المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيان معاني كلم يحتاج إليها - الفوائد السنية في شرح الألفية - جـ ٣

[شمس الدين البرماوي]

الفصل: ‌بيان معاني كلم يحتاج إليها

صحيحًا)

(1)

.

الخامس: قال ابن الحاجب: إذا خرج بعض العرب عما عليه الناس واستعمال الفصحاء، كان مردودًا عند أهل التحقيق؛ لأن قبولنا إياه إنما هو لغلبة الظن بوفق ما وضعه الواضع، فإذا خالف استعمال الفصحاء، غلب على الظن النقيض؛ فزال الموجِب لقبوله.

والله أعلم.

‌بيان معاني كلم يُحتاج إليها

الشرح: عادة الأصوليين يختمون مباحث اللغة بذكر بعض معاني حروف تتداول في القرآن والسُّنة يحتاج إليها غالبًا في مواضع الاستدلال، وربما ذكروا أسماءً وأفعالًا؛ فلذلك ترجمتُه بـ "كلم"؛ ليعم الأنواع الثلاثة، ولم أقتصر على حرفين أو ثلاثة كما فعل ابن الحاجب، ولا أوسع كما فعل صاحب "جمع الجوامع" وكثير من الحنفية في مختصراتهم.

وربما ذكروا أحكامًا نحوية متعلقة ببعضها قليلة الجدوى في الاستدلال.

بل سلكتُ طريقًا وسطًا، ورتبت ما ذكرتُ على حروف المعجم؛ ليسهل كشفه، والله أعلم.

ص:

484 -

مِنْ ذَاكَ "إنْ" لِلشَّرْطِ وَالنَّفْيِ، وَقَدْ

تُزَادُ بَعْدَ النَّفْيِ فِيمَا قَدْ وَرَدْ

الشرح: الإشارة بقولي: (ذَاكَ) إلى بيان الذي هو مذكور في صدر الترجمة.

(1)

الصاحبي في فقه اللغة (ص 36).

ص: 1067

"إنْ" - بالكسر والسكون - للشرط غالبًا، بل هي أَعم أدواته؛ لأنها الحرف الموضوع له، واستعمال ما عداها من أسماء الشرط كَـ "إذا" و"متى" إنما هو تضمين لها معناها؛ ولذلك كان العلة في بنائها.

والمراد بِـ "الشرط": تعليق حصول مضمون جملة لم يوجد على مضمون جملة أخرى لم يوجد، يكون سببًا له، إنْ وُجد وُجد، وإنِ انتفى انتفى. نحو:(إنْ قام زيد، قام عمرو). وربما نُزِّل قطعي الوجود أو الانتفاء منزلة المشكوك، فأدخل فيه الشرطية؛ لنكتة مُوضَّح أنواعها في علم البيان.

وتجيء "إنْ" نافية أيضًا، سواء عملت عمل "ليس" عند مَن يرى ذلك وهُم الكوفيون (كقراءة سعيد بن جبير:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]) أَم لم تعمل (نحو: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]).

وزعم بعضهم أنها لا تكون نافية إلا وبعدها "إلَّا" أو "لَما"، نحو {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] على قراءة التشديد.

ورُد بنحو قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68]، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111].

وقد تأتي زائدة، وذلك بعد النفي، كقوله: بني غدانة ما إن أنتم ذهب.

أي: ما أنتم ذهب.

ووقع لابن الحاجب أنها تزاد بعد "لما" الإيجابية.

ورُدَّ بأن تلك "أنْ" المفتوحة، نحو:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96].

أما "إنَّ" المشددة فللتأكيد، وسيأتي في "باب القياس" في طُرق العلة كوْنها للتعليل أوْ لا؛ فلذلك لم أذكرها هنا، والله أعلم.

ص: 1068

ص:

485 -

وَمنْهُ: "أَوْ" شَكٌّ وَتَشْكِيكٌ، كَمَا

إبَاحَةٌ، تَخْيِيرُهَا قَدْ عُلِمَا

486 -

وَالْجَمْعُ، أَوْ مَعْنَى "إلَى" أَوْ "إلَّا"

تَقْسِيمٌ، الْإضْرَابُ فِيهَا حَلَّا

487 -

وَقِيلَ: وَالتَّقْرِيبَ أَيْضًا قَدْ [حَوَتْ]

(1)

وَالْبَاءُ لِلْإلْصَاقِ فِيمَا قَدْ ثَبَتْ

الشرح:

أي: ومن ذلك، أي: من بيان معاني الكلم أيضًا "أو"، وتَرِد لِمَعانٍ:

أحدها: الشك، وهو معنى قولي:("أَوْ" شَكٌّ)، أي:[ذات]

(2)

معنى شك، فحذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وكذا ما عُطف على "شك" تقديره ما ذكرناه.

مثالها للشك: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19].

و[يشاركها]

(3)

"إما" في هذا المعنى وفي غالب ما يأتي، إلا أن الشك في "إما"[مبني]

(4)

عليه في الابتداء، و"أو" تأتي بعد الجزم، فيُبين بها الشك فيه.

ثانيها: التشكيك، وربما عُبر عنه بِـ "الإبهام"، وهو التعمية على المخاطَب مع أن المتكلم عالِم بالحال، نحو:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

وربفي عُبر عن هذا المعنى بِـ "الإيهام"(بالمثناة تحت) كما جوَّزه القرافي؛ لأن القصد التلبيس على السامع.

(1)

كذا في (ص، ن). لكن في (ت، ش، ظ، ض، ق): جرت.

(2)

كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: كان.

(3)

في (ق): تشاركها.

(4)

كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: يبنى.

ص: 1069

قلتُ: وفيه نظر؛ فإنَّ الإيهام القصد فيه أن يقع المخاطَب في الوهم، وأما الإبهام فعدم الإعلام بالتعيين ولو لم يقصد وقوعه في الوهم، فهو أعم.

ثالثها: الإباحة، نحو: جالِس الحسن أو ابن سيرين.

رابعها: التخيير، نحو:(تزوج زينب أو أختها)، و:(خُذ من مالي درهمًا أو دينارًا)، ومنه قوله تعالى:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وحديث الجبران في الزكاة في الماشية:"شاتان أو عشرون درهمًا"

(1)

. ومنهم من جعل ذلك هو الإباحة، والأكثر على المغايرة.

والفرق بينهما أن الجمع هنا ممتنع، وفي الإباحة غير ممتنع.

ولا يُقال: المخاطَب بآية الكفارة ونحوها لا يمتنع أن يجمع.

لأنَّا نقول: يمتنع على أن يكون ذلك كفارة، لا على أنه تبرع كما أجاب به صاحب "البسيط" من النحاة.

خامسها: مطلق الجمع، كَـ "الواو"، نحو قوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وقيل في الآية غير ذلك كما سيأتي.

سادسها: بمعنى "إلى"، نحو:(لألزمنك أو تقضيني حَقي)، أي: إلى أن تقضيني.

قيل: ومنه قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] إذا قُدِّر "تفرضوا" منصوبًا بِـ "أن" مُقدرة.

سابعها: بمعنى "إلا"، نحو:(لأقتلن الكافر أو يُسْلم). أي: إلا أن يسلم، فلا أقتله.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 1070

ومنه قول الشاعر:

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

أي: إلا أن تستقيم، فلا أكسرها.

ثامنها: التقسيم، نحو: الكلمة اسم أو فعل أو حرف.

وعبَّر ابن مالك بالتفريق المجرد، أي: عن المعاني السابقة، ومَثَّله بقوله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135]، أي: انقسموا إلى قِسمين: قِسم يهود قالوا: (كونوا هودًا)، وقِسم نصارى قالوا:(كونوا نصارى). ولهذا أدخله البيانيون في نوع اللف والنشر، لأن فيه رد كل قول إلى قائل مما جُمع أولًا.

قال ابن مالك: والتعبير عنه بالتفريق أَوْلى من التقسيم؛ لأن استعمال الواو فيما هو تقسيم أَجود من استعمال "أو".

ونُوخ في ذلك بأن مجيء الواو في التقسيم أكثر -لا يقتضي أنَّ "أو" لا تأتي له، بل تقتضي ثبوته غير أكثر.

وفيه نظر؛ فإنه لم يَنْفِ، إنما جعله أَوْلى، وذلك باعتبار الأكثرية.

قلتُ: ويمكن رد ما سبق من معنى "إلى" أو "إلَّا" إلى هذا؛ لأنه قَسَّم حالَهُ في "لألزمنك أو تقضيني حقي" مثلًا إلى قِسمين: الملازمة وقضاء الحق، وأن الواقع أحد الأمرين.

وكذا "لأقتلن الكافر أو يسلم" قسَّم حَالَهُ معه إلى [حالَيْن]

(1)

: إسلامه، وقتلِه. والمعنى: لا بُدَّ من أحدهما.

ولم يذكره ابن مالك في الخلاصة في ذكر معاني "أو" في حروف عطف النسق، بل تَعَرَّض

(1)

في (ظ، ق): قسمين.

ص: 1071

له في نواصب المضارع.

تاسعها: الإضراب، نحو:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، أي: بل يزيدون، أي: عند مَن لا يجعلها لمطلق الجمع في الآية.

ثم قيل: إنها تأتي للإضراب مطلقًا.

وعن سيبويه: لا تجيء إلا بشرطين: تَقدُّم نفي أو نهي، وإعادة العامل، نحو:(ما قام زيد أو ما قام عمرو)، و (لا يَقُم زيد أو لا يَقُم عمرو).

عاشرها: التقريب. ذكره الحريري، ولم يذكره الأكثرون؛ فلذلك عبَّرتُ فيه بقولي:(قِيلَ). ومثله بقولهم: (ما أَدْرِي أَسَلَّم أو وَدعَّ). أي: لسرعته فينْ كان يَعلم أنه سَلَّم. ونحو: ما أدري أَأَذَّن أو أقام.

وظاهر كلام ابن هشام في "المغني" أن الحريري ابتكر ذلك، وليس كذلك؛ فقد سبقه إليه أبو البقاء في "إعرابه" وجعل منه:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77].

وبالجملة فقد رُدَّ هذا القول بأنه لم يخرج عن معنى الشك، وأن القُرْب هو المقتضي للشك، وأما في الآية فيكون للتشكيك؛ لِتَعذُّر كونه للشك.

وفيه نظر؛ فإن هذه المعاني كلها إذا حُققت، ترجع إلى شيء واحد وهو أحد الشيئين أو الأشياء؛ ولهذا قيل: إنها للقَدْر المشترك بينها وهو ذلك، وما عدا ذلك فمستفاد من قرائن خارجية. فمَن عدَّد وغايَر بين المعاني فإنما قصد باعتبار تلك الأمور، فين كان لها قرينة خارجية فلا [تُنافي]

(1)

عَدَّ التقريب.

(1)

في (ت، ق، ظ): ينافي.

ص: 1072

وبذلك يجاب أيضًا عمَّا سبق من دخول بعض المعاني تحت بعض.

واعْلَم أن هذه المعاني لا تخلو مِن كونها في طلب أو خبر، فالإباحة والتخيير في الطلب ما لم يكن نهيًا نحو:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] فيكون مُنْصَبًّا على كُل منهما، خلافًا لابن كيسان في تجويزه في "لا تضرب زيدًا أو عمرًا" أن يكون النهي عن ضرب واحد وأنْ يكون عن الجمع.

قلتُ: ومن هنا أُخِذت مسألة تحريم واحد من خصلتين أو أكثر لا بِعَيْنه، وقد سبقت، والله أعلم.

قولي: (وَالْبَاءُ لِلْإلْصَاقِ فِيَما قَدْ ثَبَتْ) تتمته قولي بعده:

ص:

488 -

حَقِيقَةً يَكُونُ أَوْ مَجَازَا

أَوْ سَبَبًا، أَوْ مُسْتَعَانًا [حَازَا]

(1)

489 -

أَوْ صُحْبَةً، ظَرْفِيَّةً، أَوْ بَدَلَا

تَقَابُلًا، وَقَسَمًا، وَ"عَنْ"، "عَلَى"

الشرح:

والمعنى أن الباء لها مَعَانٍ:

أحدها: الإلصاق، وهو أنْ يضاف الفعل إلى الاسم ويلصق به بعد ما كان لا يضاف إليه لولا دخولها، نحو:"خُضْتُ الماء بِرِجْلي" و"مسحتُ برأسه".

وهو أصل معاني "الباء"، وعليه اقتصر سيبويه.

(1)

كذا في (ش، ن 1، ن 3، ن 4). لكن في سائر النُّسَخ: جازا. ويظهر أنَّ الصواب "حازَا"، لقول المؤلف في الشرح:(فَـ "مستعانًا" مَصْدر ميمي بمعنى "الاستعانة"، وهو مفعول بالفعل الذي بَعْده).

ص: 1073

قال بعضهم: وكُل معنى جُعل لها لا ينفك عنه، وقد لا يكون مع الإلصاق غيره.

وقال عبد القاهر: وقولهم "الباء" للإلصاق إنْ حملناه على ظاهره، اقتضى إفادتها له في كل ما دخلت عليه، وهذا محُال؛ لأنها [تجيء]

(1)

مع الإلصاق نفسه، كقولك:"ألصقتُ كذا بكذا" و"لصق به". فلا بُدَّ من تأويل كلامهم بأن الملابسة فيه لملابسة، كقولك: ألصقه به.

وقولي: (حَقِيقَةً يَكُونُ أَوْ مَجَازَا) إشارة إلى تقسيم الإلصاق إلى:

حقيقة: وهو الأكثر، نحو:(أمسكت الحبل بيدي)، أي:[ألصقته]

(2)

.

وإلى مجاز: نحو: "مررت بزيد"، فإنك لم تلصق المرور بنفس زيد، بل بمكان يقرب منه كما قرره الزمخشري وغيره.

الثاني: السببية، نحو:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].

الثالث: الاستعانة، وهو معنى قولي:(أَوْ مُسْتَعَانًا حَازَا) فَـ "مستعانًا" مصدر ميمي بمعنى الاستعانة، وهو مفعول بالفعل الذي بعده، وباء الاستعانة هي الداخلة على آلة الفعل ونحوها، نحو:"كتبت بالقلم " و"قطعت بالسكين"، ومنه قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].

