَقْتِ فَإِذا فَاتَ وقته كَانَ مُوجبا لفواته لاستحالته الِاسْتِدْرَاك الْمُؤَقت الْمَطْلُوب فِيهِ الْفِعْل وَأما مَا قيل إِن هَذَا مَبْنِيّ على أَن الْوَقْت قيد للمطلوب وَلَيْسَ كَذَلِك بل قيد للطلب فَإِنَّهُ كَلَام بَاطِل فَإِن الطّلب لَا بُد وَأَن يتَقَدَّم زَمنا على إِيقَاع الْمَطْلُوب فَمَا معنى تَقْيِيد الطّلب بِيَوْم الْخَمِيس مثلا وَإِن أُرِيد أَن طلب تنجيزه مُقَيّد بِيَوْم الْخَمِيس قُلْنَا هَذَا أول الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُ إِذا فَاتَ الْيَوْم الَّذِي طلب تنجيزه فِيهِ فَاتَ الْمَطْلُوب إِذْ قد صَار الْيَوْم جُزْءا مِنْهُ هَذَا فِيمَا إِذا ورد الْأَمر بِغَيْر تكَرر الْعَطف وَأما إِذا تكَرر الْأَمر بِحرف الْعَطف فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى أَشَارَ إِلَيْهَا النَّاظِم بقوله
…
وَإِن تكرره بِحرف الْعَطف
…
أَفَادَ تكريرا بِغَيْر خلف
…
أَي بالِاتِّفَاقِ بَين أَئِمَّة الْأُصُول وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول صل رَكْعَتَيْنِ وصل رَكْعَتَيْنِ وَأما إِذا قيل صل رَكْعَتَيْنِ وصل الرَّكْعَتَيْنِ فهما فِي الأول غيران لاقْتِضَاء الْعَطف الْمُغَايرَة وَلِأَنَّهُ حمل للْكَلَام على التأسيس وَهُوَ أولى من التَّأْكِيد وَلِأَن الشَّيْء لَا يعْطف على نَفسه إِلَّا لتأكيد والتأسيس خير مِنْهُ بِخِلَاف الثَّانِي فَإِنَّهُ تعَارض فِيهِ أَمْرَانِ كَون اللَّام للْعهد لتقدم الْمرجع ذكرا فَيَقْتَضِي عدم التغاير وواو الْعَطف تَقْتَضِيه وَيَأْتِي تَحْقِيقه فِي شرح قَوْلنَا مَا لم تقم قرينَة التَّعْرِيف
وَقَوْلنَا بِغَيْر خلف هَذَا هُوَ الَّذِي نَقله الْأَكْثَر وَنقل صَاحب الْجمع والبرماوي فِي شرح منظومته خلافًا فِي ذَلِك وَمَا ذَكرْنَاهُ فَالْمُرَاد أَنه الأَصْل والمتبادر فَإِذا قَامَت قرينَة على خِلَافه قدم مَا قَامَت عَلَيْهِ نَحْو قَوْلك اسْقِنِي مَاء واسقني مَاء واقتل زيدا واقتل زيدا فَإِن الْقَرِينَة وَهِي اندفاع الْحَاجة إِلَى الشّرْب بِمرَّة وَاحِدَة وَعدم تعدد قتل زيد تقضي بِأَنَّهُ للتَّأْكِيد هَذَا إِذا كَانَ بِحرف الْعَطف أما إِذا كَانَ مَعَ عَدمه فقد أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا
…
أَو كَانَ تكريرا بِغَيْر عاطف
…
على الَّذِي يخْتَار ذُو المعارف
…
أَي أَو كَانَ تَكْرِير الْأَمر بِغَيْر حرف عطف أَفَادَ أَيْضا تَكْرِير الْمَأْمُور بِهِ وَهَذَا رَأْي الإِمَام يحيى والرازي قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَنَقله فِي الْمُسْتَوْعب عَن عَامَّة أَصْحَاب الشَّافِعِي لِأَن كل وَاحِد من الْأَمريْنِ مُسْتَقل باقتضاء مَا تضمنه وَهَذَا كُله فِيمَا لم يمْنَع مَانع من الْحمل على التأسيس وَإِلَّا فَالْحكم مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا
…
مَا لم تقم قرينَة التَّعْرِيف
…
أَو غَيرهَا فوفها وَاسْتوْفى
…
أَي حمل الْأَمر على التكرير إِذا كَانَ بِحرف الْعَطف أَو بِغَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ مُقْتَض فَإِذا عَارضه الْمَانِع وَهُوَ الْقَرِينَة بالتعريف أَو غَيره كالعادة وَالْعقل وَالشَّرْع فَالْحكم هُوَ التَّرْجِيح أَو أَنه لَا يُفِيد التّكْرَار بل يحمل على التَّأْكِيد وَعبارَة النّظم تحْتَمل الْأَمريْنِ وَإِن كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَظْهر بمناسبة التَّصْرِيح بالتكرير فَمَا سبق فالنفي مُتَوَجّه إِلَيْهِ
ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا النَّفْي عَائِد إِلَى مَسْأَلَتَيْنِ مَعًا وهما فِيمَا كَانَ بعطف أَو بِغَيْرِهِ وَمِثَال مَا قَامَت قرينَة عقلية على عدم التأسيس قَوْلك اقْتُل زيدا اقْتُل زيدا والشرعية أعتق سَعْدا أعتق سَعْدا فَإِن الثَّانِي تَأْكِيد بِلَا خلاف فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل التأسيس هُنَا عقلا وَشرعا وَأما مَا لَا يَسْتَحِيل تكريره فقسموه إِلَى شَيْئَيْنِ
الأول أَن يكون بِحرف الْعَطف وَله صور مَعَ الأولى أَن يتَكَرَّر الْأَمر بِحرف التَّعْرِيف فِي مُتَعَلّقه نَحْو صل رَكْعَتَيْنِ وصل الرَّكْعَتَيْنِ فَهُنَا قد تَعَارضا دلَالَة حرف الْعَطف على التأسيس لإفادته الْمُغَايرَة وَدلَالَة التَّعْرِيف العهدي على التأكيدي وَحِينَئِذٍ فَيرجع إِلَى التَّرْجِيح فَإِن نَظرنَا إِلَى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة رجحنا دلَالَة التَّعْرِيف فَيكون الثَّانِي تَأْكِيدًا وَإِن اعْتبرنَا تَحْصِيل مَقْصُود الْوَاجِب رجح دلَالَة حرف الْعَطف وَمن هُنَا اخْتلف الْعلمَاء فَقَالَ
الْجُمْهُور إِنَّه للتَّأْكِيد قَالُوا وَقَول من رجح خِلَافه لأجل تَحْصِيل مَقْصُود الْوَاجِب تَرْجِيح للشَّيْء بِنَفسِهِ إِذْ تَحْصِيل مَقْصُود الْوَاجِب هُوَ معنى التأسيس الَّذِي حملوه عَلَيْهِ فَكيف يرجح الشَّيْء بِنَفسِهِ قَالُوا وَأما ترجيحنا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة فَإِنَّهُ دَلِيل مُسْتَقل وَقَالَ الرَّازِيّ بل يحمل على التأسيس وَتوقف أَبُو الْحُسَيْن فِي ذَلِك للتعارض عِنْده
الثَّانِي أَن يكون الأول خَاصّا وَالثَّانِي عَاما نَحْو صم الْجُمُعَة وصم كل يَوْم اقْتُل زيدا الْكَافِر واقتل كل كَافِر
وَالثَّالِث عَكسه وَاخْتلف فِيهِ أَيْضا فَقيل يحمل على التَّأْكِيد لِأَن الْخَاص قد شَمله الْعَام فَلَا يبْقى للْحَمْل على التغاير فَائِدَة وَفَائِدَة الْإِتْيَان بالخاص مُنْفَردا الْعِنَايَة بِشَأْنِهِ والاهتمام بِحكمِهِ كَمَا عرف فِي الْمعَانِي وَقيل بل يكون تأسيسا لاقْتِضَاء عطف الْمُغَايرَة وَلَا فرق بَين الأول وَهَذَا إِلَّا من حَيْثُ إِرَادَة الْخَاص وقصده فِي صِيغَة الْعَام هَل تتناوله أَولا وَإِلَّا فَكل من الْقَوْلَيْنِ قد وَجب مَعَه مَا تضمنه الْأَمْرَانِ وَتوقف أَبُو الْحُسَيْن وَتَابعه الرَّازِيّ فِي الْوَقْف فِي هَذَا الظّرْف وَهَذَا كُله مَعَ حرف الْعَطف وَأما مَعَ عَدمه فَالْحكم ايضا فِيهِ مَا فِي الَّذِي مَعَ حرف الْعَطف من الْخلاف
وَإِن كَانَ الرَّازِيّ هُنَا لَا يتَوَقَّف بِمَا إِذا كَانَ احدهما عَاما وَالْآخر خَاصّا بل حمله على التَّأْكِيد نعم يَأْتِي فِي بِنَاء الْخَاص على الْعَام فِي مبَاحث الْعَام مَا يعْطف عنان القَوْل إِلَى هَذِه الْأَمْثِلَة
وَأما مَسْأَلَة الْأَمر بالمطلق وَهِي مَسْأَلَة مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَأَنه يجب بِوُجُوبِهِ فقد أفادها قَوْلنَا
وَالْأَمر إِن وفا إِلَيْنَا مُطلقًا
من غير شَرط فَاتبع لَك البقا
…
محصلا مَا أَنْت مَأْمُور بِهِ
بِشَرْطِهِ الْمَقْدُور فلتنتبه
…
فَإِنَّهُ مَا لَا يتم الْوَاجِب
إِلَّا بِهِ فَمثله قد أوجبوا
اعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة ترجمها الأصوليون من الْفَرِيقَيْنِ بقَوْلهمْ مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا يجب كوجوبه وفيهَا أَمْرَانِ
