المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الباب الثامن في النسخ - أصول الفقه إجابة السائل شرح بغية الآمل

[الصنعاني]

الفصل: ‌ الباب الثامن في النسخ

- صلى الله عليه وسلم َ -‌

‌ الْبَاب الثَّامِن فِي النّسخ

قَالَ

والنسخ عد ثامن الْأَبْوَاب

النّسخ لُغَة يُطلق على الْإِزَالَة نَحْو نسخت الشَّمْس الظل وعَلى النَّقْل والتحويل نَحْو نسخت الْكتاب

وَفِي الِاصْطِلَاح قيل إِنَّه بَيَان لانْتِهَاء مُدَّة الحكم وَقيل رفع الحكم وعَلى هَذَا وَقع تَعْرِيف النَّاظِم بقوله

ورسمه عِنْد أولي الْأَلْبَاب

إِزَالَة لمثل حكم شَرْعِي

بِمَا ترَاخى من دَلِيل سَمْعِي

أَي رسم النّسخ عِنْد ذَوي الْعُقُول هُوَ إزلة لمثل حكم شَرْعِي بِدَلِيل متراخ سَمْعِي وَقَالَ لمثل وَلم يقل عينه لِأَن إِزَالَة الْعين فِيمَا نسخ بعد فعلهمَا محَال بل الْمَنْسُوخ هُوَ مثله

وَقَوله شَرْعِي لإِخْرَاج الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة الثَّابِتَة قبل وُرُود الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإِن ارتفاعها بهَا لَيْسَ بنسخ اصطلاحي وَقَوله بِمَا ترَاخى من دَلِيل سَمْعِي لإِخْرَاج إِزَالَة الحكم بِمَوْت أَو جُنُون فَإِنَّهُ لَا يعد نسخا اصْطِلَاحا وَقَيده بالتراخي لإِخْرَاج نَحْو صل إِلَى أَن تغيب الشَّمْس فَإِن ارْتِفَاع الحكم مُسْتَفَاد

ص: 367

من التَّقْيِيد بالغاية وَهُوَ مُتَّصِل بِالدَّلِيلِ لَيْسَ فِيهِ تراخ عَنهُ وَكَذَا غَيره من المخصصات الَّتِي لَا تراخي فِيهَا وَإِن كَانَ قد قيل إِنَّه لَا إِزَالَة فِي التَّخْصِيص مثلا فَلَيْسَ بداخل فَإِن الْمُخَصّص للدَّفْع والنسخ للرفع والإزالة فَفِيهِ تَأمل

وَقَوله بِدَلِيل وَلم يقل بِحكم لِأَنَّهُ قد يكون النّسخ إِلَى غير بدل

وَقَوله من دَلِيل سَمْعِي شَامِل للْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَيَأْتِي أَنه لَا ينْسَخ بهما وَقد شَمل التَّعْرِيف أَنْوَاع السّنة الثَّلَاثَة

وَلما كَانَ قد خَالف فِي النّسخ جمَاعَة من غلاة الإمامية أَشَارَ إِلَى رد كَلَامهم بقوله

وَجَائِز ذَلِك فِيمَا اخْتَارُوا

وَإِن يكن مَا قدم الْإِشْعَار

هما مَسْأَلَتَانِ

الأولى جَوَاز النّسخ وَاسْتدلَّ على جَوَازه بِوُقُوعِهِ لم تتبع الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَمن ذَلِك وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء نسخ بِإِيجَاب رَمَضَان وَوُجُوب قتال الْوَاحِد الْعشْرَة من الْكفَّار ثمَّ نسخ بإيجابه عَلَيْهِ للاثنين وَوُجُوب الْوَصِيَّة للْوَارِث نسخ بِآيَة الْمَوَارِيث وَغير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده وَقد صنفت فِيهِ كتب مُسْتَقلَّة فالمنكر للنسخ من الْمُسلمين إِمَّا جَاهِل أَو مُخَالف فِي الْعبارَة وَإِنَّمَا يعرف فِيهَا الْخلاف للْيَهُود

وَاسْتدلَّ لمن نَفَاهُ من الْمُسلمين بِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون الحكم مُقَيّدا إِلَى غَايَة فَلَا ينْسَخ لعدم تحقق الرّفْع فِيهِ أَو لحكمة ظَهرت بعد أَن لم تكن فَهُوَ جهل أَولا لحكمه فَهُوَ سفه وبدا وَأجِيب عَن الأول بِأَنَّهُ عَاد الْخلاف لفظيا فَإنَّا لَا نعني بِزَوَال الحكم إِلَّا بِالنّظرِ إِلَى علمنَا وَإِلَّا فَهُوَ مُقَيّد فِي علم الشَّارِع إِلَى غَايَة أبرزها عِنْد نسخه الحكم وَعَن الثَّانِي أَنه قد تقرر عِنْد الْكل أَن الْأَحْكَام كلهَا منوطة بالحكم والمصالح إِلَّا أَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال والأزمان والأشخاص فَالْحكم الْمَنْسُوخ كَانَ لحكمة انْتَهَت فِي علم الشَّارِع إِلَى

ص: 368

زمن نسخه ثمَّ خلفهَا حِكْمَة أُخْرَى تَقْتَضِي حكما آخرا فَلَا سفه وَلَا بدا وَالْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَنه يجوز النّسخ وَإِن لم يتَقَدَّم بِهِ إِشْعَار وَهَذَا رَأْي الْجُمْهُور وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يجوز إِلَّا إِذا تقدم بِهِ إِشْعَار نَحْو قَوْله تَعَالَى {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا يتم دَعْوَى الْإِشْعَار فِي كل حكم حكم الله بِنَفسِهِ

وَنسخ مَا قيد بالتأبيد

وَغير إِبْدَال لذِي الْمُفِيد

عطف على قَوْله وَجَائِز أَي وَجَائِز نسخ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ نسخ الحكم الَّذِي قيد بالتأيد والنسخ لحكم لَا إِلَى بدل وهما مَسْأَلَتَانِ اخْتلف الْعلمَاء فيهمَا اخْتِلَافا كثيرا

فَالْأولى مثلوها بِنَحْوِ أَن يَقُول صُومُوا رَمَضَان أبدا فالجمهور قَائِلُونَ بِأَنَّهُ يجوز نسخه وَاسْتَدَلُّوا بِأَن التَّقْيِيد بالتأبيد لَيْسَ نصا صَرِيحًا فِي الدَّوَام غَايَته أَنه ظَاهر فِيهِ وَهُوَ لانيا فِي النّسخ كَمَا قُلْنَا فِي صِيغ الْعُمُوم أَن ظَاهرهَا الِاسْتِغْرَاق مَعَ جَوَاز إِخْرَاج بعض أفرادها فَكَذَا هُنَا يجوز إِخْرَاج بعض الْأَزْمِنَة وَإِن كَانَ التَّقْيِيد بالأبد ظَاهرا فِي الدَّوَام

قَالَ الْمَانِع صِحَة الْأَقَل التَّقْيِيد بالأبد يُنَافِي النّسخ لِأَن التَّقْيِيد بِهِ يدل على الدَّوَام والنسخ يدل على الْقطع وانتهاء الحكم وَكَون الشَّيْء دَائِما مُنْقَطِعًا تنَاقض لَا يجوز على الْحَكِيم

وَأجِيب بِأَنَّهُ بِالنّظرِ إِلَى ظَاهر لفظ الْأَبَد مُسلم وَلَا يضر كمنافاة التَّخْصِيص لظَاهِر الْعُمُوم وَلِأَن لفظ الْأَبَد يسْتَعْمل فِي الزَّمن الطَّوِيل كَمَا نَص عَلَيْهِ أهل اللُّغَة وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ الْأَبَد نصا صَرِيحًا يدل على أَنه للاستمرار فِي نفس الْأَمر وَحَقِيقَة الْخطاب فَلَا يُنَافِيهِ النّسخ وَفِي المطولات تقاسيم فِي الْمَسْأَلَة وإطالة وَهِي قَليلَة الجدوى فَلَا نشتغل بهَا

ص: 369

تَنْبِيه بقولنَا صُومُوا إِشَارَة إِلَى أَن الْخلاف فِي نسخ الْإِنْشَاء وَأما نسخ الْأَخْبَار فقد اخْتلف فِي جَوَاز نسخه فَقيل لَا يجوز وتفصيل الْبَحْث أَن الْخَبَر إِمَّا أَن يكون مِمَّا يتَغَيَّر مَدْلُوله كالإخبار بِإِيمَان زيد وكفره أَو مِمَّا لَا يتَغَيَّر نَحْو الْعَالم حَادث والباري مَوْجُود وَالنَّار محرقة فالنسخ هُنَا يكون بأمرين

الأول أَن يَأْمر الشَّارِع بالإخبار بحدوث الْعَالم أَو بِإِيمَان زيد ثمَّ ينْهَى عَن الْإِخْبَار بذلك فَهُوَ جَائِز بِلَا خلاف

وَهل يجوز النّسخ إِلَى الْإِخْبَار بنقيض مَا ذكر مَنعه من قَالَ بالتحسين والتقبيح لِأَنَّهُ أَمر بِالْكَذِبِ وَجوزهُ نفاتهما وَالتَّحْقِيق أَنه لَا يَقع النّسخ فِي الْخَبَر إِلَّا بتأويله بالانشاء وَحِينَئِذٍ فَلَا خلاف

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مَا أَشَارَ النّظم إِلَيْهِ قَوْله إِلَى غير بدل وَأَنه قَول من لَهُم الإفادة وهم الْجُمْهُور وَقَالُوا يجوز إِلَى غير بدل بل قد وَقع وَخَالف فِيهِ طَائِفَة وَدَلِيل الْجُمْهُور أَنه لَو لم يجز لم يَقع وَقد وَقع كفسخ وَخَالف وجوب الصَّدَقَة فَإِنَّهَا نُسْخَة لَا إِلَى بدل اسْتدلَّ الْمَانِع بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة} الْآيَة فَإِنَّهُ أخبر تَعَالَى أَنه يَأْتِي بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا فَدلَّ على أَنه لَا ينْسَخ إِلَّا إِلَى بدل هُوَ خير من الْمَنْسُوخ أَو مثله وَأجِيب بِأَن المُرَاد بِلَفْظ خير مِنْهَا لَا يحكم خير وَلَيْسَ الْخلاف فِي اللَّفْظ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الحكم وَلَا تدل عَلَيْهِ الْآيَة

قلت وَلَا يخفى أَن اللَّفْظ الَّذِي يُبدل بِهِ الْمَنْسُوخ لَا بُد أَن يكون دَال على حكم أَقَله ندب تِلَاوَته وقراءته وَأما آيَة نسخ الصَّدَقَة الَّتِي اسْتدلَّ بهَا الْجُمْهُور فَإِنَّهُ قد أُجِيب بِأَن الْحَث على الصَّدَقَة وَالتَّرْغِيب فِيهَا ثَابت بِدَلِيل عَام فَلَو أَرَادَ المناجي تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي نَجوَاهُ لَكَانَ دَاخِلا لذَلِك الدَّلِيل الْعَام غَايَته

ص: 370

أَنه وَقع النّسخ من وجوب التَّصَدُّق إِلَى نَدبه وَهُوَ حكم فَالظَّاهِر فِي الْمَسْأَلَة مَعَ الْأَقَل

كَذَا أخف الحكم بالأشق

كالعكس فَاتبع مَا إِلَيْك ألقِي

أَي وَكَذَا يجوز نسخ الحكم الأخف بالأشق وَعَكسه الأشق بالأخف فنسخ الأشق بالأخف كوجوب مصابرة وَاحِد لعشرة إِلَى وجوب مصابرته للاثنين وَنسخ عدَّة الْوَفَاة بالحول إِلَى أَرْبَعَة أشهر وَعشر وَكَذَا بالمساوى كنسخ الِاسْتِقْبَال هَذَانِ لَا خلاف فيهمَا وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الطّرف الأول وَهُوَ نسخ الأخف بالأشق فالجمهور على جَوَازه ووقوعه وَخَالف فِيهِ بعض الظَّاهِرِيَّة وعزي إِلَى الشَّافِعِي وَدَلِيل الْجُمْهُور أَنه قد وَقع وَلَا مَانع عَنهُ فِي الْحِكْمَة وَذَلِكَ فِي نسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان وَاسْتدلَّ الْمَانِع بقوله تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم}

قَالَ والنسخ إِلَى الأثقل لَيْسَ بِيَسِير وَلَا تَخْفيف وَأجِيب بِأَنَّهُ قد وَقع ذَلِك فَيتَعَيَّن حمل الْآيَة على أَن المُرَاد باليسر وَالتَّخْفِيف فِي الشَّرِيعَة من أَصْلهَا فَإِنَّهَا الحنيفية السمحة السهلة الخالية عَن الأغلال والآصار وَإِن وَقع فِيهَا نسخ أخف بأثقل فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْيُسْر وَالتَّخْفِيف فِي الْجُمْلَة

قَوْله

وَنسخ مَا يُتْلَى بِدُونِ الحكم

وَالْعَكْس أَو كليهمَا عَن علم

هَذِه مَسْأَلَة نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَالْعَكْس نسخ الحكم دون التِّلَاوَة أَو الْكل فَهِيَ ثَلَاث صور كلهَا فِي الْكتاب الْعَزِيز وَفِي كل سُورَة خلاف وَالْحق مَعَ الْجُمْهُور كَمَا فِي النّظم لوُقُوعه فِي الثَّلَاثَة الْأَقْسَام

أما الأول فكحديث عمر الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِي وَغَيره لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله لكتبتها الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا

ص: 371

الْبَتَّةَ فَإنَّا قد قرأناها وَرُوِيَ عَن غَيره من الصَّحَابَة فَهَذَا مَنْسُوخ التِّلَاوَة دون الحكم

وَأما الثَّانِي فآية الصَّدَقَة عِنْد النَّجْوَى وَآيَة اعْتِدَاد الْحول فَإِنَّهُ قد نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة

وَأما الثَّالِث فَمَا رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة كَانَ فِيمَا أنزل عشر رَضعَات مُحرمَات ثمَّ نسخ بِخمْس مَعْلُومَات فَتوفي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهِي فِيمَا يقْرَأ من الْقُرْآن وَهَذَا صَرِيح بِأَنَّهَا قُرْآن كَمَا أَن قَول عمر قرأناها صَرِيح فِي القرآنية وَمَا قيل من أَن شَرط الْقُرْآن التَّوَاتُر وَهَذِه الْمثل بهَا آحادية فَلَا يتم أَنه من نسخ الْقُرْآن إِذْ الْقُرْآن هُوَ الْمُتَوَاتر فقد أُجِيب عَنهُ بِأَن شَرْطِيَّة التَّوَاتُر فِيمَا أثبت الدفتين وَأما الْمَنْسُوخ فَلَا نسلم ذَلِك بِأَن الْمَقْصُود فِيمَا ذَكرْنَاهُ ثُبُوت النّسخ لما كَانَ قُرْآنًا لَا ثُبُوت قرآنيته بذلك وَلَا يخفى ضعف الْجَواب الآخر وَبِالْجُمْلَةِ فعلى قَاعِدَة الْجُمْهُور يضعف الِاسْتِدْلَال على نسخ الْقُرْآن تِلَاوَة سَوَاء كَانَ حكمه بَاقٍ أم لَا لعدم تقر قرآنية مَا جهلوه دَلِيلا ومثالا

وينسخ الأَصْل مَعَ الْمَفْهُوم

مُوَافقا وَالْأَصْل فِي الْعُلُوم

بِدُونِهِ وَعَكسه فِيمَا علا

فحوى الْخطاب فَاتبع نهج الْهدى

هَذَا بَيَان لما وَقع فِي الْخلاف من نسخ الْمَفْهُوم للموافقة بقسميه أَعنِي الفحوى والمساوي وَلَا خلاف عِنْد الْعلمَاء أَنه يجوز نسخ الأَصْل وَالْمَفْهُوم مَعًا

ص: 372

وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْله وينسخ الأَصْل من الْمَفْهُوم مُوَافقا إِنَّمَا اخْتلفُوا هَل يجوز نسخ الأَصْل مَعَ بَقَاء الْمَفْهُوم كنسخ التأفيف بِدُونِ الضَّرْب وَعَكسه أَو يفصل فِي ذَلِك فِيهِ أَقْوَال

الْمَنْع مُطلقًا وَهُوَ قَول الْأَكْثَر

الْجَوَاز مُطلقًا

وَنسخ الأَصْل بِدُونِ الْمَفْهُوم لَا الْعَكْس وَهَذَا هُوَ الثَّالِث

الرَّابِع أَنه يجوز نسخ الأَصْل بِدُونِ الفحوى فِي الأولى وَألا يكون أولى ففيهما أَي جَوَاز النّسخ فِي كل وَاحِد من الأَصْل ولفحوى مَا بَقَاء الآخر وَهَذَا مَذْهَب الإِمَام يحيى والحفيد وَالشَّيْخ أَحْمد الرصاص

الْخَامِس الْجَوَاز فِي الفحوى مَعَ بَقَاء الأَصْل لَا الأَصْل مَعَ بَقَاء الفحوى إِلَّا بِدَلِيل آخر وَهَذَا اخْتِيَار الْفَقِيه عبد الله بن زيد المدحجي قَالُوا وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن ارْتِفَاع التَّحْرِيم فِي الضَّرْب يلْزم مِنْهُ ارْتِفَاع التَّحْرِيم فِي التأفيف بطرِيق الأولى فَلَا يجوز رفع التَّحْرِيم فِي الضَّرْب دون التأفيف لمُخَالفَة مَا هُوَ الأولى وَهُوَ قَطْعِيّ الدّلَالَة ولغير هَذَا القَوْل أَدِلَّة لَا تَخْلُو عَن المناقشة وَهَذَا فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة

وَأما مَفْهُوم الْمُخَالفَة فالمختار جَوَاز النّسخ كل مِنْهُمَا لِأَن تبعيته للْأَصْل من حَيْثُ دلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ مَعَه لَا من حَيْثُ ذَاته فَإِذا زَالَ الأَصْل لموجب

ص: 373

لم نسلم زَوَال الْمَفْهُوم وَإِلَّا لزم ذَلِك فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة وَهُوَ خلاف مَا قرر آنِفا وَلَا فرق بَينهمَا إِلَّا بِأَن ذَلِك الحكم أقوى فِي الدّلَالَة من حَيْثُ التلازم وَلَكِن مُجَرّد الْقوي لَا يسْقط الأضعف وَهُوَ دلَالَة مَفْهُوم الْمُخَالفَة عِنْد معتبريه

