الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في بيان أحكام المهم من الأمور السابقة
وفيه فصول:
الأول: في "الأمر" و"النهي"
لَمَّا فرغت من تقسيم الألفاظ وكان من جملة الأقسام أمور مقصودة في هذا الفن يشتد تَعلُّق الاستدلال بها ولها أحكام كثيرة تفتقر إلى إفراد كل منها بترجمة تخصه يُذكر فيها أنواعه وأحكامه كالأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والظاهر والمؤَوَّل والمجمَل والمبيَّن، شرعتُ في ذِكرها على هذا الترتيب في فصول، الفصل الأول منها في بيان الأمر والنهي.
فأما "الأمر" فإنما بُدئ به لأنه إثبات، وهو أشرف من "النهي"، ولو لوحظ الزمان لَقُدِّم النهي؛ لأن العدم سابق على الوجود.
ولفظة "الأمر" تطلق على معانٍ:
منها: المعنى الاصطلاحي الذي هو مقصود الفصل على الخلاف الآتي فيه أول هل هو الصيغة الدالة على طلب إيجاد فِعل نحو: "اضرب"؟ أو نفس الطلب الذي تدل عليه الصيغة؟
ومنها: الفعل، فيقال:(زَيد في أمر عظيم)، أي: في فِعل مهم من سفر أو غيره. ومنه قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، أي: في الفعل الذي تعزم عليه، ونحوه قوله تعالى:{أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73]، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40].
ومنها: الشأن، كقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، أي: ما شأنه،
والمعنى الذي هو [متلبس]
(1)
به.
ومنها: الصفة، كقول الشاعر: لأمر ما يُسوَّد من يسود.
أي: لصفة من صفات الكمال.
ومنها: الشيء، كقولنا: تحرك هذا الجسم لأمر. أي: لشيء.
ومنها: الطريق، وقع ذلك في عبارة "المعتمد" لأبي الحسين، فقيل: إنه غير ما سبق. [لكنه]
(2)
قال في "شرح العمد": إن الطريق والشأن بمعنى واحد، فَيُكتفَى بأحدهما.
وربما ذكر أنه يطلق على القصة والمقصود وليس المراد غير ما ذكر، بل اختلاف في العبارة.
وبالجملة فإطلاقه بالمعنى الاصطلاحي حقيقة بلا خلاف.
واختلفوا في إطلاقه بالمعاني المذكورة على أقوال:
أحدها وهو قول الأكثرين: أنه مجاز وإلا لَزم الاشتراك، والمجاز خير منه.
وفرَّعوا على ذلك أن جمع "الأمر" بالأول "أوامر"، وجمعه ببقية المعاني "أمور". ومما يُعرف به المجاز -كما سبق- أن يخالف جمعُه جمعَ الحقيقة، ولكن هذا لا يُعْرف لأهل اللغة إلا للجوهري، وقد قال الأزهري في "التهذيب":("الأمر" ضد النهي، واحد "الأمور")
(3)
.
وقال ابن سِيده في "المحكم": (إن "الأمر" لا يكسر على غير "الأمور")
(4)
.
(1)
كذا في (ص). لكن في (ش): منكس. وفي سائر النُّسخ: مباشر.
(2)
كذا في (ص، ش). لكن في (ض، ق، ت): إليه.
(3)
تهذيب اللغة (15/ 207).
(4)
المحكم والمحيط الأعظم (10/ 298).
وأما أئمة النحو فلم يَقُل أحد منهم: إن "فَعْلًا" يجمع على "فواعل" مع ذِكرهم الصيَغ الشاذة ومع ذلك لم يذكروه منها.
وممن نبه على أن قول الجوهري في ذلك شاذ غير معروف عند أئمة العربية أبو الحسن الأبياري في "شرح البرهان"، ثم حكى عن بعضهم أن "أوامر" جمع "آمِر" بوزن فاعل، قال:(وفيه تَجوُّز؛ لأن الآمِر هو المتكلم، فإطلاقه على المصدر أو الصيغة مجَاز وإنْ كانت صيغة فاعل أو فاعلة تُجمع على فواعل، اسمًا كان كَفَواطم، أو صفة ككواتب)
(1)
. انتهى
وقد تُعُقِّب عليه بأن ابن جني في كتاب "التعاقب" ذكر ما يقتضي أن جمع "أمْر" و"نهي" على "أوامر" و"نواهٍ" شائع، وذكر له نظيرًا.
وأما جَعْل "أوامر" جمعًا لِـ "آمِر" بوزن فاعل وإنْ كان فيه تَجوُّز إلا أنه عُرف شائع؛ ولهذا يُقال في صِيَغ القرآن والسُّنة: إنها آمِرَةٌ بكذا وناهِية عن كذا.
وقال الأصفهاني في "شرح المحصول": (إن بعضهم قال: إن "أوامر" جمع الجمع، فجُمع أولًا جَمع قِلة على أَفْعُل، ثم جُمع أَفْعُل على أفاعِل، كما فُعِل في كلْب وأكلُب وأكالِب)
(2)
.
وضُعِّف بأن "أوامر" فواعل، لا أفاعل، فليس مثل أكالب.
ولكن في هذا نظر؛ فقد يُدَّعَى أنه أفاعل لا فواعل [وأيضًا فإنَّا]
(3)
إذا قُلنا: إنه جمع "آمِر"، فهو أفاعل، والهمزة التي هي فَاء "أَمْر" هي المبدلة واوًا في "أوامر"، فهو وزن أكالب سواء، لكن هذا وإنْ كان محتملًا فجعله على فواعل كَـ "ضوارب" أوضح.
القول الثاني: إنه مشترك بين القول -الذي هو الصيغة- وبين الفعل بالاشتراك
(1)
انظر: التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 581 - 582).
(2)
الكاشف عن المحصول (3/ 6).
(3)
كذا في (ش)، لكن في (ص): فإنا. وفي (ض، ظ، ت): وأيضًا وأمَّا. وفي (ق): أيضًا وأما.
اللفظي؛ لأنه أُطلق عليهما، والأصل في الإطلاق الحقيقة. نقله في "المحصول" عن بعض الفقهاء، وعزاه ابن برهان إلى كافة العلماء.
والثالث: إنه للقدر المشترك بينهما، من باب المتواطئ؛ دَفْعًا للاشتراك والمجاز.
وهذا القول لا يُعرف قائله، وإنما ذكره الآمدي في "الأحكام" على وجه الإلزام للخصم، أي إنه لو قيل بذلك فما المانع منه؟ ولهذا لَمَّا تعرض له ابن الحاجب قال في آخِر المسألة:(وأيضًا فإنه قول حادث هنا)
(1)
.
وبذلك يصح قول ابن الحاجب وغيره: إنَّ إطلاقه على القول المخصوص حقيقة اتفاقًا، فإن الذي يقول بالتواطؤ يجعله حقيقة باعتبار المعنى المشترك، لا أنه حقيقة في أحد مَحَليه.
الرابع: إنه مشترك بين الصيغة وبين الفعل وبين الشأن. ويُعزى لأبي الحسين البصري، كذا نُقل عنه، لكن عبارته في "المعتمد":(وأنَا أذهب إلى أن قول القائل "أمر" مشترك بين الصفة والشيء والطريق وبين جملة الشأن وبين القول المخصوص)
(2)
. انتهى
فلم يذكر "الفعل" أصلًا إلا أن يكون من حيث دخوله في الشأن.
وذكر "الطريق"، وسبق أنه في "شرح العمد" وَحَّد بينه وبين الشأن، والأمر في ذلك سهل.
والخامس: إنه مشترك بين الكل، فإذا أُطلق، احتمل كل واحد ما لم تكن قرينة للمراد منها. وحكاه ابن برهان عن كافة العلماء، وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أكثر أصحابنا.
ويمكن تخريج قول سادس: أنْ يكون للقدر المشترك بين الكل كما ذكر ابن الحاجب تبعًا
(1)
مختصر المنتهى (2/ 10) مع (بيان المختصر).
(2)
المعتمد (1/ 39).
للآمدي على وجه الإلزام في الصيغة والفعل كما سبق.
وقول سابع: حكاه صاحب "المصادر" من المعتزلة عن أبي القاسم البستي: أنه حقيقة في القول الذي هو الصيغة والشأن والطريق دُون آحاد الأفعال، وقال: إنه الأقرب؛ لأن مَن صَدر منه فِعل قليل غير مُعْتَد به -كتحريك أصابعه وأجفانه- لا يُقال: إنه مشغول بأمر، أو: هو في أمر.
قال: (والذي أداهم إلى البحث في هذه المسألة اختلافهم في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: هل هي على الوجوب؟ أم لا؟ ). انتهى
وكذا قال صاحب "المعتمد" لما اختار ما اختار: (إنَّ أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب" لأنها داخلة تحت قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 62])
(1)
.
وقال الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع": أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هل تُسمى أمرًا؟ فيه وجهان، أصحهما: لا.
وفرَّع صاحب "المحصول" على الخلاف في المسألة أيضًا لو قال: (إنْ أمرت فلانًا فعبدي حر) ثم أشار بما يُفهم منه مدلول الصيغة فإنه لا يحنث، ولو كان حقيقة في غير القول لزم العتق.
قال: (ولا يُعارَض هذا بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق؛ لأنَّا نمنع هذه المسألة)
(2)
. انتهى
قلتُ: لكن رجع كلامه إلى أن الدال على الأمر الذي هو الطلب هل هو مثل الصريح؟ أو لا؟ من غير تَعَرُّض لبقية المعاني، والله أعلم.
(1)
المعتمد (1/ 39).
(2)
المحصول (2/ 25).
ص:
522 -
"الْأَمْرُ": الِاقْتِضَا لِفِعْلٍ غَيْرِ كَفْ
…
مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ" أَمْرُ كَفْ
الشرح:
الكلام في الأمر في مقامين:
أحدهما: في لفظِه، وقد سبق.
والثاني: في معناه، وهو ما ذكرته في النظم من المختار في تعريفه، وذلك أن الأمر والنهي نوعان من الكلام، وفي كونه حقيقة في النفساني أو في اللساني أو مشتركًا أو في الحادث حقيقة في اللساني -مذاهب سبق بيانها، فالتعاريف مَبنية على ذلك.
فمِن المعَرِّفين مَن يلاحظ في تعريفهما النفساني فقط، ومنهم مَن يلاحظ اللفظي فقط، ومنهم مَن يلاحظهما معًا.
فالأول: طريقة القاضي وإمام الحرمين، قال القاضي في "مختصر التقريب": الأمر الحقيقي معناه قائم بالنفس
(1)
، والعبارات دالة على ذلك المعنى.
وسيأتي كلامه بتمامه لغرض آخَر، وعَرَّف هو وإمام الحرمين "الأمر" بأنه: القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به
(2)
.
فأخرجَا بقولهما: "بنفسه" الصِّيَغ الدالة على الاقتضاء؛ لأن دلالتها بواسطة الوضع.
وبيَّنا أن المراد بالقول النفسى، وأن التعريف للأمر النفساني، فإسقاط ابن الحاجب -في
(1)
انظر: التقريب والإرشاد (2/ 5).
(2)
التقريب والإرشاد (2/ 5)، البرهان في أصول الفقه (1/ 151)، التلخيص في أصول الفقه (1/ 242).
النقل عنهما- لفظَة "بنفسه" ليس بجيد.
ثم قال: ورُدَّ -أي: هذا التعريف- بأن المأمور مشتق منه، وأن الطاعةَ موافَقةُ الأمر؛ فيجيء الدَّوْرُ فيهما.
أي: لأن المشتق يتوقف معرفته على المشتق منه، فلو عُرّف به لَتَوَقَّف عليه، فيدور.
وكذا قوله: "طاعة المأمور" أُضيف إلى ما لا يُعْرف إلا بمعرفة الأمر، والمضاف لا يُعْرف إلا بمعرفة المضاف إليه؛ فيدور أيضًا.
وأجاب النقشواني بأن المراد بِـ"المأمور" و"المأمور به" المعنى اللغوي، وهو المخاطَب والمخاطَب به، وبِـ"الطاعة" مطلق الموافقة، فلا دَوْر.
ووجَّه نَفْي الدَّوْر بأمر آخَر، ونازعه الأصفهاني في "شرح المحصول" فيهما.
الثاني: هُم المعتزلة، لَمَّا أنكروا كلام النفس حَدُّوهما تارة باعتبار اللفظ، وتارة باقتران صفة الإرادة، وتارة جعلوه نفس صفة الإرادة.
فقال بعضهم في "الأمر": إنه قول القائل لمن دُونه: "افْعَل"، ونَحْوه.
وأشار بِـ"نَحْوه" إلى شمول سائر اللغات.
وأُورِدَ على ذلك ورُود صيغة "افعل" ونحوها من غير أن يكون طلبًا، بل لتهديد أو تعجيز أو تسخير أو غير ذلك، والمبلِّغ والحاكي لأمر غيْره.
وقال بعضهم: صيغة "افعل" بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر.
ورُدَّ بأنه تعريف "الأمر" بِـ "الأمر". وإنْ أُسْقِطَتْ، وَرَدَ ما سَبَق وغَيْرُه
(1)
.
وقال مَن اعتبر الاقتران بالإرادة: "الأمر" صيغة "افْعَل" بإرادات ثلاث: إرادة وجود
(1)
يعني: إنْ أُسقطت لفظة "بالأمر" مِن التعريف، وَرَدَ عليه ما سبق ذِكْره من اعتراضات.
اللفظ، وإرادة دلالتها على الأمر، وإرادة الامتثال.
واحترزوا بالأول عن نحو النائم، وبالثاني عن نحو التهديد، وبالثالث عن نحو المبلِّغ.
ورُدَّ بأنه كلام متهافت؛ لأن المراد بِـ"الأمر" في قوله: (دلالتها على الأمر) إنْ كان اللفظ، فَسدَ؛ لقوله:(وإرادة دلالتها على الأمر)، واللفظ غير مدلول عليه، فكأنه اشترط دلالة الشيء على نفسه.
وإنْ كان المعنى (أي: معنى الصيغة)، فسد؛ لقوله:(الأمر صيغة افعل)؛ لأن "الأمر" -على تقدير إرادة المعنى- يكون غير صيغة "افْعَل".
وقال مَن اعتبر منهم نفس الإرادة: إن الأمر إرادة الفعل.
ورُدَّ بأن السلطان لو أَنكر -مُتوعِّدًا بالإهلاك- ضَرْبَ سَيِّدٍ لِعَبْده، فادَّعَى السيدُ أنه يخالِفه فيما يأمره به، فأَمَره -لتمهيد عُذْره- عند الملِك، فإنَّ ذلك إنما يكون لمخالفته، فهو يأمره ويقصد مخالفته؛ فانْفَكَّ "الأمر" عن الإرادة.
ويمكن أن يجاب بأن الموجود هنا صيغة الأمر، لا نفس الأمر.