الأول إِن الأولى أَن يُقَال مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ يجب بِدَلِيل أَصله فَإِنَّهُ مُرَادهم وَلم تفده عبارتهم
الثَّانِي قَوْلهم وَكَانَ مَقْدُورًا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِلَّا من يَقُول بِجَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا يقدر عَلَيْهِ والمعتزلة وَمن على رَأْيهمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَقد نبهنا على هَذَا فِي حَوَاشِي شرح الْغَايَة
هَذَا وَإِنَّمَا عدلنا فِي التَّرْجَمَة إِلَى قَوْلنَا وَالْأَمر إِلَخ من قَوْلهم مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ لِأَن تقييدهم للْوَاجِب بالمطلق حَيْثُ قَالُوا مَا لَا يتم الْوَاجِب الْمُطلق وفسروا الْإِطْلَاق بِمَا لَا يكون مُقَيّدا بِمَا يتَوَقَّف الْوُجُوب عَلَيْهِ قَالُوا فَخرج بقَوْلهمْ الْمُطلق الْمُقَيد بِمَا يتَوَقَّف الْوُجُوب على نَحْو ذَلِك إِن ملكت النّصاب وَحج إِن اسْتَطَعْت فالتقيد بذلك لَا يَقْتَضِي إِيجَاب تحصل ملك النّصاب وَشرط الِاسْتِطَاعَة فورد عَلَيْهِم أَنه لَا معنى لإِخْرَاج مَا ذكر لِأَنَّهُ لم يدْخل فَإِن الْكَلَام فِيمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ كَمَا هُوَ عنوان التَّرْجَمَة لَا فِيمَا لَا يتم الْوُجُوب إِلَّا بِهِ فَلم يدْخل حَتَّى يخرج بِخِلَاف قَوْلنَا وَالْأَمر فَإِنَّهُ شَامِل لَهما كَمَا لَا يخفى فَيكون للتَّقْيِيد فَائِدَة وَهُوَ قَوْلنَا مُطلقًا وَقَوْلنَا من غير شَرط بَيَان لِمَعْنى مُطلقًا
وَإِذا عرفت هَذَا فَالَّذِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وَيحصل الِامْتِثَال بِفِعْلِهِ قد يكون جُزْءا من الْمَطْلُوب كالسجود وَالرُّكُوع فِي الْأَمر بِالصَّلَاةِ فهذان يجبان
بِمَا وَجَبت بِهِ اتِّفَاقًا إِذْ هما من ماهيتها وَقد يكون خَارِجا عَنهُ وَذَلِكَ كالسبب وَالشّرط وهما مَحل الْخلاف فَفِيهِ أَقْوَال
الأول الَّذِي أَفَادَهُ النّظم وَهُوَ وجوب الْمُقدمَات الَّتِي لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بهَا بِمَا وَجب بِهِ السَّبَب وَالشّرط اللَّذَان هما الأَصْل فِي الطّلب قَالُوا سَوَاء كَانَ شرطا عقليا أَو عاديا أَو شَرْعِيًّا وَذَلِكَ كَالْوضُوءِ للصَّلَاة بعد الْعلم بِأَنَّهَا لَا تصح إِلَّا بِهِ فَإِذا ورد أَمر بِالصَّلَاةِ ساكتا عَن الْوضُوء وَجب الْوضُوء بإيجابها ثمَّ اخْتلفُوا هَل دلَالَته عَلَيْهِ تضمنية أَو التزامية ذهب إِلَى الأول إِمَام الْحَرَمَيْنِ واستبعد وَإِلَى الثَّانِي الْجُمْهُور وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ النّظم بقوله فَإِنَّهُ مَا لَا يتم إِلَى آخِره وَتَقْرِيره أَن إِيجَاب الشَّيْء يَقْتَضِي الْمَنْع من تَركه وَعدم إِيجَاب مَا لَا يتم حُصُوله على الْوَجْه الْمَطْلُوب إِلَّا بحصوله يَقْتَضِي جَوَاز تَركه وَالْفَرْض أَنه مُمْتَنع هَذَا خلف ودلالته عَلَيْهِ بطرِيق اللُّزُوم إِذْ طلب الْمَشْرُوط الَّذِي لَا يتم إيجاده إِلَّا بِوُجُود الشَّرْط يسْتَلْزم طلب الشَّرْط وَمثله السَّبَب يجْرِي فِيهِ هَذَا التَّقْرِير
الثَّانِي أَنه لَا يجب شَيْء من الْمُقدمَات لِأَن دَلِيل الْإِيجَاب سَاكِت عَنهُ
الثَّالِث يجب السَّبَب دون الشَّرْط وَهُوَ تَفْرِيق بِلَا دَلِيل