مِثَال نسخ الْمَفْهُوم مَعَ بَقَاء أَصله حَدِيث إِنَّمَا المَاء من المَاء فَإِنَّهُ نسخ مَفْهُومه وَهُوَ أَنه لَا غسل عِنْد عدم الْإِنْزَال حَدِيث إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل وَمِثَال نسخهما مَعًا أَن يُقَال فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة ثمَّ بعد مُضِيّ إِمْكَان الْفِعْل يُقَال لَا زَكَاة فِي السَّائِمَة وَلَا المعلوفة وَمِثَال نسخ الأَصْل دون الْمَفْهُوم أَن يُقَال فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة ثمَّ يرد النّسخ بِأَنَّهُ لَا زَكَاة فِي السَّائِمَة فَمن قَالَ بِأَنَّهُ يكون نسخا للمفهوم يَقُول قد بَطل الأَصْل الَّذِي تفرع على دلَالَته الْمَفْهُوم فَيبْطل الْمَفْهُوم وَمن منع من ذَلِك يَقُول بل دَلِيل الْمَفْهُوم بَاقٍ لم يزل من حَيْثُ الدّلَالَة اللفظية وَلَكِن مَفْهُوم النّسخ إِذا عَارض مَفْهُوم الْمَنْسُوخ كَانَ من تعَارض الدَّلِيلَيْنِ إِذا وجد مُرَجّح عمل بالأرجح فَفِي الْمِثَال الْمَذْكُور يرجح مَفْهُوم الأَصْل الْمَنْسُوخ للبراءة الْأَصْلِيَّة لِأَنَّهُ يدل على أَنه لَا زَكَاة فِي المعلوفة وَمَفْهُوم النّسخ يدل على أَن فِيهَا زَكَاة وَمن يرجح النَّاقِل عَن الأَصْل قَالَ بِالْعَكْسِ هَذَا فِي نسخ الْمَفْهُوم فَأَما النّسخ بِهِ فَقيل لَا ينْسَخ بِهِ لضعف دلَالَة

ص: 374

الْمَفْهُوم فَلَا يقوى على نسخ الأَصْل وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ فِي جمع الْجَوَامِع

وَلَا يجوز قبل إِمْكَان الْعَمَل

نسخ لما كَانَ خلافًا للأقل

هَذِه مَسْأَلَة النّسخ قبل الْإِمْكَان من مشاهير مسَائِل الْخلاف بَين ذَوي الاتقان وَذَلِكَ كَأَن يَأْتِي من الشَّارِح أَمر بِفعل شَيْء ثمَّ ينسخه قبل دُخُول وقته أَو بعده وَلم يمض مِنْهُ مَا يَتَّسِع للْعَمَل بِمَا أَمر بِهِ فَرَأى الْجُمْهُور من الْعلمَاء كالزيدية والمعتزلة والحنابلة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة أَنه لَا يجوز وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَو جَازَ النّسخ قبل تمكن الْمُكَلف من الْعَمَل للَزِمَ أَن يكون مَأْمُورا بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْت الَّذِي عينه الشَّارِع مَنْهِيّا عَن فعله فِيهِ وَأَنه جمع بَين النقيضين وَهَكَذَا إِذا رفع قبل الْوَقْت الْمعِين أَو كَانَ الْمَأْمُور بِهِ مُطلقًا ثمَّ نسخ قبل التَّمَكُّن من فعله بِأَن لَا يمْضِي عَلَيْهِ مَا يَتَّسِع للْعَمَل من الْوَقْت الْمُطلق فَإِنَّهُ يلْزم توارد الْأَمر وَالنَّهْي على شَيْء وَاحِد وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَقَل يجوز النّسخ قبل إِمْكَان الْعَمَل وَدَلِيل جَوَازه وُقُوعه فَمن ذَلِك قصَّة الْخَلِيل أَمر بِذبح وَلَده كَمَا دلّ لَهُ قَوْله {افْعَل مَا تُؤمر} وبإقدامه على ذَلِك ثمَّ نسخ بقوله {وفديناه بِذبح عَظِيم} قبل التَّمَكُّن وَاحْتِمَال أَن الْوَقْت موسع حَتَّى يكون النّسخ بعد التَّمَكُّن يُنَافِي حالات الرُّسُل من الْمُبَادرَة إِلَى امْتِثَال مَا أمروا بِهِ

وَمن ذَلِك نسخ فرض الصَّلَاة من خمسين إِلَى خَمْسَة كَمَا دلّ لَهُ حَدِيث الاسراء وَذَلِكَ من النّسخ قبل التَّمَكُّن قطعا

وَأجِيب عَن قصَّة الْخَلِيل بِأَنَّهَا لَيست من مَحل النزاع لِأَن فِيمَا حَكَاهُ الله تَعَالَى أَنه شاور وَلَده فِي ذَلِك وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنه قد مضى وَقت يتَمَكَّن فِيهِ من الْفِعْل وَهُوَ عمل يسير إمرار المحدد على النَّحْر

وَأجِيب عَن حَدِيث فَرضِيَّة الصَّلَاة بِأَنَّهُ ظَاهر فِي جَوَاز النّسخ قبل بُلُوغ الحكم إِلَى الْمُكَلّفين وَلَا قَائِل بذلك فيتيعن تَأْوِيله على كل حَال

ص: 375

وللعلماء تأويلات لَا تَخْلُو عَن الْقدح وَأحسن مَا قيل إِنَّه لَا يعد هَذَا من النّسخ إِذْ ذَلِك وَقع بِشَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم وسؤاله من ربه التَّخْفِيف عَن أمته

وَبِالْجُمْلَةِ فقد تقرر أَنه لَا نسخ قبل الْبَلَاغ فَلَا بُد من حمله على مَا يخلص بِهِ الْإِشْكَال وَإِلَّا كَانَ من الْمُتَشَابه يجب الْإِيمَان بِهِ ونسكت عَن الْخَوْض عَنهُ

وينسخ الْمَزِيد بِالزِّيَادَةِ

إِن كَانَ لَا يجزىء فِي العباده

بِدُونِهَا وَالنَّقْص بِاتِّفَاق

نسخ لما ينْقض لَا للْبَاقِي

هما مَسْأَلَتَانِ الأولى أَن يرد دَلِيل يَقْتَضِي الزِّيَادَة على مَا كَانَ قد اسْتَقر بِهِ التَّكْلِيف الشَّرْعِيّ وَذَلِكَ إِن كَانَت الزِّيَادَة مُغيرَة للْحكم الْمَزِيد عَلَيْهِ ومانعة لأجزائه بِدُونِهَا كَمَا قَالَ إِن كَانَ لَا يجزىء فضمير يجزىء عَائِد للمزيد عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَن تكون غير مُسْتَقلَّة بل جُزْءا مِمَّا زيدت عَلَيْهِ كزيادة رَكْعَة فِي صَلَاة الْفجْر وَزِيَادَة التَّغْرِيب على الْجلد وَزِيَادَة الْعدَد فِي الْجلد الَّذِي كَانَ قد تقرر أَو زِيَادَة شَرط كوصف الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فَهَذِهِ الزِّيَادَة قد غيرت حكم الأَصْل الَّذِي زيدت عَلَيْهِ من الْأَجْزَاء فَيكون نسخا وَهَذَا رَأْي جمَاعَة وَمِنْهُم من فرق بَين الْأَمْثِلَة فَقَالَ إِن كَانَ تغييرها بِحَيْثُ يصير الأول كَالْعدمِ فنسخ وَذَلِكَ كزيادة رَكْعَة فِي الْفجْر فَإِن الرَّكْعَتَيْنِ الْمَزِيد عَلَيْهِمَا لَا تصح بعد الزِّيَادَة وَيجب إِعَادَتهَا إِذا اقْتصر عَلَيْهَا وَإِن لم تغير ذَلِك التَّغْيِير فَلَا يكون نسخا مثل زِيَادَة الْعدَد فِي الْجلد والتغريب فَإِن الثَّمَانِينَ مِثَال من حق الزَّانِي لَو اقْتصر عَلَيْهَا لَا تصير كَالْعدمِ بل يعْتد بهَا وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى تَكْمِيل الْعشْرين وَكَذَا فِي التَّغْرِيب لَا يحْتَاج إِلَى إِعَادَة الْجلد إِن اقْتصر عَلَيْهِ وغايته أَنه اصْطِلَاح

ص: 376

وَأَنه مَبْنِيّ على أَن الْإِجْزَاء حكم شَرْعِي فَإِن المُرَاد بِالزِّيَادَةِ هِيَ مَا رفع الْإِجْزَاء وَفِي الْإِجْزَاء خلاف بَين أَئِمَّة الْأُصُول مِنْهُم من يَجعله حكما شَرْعِيًّا وَمِنْهُم من يَجعله حكما عدليا فَمن جعله شَرْعِيًّا كَانَت الزِّيَادَة نسخا وَإِلَّا فَلَا

الثَّانِيَة فِي النَّقْص وَهُوَ إِمَّا أَن يكون جُزْءا من المنقوص كركعة أَو رُكُوع أَو شرطا كالطهارة فَلَا خوف وَهَذَا هوالذي أَفَادَهُ النّظم حَيْثُ قَالَ وَالنَّقْص بِاتِّفَاق نسخ لما ينقص

وَقَوله لَا للْبَاقِي هَذِه فِيهَا أَقْوَال

الأول لِلْجُمْهُورِ وَهُوَ الَّذِي فِي النّظم أَنه لَيْسَ بنسخ سَوَاء كَانَ جُزْءا وشرطا مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا ودليلهم أَنه لَو كَانَ الْبَاقِي مَنْسُوخا لافتقر وُجُوبه إِلَى دَلِيل لِأَن الْفَرْض أَنه قد صَار مَنْسُوخا عِنْد الْمُخَالف وَلَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل بِالْإِجْمَاع وَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال واستدلال غير ناهض من أحب مَعْرفَتهَا تطلبها من الفواصل

وَاعْلَم أَن فَائِدَة الْخلاف فِي كَون الزِّيَادَة أَو النَّقْص نسخا قبُول الْخَبَر الآحادي إِذا ورد على النَّص الْمَعْلُوم من جعلهَا نسخا لم يقبله وَمن جعلهَا من بَاب التَّخْصِيص أَو التَّقْيِيد قبله وَلذَا لم تعْمل الْحَنَفِيَّة بِأَحَادِيث وَردت بِزِيَادَة على النَّص الْمَعْلُوم أَو نقص لهَذِهِ الْقَاعِدَة من ذَلِك قَوْله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} الْآيَة ثمَّ ورد أَنه صلى الله عليه وسلم قضى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين كَمَا ثَبت عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد وَغَيرهمَا وَمثل زِيَادَة التَّغْرِيب على الْجلد كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَغير ذَلِك

وَقَالَ فِي الأَصْل بِلَا نزاع

يمْنَع فِي الْقيَاس وَالْإِجْمَاع

ص: 377

هما مَسْأَلَتَانِ

الأولى أَنه لَا ينْسَخ الْقيَاس وَالْإِجْمَاع وَإِن عدم نسخهما إِجْمَاع وَهَذَا الْإِجْمَاع نَقله الْقرشِي فِي العقد وَتَبعهُ الْمهْدي فِي أصل النّظم وَلما كَانَ دَعْوَى عدم نسخهما فِيهِ خلاف أَشَارَ إِلَيْهِ النَّاظِم بنسبته دَعْوَى الْإِجْمَاع إِلَى الأَصْل بقوله وَقَالَ فِي الأَصْل فَالْأولى كَون الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ فَإِنَّهُ خَالف فِيهِ أَبُو الْحُسَيْن الطَّبَرِيّ وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ وَاحْتج الْجُمْهُور بِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر نسخ بالاجماع لِأَن النَّاسِخ لَهُ إِمَّا أَن يكون قَطْعِيا فَيلْزم انْعِقَاد الِاجْتِمَاع المنسوج على الْخَطَأ وَهُوَ لَا يجوز فَلَا يَصح وجود دَلِيل قَطْعِيّ مُخَالف للْإِجْمَاع سَوَاء كَانَ من الْكتاب أَو من السّنة وَإِمَّا أَن يكون ظنيا فالظني لَا يُعَارض الْإِجْمَاع الْقطعِي وَإِمَّا أَن يكون إِجْمَاعًا فإمَّا أَن يكون لَا عَن دَلِيل فَهُوَ خطأ وَلَا يَصح وُقُوعه للعصمة أَو عَن دَلِيل لزم خطأ أحد الإجماعين وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصح نسخ أحد الإجماعين بِشَيْء على كل تَقْدِير

قَالُوا وَأَيْضًا فالإجماع لَا ينْعَقد إِلَّا بعد وَفَاته صلى الله عليه وسلم كَمَا عرف من رسمه وَلَا يتَصَوَّر بعده صلى الله عليه وسلم وجود النَّاسِخ من كتاب وَلَا سنة وَلم يَأْتِ الْمُجِيز بِمَا يتم بِهِ مدعاه

الثَّانِيَة مِمَّا تضمنه النّظم أَنه لَا ينْسَخ الْقيَاس وَهَذَا قَول الْجُمْهُور ودليلهم هُوَ أَن من شَرط الْقيَاس لَا يظْهر لَهُ معَارض فَإِذا ظهر مَا يُعَارضهُ من

ص: 378

نَص أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس أقوى مِنْهُ بَطل الْعَمَل بِهِ فَلَا نسخ وَكَذَا إِذا كَانَ مُسَاوِيا فَإِنَّهُ يلْزم إطراح القياسين مَعًا وعَلى كل تَقْدِير لَا يتَحَقَّق النّسخ للْقِيَاس وَأجِيب بأنكم إِن أردتم بِبُطْلَان الْقيَاس عِنْد ظُهُور الْمعَارض بِمَعْنى أَن الحكم الاول الثَّابِت عَنهُ خطأ لَا يُثَاب عَلَيْهِ الْمُجْتَهد بل هُوَ كَالْحكمِ لَا عَن دَلِيل فَهَذَا مَمْنُوع فَإِنَّهُ لَيْسَ على الْمُجْتَهد إِلَّا مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَإِن أردتم بِبُطْلَانِهِ أَنه لم يبْق دَلِيلا شَرْعِيًّا يجب الْعَمَل بِهِ عِنْد ظُهُور الْمعَارض فَهَذَا الَّذِي نعني بنسخه

قَالُوا وَأَيْضًا لَو صَحَّ مَا ذكرْتُمْ لزم أَن لَا يثبت نسخ الْآحَاد بالآحاد إِذْ من شَرط الْعَمَل بهَا أَلا يظْهر معَارض لَهَا فَنقل مَا ذكرْتُمْ إِلَى هُنَا وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ بِهِ فَلم ينْهض دَلِيل الْجُمْهُور على الْمَنْع

هَذَا الْكَلَام فِي كَون الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس لَا ينسخان ولأئمة الْأُصُول نزاع فِي نسخ الحكم بهما إِلَيْهِ أَشَارَ قَوْله

كَمَا هما لَا ينسخان حكما

قَالَ بذا من يرتضيه علما

أَي كَمَا لَا ينسخان فِي أَنفسهمَا بِشَيْء من الْأَدِلَّة كَمَا عَرفته آنِفا كَذَا لَا ينسخان حكما شَرْعِيًّا وَهَذَا هُوَ رَأْي الْجُمْهُور كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله قَالَ بِهَذَا من نرتضيه علما وَهُوَ مَنْصُوب على التَّمْيِيز فَهُنَا مقامان

الأول أَنه لَا ينْسَخ بِالْإِجْمَاع وَدَلِيله يُؤْخَذ مِمَّا سلف فِي كَونه لَا ينْسَخ قَالُوا وَإِذا وجد إِجْمَاع قد نسخ حكما فالناسخ سَنَده وَالتَّحْقِيق مَا عَرفته من أَنه لَا إِجْمَاع فِي عصره صلى الله عليه وسلم فَلَا يكون حجَّة وَبعد وَفَاته صلى الله عليه وسلم لَا تنسخ الْأَحْكَام الثَّابِتَة

الْمقَام الثَّانِي النّسخ بِالْقِيَاسِ فِيهِ أَقْوَال الْجُمْهُور على أَنه لَا ينْسَخ بِهِ وَتقدم دليلهم وَتقدم أَيْضا أَنه يَصح نسخه لقياس مثله لَا لغيره من الْأَحْكَام

ص: 379

الثَّابِتَة بِغَيْر الْقيَاس قَالَ الْبرمَاوِيّ إِن أرجح الْمذَاهب هَذَا وَهُوَ نسخ الْقيَاس للْقِيَاس لَا بِغَيْرِهِ وَنقل عَن الشَّافِعِي وَعَن جمَاعَة من أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة وَقد مثل فِي المطولات بمسائل فرضيات تشغل الأوراق وَلم يَأْتِ بهَا تَكْلِيف بالِاتِّفَاقِ

وَقَوله

والنسخ بالآحاد للتواتر

يمْنَع وَالْعلم بِهِ للنَّاظِر

هَذِه مَسْأَلَة عدم جَوَاز نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد سَوَاء كَانَ الْمُتَوَاتر قُرْآنًا أَو سنة فَإِنَّهُ لَا يجوز نسخه بالآحاد وَهَذَا هُوَ قَول الْجُمْهُور وَهُوَ مفَاد النّظم تَصْرِيحًا استدلوا على ذَلِك بِأَن الظني وَهُوَ الآحادي لَا يُقَاوم الْقطعِي فَلَا يجوز رَفعه وإبطاله بِهِ وَخَالف آخَرُونَ وَأَجَابُوا عَمَّا ذكر بِأَنَّهُ قد صَحَّ تَخْصِيص الْمُتَوَاتر بالآحاد وَالْكل بَيَان غَايَة الْفرق بَينهمَا أَنه بَيَان فِي الْأَعْيَان والنسخ بَيَان فِي الْأَزْمَان وَهَذَا الْفرق لَا يَقْتَضِي الْعَمَل بِهِ فِي أَحدهمَا دون الآخر