وأيضًا فَيَرِد مثل ذلك على الطلب؛ لأن العاقل كما لا يريد هلاك نفسه لا يطلب هلاك نفسه. كذا أورده الآمدي، وقال ابن الحاجب: إنه لازم
(1)
.
وقد يجاب عن الأخير أيضًا بأن الموجود صيغة الطلب، لا الطلب.
سلَّمْنَا، وقولكم:(العاقل لا يطلب هلاك نفسه) إنْ أريد به المقرون بالإرادة فمُسَلَّم ولا نُسَلم أنه موجود هنا، أو العاري عنها فممنوع.
قال ابن الحاجب تبعًا للآمدي: (والأوْلى -أَيْ في الرد عليهم في دعوَى أن الأمر
(1)
مختصر منتهى السؤل والأمل (1/ 651)، الناشر: دار ابن حزم، تحقيق: د. نذير حمادو.
الإرادة- أن يُقال: لو كان إرادة، لَوقعت المأمورات كلها، وأن معنى الإرادة تخصيص الفعل بحالة حدوثه، فإذا لم يوجد الفعل، لم يتخصص)
(1)
.
قيل: وإنما يَرِد هذا عليهم لو كانوا يفسرون "الإرادة" بما ذكر، ولكنهم يفسرونها يكون المزيد مُوجِدًا إنْ كان في فِعل نفسه، وإن كان في فِعل غيره بكونه آمِرًا به، ويفسرونها مرة بغير ذلك مما لا ينافي ما ذكروه.
والثالث: وهُم مَن يلاحظ شمول التعريف اللفظي والنفسي؛ لأن اللفظي هو المبحوث عنه في فن أصول الفقه وفي التفسير وعلم النحو والبيان ونحو ذلك، والنفسي إنما هو بحث المتكلمين كما سبق إيضاحه، وهي طريقة التحقيق.
وجرى عليها ابن الحاجب في "مختصره" بقوله: (حد "الأمر" اقتضاء فِعل غير كَف على جهة الاستعلاء)
(2)
.
فَجَعْل الأمر الاقتضاء، أَعَم أن يكون في حال كونه نفسانيًّا أو مدلولًا عليه بصيغة، خلافًا لمن زعم مِن الشُّراح أنه إنما عَرَّف الأمر النفساني؛ لأن العمل على الأعم محتمل مع أنه أكثر فائدة.
وكذا البيضاوي -تبعًا لإمامه- حيث قال: (إنه القول الطالب للفعل)
(3)
.
أي: سواء أكان ذلك القول نفسيًّا أو لفظيًّا، إلا أنه إذا كان لفظيًّا، كان نسبة الطلب إليه مجازًا؛ لأن الطالب إنما هو المتكلم، فإسناد الطلب لآلَة الطالب مجاز. وإذا كان نفسانيًّا فالإسناد حقيقة؛ لأن القول الطالب في النفس هو نفس الطلب القائم بالنفس.
(1)
مختصر المنتهى (2/ 14) مع (بيان المختصر).
(2)
مختصر المنتهى (2/ 10).
(3)
منهاج الوصول (ص 164) بتحقيقي.
نعم، على التعريفين اعتراضات كثيرة تظهر من شرح ما [اخترته]
(1)
في النظم في تعريفه، وهو: اقتضاء فِعل غَيْر كَفٍّ مدلول عليه بغير صيغة "كُفَّ" أو "لِتكفَّ" أو نحو ذلك.
فَـ"الاقتضاء" جنس، والمراد به الطلب، أَعَم أن يكون قائمًا بالنفس أو مدلولًا عليه بصيغة.
وخرج عنه نحو: التهديد والحكاية، لانتفاء الاقتضاء. ولا يقال:(خرج به)؛ لأن الجنس لا يخرج به؛ لأنه للإدخال، لا للإخراج.
نعم، حكى أبو [المحاسن]
(2)
المراغي في "غُنْية المسترشِد" عن الإِمام محمَّد بن يحيى أن: (تفسير أمر الله تعالى بالطلب محُال؛ لأن الطلب [مَيْل]
(3)
النَّفْس، وهو مُنَزَّه عنه، فيجب تفسيره بالإخبار عن الثواب والعقاب). انتهى
واعترض بعضهم على التعريف بالطلب بأن الطلب أَخْفَى من الأمر، فكيف يُعرف به؟ !
والجواب عن الأمرين بأن الطلب معنًى قائم بالنفس، لا ميلها أو نحوه مما يليق بالمخلوق.
والطلب بَدِيهِيُّ التصور؛ لأن كل أحد يفرق بينه وبين غيره، ويفرق بين طلب الفعل والترك، فليس تعريفًا بالأخفَى.
وبإضافة الاقتضاء للفعل يخرج الاستفهام، فإنه طلب إعلام وإخبار، لا إيجاد فعل.
(1)
في (ق): احترزت.
(2)
في (ق): الحسن.
(3)
كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ق، ت): فعل.
ولَمَّا كان الفعل شاملًا للكف كما سبق وطلب الكف يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون بصيغ النهي، مثل:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، و"لا تأكلوا مال اليتيم"، ونحو ذلك.
الثاني: أن يقع بصيغة الأمر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"كف عليك هذا"
(1)
. يعني: اللسان، وقوله تعالى:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3].
أخرجتُ
(2)
النهي بقولي: (غَيْر كَفْ)، لكن بقيد كونه مدلولًا عليه بغير نحو:"كُف"؛ لأنه إذا كان مدلولًا عليه بنحو "كُف"، كان أمرًا، فهو مخُرج من مخرج من الكف، والمخرج من المخرج عن شيء داخِلٌ في ذلك الشيء، فهو وارد على قول ابن الحاجب:"غير كف"، إذ مقتضاه أن كل ما كان مقتضيًا لكف لا يكون أمرًا، بل نهيًا؛ فَيَرِد عليه ما أُخْرِج من المُخرج.
وأما قوله: (على جهة الاستعلاء) فهو على اختياره في اشتراط الاستعلاء، ولكنه ضعيف كما سيأتي.
وأما عبارة البيضاوي فَيَرِد عليها النهي، فإنه طَلَب فِعل، وهو لم يُخْرِجه بشيء.
نعم، في كلام الإِمام الرازي ما يقتضي التقييد للطلب بكونه مانعًا من النقيض؛ ليخرج بذلك أمر الندب، لكن هذا على رأي ضعيف أن "المندوب" ليس مأمورًا به، والصحيح أنه مأمور به، وقد سبقت المسألة في الكلام على تقسيم الحكم في مقدمة الكتاب.
(1)
سنن ابن ماجه (رقم: 3973) بلفظ: (تَكُفُّ عَلَيْكَ هذا). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3224).
(2)
هذه مع ما قبلها هكذا: (لَمَّا كان الفعل شاملًا
…
أخرجتُ النهي بقولي
…
).
قال القاضي في "مختصر التقريب": (الأمر الحقيقي معنى قائم بالنفس، وحقيقته اقتضاء الطاعة).
قال: (ثم ذلك ينقسم إلى ندب ووجوب؛ لتحقق الاقتضاء فيهما، وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس كقول القائل: "افْعَل" فمتردد بين الدلالة على الوجوب والندب والإباحة والتهديد؛ فَيُتَوَقَّف فيها حتى يثبت بقيود القال أو قرائن الأحوال تخصيصها ببعض المقتضيات، فهذا ما نرتضيه من المذاهب)
(1)
. انتهى
واعْلَم أن بعض شُراح "البيضاوي" جعل التعريف للأمر اللفظي، لا للنفساني، وعاب عليه إطلاق "القول" مع شموله النفساني.
والأحسن حمل كلامه على الأعم كما قررناه؛ لأنه أكثر فائدة.
نعم، أُورِدَ عليه أنه كان ينبغي أن يقول:(الطالب للفعل بذاته)؛ [لتخرج الأخبار المستلزمة]
(2)
للطلب، نحو:"أوجبت عليك كذا"، و:"أنا طالِب منك كذا".
وقد صرح به البيضاوي في تقسيم الألفاظ، وهنا أوْلى بأن يُذكر.
فإنْ قيل: هذا وارد على مختارك أيضًا وعلى ابن الحاجب وغيره، بل وَيرِد كل طلب فعل بصيغة ترَجٍّ أو عرض أو تحضيض أو نحو ذلك مما سبق بيانه في تقسيم الكلام.
قلتُ: المراد هنا الأمر من حيث هو، سواء كان بصيغته الصريحة أو باللازم.
ثم يتبَيَّن بعد ذلك أن صيغته الصريحة الدالة بالذات هي "افْعَل" و"لِتَفْعَل".
بل ولو لم تَرِد صيغة بل كان النفساني فقط، كان أمرًا؛ لأنَّا قد قلنا: إن المراد الأعم.
(1)
التقريب والإرشاد (2/ 5 - 7).
(2)
في (ت، ق، ظ): ليخرج الإخبار المستلزم.
ولهذا لَمَّا فرغ ابن الحاجب من بيان التعريفات المختارة عنده والمزيف، قال:(إن القائلين بالنفسي اختلفوا في كون "الأمر" له صيغة تخصه).
ثم قال: (والخلاف عند المحققين في صيغة "افْعَل")
(1)
.
أي: وأما في دلالة صيغةٍ ما فَبِلَا خِلاف، لكن لا يكون بالوضع. وسنزيد ذلك بيانًا بَعْد.
فإنْ قيل: كيف تدَّعِي أن تعريفك شامل للنفسي واللفظي مع ذِكرك فيه ما يقتضي انطباقه على اللفظي فقط؟ وذلك قولك: (مدلولًا عليه بغير "كُف")، فاقتضَى أن كلامك فيما له صيغة.
قلتُ: المراد بـ"مدلول عليه" أنه لو أُريد الدلالة عليه لَكان بهذا، لا أن المراد أن يكون موجودًا فيه دلالة لفظ "كُف".
قولي: (مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ")، أي: ما لم يُستفَد بنحو "كف"، أي: مِثل: "أَمْسِك" و"دع" كما سبق، ومنه نحو:"لِتكُف" و"لِتمْسِك"، فإن صيغة الأمر الموضوعة له -كما صرح به ابن فارس وغيره- إما فِعل الأمر وإما المضارع المقرون بلام الأمر، نحو:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47].
نعم، اختلف النحاة أيهما الأصل؟
فالأكثرون أنه "افْعَل"؛ لإفادته المعنى بلا واسطة، و"لتفعل" إنما تفيده بواسطة اللام.
وقيل: الأصل "لتفعل"؛ لأن الأمر معنى، والأصل في المعاني أن يدل عليها بالحروف.
(1)
مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 651)، الناشر: دار ابن حزم.
حكى هذا الخلاف العكبري في "شرح الإيضاح"، وقد صرحت في تمثيل الأمر في البيت الثاني بالنوعين، وهو قولي:(كَـ "لِتَصُمْ" وَ"صَلِّ") وإن كان دخول لام الأمر على فعل المخاطب المبني للفاعل قليلًا.
ومنه قراءة عثمان وأُبَي وأنس: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} [يونس: 58] بالتاء من فوق، بل ذلك أَقَل من جزمها فعل المتكلم، نحو قوله تعالى:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"قوموا فلأُصَلِّ لكم"
(1)
. وسواء أكان النوعان في الأمر من فعل ثلاثي أو أكثر؛ فلذلك أتيت بكاف التشبيه في النَّظم.
وشمل التشبيه أيضًا أسماء الأفعال، نحو:"صَهْ" و"مَهْ"، كقوله صلى الله عليه وسلم:"مَهْ، عليكم من العمل ما تطيقون"
(2)
. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للحسن حين أخذ تمرة من الصدقة: "كخ كخ"
(3)
.
وفي معنى ذلك أيضًا المصدر القائم مقام الأمر، نحو:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، ولو حول من النصب إلى الرفع نحو:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
والله أعلم.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 373)، صحيح مسلم (رقم: 658) واللفظ للبخاري.
(2)
سنن النسائي (رقم: 5035)، وهو في: صحيح البخاري (رقم: 43) بلفظ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ)، صحيح مسلم (رقم: 785) بلفظ: (عَلَيْكُمْ من الْعَمَلِ ما تُطِيقُونَ).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 1420)، صحيح مسلم (رقم: 1069).
ص:
523 -
كَـ "لِتَصُمْ "وَ"صَلِّ"، وَ"النَّهْيُ": طَلَبْ
…
كَفٍّ بِغَيْرِ نَحْوِ "كُفَّ" يُجْتَنَبْ
الشرح:
قولي: (كَـ "لِتَصُمْ" وَ"صَلِّ") مثالان للأمر كما أوضحناه.
وقولي: ([وَ "النَّهْيُ"])
(1)
إلى آخِره -تعريف للنهي بعد بيان تعريف الأمر.
والنهي وزنه "فَعْل"، وجمعه "نواهي"، وفيه الإشكال السابق في "أمر"، وهو أن القياس في جمعه "أَفْعُل" لا "فواعل" سواء أكان صحيحًا أو معتلًّا بالواو أو بالياء، كَـ"أَكْلُب" جمع كلب، وأدل جمع دلو، وأظب جمع ظبي، وأصل هذين أدلو وأظبي، فقلبوا الضمة كسرة والواو ياء؛ فصار منقوصًا كقاضٍ وغازٍ.
ويجاب عنه بما سبق من كونه جمع "ناهية"؛ لأن الصيغة ناهية.
ولا يجاب هنا بما سبق في "أوامر" أنه جمع الجمع؛ لأن النون "فاء" الكلمة، فينبغي أن يقال: إنهم إنما قالوا: "أوامر" و"نواهٍ" للمجانسة، كما قالوا: غدايا وعشايا، فإن الغدوة لا تجمع على فعائل، بل لمجانسة عشايا قالوا: غدايا.
هذا ما يتعلق بلفظ النهي، وأما تعريفه فكل ما سبق في "الأمر" يأتي فيه سوى أنه متعلق بالترك لا بالفعل، وحينئذٍ فيكون الأحسن في تعريفه ما ذكرته في النظم وهو أنه: طلب كَف بغير نحو "كُف".
فالطلب: جنس، وبإضافته للكف المذكور خرج الأمر.
(1)
في (ق، ت): طلب.
والمراد بِـ "غير نحو كُف": أن يكون بصيغة "لا تفعل"، نحو:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام: 151]، {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، "لا يبع بعضكم على بيع بعض"
(1)
، وشبه ذلك.
أما إذا كان بصيغة نحو: "كُف" و"أَمْسِك" و"دع"، و"لِتكف" و"لتمسك" و"لتدع" وما أَشبه ذلك، فإنه أَمْرٌ كما سبق تقريره.
نعم، في كلام ابن فورك أنه يسمى نهيًا، فإنه قال:(صيغة النهي عندنا: "لا تفعل"، و"انته"، و"اكفف"، ونحوه). انتهى
فإنْ أراد أنه في معنى النهي في الجملة فواضح، وإنْ أراد حقيقةً فمخالف لكلام أهل العربية والأصول وغيرهم، وإذا جرينا على قول ابن فورك، لم نحتج في حد "الأمر" أن نقول:(مدلول عليه بغير "كُف")، ولا في حد النهي أن نقول:(بغير نحو "كُف"). والله أعلم.