الرَّابِع يجب الشَّرْط الشَّرْعِيّ دون غَيره
وَقد أَطَالَ صَاحب الفواصل نَقله أَدِلَّة هَذِه الْأَقْوَال والردود عَلَيْهَا وَقد كُنَّا عِنْد عرضه رحمه الله لما يَكْتُبهُ من شَرحه علينا كتبنَا مَا لَفظه
اعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة طَالَتْ من غير طائل وَإِن أثبتها كل إِمَام فَاضل فَإِنَّهُ لَا يخفى أَن كَون الشَّرْط الشَّرْعِيّ لشَيْء شرطا وَالسَّبَب لَهُ سَببا لَا تثبت شرطيته وَلَا سببيته إِلَّا بِدَلِيل مُسْتَقل دَال على الشّرطِيَّة والسببية اتِّفَاقًا وَإِلَّا كَانَ من إِثْبَات مَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَإِذا قَامَ الدَّلِيل على ذَلِك لم نفتقر بعد ذَلِك إِلَى النّظر
فِي أَن دَلِيل الْمَشْرُوط والمسبب يَشْمَلهُ أَو لَا فَإِنَّهُ على تَقْدِير شُمُوله لَهُ لم يدل عَلَيْهِ إِلَّا بأضعف الدلالات وَقد أغنانا الله تَعَالَى بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح المطابقي عَن دَلِيل ضَعِيف لَا يعدل إِلَيْهِ كَمَا لَا يعدل إِلَى التُّرَاب مَعَ وجود المَاء فَإِنَّهُ غَايَة مَا فَصله بحث الأفاضل أَن دَلِيل الْإِيجَاب للْأَصْل يَشْمَلهُ إِيجَاب شَرطه وَسَببه بِدلَالَة الْإِشَارَة واللزوم فَمَا أقل جدوى هَذِه الأبحاث فَإِنَّهُ لَو لم يقم دَلِيل خَارج على الشّرطِيَّة والسببية مَا علمنَا للمطلوب شرطا وَلَا سَببا وَلذَا قَالُوا فِيمَا قدمنَا فِي الشَّرْط الشَّرْعِيّ كَالْوضُوءِ بعد الْعلم بِأَنَّهَا لَا تصح أَي الصَّلَاة إِلَّا بِهِ انْتهى
وَإِذا تكَرر هَذَا فَلَا حَاجَة إِلَى اسْتِيفَاء مَا قيل بل لَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا بالإيجاز فضلا عَن التَّطْوِيل وَقد أقره تلميذنا رَحمَه الله تَعَالَى فِي شَرحه فِي آخر الْبَحْث كَمَا رقمناه وَهَذِه مَسْأَلَة كَون الْأَمر بالشَّيْء نهيا عَن ضِدّه وَعَكسه وَالْخلاف فيهمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَا
…
وَلَا يكون الْأَمر نهيا ذكرا
…
عَن ضِدّه وَالنَّهْي لَيْسَ أمرا
…
اخْتلف فِي الْأَمر الْمعِين هَل يكون نهبا عَن ضِدّه الوجودي يعْنى المستلزم للترك لَا التّرْك مُطلقًا وَبِالْعَكْسِ وَلَا يتَوَهَّم أَن الْخلاف فِي لَفْظهمَا فَإِنَّهُ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمَا غيران للْقطع بِالْفرقِ بَين لَا تفعل وَافْعل وَلَا فِي مفهومهما بِمَعْنى أَن صِيغَة لَا تفعل مَوْجُودَة فِي افْعَل للْقطع بالتغاير أَيْضا وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي النَّهْي عَن ضِدّه الوجودي وَيدل عَلَيْهِ مثلا نَحْو لَا تسكن هَل هُوَ فِي قُوَّة تحركه وبعكسه سَوَاء كَانَ لَهُ ضد وَاحِد أَو مُتَعَدد وَلَا ريب انه إِذا قَالَ السَّيِّد لعَبْدِهِ قُم وَهُوَ قَاعد فاستمر على قعوده وَقَالَ لم تنه عَن الْقعُود لامه الْعُقَلَاء وعدوه عَاصِيا وعدوا الْوَلَد بذلك إِن أمره أَبوهُ عاقا وَهَذَا هُوَ الدَّلِيل على الَّذِي جَعَلُوهُ قَاضِيا بِأَن الْأَمر فِي الأَصْل للْإِيجَاب فَمَا لاموه وَحسن لومه عِنْد الْعُقَلَاء إِلَّا لِأَن أمره بِالْقيامِ يسْتَلْزم نَهْيه عَن الْقعُود وَلذَا قيدنَا ذَلِك بقولنَا ذكرا فَإِنَّهُ من حَيْثُ الذّكر لَيْسَ هُنَا نهي قطعا وَمَفْهُومه أَنه من حيثية أُخْرَى هِيَ الاستلزام