وَأجِيب من طرف الْأَوَّلين بِأَن التَّخْصِيص جمع بَين الدَّلِيلَيْنِ والنسخ رفع وَإِبْطَال وَلَيْسَ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ فَاكْتفى بِالْأولِ بالآحاد دون الآخر فَلَا بُد فِيهِ من الْمُسَاوَاة فِي قُوَّة الدّلَالَة وَأجِيب بِأَن دَلِيل الْمَنْسُوخ وَإِن كَانَ قَطْعِيّ الدّلَالَة فَإِنَّهُ لَيْسَ قَطْعِيا فِي الدَّوَام ظَنِّي الدكالة فِيهِ تجوز الدَّوَام بالظني وَلَو كَانَ دَوَامه قَطْعِيا لما جَازَ نسخه بالقطعي إِذا عرفت هَذَا فورود النَّاسِخ بَيَان لانْتِهَاء مُدَّة الحكم الشَّرْعِيّ وَإِن سمي رفعا فَلَيْسَ هُنَاكَ رفع حَقِيقِيّ كَمَا سبقت إِلَيْهِ إِشَارَة وَحِينَئِذٍ فَلَا يتم الْفرق الَّذِي ذكرْتُمْ وَالْحَاصِل أَن الْعَام مُرَاد بِهِ الْبَعْض من أَفْرَاده دون الْكل مِنْهَا وَورد الْخَاص قرينَة تِلْكَ الْإِرَادَة وَكَذَا الْمَنْسُوخ من بَاب الْمُطلق الَّذِي أُرِيد بِهِ الْمُقَيد والنسخ قرينَة التَّقْيِيد لِأَن قَوْله افْعَل يصلح للمرة ولأكثر من ذَلِك إِلَى أخر الْأَبَد والناسخ قَيده بِبَعْض الْأَوْقَات وَأَيْضًا فَالْعَمَل بالناسخ جمع بَين الدَّلِيلَيْنِ للْعَمَل بِأَحَدِهِمَا فِي الزَّمن الأول وَبِالثَّانِي فِي الزَّمن الآخر وَبِهَذَا يعرف قُوَّة قَول غير الْأَكْثَرين وَهُوَ جَوَاز نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد كجواز تَخْصِيص الْعَام بهَا

ص: 380

وَأما قَوْله وَالْعلم بِهِ للنَّاظِر فَإِنَّهُ إِشَارَة إِلَى الْأَطْرَاف الَّتِي بهَا يعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ فالعلم مُبْتَدأ وَالضَّمِير فِي بِهِ للناسخ وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي ثَابت بِمَا فَصله قَوْله

إِمَّا بِنَصّ من نَبِي الرَّحْمَة

أَو من ذَوي الْإِجْمَاع خير أمة

وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة بِمَاذَا يعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ فَهُوَ يعرف بِوُجُوه إِمَّا بِنَصّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَأَن يَقُول هَذَا الحكم مَنْسُوخ أَو فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {الْآن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة وَمثل قَوْله صلى الله عليه وسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور الحَدِيث كنت نَهَيْتُكُمْ عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي الحَدِيث وَإِمَّا بِنَصّ عَن أهل الْإِجْمَاع أَو مَا فِي مَعْنَاهُ سَوَاء كَانَ إِجْمَاع الْأمة أَو إِجْمَاع العترة وَإِنَّمَا الْقصر على الْأمة مِثَال وَقد مثل فِي المطولات بأمثلة فَرضِيَّة فَهَذَا شَيْئَانِ مِمَّا يعرف بِهِ النَّاسِخ

أَو كَانَ عَن أَمارَة قَوِيَّة

كَقَوْل راو صَادِق الرويه

هَذَا الْأَخير أَو أَتَت قرينَة

قَوِيَّة تقضي بِمَا يرونه

مثل غزَاة فَبِهَذَا يعْمل

فِي غير قَطْعِيّ على مَا أصلوا

هَذَا ثَالِث الأمارات وَهُوَ مَعْرفَته بأمارة قَوِيَّة وَقد مثلهَا بقول الرَّاوِي هَذَا آخر الآمرين كَمَا فِي حَدِيث جَابر كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَمِنْه حَدِيث عَليّ رضي الله عنه عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد

ص: 381

كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمر بِالْقيامِ للجنازة ثمَّ جلس بعد ذَلِك وَأمر بِالْجُلُوسِ

وَرَابِعهَا قَوْله أَو أَتَت قرينَة قَوِيَّة وَمثله بقوله مثل غزَاة وَذَلِكَ كَأَن يَقُول الرَّاوِي هَذِه الْآيَة نزلت فِي غَزْوَة حنين مثلا وَهَذَا الحكم نزل فِي غَزْوَة خَيْبَر وَهَذَا فِي فتح مَكَّة وَنَحْو ذَلِك فَيعلم الْمُتَأَخر

وَلما اخْتلف الْعلمَاء فِي أَخْبَار الصَّحَابِيّ بِمَا يشْعر بالتأخر هَل ينْسَخ بِهِ الْمَعْلُوم والمظنون أَو المظنون لَا غير أَشَارَ النَّاظِم إِلَيْهِ بقوله فِي غير قَطْعِيّ على مَا أصلوا أَي أَنه لَا يعْمل بِهِ إِلَّا فِي الظني دون الْقطعِي هَذَا فِيمَا إِذا كَانَ الدليلان قطعيين وَإِن مَا أخبر الصَّحَابِيّ بِأَن أَحدهمَا كَانَ فِي غزَاة كَذَا وَهَذَا هُوَ قَول جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول قَالُوا لِأَن خَبره أَفَادَ ظن التَّأَخُّر والنسخ مترتب على شَرْطِيَّة ذَلِك فَإِذا عَملنَا بقوله لزم رفع الْمَقْطُوع بالمظنون وَهُوَ لَا يجوز وَقيل بل يجوز رفع الْقطعِي يَقُول الرَّاوِي هَذَا فِي غزَاة كَذَا قَالُوا لِأَن الْفَرْض أَنه قد تعَارض قطعيان النَّاسِخ والمنسوخ فَلَا بُد أَن يكون أَحدهمَا نَاسخ للْآخر لما تقرر من أَنه لَا يجوز تعَارض القواطع فقد علم بِهَذَا التَّقْرِير

وَتَكون لَدَيْهِ ملكة لاستخراج الْأَحْكَام عَن أدلتها كَمَا يَأْتِي فِي وَقَوله ظنا لإِخْرَاج أَخذ الحكم الْقطعِي من الْأَدِلَّة القطعية فَلَيْسَ ذَلِك بِاجْتِهَاد فِي الِاصْطِلَاح

وَقَوله لحكم الشَّرْع عَن دَلِيله لإِخْرَاج الحكم الْعقلِيّ

وَبَين المُرَاد بالفقيه فِي الرَّسْم وَأَن المُرَاد بِهِ الْمُجْتَهد إِذا قد طَرَأَ عَلَيْهِ

ص: 382

عرف أخرجه عَن مَعْنَاهُ بقوله

وَهُوَ الَّذِي يُمكن أَن يستخرجا

أَحْكَام شرع ربه مستنتجا

لَهَا من الادلة المفصلة

وَعِنْده معرفَة مكملة

أَي أَن الْفَقِيه المُرَاد بِهِ من يُمكنهُ استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْأَدِلَّة التفصيلية وَقد عرفت من رسم أصُول الْفِقْه التَّفْرِقَة بَين الْأَدِلَّة المجملة والمفصلة

وَقَوله الَّذِي يُمكن يُرَاد بِهِ من عِنْده ملكة وقدرة يسْتَخْرج بهَا الحكم من الدَّلِيل وَإِن لم يحصل مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ الِاجْتِهَاد هُوَ اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بِالْفِعْلِ فَلَا يرد الْإِشْكَال الْمَعْرُوف أَنه لَا يُحِيط الْفَقِيه بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة وَلذَا ثَبت لَا أَدْرِي عَن أَئِمَّة مجتهدين لِأَن المُرَاد فِي الْحَال وَلَو بحثت لاستخرجت الحكم المسؤول عَنهُ وَتقدم هَذَا

وَقَوله أَحْكَام شرع ربه لإِخْرَاج الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة والحسية وَلما قدم قَوْله ظنا لحكم الشَّرْع اسْتغنى عَن تَقْيِيد الْأَحْكَام بالفرعية لِأَنَّهَا الظنية

وَقَوله عِنْده معرفَة إِلَى آخِره بَيَان لما هُوَ شَرط لحُصُول إِمْكَان الاستخراج وَأَنه لَا يتَمَكَّن مِنْهُ إِلَّا من لَهُ معرفَة بِمَا ذكر من قَوْله

جَامِعَة للنحو وَالْأُصُول

وَالذكر ثمَّ سنة الرَّسُول

فالفقيه الْمَوْصُوف هُوَ من جمع معرفَة النَّحْو وَالْأُصُول وَالْقُرْآن وَالسّنة

الأول معرفَة النَّحْو بأقسامه من إِعْرَاب وتصريف لِأَن خطاب الشَّارِع عَرَبِيّ يَتَرَتَّب معرفَة مَعَانِيه على معرفَة تراكيبه وَلَا ريب أَن كثيرا مِنْهَا لَا تتمّ معرفَة مَعْنَاهُ إِلَّا بِمَعْرِِفَة إعرابه وَيَكْفِي من ذَلِك معرفَة مُقَدّمَة ابْن الْحَاجِب وَأحد شروحها للذكي ومقدمته فِي التصريف أَو أخصر مِنْهَا فَفِيهَا مَا يسْتَغْنى عَنهُ

ص: 383

وَأما علم الْبَيَان فَهُوَ غير ضَرُورِيّ فِي الاستخراج نعم هُوَ مِمَّا يزِيد النَّاظر قُوَّة فِي اسْتِخْرَاج الْمعَانِي

وَأما الْمنطق فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ بل هُوَ مِمَّا تذْهب بقرَاءَته الْأَوْقَات وَلَا يرى من يعرفهُ ينْتَفع بِهِ إِلَّا كالفاكهة يتفكه بهَا وَإِلَّا فَلَا دخل لَهُ فِي الِاجْتِهَاد وَلَكِن تعمق الأصوليون بجعله فِي أول مؤلفاتهم البسيطة كَابْن الْحَاجِب وَمن تبعه فاعموا بصائر الناظرين وظنوا أَنه لَا يتم لَهُم معرفَة أصُول الْفِقْه إِلَّا بِتِلْكَ الأساطير الْبَاطِلَة والأقوال الَّتِي هِيَ عَن حلية الْكتاب وَالسّنة عاطلة بل هِيَ لَهما مُخَالفَة ومشايلة وفيهَا عقارب للساعة لقواعد الْإِسْلَام وقاتلة لأشرف الْأَحْكَام وَأول من سنّ لَهُم هَذِه السّنة الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ أول من أودعهُ كِتَابه فِي أصُول الْفِقْه وَقَالَ لَا يوثق بِعلم من لم يتمنطق وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لكنه توسع فِيهِ فَظن أَنه يفتح بِهِ عَن مغلق الْعُلُوم الأقفال وَقد رد كَلَامه الْعلمَاء من الْمُحَقِّقين والفحول من أساطين أَئِمَّة الدّين

وَالثَّانِي أصُول الْفِقْه وَهُوَ الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى اسْتِخْرَاج الظَّن بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة أَو الْعلم بهَا وَلَا ريب أَن التبحر فِيهِ وَمَعْرِفَة قَوَاعِده وخوافيه بهَا يتَمَكَّن من الِاجْتِهَاد وَهِي عمدته عِنْد النقاد

وَالثَّالِث معرفَة كتاب الله تَعَالَى قَالُوا وَالْمرَاد معرفَة آيَات الْأَحْكَام وحصروا ذَلِك فِي خَمْسمِائَة آيَة قلت وَلَا دَلِيل على حصرها وكل الْقُرْآن وآياته دَالَّة على الْأَحْكَام فَالْأولى أَن يُقَال المُرَاد من معرفَة الْكتاب إِمْكَان استحضار مَا يدل على مَا يُرَاد من جزيئات الاستخراج فَيرجع إِلَيْهِ عِنْد ذَلِك وَلَيْسَ بمحصور فِي معِين من الْأَعْدَاد

الرَّابِع معرفَة السّنة النَّبَوِيَّة وَهِي بَحر لَا تنزفه الدلاء وَلَا تحيط بِهِ الْعلمَاء وَلذَا رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ علمَان تتعذر الْإِحَاطَة بهما علم السّنة وَعلم اللُّغَة وَأقرب مَا يُقَال تَكْفِي الْأُمَّهَات السِّت الْمَعْرُوفَة وَقد جمع متونها ابْن الْأَثِير فِي جَامع الْأُصُول فَإِنَّهُ لَا يكَاد حكم من الْأَحْكَام تَخْلُو عَن دَلِيله وَقد اعتنى الْعلمَاء بهَا أَي بِهَذِهِ الْكتب السِّتَّة وَتَكَلَّمُوا على رواتها وعَلى

ص: 384

مَعَانِيهَا ولغتها فَهِيَ مرجع للمجتهد وَأما من قَالَ إِنَّه يَكْفِي سنَن أبي دَاوُد وَنَحْوه فقصور وتقصير وتساهل كثير وَقَالَ بعض الْأَئِمَّة يَكْفِي الْمُجْتَهد من علم السّنة تَلْخِيص الحبير لِابْنِ حجر قلت من يُرِيد الِاجْتِهَاد فِيمَا ينوبه وَيتَعَلَّق بتكاليفه فَنعم يَكْفِيهِ ذَلِك وَمن يُرِيد الْفَتْوَى والتصدي للتدريس وَغَيره فَلَا يَكْفِيهِ ثمَّ هَذ مَبْنِيّ على أَن قبُول تَصْحِيح الْأَئِمَّة وتضعيفهم للرواة اجْتِهَاد لِأَنَّهُ من بَاب قَول أَخْبَار الْآحَاد وَقد ألفنا رِسَالَة فِي هَذَا وَهِي الْمُسَمَّاة إرشاد النقاد إِلَى تيسير الِاجْتِهَاد فِيهَا تَحْقِيق بَالغ وَبَيَان لسُهُولَة الِاجْتِهَاد قَوْله

وَمَا عَلَيْهِ الْعلمَاء أَجمعُوا

هَذَا ونختار ولسنا نقطع

عطف على قَوْله للنحو إِلَى آخِره أَي وجامعة لمعْرِفَة مسَائِل الْإِجْمَاع حَتَّى لَا تخفاه مواقعه حَتَّى يحصل لَهُ الظَّن أَن الَّذِي قَالَه غير مُخَالف لما أجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء وَصرح بِهِ فِي الْفُصُول وَهَذَا هُوَ أَهْون الشُّرُوط إِذْ قد قدمنَا لَك أَنه لَا يتَحَقَّق الْإِجْمَاع إِلَّا فِي الضروريات وَقد ألف فِيهَا جمَاعَة من الْأَئِمَّة كَابْن حزم وَابْن هُبَيْرَة والريمي

وَاعْلَم أَنه قد دخل شَرط معرفَة الروَاة جرحا وتعديلا فِي معرفَة السّنة وَقَالَ فِي الْحَاوِي رَابِعهَا الْعلم بأحوال الروَاة ونقلة الْأَحَادِيث وَمن يكون مِنْهُم مَقْبُولًا وَمن يكن غير مقوبلا فَلَا بُد من الْعلم بذلك ليَكُون مُتَمَكنًا من تَرْجِيح الْأَخْبَار بَعْضهَا على بعض وَيعرف طرق الْإِسْنَاد وَهَذَا أَمر مُهِمّ لِأَن الوسائط قد كثرت وخاصة فِي هَذِه الْأَزْمِنَة فَلَا بُد من معرفَة صحيحها وفاسدها وقويها وضعيفها وَمِقْدَار مَا يعرف من ذَلِك أَن يعرف كَون الرَّاوِي عدلا ضابطا وَلَا يلْزم أَن يكون محيطا بسيرهم وأحوالهم وأخبارهم وأنسابهم بل يَكْفِي مَا ذكرنَا قَالَ نعم لَا يمْتَنع فِي زمننا لِكَثْرَة الوسائط وتطاول الْأَزْمِنَة أَن يكون الْعلم بأحوال الروَاة متعذرا وَإِذا كَانَ الْأَمر كَمَا قُلْنَا دَار التعويل فِي ذَلِك على نَقله الحَدِيث والاكتفاء بتعديلهم كالبخاري وَمُسلم

ص: 385

وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهم من شُيُوخ الحَدِيث فَإِن الظَّن يغلب بِصدق مَا نقلوه فَلهَذَا جَازَ التعويل عَلَيْهِ انْتهى

وَقد قدمنَا لَك أَنا قد أوضحنا ذَلِك فِي رسالتنا إرشاد النقاد قبل معرفَة كَلَام الْحَاوِي بأعوام وَأما الْمهْدي فَقَالَ فِي مُقَدّمَة الحبر بِأَنَّهُ لَا يشْتَرط فِي معرفَة الروَاة جرحا وتعديلا وَمثله فِي الْفُصُول قَالَ لِأَن قبُول الْمَرَاسِيل قد استلزم سُقُوط ذَلِك قلت لَا يخفى ضعف هَذَا القَوْل بل بُطْلَانه ثمَّ اعْلَم أَنه لَيْسَ كل من حوى مَا ذكر من شَرَائِط الِاجْتِهَاد يَتَأَتَّى مِنْهُ استنباط الْأَحْكَام بل ذَلِك موهبة من الله تَعَالَى يَهَبهَا لمن يَشَاء من عباده وَإِلَّا فكم من عَالم بالنحو يدرس فِي فنونه لايقيم لِسَانه وَلَا يُمكنهُ تطبيق مَسْأَلَة على الْقَوَاعِد وَبينا ذَلِك فِي الرسَالَة الْمَذْكُورَة نعم قَوْله ونختار ولسنا نقطع هُوَ مُتَعَلق بقوله

بِأَنَّهُ يجوز عِنْد الْعقل

بِالِاجْتِهَادِ حكم خير الرُّسُل

لَا بالوقوع فَالْخِلَاف فِيهِ

وَالْحق لَا يخفى على النبيه

الْإِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة اجْتِهَاده صلى الله عليه وسلم هَل يجوز عقلا أم لَا وَهل وَقع حكمه بِهِ أم لَا فهما مَسْأَلَتَانِ

أم جَوَازه عقلا لَا على جِهَة الْقطع كَمَا قَالَ ولسنا نقطع فَقَالَ الْجُمْهُور إِنَّه يجوز عقلا أَن يُؤذن لَهُ صلى الله عليه وسلم أَن يَأْخُذ الحكم من الأمارات الشَّرْعِيَّة وَيكون مخبرا عَن الله تَعَالَى بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاده وَلَا مَانع عَنهُ

وَالْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَنه لَا خلاف فِي وُقُوع الاجتهادات مِنْهُ فِي الْحَرْب والآراء إِنَّمَا الْخلاف فِي وُقُوع الِاجْتِهَاد مِنْهُ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة

فَقَالَ الْجُمْهُور إِنَّه وَاقع مِنْهُ ذَلِك وَاسْتَدَلُّوا على الْوُقُوع بقوله تَعَالَى {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 386

لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي وَغير ذَلِك مِمَّا دلّ أَنه لَيْسَ عَن وَحي

وَأجِيب بِأَن الْآيَة الأولى من غير مَحل النزاع فَإِنَّهُ فِيمَا يتَعَلَّق بالحروب والآراء وكأمره بترك تأبير النّخل وَأما الحَدِيث فَقَالَ تطييبا لقلوب أَصْحَابه لما تكلمُوا عَن الْفَسْخ حِين أَمرهم بِهِ وَكَانَ مُخَيّرا بَين سوق الْهَدْي وحجه قَارنا وَعدم سوقه وَيفْسخ فساقه فَلَزِمَهُ الْقرَان فَمَا كَرهُوا أَن يُخَالف نسكهم نُسكه أخْبرهُم بِأَنَّهُ لَو عرف أَنهم يكْرهُونَ خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ لما سَاق الْهَدْي وَأَنه كَانَ مُخَيّرا بَين سوقه وَعَدَمه

