المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أسباب ظهور الغلو ومظاهره في العصر الحديث - الغلو الأسباب والعلاج

[ناصر العقل]

الفصل: ‌ أسباب ظهور الغلو ومظاهره في العصر الحديث

ج-‌

‌ أسباب ظهور الغلو ومظاهره في العصر الحديث

(1)

أما ما يتعلق بالأسباب التي هيأت لبروز الغلو الذي هو سبب من أسباب العنف والإرهاب بين المسلمين في العصر الحديث (2)، فهي كثيرة ومتشابكة تتمثل - في نظري - بما يأتي:

أولا: إعراض أكثر المسلمين عن دينهم، عقيدة وشريعة وأخلاقا، إعراضا لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام، مما أوقعهم في ضنك العيش وفي حياة الشقاء. كما قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (3) يتجلى هذا الإعراض بأمور كثيرة في حياة كثيرة من المسلمين اليوم؛ أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا وهيئات ومؤسسات، ومن مظاهر هذا الإعراض:

1-

كثرة البدع والعقائد الفاسدة، وما نتج عن ذلك من الافتراق والفرق والأهواء، والتنازع والخصومات في الدين.

2-

الإعراض عن نهج السلف الصالح وجهله، أو التنكر له.

3-

العلمنة الصريحة في أكثر بلاد المسلمين، والتي أدت إلى الإعراض عن شرع الله، وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، وظهور الزندقة والتيارات الضالة، والتنكر للدين والفضيلة، مما أدى إلى:

4-

شيوع الفساد، وظهور الفواحش والمنكرات، وحمايتها.

(1) راجع (الخوارج) لناصر العقل 125-131.

(2)

الإرهاب والعنف ظاهرة شعوبية عالمية، لكنها قد تبدو بين المسلمين أكثر؛ لأنهم مستهدفون وهم أكثر إباء للضيم.

(3)

سورة طه، آية (124) .

ص: 12

5-

التعلق بالشعارات والمبادئ الهدامة والأفكار المستوردة.

وكل هذه الأمور ونحوها مما يندرج تحت مفهوم الإعراض عن شرع الله، وتثير غيرة الشباب المتدين، وحين لا يظهر له السعي الجاد لتغيير الحال وإنكار المنكر، يلجأ إلى التصدي لهذه الانحرافات بلا علم ولا حكمة.

6-

وقوع أكثر المسلمين في التقصير في حق الله تعالى، وارتكابهم للذنوب والمعاصي، والمنكرات، وضعف مظاهر التقوى والورع والخشوع في حياة المسلمين اليوم.

7-

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التقصير فيه في أكثر بلاد المسلمين.

ثانيا - شيوع الظلم بشتى صوره وأشكاله:

ظلم الأفراد، وظلم الشعوب، وظلم الولاة وجورهم، وظلم الناس بعضهم لبعض، مما ينافي أعظم مقاصد الشريعة، وما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من تحقيق العدل ونفي الظلم، مما يُنمي مظاهر السخط والتذمر والحقد والتشفي في النفوس.

ص: 13

ثالثا - تحكُّم الكافرين (من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين) في مصالح المسلمين، وتدخلهم في شؤون البلاد الإسلامية، ومصائر شعوبها عبر الاحتلال، والغزو الفكري والإعلامي والاقتصادي، وتحت ستار المصالح المشتركة، أو المنظمات الدولية، ونحو ذلك مما تداعت به الأمم على المسلمين من كل حدب وصوب، بين طامع وكائد وحاسد.

وغير ذلك من صور التحكم في مصائر المسلمين والحجر عليهم، مما أدى إلى تذمرهم وشعور طوائف من شبابهم ومثقفيهم وأهل الغيرة منهم بالضيم والإذلال والإحباط وما ينتج عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف.

رابعا - محاربة التمسك بالدين والعمل بالسنن:

والتضييق على الصالحين والمتمسكين بالسنة، والعلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد، مما يعد أعظم استفزاز لذوي الغيرة والاستقامة.

خامسا - الجهل بالعلم الشرعي وقلة الفقه في الدين:

ص: 14

فالمتأمل لواقع أكثر أصحاب التوجهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف يجد أنهم يتميزون بالجهل وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية، فحين يتصدون للأمور الكبار والمصالح العظمى يكثر منهم التخبط والخلط والأحكام المتسرعة والمواقف المتشنجة.

سادسا - الجفوة بين العلماء والشباب (وبين الشباب والمسؤولين) :

ففي أغلب بلاد المسلمين تجد العلماء (بعلمهم وحكمتهم وفقههم وتجاربهم) في معزل عن أكثر الشباب، وربما يسيؤون الظن بالكثير منهم كذلك، وبالمقابل تجد الشباب بحيويتهم ونشاطهم وهمتهم بمعزل عن العلماء، وربما تكون سمعتهم في أذهان الكثيرين على غير الحقيقة، وبعض ذلك بسبب انحراف مناهج التربية لدى بعض الجماعات، وبسبب وسائل الإعلام المغرضة التي تفرق بين المؤمنين، مما أوقع بعض الشباب في الأحكام والتصرفات الجائرة والخاطئة التي لا تليق تجاه علمائهم، وتجاه حكامهم، وكذلك هناك حاجز نفسي كبير بين النخبة من الشباب، وبين المسؤولين، تجعل كلا منهم يسيء الظن بالآخر، ولا يفهم حقيقة ما عليه الآخر إلا عبر وسائط غير أمينة غالبا، ومن هنا يفقد الحوار الذي هو أساس التفاهم والإصلاح.