ص:
524 -
كَـ "لَا تَبِعْ"، وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ
…
شَرْطًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَلَاءُ
الشرح:
وقولي: (كَـ "لَا تَبعْ") هو مثال للنهي، كقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تبع ما ليس عندك"
(2)
.
ونحو ذلك مما سبق من الأمثلة.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2043)، صحيح مسلم (رقم: 1412).
(2)
سبق تخريجه.
وقولي: (وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ) إلى آخِره -المراد به أنه لا يشترط في الأمر والنهي لا استعلاء ولا عُلُو على أرجح المذاهب، ونقله في "المحصول" عن أصحابنا.
والمراد بِـ "العُلُو" أن يكون الآمِر في نفسه عاليًا، أيْ أعلى درجة من المأمور، و"الاستعلاء" أنْ يجعل الآمِر نفسه عاليًا بكبرياء أو غير ذلك، سواء أكان في نفس الأمر كذلك أو لا، فالعلو من الصفات العارضة للآمِر، والاستعلاء من صفة صيغة الأمر وهيئة نُطقه مثلًا.
والمذهب الثاني: أنهما يعتبران في الأمر والنهي. وبه جزم ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب.
والثالث: يعتبر العلو، لا الاستعلاء. وهو قول المعتزلة، ووافقهم من أصحابنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وحكاه عن أصحابنا وابن السمعاني، واختاره القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي عبد الوهاب في "الملخص" ونقله عن أهل اللغة وسليم وأبو بكر الرازيان وابن عقيل الحنبلي وأبو الفضل بن عبدان من أصحابنا في "شرائط الأحكام".
قالوا: فإنْ كان مساويًا فهو التماس، أو دُونه فسؤال.
الرابع: يعتبر الاستعلاء، دون العلو. وهو قول أبي الحسين من المعتزلة، وصححه الإمام والآمدي وابن الحاجب وابن برهان في "الأوسط".
ويفسد كلاًّ من القولين -العلو والاستعلاء كما قاله البيضاوي- قولُه تعالى حكايةً عن قول فرعون لقومه في مجلس المشاورة: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35]، ومعلوم انتفاء العلو؛ لأن فرعون أعلَى رتبة منهم، وانتفاء الاستعلاء؛ لأنهم لا يستعلون عليه.
ولكن فيه نظر؛ لأنه ليس الأمر في الآية بمعنى القول المخصوص، وإنما المراد: ماذا تشيرون به عَلَيَّ؟
ومثله قول عمرو بن العاص في مشاورته في رجل من بني هاشم خرج في العراق على معاوية فأمسكه، فأشار عمرو بقتله، فخالفه معاوية، لشدة حلمه وعفا عنه، فخرج عليه ثانيًا، فقال:
أمرتُك أمرًا جازمًا فعصيتني
…
وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
ومثل ذلك من المحتمل للتأويل كثير، عَلى أن البيضاوي -في تقسيم الألفاظ- اعتبر في الأمر العلو، إلا أن يقال: ذاك بحسب الاصطلاح، وهذا بحسب اللغة.
نعم، أصرح منه في إفساد قول العلو قوله تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] مع أن الشيطان أَدْوَن، وفي إفساد الاستعلاء ورود آيات في الكتاب العزيز فيها الأمر مع اقتران غاية التلطف ونهاية الاستجلاب بتذكيرهم النعم، كقوله تعالى:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]، وقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إلى غير ذلك.
قولي: (الْعَلَاءُ) عبَّرتُ به دون لفظ "العلو"؛ لأن المراد: الشرف، ويقال فيه:"عَلِيَ" بالكسر "يَعْلَى" بالفتح "علاء"، وفي المكان "عَلَا" -بالفتح- يعلو علوًّا، ولأن العلو قد يستعمل في الاستعلاء. قال الجوهري:(وعلا في الأرض: تكبَّر علوًّا)
(1)
.
هذا مع ملائمة لفظ "العلاء"[للنَّظم]
(2)
كما ترى، والله أعلم.
(1)
الصحاح (6/ 2435).
(2)
كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ق، ت): للمتكلم.
ص:
525 -
فَصِيغَتَا الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ
…
حَقِيقَةً، كَـ "صَلِّ" لِلْمَكْتُوبِ
526 -
وَلسِوَى هَذَا مَجَازًا يَرِدُ
…
كَالنَّدْبِ في {فَكَاتِبُوهُمْ} يُوجَد
الشرح:
المراد بصيغتي الأمر نحو: "افعل" ونحو: "ليفعل" كما سبق، فهُما للوجوب حقيقة، واستعمالهما في غير الوجوب مجاز على الصحيح من المذاهب الآتي بيانها بعد ذكر صُوَر غير الوجوب وغالبها في "افعل"؛ لأنها الأكثر في الاستعمال؛ فلهذا يقتصرون في الأمثلة على ذلك.
فمثال ورودها للوجوب نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] إذا كان المراد به المكتوبات الخمس "صلوا كما رأيتموني أصلي"
(1)
، بخلاف نحو:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادْع لهم.
ومن الوجوب أيضًا: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، {وَلْيَتَّقِ
(2)
اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 282]. وهذا أحد ما تَرِد له صيغة الأمر. وقد ذكر البيضاوي منه نحو الستة عشر موضعًا، وزِيد عليه كثير كما في النَّظْم.
الثاني: ورودها للندب، كقوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فإن ذلك للندب على أصح قولَي الشافعي، وبمقابِلِه قال داود وجَمْعٌ.
وقرينة صرفه عن الوجوب -على الأول- إما لكونه علق على رأي السادات، أو لكونه
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في جميع النسخ: فليتق.
أمرًا بعد حظر، وسيأتي -إن شاء الله- أنه قرينة الإباحة، إما لأن بيع ملكه بملكه فاسد حرام أو غير ذلك كما بُين في محله. والله أعلم.
ص:
527 -
وَكَالْإباحَةِ الَّتِي مِثْلُ {كُلُوا
…
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} تَلُوا
الشرح:
الثالث: ورود الصيغة للإباحة، وقد مَثَّله بعضهم بقوله تعالى لأهل الجنة:{كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الطور: 19]، فقال الجبائي: هو إباحة ولا يريده القديم تعالى ولا يَكرهه.
وقال أبو هاشم: يجوز أن يريده؛ لِمَا فيه من زيادة السرور للمُثاب.
وقال القاضي عبد الجبار: يجب أن يريده؛ لأن الثواب لا يصح إلا بها.
ومرادهم بإرادته [تَحَتُّم]
(1)
وقوعه على قواعدهم في الاعتزال، والحقُّ خِلاف ذلك.
ولا يصح التمثيل للإباحة بذلك؛ لأن الإباحة من الأحكام التكليفية كما سبق بيانه، وهي مرفوعة في الآخِرة؛ لأنها دار الجزاء.
ومَثَّل بعضهم بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].
وضُعِّف بأن إحياء النفس بذلك واجب.
فالأَوْلى أن يمثَّل بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51].
وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أمرًا، فقال: "إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَاأَيُّهَا
(1)
في (ق، ظ، ت): تحتيم.
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172"]
(1)
.
وقد مثلتُ في النُّظم بهذه، وزدت قولي:(تَلُوا) تفسيرًا، أي: حال كونكم تلوه، أي: لكم عليه ولاية تقتضي حل أكله، إذ لا إباحة إلا في الرزق الحلال.
وإنْ كان الرزق يُطلق على الحرام خلافًا للمعتزلة، إلا أنَّ المقام هنا إنما هو في الرزق الحلال.
واعلم أن الإباحة إنما تستفاد من الخارج؛ فلهذه القرينة يحمل الأمرُ عليها مجازًا بعلاقة المشابهة المعنوية؛ لأنَّ كلاًّ منهما مأذون فيه، فمَن أنكر من المتأخرين ذلك وقال:(إنه لم يثبت عندي لغةً كون "افْعَل" للإباحة)، ضَعْفُ إنكاره ظاهر.
نعم، التمثيل إنما يستقيم إذا قلنا:(الأصل في الأشياء الحظر)، أما إن قلنا:(الإباحة)، فلا تستند الإباحة للصيغة، بل للأصل، والله أعلم.
ص:
528 -
وَفي {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} التَّهَدُّدُ
…
وَهَكَذَا الْإرْشَادُ في {وَاسْتَشْهِدُوا}
الشرح:
الرابع: التهديد، وعبَّرت عنه بالتهدد؛ لأنه مطاوع هدد تهديدًا، فلمَّا استلزمه عبرت عنه به؛ لأجل النظم.
مثاله قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].
وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] الآية.
(1)
صحيح مسلم (رقم: 1015).
الخامس: الإرشاد، كقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وهو معنى قولي: (في {وَاسْتَشْهِدُوا})، أي: الكائن في هذه الآية.
ومِثله قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، ونحو:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
والضابط فيه: أن يرجع لمصلحة في الدنيا، بخلاف الندب، فإنه لمصالح الآخرة. كذا فرق بينهما القفال الشاشي وغيره، قالوا: والأول لا ثواب فيه، والثاني فيه الثواب.
نعم، قد يكون الأمر له جهتان مرادتان كما قرره الشافعي في "الأُم" في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وسماه الشافعي في "أحكام القرآن""الرشد"، ومَثَّله بقوله صلى الله عليه وسلم:"سافروا تَصِحُّوا"
(1)
، وأشار إلى الفرق بينه وبين الطلب بالإيجاب، فقال: وفي كل حَتْمٍ من الله عز وجل رشد، فيجتمع الحتم والرشد.
وسماه الصيرفي "الحظ". والله أعلم.
ص:
529 -
وَالْإذْنُ في "اصْطَادُوا" لَدَى التَّحَلُّلِ
…
كَذَلِكَ التَّأْدِيبُ "كُلْ مِمَّا يَلي"
الشرح:
السادس: الإذن، كقولك لمن طرق الباب:(ادْخل).
(1)
مسند الإِمام أحمد (رقم: 8932)، السنن الكبرى للبيهقي (13366). قال الألباني:(يرتقي إلى رتبة الصحيح). (السلسلة الصحيحة: 3352).
ومنهم من يُدخِل هذا في قسم الإباحة، وقد يقال: الإباحة إنما تكون من صِيَغ الشرع الذي له الإباحة والتحريم، وإنما الإذن [مُعْلِم]
(1)
بأن الشرع أباح دخول ملك ذلك الآذِن مثلًا، فتغايَرا.
ومنهم مَن يمثله بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، أيْ إذا قُلنا بأن الأمر بعد الحظر للإباحة، فيكون المعنى أنَّ هذا الإذن يَرُد ذلك الفعل إلى ما كان عليه قبل التحريم.
وستأتي المسألة مبسوطة، وإلى هذا [المثال]
(2)
أشرتُ بقولي: (لَدَى التَّحَلُّلِ). أي: للآية الدالة على ذلك.
السابع: التأديب، كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة المخزومي:"سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك"
(3)
. أخرجاه في "الصحيحين" من حديث عمر المذكور. وفي "المستصفي" و"المحصول" أنه صلى الله عليه وسلم قاله لابن عباس، ولا يُعْرَف.
نعم، في "الترمذي" و"الطبراني" وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعكراش في حديث طويل:"كُل من موضع واحد؛ فإنه طعام واحد"
(4)
.
(1)
كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: يعلم.
(2)
كذا في (ص، ش)، وفي سائر النسخ: الثاني.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 5061)، صحيح مسلم (رقم: 2022).
(4)
سنن الترمذي (رقم: 1848)، المعجم الكبير للطبراني (18/ 82). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 1848).
تنبيهان
الأول: منهم مَن يُدخل التأديب في قسم الندب. وفي "المنهاج" للبيضاوي في الندب: (ومنه: "كُل مما يليك")
(1)
. أي: فإنَّ الأدب مندوب إليه.
ونقل في "المحصول" عن بعضهم أنه جعله قِسمًا آخر، فقال في الندب:(ويقرب منه)
(2)
.
وذلك أيضًا يدل على المغايرة، لكن المغايرة إما لكونه أَخَص، وإما لغير ذلك.
قلتُ: والظاهر أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه؛ لأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق، أَعَم أن يكون لمكلَّف أو غيره؛ لأن عُمَر كان صغيرًا؛ ولهذا في بعض الروايات:"يا غلام، سَمِّ الله" إلى آخِره، والندب مختص بالمكلَّفين، وأَعَم أن يكون في محاسن الأخلاق وغيرها.
نعم، نَص الشافعي -في "الأُم" في باب "صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم " بعد باب من أبواب الصوم- على تحريم الأكل من غير ما يليه، فَيشْكل التمثيل به [للأدب]
(3)
أو للندب، فقال:(فإنْ أكلَ مما لا يليه أو من رأس الطعام أو عرس على قارعة الطريق -أيْ نزل ليلًا- أَثِمَ بالفعل الذي فعله إذا كان عالِمًا بما نهى النبي صلى الله عليه وسلم)
(4)
. انتهى
ونَص في "البويطي" و"الرسالة" على نحو ذلك، وكذا نقله الضمير في في "شرح الرسالة".
(1)
منهاج الوصول (ص 165) بتحقيقي.
(2)
المحصول (2/ 39).
(3)
في هامش (ص): للتأديب.
(4)
الأم (7/ 292).
وهذه إحدى المسائل الخمس الغرائب التي أفردها الشيخ تقي الدين السبكي بكتابه المسمَّى بِـ"كشف اللبس عن المسائل الخمس".
فالتحريم:
- إما لأن الشافعي رضي الله عنه أخذه من كون الأصل في الأمر من قوله: "كل مما يليك" للوجوب، وتَرْك الواجب حرام؛ لأن الخطاب وإنْ كان لعمر بن أبي سلمة وهو صغير إلا أن المراد به عموم الأُمة، ولا يضر ذلك، فإنَّا ولو قُلنا بالندب فقد خاطب به مَن لا وجوب عليه ولا ندب. وقد سبق أنَّ أَمْر الصبي بالصلاة لسبع ونحو ذلك من خطاب الوضع، لا لوجوب ولا لندب، ولو قُلنا: الأمر بالأمر بالشيء أَمْرٌ به.
على أنه قد خاطب صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى غير الصبي، وهو عكراش كما ذكرناه.
- وإما لِأَخْذ الشافعي ذلك من دليل آخَر.
الثاني:
منهم مَن عَبَّر عن هذا النوع بِـ "الأدب" على معنى طلب الأدب، فهو بمعنى التأديب، ويمثلهما بقوله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، قال: وليس في القرآن غيره.
ومَثَّله ابن القطان بالنهي عن التعريس على قارعة الطريق، والأكل من وسط القصعة، وأن يقرن بين التمرتين.