وَذهب قوم إِلَى أَنه لَا يَقع مِنْهُ اجْتِهَاد ومستدلين بقوله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَبِقَوْلِهِ {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَغير ذَلِك فَدلَّ على أَن جَمِيع أَحْكَامه عَن الْوَحْي وَفِي السّنة أَدِلَّة كَثِيرَة دَالَّة على هَذَا وَقد كَانَ يسْأَل صلى الله عليه وسلم فَلَا يُجيب حَتَّى يَأْتِيهِ الْوَحْي كَمَا فِي قصَّة الْأَعرَابِي الَّذِي سَأَلَهُ مَا يصنع فِي عمرته وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ كثير جدا وينشرح لَهُ الصَّدْر وَيعلم بِهِ قُوَّة خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور وَلذَا قُلْنَا وَالْحق لَا يخفى على النبيه على أَن ثَمَرَة الْخلاف قَليلَة جدا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاجِب علينا اتِّبَاعه والانقياد لما حكم بِهِ قَالُوا سَوَاء كَانَ عَن اجْتِهَاد أَو وَحي فَلَا يتم الْإِيمَان إِلَّا بذلك كَمَا هُوَ نَص قَوْله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} وَقَالَ تَعَالَى {فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله} وَغير ذَلِك

وَلما تعرض لمسألة اجْتِهَاده صلى الله عليه وسلم تعرضنا لمسألة اجْتِهَاد أَصْحَابه فِي عصره بقولنَا

وَالِاجْتِهَاد وَاقع فِي حَضرته

وَغَيرهَا من فائز بِصُحْبَتِهِ

الْبَيْت قد أَفَادَ أَنه قد وَقع الِاجْتِهَاد من أَصْحَابه فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْحَاضِر فِي بلدته صلى الله عليه وسلم بِغَيْر إِذْنه وَمن الْغَائِب وَمن الْوَالِي

ص: 387

وَغَيره وَهَذَا هُوَ قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء مستدلين بِأَنَّهُ لَو لم يجز كَمَا قيل لم يَقع لكنه وَقع فَكَانَ جَائِزا وَهَذَا دَلِيل على الْجَوَاز والوقوع

أما فِي حَضرته بِغَيْر إِذْنه فاتفاقيات قضايا عمر وَهِي مَشْهُورَة مَعْرُوفَة وأقرها صلى الله عليه وسلم بل وَنزل فِي كثير مِنْهَا آيَات مُحَققَة مقررة لما قَالَه وَهِي قصَص مَعْرُوفَة وَمِنْه حَدِيث أبي قتاده فِي يَوْم حنين واجتهاد أبي بكر وَهِي قصَّته مَعْرُوفَة وَمن ذَلِك تحكيمه صلى الله عليه وسلم لسعد بن معَاذ فِي بني قُرَيْظَة وَكَانَ فِي حَضرته صلى الله عليه وسلم وإذنه

وَأما اجتهادهم فِي غير حَضرته فقصة عَمْرو بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل وَصلَاته بِأَصْحَابِهِ جنبا وَأقرهُ صلى الله عليه وسلم والقضايا فِي ذَلِك وَاسِعَة وَمن ذَلِك قصَّة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عليه السلام فِي اجْتِهَاده فِي أهل الزبية وَإِقْرَاره صلى الله عليه وسلم لَهُ وَمن ذَلِك قَوْله وَقد بَعثه فِي قصَّة الْحَاضِر يرى مَا لَا يرى الْغَائِب

وَبِالْجُمْلَةِ من عرف السّنة والسيرة لَا يتَرَدَّد فِي ضَرُورَة وُقُوع ذَلِك وَإِن من خَالف فَلَا دَلِيل لَهُ ناهض

قَالُوا وَفِي الْمسَائِل القطعيه

الْحق مَعَ فَرد من البريه

أَي قَالَ عُلَمَاء الْأُصُول الْمسَائِل تَنْقَسِم إِلَى قَطْعِيَّة وَهِي قِسْمَانِ قَطْعِيَّة عقلية كحدوث الْعَالم وَوُجُود الصَّانِع وَإِثْبَات مُطلق صِفَاته

ص: 388

الْعلية كالحياة وَالْعلم وَالْقُدْرَة فَهَذِهِ لَا يتَوَقَّف إِثْبَاتهَا على السّمع وَالْحق فِيهَا مَعَ وَاحِد والمخالف فِيهَا كَافِر إِن اقْتضى خِلَافه إِنْكَار الصَّانِع وَتَكْذيب الرُّسُل

وقطعية سمعية وَهِي إِمَّا مَعْلُومَة من ضَرُورَة الدّين كأركان الْإِسْلَام الْخَمْسَة وَهَذِه الْمُخَالف فِيهَا كَافِر لِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك تَكْذِيب الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لما علم من ضَرُورَة الدّين وَقد نقل عَن الجاحظ أَنه لَا إِثْم فِي القطعيات على الْمُجْتَهد وحكوا ذَلِك على جِهَة التَّعْمِيم يَعْنِي وَلَو كَانَ كَافِرًا ونقلوا عَن الْعَنْبَري أَنه قَالَ ذَلِك وَزَاد أَنه مُصِيب وَلَو كَانَ كَافِرًا

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية فِي منهاج السّنة وَأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فِيهَا وَيَقُول إِن السّمع قد دلّ على ذَلِك وَمِنْهُم من لَا يؤثمه وَالْقَوْل المحكي عَن عبد الله بن الْحسن الْعَنْبَري هَذَا مَعْنَاهُ أَنه كَانَ لَا يؤثم المخطىء من الْمُجْتَهدين من هَذِه الْأمة لَا فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع وَأنكر جُمْهُور الطَّائِفَتَيْنِ من أهل الْكَلَام والرأي عَلَيْهِ هَذَا القَوْل وَأما غير هَؤُلَاءِ فَيَقُول هَذَا قَول السّلف وأئمة الْفَتْوَى كَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَدَاوُد بن عَليّ وَغَيرهم لَا يؤثمون مُجْتَهدا مخطئا لَا فِي الْمسَائِل الْأُصُولِيَّة لَا الفرعية كَمَا ذكر ذَلِك عَنْهُم ابْن حزم وَغَيره وَقَالُوا هَذَا القَوْل الْمَعْرُوف عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان وأئمة الدّين أَنهم لَا يكفرون وَلَا يفسقون وَلَا يؤثمون أحدا من الْمُجْتَهدين لَا فِي مسَائِل علمية وَلَا عملية

قَالُوا والفروق بَين مسَائِل الْأُصُول وَالْفُرُوع كَمَا لم يدل عَلَيْهَا كتاب وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع فَهِيَ كلهَا بَاطِلَة عقلا وَلم يفرقُوا بفرق صَحِيح بَين

ص: 389

النَّوْعَيْنِ بل ذكرُوا فروقا ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة فَمِنْهَا أَن الْمسَائِل الْأُصُولِيَّة هِيَ الَّتِي يطْلب فِيهَا الِاعْتِقَاد وَالْعلم فَقَط ومسائل الْفُرُوع وَهِي العملية الَّتِي يطْلب فِيهَا الْعَمَل وَهَذَا بَاطِل فَإِن الْمسَائِل الفروعية فِيهَا مَا يكفر جاحده مثل وجوب الصَّلَوَات الْخمس وَالزَّكَاة وَالصَّوْم لرمضان وَكثير من الْمسَائِل العلمية لَا يَأْثَم المتنازعون فِيهَا كالتنازع فِي مَسْأَلَة الْجَوْهَر الْفَرد وتماثل الْأَجْسَام وَبَقَاء الْأَعْرَاض وَنَحْو ذَلِك فَلَيْسَ فِيهَا تَكْفِير وَلَا تفسيق وَلَا تأثيم

قَالُوا والمسائل العملية فِيهَا علم وَعمل فَإِذا كَانَ الْخَطَأ فِيهَا مغفورا فالتي فِيهَا علم بِلَا عمل أولى أَن يكون الْخَطَأ فِيهَا مغفورا وَمن الفروق بَينهمَا أَن الْأُصُولِيَّة مَا عَلَيْهَا دَلِيل قَطْعِيّ والفروعية مَا لَيْسَ كَذَلِك وَهَذَا ظَاهر الْبطلَان فَإِن كثيرا من الْمسَائِل الفرعية عَلَيْهَا أَدِلَّة قَطْعِيَّة بِالْإِجْمَاع كتحريم الْمُحرمَات

قَالَ وَمن الْأَدِلَّة عدم التأثيم قَوْله تَعَالَى {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} قَالَ الله تَعَالَى قد فعلت وَلم يفرق بَين الْخَطَأ الْقطعِي والظني بل لَا يجْزم خطأ إِلَّا إِذا أَخطَأ قطعا قَالُوا فَالْقَوْل بالتأتيه فِي الْمسَائِل القطعية مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع الْقَدِيم قَالُوا وَأَيْضًا فكون الْمَسْأَلَة ظنية أَو قَطْعِيَّة أَمر إضافي بِحَسب النّظر لَيْسَ هُوَ وَصفا لِلْقَوْلِ فِي نَفسه فَإِن الْإِنْسَان قد يقطع بأَشْيَاء صَارَت عِنْده ضَرُورِيَّة إِمَّا بِالنَّقْلِ أَو بِغَيْرِهِ وَغَيره لَا يعرف شَيْئا من ذَلِك لَا ظنا وَلَا قطعا وَقد يكون الْإِنْسَان ذكيا قوي الذِّهْن سريع الْإِدْرَاك يعرف الْحق وَيقطع بِمَا لَا يتصوره غَيره وَلَا يعرفهُ لَا علما وَلَا ظنا فالقطع وَالظَّن حِينَئِذٍ بِحَسب مَا يفهمهُ الْإِنْسَان وبحسب قدرته على الِاسْتِدْلَال وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي هَذَا وَهَذَا فَعلم أَن الْفرق لَا يطرد وَلَا ينعكس انْتهى

وَإِنَّمَا نَقَلْنَاهُ ليعلم أَن الصَّوَاب عدم التأثيم فِي القطعيات أَيْضا لمجتهد من أَئِمَّة الْإِسْلَام فَإِن الحكم بالتأثيم يحْتَاج إِلَى دَلِيل شَرْعِي وَالْفَرْض أَن الْحق مَعَ وَاحِد فتأثيم مُعينَة لَا من الدَّلِيل عَلَيْهِ على فرض التأثيم وَإِلَّا فالأدلة

ص: 390

قاضية بِخِلَاف ذَلِك وَلذَا قَالَ النَّاظِم قَالُوا فنسبه إِلَى من قَالَ ذَلِك إِذا عرفت فَهَذَا كَلَامهم فِي الْمسَائِل القطعية

وَأَشَارَ إِلَى كَلَامهم فِي الظنية بقوله

وَقد حكوا فِيمَا أَتَت ظنية

رِوَايَة عَن أَكثر الزيدية

بِأَن كلا مِنْهُم مُصِيب

فَمَا على مُجْتَهد تَثْرِيب

هَذِه الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة بَين الْفُقَهَاء بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب أَي فِي ظنيات الْمسَائِل وَإِلَيْهِ ذهب أَكثر الزيدية وَغَيرهم من أهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وفيهَا خلاف

وَاعْلَم أَنه لَا خلاف أَن الْمُجْتَهد غير آثم على كل من الْقَوْلَيْنِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْله فَمَا على مُجْتَهد تَثْرِيب أَي ملام إِنَّمَا الْقَائِل بالتخطئة يَقُول فِي الْمُجْتَهدين من لَهُ أَجْرَانِ وَمِنْهُم من لَهُ أجر وَلكنه لَا يعلم إِلَّا بإعلام الله وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ بعد طي بِسَاط الْوَحْي والمصوبة تَقول كل مُجْتَهد لَهُ أَجْرَانِ وَأَنه لَا يخطىء وَلَا فَائِدَة للْخلاف إِذْ كل يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده

وتحرير مَحل النزاع أَن معنى مُصِيب من إِصَابَة السهْم الْغَرَض لَا من الصَّوَاب الَّذِي هُوَ ضد الْخَطَأ فَمَا أدّى إِلَيْهِ نظرا لمجتهد فَهُوَ حكم الله الْوَاقِع وَلَا حكم لَهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَة معِين فَهُوَ نَظِير الْوَاجِب الْمُخَير فالمطلوب من الْمُجْتَهد أحد الْأَحْكَام الْخَمْسَة لَا على جِهَة التَّعْيِين فَمَا ظَنّه الْمُجْتَهد فَهُوَ حكم الله وَمَا ظَنّه الآخر فَهُوَ حكم الله وَهَذَا معنى قَوْلهم إِن حكم الله تَابع لنظر الْمُجْتَهد وَلَا ذهب الْفَرِيق الآخر إِلَى أَن الْحق مَعَ وَاحِد وَغَيره مخطىء خطأ مَعْفُو عَنهُ فَلَيْسَ كل مُجْتَهد مُصِيب وَمن إِصَابَة السهْم الْغَرَض بل مُصِيب من الصَّوَاب الَّذِي هُوَ ضد الْخَطَأ أَي مُصِيب مَا طلب مِنْهُ وَإِن كَانَ خطأ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حكم الله وَمَا فِي نفس الْأَمر

اسْتدلَّ الْأَولونَ بادلة عقلية ومقاولات جدلية وبأدلة سمعية نقتصر على

ص: 391

ذكرهَا قَالُوا قَالَ تَعَالَى {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله} فدلت الْآيَة على أَن الْقطع وَعَدَمه حكم الله وَإِلَّا لما كَانَ بِإِذن الله قَالَ الْمهْدي وَهُوَ أقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ من السّمع

قلت وَلَا يخفى أَن الْآيَة لَيست من مَحل النزاع فِي وُرُود وَلَا صُدُور لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر فِيهَا أَن الَّذِي وَقع من الْقطع وَعَدَمه كَانَ بِإِذن الله وَلَا شكّ أَنه تَعَالَى أخر فِيهَا أَن الَّذِي وَقع من الْقطع وَعَدَمه كَانَ بِإِذن الله وَلَا شكّ أَنه تَعَالَى قد أذن فِي الِاجْتِهَاد فَهُوَ إِعْلَام بِأَن هَذَا الِاجْتِهَاد الَّذِي وَقع من كل بنقيض اجْتِهَاد الآخر كُله بِإِذْنِهِ لِأَنَّهُ أذن لكم فِي الِاجْتِهَاد فَأَيْنَ الدّلَالَة فِي هَذَا على أَنهم أَصَابُوا يَوْمًا فِي نفس الْأَمر بل الْآيَة دَلِيل أَن الْمُجْتَهد مَأْذُون لَهُ فِي الِاجْتِهَاد وَإِن خايت مَا فِي نفس الْأَمر بَيَانه أَنه أخبر تَعَالَى عَن كَونه أذن فِي الْأَمريْنِ النقيضين وَمَعْلُوم أَنَّهُمَا ليسَا هما الْحق فِي نفس الْأَمر بل لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حكم وَاحِد وَالْحق فِي أَحدهمَا ضَرُورَة أَنه لَا ثَالِث وَقد أُصِيب ضَرُورَة أَنه قد قَالَ كل فريق بِأَحَدِهِمَا فَدلَّ على أَن الْمُجْتَهد المخطىء مَأْذُون لَهُ وَإِن أَخطَأ

قَالُوا قَالَ تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} الْآيَة إِلَى قَوْله {وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} فدلت على أَنه تَعَالَى أعْطى كل وَاحِد مِنْهُمَا علما وَحكما وَمَا أعطَاهُ من الحكم هُوَ عين الصَّوَاب وَهُوَ الْمَطْلُوب

وَأجِيب بِأَنا لَا نسلم أَن الحكم وَالْعلم الَّذِي آتاهما الله كَانَ فِي عين ذَلِك الحكم الْمعِين الَّذِي هُوَ مَحل النزاع كَمَا يرشد إِلَيْهِ تَخْصِيص سُلَيْمَان بتفهيم الله إِيَّاه فَإِنَّهُ يدل على مَا نريده وَهُوَ أَن مَا وَقع من سُلَيْمَان هُوَ حكم الله تَعَالَى وَإِلَّا لما كَانَ لَهُ فَائِدَة

ص: 392

قَالُوا قد استفاضت السّنة النَّبَوِيَّة بتصويب الْمُجْتَهد وَعدم التخطئة كَمَا قدمْنَاهُ فِي صَلَاة الْعَصْر فِي غَزْوَة بني قُرَيْظَة وَاخْتِلَاف اجتهادهم فِي ذَلِك وَإِن مِنْهُم من صلاهَا بعد غرُوب الشَّمْس وَمِنْهُم من صلاهَا فِي وَقتهَا وأقرهم صلى الله عليه وسلم وَلَو كَانَ أَحدهمَا مخطئا لعنفوا وَبَين الْمُصِيبَة بالثناء عَلَيْهِم والقضايا فِي ذَلِك وَاسِعَة فِي السّنة

وَأجِيب بِأَن المخطىء عَن اجْتِهَاد لَا يعاب وَلَا يذم وَالثنَاء على من أصَاب الحكم لَيْسَ بِلَازِم فعدمه لَا يدل على مَا ذكرْتُمْ بل قد قَالَ صلى الله عليه وسلم لعَمْرو صليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب قَالَ سَمِعت الله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما} فَلم يقل لَهُ بِشَيْء بعد بَيَان دَلِيل اجْتِهَاده نعم لَو كَانَ الْفَاعِل غير مُجْتَهد للامه صلى الله عليه وسلم أَلا ترَاهُ قَالَ فِي صابح الشَّجَّة لما أفتاه أَصْحَابه بِأَن يغْتَسل فَمَاتَ قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله هلا سَأَلُوا إِذا لم يعلمُوا فَإِنَّمَا شِفَاء العيي السُّؤَال وغايته عدم ذمّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا يدل على أَنَّهُمَا أصابا مَا عِنْد الله بل المخطئة مِنْهُم مأجورة أجرا وَاحِدًا وَهِي مُعينَة عِنْد الله تَعَالَى