ثمَّ إِنَّه لَا يعزب عَنْك أَن مَحل الْخلاف فِي الْأَمر الفوري كَمَا صرح بِهِ جمَاعَة من الْمُحَقِّقين فينحصر فِي الْوَاجِب الْمضيق وَلم يُقيد النَّاظِم الْأَمر بالمعين لتبادره وَإِنَّمَا قَيده فِي الشَّرْح بالوجودي ليخرج بِهِ التّرْك مُطلقًا إِذْ لَا خلاف فِي أَن الْأَمر نهي عَن تَركه وَلَا شكّ فِي كَون التّرْك ضدا لَهُ وَلكنه غير مُرَاد فِي الْمقَام بل المُرَاد الضِّدّ الَّذِي يحصل مَعَه ترك الْمَأْمُور من الْأُمُور الوجودية لَا التّرْك مُطلقًا إِذْ لَا بُد من ملاحظته بِلَا خلاف
وَقد أَطَالَ فِي الفواصل بِذكر مَا فِي الْمَسْأَلَة من الْخلاف وَلَا حَاجَة إِلَى تَفْصِيله بعد ظُهُور الْأَقْوَى بدليله وَفِي نجاح المطالب إِن هَذِه الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة عَن القَوْل بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل لَا على القَوْل بِأَنَّهُ يَصح التَّكْلِيف بِنَفْي الْفِعْل
وَهَذِه إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة اخْتلف فِيهَا الْعلمَاء وَهِي هَل التَّكْلِيف فِي النَّهْي بِفعل أَو لَا فَقَالَ الْجُمْهُور بِالْأولِ وَإنَّهُ كف النَّفس وَقيل إِنَّه فعل مَا يضاده فَلَا تضرب مَعْنَاهُ إفعل مَا يضاد الضَّرْب وَأما القَوْل بِأَنَّهُ نفي الْفِعْل فَهُوَ عَائِد إِلَى الأول
وَاسْتدلَّ الْأَولونَ بِأَن التَّكْلِيف إِنَّمَا يتَعَلَّق بِمَا هُوَ مَقْدُور وَنفي الْفِعْل عدم وَهُوَ حَاصِل قبل توجه النَّهْي وَطلب تَحْصِيل الْحَاصِل محَال
وَأجِيب بِأَن الْمَطْلُوب اسْتِمْرَار ذَلِك الْعَدَم وَهُوَ اسْتِمْرَار وَاقِف على اخْتِيَار الْمُكَلف وَلَيْسَ هُوَ الْعَدَم الَّذِي كَانَ قبل توجه النَّهْي بل عدم مَخْصُوص يَصح أَن يتَوَقَّف على الِاخْتِيَار وَيتَعَلَّق بِهِ إِثْر قدرته فَإِن الْمُكَلف قَادر يتَمَكَّن من أَن لَا يفعل فيستمر الْعَدَم أَو يفعل فَلَا يسْتَمر فصح أَن الْعَدَم من هَذِه الْجِهَة إِثْر قدرته إِذْ الِاسْتِمْرَار الْمَوْقُوف على اخْتِيَاره لَيْسَ هُوَ الْعَدَم الَّذِي كَانَ قبل توجه النَّهْي بل هُوَ عدم مَخْصُوص مُتَوَقف على اخْتِيَاره فَلَيْسَ هُوَ عدما مَحْضا وَمن هُنَا تعرف أَنه لَا فرق بَين كَون مَطْلُوب النَّهْي الْكَفّ أَو نفي الْفِعْل إِذْ النَّفْي
المُرَاد هُوَ الْمَوْقُوف على اخْتِيَار الْفَاعِل وَلَا يكون إِلَّا بانتهائه وامتناعه عَنهُ وَقَوله
هَذَا الَّذِي رجح كل فَاضل
إِشَارَة إِلَى مَا سلف وَأَنه الرَّاجِح عِنْد أفاضل النظار
وَلما فرع النَّاظِم من بَاب الْأَمر أَخذ فِي النَّهْي فَقَالَ
فصل وحد النَّهْي قَول الْقَائِل
…
لغيره لَا تفعلن مستعليا
قد تبين لَك فَوَائِد الْقُيُود مِمَّا قدمْنَاهُ فِي شرح رسم الْأَمر فَلَا نكرره
يكره مَا عَنهُ نهي مقتضيا
ضمير يكره عَائِد على الْقَائِل وَهُوَ النَّهْي وَهُوَ بَيَان لعِلَّة النَّهْي وَإِنَّهَا كَرَاهَة هَيْئَة إِيقَاع الْمنْهِي عَنهُ وَهُوَ لَا يَخْلُو عَن فَائِدَته وَكَانَ غير مُحْتَاج إِلَيْهِ قَوْلهم مقتضيا حَال من النَّهْي أَو من لَا تفعلن وَقَوْلنَا
مطلقه الدَّوَام لَا الْمُقَيد
هُوَ فَاعل مقتضيا وَلَا الْمُقَيد عطف على مطلقه وَالْكل إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَتَيْنِ
الأول اقْتِضَاء النَّهْي الدَّوَام وَأَنه يُخَالف الْأَمر فِي ذَلِك فَإِنَّهُ تقدم اخْتِيَار أَن الْأَمر لَا يدل على التّكْرَار والفور بِخِلَاف النَّهْي الْمُطلق فَإِنَّهُ دَال على الدَّوَام الْمُخْتَار وَإِذا دلّ عَلَيْهِ اقْتِضَاء التّكْرَار والفور وَاقْتصر على التَّعْبِير بالدوام لإغنائه عَن التَّصْرِيح بالتكرار فَإِن اقْتِضَاء الدَّوَام يلْزمه إِفَادَة التّكْرَار والفور وَلم يقل دَالا عوضا عَن مقتضيا إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك من ضَرُورَة النَّهْي ولازمه لَا أَنه من صيغته أَلا ترى إِذا قلت لزيد لَا تُسَافِر فقد منعته من إِدْخَاله مَاهِيَّة السّفر فِي الْوُجُود فَلَا يتَحَقَّق امتثاله إِلَّا بِعَدَمِ إِتْيَانه بِجَمِيعِ
مَا يصدق عَلَيْهِ مَاهِيَّة السّفر فَلَو وَقع فِي الْخَارِج أَي فَرد من ذَلِك كَانَ مُخَالفا لمقتضاه نَهْيه وَلَا يخفى أَنه من الدّلَالَة الالتزامية وَهِي عقلية عِنْد الْجُمْهُور وَلذَا قُلْنَا مقتضيا وَلم نقل دَالا من الدّلَالَة اللفظية وَمن جعله مِنْهَا عبر بدالا
فَإِن قيل النَّهْي الْمُطلق يعم الْأَزْمَان والاحوال جَمِيعًا فَلَا يُفِيد الدَّوَام إِذْ الِامْتِنَاع فِي الْجُمْلَة يُحَقّق الِامْتِثَال بصدقه بِأَنَّهُ قد امْتنع عَنهُ وَأما دوَام الِامْتِنَاع فَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ لَو قيد بالدوام قُلْنَا صِيغَة لَا تُسَافِر فِي قُوَّة لَا تُوجد سفرا فَهُوَ فِي معنى النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم كَمَا يَأْتِي
وَقد اسْتدلَّ ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه بِالْإِجْمَاع فَإِنَّهُ لَا يزَال الْعلمَاء يستدلون بِالنَّهْي على التّرْك مَعَ اخْتِلَاف الْأَوْقَات لَا يخصونه بِلَفْظ دون لفظ وشاع بَينهم وذاع وَلم يُنكر فَكَانَ إِجْمَاعًا وَلَوْلَا أَنه يَقْتَضِي الدَّوَام لما صَحَّ ذَلِك
وَاعْلَم أَن هَذَا مُخْتَار الْجُمْهُور للدليل الَّذِي عَرفته وَذهب الْأَقَل إِلَى أَن النَّهْي لَا يَقْتَضِي الدَّوَام إِلَّا بِقَرِينَة ثمَّ اخْتلفُوا أَيْضا فَقيل إِنَّه كالأمر فِي اقْتِضَاء الْمرة وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ قد يُرَاد بِهِ التّكْرَار نَحْو {وَلَا تقربُوا الزِّنَى} وَقد يُرَاد بِهِ الْمرة كَمَا يَقُول الطَّبِيب لمريض شرب الدَّوَاء لَا تشرب المَاء وَلَا تَأْكُل اللَّحْم أَي فِي هَذِه السَّاعَة قَالُوا وَالْأَصْل فِي الِاسْتِعْمَال الْحَقِيقَة فَيكون النَّهْي حَقِيقَة فِي الْقدر الْمُشْتَرك ورد بِأَن مَا ذكرْتُمْ من الْمِثَال إِنَّمَا اقْتضى عدم التّكْرَار وجود الْقَرِينَة فَهُوَ مجَاز وَمَعَ ظُهُور الْقَرِينَة يتَعَيَّن الْحمل عَلَيْهِ وَإِلَّا لامتنع وجود الْمجَاز وَاسْتدلَّ الْجلَال فِي شرح الْفُصُول لِلْقَوْلِ الْمَرْجُوح بِأَن النَّهْي لدفع الْمفْسدَة فِي الْفِعْل والمفاسد كالمصالح تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال والأشخاص وَإِلَّا لما جَازَ نسخ المناهي وَلَا تَبْدِيل الشَّرَائِع وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُدعى أَنه يَقْتَضِي الدَّوَام الْبَتَّةَ حَتَّى
يُمكن التبديل والتحويل بل ذَلِك بِحَسب ظَاهره فَلَا يُنَافِيهِ النّسخ لاخْتِلَاف الْأَحْوَال والأزمان بل قد يُقَال هَذَا النّسخ والتبديل دَال على اقْتِضَاء النَّهْي الدَّوَام هَذَا كُله فِي النَّهْي الْمُطلق