وقد أدرج في "التسهيل" هذا المعنى في السببية، وقال في "شرحه":(إن التعبير بالسببية أَوْلى؛ لأنه يستعمل في الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإنها لا يقال فيها: "استعانة"، ويقال: "سببية")

(3)

.

نعم، زاد في "التسهيل" التعليل، واستغنى عنه كثير بالسببية؛ لأن العِلة والسبب واحد.

(1)

في أكثر النسخ: تجر.

(2)

في (ص): ألصقته به.

(3)

شرح التسهيل (3/ 150).

ص: 1074

لكن ابن مالك قد غاير بينهما ومَثَّل التعليلية بقوله تعالى: {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54]، وقوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160].

ويؤيده ما فَرق به بعضهم بين السببية والتعليل بأن العلة مُوجِبة لمعلولها، بخلاف السبب فإنه أمارة على المسبَّب.

قال: ومن هنا اختلف [أهل السنة]

(1)

والمعتزلة في أن أفعال العبد هل هي عِلة لثوابه وعقابه؟ أو سبب؟

فقال المعتزلة بالأول.

وأهل السنة بالثاني، وفرَّعوا على ذلك الحج عن الغير، فمَن قال:(عِلة)، أبطله؛ لأن عمل زيد لا يكون علة لبراءة عمرو. ومَن قال:(سبب)، قال: يصح؛ لجواز أن يكون سببًا للبراءة وعَلَمًا عليها.

قلتُ: قد سبق أن مذهب أهل السنة أن كُلًّا من السبب والعلة مُعَرِّف، لا موجِب مُؤَثِّر بذاته، فلا فرق حينئذٍ بينهما من هذه الجهة وإنِ افترقا كما سبق من حيث إنَّ العلة فيها مناسبة وملائمة للحُكم، والسبب أَعَم من ذلك؛ فيُكتفَى به؛ ولذلك اقتصرتُ في النَّظم عليه.

الرابع: المصاحبة بمعنى "مع "، كقوله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] ويغني عنها وعن مصحوبها الحال، فالتقدير هنا:"مُحِقًّا"؛ ولهذا يسميها كثير من النحويين "باء" الحال.

الخامس: الظرفية بمعنى "في" المكانية، نحو:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123]، أو الزمانية، نحو:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137، 138]. وربما كانت الظرفية مجازية، نحو:"بكلامك بهجة".

(1)

كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ظ): بين السُّنة. وفي (ق): بين السنية. وفي (ض): بين أهل السنة.

ص: 1075

ولو قلنا بكونها للظرف مجازًا فلا بِدْعَ أن يتعدد المجاز في الواحد بحسب الاعتبار.

السادس: البدَلية، وهي ما يصح أن يحل محلها لفظ "بدل"، كما في حديث:"ما يَسُرني بها حُمر النعم"

(1)

. أي: بَدَلها.

السابع: المقابلة، وذلك في الداخلة على الأثمان والأعواض، نحو: اشتريت الفرس بألف. ودخولها غالبًا على الثَّمن، وربما دخلت على المثَمَّن، نحو:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]، ولم يَقُل:(ولا تشتروا آياتي بثمن قليل)، فيُؤَوَّل على حذف مضاف كما قال الفارسي: إن التقدير: "ذا ثمن قليل". ومن ثَم قال أصحابنا: إذا كان العوضان في البيع نقدين أو عرضين، فالثمن ما دخلت عليه "الباء".

ولا يُنافي ذلك قول الفراء: إذا كانا نقدين، جاز دخول الباء على كل منهما. وكذا إذا كانا معنيين، نحو:{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16].

نعم، قال بعضهم:"الباء" تدخل على المتروك المرغوب عنه في باب الشراء، بخلاف البيع.

ورَدَّ بعضهم هذا المعنى والذي قبله إلى السببية؛ إذِ التقدير: إنَّ هذا بسبب كذا.

الثامن: القَسَم، نحو:"بالله لأفعلن". وهي أصل حروف القَسَم.

التاسع: تكون للمجاوزة، وتكثر بعد السؤال، نحو:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]. وتَقِل بَعْد غيره، نحو:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25].

(1)

السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 1350)، وفي صحيح البخاري (رقم: ) بلفظ: (فَوَالله ما أُحِبُّ أَنَّ لي بِكَلِمَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ)، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 1574) بلفظ: (فَدَعَا لي بِدَعَوَاتٍ ما يسرني بِهِنَّ حُمْرُ النَّعَمِ).

ص: 1076

ومنهم مَن يَرُدُّ هذا العنى أيضًا إلى السببية.

العاشر: الاستعلاء بمعنى "على"، كقوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75]

(1)

. أي: على قنطار. وحكاه الإمام في "البرهان" عن الشافعي، ويؤيده قوله تعالى:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} الآية [يوسف: 64].

الحادى عشر: التبعيض، قاله الأصمعي والفارسي وابن مالك، مستدلين بقوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، أي: منها. وخرج عليه قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. ومَن أَثبتها قَصَرها على ورودها مع الفعل المتعَدِّي.

وأنكر هذا العنى ابن جني، وأَوَّلوا ما استُدِل به على التضمين، أو أن التبعيض إنما استُفيد من القرائن.

ورَدَّ الإمام فخر الدين قول ابن جني بأن قوله ذلك شهادة نَفْي، فلا تُقْبل.

ولكن هو قَبْل ذلك قال: زَعَم قومٌ أخها للسببية، وهو ضعيف؛ لأنه لم يَقُل به أحد من أهل اللغة.

فيُقال له: هذه شهادة نَفْي أيضًا، فكيف ترتكبها؟ !

نعم، ابن دقيق العيد أجاب عن ذلك فيما كتبه على "فروع ابن الحاجب": ليس هو شهادة نَفْي، إنما هو إخبار مبني على ظن غالب مُستنِد إلى الاستقراء ممن هو أَهْل لذلك مُطَّلِع على لسان العرب، كما في سائر الاستقراءات لا يُقال فيها: شهادة نفي، وحينئذٍ فتتوقف مقابلته على ثبوت ذلك من كلامهم.

فيقال للشيخ: قال ابن مالك فى "شرح الكافية"

(2)

: إن الفارسي في "التذكرة" أثبت

(1)

في جميع النُّسخ: (ومنهم من إن تأمنه بقنطار).

(2)

شرح الكافية الشافية (2/ 807).

ص: 1077

مجيئها للتبعيض كما أثبته الأصمعي من قول الشاعر:

شَرِبْنَ بماء البَحْر ثُم ترَفَّعَتْ

مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لهُنَّ نَئِيجُ

وقال الشيخ في "شرح الإلمام": إن المثبتين للتبعيض فرقوا بين الفعل المتعدي بنفسه فتكون فيه للتبعيض؛ حذرًا من زيادتها، وبين غير المتعدي فلا يكون كذلك.

واعتُرض بأن كونها زائدة لا يُنافي أن تكون حينئذٍ للتبعيض. ولو سُلِّم أن الأصل عدم الزيادة لكن هذا الأصل متروك إذا دَل دليل على تركه، وقد دل دليل عليه، وهو عدم كونها للتبعيض بالاستقراء ممن هو أَهْل للاستقراء؛ فوَجَبَ الحمل على أنها زائدة.

هذا مع أن الزيادة في الحروف كثيرة، قال ابن العربي: إنها تفيد فائدة غير التبعيض، وهو الدلالة على ممسوح به. قال: والأصل فيه: "امسحوا برؤوسكم الماء"، فيكون من باب القلب، والأصل: رؤوسكم بالماء.

تنبيهان

أحدهما: الحرف إذا وافق حرفًا آخر في معناه فمرة يُعَبرون عن المعنى صريحًا، ومرة يحيلون على ذلك الحرف، فيقولون: بمعنى كذا. والأمر في ذلك سهل، غَيْر أن التعبير الثاني إنما يكون غالبًا عند اشتهار ذلك الحرف في ذلك المعنى. وسنذكر خِلاف البصريين والكوفيين: هل [تتعارض الحروف]

(1)

في المعنى؟ أو لا؟

الثاني: أهملتُ من معاني ما ذكرت من الأدوات كثيرًا؛ إما اقتصارًا على الأشهر، وإما لأن ذِكره أنفع في الاستدلال، أو لغير ذلك. وربما كان ذلك اختصارًا، ولكني أذكر ذلك في

(1)

كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ): يتعارض الحرف. وفي (ق): يتقارض الحرف.

ص: 1078

الشرح تكميلًا للفائدة:

فمِن معاني الباء مما لم أذكره:

الغاية: نحو: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100]. أي: أحسن إلَيَ.

ومنها: مجيئها للتوكيد، وهي الزائدة:

- إما مع فاعل، نحو:"أحسن بزيد" على قول البصريين: (إن "بِزَيْد" فاعل زِيدَ فيه الباء). فأما على قول الكوفيين: (إنه مفعول) فهي مُعدِّية، لا زائدة.

- وإما مع المفعول، نحو:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25].

- أو مع المبتدأ، نحو:"بحسبك درهم".

- أو الخبر، نحو:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].

ومن استعمالات "الباء" أيضًا أنه يدخل للتعدية، وتُسمَّى "باء النقل"، فتنقل الفاعل، فتصيِّره مفعولًا، نحو:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]. ولابن مالك في التعبير عن هذا القِسم كلام تَعَقَّبه عليه أبو حيان وأُجِيب عنه، ومحل بسطه النحو، فلا نُطَوِّل به.

وذكر العبادي في كتاب "الزيادات" للباء معنى آخَر وهو التعليق، نحو:"أنت طالق بمشيئة الله أو بإرادته". أي: إن شاء الله، أو: إن أراد. فَعَلَى هذا لا تطلق؛ لأن اللغة كذلك، كما لو قال:(أنت طالق بدخول الدار). أي: إنْ دخلتِ.

قال: (أما لو قال: "أنت طالق بأمر الله" أو: بتقدير الله، أو: بحكم الله، أو: بعلم الله، فإنها تطلق في الحال). انتهى

وهذا يدل على أنه إنما أخذ هذه التفرقة من العُرف، لا من اللغة؛ لأن مسائل الفقه لا

ص: 1079

تُبْنَى على دقائق النحو، والله أعلم.

ص:

490 -

وَبَعَّضَتْ، وَمنْهُ:"بَلْ" لِلْعَطْفِ

كَذَا لِإضْرَابٍ بِبُطْلٍ تُلْفِي

491 -

أَوِ انْتِقَالٍ، "ثُمَّ" لِلتَّشْرِيكِ

بِمُهْلَةٍ في ذَلِكَ [الشَّرِيكِ]

(1)

الشرح:

قولي: (وَبَعَّضَتْ) هو من تمام معاني "الباء" كما سبق، والمعنى أن "الباء" أيضًا أفادت البعضية، وقد مضى شرح ذلك.

وقولي: (وَمنْهُ: "بَلْ") إلى آخِره -الضمير للمذكور أولًا في الترجمة وهو الأدوات المحتاج إليها في الاستدلال، فالضمير [يذكر]

(2)

باعتبار عَوْده لما ذكر.

و"بل" من حروف العطف، تشرك ما بعدها لما قبلها في الإعراب إذا كانا مفردين، سواء في الإثبات وما في حُكمه، أو في النفي وما في حكمه، إلا أنها في القسم الأول [تسلب الحكم قطعًا]

(3)

عما قبلها وتجعله لما بعدها، أي: تُصَيِّر الأول كالمسكوت عنه وتثبت الحكم للثاني. نحو: (جاء زيد بل عمرو)، و:(أَكْرِم زيدًا بل عمرًا).

واختُلف في القسم الثاني، نحو:(ما قام زيد، بل عمرو)، و:(لا تضرب زيدًا، بل عمرًا).

فقال الجمهور: إنها لتقرير ما قبلها وجعل ضده لما بعدها، فتقرر نفي القيام أو

(1)

في (ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): التشريك.

(2)

في (ص): مذكر.

(3)

في (ص): قطعا تسلب الحكم. وفي (ش): تسلب قطعا الحكم.

ص: 1080

النهي لزيد وضده لعمرو.

وأجاز المبرد وعبد الوارث وتلميذه الجرجاني مع ذلك أن تكون ناقلة للحكم الأول لما بعدها كما في الإثبات وما في حُكمه.

فيحتمل عندهم في نحو: (ما قام زيد بل عمرو) أن يكون المراد: بل ما قام عمرو. وفي: (لا تضرب زيدًا بل عمرًا) أن يكون التقدير: بل لا تضرب عمرًا أيضًا. حتى لو قال: (ما له عَلَيَّ درهم بل درهمان) لا يلزمه شيء؛ إذ التقدير: بل ما له عَلَيَّ درهمان أيضًا. فيكون النفي للأمرين.

بل قال القواس في "شرح ألفية ابن معطي": (إنهم أوجبوا تقدير حرف النفي بعدها، فتتحقق المطابقة في الإضراب عن منفي إلى منفي كما يتحقق من موجب إلى موجب).

ثم قال: (ويجب أن يُقال: إن كان المعطوف غلطًا، قُدِّر حرف النفي؛ ليشتركا في نفي الفعل عنهما، وإن لم يكن غلطًا فلا؛ لأن الفعل ثابت له، فلا ينفى عنه)

(1)

. انتهى

نعم، ضُعِّفَ هذا المذهب من الأصل بما في "إيضاح الفارسي" أنه لا يجوز في "ما زيد خارجًا بل ذاهب" إلا الرفع؛ لأن الخبر موجب، و"ما" الحجازية لا تعمل في الخبر إلا منفيًّا، فلو قُدِّر النفي، لجاز النصب، فالعرب إذا [قرنت]

(2)

في ذلك لزم تفسير أحد المعنيين بالآخَر، فإذا أرادوا نفي الفعل، صرحوا بالنفي وشبهه، فيقولون: ما قام زيد بل ما قام عمرو، و: لا تضرب زيدًا بل لا تضرب عمرًا.

أما إذا وقع بعد "بل" جملة نحو: "ما قام زيد بل عمرو قائم" فلا تكون حينئذٍ عاطفة عند الجمهور، بل حرف ابتداء يفيد الإضراب.

(1)

شرح ألفية ابن معطي (1/ 786)، الناشر: مكتبة الخريجي، تحقيق: علي موسى الشوملي.

(2)

في (ص): فرقت.

ص: 1081

[ثم]

(1)

هو ضربان:

إضراب إبطال للحكم السابق، كقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ففي ذلك كله رد على ابن العلج في "البسيط" وتبعه ابن مالك في "شرح الكافية" أنَّ هذا القسم لم يقع في القرآن، بل قال في "البسيط": ولا في كلام فصيح.