والمدار فيه على ما سبق مِن إصلاح الأخلاق، والله أعلم.
ص:
530 -
وَمِثْلُهُ الْإنْذَارُ {قُلْ تَمَتَّعُوا}
…
وَالِامْتِنَانُ في {كُلُوا} لَنْ [تُمْنَعُوا]
(1)
الشرح:
الثامن: الإنذار، كقوله تعالى:{قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30].
وقد جعله قوم قِسمًا مِن التهديد، وهو ظاهر قول البيضاوي:(ومنه {قُلْ تَمَتَّعُوا}).
وعبارة "المحصول": (ويَقْرُب منه الإنذار)
(2)
.
والقصد بذلك بيان أنهما ليسا متغايرين كما زعم بعضهم، لكنه أصوب؛ فإن الفرق بينهما ظاهر، إذِ التهديد هو التخويف، والإنذار إبلاغ المخوف كما هو تفسير الجوهري لهما.
وفرَّق الهندي
(3)
بينهما بأنَّ الإنذار يجب أن يكون مقرونًا بالوعيد كما في الآية المذكورة، والتهديد لا يجب فيه ذلك، بل قد يكون مقرونًا وقد لا يكون.
وفرَّق آخَرون بأنَّ التهديد عُرْفًا أَبْلَغ في الوعيد والغضب من الإنذار.
وقيل في الفرق أيضًا: إنَّ المهدد عليه يكون ظاهره التحريم والبطلان أو يكون مكروهًا؛ ولهذا كانت العلاقة بينه وبين الوجوب التضاد، وأما الإنذار فقد يكون كذلك وقد لا يكون.
وفيه نظر؛ فإنه إذا كان مقرونًا بالتخويف فكيف لا يكون حرامًا؟ ! بل يكون كبيرة على
(1)
في (ق، ش، ن 1): يمنعوا.
(2)
المحصول في أصول الفقه (2/ 40).
(3)
انظر: نهاية الوصول (3/ 848).
رأْي مَن ضبطها بالتوعُّد عليها كما سبق.
وقد يمثَّل بقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] مع كونها ليس فيها لفظ الأمر بالإبلاغ، بل معناه.
التاسع: الامتنان، وسمَّاه إمام الحرمين "الإنعام"، كقوله تعالى:{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142].
والفرق بينه وبين الإباحة أنها مجرد إذن، والامتنان لا بُدَّ فيه من اقتران حاجة الخلق لذلك وعدم قدرتهم عليه ونحو ذلك، كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه.
والعلاقة بين الامتنان والوجوب: المشابهة في الإذن؛ إذِ الممنون لا يكون إلا مأذونًا فيه. وقيل في الفرق بينه وبين الإباحة أيضًا: إنها يسبقها حَظْر، بخلافه.
والله أعلم.
ص:
531 -
و {كُنْ} لِتكْوِينٍ، وَلِلْإكْرَامِ
…
نَحْوُ {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} نَامِي
الشرح:
العاشر: التكوين، نحو:"كُنْ" في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وهو تفعيل مِن "كان" بمعنى: وُجِد. فتكوين الشيء إيجادُه مِن العَدَم، والله تعالى هو المُوجِد لكل شيء وخالقه.
وسمَّاه الغزالي والآمدي: "كمال القدرة". وسماه القفال والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين: "التسخير".
الحادى عشر: الإكرام، نحو:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، فإن قرينة {بِسَلَامٍ آمِنِينَ} تدل عليه.
قال صاحب "التنقيحات": ولا وَجْه لحمله على الوجوب كما زعم بعض المعتزلة؛ فإن الآخِرة ليست دار تكليف. أي: فإنما هو غاية في إكرام أهل الجنة؛ بسلامتهم من جميع آفات الآخرة.
وهذا معنى قولي: (بِسَلَامٍ نَامِي)، أي: زائد، بالغ إلى الغاية. والله أعلم.
ص:
532 -
كَذَلِكَ التَّسْخِيرُ "كُونُوا قِرَدَهْ"
…
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ} لِعَجْزٍ أَوْرَدَهْ
الشرح:
الثاني عشر: التسخير، كقوله تعالى:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، والمراد به: السخرياء بالمخاطَب به، لا بمعنى التكوين كما سمَّاه [به]
(1)
القفال وغيرُه كما سبق.
والفرق بينه وبين التكوين أن التكوين: سرعة الوجود عن العدم، وليس فيه انتقال إلى حالة مُمْتَهَنَة، بخلاف التسخير، فإنه لُغةً: الذِّلة والامتهان في العمل، ومنه قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13]، أي: ذَلَّلَه؛ لنَرْكَبه. ونقول: فلان سُخْرة السلطان.
وبالجملة فالعلاقة فيه وفي التكوين المشابهة المعنوية وهو التحتم في وقوع ذلك.
وقد يقال: العلاقة هي الطلب وإنِ اختلفت جهته.
(1)
كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: ابن.
الثالث عشر: التعجيز، كقوله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. والعلاقة بينه وبين الوجوب المضادة؛ لأن التعجيز إنما هو في الممتنعات، والإيجاب في الممكنات.
ومثله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]. ومَثَّله الصيرفي والقفال بقوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: 50]، قال: ومعلوم أن المخاطَبين ليس في قدرتهم قَلْب الأعيان؛ فَيُعْلَم أن ذلك تعجيز لهم.
والفرق بين هذا وبين التسخير أن التسخير نوع من التكوين، فمعنى {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65]: انقلبوا إليها. وأمَّا التعجيز فإلزامهم أن ينقلبوا، وهُم لا يقدرون أن ينقلبوا حجارة أو حديدًا.
نعم، قال ابن عطية في "تفسيره":(في التمثيل بهذا نظر. وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فِعْلَ ما لا يَقْدر عليه المخاطَب، نحو: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168]، وأمَّا هذه الآية فمعناها: كونوا بِالتوهُّم والتقدير كذا وكذا)
(1)
.
وهو معنى قولي: (لِعَجْزٍ أَوْرَدَهْ)، أي: أورده لعجز المخاطَب عن ذلك، فهو معنى التعجيز، والله أعلم.
ص:
533 -
ولإهَانَةٍ كـ {ذُقْ} ، وَالتَّسْوِيهْ
…
مِثْلُ {اصْبِرُوا أَوْ لَا
(2)
} كُمْ ذي التَّصْلِيَهْ
الشرح:
الرابع عشر: الإهانة للمخاطَب بصيغة "افعل"، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
(1)
المحرر الوجيز (3/ 462).
(2)
[لا] ثابتة في (ص، ت، ن) وبه ينضبط الوزن، وليست في (ش، ق، ت، ظ، ض).
الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]. ومنهم مَن يسميه "التهكم". وضابِطُه أن يؤتى بلفظ ظاهره الخير أو الكرامة والمراد ضده.
ويمثَّل أيضًا بقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] الآية، والعلاقة هنا أيضًا المضادة.
الخامس عشر: التسوية، كقوله تعالى:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]، بعد قوله:{اصْلَوْهَا} ، أي: هذه التصلية لكم سواء صبرتم أو لا، فالحالتان سواء.
والعلاقة المضادة؛ لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة لوجوب الفعل.
ومنه حديث أبي هريرة في "البخاري" لَمَّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف العنت، ولا أجد ما أتزوج به من النساء" ثلاث مرات وهو يسكت عنه، ثم قال له:"يا أبا هريرة، جرى القلم بما أنت لاقٍ، فاختص على ذلك أو ذر"
(1)
. والله أعلم.
ص:
534 -
وَكَالدُّعَا في {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}
…
كَذَا التَمَنِّي في "أَلا انْجَلي لنَا"
الشرح:
السادس عشر: الدعاء، نحو:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] الآية، و [كأنه]
(2)
طلب أن يعطيهم ذلك على وجه التفضل والإحسان، والعلاقة بينه وبين الإيجاب طلب أن يقع ذلك لا محالة.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 4788) بلفظ: (جَفَّ الْقَلَمُ بِما أنت لَاقٍ، فَاخْتَص على ذلك أو ذَرْ).
(2)
كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: كله.
السابع عشر: التمني، كقول امْرئ القيس:(ألا أيها الليل الطويل ألا انْجَلي).
وإنما حُمل على التمني دون الترجي؛ لأنه أَبلَغ، لأنه نَزَّلَ ليلَه -لِطولِه- منزلة المستحيل انجلاؤه، كما قال آخَر:(وليل المحب بلا آخِر).
والأحسن تمثيل هذا كما مثَّله ابن فارس بقولك لشخص تراه: (كن فلانًا)؛ لأن بيت امرئ القيس قد يُدَّعَى استفادة التمني فيه من "ألَا"، لَا من صيغة "افْعَل"، بخلاف هذا المثال.
وقد يقال: إنَّ "ألَا" قرينة إرادة التمني بِـ "افْعَل"، وأما:"كن فلانًا" فليس تَمَنيًا أن يكون إياه، بل الجزم به وأنه ينبغي أن يكون كذلك، والله أعلم.
ص:
535 -
وَخَبَرٌ نَحْوُ "إذَا لَمْ تَسْتَحِيْ
…
فَاصْنَعْ لِمَا شِئْتَ"، فَفَازَ الْمُسْتَحِي
الشرح:
أي: وكذا الخبر يراد بصيغة "افعل" و"لِتفعل"، وهو الثامن عشر مِن معانيهما، نحو:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} [التوبة: 82]، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]. ومنه على رأْيٍ: "فليتبوأ مقعده من النار"
(1)
. أي: فهو مُتَبَوِّء ذلك. وقيل: المراد: لِيَتَخَيَّر أيّ المواضع من النار شاء، فإنَّ دخوله لها لا بُدَّ منه.
ومن ذلك أيضًا حديث أبي مسعود في "البخاري" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأُولى: إذا لم تَسْتَحِي، فاصنع ما شئت"
(2)
. أي: مَن لا يَسْتَحْيِي فهو يصنع
(1)
صحيح البخاري (رقم: 110)، صحيح مسلم (رقم: 3).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 3296).
ما يشاء، أخبر عنه الشارع بذلك.
وقيل: المعنى: إذا لم تَسْتَحِي من شيء لِكونه جائزا فاصنعه؛ إذِ الحرام يُستَحْيَا منه، بخلاف الجائز.
وقال ابن عبد السلام: هو إما تَهكُّم أو معناه: اعْرِضْه على نفسِك، فإنِ استحييت منه لو اطُّلع عليه فلا تفعله، وإنْ لم تستحي فاصنع ما شئت من هذا الجنس.
وجَوَّز غيره أن يكون معناه الوعيد، أي: افعل ما شئت، فأنت تُجازَى به. فيكون كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].
وقيل: المراد: لا يمنعك الحياء من فعل الجائز.
وقيل: إنه على طريقة المبالغة في الذم، أي: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، فتركك الحياء أعظم مما تفعله؛ لأن السياق في مدح الحياء، فقد قَدَّم أنه من النبوة الأُولى، أي: إنه أمر ثابت منذ زمان النبوة، فما مِن نبي إلا وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه، ولم يُنسخ فيما نُسخ من شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل؛ لأنه معلوم صفاته وفضله.
وقولي: ("إذَا لَمْ تَسْتَحِيْ) إما أن أصله "تستحيي" بكسر الياء؛ لأن أصل الفعل "تستحيي" بيائين، فحذفت الثانية؛ للجازم، فسكنت الياء الثانية؛ للضرورة؛ لأن "اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي" هو الأفصح الأشهر.
وإما أنه جاء على اللغة الأخرى، وهي "استحَى يستحِي" بياء واحدة، فهو مُستحٍ، مثل: استقَى يستقِي فهو مستقٍ.
وقُرئ بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، ويُروى عن ابن كثير، وهذه الياء تحذف؛ للجازم.
وإنما أُشبِعَت في النظم للضرورة.
وقولي: (فَفَازَ الْمُسْتَحِي) أي: سَلمَ مِن الذم، وهو اسم فاعل من "استحَى" كما سبق وهو ظاهر، أو من "استحْيَى"، وأصْله "المستحْيِي" ولكن حُذفت الياء الثانية وسُكنت الأُولي؛ للضرورة.
تنبيه:
كما جاءت صيغة الأمر بمعنى الخبر جاء عكسه وهو الخبر بمعنى الأمر، نحو:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233].
وكذا يجيء بمعنى النهي، كما في حديث ابن ماجه بسند جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُزَوِّجُ المرأة المرأة، ولا تزوجُ المرأة نفسها"
(1)
بالرفع، إذْ لو كان نهيًا لَجُزِم، فيُكسر؛ لالتقاء الساكنين.
قالوا: وهو أَبْلَغ من صريح الأمر والنهي؛ لأن المتكلم -لشدة تَأَكُّد طلبه- نَزَّل المطلوب منزلة الواقع لا محالة.
ومن هنا تعرف العلاقة في إطلاق الخبر بمعنى الأمر والنهي.
وحركَ ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" هنا بحثًا لطيفًا، وهو أن صيغة الخبر بمعنى الأمر والنهي هل يجري فيهما الخلاف في كونهما حقيقة في الوجوب والتحريم ويترتب عليهما أحكام ذلك؟ أو لا؟ ولم يرجِّح شيئًا.
ووقع النزاع في ذلك بين ابن تيمية، فقال:(إنه يجري كذلك)، وبين ابن الزملكاني، فقال:(لا يجري فيه شيء من ذلك، إنما ذلك في الصيغة الأصلية). قال: فدعوَى خِلاف
(1)
سنن ابن ماجة (رقم: 1882)، سنن الدارقطني (3/ 227)، سنن البيهقي الكبرى (13410). قال الألباني:(صحيح دُون جملة الزانية). صحيح سنن ابن ماجه (1539).
ذلك مكابَرة.
قال: ويغلط في ذلك كثير من الفقهاء، ويغترون بإطلاق الأصوليين، فيُدخلون فيه كل ما أفاد أمرًا أو نهيًا وإنْ لم يكن فيه الأمر أو النهي من المحقق.
وأيَّد بعضهم القول الأول بقول القفال: ومن الدليل على أن ذلك معناه [وأنَّ ذلك كُله مِن]
(1)
الامر والنهي: دخول النّسخ فيه؛ إذِ الأخبار المحضة لا يدخلها النسخ، ولأنه لو كان خبرا، لَمْ يوجد خِلافُه.
قال: ومن هذا عند أصحابنا قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79].
واستند بعضهم في ذلك لقول البيانيين وغيرهم: إن ذلك أَبْلَغ من صريح الأمر والنهي، فينبغي أن يكون للوجوب قطعًا.
والجواب عن الأول: بأن عبارة القفال [تُشعِرُ]
(2)
بأن كلامه في أنه: هل هو خبر؟ أو لا؟ لا أنه يُعْطَى حُكم الأمر والنهي في سائر أحوالهما.