وَقَوْلنَا لَا الْمُقَيد إِشَارَة إِلَى الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَهِي أَن النَّهْي يكون مُطلقًا كَمَا عرفت ومقيدا بِشَرْط أَو صفة وَنَحْو ذَلِك فَإِذا قيد لم يقتض الدَّوَام نَحْو لَا تكرم زيدا إِن كَانَ جَاهِلا وَلَا تهن الْعَالم وَاخْتلف الْعلمَاء أَيْضا هُنَا فَمَال جمَاعَة كَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ وَالْمهْدِي فِي المعيار إِلَى هَذَا وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الْمُقَيد يُفِيد الدَّوَام أَيْضا إِذْ التَّقْيِيد لَا يُخرجهُ عَن مُقْتَضى وَضعه وَفِي شرح المعيار للمهدي مَا يَقْتَضِي أَنه اخْتَار هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ وَالْأَقْرَب عِنْدِي فِي الْمُطلق أَنه يَقْتَضِي التَّأْبِيد من جِهَة اللفة كَمَا تقدم تَحْقِيقه وَأما الْمُقَيد فَالْأَقْرَب أَن الشَّرْط إِذا تضمن معنى التَّعْلِيم اقْتضى معنى الدَّوَام نَحْو لَا تدخل الْحمام ان لم يكن صعك مئزر فَإنَّا نفهم ان الْعلَّة فِيهِ هُوَ كَرَاهَة كشف الْعَوْرَة فيستمر ذَلِك مهما حصلت الْعلَّة وان لم يفهم معنى التَّعْلِيم نَحْو لَا تدخل الْمَسْجِد إِن كَانَ زيد فِي الدَّار اعْتمد على مَا فهم من مقصد الشارط فَإِن لم يفهم شَيْئا فَالظَّاهِر الدَّوَام كالمطلق إِذْ تَقْدِيره لَا يكن مِنْك إِيجَاد دُخُول الْمَسْجِد وَزيد فِي الدَّار وَهَذَا يَقْتَضِي عُمُوم الْأَوْقَات فَكَذَلِك مَا فِي مَعْنَاهُ وَهَذَا التَّفْصِيل عَائِد إِلَى تَصْحِيح مَا قَالَه الْأَكْثَر من أَنه للدوام إِلَّا لقَرِينَة انْتهى وَالَّذِي قَالَه الْجُمْهُور هُوَ الْأَظْهر لِأَن التَّقْيِيد لَا يُخرجهُ عَن الدَّوَام وَأما المثالان الْمَذْكُورَان فَإِن النَّهْي فيهمَا لَا يَقْتَضِي الدَّوَام بل هُوَ مقرون بِوُجُود الْعلَّة الَّتِي عللت عَلَيْهِ
.. وَهُوَ على الْقبْح دَلِيل يوحد
…
هَذِه مَسْأَلَة أَن النَّهْي يدل على قبح الْمنْهِي عَنهُ فكلمة على مُتَعَلقَة بِدَلِيل وَهُوَ معنى أَنه للتَّحْرِيم وَلذَا عبرنا بالقبح لِأَن الْكَلَام فِي مُقْتَضَاهُ لُغَة كَمَا ستعرفه من دَلِيل هَذَا القَوْل بِخِلَاف التَّحْرِيم فَهُوَ شَرْعِي وَإِن كَانَ هُوَ لَا بُد لَهُ لَكِن الْكَلَام فِي مُقْتَضَاهُ لُغَة وَكَونه للقبح هُوَ كَلَام الْجُمْهُور مستدلين بذم الْعُقَلَاء من أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ إِذْ العَبْد خَالف نهي سَيّده وَإِجْمَاع السّلف على الِاسْتِدْلَال للتَّحْرِيم بِمُجَرَّد النَّهْي إِذا تجرد عَن الْقَرَائِن وَتقدم تَحْقِيقه فِي بحث الْأَمر
وَقيل بل النَّهْي حَقِيقَة فِي الْكَرَاهَة توهما من قَائِله أَنه إِنَّمَا يدل على مرجوحية ترك النَّهْي عَنهُ لَا على سَبِيل التحتم وَهَذَا لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيم وَجَوَابه أَن الذَّم من خَصَائِص الْقبْح وَالْمَكْرُوه لَا ذمّ على من أَتَاهُ وَلِأَن السَّابِق إِلَى فهم اللِّسَان الْعَرَبِيّ بِحَسب الظَّاهِر عِنْد التجرد عَن الْقَرَائِن هُوَ الْقبْح المستلزم للذم وَمن ثمَّ يسْتَدلّ بِهِ على التَّحْرِيم وَقيل مُشْتَرك بَينهمَا لاشْتِرَاكهمَا فِي رُجْحَان التّرْك فَجعله لأَحَدهمَا دون الآخر تحكم ورد بِمَا سمعته قَرِيبا
…
فِي ذَلِك الْمنْهِي لَا الْفساد
…
وَاخْتَارَ ذَا جمع من النقاد
…