وإنما يقع الثاني، وهو إضراب الانتقال من حُكم إلى حكم من غير إبطال للأول، كقوله تعالى:{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62، 63]، وقوله تعالى:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]. لم تبطل شيئًا مما سبق، وإنما فيه انتقال من خبر عنهم إلى خبر آخَر. فالحاصل أن الإضراب الانتقالي قَطعْ للخبر لا للمخبَر عنه.

ثم ظاهر كلام ابن مالك أن هذه عاطفة أيضًا لكن جملة على جملة، وصرح به ولده في "شرح الخلاصة".

وأيَّده بعضهم بأن اختلافهما في النفي والإثبات لا ينافي العطف، كما تقول:"ما قام زيد ولم يخرج عمرو"، و:"ما قام بكر وخرج خالد".

لكن الفرق بين هذا وبين ما نحن فيه أن "بل" لَمَّا كانت للإضراب صار ما قبلها كأنه لم يذكر، وكأنه لا شيء يعطف عليه.

نعم، كان مقتضى هذا أنَّ "حتى" عاطفة إذا وقع بعدها جملة، إلا أنها لَمَّا لم يكن أصلها العطف بل الغاية والانتهاء -كَـ "إلى"- ووقع بعدها الجُمَل، لم يتعذر بقاؤها على أصلها، ولَمَّا وقع بعدها المفرد مع عدم صلاحيتها للغاية، جُعلت حرف عطف؛ ولهذا يُدَّعَى فيها

(1)

كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ت، ق): ثم.

ص: 1082

-مع كونها عاطفة- معنى الغاية.

إذا علمت ذلك، علمت أنَّ بين الأمرين المذكورين في "بل" -وهُما العطف والإضراب- عمومًا وخصوصًا من وجه؛ لأن الداخلة بين مفردين عاطفة، أَعَم أن تكون للإضراب وغيره، والإضراب أعم أن تكون عاطفة (وذلك في المفردات) أو غير عاطفة (وذلك في الجُمَل عَلَى غير رأْي ابن مالك وولده).

أما إذا قُلنا بذلك، فبينهما عموم وخصوص مطلق؛ لأن العطف أعم أن يكون بإضراب (كما في الجمل وفي نوع من المفرد) وبغير إضراب (كما في نوع من المفرد).

فقولي: (كَذَا لِإضْرَابٍ) لم أُرِد به تغايُر المعنيين من كل وجه، بل أردت ما سبق.

وقولي: (ثُمَّ) إلى آخِره -إشارة إلى الكلام على "ثُم"، وهي للتشريك بين ما قَبلها وما بعدها في الحكم لكن مع التراخي والمهلة، نحو:"قام زيد ثم عمرو".

فأما كونها للتشريك فالمخالف فيه الكوفيون، جوَّزوا أن تقع زائدة، كقوله تعالى:{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118]، فليست عاطفة البتة حتى يكون فيها تشريك.

وأما الترتيب فالمخالف فيه الفراء فيما حكاه عنه السيرافي، وعزاه وغيره للأخفش، محتجًّا بقوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ومعلوم أن هذا الجَعل كان قبل خَلْقنا. والجمهور تأوَّلوه على الترتيب الإخباري.

وفيها مذهب ثالث: أنها للترتيب في المفردات دون الجُمل، كقوله تعالى:{فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، إذ شهادة الله مُقدَّمة على المرجع. قاله ابن الدهان، وجرى عليه ابن السمعاني في "القواطع".

والصحيح أنها للترتيب مطلقًا، لكنه في المفردات معنوي وفي الجُمل ذِكْرِيّ، نحو:

ص: 1083

إنَّ مَن ساد ثُم ساد أبُوه

ثُم ساد قبل ذلك جده

فهو ترتيب في الإخبار، لا في الوجود.

واعلم أنه في "جمع الجوامع" نقل المخالفة في الترتيب عن العبادي فقط، وهو مع قصوره وَهْم على العبادي تبع فيه والده في "فتاويه" وغيره من المتأخرين، فنقلوا عنه في نحو:"وقفت هذا على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده" أنه يشترك الكل.

وأنكروه حتى قال ابن أبي الدم في "أدب القضاء": إن هذا زلة من كبير.

وقال الشيخ تقي الدين: لعل مأخذه أن "وقفت" إنشاء، [فلا]

(1)

مدخل للترتيب فيه، نحو: بِعْتُ هذا ثم هذا.

لكن العبادي إنما قاله في صورة ما لو زاد على التصوير المذكور بطنًا بعد بطن كما نقله عنه القاضي حسين في كتاب "الوقف" بناء عنده على أن هذا يقتضي التسوية، فهو ينافي معنى "ثم"، فيرجع إلى أصل الاشتراك؛ حملًا على السداد، لا لكون "ثم" ليست للترتيب، فهو كما لو قال:(له عَلَيَّ درهم ثم درهم)، يَلْزمه درهمان؛ لأن الترتيب لا معنى له، فهو هنا جمع كالواو.

قلتُ: قولهم (يقتضي عنده التسوية) يُنَبِّه على أن لفظ "بطنًا بعد بطن" عند غيره يقتضي الترتيب أيضًا، فهو موافق لمعنى "ثُم"، لا مخرج لها عن الترتيب، بل لو كان العطف بالواو وزاد قوله بعد ذلك:(بطنًا بعد بطن)، كان للترتيب، خِلافًا للبغوي، ووافقه عليه في "المحرر" و"المنهاج".

والمختار ما سبق؛ لأن لفظ "بعد" يُشعر بالترتيب قطعًا، وذِكر "بعد" للوجود، لا

(1)

في (ت، ق): لا.

ص: 1084

للاستحقاق (وكأنه قال: الذين يوجَدون بطنًا بعد بطن) بعيدٌ من العُرْف.

وأما التراخي فالمخالف فيه الفراء، قال:(بدليل "أعجبني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب")

(1)

.

فَـ "ثم" في ذلك كله لترتيب الإخبار، ولا تراخي بين الإخبارين.

ووافقه على ذلك ابن مالك، وجعل منه:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا} [الأنعام: 154].

قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": ولكونها للتراخي امتنع أن يجاب بها الشرط؛ لأن الجزاء لا يتراخى عن الشرط؛ ولذلك أيضًا لا تقع في باب التفاعل والافتعال؛ لمنافاة معناها معناهما.

ورُد بغير ذلك أيضًا.

قال الراغب: (والعبارة الجامعة أن يُقال في "ثم": إنها حرف عطف يقتضي تَأخُّر ما بعده عمَّا قَبْله، إما تأخُّرًا بالذات، أو بالمرتبة، أو بالوضع)

(2)

.

والله أعلم.

ص:

492 -

"عَلَى" للاسْتِعْلَاءِ، وَالْمُصَاحَبَهْ

تَجَاوُزٍ، وَعِلَّةٍ مُصَاحِبَهْ

493 -

ظَرْفِيَّةً تُفِيدُ، وَاسْتِدْرَاكَا

أَيْضًا، وَقَدْ تُزَادُ، فَاعْرِفْ ذَاكَا

(1)

معاني القرآن (2/ 411)، الناشر: عالم الكتب، الطبعة: الثالثة - 1983 م.

(2)

المفردات في غريب القرآن (ص 81).

ص: 1085

الشرح:

"على" -التي هي حرف جر- لها معانٍ:

أحدها: الاستعلاء إما حسًّا نحو: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] أو معنًى نحو: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، و:(عَلَى فلان دَيْن). كأنه بلزومه صار عاليًا على المديون، كما يقال:(ركبهُ الدَّين). ولم يُثبِت لها أكثر البصريين غير هذا المعنى، وردُّوا الكل إليه.

نعم، مثل قوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 3] لا استعلاء فيه، لا حقيقةً ولا مجازًا، وإنما هو بمعنى الإضافة، أي: أضفتُ توكُّلي إلى الله.

الثاني: المصاحبة، نحو:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177].

الثالث: المجاوزة بمعنى "عن"، كقوله:

إذا رضيت على بنو قُشير

لعمر الله أعجبني رضاها

وخرج عليه المزني وابن خزيمة قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام الدهر، ضيقت عليه جهنم"

(1)

. أي: عنه، فلا يدخلها.

الربع: التعليل، كقوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وهو معنى قولي: (وَعِلَّةٍ مُصَاحِبَهْ). أي: مصاحبة لمعلولها، غير متخلفة عنه. وهذا شأنها، فليس المراد به قيدًا مُخْرِجًا.

الخامس: الظرفية، كقوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}

(1)

مسند الإمام أحمد (رقم: 19728)، صحيح ابن حبان (3584) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3576).

ص: 1086

[البقرة: 102]. أي: فيه.

السادس: الاستدراك، نحو:(فلان لا يدخل الجنة؛ لسوء صنيعه، عَلَى أنه لا ييأس من رحمة الله).

وربما تكون "على" زائدة، لا معنى لها غير التوكيد والتقوية، خلافًا لقول سيبويه: إنها لا تزاد.

ومثال زيادتها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف على يمين"

(1)

. أي: مَن حلف يمينًا. ومنهم من خرجه على أن المراد: على محلوف يمين، فلا زيادة فيه، ويبقى النظر في أي المجازين أرجح: الزيادة؟ أو النقص؟ والأكثر الثاني.

وقد تُزاد للتعويض مِن "على" أخرى محذوفة، كقول الشاعر: إنْ لم يجد يومًا على مَن يتكل.

أي: إنْ لم يجد مَن يتكل عليه.

تنبيه:

قد تخرج "على" عن الحرفية، وهو ما احترزنا عنه أولًا بقولنا:"على" التي هي حرف جر، فتكون اسمًا -على الأصح- بمعنى "فوق"، وذلك إذا دخل عليها حرف جر، كقول الشاعر: غَدَتْ مِن عليه بَعْدَمَا تَمَّ ظمؤهَا.

قال الأخفش: أو يكون مجرورها ومتعلقها (أي: معموله) ضميرين لمسمى واحد، كقوله تعالى:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37].

ومقابِل الأصح قول السيرافي: إنها لا تكون اسمًا أبدًا ولو دخل عليها حرف جر، بل

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2229)، صحيح مسلم (رقم: 138).

ص: 1087

يُقَدَّر لذلك الحرف لمجرور محذوف.

وعكس هذا مذهب ابن طاهر وابن خروف وابن الطَّرَاوة والأبّدي والشلوبين أن "على" اسم دائمًا، وزعموا أنه مذهب سيبويه، ولكن مشهور مذهب البصريين أنها حرف جر في غير ما سبق.

وقد تكون "على" فِعلًا ماضيًا، فتقول:"عَلَا يعلو عُلوًّا"، قال تعالى:{وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] الأُولى فِعل ماض، والثانية حرف جر كما سبق.

قولي: ("عَلَى" لِلاسْتِعْلَاءِ) مبتدأ وخبر، أي: لفظ " على" لهذه المعاني.

وقولي: (تَجَاوُز) يجوز أن يُقرأ بالرفع خبرًا بعد خبر، وإن كان الخبر الأول جارًّا ومجرورًا.

ويجوز أن يُقرأ بالجر، أي:(وتأتي لتجاوز أيضًا). وحُذِف العاطف كما يقع ذلك كثيًرا في النَّظم، وسبق بيانه مرات.

وأن يُقرأ بالنصب على نزع الخافض بالتقدير المذكور في الجر، وكذا ما بعده.

وقولي: (ظَرْفِيَّةً) بالنصب مفعول مقدم لِـ "تُفِيدُ". والله أعلم.

ص:

494 -

وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى التَّرتيبِ

مَعْنًى، كَذَا ذِكْرًا مَعَ التَّعْقِيبِ

الشرح:

"الفاء" حرف عطف [يفيد]

(1)

الترتيب المعنوي، نحو: جاء زيد فعمرو.

(1)

في (ق، ظ): تفيد.

ص: 1088

والذِّكري إذا عُطف بها مُفَصَّل على مُجْمل، نحو:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، ونحو:"توضأ فغسل وجهه"

(1)

الحديث.

وربما كان في الكلام تقدير؛ فيُظن عدم الترتيب في معطوفها، نحو:{أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] التقدير: أردنا إهلاكها. ونحوه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ. وزعم الفراء أنها لا تفيد الترتيب؛ تمَسُّكًا بظاهر نحو هذا. وجوابه ما سبق، والعجب منه أنه يقول في "الواو" إنها للترتيب!

واعْلَم أن الترتيب في "الفاء" قد يكون في الإخبار وهو الذِّكري (كما تقدم وكما سبق في "ثم") نحو: "مُطرنا بمكان كذا فمكان كذا" وإنْ لم يُعْلَم [فيه]

(2)

تَقدُّم ولا تَأخُّر.

ونازع ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" في إفادتها الترتيب الإخباري، وذكر أنها لترتيب الرُّتَب، نحو:"رحم الله المحلِّقين فالمقصِّرين". فإن رُتبة التقصير دُون رتبة التحليق. ومنه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 1 - 2]، أي: باعتبار أن رُتبة الأوَّلين أعلا مما بعدهم.

وقولي: (مَعَ التَّعْقِيبِ) إشارة إلى أن "الفاء" يلازمها مع الترتيب التعقيب، فيكون الثاني أعقيب،

(3)

الأول بلا مُهْلة، عَكْس "ثُم"، لكن المعاقبة فيها في كل شيء بِحَسَبه؛ فلهذا يقال:(تزوج فلان فَوُلد له) ليس المراد أنها ولدت عقب التزوج في الزمان، بل أنه لم يكن بينهما مهلة غير مدة الحمل ولو تطاولت. وتقول:(دخلت البصرة فالكوفة) إذا لم تُقِم بالبصرة ولا بين البلدين.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 140)، وفي صحيح مسلم (رقم: 246) بلفظ: (يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ).

(2)

في (ص): عقب.

(3)

كذا في (ص)، لكن في (ت، ق، ظ): منه.

ص: 1089

وبهذا يجاب عن استناد السيرافي في منع إفادتها التعقيب بذلك؛ لأنَّا نقول: في هذا تعقيب على الوجه الممكن.