وعن الثاني: بأن الأبلغية في كل شيء بحسبه، فلمَّا احتمل أن يكون:
- للوجوب، كان ذلك أَبلغ في مراتبه.
- أو الندب، كان ذلك أَبلغ في مراتبه.
- أو الإباحة، فكذلك.
فَحَقِّق ذلك؟ فإنه دقيق، والله أعلم.
(1)
كذا في (ت، ق)، وليس في (ص)، لكن في سائر النُّسخ: وأن ذلك كله.
(2)
كذا في (ص)، لكن في سائر النُّسخ: مشعرة.
ص:
536 -
كَذَلِكَ التَّفْوِيضُ {فَاقْضِ} تَجْتَبِي
…
{كُونُوا حِجَارَةً} مِنَ التَّعَجّب
الشرح:
التاسع عشر: ورود لفظ الأمر للتفويض، مثل قوله تعالى:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]. ذكره إمام الحرمين في "البرهان"، ويسمى أيضًا "التحكيم"، وسمَّاه ابن فارس والعبادي "التسليم"، وسمَّاه محمد بن نصر المروزي "الاستبسال"، قال: أَعْلَموه أنهم قد استعدوا له بالصبر، وأنهم غير تاركين لدينهم، وأنهم يستقلون بما هو فاعل فى جنب ما يتوقعونه من ثواب الله تعالى.
قال: ومنه قول نوح عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]، أخبرهم بهوانهم عليه.
العشرون: التعجب، نقله العبادي في "الطبقات" عن أبي إسحاق الفارسي، ومَثَّله بقوله تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الإسراء: 48].
ومثَّله الصفي الهندي بما ذكرته في النَّظم، وهو قوله تعالى:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: 50]، لكن سبق أن الصيرفي والقفال مثَّلَا به للتعجيز، وأن ابن عطية قال: فيه نظر.
وهو الظاهر؛ فإن التمثيل به [للتعجب]
(1)
أوضح؛ لأن المراد به التعجيب، وربما عبر به بعضهم.
والمعنى أن المخاطَب يحصل له التعجب من مِثل ذلك، وانقلابهم حجارة أو حديدًا مما
(1)
(في (ت، ق، ظ): للتعجيب.
يُتعجَّب منه، والله أعلم.
ص:
537 -
كَذَاكَ في مَشُورةٍ، نَحْوُ: "انْظُرِ
…
مَاذَا تَرَى"، وَفي اعْتِبَارٍ مُذْكِرِ
538 -
لِلثَّمَرِ {انْظُرُوا} ، وَفي التَّكْذِيبِ
…
{فَأْتُوا [بِسُورَةٍ]
(1)
} عَلَى الْكَذُوبِ
الشرح:
الحادى والعشرون: المشورة، كقول إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام:{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، فأشار إلى مشاورته في هذا الأمر. ذكر ذلك العبادي.
الثانى والعشرون: الاعتبار، كقوله تعالى:{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99] الآية، فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر.
الثالث والعشرون: التكذيب، كقوله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: 93]، {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} [الأنعام: 150] الآية.
تنبيهان
أحدهما: ذكر بعضهم زيادة على هذه المعاني فيها نظر؛ فلذلك لم أتعرض لها في النظم:
منها: ما في "البرهان" لإمام الحرمين: الإنعام، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
(1)
في (ن 2، ن 5): بتوراة.
رَزَقْنَاكُمْ} [طه: 81]. قال: (فهذا وإنْ كان فيه معنى الإباحة فإن الظاهر تذكير النعمة)
(1)
. انتهى
ويشبه أن يندرج هذا في قسم الامتنان كما سبق تقريره.
ومنها: الاحتقار، كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام يخاطب السحرة:{أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)} [يونس: 80] إذ أَمْرُهم في مقابلة المعجزة حقير، وهو مما أورده البيضاوي.
قيل: والفرق بينه وبين "الإهانة" أنها إما بِقَول أو فعل أو تقرير، كترك إجابته أو نحو ذلك، لا بمجرد اعتقاد. و"الاحتقار" قد يكون بمجرد الاعتقاد؛ فلهذا يقال في مثل ذلك: احتقَره، ولا يقال: أَهانهُ.
ولكن جواب ذلك أن المراد بالإهانة: اعتقاد كونه هينًا، سواء انضم إليه ما يُنكيه من قول أو فعل أو ترك أو لا، فهُما سواء. ألا ترى أن نحو:{ذُقْ} من الاستهزاء به إنما نشأ من حقارته عند المتكلِّم؟
ومنها: الوعد، كقوله تعالى:{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]. وقد يقال بدخول ذلك في الامتنان؛ فإنَّ بُشرى العبد مِنَّة عليه.
ومنها: الوعيد، نحو:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ولكن هذا من التهديد، بل قال بعضهم: إن التهديد أَبلغ من الوعيد.
ومنها: الاحتياط. ذكره القفال ومَثَّله بقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا"
(2)
، بدليل "فإنه لا يدري". وهذا داخل تحت الندب، فلا حاجة لإفراده.
(1)
البرهان (1/ 218).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 278).
ومنها: الالتماس، كقولك لنظيرك:(افْعَل). وقد يقال: إن هذا وشبهه مما يقل جدواه في دلائل الأحكام. وفيه نظر.
ومنها: التحسير والتلهيف. ذكره ابن فارس، ومَثَّله بقوله تعالى:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: 108].
ومنها: التصبير، كقوله تعالى:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17] ، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] ذكره القفال.
ومنها: قرب المنزلة. ذكره الصيرفي، ومَثَّله بقوله تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [الزخرف: 70].
ومنها: التحذير والإخبار عما يَؤُول الأمر إليه، نحو:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]
(1)
. ذكره الصيرفي.
ومنها: إرادة الامتثال فقط، كقولك عند العطش: اسقني ماء. فإنْ كان مِن السيد لعبده فللوجوب أو الندب، ولا يخفَى دخول هذا فيما سبق وهو الإيجاب أو الندب.
ومنها: إرادة الامتثال لأمر آخَر، كقوله صلى الله عليه وسلم:"كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل"
(2)
. فإنما المقصود الاستسلام والكَف عن الفتن.
ومنها: التخيير، نحو:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. ذكره القفال، وقد يقال: نفس صيغة "افعل" ليس فيها تخيير، بل بانضمام أمر آخَر بضده، لكن مثل ذلك
(1)
(في (ص، ش، ق، ض، ت): قل تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
(2)
مسند الإمام أحمد (رقم: 21101)، مسند أبي يعلى (7215). قال الألباني:(صحيح، وهو من أحاديث جَمع من الصحابة). إرواء الغليل (2451).
يأتي في التسوية.
الثانى:
في نجاز ما سبق الوعد به مِن ذِكر الخلاف في كون صيغتَي الأمر حقيقة في غير الوجوب أو مجازًا.
فنقول الأصح من المذاهب أنهما حقيقة في الوجوب فقط، وفيما سواه مجاز؛ ولهذا أشرنا في غالبها إلى علاقة ذلك إلا ما يكون ظاهرًا. هذا مذهب الجمهور، وهو المحكي عن الشافعي رضي الله عنه.
وقال إمام الحرمين في "تلخيص التقريب والإرشاد": (إن الشافعي قد ادَّعَى كل مِن أهل المذاهب في هذه المسألة أنه على وفاقه، وتمسكوا بعبارات متفرقة. وهذا عدول عن سَنن الإنصاف؛ فإن الظاهر والمأثور من مذهبه حمل مطلق الأمر على الوجوب)
(1)
. انتهى
ونقله الشيخ في "شرح اللمع" وابن برهان في "الوجيز" عن الفقهاء، واختاره الإمام وأتباعه. قال الشيخ أبو إسحاق:(وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب أبي إسحاق -يعني المروزي- ببغداد)
(2)
.
ثم اختلف القائلون بهذا المذهب كما في "تقريب القاضي" وغيره: هل اقتضاء الوجوب بوضع اللغة؟ أَم بالشرع؟ أَم بالعقل؟ ثلاثة مذاهب، صحح الشيخ أبو إسحاق الأول، ونقله إمام الحرمين عن الشافعي ثم اختار هو أنه بالشرع.
الثانى: أنه حقيقة في الندب. وبه قال أبو هاشم كما نقله عنه ابن الحاجب.
(1)
التلخيص (1/ 264).
(2)
شرح اللمع (1/ 206).
ونُوزع بأن عبارته لا تقتضيه، ونقله أيضًا عن كثير من المتكلمين، وكأن مراده المعتزلة؛ فقد نقله الشيخ أبو حامد عن المعتزلة بأَسْرها.
نعم، نُقل عن جماعة من الفقهاء ونقله الغزالي والآمدي قولًا للشافعي، قال القاضي عبد الوهاب: كلامه في "أحكام القرآن" دالٌّ عليه.
الثالث: أنه حقيقة في الإباحة؛ لأن الجواز محقَّق، والأصل عدم الطلب. وربما يُفهم ذلك من المحرر في النقل عن المعتزلة، بناءً على أن المباح عند أكثرهم حسن.
وحكاه البيهقي في "سُننه" عن حكاية الشافعي في "كتاب النكاح".
الرابع: أنه مشترك بين الوجوب والندب. وحُكي عن المرتضى من الشيعة، لكن الذي حرره عنه صاحب "المصادر" غير ذلك.
وقال الغزالي: صرح الشافعي في كتاب "أحكام القرآن" بتردد الأمر بالوجوب والندب. لكن ابن القطان أَوَّله.
الخامس: أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب. لكن قال أبو منصور الماتريدي: يحكم بالوجوب ظاهرًا في حق العمل -احتياطًا- دُون الاعتقاد.
السادس: الوقف. وبه قال القاضي وأتباعه، فقالوا: حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب وإما فيهما جميعًا بالاشتراك اللفظي، لَكِنَّا لا ندري ما هو الواقع مِن الأقسام الثلاثة.
ونقله ابن القطان عن ابن سريج ونسبه للشافعي، لأنه قال في "أحكام القرآن":(لَمَّا قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] احتمل أمرين) إلى آخِره.
قال أصحابنا: (وهذا تَعنُّت مِن أبي العباس؛ لأن الشافعي يقول ذلك كثيرًا ويريد أنه يحتمل أن يَرِد دلالة تخصه ويحتمل أنْ يخلى والإطلاق، إنما أراد الشافعي بذلك أنه يجوز أن
يختص كما يقول به [في]
(1)
العموم). انتهى
السابع: وحكاه الصفي الهندي عن القاضي وإمام الحرمين والغزالي: التوقُّف في أنه حقيقة في الوجوب فقط أو الندب فقط أو فيهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي. فزاد على القول الذي قبله أمرًا رابعًا.
الثامن: أنه مشترك بين الوجوب والندب والإباحة اشتراكًا لفظيًّا.
الثامن: الاشتراك في الثلاثة اشتراكًا معنويًّا.
العاشر: أنه مشترك بين خمسة: هذه الثلاثة، والكراهة، والتحريم. حكاه في "المحصول"، وكأن المراد بهما ما يتضمنه التهديد، وربما عُبِّر عنه بأنه مشترك بين الثلاثة والتهديد، وهو أوضح.
الحادى عشر: قول عبد الجبار: إنه حقيقة في إرادة الامتثال فقط، والوجوب وغيره مُستفاد من القرائن. وعزاه ابن السمعاني لأبي هاشم، وأوضحه فقال: (إذا قال القائل لغيره: افعل، دَلَّ على أنه مُرِيد منه الفعل، فإنْ كان القائل حكيمًا، وَجَبَ كون الفعل على صفة زائدة على حُسْنه يستحق لأجلها المدح.
فإذا كان المقُول له مُكلَّفًا، جاز أن يكون واجبًا وأن يكون مندوبًا. فإذا لم يَقُم دليل على وجوب الفعل، وَجَب نَفْيُه والاقتصار على المحقَّق وهو كَوْن الفعل ندبًا يستحق فاعله المدح)
(2)
.
الثانى عشر: حكاه القاضي عبد الوهاب في "ملخصه" عن شيخه أبي بكر الأبهري بأن أمر الله تعالى للإيجاب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المبتدأ للندب، أي: الذي ليس موافقًا لنَص أو بيانًا
(1)
كذا في (ص، ش). لكن في سائر النسخ: في زمن.
(2)
قواطع الأدلة (1/ 54).
لِمُجْمَل.
ومنهم من ينقل عن الأبهري أنه حقيقة في الندب، فيكون له قولان.
الثالث عشر: إنه مشترك بين الخمسة: الإيجاب، والندب، والإباحة، والإرشاد، والتهديد. حكاه الغزالي.
ونُقِلت [فيه]
(1)
مذاهب أخرى إما ضعيفة أو داخلة فيما سبق، أَعْرَضْنَا عن حكايتها؛ لعدم جدواها.
تنبيه: إذا وردت صيغة الأمر من الشارع وقُلنا: للوجوب ما لم تَقُم قرينة بخلافه، فهل يحمل ذلك على الوجوب قبل البحث عن القرينة أن المراد بها غيره؟
فيه خلاف "العام" في وجوب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخَصِّص، وستأتي المسألة في موضعها. لكن صرح بجريان الخلاف فيها هنا الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول وابن الصباغ في "العدة"، وقد مَرَّ ذِكرها، والله أعلم.
ص:
539 -
وَإنْ تَرِدْ صِيغَته اثْرَ حَظْر
…
أَوْ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ حَيْثُ يَجْرِي
540 -
كَانَ قَرِينَةً عَلَى الْإباحَة
…
وَالْأَمْرُ فِيهِ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ
الشرح:
لَمَّا بينتُ أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب -وهو الأرجح- إلا أن تقوم قرينة لِما سِوَى الإيجاب فإنه مجاز، ولابُدَّ للمجاز مِن قرينة، ذكرتُ ما اختُلف في كونه قرينة أو لا،
(1)
من (ق).
وهي إذا وردت صيغة الأمر بعد سَبْق حَظْر، هل يكون سبق الحظر قرينة عدم إرادة الوجوب وبكون حينئذٍ للإباحة؛ لأنها أقل درجات الإذن؟ أو غيرها؟ أقوال:
أحدها: هذا الذي اقتصرتُ عليه في النظم ورجحه ابن الحاجب، وجزم به الصيرفي والخفاف في "الخصال"، ونقله ابن برهان في "وجيزه" عن أكثر الفقهاء والمتكلمين والقيرواني في "المستوعب" وابن التلمساني في "شرح المعالم" عن نَص الشافعي، وكذلك نقله عن نَصه عبد العزيز بن عبد الجبار الكوفي كما في "شرح المحصول" للأصفهاني. وفي "مختصر التقريب" للقاضي: إنه أظهر أجوبة الشافعي. وقال الشيخ أبو إسحاق: للشافعي كلام يدل عليه. وفي "قواطع" ابن السمعاني أنه نَص عليه في "أحكام القرآن".