وَاسْتدلَّ الْفَرِيق الآخر الْقَائِلُونَ بالتخطئة بأدلة عقلية جدلية وأدلة سمعية نقتصر أَيْضا عَلَيْهَا قَالُوا السّنة النَّبَوِيَّة قد جَاءَت صَرِيحَة بالتخطئة فَوَجَبَ الحكم بذلك من ذَلِك مَا أخرجه مُسلم وَغَيره من حَدِيث بُرَيْدَة مَرْفُوعا إِذا حاصرت قوما فَلَا تنزلهم على حكم الله بل أنزلهم على حكمك فَإنَّك لَا تَدْرِي أتصيب فيهم حكم الله أَو لَا وَهَذَا صَرِيح فِي الْمُدَّعِي وَمن ذَلِك مَا أخرجه الْجَمَاعَة من حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب

ص: 393

فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد فاخطأ فَلهُ أجر وَمن ذَلِك حَدِيث سعد بن معَاذ وَقَوله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت بِحكم الله وَهُوَ حَدِيث صَحِيح وَمِنْه حَدِيث سنَن أبي دَاوُد أَن رجلَيْنِ خرجا فِي سفر فحضرتهما الصَّلَاة وَلَا مَاء عِنْدهمَا فتيمما وصليا ثمَّ وجدا المَاء فَأَعَادَ أَحدهمَا وَلم يعد الآخر فَقَالَ صلى الله عليه وسلم للَّذي أعَاد لَك الْأجر مرَّتَيْنِ يدل على أَنه الَّذِي أصَاب لحَدِيث من اجْتهد الخ وَيحْتَمل أَنه أُرِيد بالمرتين هُنَا أجر الصَّلَاتَيْنِ

وَقد أُجِيب عَن الْأَحَادِيث بِمَا لَيْسَ بدافع

قَالُوا حَدِيث بُرَيْدَة أحادي وَالْمَطْلُوب فِي الْمَسْأَلَة الْقطع قُلْنَا لَا نسلم بل الظُّهُور والأدلة فِيهِ وَاضِحَة قالو وَحَدِيث إِذا اجْتهد الْحَاكِم فِي غيرمحل النزاع إِذْ هُوَ فِي الْمسَائِل الَّتِي يستنبط الحكم فِيهَا من الإمارات الشَّرْعِيَّة والخصومات لَيست من ذَلِك إِذْ الْحق فِيهَا مُتَعَيّن فِي الْخَارِج فَيمكن فِيهَا إِصَابَته وَخَطأَهُ وَقد جعل الشَّارِع أَمَارَات وأدلة فِي الْخُصُومَات لَيْسَ على الْحَاكِم إِلَّا الْعَمَل بهَا على الِاعْتِبَار الَّذِي أَمر بِهِ الشَّارِع من عَدَالَة الشُّهُود وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف وَلذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمقَام فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من نَار ورد هَذَا بِأَن الحَدِيث ظَاهر فِي الْحَاكِم فِيمَا اشْتَمَل على الْخُصُومَات لتصريحه بِلَفْظِهِ وَلَكِن لَا مَانع من التَّعْمِيم بل هُوَ الظَّاهِر يَعْنِي الْحَاكِم فِي الْخُصُومَات أَو فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد فيصلح دَلِيلا للْمُدَّعِي وينتهض الِاسْتِدْلَال وَقَوله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار دَلِيل لنا لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه لَا يحكم صلى الله عليه وسلم إِلَّا بعد اعْتِبَار مَا جعله الشَّارِع من الأمارات والأدلة وَمَعَ هَذَا فَأخْبر أَنه قد يكون بَاطِلا فِي نفس الْأَمر وَإِن الْأَخْذ لَهُ أَخذ قِطْعَة من نَار

ص: 394

قَالُوا وَحَدِيث سعد بن معَاذ وَكَونه حكم بِحكم الله لَا يدل على أَن خِلَافه خطأ بل نَحن نقُول حكم بِحكم الله وكل من حكم على القَوْل بالتصويب فَهُوَ حكم الله وَدفع بِأَنَّهُ سيق للتنويه بشأن حكم سعد وَلَو كَانَ كل من حكم فَهُوَ حكم الله لخلا الحَدِيث عَن الْفَائِدَة وكل مَا يشوشوا فِي وَجه الْأَدِلَّة السمعية لَا ينْهض على دَفعهَا

قَالَت المخطئة ثَبت عَن الصَّحَابَة التخطئة وشاع وذاع من دون نَكِير فَكَانَ إِجْمَاعًا من ذَلِك قَول أبي بكر فِي الْكَلَالَة أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره وَلَو كَانَ الْحق غير معِين لما أخطأه وَمن ذَلِك مَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن طَرِيق مَسْرُوق قَالَ كنت كَاتبا لعمر بن الْخطاب فَكتبت هَذَا مَا أرَاهُ الله أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب فانتهره عمر وَقَالَ اكْتُبْ هَذَا مَا رَآهُ عمر فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فَمن عمر وَمن ذَلِك قصَّة المجهضة مَعَ عمر وَأَنه أرسل لَهَا عمر فضربها الطلق فِي الطَّرِيق خوفًا من عمر فَمَاتَ وَلَدهَا فَاسْتَشَارَ عمر الصَّحَابَة فأشاروا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْك شَيْء إِنَّمَا أَنْت مؤدب فَقَالَ عمر مَا تَقول يَا عَليّ فَقَالَ عَليّ إِن كَانُوا قَالُوا برأيهم فقد اخطأوا وَإِن كَانُوا قَالُوا فِي هَوَاك فَلم ينصحوك الحَدِيث هُوَ مَعْرُوف فَأثْبت التخطئة فِي محْضر الصَّحَابَة وَلم ينكروا وعدوا من هَذَا وقائع اتّفقت وفتاوى خطأ الصَّحَابَة فِيهَا بَعضهم بَعْضًا لَا حَاجَة إِلَى سردها فِي الْأُصُول بعد معرفَة الْمُدعى

قلت تواردت كلمة أَئِمَّة الْأُصُول فِيمَا رَأَيْنَاهُ على هَذَا الِاسْتِدْلَال

ص: 395

وَعِنْدِي أَنه لَيْسَ من مَحل النزاع فِي وُرُود وَلَا صُدُور وَذَلِكَ أَن الْكَلَام وَمحل النزاع فِي خطأ الْمُجْتَهد لما هُوَ عِنْد الله وَفِي نفس الْأَمر وَلَا يعلم مَا عِنْده تَعَالَى إِلَّا بإعلام رَسُوله صلى الله عليه وسلم ضَرُورَة أَنه علم غيب فالتخطئة من الصَّحَابَة لبَعْضهِم لَيست مِمَّا نَحن فِيهِ وَإِنَّمَا مُرَاد الْقَائِل لغيره فِيمَا أفتى بِهِ هَذَا خطأ أَي فِي نَظَرِي أَو بِاعْتِبَار مَا يقوى من الأمارات والأدلة لنا وَرُبمَا كَانَ مَا قَالُوا إِنَّه خطأ هُوَ الْحق عِنْد الله وَفِي نفس الْأَمر فَمَا هُوَ مِمَّا نَحن فِيهِ وَإِن أُرِيد أَن فِي حكمهم بتخطئة الْبَعْض وتصويب الآخر دَلِيلا على أَن فِي الِاجْتِهَاد تصويبا وتخطئة وَإِلَّا لما نسب بَعضهم إِلَى بعض الْخَطَأ فَلَا يتم أَيْضا لِأَنَّهُ يحْتَمل فِي قَضِيَّة المجهضة مثلا أَن عليا رضي الله عنه خطأ الْبَعْض لكَونه لم يوف الِاجْتِهَاد حَقه بل هَذَا مُتَعَيّن لِأَنَّهُ لَا يعرف مَا فِي نفس الْأَمر ضَرُورَة وَلِأَنَّهُ أَيْضا قَالَ وَإِن كَانُوا قَالُوا فِي هَوَاك فَدلَّ على أَنه مُتَرَدّد فِي كَونهم قَالُوا فِي الْمَسْأَلَة بِنَظَر وَهَذَا وَاضح وَالله أعلم وَالْحق فِي الْمَسْأَلَة مَعَ الْقَائِلين بالتخطئة كَمَا لَا يعزب عَن النَّاظر فِي الْأَدِلَّة الَّتِي سقناها

قَالُوا وَلَا يلْزمه التّكْرَار

فِيمَا مضى فِيهِ لَهُ اخْتِيَار

ولازم عَن نَاسخ الْأَحْكَام

وَالْخَاص عِنْد جلة الْأَعْلَام

هَذِه مَسْأَلَة هَل يلْزم الْمُجْتَهد تكْرَار النّظر فِي الْمَسْأَلَة إِذا كَانَ قد سبق لَهُ اجْتِهَاد فِي حَادِثَة وتقرر لَدَيْهِ حكمهَا وَهُوَ ذَاكر لحكمه فِيهَا وَإِن لم يكن مستحضرا لدليله الَّذِي وَقع بِهِ اجْتِهَاده أم لَا

قَالَ الْجُمْهُور لَا يلْزمه ذكر للدليل وَقَالَ آخَرُونَ يلْزمه إِذْ مُجَرّد ذكره للِاجْتِهَاد من دون دَلِيله لَا يُفِيد لغَلَبَة تغير الاجتهادات إِذْ قد يظْهر لَهُ عِنْد إِعَادَته النّظر مَا لم يظْهر لَهُ فِيمَا سبق وَأجِيب بِمَنْع غَلَبَة تغير الاجتهادات وَمُجَرَّد احْتِمَال التَّغَيُّر لَا يُوجب الْإِعَادَة وتكرار النّظر وَإِلَّا لزمَه تكراره مَعَ ذكر للدليل لاحْتِمَال التَّغْيِير وَلَا قَائِل بِهِ وخلاصته أَن منَاط صِحَة الِاجْتِهَاد هُوَ ظن أرجحية الحكم عِنْده فَمَا دَامَ الحكم مظنونا فاحتمال خِلَافه مَرْجُوح وَلَا يعْتَبر وَأما إِذا زَالَ الظَّن بِاجْتِهَادِهِ فَهُوَ كمن لم ينظر فِي الْمَسْأَلَة فَيجب إِعَادَة النّظر وَكَذَا إِذا تجدّد لَهُ مَا يُقَوي الرُّجُوع عَن الحكم الأول لِأَنَّهُ إِن عمل

ص: 396

بظنه الأول مَعَ مَا تجدّد كَانَ عَاملا بِظَنّ مَرْجُوح وَأما مَسْأَلَة الْبَحْث عَن النَّاسِخ وَالْخَاص فَتقدم عَنهُ الْبَحْث فِي النّسخ وَفِي الْعَام وَالْخَاص

هَذَا وَلَا يجوز أَن يقلدا

مُجْتَهدا محققا وَإِن غَدا

أعلم أَو من صُحْبَة الْمُخْتَار

أَو خصّه الحكم على الْمُخْتَار

إِشَارَة إِلَى الْخلاف فِي جَوَاز تَقْلِيد الْمُجْتَهد لغيره من الْمُجْتَهدين قبل أَن ينظر فِي الدَّلِيل لَا بعده فَيَأْتِي وَفِي ذَلِك للْعُلَمَاء أَقْوَال

الأول عدم الْجَوَاز وَإِن كَانَ أعلم مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي فِي النّظم وَهُوَ رَأْي الْجُمْهُور وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد صَار مُخَاطبا بِالنّظرِ فِيمَا يحصل لَهُ فَظن الحكم لتأهله لَهُ وكماله فِيهِ فَكيف يعدل عَنهُ إِلَى ظن غَيره ويعرض عَمَّا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من تأهله لأخذ الْأَحْكَام عَن وَهل هَذَا إلامن كفر النِّعْمَة والأعراض عَن الْمِنَّة وَهَذَا بَاب دخله أَكثر أَئِمَّة الْعلم فكم من إِمَام من ائمة الْمذَاهب يقطع النَّاظر فِي آثَارهم أَنهم أعلم مِمَّن قلدوه وَأكْثر اطلاعا وأوسع باعا وَأعظم دراية وَرِوَايَة ترَاهُ مُقَلدًا لأحد الْأَرْبَعَة يسْتَخْرج لكَلَامه الدَّلِيل وَيسْعَى فِيمَا ضعف من أَقْوَاله فِي ترميم التَّأْوِيل ويسمي نَفسه أَو يُسَمِّيه أهل مذْهبه مُجْتَهد الْمَذْهَب كَأَن الْمَذْهَب فِي نَفسه شَارِع لَهُ أَدِلَّة وَأَنه متعبد بمتابعته ويسمون من قَلّدهُ أَي مُجْتَهد الْمَذْهَب وَهُوَ الشَّافِعِي مثلا بالمجتهد الْمُطلق وَقد بسطنا هَذَا فِي سبل السَّلَام فِي كتاب الْقَضَاء

وَمَسْأَلَة الْكتاب فِيهَا اقوال سَبْعَة للْعُلَمَاء

الثَّانِي مِنْهَا أَنه إِذا كَانَ الْمُجْتَهد صحابيا وَله قَول فِي الْمَسْأَلَة جَازَ للمجتهد تَقْلِيده لحَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَأجِيب بِأَنَّهُ حَدِيث ضَعِيف بالِاتِّفَاقِ وعَلى تَقْدِير صِحَّته فَإِن الِاقْتِدَاء غير التَّقْلِيد كَمَا حققناه فِي مَا تقدم فِي بحث كَون قَول الشَّيْخَيْنِ حجَّة وَأَيْضًا لَو قُلْنَا إِنَّه التَّقْلِيد لَكَانَ فِي حق من يجوز لَهُ وَقَوله أَو خصّه إِشَارَة إِلَى

ص: 397

أحد الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَنه يجوز لَهُ التَّقْلِيد فِيمَا يَخُصُّهُ لَا فِي مَا يُفْتِي بِهِ قَالُوا لِأَن السَّائِل إِنَّمَا يسْأَله عَمَّا عِنْده فَإِذا أفتاه بقول غَيره كَانَ غاشا لَهُ فَهَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي حواه النّظم وَبَقِيَّة الْأَقْوَال لم يقو لنا شَيْء مِنْهَا وَلم نرتض غير مَا قَالَه الْجُمْهُور وَهُوَ مَا نظمناه وَدَلِيله قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} والمجتهد مستيطع لتحصيله الظَّن من الدَّلِيل فَلَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى غَيره لِأَنَّهُ كالعدول إِلَى التَّيَمُّم مَعَ إِمْكَان المَاء وَهُوَ لَا يجوز وَأما أَدِلَّة المجيزين فتأتي فِي أَدِلَّة جَوَاز التَّقْلِيد

وَأما بعد نظر الْمُجْتَهد فِي الْمَسْأَلَة أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله بقوله

وَبعد أَن ينظر لَا يُقَلّد

بالِاتِّفَاقِ ثمَّ من يجْتَهد

وَذَلِكَ أَنه بعد النّظر وَحُصُول الظَّن عَن الدَّلِيل قد صَار مُجْتَهدا والمجتهد يحرم عَلَيْهِ التَّقْلِيد لما عَرفته وَهُوَ اتِّفَاق وَقَوله ثمَّ من يجْتَهد مُبْتَدأ خَبره قَوْله

يلْزمه التَّرْجِيح للدلائل

وَالْأَخْذ بالراجح فِي الْمسَائِل

هَذَا بَيَان لحكم الْمُجْتَهد وَأَنه يجب عَلَيْهِ أَخذه بالراجح فِي ظَنّه وَيَأْتِي التَّرْجِيح وَبَيَان كيفيته وطرقه فِي بَاب مُسْتَقل هُوَ الْبَاب الْعَاشِر هَذَا إِن ظهر لَهُ الرَّاجِح فَإِن خَفِي عَلَيْهِ وَحصل التَّعَارُض بَين الْأَدِلَّة فِي نظره فَفِي النّظم إِشَارَة إِلَى ثَلَاثَة أَقْوَال للْعُلَمَاء وَهُوَ قَوْله

فَإِن خَفِي الرَّاجِح قيل خيرا

وَقيل بل يتبع فِيهِ الأكثرا

علما وَقيل بل بِحكم الْعقل

الأول أَنه مُخَيّر بَينهَا يَأْخُذ بأيها شَاءَ وَهُوَ قَول طَائِفَة من الْعلمَاء وَدَلِيله أَن كل وَاحِد يصلح مُسْتَندا للْحكم بِحَيْثُ لَو انْفَرد تعين الْعَمَل بِهِ فكونه عَارضه مَا يماثله فَهُوَ كتعدد الأمارات يعْمل بأيها شَاءَ إِذْ الْعَمَل بأحدها تحكم ورد بِأَن ثُبُوت التَّخْيِير حكم شَرْعِي لَا بُد من الدَّلِيل عَلَيْهِ وَمُجَرَّد التَّعَارُض لَا يَقْتَضِيهِ شرعا وَلَا لُغَة وَلَا عقلا بل الدَّلِيل قَائِم على امْتِنَاعه

ص: 398

وَهُوَ أَنه لَو أفتى الْمُجْتَهد زيدا بِالْحلِّ وعمروا بِالْحُرْمَةِ وَلَا مقتضي للتخير سوى التَّعَارُض لَكَانَ إِفْتَاء بالتشهي وَهُوَ لَا يجوز لما تقرر أَن الْأَحْكَام مَبْنِيَّة على الْحِكْمَة والمصلحة على الرأيين

القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَوْله وَقيل بل يتبع فِيهِ الْأَكْثَر علما وَهُوَ قَول بعض الْعلمَاء قَالُوا يطْرَح مَا وَقع فِيهِ التَّعَارُض وَيرجع إِلَى تَقْلِيد الأعلم كَمَا أَنه جَازَ لَهُ قبل النّظر تَقْلِيده كَمَا سلف فَهُنَا بعد نظره بِالْأولَى لِأَنَّهُ قبل النّظر يَرْجُو أَنه إِذا نظر وجد الرَّاجِح وَأما بعد النّظر فقد ذهب الرَّجَاء فَكَانَ تَقْلِيده هُنَا بِالْأولَى ورد بِأَنَّهُ تقدم أَنه لَيْسَ لَهُ تَقْلِيد غَيره أصلا

الثَّالِث أَنه يرجح إِلَى حكم الْعقل لعدم صِحَة الدَّلِيل النَّاقِل عَنهُ مَعَ التَّعَارُض وَالْمَسْأَلَة فِي التَّعَارُض تَأتي مبسوطة فِي بَاب التَّرْجِيح