وقال ابن الحاجب: المراد بالتعقيب ما يُعَد في العادة تعقيبًا لا على سبيل المضايقة. قال تعالى: {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} [المؤمنون: 14] الآية، مع أنه بين كل أمرين زمان

(1)

جاء مُصَرحًا به في حديث ابن مسعود: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أُمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك"

(2)

الحديث.

وأما ابن مالك فقال: (إن الفاء قد تكون للمهلة، نحو: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63])

(3)

.

وجوابه -على الأحسن- أن يجعل للتعقيب بالتقدير السابق.

ووقع في "إيضاح" الفارسي أن "ثم" أشد تَراخيًا من "الفاء"، فأَوهم أن "الفاء" فيها تراخٍ.

فقال ابن أبي الربيع في شرحه: إن مُراده إذا كان الاتصال -أي: التعقيب- فيها مجازيًّا، وحينئذٍ ففيها تراخ بلا شك، لكن تراخي "ثُم" أشد.

وهو تنزيل حسن.

(1)

انظر: أمالي ابن الحاجب (1/ 123).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3036)، صحيح مسلم (رقم: 2643) واللفظ للبخاري لكن (إِنَ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ .. )

(3)

شرح التسهيل (3/ 354).

ص: 1090

تنبيه:

جَعْل التعقيب في "الفاء" العاطفة يقتضي أن "الفاء" المجاب بها الشرط لا تعقيب فيها؛ لأن انعقاد السببية في الشرط والجزاء يُغْني عن ذلك. وقد صرح القاضي في "التقريب" بأن "الفاء" لا تقتضي التعقيب في الأجوبة؛ فرارًا من مذهب المعتزلة في أن الكلام حروف وأصوات، فقالوا في قوله تعالى:{كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]: إن الكلام عندهم القديم هو الكاف والنون، فإذا تعقبه الكائن فإما أن يؤدي إلى قِدم الحادث أو حَدث القديم.

ومن معاني "الفاء" أيضًا السببية، وهو معنى قولي في البيت الآتي:(وَلتَسَبُّبٍ).

مثاله قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 52، 53].

وجعل منه العبدي في "شرح الجُمل""طلعت الشمس فوجد النهار" وحديث: "فإذا ركع، فاركعوا"

(1)

.

لكن السببية قد استُفيدت من كونه جوابًا للشرط ولو لم توجد "الفاء".

واعْلَم أن السهيلي حصر معنى "الفاء" في التعقيب، ورَدَّ الترتيب والسببية إليه؛ لأن الثاني إذا تعقبه، تَرتب عليه وتَسَبب عنه.

قلتُ: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون الأول [بعد]

(2)

الثاني مع كونه عقبه، وكَوْن الشيء عقب الشيء لا يَلزم أن يكون متسببًا عنه، وهذا ظاهر. والله أعلم.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 656)، صحيح مسلم (رقم: 412).

(2)

في (ص): قبل.

ص: 1091

ص:

495 -

وَلتَسَبُّبٍ، وَ "في" لِلظَّرْفِ

مَكَانًا اوْ وَقْتًا لِهَذَا الْحَرْفِ

496 -

وَالصُّحْبة، التَّعْلِيلِ، وَاسْتِعْلَاءِ

وَأَكَّدُوا بِهَا [لَدَى]

(1)

الْإعْلَاءِ

497 -

وَعِوَضًا تَأْتِي، وَمَعْنَى "الْبَاءِ"

وَ"مِنْ، إلَى"[تُعْطَى]

(2)

بِلَا امْتِرَاءِ

الشرح:

قولي (وَلتَسَبُّبٍ) من تمام معاني "الفاء" كما سبق.

وأما "في " فَلَها مَعانٍ:

أحدها: الظرفية، مكانية أو زمانية، وقد اجتمعا في قوله تعالى:{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2 - 4].

والمراد أن يكون شيء محلًّا لشيء:

حقيقةً كان كما مَثلنا، لأن الأجسام قابلة للحلول.

أو مجازًا، نحو:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] جعلت الرحمة كالجسم المحيط بالمؤمن. ونحو: "النجاة في الصدق"، جعل العرضان كجسمين حل أحدهما في الآخر.

فلو قال: (أنت طالق اليوم وفي الغد وفيما بعد الغد)، قال المتولي: يقع عليها في كل يوم طلقة، لأن الظرف لا بُدَّ له من مظروف.

(1)

في ص، ن 1، ن 2: لَدَى. في ض: لدا. في ت: لدى. في ش: لذي. في ن 3: لَذَا.

(2)

كذا في (ص). وفي (ظ، ق، ت) أولها ياء، وفي (ن 1، ن 3، ن 5): تعطِي.

ص: 1092

قال الرافعي: (وليس هذا الوجه بواضح؛ إذ يجوز أن يختلف الظرف ويتحد المظروف)

(1)

.

الثاني: المصاحبة، نحو:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79].

الثالث: التعليل، نحو:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].

الرابع: الاستعلاء، نحو:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].

وقيل: إنما هي هنا للظرفية المجازية، فكأنه لَمَّا قصد المبالغة في الاستقرار جعل ظرفًا له. قال الزمخشري في "المفصل":(لِتَمَكُّن المصلوب في الجذع تَمَكُّن الكائن في الظرف فيه)

(2)

.

الخامس: التوكيد، نحو:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41].

السادس: التعويض، وهي الزائدة عوضًا من أخرى، نحو:"ضربت فيمن رغبت"، أي: فيه. كذا نقله ابن هشام في "المغني" عن ابن مالك، قال:(وذلك لأن الأصل "ضربت من رغبت فيه"، فحذف "في" بعد رغبت وزادها بعد "ضرب"، وأنه قاس ذلك على "الباء" في قوله: "انظر بمن تثق". أي: انظر مَن تثق به).

ثم قال: (وفيه نظر)

(3)

.

السابع: معنى "الباء"، كقوله تعالى:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11]، أي: يلزمكم به.

الثامن: معنى "إلى"، كقوله تعالى:{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]، أي: إلى

(1)

العزيز شرح الوجيز (9/ 69).

(2)

المفصل في صنعة الإعراب (ص 381).

(3)

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (2/ 520).

ص: 1093

أفواههم.

التاسع: معنى "من"، كقول امرئ القيس:

وهل يعمن مَن كان أحدث عَهْده

ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال

أي: من ثلاثة أحوال. والله أعلم.

ص:

498 -

وَ"كُلٌّ" اسْمٌ شَامِلٌ أَفْرَادَا

مُنكَّرٍ، أَوْ مَا لِجَمْعٍ عَادَا

499 -

مُعَرَّفًا، وَ [مُفْرَدًا]

(1)

إنْ عُرِّفَا

أَجْزَاؤُهُ، وَ"اللَّامُ" تَعْلِيلًا وَفَى

الشرح:

من الكلمات المحتاج إلى تفسيرها "كل"، وهو اسم واجب الإضافة، فما يضاف إليه إنْ كان مفردًا نكرة فهي لشمول أفراده، نحو:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وإن كان لجمع مُعَرَّف نحو: "كل الرجال" فكذلك، وإنْ كان لمفرد معرفة فهي لشمول الأجزاء، نحو:"اشتريت كل الدار وكل العبد".

ولا خلاف في ذلك إلا في الحالة الثانية، فإن فيها احتمالين للشيخ تقي الدين السبكي في أن الألف واللام هل أفادت العموم و"كُل" تأكيد لها؟ أو هي لبيان الحقيقة و"كُل " تأسيس؟

ثم قال: ويمكن أن يُقال: إنَّ الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه، و"كُل" تفيد العموم في أجزاء كل من تلك المراتب. فإذا قلت:"كل الرجال" أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جميع الرجال، وأفادت "كل" استغراق الآحاد كما قيل

(1)

كذا في (ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ص): مفردٌ.

ص: 1094

في أجزاء العشرة، فيصير لكل منهما معنى، وهو أوْلى من التأكيد.

قال: (ومن هنا يُعلم أنها لا تدخل على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم، وقد نَص عليه ابن السراج في "الأصول")

(1)

. انتهى

وتعقب عليه بعض شيوخنا بأنه لِمَ لا يجوز أن تكون "كل" مؤكدة كما هو أحد الاحتمالين السابقين عنده في المعرف المجموع؟ ويمكن الفرق.

فائدة:

جعل بعضهم من دخولها على المفرد المعرَّف قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله"

(2)

. رواه الترمذي.

واستُشكل بأنه لشمول الجزئيات.

وجوابه أنه لَمَّا أريد الجنس كان بمنزلة المجموع المعرَّف، كما في حديث:"كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها"

(3)

. والله أعلم.

وقولي: (وَ"اللَّامُ" تَعْلِيلًا وَفَى) تمامه قولي بعده:

ص:

500 -

كذَاكَ الِاخْتِصَاصُ وَاسْتِحْقَاقُ

مِلْكٌ وَعُقْبَى لَهُمَا إطْلَاقُ

(1)

الإبهاج (2/ 96).

(2)

سنن الترمذي (رقم: 1191) بلفظ: (كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ على عَقْلِهِ). قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 2042).

(3)

صحيح مسلم (رقم: 223).

ص: 1095

501 -

وَهَكَذَا تَمْلِيكٌ اوْ شَبِيهُهُ

تَوْكِيدُ نَفْي أَوْ سِوًى

(1)

[تَزِيدُهُ]

(2)

502 -

مَعْنَى "إلَى"، "عَلَى" وَ"فِي" وَ"عِنْدَا"

وَ"مِنْ" وَ"عَنْ" تَأْتِي لِذَاكَ قَصْدَا

الشرح:

فَـ "تَعْلِيلًا" مفعول مقدم، وعامله "وَفَى"، أي: إنَّ حرف اللام يَفِي بمعنى التعليل، أي: يفيده. وكذا تفيد المعاني التي ذكرت بعده.

والحاصل أن اللام لها مَعانٍ كثيرة بلغت فوق الثلاثين، وأفردها الهروي بكتاب "اللامات"، وقد ذكرت في النَّظم طائفة يُحتاج إليها في الاستدلال:

أحدها: التعليل، كقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

ومنه قول الزوج: (أنت طالق لرضا فلان)، فإنه يقع الطلاق في الحال سواء رضي أو سخط؛ لأنه للتعليل، لا للتعليق.

الثاني: الاختصاص، نحو:(الجُلُّ لِلْفَرَس). قال القرافي: وهو ما شهدت به العادة، كَـ "السرج للفرس" و"الباب للدار". وقد لا تشهد له عادة، كَـ "الولد لزيد"، فإنه ليس من لازم البشر أن يكون له ولد.

الثالث: الاستحقاق، نحو: النار للكافر.

الرابع: الملك، نحو:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284].

(1)

معناها: غَيْر. يعني: التوكيد لِغَيْر النفي. لسان العرب (14/ 413).

(2)

كذا في (ن 2، ظ)، ويظهر لي أنه الصواب؛ لقول المؤلف في الشرح:(وهي الداخلة لتقوية عامل ضعيف بالتأخير). لكن في (ض، ق، ش، ص، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): تريده.

ص: 1096

ومنهم من يجعله داخلًا في الاستحقاق، وهو أقوى أنواعه، وكذلك الاستحقاق نوع من الاختصاص؛ ولهذا اقتصر الزمخشري في "المفَصل" على الاختصاص.

وقيل: إن اللام لا تفيد بنفسها الملك، بل استفادته من أمر خارجي.

الخامس: العاقبة، ويُعبر عنها ايضًا بالصيرورة وبالمآل، نحو:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].

ويعزى للبصريين إنكار لام العاقبة، لكن في كتاب "الابتداء" لابن خالويه أن اللام في قوله تعالى:{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لام "كي" عند الكوفيين، ولام الصيرورة عند البصريين.

نعم، قال ابن السمعاني في "القواطع":(عندي أن هذا على طريق التوسع والمجاز)

(1)

.

ولهذا قال الزمخشري: (إنه لا يتحقق). قال: (فإنه لم تكن داعية الالتقاط كونه لهم عدوًّا، بل المحبة والتبني، غَيْر أن ذلك لَمَّا كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شُبِّه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله).

قال: (واللام مستعارة لِمَا يُشبه التعليل، كما استُعير "الأسد" لن يشبه الأسد)

(2)

.

ويمثل بعضهم لام العاقبة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179].

لكن قال ابن عطية: إنه ليس بصحيح؛ لأن لام العاقبة إنفي تتصور إذا كان فِعل الفاعل لم يُقصد به ما يصير الأمر إليه مِن [سكناهم]

(3)

.

(1)

قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 44).

(2)

الكشاف (3/ 398).

(3)

في (ق، ظ، ض): سكناتهم. وعبارة ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز، 2/ 479): (و "ذرأ" معناه خلق وأوجد مع بث ونشر: وقالت فِرقة: اللام في قوله: {لِجَهَنَّمَ} هي لام العاقبة. أي: ليكون =

ص: 1097

السادس: التمليك، كَـ:(وهبت لزيد دينارًا)، ومنه:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية.

السابع: شبه التمليك، نحو:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72].

الثامن: توكيد النفي، أي نَفْي كان، نحو:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. ويُعبر عنها بِـ "لام" الجحود؛ لمجيئها بعد النفي؛ لأن الجحد هو نفي ما سبق ذِكره.

التاسع: مُطلق التوكيد، وهي الداخلة لتقوية عامل [ضعيف]

(1)

بالتأخير، نحو:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] الأصل: تعبرون الرؤيا، أو لكونه فرعًا في العمل، نحو:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]. وهذان مَقِيسان.

وربما أكد بها بدخولها على المفعول، نحو:{رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72].

نعم، لم يذكر سيبويه زيادة اللام، وتابعه الفارسي؛ ولهذا أوَّل بعضهم {رَدِفَ لَكُمْ} على التقريب، أي: اقترب. ويشهد له تفسير البخاري "ردف" بمعنى: قرب.

العاشر: أن تكون بمعنى "إلى"، نحو:{سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57]، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5].

= أمرهم ومَاَلهم لجهنم. وهذا ليس بصحيح؛ ولام العاقبة إنما تُتصور إذا كان فِعل الفاعل لم يُقصد به ما يَصِير الأمر إليه. وهذه اللام مِثل التي في قول الشاعر:

يا أم فرو كفي اللوم واعترفي

فكل والدة للموت تَلِد

وأما هنا فالفعل قُصد به ما يَصير الأمر إليه مِن سكناهم جهنم).

(1)

في (ص): ضَعُفَ.