ص: 15

سابعا - الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة:

فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربي أتباعها على مجرد أمور عاطفية وغايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها، وتحشو أذهانهم بالأفكار والمفاهيم التي لم تؤصَّل شرعا، والتي تؤدي إلى التصادم مع المخالفين بلا حكمة. وفي الوقت نفسه تقصِّر في أعظم الواجبات، فتنسى الغايات الكبرى في الدعوة، من غرس العقيدة السليمة والفقه في دين الله تعالى، والحرص على الجماعة، وتحقيق الأمن، والتجرد من الهوى والعصبية، وفقه التعامل مع المخالفين ومع الإحداث على قواعد الشرع.

ثامنا - ضيق العطن وقصر النظر وقلة الصبر وضعف الحكمة:

ونحو ذلك مما هو موجود لدى بعض الشباب، فإذا انضاف إلى هذه الخصال ما ذكرته في الأسباب الأخرى؛ من سوء الأحوال، وشيوع الفساد، والإعراض عن دين الله، والظلم، ومحاربة التدين وفقدان الحوار الجاد - أدى ذلك إلى الغلو في الأحكام والمواقف.

تاسعا - تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام:

ص: 16

وأشباههم للدعوة والشباب بلا علم ولا فقه، فاتخذ بعض الشباب منهم رؤساء جهالا، فأفتوا بغير علم، وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي، بل كثير منهم يستنقص العلماء والمشايخ ولا يعرف لهم قدرهم، وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه ومذهبه، أو بخلاف موقفه أخذ يلمزهم إما بالقصور أو التقصير، أو بالجبن أو المداهنة أو العمالة، أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك! ونحو ذلك مما يحصل بإشاعته الفرقة والفساد العظيم وغرس الغل على العلماء والحط من قدرهم ومن اعتبارهم، وغير ذلك مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم.

عاشرا - التعالم والغرور:

ص: 17

وأعني بذلك أنه من أسباب ظهور الغلو والعنف في بعض فئات الأمة اليوم ادعاء العلم، في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي والأحكام وقواعد الدين، أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، عن مواصلة طلب العلم فَيَهْلك بغروره وَيُهلك. وهكذا كان الخوارج الأولون يدَّعون العلم والاجتهاد ويتطاولون على العلماء، وهم من أجهل الناس.

حادي عشر - التشدد في الدين والتنطع:

والخروج عن منهج الاعتدال في الدين الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» (1)

والتشدد في الدين كثيرا ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سماته الخوارج، أعني التشدد في الدين وقلة الفقه، وأغلب الذين ينزعون إلى الغلو والعنف اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين، ولا يعني ذلكم أنهم خوارج، ولا أن يوصفوا بهذا الوصف.

(1) صحيح البخاري -كتاب الإيمان باب الدين يسر- فتح الباري 1 / 93.

ص: 18

ثاني عشر - شدة الغيرة وقوة العاطفة لدى فئات من الشباب والمثقفين وغيرهم

بلا علم ولا فقه ولا حكمة، مع العلم أن الغيرة على محارم الله وعلى دين الله أمر محمود شرعا، لكن ذلك مشروط بالحكمة والفقه والبصيرة، ومراعاة المصالح ودرء المفاسد. فإذا فقدت هذه الشروط أو بعضها أدى ذلك إلى الغلو والتنطع والشدة والعنف في معالجة الأمور، وهذا مما لا يستقيم به للمسلمين أمر لا في دينهم ولا في دنياهم.

ثالث عشر - فساد الإعلام:

ص: 19

الإعلام في العصر الحديث صار -غالبا- مطية الشيطان إلى كل فتنة وضلالة وبدعة ورذيلة، فإن وسائل الإعلام في أكثر البلاد الإسلامية غالبا ما تسخَّر في سبيل الشيطان، وهي من خيله ورجله في الدعوة إلى الضلالة ونشر البدعة والزندقة وترويج الرّذيلة والفساد، وهتك الفضيلة، وحرب التدين وأهله، وبالمقابل فإن إسهام الإعلام في نشر الحق والفضيلة قليل وباهت جدا، ولا شك أن هذا الوضع منكر عظيم ومكر كبّار، ويعد أعظم استفزاز يثير غيرة كل مؤمن وحفيظة كل مسلم، فإذا اقترن ذلك بشيء من قلة العلم والحلم والصبر والحكمة، وغياب التوجيه الشرعي السليم، أدَّى ذلك بالضرورة إلى الصَّلف والقسوة في الأحكام والتعامل، وإلى الإحباط والتشاؤم واليأس عند بعضهم فيندفع إلى التغيير بعنف. لذا فإن علاج هذه الظواهر لن يكون حاسما إلا بإزالة أسبابها.

ص: 20