وكذا نقله الشيخ أبو حامد، قال:(وقال الشافعي في "أحكام القرآن": وأوامر الله ورسوله تحتمل معاني، منها الإباحة كالأوامر الواردة بعد الحظر، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]. فاقتضى أن الأمر بعد الحظر للإباحة دون الإيجاب، وإليه ذهب جمعٌ من أصحابنا). انتهى
وقال القاضي أبو الطيب: إنه ظاهر مذهب الشافعي. وإليه ذهب أكثر من نظر في أصول الفقه.
وقال سليم الرازي: نَص عليه الشافعي.
وقال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": إنه الذي صار إليه الفقهاء من أصحاب الشافعي. وأطلقوا أن ذلك قوله الذي نَص عليه في كثير من كلامه، لا يجوز أن يُدَّعَى معه أن مذهبه خِلافُه.
قلتُ: ومن نصوصه في "الأم" ما قاله في "كتاب النكاح" في "باب ما جاء في أمر النكاح"، قال: (قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] إلى قوله: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]، والأمر في الكتاب والسُّنة وكلام الناس يحتمل معاني،
أحدها: أن يكون الله عز وجل حرم شيئًا ثم أباحه، فكان أمره إحلال ما حرم، كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وكقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10])
(1)
إلى آخِر ما ذكره.
فذكر مِن الوجوه التي يحتملها {وَأَنْكِحُوا} الوجه الذي ليس غيره في نحو: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فهو جازم فيه بذلك.
ونقله القاضي عبد الوهاب أيضًا والباجي وابن خويز منداد عن مالك؛ ولذلك احتج على عدم وجوب الكتابة بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فقال: هو توسعة، كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
القول الثانى: أنه على حالِه للوجوب كما لو وردت ابتداءً، وبه قال الإمام وأتباعه كالبيضاوي. وهو قول المعتزلة كما أن صيغة النهي بعد الوجوب لا تخرج عن التحريم، لكن ستأتي المسألة في موضعها والفرق بينهما.
وصححه أيضًا القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني، ونقله الماوردي عن أبي حامد، وهو كذلك، فإنه نصره في كتابه ونقله عن أكثر أصحابنا، قال: وهو قول كافة الفقهاء والمتكلمين.
وقال الأستاذ أبو منصور: هو قول أهل التحصيل مِنا. وقال سليم الرازي في "التقريب": إنه قول أكثر أصحابنا. وقال ابن برهان في "الأوسط": إليه ذهب معظم العلماء. وقال إمام الحرمين: إن القاضي قال: لو كنت من القائلين بالصيغة لَقطعتُ بأنها بعد الحظر للوجوب.
ونقل غيره عن القاضي غير ذلك، فالنقل عنه مضطرب.
(1)
الأم (5/ 142).
وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقوى في النظر. ونقله في "الإفادة" عن المتكلمين أو أكثرهم.
الثالث: حكاه إمام الحرمين
(1)
(في "التلخيص" و"البرهان" عن بعضهم، أنه إنْ ورَدَ الحظر مؤقتا وكان منتهاه صيغة في الاقتضاء فهي للإباحة، فالغرض من [مسَاق]
(2)
الكلام رد الحظر إلى غاية، نحو:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] انتهى
واختار هذا الغزالي بزيادة بيان، فقال: (إن كان الحظر السابق عارضا لِعلة وعلقت صيغة "افعل" بزواله مثل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، فَعُرْف الاستعمال يدل على أنه لِرفع الذم فقط حتى يرجع حُكمه إلى ما قَبْله، وإنِ احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب أو إيجاب لكن هذا هو الأغلب، كقوله عليه الصلاة والسلام:"كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي، فادخروا"
(3)
. وإذا لم يكن الحظر عارضًا لِعلة ولا صيغة "افْعَل" فيه متعلقة بزوالها، أي: كالجلد عقب الزنا بعد تَقَرُّر تحريم الإيذاء، فهذا يبقى فيه موجب الصيغة على أصل التردد بين الإيجاب والندب، ويزيد هنا احتمال الإباحة، فيكون هذا قرينة تروج هذا الاحتمال وإنْ لم تُعَيِّنه. وأما إذا لم تَرِد صيغة "افعل" ولكن قال مثلًا:"إذا حللتم فأنتم مأمورون بالاصطياد" فهذا يحتمل الوجوب والندب، ولا يحتمل الإباحة. وقوله:"أمرتكم بكذا" يضاهي قوله: "افعل" في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقاربها)
(4)
. انتهى
(1)
التلخيص (1/ 287)، البرهان (1/ 187).
(2)
في (ت، ق): سياق.
(3)
سنن ابن ماجه (رقم: 3160)، سنن الترمذي (رقم: 1510). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1510).
(4)
المستصفى (ص 211).
واختاره أيضًا إلْكِيَا الهراسي.
قلتُ: وهذا التفصيل مُفرَّع على القول بأنَّ أصل الأشياء الإباحة، أما إذا قيل: الحظر، فكل صيغة أمر بعد حَظر، فلأجْل ذلك قال صاحب "الواضح" من المعتزلة وصاحب "المصادر" من الشيعة: إنَّ محل الخلاف إذا كان الحظر السابق شرعيًّا، لا عقليًّا. وصرح بذلك أيضًا القاضي عبد الوهاب مِن المالكية، وهو أظهر مِن قول أبي الحسين بن القطان من أصحابنا: إنه لا فرق في الحظر السابق بين الشرعي والعقلي.
الرابع: الوقف بين الإباحة والوجوب. وحكاه سليم عن المتكلمين، واختاره إمام الحرمين والغزالي في "المنخول"، وقال ابن القشيري: إنه الرأي الحقُّ.
والخامس: أنه للاستحباب. وبه جزم القاضي الحسين
(1)
(في "باب الكتابة" من "تعليقته"
(2)
ومَثَّله بنحو: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. قال الشافعي: إنه للاستحباب. وإنْ حُكي عنه قول آخَر بالوجوب.
وإنما كان ذلك من الأمر بعد الحظر، لأن بيع الإنسان ماله بماله ممتنع بلا شك.
وكقوله صلى الله عليه وسلم في خِطبة المغيرة: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"
(3)
، ونحو ذلك، فإن أصح الوجهين: الاستحباب، وثانيهما: الإباحة. ومنشأهما -كما قال الإمام- هذه القاعدة.
وإنما لم يحمل على الوجوب، لذلك، أو لأن من قرائن الصرف عن الوجوب كون
(1)
هنا آخِر نُسخة (ظ).
(2)
في (ص): تعليقه.
(3)
سنن الترمذي (رقم: 1087)، سنن ابن ماجه (1865)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1087).
الداعية تدعو إلى ذلك الفعل، فورود الأمر على وَفْقها يقتضي عدم الوجوب، أو غير ذلك.
أما الصرف بذلك عن الإباحة عند مَن يقول بها هنا فلا.
وقد يُدَّعى أن زيادة الاستحباب على أصل الإباحة بدليل آخَر.
والسادس: أنها لرفع الحظر السابق وإعادة حال الفعل إلى ما كان قبل الحظر، فإنْ كان مباحًا، كانت للإباحة، نحو:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]
(1)
، أو واجبًا، كانت للوجوب، نحو:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] إذا قلنا بوجوب الوطء. واختاره بعض محققي الحنابلة، ونسبه للمزني، قال: وعليه يُخرج قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
وهو ظاهر كلام القفال الشاشي حيث قال في {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]: إنه ليس بايجاب، بل إباحة، كأنه قال: فإذا تطهرن فهن على الحالة الأُولى.
وكذا في زيارة القبور: "فزوروها"
(2)
، أي: فقد أبحْتُ لكم الآن ما حظرتُه عليكم.
قال ابن دقيق العيد: إنَّ مَن يرى تَقدُّم الحظر قرينة صارفة للأمر عن مقتضاه ليس له مستند إلا العُرف أو أكثرية الاستعمال كما سبق من الأمثلة.
أي: وإن ورد في بعضها بخلافِه، نحو:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} [التوبة: 5]، فإن الجهاد واجب. ونحو:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أيْ: فاحلقوا، والحلق نُسُك. وكذا:"إذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلِّي"
(3)
فإنه واجب أيضًا.
(1)
في جميع النُّسخ: فإذا.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 226) بلفظ: (فإذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ، ثم صَلِّي)، صحيح مسلم (333).
قال: وإلا فلا إشكال في إمكان الانتقال مِن بعض الأحكام لبعض كيف كانت.
فَعُلم ضعف الاستدلال على الوجوب بأنه يؤدي للانتقال مِن تحريم إلى وجوب، فيقال: وما المحذور في ذلك؟
تنبيهان
الأول: قولي: (وَإنْ تَرِدْ صِيغَتُهُ) أي: صيغة الأمر -أوضح من تعبير الماوردي وغيره بالأمر بعد الحظر؛ فإنه إذا كان أمرًا فكيف يكون للإباحة والمباح ليس مأمورًا به؟ إلا على ما سبق مِن قول الكعبي ومَن وافقه في أن المباح ترْك الحرام وهو واجب، وسبق جوابه.
نعم، سبق في نَص "الأم" في أول المسألة تعبير الشافعي بالأمر مع قوله: إنه للإباحة. فليحمل على أن المراد لفظ "الأمر"، فإن صيغة "افْعَل" و"لِتَفْعَل" يقال فيها: فِعْل أَمْر، إما بنفسها أو بواسطة لام الأمر، فتُعطَى في العربية أحكام الأمر مِن جَزْم وبناء على السكون أو ما يقوم مقامه وفي نصب الجواب بعده وغير ذلك من أحكام العربية، ولو كانت في المعنى دعاءً أو خبرًا أو نحو ذلك نَظرًا لصورة اللفظ لا للمعنى، فيكون مراد مَن عبَّر بذلك، فلا إشكال وإنْ كان التعبير بالصيغة أوضح في المقصود.
الثانى: قد استُشكل المختار من الأقوال -وهو أنه للإباحة- بأمرين:
أحدهما: أنَّ كون تَقَدُّم الحظر قرينة صارفة له عن الوجوب ليس بأَوْلى من كونه قرينة مقتضية لكونه تهديدًا، فيكون تقريرًا للحظر السابق. كذا عارض به ابن عقيل الحنبلي.
وجوابه: أن أقرب المجازين للحقيقة هو الذي يُصار إليه، وأقربهما كونه طلبًا أو إذنًا في الفعل، لا منعًا؛ لأنه ضده.
ثانيهما: أنَّ هذا تعارضه القاعدة الفقهية، وهي أن كل ما كان ممنوعًا لو لم يجب يكون
الأمر فيه للوجوب، كالختان وقطع السارق، فليكن في مسألتنا للوجوب، فإنه كان ممنوعًا لو لم نَقُل بوجوبه.
وجوابه: أن القاعدة قد نُقِضت كما سبق في الكلام في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى تقدير التسليم فهي مفروضة في شيء كان ممنوعًا منه على تقدير عدم وجوبه، وهذه في ممنوع على الإطلاق، لا لممنوع على هذا التقدير؛ فافترقا.
قولي: (أَوْ بَعْدَ الِاستئذَانِ) أي: إن الصيغة إذا وردت بعد الاستئذان إذا جرى استئذان تكون كالواردة بعد الحظر حتى يكون المرجَّح فيها الإباحة؛ لقرينة الاستئذان. ذكر ذلك في "المحصول".
إلا أن قصده أن تكون للإيجاب على أصلها وأن الاستئذان ليس قرينة صارفة على مختاره في الوارد بعد الحظر أنه كذلك، فما ذكرها إلا ليقضي بالبقاء في الوجوب.
قالوا: وهو حسن؛ لنفعه في الاستدلال على فرضيَّة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد بقوله لَمَّا قيل له: "قد علمنا كيف نُسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ " قال: "قولوا: اللهم صَلِّ على محمد"
(1)
إلى آخِره.
قلتُ: وفيه نظر؛ لأن هذا ليس أمرًا بعد استئذان، بل أمر بكيفية مسئول عنها بعد تَقَرُّر الأصل، فالأصل ليس فيه استئذان ولا سؤال؛ لأن السؤال بِـ "كيف" يقتضي وجود الأصل، وإنما يكون مما نحن فيه لو قيل: هل نصلي عليك؟ أو نحو ذلك.
نعم، هي قريبة من مسألتنا في المعنى وإنْ لم تكن إياها، لكن الأمر بكيفية شيء [منتهٍ]
(2)
لذلك الشيء. إنْ يكن واجبًا، كان واجبًا. أو نَدْبًا، كان نَدْبًا، فلا بُدَّ من ثبوت الصلاة أولًا
(1)
صحيح البخاري (رقم: 5996)، صحيح مسلم (رقم: 406) واللفظ للبخاري.
(2)
كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: منه.
حتى يكون الأمر بهذه الكيفية للوجوب، فكيف يستدل بها على وجوب الأصل؟
ثم الذين أوجبوا الصلاة لم يوجبوا هذه الكيفية، حتى لو قال:(اللهم صَلِّ على محمد)، اكتُفِي به. ثم إن هذا طريقة الإمام؛ لأن عنده أنَّ الأمر بعد الحظر للوجوب كما سبق. أما إذا قُلنا بأنه للإباحة كما سبق أو للاستحباب، لا ينتهض الدليل من ذلك.
نعم، لوجوب الصلاة في الصلاة أدلة غير ذلك مُبيَّنة في محلها من الفقه، والله أعلم.
قولي: (وَالْأَمْرُ فِيهِ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ) تمامه قولي بعده:
ص:
541 -
لَا لِتكَرُّرٍ وَلَا لِلْمَرَّهْ
…
بَلْ هِيَ مِنْ ضَرُورةٍ مُقَرَّهْ
الشرح:
مِن مباحث الأمر ما ذكرته مِن هذه المسائل، فمن ذلك أن الأمر هل يقتضي طلب إيقاع المأمور به مرة؟ أو أكثر؟ أو لا يقتضي شيئًا من الأمرين؟
الصحيح الثاني، أي لا يدل على ذلك بذاته، بل إنْ قُيد لفظ الأمر -ولو بدليل منفصل- بالمرة أو بالتكرار، كان كذلك قطعًا. وكذا إذا دل المعنى على مرة كـ "اقتل زيدًا" و"أَعْتِق سالمًا" أو تكرر كـ "اترك الغيبة"، فقد سبق أنَّ هذا وإن كان في معنى النهي فهو أمر مع كونه للتكرار، [لقرينة]
(1)
كونه في معنى النهي.
فإذا لم يكن شيء من ذلك فإنما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بوحدة ولا بكثرة، إلا أنه لا يمكن إدخال الماهية في الوجود بأقل من مرة، فصارت المرة مِن ضرورة الإتيان
(1)
(في (ت، ض): ولقرينة.
بالمأمور به، لا أنَّ الأمر يدل عليها بذاته، بل بطريق الالتزام.
وسواء أكان الأمر مجردًا أو معلقًا بشرط أو صفة، فالصحيح في المسألتين ذلك.