وَلم يَصح عِنْد أهل النَّقْل

قَولَانِ قد تَعَارضا

فِي وَقت فَإِن أَتَى أول عَمَّن يَأْتِي

يُرِيد بِهِ أَنه لم يَصح عِنْد الْعلمَاء قَولَانِ لعالم تَعَارضا فِي وَقت وَاحِد فَإِن أَتَى من عَالم قَولَانِ متعارضان فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وَكَذَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ تشابهتا فَلَا بُد من حمله على وَقْتَيْنِ تجدّد لَهُ فِي كل حَادِثَة نظر إِذا عرف الْمُتَأَخر مِنْهُمَا كَانَ الْعَمَل عَلَيْهِ وَإِن لم يعرف فَإِن أمكن الْفرق فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ المتشابهتين صَحَّ وُقُوع الْقَوْلَيْنِ وَإِلَّا أول ذَلِك بِمَا يَصح وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي سبع عشرَة مَسْأَلَة قَوْلَيْنِ وَحمل على ذَلِك على وَجْهَيْن إِمَّا على أَنه مَبْنِيّ على التَّخْيِير أَو قَالَ كل قَول فِي وَقت فَيكون الثَّانِي رُجُوعا عَن الأول إِن علم أَولهمَا أَو أَرَادَ أَن فيهمَا للْعُلَمَاء قَوْلَيْنِ أَو تحْتَمل الْمَسْأَلَة قَوْلَيْنِ يَصح أَن يَقُول

ص: 399

كل مُجْتَهد بِوَاحِد مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ أَحْمد بن حَنْبَل ترى أَتْبَاعه يَقُولُونَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ أَو ثَلَاثَة وَهَذَا يدل على كَمَال معرفَة الْعَالم وعَلى منصبه فِي الدّين وَالْعلم أما الْعلم فَلِأَن من كَانَ أغوص فكرا وأدق نظرا وَأكْثر إحاطة بالأصول وَالْفُرُوع وَأتم وقوفا على شَرَائِط الْأَدِلَّة كَانَت الإشكالات لَدَيْهِ أَكثر وَأما المقتصر على الْوَجْه الْوَاحِد طول عمره فَحَيْثُ لَا تردد لَهُ وَلَا إِعَادَة نظر فَإِنَّهُ يدل على قصوره فِي الْعلم وَأما الدّين لِأَنَّهُ لما لم يظْهر لَهُ وَجه الرجحان لم يستح من الِاعْتِرَاف بِعَدَمِ الْعلم وَلم يشْتَغل بترويج مَا قَالَه أَولا ويداهن فِي الدّين

وَيعرف الْمَذْهَب بِالنَّصِّ على

معِين أَو بِعُمُوم شملا

هَذَا بَيَان مَا يعرف بِهِ مَذْهَب الْعَالم وَهُوَ بِأحد أَمريْن إِمَّا بنصه على أَن حكم هَذِه الْمَسْأَلَة عِنْدِي كَذَا نَحْو الْوتر عِنْدِي سنة وَلَا أرَاهُ وَاجِبا أَو يَأْتِي بِلَفْظ عَام تدخل تَحْتَهُ أَفْرَاد فَحكمهَا حكمه كَأَن يَقُول كل مَكِيل فَإِنَّهُ يجْرِي عِنْدِي فِيهِ الرِّبَا فَيعلم شُمُوله لكل مَكِيل

أَو أَنه نَص على الْمُمَاثلَة

لتِلْك أَو عِلّة حكم شامله

أَو يعرف مذْهبه بنصه على أَن هَذِه الْمَسْأَلَة مثل الْمَسْأَلَة الْفُلَانِيَّة كَأَن يَقُول مثلا الشُّفْعَة تثبت عِنْدِي لِجَار الدّكان فَيعرف ثُبُوتهَا عِنْده لِجَار الدَّار لعدم الْفَارِق بَين المتماثلين أَو ينص على عِلّة الحكم الشاملة لغير مَا نَص عَلَيْهِ كَأَن يَقُول يحرم التَّفَاضُل والنسا فِي الْبر لِاتِّفَاق الْجِنْس وَالتَّقْدِير فَإِنَّهُ يعرف أَن رَأْيه فِي الشّعير والذرة وأمثالهما تَحْرِيم التَّفَاضُل والنسا فِيهَا

وَقَول النَّاظِم أَو عِلّة حكم أَي أَو نَص على عِلّة الحكم ظَاهره أَنه لَا يدْخل أَخذ عِلّة الحكم من تَنْبِيه النَّص أَو إيمائه وَقد صرح الْمهْدي عَلَيْهِ

ص: 400

السَّلَام بذلك قَالَ لِأَنَّهُ يجوز أَن الْمُجْتَهد مِمَّن يفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا يجوز مثل هَذَا فِي إِيمَاء النَّص وتنبيهه فِي الْكتاب وَالسّنة لانْتِفَاء ذَلِك التجويز بِخِلَافِهِ إِذا نَص على الْعلَّة فَإِنَّهُ يكون الْإِلْحَاق ظَاهرا فِي كَلَام الْمُجْتَهد وَلِأَنَّهُ مَا صَار الْإِلْحَاق بهما فِي كَلَام الشَّارِع إِلَّا لقِيَام الدَّلِيل على أَن مُقْتَضى الْحِكْمَة والبلاغة فِي كَلَامه يبعد أَن يَخْلُو عَن الْفَائِدَة ويصان عَن اللاغية بِخِلَاف كَلَام الْمُجْتَهد فَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يبعد عَنهُ مَعَ عدم الِاعْتِبَار لَهما فِي عِبَارَته فَلِذَا قَالُوا يجوز الْإِلْحَاق مَعَ نَصه على الْعلَّة لَا مَعَ إيمائه وتنبيهه وَهَذَا إِذا عرف أَن رَأْيه عدم تَخْصِيص الْعلَّة فَأَما إِذا عرف أَنه يرى جَوَاز تخصيصها فقد أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله

وَإِن رأى جَوَاز تَخْصِيص الْعِلَل

أَي فَإِنَّهُ أَيْضا لَا يمْنَع من الْإِلْحَاق بِمَا نَص عَلَيْهِ من الحكم بعلته قَالَ بِهَذَا الْأَكْثَر وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الْأَغْلَب على أَقْوَال الْمُجْتَهدين عدم التَّخْصِيص فِي الْعِلَل فَيحمل كَلَامه على الْأَغْلَب وَلَا يحْتَاج إِلَى الْبَحْث هَل يخْتَص هَذَا النظير الَّذِي يُرِيد أَن يلْحقهُ بِمَا نَص عَلَيْهِ بل يلْحقهُ بِنَاء على الْأَغْلَب وَكَذَا قَالُوا لَا يبْحَث عَن الْمُخَصّص فِي عُمُوم كَلَام الْمُجْتَهد لقلَّة التَّخْصِيص فِيهِ بِخِلَاف كَلَام الشَّارِع فيبحث عَن تَخْصِيص عموماته لكثرته فِيهِ فَوَجَبَ الْبَحْث

وَاعْلَم أَن هَذِه الطّرق الْأَرْبَع الَّتِي ذكرت فِيمَا يعرف بِهِ مَذْهَب الْمُجْتَهد تسمى مَا عدا الأول بالتخاريج وَالْوُجُوه على مذْهبه قَالَ الْجُمْهُور إِنَّه يجوز سلوكها وتضاف إِلَى الْمُجْتَهد بِشَرْط التَّصْرِيح بِأَنَّهَا أخذت تخريجا من كَلَامه أَو أَخذ ذَلِك من عُمُوم نَصه أَو من نَصه على نَظِير الْمَسْأَلَة وَقد منع أَئِمَّة من الْمُحَقِّقين الْعَمَل بذلك

وَقد أشْبع القَوْل فِي بُطْلَانهَا الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد رحمه الله فِي كِتَابَة الْإِرْشَاد وزيفها قَالَ وبلغنا عَن بعض الْعلمَاء أَنه كَانَ يَقُول هَذَا الحكم الَّذِي يعد أَنه مخرج لَيْسَ بقول للَّذي خرج على قَوْله وَلَا قَول للَّذي خرجه من كَلَام الْمُجْتَهد فَحِينَئِذٍ نقُول هَذَا القَوْل لَا قَائِل بِهِ فَكيف تجْرِي عَلَيْهِ

ص: 401

الديانَات والمعاملات وَهَذِه ورطة تورط فِيهَا الْفُقَهَاء برمتهم وَكَلَامه طَوِيل فِي ذَلِك

قلت وَقد بَينا فِي حَوَاشِي ضوء النَّهَار أَنه قد تقرر أَن الْمخْرج لَيْسَ بمجتهد وَالْأَخْذ بتخريجه تَقْلِيد لَهُ وَلَا يجوز تَقْلِيد غير الْمُجْتَهد بِصَرِيح نصهم فَيحرم الْعَمَل بهَا وَقد اسْتدلَّ لِلْقَائِلين بِجَوَاز الْعَمَل بالتخاريج لِأَنَّهُ قد أطبق عَلَيْهِ الْفُقَهَاء فِي كل عصر من غير نَكِير فَكَانَ إِجْمَاعًا وَأجِيب بَان الْإِجْمَاع اتِّفَاق الْمُجْتَهدين من أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَمَا عرف فِي رسمه وَهَؤُلَاء الْفُقَهَاء لَيْسُوا بمجتهدين بنصكم وَبِأَنَّهُ لَو سلم فَهُوَ إِجْمَاع سكوتي لَا يقبل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَالُوا كَمَا جَازَ أَخذ الْأَحْكَام عَن خطاب الشَّارِع فليجز من كَلَام الْمُجْتَهدين قُلْنَا قد علم يَقِينا أَن خطاب الشَّارِع كُله حق وَدَلِيل وَأما كَلَام الْعَالم الَّذِي تطرقه الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان والذهول عَن لَوَازِم كَلَامه فَلَا وَلِهَذَا تقرر عِنْد الْمُحَقِّقين أَن لَازم الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب وَقد بسطنا ذَلِك فِي رِسَالَة منع التَّكْفِير بالتأويل وَفِي سبل السَّلَام إِلَيْهِ إِشَارَة نافعة ثمَّ لَهُم شَرط فِي الْمخْرج على الْمَذْهَب مَعْرُوف ذكره الْمهْدي فِي مُقَدّمَة الأزهار

ثمَّ عَلَيْهِ وَاجِب إِن انْتقل

إخْبَاره بِأَنَّهُ عَنهُ رَجَعَ

فَلَا يُتَابِعه على مَا قد وَقع

الضَّمِير فِي عَلَيْهِ للمجتهد أَي يجب عَلَيْهِ إِذا رَجَعَ عَن حكمه فِي مَسْأَلَة وتجدد لَهُ خلاف مَا قد أعلم من قَلّدهُ أَن يُخبرهُ بِرُجُوعِهِ لِئَلَّا يُتَابِعه على مَا قد وَقع مِنْهُ أَولا فَيعْمل غير مُسْتَند فِيهِ إِلَيْهِ وَسَوَاء قد عمل بِهِ أَو لَا نَحْو أَن يكون رَأْيه أَن مَسَافَة الْقصر بريد وَقد سَافر الْمُقَلّد وَقصر ثمَّ رأى أَنَّهَا ثَلَاثَة أَيَّام فَإِنَّهُ يجب إخْبَاره لَهُ بذلك لِئَلَّا يَبْنِي على الأول أَو لم يَفْعَله كَمَا لَو لم يُسَافر وَسَوَاء كَانَت لَهُ ثَمَرَة مستدامة كَالصَّلَاةِ أَولا لَا كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِعْلَامه وَإِن كَانَ قد حج فَإِنَّهُ قد يحجّ فِي عَام آخر وَقد رَجَعَ عَن رَأْيه الأول

نعم وَالْمَسْأَلَة متفرعة على مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي هَل الِاجْتِهَاد الأول بِمَنْزِلَة الحكم أَولا فَمن قَالَ بِالْأولِ لم يكن للإعلام ثَمَرَة وَمن قَالَ بِالثَّانِي قَالَ

ص: 402

بِوُجُوبِهِ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ رَأْي الْجُمْهُور وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَن تزوج من دون ولي ورأيه صِحَة النِّكَاح بِدُونِهِ ثمَّ تغير اجْتِهَاده إِلَى وجوب الْوَلِيّ فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ تَجْدِيد العقد على الثَّانِي دون الأول بت وَاسْتدلَّ من قَالَ بِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة حكم الْحَاكِم وهم الْأَولونَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ من قَالَ لَا ينْقض حكم الْحَاكِم وَهُوَ أَنه لَو نقض ضَاعَت فَائِدَة نصب الْحُكَّام وَهِي قطع الْخُصُومَات وَأدّى إِلَى التسلسل وَلَا يخفى أَنه قِيَاس غير صَحِيح وَأَنه دَلِيل غير ناهض وَلذَا أطلق النَّاظِم

وَاخْتلفُوا هَل يتَجَزَّأ أم لَا

والرسم للتقليد فِيمَا يملى

هَذِه مَسْأَلَة تجزي الِاجْتِهَاد وَهل يَصح أَو لَا بِمَعْنى أَنه يكون الْإِنْسَان مُجْتَهدا فِي فن دون الآخر وَفِي مَسْأَلَة دون الْأُخْرَى بِحَيْثُ يتَمَكَّن من استنباط أَحْكَام ذَلِك الْفَنّ أَو تِلْكَ الْمَسْأَلَة على الْحل الَّذِي يتَمَكَّن مِنْهُ الْمُجْتَهد الْمُطلق قَالَ بِهَذَا جُمْهُور الْعلمَاء وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد هُوَ الْمُخْتَار وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الْمَقْصُود حُصُول مَا يتَعَلَّق بِالْمَسْأَلَة بِحَسب ظن الْمُجْتَهد وَكَونه لَا يعلم إمارات غَيرهَا من الْمسَائِل لَا دخل لَهُ فِي تعلق تَحْقِيق الِاجْتِهَاد الْخَاص بل هُوَ والمجتهد الْمُطلق فِيمَا يتَعَلَّق بِتِلْكَ الْمَسْأَلَة سَوَاء وَالْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يتَجَزَّأ اسْتدلَّ بِدَلِيل غير ناهض على مدعاه فَإِنَّهُ علل مدعاه بِأَنَّهُ يجوز أَن تتَعَلَّق الْمَسْأَلَة بِمَا لَا يُعلمهُ قَالَ الْمهْدي قُلْنَا هَذَا خلاف الْفَرْض إِذْ الْفَرْض أَنه كالمجتهد الْمُطلق فِيهَا

وَلما فرغ من مبَاحث الِاجْتِهَاد أَخذ فِي مبَاحث التَّقْلِيد فَقَوله والرسم للتقليد مُبْتَدأ خَبره قَوْله

هُوَ اتِّبَاع الْغَيْر لَا بِحجَّة

وَزَاد فِي الأَصْل وَدون شُبْهَة

الِاتِّبَاع مصدر مُضَاف إِلَى مَفْعُوله حذف فَاعله وَهُوَ اتِّبَاع الْمُقَلّد الْغَيْر وَأُرِيد بِهِ الْمُجْتَهد وَقَوله لَا بِحجَّة مُتَعَلق بالاتباع فَقَوله اتِّبَاع شَمل قَوْله وَفعله فَيدْخل فِيهِ اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالْعَمَل بِالْإِجْمَاع وَقبُول الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة

ص: 403

وَقَوله لَا بِحجَّة يخرج جَمِيع مَا ذكر فَإِنَّهُ اتِّبَاع بِحجَّة قَامَت على وجوب اتِّبَاع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَهِي المعجزات فَكَذَلِك قَامَت الْأَدِلَّة على الْعَمَل بِالْإِجْمَاع وَقبُول الرِّوَايَة بشروطها وَقبُول الشَّهَادَة

وَقَوله وَزَاد فِي الأَصْل وَدون شُبْهَة هَذِه الزِّيَادَة لم نجدها فِي كَلَام أهل الْأُصُول بل زَادهَا فِي أصل النّظم وَلَا فَائِدَة فِيهَا مهمة وَقد تكلّف لإفادتها معنى بِمَا فِيهِ خَفَاء وَعنهُ غنى لِأَنَّهُ جعله لإِخْرَاج اتِّبَاع الْمُخَالفين للحق فَسمى دليلهم شُبْهَة ورسمه ابْن الإِمَام فِي الْغَايَة بِأَنَّهُ قبُول قَول الْغَيْر من دون حجَّته وَأخرج الرُّجُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالْإِجْمَاع وَالْعَمَل بقول الشَّاهِدين بقوله من دون حجَّته لقِيَام الْحجَّة على ذَلِك

قلت إِلَّا أَنه يشكل بِأَنَّهُ إِن أُعِيد ضمير حجَّته إِلَى القَوْل دخل الرُّجُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَغَيره مِمَّا أخرجه بذلك الْقَيْد فَإِنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى حجَّة خَاصَّة على القَوْل الْمعِين مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا من أهل الْإِجْمَاع وَلَا من الشُّهُود وَإِن أُعِيد إِلَى الْقبُول خرج مَا قصد دُخُوله فِي الرَّسْم وَهُوَ رَاجع إِلَى الْمُجْتَهد فَإِنَّهُ إِنَّمَا قبل قَوْله بِحجَّة هِيَ قَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر} كَمَا اسْتدلَّ بِهِ أهل الْأُصُول لذَلِك

وَقد رسمه فِي الْفُصُول بقوله قبُوله قَول الْغَيْر بِلَا مُطَالبَة بِحجَّة وَهَذَا الرَّسْم ظَاهر فِي جعله قيدا لِلْقَوْلِ وَيحْتَمل أَنه للقبول وعَلى كل تَقْدِير لَا يخلص الرَّسْم من الْإِشْكَال وتوضيحه أَن يُقَال قيد بِلَا حجَّة إِن أُعِيد إِلَى الِاتِّبَاع فَهُوَ وَإِن خرج بِهِ اتِّبَاع الرَّسُول وَنَحْوه لِأَن اتِّبَاعه صلى الله عليه وسلم كَانَ عَن حجَّة المعجزات إِلَّا أَنه يرد عَلَيْهِ أَن اتِّبَاع الْمُقَلّد الْمُجْتَهد كَانَ أَيْضا عَن حجَّة يَأْتِي ذكرهَا هِيَ {فاسألوا أهل الذّكر} وَنَحْوهَا فَلَا يكون جَامعا بل خرج هَذَا الْمَحْدُود نَفسه وَإِن جعل قيدا لقَوْل أَي اتِّبَاع الْغَيْر فِي قَوْله بِغَيْر حجَّة على قَوْله لزم أَنه غير مَانع لدُخُول قبُول الْحَاكِم الشَّهَادَة من الْعدْل وقبوله الرِّوَايَة من الرَّاوِي وَقد صَرَّحُوا بِأَنَّهُ غير تَقْلِيد وَالْحَاصِل أَنه رسم فَاسد بِأَيّ عبارَة مِمَّا ذكر

ص: 404

هَذَا وَلما كَانَ التَّقْلِيد لَيْسَ بجائز فِي كل الْمسَائِل أَشَارَ النَّاظِم إِلَى الْجَائِز مِنْهُ بقوله

وَالْحق عِنْد أَكثر الزيدية

الْمَنْع فِي الْأُصُول والعلمية

هَذَا بَيَان لما يمْتَنع فِيهِ التَّقْلِيد عِنْد من ذكر وَهُوَ الْأُصُول وأطلقها ليشْمل النَّوْعَيْنِ