ص: 1098

الحادى عشر: بمعنى "على"، نحو:{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107]. وحكى البيهقي عن حرملة عن الشافعي رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "واشترطي لهم الولاء"

(1)

أن المراد: عليهم.

الثاني عشر: بمعنى "في"، نحو قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].

الثالث عشر: بمعنى "عند"، أي: الوقتية وما يجري مجراها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته"

(2)

. ومنه أن تقول: (كتبته لخمس ليال من كذا). أي: عند انقضائها.

قال الزمخشري: ومنه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].

الرابع عشر: بمعنى "مِن"، نحو:(سمعت له صراخًا)، أي: منه.

الخامس عشر: بمعنى "عن"، نحو:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] أي: قالوا عنهم ذلك.

وضابطها أنْ تَجُرَّ اسم مَن غاب حقيقةً أو حُكمًا عن قول قائل يتعلق به، ولم يَخُصُّه بعضهم بما بَعْد القول، ومَثَّله بقول العرب:(لقيته كفة لكفةٍ). أي: عن كفةٍ؛ لأنهم قالوا: (لقيتُه عن كفةٍ)، والمعنى واحد.

تنبيه:

دلالة حرف على معنى حرف آخر هو طريق الكوفيين، وأما البصريون فهو عندهم على

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2060)، صحيح مسلم (رقم: 1504).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 1810)، صحيح مسلم (رقم: 1081).

ص: 1099

تضمين الفعل المتعلق به ذلك الحرف ما يَصْلُح معه معنى ذلك الحرف على الحقيقة، ويَرَوْن التجوُّز في الفعل أسهل من التجوز في الحرف. والله أعلم.

ص:

503 -

وَمنْهُ "لَوْلَا"، وَهْوَ حَرْفٌ يَقْتَضِي

في اسْمِيَّةٍ أَنَّ جَوَابَ الْمُقْتَضِي

504 -

مُمْتَنِعٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ

وَفي مُضَارعٍ [لِحَضٍّ]

(1)

تُعْطِي

505 -

وَالْمَاضِ تَوْبِيخًا، وَممَّا قُدِّمَا

"لَوْ" لِامْتِنَاعِ مَا يَلِيهَا اسْتَلْزَمَا

الشرح:

"لولا" حرف معناه باعتبار ما يدخل عليه، فإن دخلت على جملة اسمية، كانت للشرط، فتقتضي امتناع جوابها؛ لوجود شرطها، نحو:(لولا زيد لأكرمتك)، أي: لولا زيد موجود، فحذف خبر المبتدأ وجوبًا.

وأما نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"

(2)

فالتقدير فيه: لولا مخافة أن أشق عليهم لأمرتهم أمر إيجاب. فالمنفي أمر الإيجاب، لوجود خوف المشقة، وإلا لانعكس المعنى، إذِ الممتنع المشقة والموجود الأمر.

وإن دخلت على جملة فعلية فِعلها مضارع، كانت للتحضيض، أي: للطلب الحثيث، نحو:{لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46].

وإن دخلت على فِعلية فِعلها ماض، كانت للتوبيخ، كقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ

(1)

كذا في (ص، ش، ن 3، ن 4) وهو الصواب. لكن في (ن 1، ن 5): لحظ. وفي (ن 2): لحد. وفي (ظ): يحض. وفي (ف): بحض.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 6813)، صحيح مسلم (رقم: 252).

ص: 1100

بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} [النور: 16]، ونحو ذلك.

وربما كانت للعَرْض، وذلك حيث تَعذَّر التوبيخ، نحو:{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10].

ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] عند الجمهور، خِلافًا لمن زعم أنها فيه للنفي بمنزلة "لم" كما نقله الهروي في "الأزهية"، وتقرير التوبيخ: فهلا كانت قرية واحدة من القرى المهلَكة تابت عن الكفر قبل مجيء العذاب، فنفعها ذلك؟

قولي: (أَنَّ جَوَابَ) في محل نصب مفعول "يَقْتَضِي".

وقولي: (لِحَضٍّ تُعْطِي) أي: تعطي معنى الحض، أي: التحضيض. فزيدت اللام في المفعول مقدَّمة لضعف العامل بالتأخر كما سبق تقريره في معاني اللام.

وقولي: (وَالْمَاضِ تَوْبِيخًا) أي: وتُعطي في الماضي -أي في الجملة المصدَّرة بالفعل الماضي- معنى التوبيخ، والله أعلم.

وقولي: (وَممَّا قُدِّمَا) إلى آخِره -تتمته ما بعده، وهو:

ص:

556 -

تَالِيَهُ، فَيَنْتَفِي إنْ نَاسبَا

وَلَا مُقَدَّمٌ يَكُونُ ذَاهِبَا

507 -

يَخْلُفُهُ غَيْرٌ، مِثَالٌ أُكْمِلَا

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا} ، فَكُنْ مُكَمِّلَا

558 -

لَا إنْ يَكُنْ [يَخْلُفُهُ]

(1)

مَرْعِيَّا

"لَوْ كَانَ إنْسَانًا لَكَانَ حَيَّا"

(1)

في (ن 1): لخلفه.

ص: 1101

509 -

وَيَثْبُتُ التَّالِي إذَا بِالْأَوْلَى

نَاسَبَهُ فَلَمْ يُنَافِ أَصْلَا

510 -

مِثَالُهُ: "لَوْ لَمْ يَخَفْ لَمْ يَعْصِ"

أَوْ بِالْمُسَاوَاةِ، الْمِثَالُ الْمُحْصِى

511 -

"لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَةً مَا حَلَّتِ"

أَوْ أَدْوَنَ، الْمِثَالُ: لَوْ تَنَفَّت

512 -

أُخُوَّةٌ مِنْ نَسَبٍ لَمْ تَحْلِلِ

فَإنَّهَا أُخْتِي بِرَضْعٍ مُكْمَلِ

513 -

وَللتَّمَنِّي، الْعَرْضِ، وَالتَّحْضِيضِ

كَذَلِكَ التَّقْلِيلُ في التَّعْوِيضِ

الشرح:

أي: ومما تَقدم في الترجمة وهو "بيان معاني كلم يحتاج إليها" بيان معاني "لو"، وهي تَرِد

على وجوه:

أحدها: الشرطية في الماضي، نحو:(لو قام زيد لقام عمرو)، فيكون قيام عمرو مرتبطًا بقيام زيد، لكنهما منتفيان، عكس "إن" الشرطية وما تضمن معناها، فإنها تقتضي في الاستقبال أن وجود جوابها مرتبط بوجود شرطها مع احتمال أن يوجدَا وَأنْ لا يوجدَا، فمقابلتها لها من وجهين:

أحدهما؛ باعتبار المضي والاستقبال.

والثاني: باعتبار أن "لو" تدل على الانتفاء و"إن" وما في معناها لا تدل على انتفاء ولا وجود.

هذا ما صرح به ابن مالك والزمخشري وغيرهما.

وأَبَى قوم تسميتها حرف شرط؛ لأن حقيقة الشرط إنما تكون في الاستقبال، و"لو" إنما هي للتعليق في الماضي؛ فليست من أدوات الشرط.

قيل: والخُلْف لَفْظي؛ لأنه إنْ أريد بالشرطية الربط فهي شرط، وإنْ أريد العمل في

ص: 1102

الجزئين فلا.

قلتُ: وينتقض ذلك بِـ "إذَا" الشرطية، فإنها للشرط بلا خلاف.

وهل تَرِد "لو" للشرط في المستقبل؟

أَثبته جمعٌ؛ [كقوله]

(1)

تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، وقوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9].

وخطَّأهم ابن الحاج في نقده على "المقرب"

(2)

؛ للقطع بامتناع "لو يقوم زيد فعمرو منطلق" كما يقال: "إن لا يقم زيد فعمرو منطلق".

أي: من حيث إنها إذا كانت للشرط في المستقبل تكون باقية على حُكمها في انتفاء جوابها لانتفاء شرطها، لكن لا يَلزم من كون الشرط منتفيًا أن يكون الجواب منتفيًا في غير "لو"، فكذا في "لو" إذا انتفى شرطها فقدْ لا ينتفي جوابها، فاتفاقهم على منع "لو يقوم زيد فعمرو منطلق " ينافي أن يكون شرطًا كَـ "إن".

وفيما قاله نظر؛ لأن الذي يجعلها كَـ "إن" لا يقدر فيها امتناعًا لامتناع؛ ولذا منع بدر الدين ابن مالك ذلك؛ لصحة حمل ما أورده على الشرط في المعنى.

ثم إذا قُلنا بالظاهر المشهور من اختصاصها بالماضي، فقال أبو علي الشلوبين: إنها لمجرد الربط. والجمهور على أنها تقتضي امتناع ما دخلت عليه.

ولهم في التعبير عن معناها عبارات:

(1)

في (ص، ض): لقوله.

(2)

كتاب "المقرب" في النحو، لابن عصفور.

ص: 1103

إحداها وهي المشهورة: أنها حرف امتناع لامتناع. أي: تقتضي امتناع جوابها؛ لامتناع شرطها. وهي عبارة الأكثرين لا سيما المُعْرِبين.

الثانية: عبارة سيبويه: إنها حرف لِمَا كان سيقع؛ لِوقوع غيره.

والعبارة الأُولى راجعة إلى هذه؛ لأن المعنى: لكنه لم يقع، فلم يقع [المترتب]

(1)

عليه.

وممن رجع ذلك إلى عبارة سيبويه بدرُ الدين ابن مالك، وقال: (يستقيم على وجهين:

أحدهما: أن المراد أن جواب "لو" ممتنع لامتناع الشرط، غَيْرُ ثابتٍ لثبوت غيره؛ بناءً على أن اعتبار مفهوم الشرط من طريق اللغة، لا العقل.

ثانيهما: أن المراد أن جواب "لو" امتنع؛ لامتناع شرطه، وقد يكون ثابتًا؛ لثبوت غيره، لكن النظر إلى طرف الامتناع للامتناع؛ فيَصْدُق التعبير بِـ "امتناع؛ لِامتناع ")

(2)

.

قيل: وعلى كل حال فالتعبير مدخول؛ لأن التالي قد يكون ثابتًا في بعض المواضع كما سيأتي؛ فلذلك اختار المحققون العبارة الثالثة، وهي أنها: حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه.

وممن اختارها الشيخ تقي الدين السبكي وولده، وربما وقعت في بعض نُسخ "التسهيل"، لكن ليس فيها تقييد ذلك بالمضي، فينبغي أن يُزاد فيها ذلك، فيقال:(يقتضي في الماضي امتناع) إلى آخِره.

وبالجملة فحاصل المقصود منها أنها تدل على أمرين:

أحدهما: امتناع تاليها وهو الشرط.

(1)

كذا في (ص، ض). لكن في (ق، ظ): الترتيب. وفي (ش): المرتب.

(2)

شرح التسهيل (4/ 95).

ص: 1104

والثاني: استلزام الشرط للجزاء، أي: يكون الشرط ملزومًا والجزاء لازمًا.

وحينئذٍ فينظر فيهما: إنْ تَساويا، لَزِمَ مِن انتفاء الشرط انتفاء الجواب، وإنْ لم يتساويا فلا يَلزم من انتفائه انتفاؤه.

فمِن الأول نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فتَعدُّد الآلهة ملزوم للفساد الذي هو لازم، وهو مساوٍ له، فيلزم من انتفاء كل منهما انتفاء الآخر، ومن وجود كل منهما وجودُ الآخر.

وعلى هذا النوع يَصْدُق أنها حرف امتناع؛ لامتناع.

وِمن الثاني -وهو ما يكون اللزوم فيه أَعَم- نحو: (لو كان إنسانًا لكان حيوانًا)، فإن مِن لازِم الإنسان الحيوان، ولكنه أعم من الإنسان وغيره، فلا يَلزم مِن انتفاء كونه إنسانًا انتفاءُ كونه حيوانًا.

قيل: هذا وارد على مَن يقول: (امتناع؛ لامتناع).

وهذا معنى قولي: (فَيَنتفِي إنْ نَاسَبَا وَلَا مُقَدَّمٌ يَكُونُ ذَاهِبَا يَخْلُفُهُ غَيْرٌ). أي: فيرتب على ما سبق -من كونها تقتضي امتناع ما يليها وأنها حال- كَوْنُ ذلك المقدم استلزم تاليه ما ذكر، وهو أنه إذا كان المقدم مناسبًا للتالي ولا يمكن أن يذهب ويخلفه غيره وهو المشارك الذي شرحناه.

ومعنى قولي: (يَخْلُفُهُ غَيْرٌ) أي: غيره.

ثم قلتُ: إن مثال هذا القسم أكمل. أي: ذكر في القرآن العظيم مكملًا، (فكُنْ) إذا ذكرته (مُكَمِّلًا) له بتلاوتك الآية بكمالها.

نعم، اشتراط الناسبة في هذا القسم وقع في عبارة كثير، وهو مستغنًى عنه؛ فإن المدار على كونه لا يخلف المقدم غيره، أي: للمساواة بينهما، بخلاف ما إذا لم يتساويَا.

ص: 1105

ثم وراء كون المقدم أَخَص من التالي وأنه لا يَلزم مِن انتفائه انتفاؤه أن التالي قد يكون ثابتًا باعتبار أن المقدم المنفي بِـ "لو"[قد اقتضى ثبوته بأن]

(1)

كان المنفي في المقدم مناسبًا له إما بطريق الأولوية أو المساواة أو الأَدْوَبيَّة.

ولكلٍّ مثال:

فمثال الأول: قول عمر رضي الله عنه: "نِعْم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه"

(2)

. فدخلت "لو" فيهما وهُما نفي؛ فاقتضت امتناع أولاهما وهي الشرط، فصارت مثبتة؛ لأن نَفْي النفي إثبات، فيثبت الخوف، وهو مناسب لثبوت التالي الذي هو نَفي العصيان بالأولوية على حال عدم الخوف وهو الإجلال؛ لأن مَن لا يخاف إذا كان لا يعصي إجلالا فَلأنْ لا يعصي عند الخوف من باب أَوْلى. فَلِعَدَم العصيان سببان: الإجلال، والخوف. فإذا كان يوجد مع الإجلال وإن لم يكن خوف فمع الخوف أَوْلى.

ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، فعدم النفاد ثابت على تقدير كون ما في الأرض من الشجر أقلامًا وسبعة أبحر تمد البحر الذي يمد منه، فثبوت عدم النفاد على تقدير عدم ذلك أَوْلى.

وكذا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] يقتضي أنه ما عَلِم فيهم

(1)

في (ص): لا يقتضي ثبوت التالي له وان.

(2)

قال الإمام السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 701): (حَدِيث: "نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ الله لَمْ يَعْصِهِ" اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي أنه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمعٌ جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا أنه ظفر به في "مشكل الحديث" لأبي محمد بن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسنادًا، وقال: أراد أن صهيبًا إنما يطيع الله حُبًّا، لا لمخافة عقابه).

ص: 1106

خيرًا وما أسمعهم. ثم قال الله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فيكون معناه أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا، ولكن عدم التولي خير من الخيرات، فإن أول الكلام يقتضي نفي الخير، وآخِره يقتضي حصوله، وهُما متنافيان، إلا أن عدم إسماعهم أَوْلى بأنْ يُعْرضوا مما لو أسمعهم؛ لأنهم إذا أعرضوا مع سماع كلمات النصح فتوليهم مع عدم [سماعها]

(1)

من باب أَوْلى، فلا تنافي حينئذٍ بين أولها وآخِرها.

ومثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم في بنت أُم سلمة: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة"

(2)

. فإن عدم حِلها له عليه السلام من وجهين: كونها ربيبة، وكونها ابنة أخيه من الرضاعة.

ومثال الثالث: وهو أن تكون مناسَبة ذلك دون مناسبة المقدم، فيلحق به؛ [لِلاشتراك]

(3)

في أصل المعنى، كقول القائل:(لو انتفت أُخوة هذه مِن النَّسب لَمَا كانت حلالًا؛ لِمَا بيننا من الرضاع). فإن تحريم الرضاع دون تحريم النسب.

واعْلَم أن بعضهم طبق عبارة سيبويه على هذه العبارة الثالثة؛ لأنه قال: (لِمَا كان سيقع؛ لوقوع غيره)؛ لأنه إنما تَعَرَّض لامتناع الشرط، كأنه قال: لكن ذلك الغير لم يقع؛ فلذلك لم يقع المُرَتَّب عليه. أما كونه لا يقع المرتَّب عليه دائمًا فلا دلالة فيه.

فائدة:

ما مثّل به للقسم الأول -من قول عمر في صهيب- قال بعض الحفاظ: كثيرًا ما نسأل عنه ولم نجد له أصلًا.

(1)

في (ق): سماعهم.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 4813)، صحيح مسلم (رقم: 1449).

(3)

في (ص، ش، ض): الاشتراك.

ص: 1107

نعم، في "الحلية" لأبي نعيم -في ترجمة "سالم مولى أبي حذيفة" بسند فيه ابن لهيعة- أن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سالمًا شديد الحب لله عز وجل، لو لم يخف الله لم يعصه"

(1)

.

ومن جهته أورده صاحب "الفردوس"، فيحصل الغرض في التمثيل بذلك.

وأما [مثال]

(2)

الثاني وهو: "لو لم تكن ربيبتي في حجري" فإنه في "الصحيحين".

الثاني من معاق "لو": التمني، نحو:{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء: 102]. أي: فليت لنا كرة، ولهذا ينصب المضارع في جواب "لو" كما ينصب في جواب "ليت".

ثم اختُلف في هذه، فقيل: إنها الامتناعية، أشربت معنى التمني.

وقيل: قسم برأسه.

وقيل: إنها المصدرية، أغنت عن التمني، لكونها لا تقع غالبًا إلا بعد مفهم تَمَنٍّ. واختار هذا القول ابن مالك، وغلط الزمخشري في عَدِّها حرف تَمَنٍّ، لمجيئها مع فِعل التمني في قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، ولو كانت للتمني لَمَا جمع بينهما، كما لا يُجْمَع بين ["ليت"]

(3)

وفِعل تَمَنٍّ.

وأُجيبَ بأن حالة دخول فِعل التمني عليها لا تكون حرف تمنٍّ، بل مجردة عنه، وهو مراد الزنحشري وغيره ممن أثبتها للتمني.

الثالث: العَرْض، نحو: لو تنزل عندنا فتصيب خيرًا.

(1)

حلية الأولياء (1/ 177) بلفظ: "إِنَ سَالِمًا شَدِيدُ الحبِّ لله عز وجل، لَوْ كَانَ لَا يَخَافُ اللهَ- عز وجل مَا عَصَاهُ".

(2)

في (ق، ظ، ض): بيان.

(3)

في (ق، ت): ليت ولعل.

ص: 1108

الرابع: التحضيض، وقَلَّ مَن ذكره، إنما ذكره العكبري في "الشامل"، ومَثَّله بنحو:(لو فعلت كذا يا هذا)، بمعنى: افْعَل.

والفرق بينه وبين العَرْض أنه طلب بِحَثٍّ، والعَرْض طلب بِلِين.

الخامس: التقليل، ذكره ابن هشام الخضراوي وابن السمعاني في "القواطع"، نحو:"التمس ولو خاتما من حديد"

(1)

، "اتقوا النار ولو بشق تمرة"

(2)

، "تصدق ولو بظِلف محرق"

(3)

، وهو أشد في التقليل.

و"الظِّلف" -بكسر الظاء المعجمة- من البقر والغنم كالحافر من الفرس. وهذا معنى قولي: (كَذَلِكَ التَّقْلِيلُ)، أي: في مقام ذكر التعويض أنه يكتفي بذلك؛ لحقارته، وتعوض الكثير من فضل الله عز وجل، والله أعلم.

ص:

514 -

وَ"لَنْ" لِنَفْيِ مَا يُرَى مُسْتَقْبَلَا

أَمَّا لِتَأْكِيدٍ وَتَأْبِيدٍ فَلَا

الشرح: "لن" من نواصب المضارع لكنها لنفي المستقبل؛ فلذلك تخلصه للاستقبال، ولا [تفيد]

(4)

مع ذلك تأكيدًا في [نفيها]

(5)

ولا تأبيدًا له، خلافًا للزمخشري فيهما، الأول صرح به

(1)

صحيح البخاري (4829).

(2)

صحيح البخاري (1351)، صحيح مسلم (1016).

(3)

مسند أحمد (27491)، صحيح ابن حبان (3374)، وغيرهما، بِنَحْوِه، ولفظ أحمد:(لا تردوا السائل ولو بظلف محرق).

(4)

في (ظ): يقيد.

(5)

في (ق، ظ): نفسها.

ص: 1109

في "الكشاف"، والثاني في "الأنموذج" في كثير من نُسخه.

قال ابن مالك: (وحَمَله على ذلك اعتقاده أن الله [لا]

(1)

يُرى، وهو اعتقاد باطل)

(2)

.

وقال ابن عصفور: (ليس له دليل على مقالته، بل قد يكون النفي بِـ "لا" آكد من النفي بِـ "لن") إلى آخِر ما قال.

ومما يُرَد به على الزمخشري في التأبيد أنها لو أفادته لم يقيد نفيها باليوم في قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، أو بحالة حادثة، نحو:{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91]، ولكان ذِكر أبدًا في قوله تعالى:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] تكرارًا.

نعم، وافق الزمخشري على التأبيد ابن عطية إذ قال في قوله تعالى:{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]: (إنه لو مَضَيْنا على هذا النفي بمجرده لتَضمَّن أن موسى لا يراه أبدًا ولا في الآخرة، لكن [ردّوه من]

(3)

جهة أخرى [في الحديث]

(4)

المتواتر أن أهل الجنة يرونه، فاقتضى أن موضوعها لغةً ذلك)

(5)

.

لكن يحتمل أن مراده أن المستقبل بعدها يَعُم جميع الأزمنة المستقبلة؛ من جهة أن الفعل نكِرة، والنكرة في سياق النفي تَعُم.

ووافق أيضًا الزمخشري على القول بتأكيد النفي ابن الخباز في "شرح الإيضاح" إذ قال:

(1)

في (ق): لن.

(2)

شرح الكافية الشافية (2/ 1531).

(3)

في (ق): رده في.

(4)

في (ت): بالحديث.

(5)

المحرر الوجيز (2/ 450).

ص: 1110

ولكنه أَبلغ مِن نفْي "لا"، ألا ترى أنه [مستعمل]

(1)

في المواضع التي يستمر عدم الاتصال فيها، كقوله:{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، أي: إلى آخِر الدنيا. ومِثله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47]؛ لأنَّ خُلْف الوعد على الله تعالى مُحَال.

ووافقه أيضًا صاحب "التبيان" على أن النفي بها أوكد.

وزعم ابن عصفور أنها تَرِد للدعاء، نحو:{فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]. والصحيح عند ابن مالك وغيره أنه لم يستعمل في الدعاء إلا "لا" خاصة، ولا حُجة له فيما سبق؛ لاحتمال أن يكون خبرًا، ولأن الدعاء لا يكون للمتكلم. والله أعلم.

ص:

515 -

وَ"مَا" كَـ"مَنْ" لِلشَّرْطِ وَاسْتِفْهَامِ

نَكِرَةٌ بِوَصْفٍ اوْ تَمَامِ

516 -

مَوْصُولَةٌ، وَ"مَا" فَقَطْ لِلنَّفْيِ

وَقَدْ تُزَادُ في كثِيرٍ يُعْنِي

(2)

الشرح:

"ما" مثل "مَن" في المعاني المذكورة، وتنفرد "ما" عنها بما سنذكره.

فمِمَّا يشتركان فيه أمور:

أحدها: الشرطية: زمانية، نحو:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وغير زمانية، نحو:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، ونحو:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].

(1)

كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: يستعمل.

(2)

(عَنِيَ) بِالْكَسْرِ عَنَاءً أَيْ تَعِبَ وَنَصِبَ. (مختار الصحاح، ص 192). وقال المؤلف في شرحه: (يُعْنِي طالبهُ؛ لكثرته).

ص: 1111

الثاني: الاستفهام، نحو:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17]، {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [طه: 49].

الثالث: تَرِد كل منهما نكرة موصوفة، نحوة "مررت بما معجب لك". أي: بشيء. ومنه ما أنشده سيبويه:

رُبما تَكْره النُّفوسُ منَ الأَمْـ

رِ لَهُ فرْجَةٌ كحَلِّ العقَالِ

أي: رُب شيء، وجملة "تكره النفوس" صفة له، والعائد محذوف، أي: تكرهه.

ونحو: "مررت بمن معجب لك"، أي: بإنسان ونحوه.

وشرط الكسائي في "مَن" هذه أنها لا تقع إلا في موضع لا يقع فيه إلا [النكرة]

(1)

، نحو:"رُب مَن عالم أكرمت"، و"رب مَن أتاني أحسنت إليه".

ورُدَّ ما بما أنشده سيبويه:

فكفى بنا فضلا على مَن غيرنا

حب النبي محمد إيانا

مع أن مجرور "على" يكون نكرة ومعرفة.

الرابع: أن يقعا نكرة تامة.

نحو: ما أحسن زيدًا.

ويُعبر عنها بِـ"ما" التعجبية، فَـ"ما" مبتدأ، وما بعدها الخبر، أَي شيء حسن زيدًا، أي: صَيَّرَه حسنًا.

والمسوغ للابتداء بها -مع كونها نكرةً- إفادةُ التعجب، كما في نحو:[عجبٌ]

(2)

لزيد. هذا مذهب سيبويه، وزعم الأخفش أن "ما" التعجبية موصولة، والفعل بعدها صلة لها،

(1)

كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: التنكير.

(2)

كذا في (ص، ض، ش). لكن في (ت، ظ): عجبت. وفي (ق): عجيب.

ص: 1112

والخبر محذوف وجوبًا.

ونحو قول الشاعر: ونِعْمَ مَن هو في سرٍّ وإعلان.

قاله أبو علي الفارسي، فزعم أن الفاعل مستتر، و"مَن" تمييز، والضمير المنفصل هو المخصوص. وقال غيره:"مَن" موصول فاعل.

الخامس: ورودهما موصولتين بمعنى "الذي".

نحو: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، ونحو:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنبياء: 19].

وهُما حينئذٍ مفردان مذكران في اللفظ، وأما المعنى فقد يكونان كذلك، وقد يكون المعنى غير ذلك، ويظهر بِعَوْد الضمير ونحوه كما هو معروف في محله من النحو.

وقولي: (وَ"مَا" فَقَطْ لِلنَّفْيِ) إشارة إلى ما يختص به "ما"، وذلك أنها تكون على وجهين:

اسمية: ولها الأوجُه السابقة.

وحَرْفية: وهي ما تنفرد به عن "من".

والحرفية إما نافية أو زائدة أو موصولة.

فالأول: إما عاملة على لغة الحجاز، كقوله تعالى:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، أو غير عاملة، نحو:"ما قام زيد"، و"ما يقوم عمرو".

والثاني: إما كافة أو غير كافة.

والكافة إما:

- عن عمل الرفع، نحو:"قلَّما" و"طالما".

- أو النصب والرفع، وهي المتصلة بِـ"إنَّ" وأخواتها حيث كفت، نحو: إنما زيد قائم.

ص: 1113

- أو الجر، نحو: ربما.

وغير الكافة إما:

- عوض، نحو: أمَّا أنت منطلقًا انطلقت، كما قال:

أما أنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع

- وإما غير عوض، نحو: شتان ما بين زيد وعمرو.

وإلى كثرة أقسام الزائدة أشرت في النظم بقولي: (وَقَدْ تُزَادُ في كَثِيرٍ يُعْنِي). أي: يُعْني طالبه؛ لكثرته، وذلك على وجه المبالغة، ومحله كتب العربية.

الثالث: من أقسام الحرفية أن تكون موصولًا حرفيًا، أي: تكون هي وما بعدها في تأويل مصدر، نحو: أعجبني ما قلت. أي: قولك.

وهي ضربان:

- ظرفية: وذلك بأن يقع المصدر المؤوَّل منها موقع الظرف، نحو:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، أي: مدة استطاعتكم.

- وغير ظرفية، نحو:{بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

ونازع ابن عصفور أبا موسى الجزولي في كون هذا قِسمًا آخَر؛ لأن المصدر الصريح يقع موقع الظرف، نحو: أتيتك خفوق النجم، أي: وقت خفوقه. وخلافة زيد، أي: مدة خلافته. فالمصدر المؤول كذلك، لا أن ذلك معنى يختص بِـ"ما" المصدرية.