فمِن ثَم أطلقتُ في النظم ولم أُقيد الأمر بكونه غير مقيد بمرة ولا تكرار؛ فإنَّ من المعلوم أنه متقيد به. ولم أُقيده أيضًا بكونه غير معلق؛ لأن المختار في المسألتين واحد؛ ولهذا يُطلق كثيرٌ المسألة ويجعل القول بالفرق بين الحالين قولًا فيها بالتفصيل، ونحن نُفرِد كلًّا من المسألتين؛ لبيان الخلاف وإيضاحه.
فأما مسألة "ما إذا لم يُعلق بشرط ولا صفة":
فالصحيح من المذاهب فيها ما ذكرناه، وقال الخطابي في "المعالم":(إنه قول أكثر الناس)
(1)
.
قال ابن السمعاني: وهو قول أكثر أصحابنا
(2)
.
وقال إلْكِيَا الطبري: إنه رأى القاضي. واختاره الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما.
وقال صاحب "اللباب" من الحنفية والباجي من المالكية أنه قول عامَّة أصحابهم.
ثم حكى ابن السمعاني -تفريعًا على هذا القول- خلافًا في كونه بعد ما لا يمكن الامتثال إلا به -وهو المرة- هل يحتمل التكرار؟ أو لا؟
أَوْلى الرأيين: نعم، وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في "البرهان" إذْ قال:(إنا في الزائد على المرة نتوقف، لا ننفيه ولا نثبته)
(3)
.
(1)
انظر: معالم السنن (2/ 144).
(2)
قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 65).
(3)
البرهان (1/ 167).
لكن الأحسن أن مراد الإمام بقوله: "نتوقف" أنه لا ينافيه شيء من قيود التكرار لَوْ وَرَد، فهو لا ينفيه ولا يثبته، لأن اللفظ محتمل لأن يكون موضوعًا لخصوص التكرار أوْ لا.
قيل: ولَعلَّ ابن الحاجب لَمَّا لمح أن مراد الإمام هذا، قال بعد قوله: إلا يدل على تكرار ولا مرة): (وهو اختيار الإمام)
(1)
. وإلا فلا معنى لتخصيص الإمام بذلك مع أنه قول الأكثرين.
نعم، ممن قال بأنه يحتمل التكرار: أبو زيد الدبوسي، إذ قال: الصحيح أنه لا يقتضيه. ثم قال: ولكن يحتمل كل الفعل المأمور به، لكن لا يثبت إلا بدليل، وعليه دَلت مسائل علمائنا.
وكذا قال شمس الأئمة السرخسي.
المذهب الثانى: أنه يقتضي المرة الواحدة بلفظِه ووضعِه. وحكاه في "التلخيص" عن الأكثرين والجماهير من الفقهاء، وقال ابن فورك: إنه المذهب. قال ابن القطان: إنه مذهب الشافعي وأصحابه. وكذا قال الغزالي في "المنخول". وقال الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول: (إنه الذي عليه كلام الشافعي في الفروع، وعليه أكثر الأصحاب، وهو الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء). انتهى
قيل: بل صرح به في "الرسالة" في "باب الفرائض المنصوصة" التي سَن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي: (فكان ظاهر قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أقَل ما يقع عليه اسم الغسل مرة، واحتمل أكثر، وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة، فوافق ذلك ظاهر القرآن، ولو لم يَرِد الحديث به لاستُغني بظاهر القرآن)
(2)
. انتهى
وممن اختاره ابن الصباغ، ونقله الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي
(1)
مختصر المنتهى (2/ 28) مع (بيان المختصر).
(2)
الرسالة (ص 164).
وابن برهان في "الأوسط" عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن اختيار شيخه القاضي أبي الطيب، ونقله عبد الوهاب عن أصحاب مالك، ونقله صاحب "المصادر" عن شيوخ المعتزلة وأبي الحسن الكرخي.
قيل: والنّقَلة لهذا عن أصحابنا لا يفرقون بينه وبين القول الأول المختار، وإنما غرضهم بذكر المرة نفيُ التكرار والخروج عن العهدة بالمرة؛ ولذلك لم يجمع أحد منهم بين القولين، بل يقتصرون على هذا؛ لأن عندهم أنه عَيْن الأول، فهو اختلاف في العبارة وإن كانا مختلفين في طريق الدلالة: هل هو بالمطابقة؟ أو بالالتزام؟ ولا تظهر له ثمرة في الأحكام.
وعلى هذا القول: هل يحتمل التكرار؟ أو لا؟ فيه ما سبق، وقد فَرَّعه ابن الحاجب على هذا، لأنا بَيَّنا أنهما في المعنى سواء.
والمذهب الثالث: أنه يقتضي التكرار مُدة العُمر فيما يمكن؛ ليخرج أوقات ضروريات الإنسان من أكل وشرب ونوم ونحو ذلك.
وهل يتقيد بما لا بُدَّ منه؟ أو بأوسع من ذلك باعتبار العادة؟
الظاهر هذا كما اقتضاه كلام ابن السمعاني من أنه لا بُدَّ من استئناء شيء وراء الإمكان باتفاق وإنْ أَطلق غيْرُه الإمكان.
وبالجملة فهذا القول قال به الأستاذ أبو إسحاق والشيخ أبو حاتم القزويني وغيرهما من أئمتنا، ونقله الشيخ أبو إسحاق عن القاضي أبي بكر، ونقل الأصفهاني أن العالمي نقله عن أكثر الشافعية، وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن المزني، ونقله في "المنخول" عن أبي حنيفة والمعتزلة، ونقله الباجي عن ابن خويز منداد، وحكاه ابن القصار عن مالك، وأبو الخطاب الحنبلي عن شيخه.
والمراد بالتكرار: فِعل مِثل الأول، لا الأول بِعَيْنه، لأن ذلك محُال كما قرر ذلك الصفى
الهندي، وهو واضح. وبعضهم يعبر عن التكرار بالعموم.
الرابع: أنه يدل على المرة الواحدة قطعًا، ويتردد الأمر في الزائد.
قال إمام الحرمين في "التلخيص": (وهو ما ارتضاه القاضي). قال: (والفرق بين هذا وما سبق بأن ذاك مع عدم احتمال الزائد على المرة، وهذا مع الاحتمال حتى تأتي قرينة تدل عليه)
(1)
.
قلتُ: هو عيْن ما سبق من الخلاف المُفرَّع على القولين في الاحتمال وعدمه، فينبغي الاكتفاء [به]
(2)
عن هذا التفصيل.
الخامس: الوقف في الكل. وهو رأي القاضي أبي بكر وجماعة الواقفية.
السادس: إنْ كان فِعلًا له غاية يمكن انقطاعه في جميع المدة فيلزمه في جميعها، وإلا فيلزمه الأول. حكاه الهندي عن عيسى بن أبان.
ونقل في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري أن ورود النَّسخ والاستثناء على الأمر يدل على أنه قد أُريد به التكرار.
السابع: إنْ كان الطلب راجعًا إلى قَطْع الواقع كقولك في الأمر للساكن: (تَحرك)، فللمرة. وإنْ رجع إلى اتصال الواقع واستدامته كقولك في الأمر للمتحرك:(تحرك)، فللاستمرار والدوام.
وأما مسألة ما "إذا عُلق بشرط أو صفة أو وقت" نحو: إن كان زانيًا فارجمه، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، و {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فهذه أَوْلى -مِن المُجَرَّد- بالتكرار عند مَن يقول به فيه.
(1)
التلخيص (1/ 300).
(2)
كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق، ض): فيه.
والمنع فيهما هو العتمد من الخلاف. وقال أبو بكر الصيرفي: إنه أَنْظَر القولين. وابن فورك: إنه الأصح.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني والشيخ أبو حامد وسليم وإلْكِيَا: إنه الصحيح كما في الأمر المطلق. ونقله في "المعتمد" عن أكثر الفقهاء، وقال صاحب "المصادر": وهو قول أبي حنيفة. وقال السرخسي من الحنفية: إنه المذهب الصحيح. ونقله القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية والأصوليين، وربما نُسِب للشافعي.
واختار هذا القول أيضًا الآمدي وابن الحاجب، لكنهما والهندي حرروا محل النزاع أنه في غير المعَلَّق بما ثبت كونه عِلة للمأمور به، أما المعلق بذلك فيتكرر بتكرره اتفاقًا، لكن هذا التكرر هو أنه كُلما وُجِدت العِلة وُجِد الحكم، لا أنه إذا وُجِدت العلة يتكرر الفعل به حتى لو قال:(اجلد الزاني)، أو:(مَن زنا فاجلده)، فَزَنَا، جُلِدَ، ثم لا يُعاد الجلد.
ومحل الخلاف إنما هو هذا، لا التكرار الأول؛ فلهذا أطلقتُ في النظم أن الأمر به لا يقتضي التكرار.
وقد سبقهم إلى حكاية الاتفاق في صورة العلة القاضي في "التقريب" وابن السمعاني، ولكن صاحب "المحصول" وأتباعه أطلقوا الخلاف.
ووفَّقَ بعضهم بين الطريقين بأن الإمام لَعَلَّه نَصَب الخلاف مع من يُنكر اقتضاء تَرَتُّب الحكم على الوصف عِلِّيَّة ذلك الوصف
(1)
، والجماعة نَصبُوه مع القائلين باقتضائه العِلِّيَّة.
قلتُ: وفيه نظر؛ فإن الإمام وأتباعه قالوا: إن الراجح أنه لا يقتضيه لفظًا، ولكن يقتضيه قياسًا؛ لأن المعلول يتكرر بتكرر عِلته.
(1)
يعني: تَرتُّب الحكم على الوصف يقتضي عِلِّيَّة ذلك الوصف.
فشمل كلامهم ما [عِليته]
(1)
ثابتة.
ووراء المختار في هذه المسألة مذاهب:
منها: أنه يقتضي التكرار مطلقًا كالنهي. قال ابن القطان: قال أصحابنا: وهو أَشْبَه بمذهب الشافعي، لأنه قال في التيمم لكل صلاة لَمَّا قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية: اقتضى وجوب الوضوء لكل صلاة، فلمَّا توضأ النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات وضوءًا واحدًا، دَلَّنا على أن المراد بذلك في الطهارة بالماء، وبَقي على التكرر في التيمم.
ونقل عن أبي بكر الصيرفي أن الأظهر على المذهب التكرار، وكذا هو في "كتاب الصيرفي".
وحكى هذا الاستدلال أيضًا شمس الأئمة السرخسي، ولكنه رَدَّه؛ لأن المراد بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: محدِثين باتفاق المفسرين، وعلى هذا يستوي الوضوء والتيمم.
وقال ابن فورك: (ما تَعَلَّلوا به من احتجاج الشافعي في التيمم فلا حُجة فيه، لأن وجوب تكرر التيمم لا يصح الاستدلال عليه بذلك إلا بعد أن يصح وجوب تكرر الصلاة، فيجري أمر التيمم على ما جرى عليه أمرها). انتهى
ومنهم مَن يجيب عن التكرر في الشرع -في هذا ونحوه على تقدير ثبوته- بأنه بدليل خَصَّه، لا من مجرد الأمر المعلق بذلك، ومن ثَم لم يتكرر الحج المعلَّق على الاستطاعة، ولهذا لَمَّا سأل الرجل:"أَكُل عام يا رسول الله؟ " قال صلى الله عليه وسلم بعد أن سكت حتى قالها السائل ثلاثًا:
(1)
كذا في (ص، ش)، لكن في (ت، ق): علته. وفي (ض): عليه.
"لو قلتُ: نعم، لَوَجَبَت"
(1)
. فإنه علق التكرر بقوله: "نعم" لو قالها، لا بمجرد الأمر، وأيضًا فالسائل عربي، فلو اقتضى المعلَّق التكرر بوضعِه لما سأل عنه.
والحديث في "مسلم" عن أبي هريرة، وفي السُّنن ما يدل على التكرر.
[واعْلَم]
(2)
أن التكرر في مثل ذلك لو قيل به، لم يكن هو التكرر المقصود من هذه المسألة كما بيناه آنفًا، فلا يضر نقله عن الشافعي وغيره، فَتَأَمَّله.
ومنها: التفصيل بين كون المعلَّق عَليه مناسبًا بحيث يصلح للعِلية فيتكرر بتكرره وإلا فلا. وقد سبق أن هذا تحرير للخلاف، لا قول بالتفصيل.
ومنها: ما اختاره البيضاوي تبعًا لإمامه: أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ، بل من جهة القياس. وقد سبق ما يُشعِر بأن هذا في الحقيقة هو القول الأول، وأنه إذا كان من حيث القياس فهو لكون التعليق على الوصف يُشعِر بِعليته، فتكرره من حيث العلة، وهو محل وفاق كما سبق. وقيل غير ذلك.
قيل: ومحل الخلاف إذا لم يكن التعلق بأداة تقتضي التكرار، نحو: كُلما.
ولكن هذا لا يُحتاج [إليه]
(3)
؛ لأن التكرار بالصيغة لا من حيث كونه أمرًا، والكلام فيه.
ومما يشبه ذلك في التكرر لفظًا: ما لو أُعيد لفظ الأمر، نحو: صَلِّ صَلِّ. وسيأتي إيضاح المسألة بعد ذلك في النَّظم وشرحه.
(1)
صحيح مسلم (رقم: 1337).
(2)
في (ت، ق): واعلم أن التكرر في مثل ذلك لو مثل به، لم يكن هو التكرر المقصود من ما يدل على التكرر، واعلم.
(3)
في (ت، ض، ق): هذا.
تنبيه: قولي في صدر المسألة: "إنَّ الأمر لطلب الماهية" يؤخذ منه أن المطلوب في الأمر بالفعل المطلق هو الماهية الكلية، لا جزئي من جزئياتها، وهو الراجح هناك. وستأتي المسألة في "باب المطلق المقيد"، ويأتي بَسْطها، والله أعلم.
ص:
542 -
وَلَا لِفَوْرٍ، وَالَّذِي يُبَادِرُ
…
مُمْتَثِل، وَالْقَطْعُ فِيهِ ظَاهِرُ
الشرح:
أي: ولكون مطلق الأمر لطلب الماهية، لا لتكرار ولا لمرة، كذلك لا يكون مقتضيًا لا لفورٍ ولا لتراخٍ وإنْ لم أُصرح بهذا؛ لضعف الخلاف كما ستعلمه.
أما إذا كان الأمر مقيدًا بوقتٍ مُضَيَّقٍ أو مُوَسَّعٍ، كان بحسب ما قُيد به، وقد مضى بيان المضيق والموسع في مقدمة الكتاب، وكذلك ما يُفعل في الوقت وبعده من كونه أداء أو قضاء.
أو لم يُقيد بوقتٍ ولكن قُيد بفورٍ بلفظ المبادرة أو المسارعة أو التعجيل أو نحو ذلك، فهو للفور اتفاقًا.