الدِّينِيَّة كوجود الرب وَمَا يجب لَهُ وَيمْتَنع من الصِّفَات والوعد والوعيد والفقيه ككون الْإِجْمَاع حجَّة وَالْخَبَر الآحادي وَالْقِيَاس من الْحجَج وَكَون الْأَمر دَالا على الْوُجُوب وَغير ذَلِك

وَقَوله والعلمية صفة مَوْصُوف مَحْذُوف أَي الْمسَائِل الَّتِي يطْلب فِيهَا الْعلم أَي الِاعْتِقَاد وَهُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام ونكتته ليرتب عَلَيْهِ مَا يَأْتِي من قَوْله وَمَا على الْأَخير إِلَخ

هَذَا وَالْمَنْع من التَّقْلِيد فِيمَا ذكر عزوناه إِلَى قَائِله وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الْعلم بِاللَّه وَصِفَاته وَاجِب لقَوْله تَعَالَى {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} وَالْإِجْمَاع قَائِم على ذَلِك وَلَو اقْتضى التَّقْلِيد الْعلم لاجتمع النقيضان وَهُوَ الْعلم بالجبر مثلا وَعَدَمه والتشبيه وَعَدَمه وَكَون الْإِجْمَاع حجَّة وَلَيْسَ بِحجَّة

وَأجِيب بِأَن الْعلم بِهِ تَعَالَى وَصِفَاته الَّتِي دلّ عَلَيْهَا الْقُرْآن مَعْلُوم للعباد بِالضَّرُورَةِ عالمهم وعامتهم فَإِن الله فطر الْعباد على ذَلِك كَمَا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة فَجَمِيع الْعباد يعلمُونَ وحدانيته تَعَالَى ويعلمون صِفَاته {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} وَالْإِقْرَار بِأَنَّهُ خَالِقهَا وخالقهم مُسْتَلْزم الْعلم بِأَنَّهُ الْقَادِر الْحَكِيم الْعَالم الْحَيّ وَغير ذَلِك من صِفَات كَمَاله بل هم مقرون فطْرَة أَنه الرب الرَّزَّاق والمنجي من الظُّلُمَات فَهَذَا مَعْلُوم لكل وَاحِد لَا يُجَادِل فِيهِ إِلَّا مكابر لعقله وَالْقُرْآن مَمْلُوء بِهَذَا وَقد اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي إيقاظ الفكرة

ص: 405

وَيدل لَهُ أَنه خير الْقُرُون أَصْحَاب الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم وهم أحرص النَّاس على فعل كل وَاجِب لم يؤمروا بذلك وَلَا أثر عَنْهُم ذَلِك وَلَو وَقع لنقل وعَلى الْجُمْلَة أَن الْعلم بِهِ تَعَالَى وبصفاته فطري وَالْعلم بِمَا دونوه وسموه أصُول الدّين وَقَالُوا يجب الْعلم بمسائله وَالنَّظَر فِي دلائله إِيجَاب بِلَا دَلِيل واصطلاح على مسَائِل أَكْثَرهَا فضول لَا أصُول وظنية بل وهمية وَأما مَا يتم بِهِ الْإِيمَان فَهُوَ فِي الْفطْرَة الخلقية والجبلة البشرية وَقد وسع الْبَحْث فِي غير هَذَا

وَمَا على الْأَخير مِنْهَا رتبا

يحرم لَا فِي غَيره فأوجبا

على الَّذِي لم يجْتَهد ولازم

عَلَيْهِ أَن يعرف من يلازم

عَن علمه يبْحَث والعداله

أَي أَنه يحرم التَّقْلِيد فِي عَمَلي يَتَرَتَّب على علمي الْأَخير فِي الْبَيْت الأول هِيَ الْمسَائِل العلمية وَقد مثلوها بالموالاة والمعاداة فَإِنَّهُمَا عمليان ترتبا على علمي وَهُوَ إِيمَان من يواليه وَالْكفْر أَو الْفسق لمن يعاديه والتكفير والتفسيق لَا يكون إِلَّا بقطعي لِأَنَّهُمَا إِضْرَار بِالْغَيْر فَلَا يجوز التَّقْلِيد فِيمَا تفرعا عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمهْدي فِي الْمُقدمَة بقوله وَلَا فِي عَمَلي يَتَرَتَّب على علمي وَأورد عَلَيْهِ أَن الْأَحْكَام الفروعية كلهَا مترتبة على علمي وَهُوَ أصُول الْفِقْه بل كل ذَلِك مترتب على التَّوْحِيد وَصدق الرُّسُل فَمَا وَجه تَخْصِيص هَذِه الْمَسْأَلَة بِالْمَنْعِ من التَّقْلِيد دون غَيرهَا من الْمسَائِل الفروعية وَسَوَاء قُلْتُمْ إِن مسَائِل أصُول الْفِقْه كلهَا علمية كَمَا هُوَ مُقْتَضى منعكم أَن يُقَلّد فِيهَا أَو قُلْتُمْ بَعْضهَا علمي توجه الْإِيرَاد على مَا يتَفَرَّع على ذَلِك الْبَعْض وَهُوَ إِيرَاد لَا محيص عَنهُ وَقد أَطَالَ السَّيِّد مُحَمَّد الْمُفْتِي وتلميذه السَّيِّد الْحسن الْجلَال فِي شرحهما لتكملة الْأَحْكَام فِي هَذَا الْمقَام الْكَلَام فَإِنَّهُ ذكر الْمهْدي الْمَسْأَلَة فِيهَا لَكِن عبر عَنْهَا بِصِيغَة قيل كَأَنَّهُ قد تنبه للإيراد وَقَوله يحرم مُتَعَلق قَوْله وَمَا على الْأَخير

وَقَوله لَا فِي غَيره فأوجبا ضمير غَيره لما تقدم أَي لَا فِي غير مَا تقدم من الْمسَائِل الَّتِي حرم فِيهَا التَّقْلِيد وَهِي الْأُصُولِيَّة والعلمية والعملي الْمُتَرَتب

ص: 406

على علمي فَهَذِهِ الثَّلَاثَة يحرم التَّقْلِيد فِيهَا لَا فِيمَا عَداهَا فَإِنَّهُم أوجبوا التَّقْلِيد لغير الْمُجْتَهد فِيهَا وَهِي الْمسَائِل العملية قَطْعِيَّة كَانَت أَو ظنية وَهَذَا رَأْي الْجُمْهُور من الْعلمَاء وَظَاهر عبارَة الْمهْدي فِي كِتَابيه الأزهار والمنهاج وَمثل عبارَة الْفُصُول أَنه جَائِز وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور وَذهب آخَرُونَ إِلَى عدم جَوَاز التَّقْلِيد مُطلقًا وَاسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوب بِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن الْعلمَاء فِي كل عصر لَا يزالون يفتون الْعَوام ويقبلون ذَلِك ويعملون بِهِ من دون بَيَان دَلِيل ذَلِك وشاع وذاع من غير إِنْكَار فَكَانَ إِجْمَاعًا

قَالَ الْمُخَالف هَذَا دَلِيل الْجَوَاز فَأَيْنَ دَلِيل الْوُجُوب

قَالُوا قَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَهَذَا أَمر وَأَصله الْإِيجَاب وَهُوَ عَام لإِيجَاب السُّؤَال على كل من لَا يعلم وَأجِيب بِأَن المُرَاد اسألوهم عَن أَدِلَّة مَا تخاطبون بالإتيان بِهِ لَا عَن رَأْيهمْ وَبِأَن الْآيَة فِي السُّؤَال عَن شَيْء خَاص وَهُوَ أَنه لم يسل الله إِلَّا رجَالًا يوحي إِلَيْهِم كَمَا هُوَ صَرِيح صدر الْآيَة قَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم فاسألوا أهل الذّكر} عَن هَذَا الْخَاص حَيْثُ لم تعلمُوا الْبَينَات والزبر قَالُوا أَيْضا قد أوجبتم الِاجْتِهَاد على كل وَاحِد فِي الْمسَائِل الْأُصُولِيَّة وَهِي أدق وأخفى من مسَائِل الْفُرُوع وَالْأَصْل الْعَمَل بِالْعلمِ وَإِن لم يكن فبالظن وَلَيْسَ الظَّن الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ كالظن الْحَاصِل عَن التَّقْلِيد

قُلْنَا الْحق أَحَق بالاتباع وَالْوَاجِب على الْعَاميّ السُّؤَال عَن الْمَسْأَلَة الْمُحْتَاج إِلَيْهَا ودليلها وَلَا يجوز لَهُ التَّقْلِيد وَالْمَسْأَلَة مبسوطة فِي غير هَذَا

وعَلى إِيجَاب التَّقْلِيد أَو جَوَازه تفرعت الْمَسْأَلَة الْمشَار إِلَيْهَا بقوله ولازم وَهُوَ مُبْتَدأ خَبره فَاعله الساد مسد خَبره وَهُوَ قَوْله أَن يعرف من يلازم أَي من يلازمه بتقليده إِيَّاه وَيصِح فتح الزَّاي من يلازم وَكسرهَا وَقَوله ولازم أَي وَاجِب على الْمُقَلّد معرفَة من يلازمه ومعرفته بالبحث عَن علمه وعدالته فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقَلّد من اجْتمع فِيهِ الْأَمْرَانِ علم الْمُجْتَهد وَالْعَدَالَة لِأَن المتصف بهما

ص: 407

يحصل الظَّن بِأَن الَّذِي قَالَه مُقْتَضى الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَلَا يكون ذَاك الظَّن حَاصِلا إِلَّا مَعَ عَدَالَته وَعلمه إِذْ مَعَ جَهله أَو فسقه لَا يحصل الظَّن ذَلِك فَيَنْتَفِي مُوجب التَّقْلِيد وَيَأْتِي كَيْفيَّة بحث الْمُقَلّد عَنْهُمَا فِي حصولهما فِيمَن قَلّدهُ وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله

ويكتفي عَنهُ أَخُو الجهاله

بِأَن يرَاهُ مفتيا بِالْحَقِّ

فِي بلد عَن آمُر محق

أَي من كَانَ جَاهِلا للأمرين المشترطين فِي الْمُقَلّد اسْم مفعول فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ فِي معرفَة اتصاف من يُرِيد تَقْلِيده بهما أَن يرَاهُ مفتيا بِمَا يَظُنّهُ حَقًا لانتصابه للفتيا من غير قدح فِيهِ من أهل الْعلم وَالْفضل فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ مُعَرفا للأمرين وَهَذَا مَبْنِيّ على مَا وَقع عَلَيْهِ الْإِجْمَاع من أَنه لَا يجوز أَن يُفْتِي إِلَّا الْمُجْتَهد الْعدْل لِأَنَّهُ مخبر عَن أَحْكَام الله وَلَا يخبر عَنْهَا إِلَّا من يعرفهَا وَلَا تقبل الرِّوَايَة عَنْهَا إِلَّا من عدل وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الأصوليون

وَأما زِيَادَة النَّاظِم لقَوْله عَن آمُر محق

لَا يرتضى نصبا لذِي التَّأْوِيل

فَهَذَا شَرط ذكره الْمهْدي وَحَكَاهُ عَنهُ فِي الْفُصُول وَهُوَ أَن يكون ذَلِك فِي بلد شوكته لإِمَام حق لَا يرى نصب أهل التَّأْوِيل وَهُوَ لإِخْرَاج تَقْلِيد مُجْتَهد فَاسق التَّأْوِيل فَإِنَّهُ لَا يقبل فتياه هَذَا رَأْي جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة وَاخْتَارَهُ الْمهْدي وَمن تبعه وَقَالَ الْجُمْهُور من أهل الْأُصُول بِقبُول فتيا فَاسق التَّأْوِيل ودليلهم مَا قدمْنَاهُ فِي بَاب الْأَخْبَار من قبُول روايتهم فَإِن إجتهاده إِخْبَار عَن ظَنّه الحكم الشَّرْعِيّ عَن دَلِيله فَيقبل كَمَا تقبل رِوَايَته

ثمَّ ذكر النَّاظِم أَنه يلْزم الْمُقَلّد الْبَحْث عَن الْأَفْضَل فَقَالَ

وَالْأَفْضَل الأولى من الْمَفْضُول

فليتحر الْبَحْث عَنهُ التَّابِع

إِذا أَرَادَ أَنه يُتَابع

ص: 408

أَي يجْتَهد إِذا تعدد المجتهدون وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْضَلِيَّة علما أَو ورعا أَو فيهمَا فَالْأَفْضَل أولى وأحق بالاتباع مَعَ جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول هَذَا مَا يفِيدهُ النّظم وَهُوَ فِي أَصله وَهُوَ رَأْي أَئِمَّة الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَقيل يجب عَلَيْهِ تحري الْأَفْضَل وتقليده وَلَا يُقَلّد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْأَفْضَل هَذَا وَيعرف ذَلِك من ثَنَاء أهل الْعلم عَلَيْهِ واشتهاره وَذَلِكَ لِأَن الْمُجْتَهدين عِنْد الْمُقَلّد كالأمارات الشَّرْعِيَّة عِنْد الْمُجْتَهد فَكَمَا يجب على الْمُجْتَهد اتِّبَاع مَا هُوَ الْأَقْوَى كَذَلِك يجب على الْمُقَلّد اتِّبَاع الْأَقْوَى فِي تَحْصِيل الظَّن ورد بِأَن الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة وَغَيرهم على إِقْرَار الْمُفْتِي والمستفتي على أَخذ الْفتيا من أَي عَالم من دون تطلب مفضول من أفضل وَلَا بحث عَن ذَلِك وَلَا قَول الْمُفْتِي لَهُ أطلب فتواك من فلَان لِأَنَّهُ أفضل وَأجِيب بِأَن إِثْبَات الْإِجْمَاع فِي حيّز الِامْتِنَاع

وَأَشَارَ أَيْضا إِلَى بعض أَحْوَال من يخْتَار تَقْلِيده فَقَالَ

والحي والأعلم أولى فِيهِ

من ميت أَو ورع فَقِيه

اشْتَمَل الْبَيْت على مَسْأَلَتَيْنِ على طَرِيق اللف والنشر

الأولى أَن تَقْلِيد الْحَيّ أولى من الْمَيِّت بِنَاء على جَوَاز تَقْلِيده بعد مَوته وَوجه الْأَوْلَوِيَّة أَنه أجمع من جوز التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع على جَوَاز تَقْلِيد الْحَيّ بِخِلَاف الْمَيِّت فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَاز تَقْلِيده كَمَا يَأْتِي بَيَانه وَاتِّبَاع مَا أجمع على جَوَازه أولى مِمَّا اخْتلف فِيهِ وَلِأَنَّهُ يُمكنهُ مُرَاجعَته فِيمَا يشكل وَيَأْخُذ عَنهُ بأقوى الطّرق من المشافهة وَنَحْوهَا وَهَذَا مَفْقُود فِي الْمَيِّت فَكَانَ تَقْلِيده للحي أولى

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن الأعلم أولى من الأورع وَهَذَا رَأْي الْأَكْثَر قَالُوا لِأَن تعلق الْعلم بمسائل الِاجْتِهَاد أَكثر وَلِأَن الظَّن الْحَاصِل بقول الأعلم أقوى والأولوية تثبت بِهَذَا الْقدر

وَاعْلَم أَنه اخْتلف فِي جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت فَقيل يحرم وَادّعى عَلَيْهِ الْإِجْمَاع وَقيل يجوز وَادّعى عَلَيْهِ الْإِجْمَاع أَيْضا وَاسْتدلَّ للْجُوَاز بالوقوع

ص: 409

بِلَا نَكِير فَكَانَ إِجْمَاعًا بَيَان ذَلِك أَن الْأمة فِي كل قطر عاملة بمذاهب الْأَئِمَّة كالهادي والناصر وَالْفُقَهَاء الْأَرْبَعَة قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَلِأَنَّهُ لَو بَطل قَول الْقَائِل بِمَوْتِهِ لم يعْتَبر شَيْء من أَقْوَاله كروايته وشهادته ووصاياه انْتهى وَالْمَنْع من تَقْلِيده قد وسع الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فِي كِتَابه الْقَوَاعِد وَبسط ذَلِك بِمَا لَا تتسع لَهُ هَذِه الأوراق

كَذَلِك الْمَشْهُور بَين الْأمة

بِالْعلمِ وَالْفضل من الْأَئِمَّة

أَي أَن الْمَشْهُور الْمَذْكُور من أَئِمَّة أهل الْبَيْت أولى بالتقليد من غَيره أَئِمَّة الِاجْتِهَاد من غَيرهم من الْعباد فالتعريف من الْأَئِمَّة للمعهود بَين أهل الْمَذْهَب من الزيدية وَإِنَّمَا حملناه على هَذَا لِأَنَّهُ الْمَعْرُوف فِي كتبهمْ وَلَو لم يحمل على هَذَا كَانَ تَكْرَارا لما سلف آنِفا من أَن الْأَفْضَل أولى من الْمَفْضُول وَاسْتَدَلُّوا للأولوية بِمَا ثَبت فِي فَضَائِل الأول من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة كآية المباهلة والتطهير وَأَحَادِيث وَاسِعَة قد بسطت فِي مطولات الْفَنّ

قَالُوا فتقليد الْوَاحِد من تِلْكَ الْجُمْلَة أولى من تَقْلِيد غَيره وَهَذَا إِذا حصلت الْمُسَاوَاة بَين الْعَالمين مثلا وَكَانَ أَحدهمَا قرشيا أَو هاشميا فَإِنَّهُ أولى وَقد صرحت عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة بِأَن تَقْلِيد الشَّافِعِي أولى من تَقْلِيد غَيره لِقَرَابَتِهِ من النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَكيف لَا يكون ذَلِك فِي أَئِمَّة أهل الْبَيْت لأَنهم أقرب إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِه الْأَوْلَوِيَّة لَا تبلغ حد الْوُجُوب

ثمَّ الْتِزَام مَذْهَب يعين

أولى وَفِي الْإِيجَاب خلف بَين

هَذِه مَسْأَلَة الْتِزَام الْمُقَلّد مَذْهَب إِمَام معِين فَقيل إِنَّه أولى من غَيره من عَدمه قَالُوا للبعد من تتبع الرُّخص وشهوات النَّفس وَهَذَا لِلْجُمْهُورِ وَقيل بل يجب وَهُوَ قَول الْأَقَل

قَالُوا فيعزم على الْتِزَام مَذْهَب إِمَام معِين وَلَا يعْمل إِلَّا بقوله فِي عَزَائِمه ورخصه لِأَن أَقْوَال الْمُجْتَهدين عِنْد الْمُقَلّد كالأمارات الشَّرْعِيَّة عِنْد الْمُجْتَهد إِذا اخْتَار أَحدهمَا وَجب عَلَيْهِ اتِّبَاعه وَضعف هَذَا بِأَنَّهُ إِذا عمل الْمُجْتَهد بِالْقِيَاسِ