وإنما لم أذكر في النَّظم هذا القسم الثالث لدخوله تحت إطلاق قولي: (مَوْصُولَةٌ)، وهو بالرفع كالذي قبله، وهو قولي:(نكِرَةٌ). وهو على إرادة سرد المعاني، وإلا فكان حقهما أن يُعطفا بالواو، فإن النظم يبيح مثل ذلك كما ذكرناه غير مرة.

ص: 1114

فإنْ قلتَ: يشكل هذا بأنك جعلت "ما" كَـ"مَن" في هذه المعاني، فيقتضي أن يكون "مَن" موصولًا حرفيًّا وليس كذلك.

قلتُ: التشبيه يَصْدُق بصورة "من" الموصولية، ولا يَلزم أن يكون بسائر الوجوه، والله أعلم.

ص:

517 -

وَ"مِنْ" بِكَسْرٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَهْ

وَلِبَيَانِ الْجنْسِ في الدِّرَايَهْ

518 -

وَهَكَذَا التَّبْعِيضُ وَالتَّعْلِيلُ

وَبَدَلٌ وَغَايَةٌ [تَحُولُ]

(1)

519 -

وَمثْلُهُ التَّنْصِيصُ لِلْعُمُومِ

وَالْفَصْلُ وَالْمَجيءُ في التَّفْهِيمِ

520 -

كَـ"الْبَا"، كَذاكَ "في" وَ"عِنْدَ" وَ"عَلَى"

وَ"هَلْ" لِتَصْدِيقٍ [يُرَادُ]

(2)

بِانْجِلَا

الشرح:

الاحتراز بالكسر عن "مَن" المفتوحة التي سبق ذكرها مع "ما".

فـ"مِن" المكسورة (وفيها لغة "منا" بألِف، حكاه في "التسهيل") تَرِد على وجوه:

أحدها: لابتداء الغاية، وهو الأغلب عليها، وتُعْرف بأن يذكر بعدها "إلى"، فيستقيم الكلام، نحو:"سِرتُ من البصرة"، فإنه يَصْدُق أن يقول:"إلى بغداد"، وهو معنى قول بعضهم: وقد يحذف انتهاء الغاية بعدها؛ للعِلم به.

وقد لا يقصد فيه انتهاء الغاية أصلًا، نحو:"أعوذ بالله من الشيطان"، و"زيد أفضل من

(1)

في (ض، ن 1): تجول.

(2)

في (ظ، ن 5): يزاد.

ص: 1115

عمرو"، ونحوه.

ثم هي لابتداء الغاية في المكان اتفاقًا، نحو:{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وفي الزمان عند الكوفيين، نحو:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. وصححه ابن مالك وغيره؛ لكثرة شواهده، وأما تأويل البصريين ففيه تَعسُّف.

قال ابن أبي الربيع: ومحل الخلاف أن "من" هل تقع موقع "مُذْ"؟ فإنها لابتداء الغاية في الزمان بلا خلاف، فالبصريون يمنعونه، والكوفيون يجوزونه. وما ورد في القرآن لا يحتج به على البصريين؛ لأنه لم يرد "مُذ" قبل ولا "مُذْ" بعد.

الثاني: بيان الجنس، وعلامتها أن يصح وضع "الذي" قبلها، نحو:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. أي: الذي هو [مِن]

(1)

الأوثان، فإن الأوثان كلها [رجس]

(2)

وإنْ كان الرجس قد يكون من غير الأوثان. ونحوه قوله تعالى: {خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ} [الكهف: 31].

وحكى الصيمري -من أصحابنا- عن الشافعي فيما لو قال: (له مِن هذا المال ألف)، وكان المال كله ألفًا، أنه إقرار بجميعه، حملًا على أن "مِن" للتبيين.

الثالث: التبعيض، وعلامتها صحة "بعض" محلها، نحو:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253].

نعم، فرق بعضهم -كما قال ابن أبي الربيع- بين "أكلت من الرغيف"، و"أكلت بعض

(1)

ليست في (ظ، ق، ت).

(2)

كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: جنس.

ص: 1116

الرغيف" بأن مع "من" كان يحتمل تَوجُّه الأكل للكل وللبعض، [فبَيّنت]

(1)

"من" أن المراد أكل البعض، وأما لو صرح بِـ "بعض" فإن الأكل متوجه ابتداءً للبعض. هذا معنى ما نقله، ولكنه قليل الجدوى.

نعم، البعض يَصْدُق على النصف أو ما دونه، قولان لأهل اللغة، فقياس ذلك أن يجري في البعض المستفاد من "مِن" القولان.

ويشهد للثاني قوله تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وفي "النهاية" في "كتاب الوكالة": لو قال: "بعْ مِن عبيدي مَن شئت"، فليس للوكيل أن يبيع جميعهم، بل له أن يبيعهم إلا واحدًا باتفاق الأصحاب. وإنْ كان التبعيض في النظم المعروف إنما يورد على النصف فما دونه.

قال: وهذا يناظر الاستثناء، فإن الغالب استثناء الأقل واستبقاء الأكثر، ولكن لو قال:"له عَلَيَّ عشرة إلا تسعة"، صَحَّ، وجُعِل مُقرًّا بدرهم.

الرابع: التعليل، نحو:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19].

الخامس: البدل، نحو:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، أي: بدل الآخرة.

السادس: الغاية، كذا عبر به كثير، وهو محتمل لأمرين:

أحدهما: الغاية كلها. كذا حكاه ابن أبي الربيع عن قوم، نحو:"أخذت من الياقوت"، فالياقوت مبدأ الأخذ ومنتهاه.

قال: وهذا إذا تحقق، رجع لابتداء الغاية؛ لأنه لَمَّا لم يكن للفعل [امتداد]

(2)

، وجب أن

(1)

في (ش): فيثبت.

(2)

في (ق، ظ، ت): ابتداء.

ص: 1117

يكون المبدأ والمنتهى واحدًا.

ثانيهما وهو الظاهر: أنه على حذف مضاف، أي: انتهاء الغاية، فيكون بمنزلة "إلى"، وربما وقع في بعض نُسخ "التسهيل": وبمعنى "إلى"، ومثلوه بقول الشاعر:

عَسَى سائل ذو حاجة إنْ مَنَعْتَه

مِن اليوم [سؤلًا]

(1)

أْن يُيَسَّر في غَد

وفي "التسهيل" -قبل ذلك- أنها تكون للانتهاء.

ومثلوه بقريب من ذلك، فتكون لابتداء الغاية من الفاعل، ولانتهاء غاية الفعل من المفعول، مثل:"رأيت الهلال من داري من خلل السحاب". فابتداء الغاية وقع من الدار، وانتهاؤه من خلل السحاب.

قال ابن مالك: (وسيبويه أشار إلى هذا)

(2)

. وإنْ أنكره جماعة وقالوا: لم تخرج عن ابتداء الغاية، لكن الأُولى ابتداؤها في حق الفاعل، والثانية في حق المفعول؛ لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهي في خلل السحاب. ومنهم مَن جعلها في الثانية لابتداء الغاية أيضًا، إلا أنه جعل العامل فيها فِعلًا، كأنه قال:"رأيت الهلال مِن داري ظاهرًا مِن خلل السحاب"، فجعل "مِن" لابتداء غاية الظهور؛ لأن ظهور الهلال بدأ من خلل السحاب.

ورُدَّ بأن الخبر المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنما يكون بما يناسب معناه الحرف، و"مِن" الابتدائية لا يفهم منها معنى الكون ولا الظهور، فلا ينبغي أن يحذف. ومنهم من جعلها بدلًا من الأولى.

السابع: تنصيص العموم، وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو:(ما جاءني مِن رجل). فإنه كان قبل دخولها محتملًا لنفي الجنس ولنفي الوحدة؛ ولهذا يصح أن تقول:

(1)

كذا في (ص). لكن في (ت، ظ، ق): يسرا. وفي (ض، ش): سوا.

(2)

شرح التسهيل (3/ 136).

ص: 1118

(بل رجلان)، ويمتنع ذلك بعد دخول "مِن".

أما الواقعة بعد "ما" فلا تستعمل إلا في النفي والتأكيد لا غير، نحو:(ما جاءني من أحد). وزعم الكوفيون أنها تزاد في الإثبات نحو: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31]؛ بدليل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

وأُجيب بأن "مِن" للتبعيض؛ لأن مِن الذنوب حقوق العباد، والله عز وجل لا يغفرها، بل يستوهبها إذا شاء. وقوله:{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إنما هو في هذه الأُمة، وقوله في الآية الأخرى:{مِنْ ذُنُوبِكُمْ} هو في قوم نوح، فلم يتواردا على محل. ولو سُلِّم أنها أيضًا في هذه الأُمة فلا يبعد أن يغفر بعض الذنوب لقوم وجميعها لآخَرين.

الثامن: الفصل، نحو:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وتُعْرف بدخولها على ثاني المتضادين.

التاسع: مجيئها بمعنى "الباء"، وهو معنى قولي:(وَالْمَجِيءُ في التَّفْهِيمِ كـ "الْبَا")، أي: مجيء "مِن" لإفهام هذه المعاني كما تُفهمها الحروف المذكورة.

مثالها بمعنى "الباء" قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. قال يونس: أي: بِطرف. ويحتمل أنه من ابتداء الغاية.

العاشر: بمعنى "في"، كقوله تعالى:{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، أي: في الأرض. كذا مُثِّلت، والظاهر أنها على بابها؛ لصحة المعنى بذلك.

والأحسن أن يمثل بما حكاه ابن الصباغ في "الشامل" عن الشافعي رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] أنها بمعنى "في"؛ بدليل قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92].

الحادى عشر: بمعنى "عند"، كقوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ

ص: 1119

مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10]. قاله أبو [عبيدة]

(1)

.

الثاني عشر: بمعنى "على"، كقوله تعالى:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]. وقيل: بل هو على التضمين، أي: منعناه. وهو أَوْلى من التجوُّز في الحروف كما سبق تقريره والخلاف فيه، والله أعلم.

وقولي: (وَ"هَلْ" لِتَصْدِيقٍ يُرَادُ بِانْجِلَا) تمامه قولي:

ص:

521 -

في مُوجَبٍ لَا غَيْرِهِ، وَالْوَاوُ

لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إذَا يُسَاوُوْا

الشرح:

فقد اشتمل مع هذا البيت على بيان معنى حرفين: "هل"، و"الواو".

فأمل "هل" فموضوع لطلب التصديق الإيجابي دون التصور ودون التصديق السلبي. تقول: "هل جاء زيد؟ " و"هل عمرو منطلق؟ " ولا يجوز "هل زيد قائم؟ أَم عمرو؟ " إذا أُريد بِـ"أَم" المتصلة، ولا "هل لم يَقُم زيد؟ ".

ونظيرها في الاختصاص بطلب التصديق "أَم" المنقطعة، و [عكسهما]

(2)

"أم" المتصلة.

قيل: ومن معاني "هل" النفي؛ بدليل دخول "إلا" على الخبر بعدها، نحو:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، و"الباء" في قوله:(ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم).

(1)

كذا في (ت) وهو الصواب. لكن في سائر النُّسخ: عبيد. قال أبو عبيدة في كتابه (مجاز القرآن، 1/ 87): ({لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} يعني: عند الله).

(2)

كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: عليهما.

ص: 1120

وغير ذلك.

والأصوب أن يقال: إنها للاستفهام، ولكن أريد بالاستفهام بها النفي، كما يقال بذلك في الاستفهام الإنكاري، نحو:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].

قيل: وتأتي أيضًا بمعنى "قد"، وذلك مع الفعل، كما في {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر} [الإنسان: 1]. وبالغ الزمخشري حتى قال: إنها أبدًا بمعنى "قد"، وإنَّ الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدَّرة معها.

ونقله في "المفصل" عن سيبويه.

وضُعِّف ما قاله الزمخشري بأنه لو كان كما قال، لم تدخل إلا على فعل كَـ "قد". وأما نَص سيبويه فمذكور في "باب أَم المتصلة"، ولكن قد نَص على خلافه في "باب عدة ما يكون عليه الكلم"؛ فَلْيُؤَوَّل نَصُّه.

نعم، معنى "قد" المحمول عليها "هل" في {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [التقريب]

(1)

.

قال في "الكشاف": (إن التقدير في {هَلْ أَتَى} : "أقد أتى؟ " على معنى التقرير والتقريب جميعًا، أي: أتى على الإنسان قبل زمان قريب طائفة من الزمان الطويل الممتد لم يكن [فيه]

(2)

شيئًا مذكورًا، بل شيئًا منسيًّا نطفة في الأصلاب، والمراد بالإنسان: الجنس؛ بدليل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان: 2])

(3)

. انتهى

وفسرها غيره بِـ "قد" خاصة، ولم يحملوا "قد" على التقريب، بل على معنى التحقيق.

وقيل: بل معناها التوقُّع، وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر عما أتى على الإنسان وهو آدم

(1)

كذا في (ص). لكن في سائر النسخ: للتقريب.

(2)

كذا في (ص)، لكن في (ت): فيها.

(3)

الكشاف (4/ 666).

ص: 1121

عليه السلام. قيل: و"الْحِين" زمن كَوْنه طِينًا.

وفي "التسهيل" أنه يتعين مرادَفة "هل" لِـ "قد" إذا دخلت عليها الهمزة، أي: كما في قوله:

سائل فوارِس يَرْبُوع بِشِدَّتنَا

أَهَلْ رَأَوْنَا بسفْحِ القاع ذِي الأكم

ومفهوم ما قاله ابن مالك أنه لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها، بل قد تأتي لذلك كما في الآية، وقد لا تأتي له.

وقد عَكَس قومٌ ما قاله الزمخشري، فزعموا أن "هل" لا تأتي بمعنى "قد" أصلًا.

قال ابن هشام في "المغني": (وهذا هو الصواب عندي)

(1)

.

ثم ذكر توجيه تصويبه وأطال فيه، فليراجَع منه، فمَن ثَم لم أتعرض لغير ما سبق في النَّظم.

وأما "الواو" فإنْ كانت عاطفة فمعناها -على المرجَّح- مُطْلَق الجمْع، فتعطف متقدمًا على متأخِّر كعَكْسه، وتعطف المتساويين في الزمان، وتعطف مع التراخي ومع الفورية، نحو:"جاء زيد وعمرو" سواء أكان في الواقع جاء قبله أو بعده أو معه، وسواء تَعقبه أو تَراخَى.