وَقَوْلنَا فِي ذَلِك الْمنْهِي يتَعَلَّق بيوجد أَي يُوجد الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ بِعَيْنِه وَقَوله لَا الْفساد عطف على الْقبْح أَي لَا أَنه دَلِيل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ وَهَذِه مَسْأَلَة أَن النَّهْي هَل يدل على فَسَاد الْمنْهِي أَو لَا وَهِي مَسْأَلَة خلاف بسيطة التقاسيم والأطراف وَالَّذِي فِي النّظم أَنه عِنْد نقاد الْعلمَاء لَا يدل النَّهْي على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ فِي الْعِبَادَات وَلَا الْمُعَامَلَات وَهَذَا القَوْل ذهب إِلَيْهِ جمَاعَة وَنقل عَن أَكثر أهل الْأُصُول ودليلهم أَنهم قَالُوا معنى الصِّحَّة فِي الْعِبَادَات أَنَّهَا فعلت على وَجه لايجب مَعَه الْقَضَاء وَمعنى الْفساد فِيهَا وجوب قَضَائهَا لفعلها على غير ذَلِك الْوَجْه
وَأما فِي الْمُعَامَلَات فَمَعْنَى الصِّحَّة حُصُول الْملك ونفوذ التَّصَرُّف فِيهَا على جَمِيع الْوُجُوه وَالْفساد بعكس ذَلِك قَالُوا وَمَعْلُوم أَن النَّهْي لَا يدل على شَيْء من تِلْكَ الْأَحْكَام وَإِنَّمَا يدل على كَون الْمنْهِي عَنهُ قبيحا ومكروها ومحظورا وكل هَذِه الْأَلْفَاظ لَا تَقْتَضِي الْفساد وَأجِيب عَنهُ بسؤال الاستفسار وَهُوَ مَا مرادكم بِنَفْي دلَالَته على الْفساد هِيَ بالمطابقة أَو التضمن فَمُسلم وَإِن أردتم بالالتزام فَمَمْنُوع على أَنكُمْ قد سلمتم أَنه يدل على أَنه مَحْظُور والمحظور مَمْنُوع عَنهُ شرعا وكل مَمْنُوع مِنْهُ غير صَحِيح ضَرُورَة أَن الصَّحِيح مَأْمُور بِهِ لَا مَمْنُوع عَنهُ فالممنوع عَنهُ فَاسد
وَذهب جمَاعَة كَأبي طَالب وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة والمالكية والظاهرية إِلَى أَنه يدل على الْفساد مُطلقًا مستدلين بِأَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ لم يزَالُوا يستدلون بِالنَّهْي على فَسَاد كل مفعول قد نهى عَنهُ الشَّارِع من عبَادَة ومعاملة مستدلين بِأَن الشَّارِع نهى عَنهُ فِي مثل {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا} والأنكحة مثل {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} والبيوع لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا تصل حَائِض إِلَّا بخمار وَغير ذَلِك فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُم كَمَا سبق نَظِيره فِي الِاسْتِدْلَال على حجية الْإِجْمَاع وَكَون الْأَمر للْوُجُوب وَبِأَنَّهُ لَو لم يدل على الْفساد لزم من نَفْيه حكمه للنَّفْي يدل عَلَيْهَا النَّهْي وَمن ثُبُوته حكمه للصِّحَّة تدل عَلَيْهَا الصِّحَّة فَمَعَ تَسَاوِي الحكمتين أَو مرجوحية حكمِيَّة النَّهْي يمْتَنع النَّهْي لخلوه عَن الْحِكْمَة لتساقط الحكمتين مَعَ التَّسَاوِي وَسُقُوط الْحِكْمَة المرجوحة
إِلَيْهَا أَيْضا مَعَ الراجحة وَمَعَ رُجْحَان حكم النَّهْي يمْتَنع الصِّحَّة
وَهَذَا القَوْل يظْهر أَنه أرجح من الأول وَمن غَيره من التفاصيل الْمَعْرُوفَة فِي كتب الْأُصُول وَيُؤَيّد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ كل عمل لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد وَمَعْلُوم أَن الْمنْهِي عَنهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أمره صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مَرْدُود من عبَادَة ومعاملة وكل مَرْدُود لَا نُفُوذ لحكمه فَهَذَا هُوَ الْحق وَقد تقوم قَرَائِن تصرف عَن الْمُقَرّر فَلَا تنافيه
وَلما انْتهى لنا القَوْل فِي الْبَاب الْخَامِس أَخذنَا فِي الْبَحْث فِي الْبَاب السَّادِس فَقُلْنَا