ص: 410

مثل لم يقل أحد إِنَّه لَا يعْمل بِهِ فِي جَمِيع الْأَحْكَام بل هَذَا التَّعْلِيل فِي عدم الِالْتِزَام أوضح

وَاعْلَم أَن الْأَوْلَوِيَّة الِالْتِزَام أَو إِيجَابه بِدعَة نشأت من تفرق الْعباد فِي الدّين وَاتِّبَاع كل لما عَلَيْهِ أهل قطره من التَّقْلِيد الْمُبين وكل هَذَا بَاطِل وَيَأْتِي بِمَاذَا يكون مُلْتَزما

ثمَّ إِذا الْتزم مَذْهَب معِين فَقَالُوا يحرم انْتِقَاله إِلَى غَيره كَمَا أَفَادَهُ قَوْله

والانتقال بعد الِالْتِزَام

يحرم فِيمَا اختير للأعلام

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز انْتِقَال الْمُلْتَزم من مَذْهَب من الْتزم مذْهبه إِلَى غَيره كَمَا أَفَادَهُ الْبَيْت فَادّعى جمَاعَة تَحْرِيم الِانْتِقَال بعد الْتِزَام وَإِلَيْهِ أُشير بقوله فِيمَا اختير للأعلام قَالَ الْمحرم مستدلا للتَّحْرِيم بقوله إِن قَول الْمُجْتَهد عِنْد الْمُقَلّد كالدليل عِنْد الْمُجْتَهد فَلَا يجوز لَهُ الْخُرُوج كَمَا لَا يجوز للمجتهد

وَأجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا يحرم على الْمُجْتَهد الِانْتِقَال لِأَنَّهُ مَتى حصل لَهُ من نظره فِي أَمارَة ظن الحكم جزم بِوُجُوب عمله بِمُقْتَضَاهُ لانعقاد الْإِجْمَاع على أَنه يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمُقْتَضى ظَنّه وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُقَلّد فَإِن ظَنّه لَا يُفْضِي بِهِ إِلَى علم إِذا لم ينْعَقد الْإِجْمَاع على وجوب اتِّبَاعه لظَنّه بل انْعَقَد على خِلَافه وَلَا يخفى ظُهُور هَذَا الرَّد

وَمن قَالَ بِحرْمَة الِانْتِقَال بعد الِالْتِزَام قد اسْتثْنى مَا أَفَادَهُ قَوْله

إِلَّا إِلَى تَرْجِيح ذِي الْأَهْلِيَّة

أَي أَنه يجب الِانْتِقَال بعد الِالْتِزَام إِذا تمكن الْمُلْتَزم من التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة حَيْثُ صَار مُجْتَهدا مُطلقًا أَو فِي مَسْأَلَة على القَوْل بالتجزي لما عرفت من أَنه يحرم على الْمُجْتَهد التَّقْلِيد أَو إِذا ظهر لَهُ فَوَات كَمَال من الْتزم مذْهبه فِي علمه أَو عَدَالَته وَجب الِانْتِقَال عَنهُ أَو فسق بعد عَدَالَته فَإِنَّهُ ينْتَقل عَنهُ فِيمَا تعقب من أَقْوَاله بعد فسقه لَا فِيمَا قبله فقد نفذ مَا عمله وَصَحَّ

ص: 411

وَلما اخْتلف الْعلمَاء بِمَاذَا يكون مُلْتَزما على أَقْوَال أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْله

والالتزام حَاصِل بِالنِّيَّةِ

وَذَلِكَ بِأَن يعزم على الْعَمَل بقول إِمَام معِين سَوَاء عمل أَو لَا وَهَذَا قَول الْجُمْهُور لِأَنَّهُ النِّيَّة مبادىء الْأَعْمَال وأساسها فَإِنَّهُ إِذا نوى عملا صَار لَهُ حكمه وَهَذَا القَوْل الأول

وَالثَّانِي مَا أَفَادَهُ قَوْله

وَقيل مَعَ لفظ يكون أَو عمل

فَهَذَا أخص من الأول لِأَنَّهُ ضم إِلَى النِّيَّة أحد أَمريْن اللَّفْظ وَالْعَمَل قَالُوا لِأَن الِالْتِزَام إِيجَاب على النَّفس فَلَا بُد من اللَّفْظ كالنذر أَو الْعَمَل لكَونه أقوى فِي الدّلَالَة من النِّيَّة وَضعف كَونه إِيجَابا بل هواختيار مِنْهُ

وأشير إِلَى بَقِيَّة الْأَقْوَال بقوله

وَقيل يَكْفِي وَحده وَقيل بل

بالابتدا وَقيل باعتقاده

لقَوْله أَو سَائل عَن مُرَاده

الثَّالِث أَنه يكون مُلْتَزما بِعَمَلِهِ بقول مُجْتَهد فَلَا يحْتَاج إِلَى عزم وَلَا تلفظ وَهَذَا رَأْي ابْن الْحَاجِب

الرَّابِع أَنه يصير مُلْتَزما بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَل فَإِذا شرع فِيهِ حرم الِانْتِقَال وَهُوَ مُرَاده بقوله وَقيل بِالِابْتِدَاءِ

الْخَامِس مَا أفيد بقوله وَقيل باعتقاده لقَوْل الْمُجْتَهد اعْتِقَاد صِحَّته لِأَن اعْتِقَاد الصِّحَّة مُرَجّح يجب اتِّبَاعه كَمَا يجب على الْمُجْتَهد اتِّبَاع الدَّلِيل الرَّاجِح فِي ظَنّه

وَالسَّادِس أَفَادَهُ قَوْله أَو سَائل عَن مُرَاده وَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ قَالَ الْقَائِل بِهَذَا إِنَّه يصير الْمُقَلّد مُلْتَزما بسؤاله للمجتهد وَلَا يجوز لَهُ بعد سُؤَاله الِانْتِقَال عَنهُ وَقَوله عَن مُرَاده أَي مُرَاد نَفسه أَي الْمُلْتَزم من أَي مَسْأَلَة أَرَادَ السُّؤَال عَنْهَا دينية

ص: 412

وَاعْلَم أَنه قد ذكر السَّيِّد مُحَمَّد الْمُفْتِي فِي شَرحه للتكملة اضْطِرَاب الْكَلَام فِي التَّفْرِقَة بَين الْمُقَلّد والملتزم والمستفتي وَأطَال فِي نقل كَلَامهم ثمَّ قَالَ وَقَوْلِي فِي ذَلِك وَإِن كنت قاصرا أَن يُقَال الاستفتاء السُّؤَال عَن حكم الْحَادِثَة والتقليد هُوَ الْعَزْم على الْعَمَل بقول الصَّالح بِلَا حجَّة خَاصَّة وَلَا شُبْهَة زَائِدَة على مقاله وَلَا يكون كَذَلِك إِلَّا مَعَ اعْتِقَاد صِحَّته عِنْده والالتزام مِنْهُ هُوَ الْتِزَام الْعَزْم على الْعَمَل بقوله هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يجروا عَلَيْهِ من ذَلِك الِاصْطِلَاح انْتهى

هَذَا وَقد حرم أَن يقلدا

مجتهدين عِنْده فَصَاعِدا

يجمع قَوْلَيْنِ لَهُم فِي حكم

فِي صُورَة يمْنَعهَا ذُو الْعلم

مثل نِكَاح غَابَ عَنهُ الشَّاهِد

مَعَ الْوَلِيّ فَهُوَ عقد فَاسد

هَذِه مَبْنِيَّة على القَوْل بِعَدَمِ وجوب الِالْتِزَام فَإِذا جَازَ للعامي الْعَمَل بِمَا شَاءَ من أَقْوَال الْمُجْتَهدين فَلَيْسَ لَهُ أَن يجمع بَين قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين فِي حكم وَاحِد لَا يَقُول بِهِ أَي بِالْجمعِ أحد من الْعلمَاء فِي ذَلِك الحكم وَقد مثله النَّاظِم بِالنِّكَاحِ من دون ولي تقليدا لأبي حنيفَة وَبِدُون شُهُود شُهُود تقليدا لمَالِك إِن هَذَا نِكَاح فَاسد على قَول كل من قَلّدهُ أما الأول فَلِأَنَّهُ فَاسد عِنْده إِذْ لَا شُهُود وَأما الثَّانِي فَإِنَّهُ فَاسد عِنْده إِذْ لَا ولي

فَائِدَة أما لَو قلد جمَاعَة الْعلمَاء وتتبع رخص أَقْوَالهم فَمَنعه الْجُمْهُور وادعي الْإِجْمَاع على ذَلِك وَلَيْسَ بِصَحِيح فَإِنَّهُ قَالَ أَبُو اسحاق الْمروزِي من عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة والعز بن عبد السلام إِنَّه يجوز لَهُ وَهُوَ الظَّاهِر مِمَّن لم يُوجب الِالْتِزَام

وَجَائِز أَن يُفْتِي الْمُقَلّد

حِكَايَة عَمَّا يرى الْمُجْتَهد

إِذا غَدا أَهلا لِأَن يخرجَا

هَذَا على ماقاله أهل الحجا

ص: 413

الْإِجْمَاع وَاقع على أَنه لَا يُفْتِي إِلَّا الْمُجْتَهد وَإِنَّمَا اخْتلف هَل يجوز لغيره فِي صُورَة خَاصَّة وَهُوَ الافتاء بِمذهب مُجْتَهد آخر فَقيل يجوز أَن يُفْتِي بِهِ وَإِن لم يكن أَهلا للتخريج بل الشَّرْط أَن يكون عَارِفًا بأقوال من يُفْتِي بمذهبه مطلعا عَلَيْهَا فَيكون كالراوي وَهَذَا رَأْي الْمُؤَيد وَجَمَاعَة

وَقيل لَا يجوز إِلَّا إِذا كَانَ أَهلا للتخريج عَنهُ وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي الِاصْطِلَاح بمجتهد الْمَذْهَب وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَفَادَهُ النّظم

قَالُوا لِأَن الْإِفْتَاء بِالْمذهبِ كَالْحكمِ المستنبط من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة لَا يعرفهُ إِلَّا من هُوَ أهل للتخريج هَذَا وَأما نقل مَذْهَب الْمُجْتَهد فِيمَا قد نَص عَلَيْهِ فَلَيْسَ من الْفتيا بالاستنباط بل من بَاب الرِّوَايَة يشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط فِيهَا من الْعَدَالَة والضبط وَقيل لَا يجوز مُطلقًا وَهُوَ قَول أبي الْحُسَيْن وَلَو قيل إِن كَانَ السَّائِل يُرِيد مَذْهَب إِمَامه مثلا كمذهب الْهَادِي جَازَ للمقلد حِكَايَة ذَلِك من بَاب الرِّوَايَة وَإِن كَانَ سَائِلًا عَن الحكم فِي الْمَسْأَلَة بِالدَّلِيلِ لم يجز للمقلد إفتاؤه إِلَّا أَن يكون عَارِفًا بِهِ على القَوْل بتجزي الِاجْتِهَاد

وَعند أَن يخْتَلف المفتونا

فَفِيهِ أَقْوَال لمن يفتونا

أَي أَنه إِذا سَأَلَ الْفتيا سَائل وَسَأَلَ جمَاعَة وَاخْتلفُوا عَلَيْهِ فِي الْأَجْوِبَة وهم المرادون بقوله المفتونا فَإِنَّهُ جمع مفت وَقَوله لمن يفتونا فعل مضارع صلَة لمن وَهُوَ المستفتي وَقَوله فَفِيهِ أَقْوَال وَهِي خَمْسَة قد تضمنها قَوْله

فَقيل بِالْأولِ مِنْهَا يعْمل

وَقيل مَا يرَاهُ أولى يقبل

هَذَانِ قَولَانِ

الأول أَنه يعْمل بِالْأولِ لِأَنَّهُ قد حصل بِهِ ظن الحكم وَالْأَصْل عدم

ص: 414

النَّاقِل ورد بِأَنَّهُ مَعَ الِاخْتِلَاف يَزُول ذَلِك الظَّن وتتعارض عِنْد الْمُقَلّد أَقْوَال أهل الْفتيا كالمجتهد عِنْد تعَارض الأمارات

الثَّانِي أَنه يعْمل بِمَا يرَاهُ أولى لِأَن الْعَمَل بأقوى الأمارات هوالمتعين على الْمُجْتَهد فَكَذَا على الْمُقَلّد ورد بِأَن قُوَّة أحد الرأيين لَدَيْهِ صادر عَن وهم إِذْ لَيْسَ بِأَهْل للترجيح وَالوهم لَا اعْتِبَار بِهِ وَلَيْسَ ظَنّه كظن الْمُجْتَهد إِذْ ذَلِك صادر عَن أَمَارَات شَرْعِيَّة وَظن الْمُقَلّد صادر عَن أَقْوَال الْمُفْتِينَ وَالْفرق بَين الْأَمريْنِ وَاضح

وَقيل بالتخيير عِنْد الْبَعْض

وَقيل بالأخف فِيهِ يقْضِي

فِي حق ربه وبالأشق

فِي حق مَا يلْزمه لِلْخلقِ

هَذَا هُوَ القَوْل الثَّالِث وَهُوَ أَنه يُخَيّر المستفتي بَين الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال فَيعْمل بأيها شَاءَ ووجهة أَن أَقْوَالهم قد صَارَت لَدَيْهِ كالأمارات الشَّرْعِيَّة المتعارضة فِي نظر الْمُجْتَهد فَيجب التَّخْيِير كَمَا فِي خِصَال الْكَفَّارَة

الرَّابِع أَنه يَأْخُذ بالأخف فِي حق الله تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه يُرِيد بعباده الْيُسْر وَلَا يُرِيد بهم الْعسر وَبِأَنَّهُ لم يَجْعَل عَلَيْهِم فِي الدّين من حرج وَيَأْخُذ بالأشق فِي حق المخلوقين لكَونه أحوط ورد بِأَنَّهُ تَعَالَى يُرِيد الْيُسْر فِيمَا تعلق من الْأَحْكَام بِحَق الله وبحق الْعباد

وَقيل بل فيهم بِحكم الْحَاكِم

مُخَيّرا فِي حق رب الْعَالم

وَهَذَا هُوَ الْخَامِس وَهُوَ أَنه يعْمل فِي حق الْعباد إِذا كَانَت الْفَتْوَى فِيمَا يتَعَلَّق بمعاملتهم بِحكم الْحَاكِم لِأَنَّهُ مَنْصُوب لفصل الشجار وتغليق بَاب الْخُصُومَات وَأما إِذا كَانَت فِي حق الله تَعَالَى فَإِنَّهُ مُخَيّر بَين أَقْوَال الْمُفْتِينَ وَهَذَا إِنَّمَا يتم إِذا كَانَت حُقُوق الْعباد مُتَعَلقَة بالخصومات وَإِلَّا فكثير مِنْهَا لَا يحْتَاج إِلَى

ص: 415

الشجار فَلَا يحْتَاج إِلَى الْحَاكِم وَحكم الْحَاكِم من دون مرافعة كَقَوْل أهل الْفتيا

هَذَا وَمن لم يعقل التقليدا

مغفلا لجهله بليدا

فَكل مَا يَفْعَله صَحِيح

هَذَا الَّذِي يقْضِي بِهِ التَّرْجِيح

مُعْتَقد الْجَوَاز مَا لم يخرق

إجماعنا لكنه فِيمَا بَقِي

يُفْتِي بِرَأْي العلما من شيعته

ثمَّ بِأَدْنَى جِهَة من جِهَته

هَذِه الْمَسْأَلَة أَي مَسْأَلَة الْجَاهِل الَّذِي لَا يعقل التَّقْلِيد وَلَا رشد لَهُ بمسائل الْفُرُوع وَإِنَّمَا يقبل ضروريات الدّين قَالَ الْعلمَاء من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة فَإِن الحكم فِيمَا يَفْعَله مُعْتَقدًا جَوَازه هُوَ الصِّحَّة كَمَا قَالَ فَكل مَا يَفْعَله صَحِيح إِلَّا أَن يخرق الْإِجْمَاع فَإِنَّهُ يُنكر عَلَيْهِ وَلَو اعتقده جَائِزا وَالْمرَاد الْإِجْمَاع الْقطعِي لَا الظني فَإِنَّهُ بِمَثَابَة الدَّلِيل الظني هَذَا رَأْي الْجُمْهُور وَقد أُشير إِلَى رجحانه حَيْثُ قَالَ هَذَا الَّذِي يقْضِي بِهِ التَّرْجِيح وَوَجهه مَا تقرر أَنه لَا إِنْكَار فِي الظنيات على من يعْتَقد جَوَاز الشَّيْء إِذْ من شَرط الْإِنْكَار اعْتِقَاد الْحُرْمَة فالجاهل ينزل منزلَة الْمُجْتَهد فِي عدم التَّضْيِيق عَلَيْهِ من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا لَا يلْتَزم بطريقة مَخْصُوصَة بل مَا اعْتقد جَوَازه عمل بِهِ وَهَذَا معنى قَول الْفُقَهَاء الْجَاهِل كالمجتهد

وَأما حكمه فِيمَا عدا ذَلِك فقد أَشَارَ إِلَيْهِ النّظم بقوله يُفْتِي إِلَخ فَينزل منزلَة الْعَاميّ الَّذِي يعقل التَّقْلِيد من حَيْثُ لم يعلم الْجَوَاز فيفتي بِمذهب الْعلمَاء من شيعته الَّذِي هُوَ من جهتهم وَذَلِكَ كعوام الزيدية فِي قطر الْيمن يفتون بِمذهب الْهَادِي ثمَّ إِذا عدم أُفْتِي بِرَأْي عُلَمَاء أقرب جِهَة إِلَيْهِ كالمستفتي إِذا عدم الْعلمَاء فِي بِلَاده وَجب عَلَيْهِ الْخُرُوج إِلَى أقرب جِهَة إِلَيْهِ وَهَذَا من النَّاظِم مُتَابعَة للْأَصْل وَإِلَّا فَالظَّاهِر أَنه يُفْتِي بِمذهب أَي إِمَام من الْأَئِمَّة وَلَا دَلِيل على مَا ذكر من التَّرْتِيب وَلنَا بِحَمْد الله أبحاث على هَذِه الْمسَائِل أودعناها رِسَالَة مُسْتَقلَّة وَلَا يحْتَمل هُنَا التَّطْوِيل بذكرها

وَلم نجز بِحَمْد الله الْكَلَام على تَاسِع الْأَبْوَاب وَمَا قبله أَخذ فِي ذكر عَاشرهَا وَهُوَ آخرهَا فَقَالَ

ص: 416