ومعنى قولي: "إذا يُسَاوُوا" أن العرب تأتي "بالواو" إذا أرادت المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه في مطلق اشتراكهما في معنى العامل مِن غير إرادة شيء مما ذكرناه. فإذا أرادوا ذلك، أتوا بقرينة أو بما وُضِع للترتيب والمهلة (وهو "ثُم") أو للترتيب والتعقيب (وهو "الفاء") بحسب قصدهم استغناءً عن القرينة، وعند "الواو" إنما يُستفاد ذلك من القرينة، لا مِن نفس "الواو".

(1)

مغني اللبيب (3/ 339 - 340).

ص: 1122

وإنما حذفتُ "النون" في النَّظم من قولي: (يُسَاوُوْا) مع عدم الناصب والجازم اضطرارًا، وإلا فالأصل:"يساوون"، بل ربما حذفت في غير ذلك كما هو مشهور في العربية.

وما قررته في معنى "الواو" هو الصحيح من الأقوال الذي عليه الجمهور ونَصُّ سيبويه إذ قال: (وذلك قولك: "مررت برجُل وحمار" لم تجعل للرجُل منزلة بتقديمك إياه يكون بها أَوْلى مِن الحمار، كأنك قلت: "مررت بهما"، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء)

(1)

. انتهى

[فَبَيَّن]

(2)

بهذا أنها لمجرد الجمع وأنها كالتثنية لا ترتيب فيها ولا مَعِيَّة.

قيل: ونَص عليه سيبويه في سبعة عشر موضعًا من كتابه.

ونقل الفارسي والسيرافي في "شرح سيبويه" والسهيلي وغيرهم إجماع أئمة العربية عليه وإنْ كان في حكايته الإجماع نظر مع وجود الأقوال الآتية وشهرتها، وحكاه القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" عن أكثر الأصحاب، وزعم ابن برهان أنه قول الحنفية بأَسْرهم ومعظم أصحاب الشافعي.

وفي إطلاقه ذلك عن الحنفية نظر؛ لِمَا سيأتي.

ثم قال: وهو الذي صَحَّ عن الشافعي؛ فإنه نَص على أنه إذا قال: "هذه الدار وقف على أولادي وأولاد أولادي"، أنهم يشتركون فيه، بخلاف "ثم أولاد أولادي". وإذا قال:"إذا مت فسالم وغانم وخالد أحرار" وكان الثلث لا يَفِي إلا بأحدهم، فإنه يقرع. فلو كانت الواو عنده للترتيب لَقال: يعتق سالم وحده.

ودليل هذا القول موارد استعمالها، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد:

(1)

الكتاب لسيبويه (1/ 437).

(2)

كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: فتبين.

ص: 1123

26]، وفي الآية الأخرى:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3]، وقال:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]، وقال:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب: 7]، وقال تعالى:{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، فالرد بُعيد إلقائه في اليَم، والإرسال وقع متراخيًا، فإنه على رأس أربعين سَنة.

القول الثاني: إنها للترتيب. قاله ابن عباس، فأسند إليه ابن عبد البر في "التمهيد": (ما ندمت على شيء لم أكن عملت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله أن لا أكون مشيت؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين ذكر إبراهيم وأُمر أن ينادي في الناس بالحج: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}

(1)

، فبدأ بالرجال قبل الركبان)

(2)

.

وإلى هذا القول ذهب من أهل العربية من الكوفيين ثعلب والفراء وهشام وأبو عمر الزاهد على ما نقله الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة".

لكن في كتاب أبي بكر الرازي: (قال لي أبو عمر غلام ثعلب: "الواو" عند العرب للجمع لا للترتيب، وأخطأ مَن قال: إنها للترتيب)

(3)

. انتهى

ومن البصريين قطرب وعلي بن عيسى الربعي وابن درستويه، وعُزي للشافعي، فذكر بعض الحنفية أنه نَص عليه في كتاب "أحكام القرآن"، وبعضهم أخذه من لازِم قوله في اشتراط الترتيب في الوضوء والتيمم ونحو ذلك.

والحقُّ أنه ليس مستدركه في ذلك "الواو"، بل الترتيب عنده بدليل آخَر، وهو قطع النظير

(1)

[الحج: 27].

(2)

التمهيد (2/ 84).

(3)

الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 86).

ص: 1124

عن النظير وإدخال الممسوح بين المغسولين، والعرب لا تفعل ذلك إلا إذا أرادت الترتيب.

نعم، هو وجه لأصحابنا حكاه الماوردي في "باب الوضوء" عن جمهورهم، وكذا الصيدلاني في "شرح المختصر"، قال: وقولنا: إن "الواو" للترتيب هو قول أبي عبيد والفراء وغلام ثعلب.

وفي "الأساليب" لإمام الحرمين أنه صار إليه علماؤنا، وفي "البرهان" له أنه الذي اشتهر عن أصحاب الشافعي

(1)

، ونصره الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة"، وجزم به ابن سريج في "الودائع"، وقال: إنه لا خلاف فيه بين أهل اللغة.

وقال بعض المحققين من شيوخنا: إن الذي يظهر من تَصرُّف الشافعي أن إفادة "الواو" للترتيب ليس لغةً، بل مِن عُرف الشرع، فهو حقيقة شرعية، لا لغوية، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين خرج من باب الصفا وهو يريد الصفا:"نبدأ بما بدأ الله به"

(2)

. أي: شرعنا دائمًا أن نبدأ بذلك، فهو عام وارِد على سبب خاص، فكل موضع وقع فيه التردد فإنما يحمل على الشرعي، وحينئذٍ فإطلاق كثير من أصحابنا الترتيب ونقلهم ذلك عن مذهب الشافعي إنما مرادهم ذلك، وبه يجتمع الكلام ويرتفع الخلاف.

وأما النقل عن اتفاق أئمة اللغة ذلك كما سبق ففيه منازعة.

فقد قال ابن الأنباري في مصنفه المفرد في هذه المسألة: إن ما نقل عن ابن درستويه والزاهد وابن جني وابن برهان والربعي من أنها للترتيب فليس بصحيح، وكتبهم تنطق بضد ذلك.

ثم ذكر كلام عَلي الربعي في "شرح كتاب الجرمي"، وهو أنه قال: إن "الواو" للجمع

(1)

البرهان في أصول الفقه (1/ 137).

(2)

صحيح مسلم (1218)، سنن أبي داود (1905)، سنن الترمذي (2967)، وغيرها.

ص: 1125

على مذهب النحويين والفقهاء إلا الشافعي.

قال: ولقوله وَجْه.

ولكن هذا يدل على تقويته في الجملة، لا أنه مُختاره.

وقال ابن مالك في "شرح الكافية": (زعم بعض الكوفيين أنها للترتيب، وعلماء الكوفة بُرآءمن ذلك)

(1)

.

وبالجملة فقد استُدل لقول الترتيب بنحو قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} [الزلزلة: 1 - 2].

لكن لا دلالة في ذلك، غايته أنها استُعملت في الترتيب، وليس ذلك بلازم، كما استعملت في عكسه، نحو:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] والنذر قبل العذاب؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

ومن حجج الترتيب أيضًا ما في "البخاري" عن البراء قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أُقاتل وأُسلم؟ قال: أَسلم ثم قاتِل. فأَسلم ثم قاتَل، فقُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا"

(2)

.

و[يجاب]

(3)

عنه بأنه قال له ذلك خوفًا أن يختار من الأمر المحتمل المقاتلة قبل الإِسلام فيُقتل كافرًا، والمبادرة للإسلام واجبة، لا من حيث إفادة "الواو" الترتيب.

(1)

شرح الكافية الشافية (3/ 1206).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 2653).

(3)

في (ق): أجيب.

ص: 1126

ومنها حديث الخطيب: "قُل: ومَن يطع الله ورسوله"

(1)

.

ولا حُجة فيه؛ لأنه إنما نهاه لأن الأدب أن لا يجمع بين اسم الله وغيره في ضمير، كما في قوله:"وصدق الله ورسوله"، ولم يَقُل: وصَدَقَا.

وكذا لا حُجة لهم في الترتيب بنحو: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، حيث رتب العمل على الإيمان؛ لأن ذاك ليس من "الواو"، بل لكونه لا يصح بدونه، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112].

القول الثالث في "الواو": إنها للمعية، واستعمالها في غير ذلك مجاز. ويُنسب لبعض الحنفية.

نعم، أنكره ابن السمعاني وغيره.

ونسبه بعضهم لأبي يوسف ومحمد؛ أَخْذًا مِن قولهما فيما لو عقد لأختين على رجُل من غير إذنه: إن أجاز نكاحهما معًا، بطل فيهما، أو إحداهما ثم الأخرى، بطل في الثانية، فإن قال:"أجزت نكاح فلانة وفلانة" فهو كما لو أجاز نكاحهما معًا.

ومن قولهما في "إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق": يقع الثلاث. وعند أبي حنيفة واحدة.

ونُسب هذا القول أيضًا للشافعي في "القديم" ولمالك حيث قالا في غير المدخول بها: لو قال لها: "أنت طالق وطالق وطالق"، يقع الثلاث.

الرابع: إنها للترتيب حيث يستحيل الجمع، كقوله تعالى:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]. حكاه بعضهم عن الفراء، وقال المراغي: لم أره في كتابه، ولو صح عنه، رجع إلى

(1)

كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الحديث في (صحيح مسلم، 870): "قُل: ومَن يَعْصِ الله ورسوله".

ص: 1127

أنها للمعية إلا إذا تَعذَّر الجمع، فيتعين الترتيب؛ لاستحالة الجمع، لا لكونها دالة عليه.

الخامس: إنْ دخلت بين أجزاء بينها ارتباط، كانت للترتيب، كآية الوضوء، أو أفعال لا ارتباط بينها نحو:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فلا. وهو قول أبي موسى من الحنابلة، ورجحه بعض متأخِّريهم.

السادس: تقتضي الترتيب في المفردات دون الجمل. حكاه ابن الخباز عن شيخه.

وفيها أقوال أخرى ضعيفة أو راجعة إلى ما سبق.

تنبيهات

أحدها: قال ابن مالك في "التسهيل": (إن "الواو" تنفرد عن "الفاء" و"ثم" ونحوهما -مما يقتضي التشريك- بأنَّ متبعها في الحكم محتمل للمعية برجحان، وللتأخُّر بكثرة، وللتقدم بِقِلَّة)

(1)

.

وزعم بعضهم أن نَص سيبويه السابق يَرُد ما قاله، وفيه نظر، فإن سيبويه تكلم على أصل احتمالها، والشيخ تكلم على مَحال استعمالها.

الثاني: التعبير بِـ "مُطْلَق الجمع" قيل: إنه أصوب من التعبير بِـ"الجمع المطلق"؛ لأن مطلق الجمع أعم من الجمع الذي فيه قرينة ترتيب أو معية أو فور أو ضد ذلك.

والجمع المقيد بالإطلاق أخص؛ لأن الماهية بعدم القيد أعم من الماهية بقيد عدم شيء معها، ولذلك نظائر، كمطلق الماء والماء المطلق، ومطلق التصور والتصور المطلق.

لكن ذهب بعض المحققين أنه لا فرق؛ لأن مطلق الجمع إنما معناه المقيد بالإطلاق من

(1)

شرح التسهيل (3/ 347 - 348).

ص: 1128

المجموع؛ لأن الإضافة فيه على معنى "مِن" التبعيضية، فلا فرق بين أن تتأخر صفة الشيء أو تتقدم.

وممن جرى على عدم الفرق بينهما الشيخ تقي الدين السبكي.

الثالث: مما يتفرع من الفقه على الخلاف المذكور: "إنْ دخلتِ الدار وكلمتِ زيدًا فأنت طالق"، ففي التتمة وَجه لا يقع حتى تدخل أولًا، والصحيح لا فرق.

نعم، قالوا فيما لو قال لوكيله:"خذ مالي من زوجتي وطَلِّقها": لا بُدَّ من أخذ المال أولًا على أصح الوجهين كما نقله الرافعي عن البغوي، وكأن ذلك للاحتياط، لكن السرخسي

(1)

لما حكى الوجهين استدل على عدم الاشتراط بأنه لو قال: "طلقها وخذ مالي منها"، لا يشترط تقديم الأخذ.

ثم قال: وثانيهما يشترط؛ لأنه ذَكر أخْذ المال قبل الطلاق، أي: فجعل المدرك المتقدم والتأخر، ولو رُوعِي الاحتياط، لم يكن فرق بين أن يتقدم الأخذ في لفظِه أو يتأخر.

ومنها: قال لغير المدخول بها: "إنْ دخلتِ الدار فأنت طالق وطالق وطالق" أو قَدَّم قوله: "أنت طالق وطالق وطالق" على "إن فعلت"، يقع الثلاث في أصح الأَوْجُه.

وقيل: واحدة.

وقيل: إن قدم الشرط فواحدة، أو الجزاء فثلاث.

ولو أتى بِـ"ثم" أو "الفاء" لم يقع إلا واحدة، فربما يقال فيها: إنها للمعية. وهو قول الحنفية.

(1)

هو: أبو الفرج السرخسي الزاز، فقيه شافعي، ولد عام (432 هـ). (شذرات الذهب، 3/ 400).

ص: 1129

وقد يجاب بأن نسبة الكل عند وجود الصفة واحدة، فتعذر غير المعية، كما أخرجوا من محل الخلاف نحو:"اشترك زيد وعمرو"، و"تقاتل عبد الله وبكر".

الرابع: إنما أطلتُ الكلام على "الواو"؛ لأنها من المهمات، واقتصرتُ في النظم على ذِكر معنى العاطفة؛ لوضوح بقية أنواع "الواو" في الاستدلال، كـ"واو" المفعول معه، و"واو" القَسم، و"واو" الحال، و"وا و" رُب والزائدة، و"واو" الثمانية عند مثبتها.

بل وذُكر للعاطفة مَعَانٍ أُخَر ضُعِّف القول بها، أهملتها أيضًا، ككونها بمعنى "أو" وبمعنى "الباء" ونحو ذلك، وهو مبسوط في محله. والله أعلم.

ص: 1130