وإن قُيد بتراخٍ أو قيل: (افعل في أي وقت شئت) أو نحو ذلك، كان التراخي فيه جائزًا اتفاقًا.
وإنْ لم يُقيد بشيء -وهو الذي الكلام فيه- فأرجَح المذاهب في المسألة أنه لا يقتضي فورًا ولا تراخيًا، بل متى شاء فعل؛ إذ ليس في الصيغة ما يدل على زيادة على طلب الفعل؛ ولهذا مَن يرى دلالتها على التكرار يقول بالفورية؛ لأنها من ضرورة التكرر، فالكلام مع
القول [بمنع]
(1)
اقتضاء التكرر.
والقول بعدم الفور والتراخى عليه جمهور الشافعية كما قاله الأستاذ أبو منصور، وسليم قال: وهو ظاهر قول الشافعي في "باب الحج" والصحيح من المذهب.
قال إمام الحرمين: (وهو اللائق بتفريعاته في الفقه وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول)
(2)
.
وكذا قال ابن برهان في "وجيزه": (إنه لم يُنقَل عن الشافعي وأبي حنيفة نَقْل في المسألة، وإنما فروعهما تدل على ما نُقل عنهما). قال: (وهذا خطأ في نقل المذاهب؛ إذِ الفروع تُبنى على الأصول). انتهى
وقد أُجيبَ عن إشكاله بأن استقراء فروع الإمام يدل على أصله المقصود فيها، وهذا كما يقال:(مذهب الشافعي كذا، مذهب مالك كذا) وإنْ لم يوجد نَص للإمام فيه بِعَيْنه، بل مِن لازم منصوصاته في الفروع.
وعلى هذا القول أيضًا أبو علي وابنه وأبو الحسين والغزالي والإمام الرازي وأتباعه والآمدي وابن الحاجب.
ويُنقل عن القاضي أبي بكر، قال إمام الحرمين في "البرهان":(وهذا بديع من قياس مذهبه مع استمساكه بالوقف وتجهيله مَن لا يراه)
(3)
.
وسيأتي الرد على ابن الحاجب في نقله عنه غير ذلك.
(1)
كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق): يمنع.
(2)
البرهان (1/ 168).
(3)
البرهان (1/ 169).
والمذهب الثانى: أنه يقتضي الفور. وبه [قال]
(1)
الحنفية والحنابلة وجمهور المالكية والظاهرية، واختاره من أصحابنا الصيرفي وأبو حامد المروروذي والدقاق والقاضي أبو الطيب، وقال القاضي حسين في "تعليقه" في "كتاب الحج": إنه الصحيح من مذهبنا. قال: وإنما جَوَّزنا تأخير الحج بدليل مِن خارج.
وجزم به أيضًا المتولي في "كتاب الزكاة" من "التتمة"، ونقله صاحب "المصادر" عن المزني، وقال الشيخ أبو حامد: إنه قول أهل العراق.
وقد اختُلف -تفريعًا على هذا المذهب- أنه إذا لم يبادر، هل يجب أن يفعل بعد ذلك؟ [أَم]
(2)
لا إلا بأمر جديد؟ وهو شبيه [ما]
(3)
سيأتي في "مسألة القضاء": هل هو بأمر جديد؟
قال ابن فورك: واختلفوا أيضًا: هل اقتضاؤه الفور من اللغة؟ أو بالعقل؟ قال: والأرجح الأول.
الثالث: أن الأمر يقتضي التراخي. كذا أطلق جماعة حكايته، ومقتضاه أن المبادِر لا يكون ممتثلًا، أو يتوقف فيه، وذلك بعيد هنا.
نعم، سيأتي حكاية الخلاف في ذلك تفريعًا على قول الوقف، وسيأتي أنه خَرق للإجماع. وفي كلام أكثر النقَلة أن المراد بالتراخي في قول الأئمة: عدم الفور، فهو في الحقيقة هو القول الأول الذي قُلنا: إنه الراجح، فإنهم ينقلونه عمن نُقل عنه ذلك القول.
قال ابن السمعاني بعد نقل التراخي عن ابن أبي هريرة وأبي بكر القفال وابن خيران وأبي
(1)
في (ق): قالت.
(2)
في (ص، ش): أو.
(3)
في (ق): بما.
علي الطبري صاحب "الإفصاح": (وإن معنى ذلك ليس على التعجيل)
(1)
.
قال الشيخ أبو حامد: والعبارة الصحيحة أنه لا يقتضي الفور والتعجيل.
وعبارة إمام الحرمين فيما نقلناه عنه فيما سبق: قول التراخي هو اللائق بتفريعات الشافعي.
يريد بالتراخي ما ذكرناه.
وممن قال به: أبو إسحاق الشيرازي، وهو الذي نصره القاضي أبو بكر في كتاب "التقريب" بهذا المعنى إذْ قال: والوجه عندنا في ذلك القول بأنه على التراخي دُون الفور والوقف.
وأراد بنفي الوقف أن المبادِر ممتثل قطعًا، ثم أخذ يطنب في إفساد الأمرين وتصحيح التراخي بالمعنى المذكور وهو أن المراد: طلبُ الفعل فَحَسْب مِن غير تَعَرُّض للوقت.
فما نقله ابن الحاجب عن القاضي بأنه للفور أو العزم -كما هو القول الآتي- مدخول.
وكذا نقل السرخسي -من الحنفية- عن علمائهم ذلك، وقال:(نَص عليه في "الجامع"، قال: فمَن نذر أن يعتكف شهرًا، اعتكف أي شهر شاء، خِلافًا لقول الشافعي: إنه على الفور)
(2)
. انتهى
وكذا نقله صاحب "اللباب" - منهم- عن البزدوي وأنه بلا خلاف عندهم.
فعُلِمَ بذلك أن مَن ينقل عن الأئمة القول بالتراخي مراده ذلك، لا حقيقة هذا القول الثالث.
(1)
قواطع الأدلة (1/ 78).
(2)
أصول السرخسي (1/ 126).
المذهب الرابع: أنه يقتضي إما الفور أو العزم. نقله صاحب "المصادر" عن أبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار، وسبق حكاية ابن الحاجب له عن القاضي ورَده.
الخامس: الوقف إما لعدم العلم بمدلوله، أو لأنه مشترك. وصححه الأصفهاني في "قواعده"، وحُكي عن المرتضى.
وعلى هذا القول: هل يكون المبادِر ممتثلًا؟ أو يكون أمره موقوفًا؟ قولان:
حكى الأول منهما ابن الصباغ في "العدة"؛ لاحتمال إرادة التراخي، فلا يقطع بأنه ممتثل. قال: وهو خَرْق للإجماع.
أما إذا فرَّعنا على القول الصحيح سواء عبَّرنا عنه بالتراخي أو لا أو قُلنا بالفور، فيمطَع بأن المبادر ممتثل.
وهو معنى قولي: (وَالَّذِي يُبَادِرُ مُمْتَثل، وَالْقَطْعُ فِيهِ ظَاهِرُ)، ففيه إيماء إلى رَد القول الثالث وأنه لا سبيل إلى القول به.
تنبيهات
الأول: إذا قُلنا بالمرجَّح وهو جواز التأخير، فالاتفاق على نفي الإثم حيث لم يَغْلب على الظن الفوات. وقد اختلفوا فيما لو مات على قول التراخي في الحج، وحيث أَثِمَ فإنما ذلك لتفويته؛ إذِ التأخير مشروط بسلامة العاقبة، وقد سبق ذلك في المقدمة في بيان الوقت الموَسَّع، والمعنى في الموسع هو المعنى في [المتراخي]
(1)
، فمَن لا يرى بالموسع لا يرى هنا بالتراخي. لكن الحج ليس مِن الموسع كما سبق، فلذلك يلحقه الإثم في بعض الصُّوَر.
(1)
كذا في (ص، ش). لكن في (ق): التراخي.
الثاني: هل يجري الخلاف في هذه [المسألة]
(1)
في أمر الندب؟ أو يختص بأمر الوجوب؟ فيه خلاف، قال القاضي عبد الوهاب: والصحيح: لا فرق.
الثالث: محل الخلاف في الأمر الذي يُطلب به فِعل وجودي، لا نحو:"دع" و"اترك"، فإن ذلك في حُكم النهي، وسيأتي أنه يقتضي التكرار والفور وإلَّا لم يقع فيه امتثال، فكذا [ينتفي]
(2)
فى الأمر الكَفِّي. وهذا يُفهَم مِن رَدِّهم على مَن قال: (إن الأمر للفور كالنهي) بأن الفرق بينهما عدم إمكان الامتثال في النهي إلا بذلك؛ فافترقَا.
ومما يدخل في هذا المعنى الذي ذكرناه ما ذُكِر في الفقه فيما لو قال: (إنْ لم أطلقك -أو نحو ذلك- فأنت طالق)، فإنها لا تُطلق بهذا التعليق إلا عند اليأس بموت أو بجنون الزوج المتصل بموته أو نحو ذلك مما هو مذكور في محله.
ولو قال لها: [أنت طالق إنْ تركت طلاقك، أو: إن تركت طلاقك فأنت طالق]
(3)
، فإنها تُطلق بِمُضي زمن يمكنه أن يُطَلِّق فيه فلا يُطَلِّق؛ لأن التعليق على النفي لا يتحقق فيه المعلق عليه إلا باستيعابه أزمنة الإمكان؛ لأن النكرة في النفي للعموم، وقد علق على العموم، فلا بُدَّ من وجوده.
وأما المعلق على الترك فمُعَلق على صورة منه؛ لأن الفعل نكرة في إثبات، فَيَصْدُق بصورة.
والنكرة وإن كانت في سياق الشرط للعموم، لكن العموم في "إنْ لم أُطَلِّقك" عموم في
(1)
(في (ق، ت، ض): أي.
(2)
كذا في (ت، ق)، والمعنى: ينتفي الخلاف. لكن في (ص، ش): ينبغي.
(3)
كذا في (ق). والعبارة الأولى ليست في (ص، ش). لكن في (ت، ض): أنت طالق إن تركت طلاقك فأنت طالق.
نفي، والعموم في الشرط عموم في إثبات، فالعمل بالعموم فيه كَوْن الطلاق يقع في كل صورة توجد فيه، لا على وجود كل الصُّوَر، لأن ذاك كُلّ [مجموعي]
(1)
؛ فلذلك إذا طلق مطلقًا بالتعليق على النفي أو على الترك لكن على الفور، لا يقع طلاق؛ لانتفاء المعلق عليه.
وفي الجملة ففي التعليقين لم يخرج المعلق عليه عن الفور، لأن المعلق على النفي مبدأ أزمنة المعلق عليه الفور وجميع ما بعده إلى التعذر.
نعم، يشكل على "إنْ تركت طلاقك" لو قال:(إنْ سكتُّ عن طلاقك)، فإنه إذا طلَّق عقب التعليق ثم سكت، يقع عليها طلقة ثانية.
وإن كانت الصيغة: "كلما"، فيقع ثالثة بما بعد التطليق المنجز بالسكوت أو السكوتين. وأما في "إنْ تركت طلاقك" فإذا طلق عقبه ثم ترك، لا يقع به طلقة أخرى.
وقد يُفَرق بأنه لَمَّا طَلَّق، صَدق في العُرف أنه لم يترك طلاقها، وأما إذا سكت بعد أن نجز فإنه يصدق أنه سكت عن طلاقها.
قلتُ: ولا يخلو مِن نَظَر؛ فإنَّ السكوت عن الطلاق قد يعود إلى معنى تَرْك الطلاق، فأيُّ فَرْق بينهما؟ !
الرابع:
مما فَرَّعه بعض المتأخرين على الخلاف في هذه المسألة: اعتبار قبول الوكيل فيما لو قال الموكِّل: (بع) أو: (اشْتَرِ) أو: (أَعْتِق) ونحوه من صِيَغ الأمر.
ولا يخفَى ما في ذلك من النظر، فإنَّ قولَ الموكِّل ذلك إذْن، لا أمر. وبتقدير أنه مِثله فليس هو المدْرَك في اعتبار قبول الوكيل باللفظ؛ لأن الخلاف فيه سواء أكانت صيغة الموكِّل:
(1)
في (ق، ت): مجموع.
"وكلتُ" أو: "بعْ"؛ ولهذا كان التفصيل رأيًا ثالثًا، فقد اشترط الفور على رأْي وإنْ لم يكن صيغة أمر، ومنع اعتبار الفور على رأْي مع وجودها.
على أن الخلاف إنما هو في اعتبار لفظ القبول، حتى لو أَوْجَد الوكيل الفعل على الفور، لا يكفي عند مَن شَرَطَ القبول لفظًا. والله أعلم.
ص:
543 -
وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ
…
بَلْ هُوَ لِلْأَمْرِ الْجَدِيدِ جَاءَ
الشرح:
هذا أيضًا من المسائل المفرعة على أن الأمر لطلب الماهية من غير زيادة على ذلك، وهي متعلقة بالمأمور به المؤقت إذا خرج وقته ولم يُفعل:
هل يجب القضاء بالأمر الأول، نظرًا إلى تحصيل الماهية أي وقت كان؟
أو لا؛ نظرًا إلى تقييد الأمر بوقت، فبِانقضائه زال القيد، فلا بُدَّ مِن أمرٍ جديد يقتضي فِعله بعد خروج الوقت؟
فيه مذهبان:
الأول منهما: قول الحنابلة وأكثر الحنفية منهم أبو بكر الرازي، وبه قال عبد الجبار وأبو الحسين من المعتزلة، حكاه عبد العزيز في "الكشف" عن عامة أصحاب الحديث، وقال ابن الرفعة في "المطلب": (إنه ظاهر [كلام]
(1)
الشافعي في "الأم" في "باب الظهار" لَمَّا قاس بقاء الكفارة في الظهار المؤقت التي وجبت بالعَوْد فيه -وهو الوطء- على مسألتنا، إذ قال: كما
(1)
في (ص، ش): نص.
يقال له: "أَدِّ الصلاة في وقت كذا" أو "قبل وقت كذا"، فيذهب الوقت، فيؤديها؛ لأنها فرض عليه، وإذا لم يؤدها في الوقت وأدَّاها بعده، فلا يقال: زد فيها؛ لِذهاب الوقت قبل أن تؤديها). انتهى
إذ لو كانت بأمر جديد لَمَا قاس عليها الظهار.
أو المذهب الثانى،
(1)
هو الأصح وقول الأكثرين.
قال إمام الحرمين في "النهاية" في "باب صلاة التطوع": (إن القضاء عند الشافعي بأمر مجدد، ويؤيده نَصه في "الرسالة" على أن الصوم لا يجب على الحائض، وإنما وجب القضاء بأمر جديد). انتهى
وبذلك قال أكثر المحققين من أصحابنا، الصيرفي وابن القشيري. وممن نقله عن أكثر أصحابنا الشيخ أبو حامد وسليم وابن الصباغ وأنه الصحيح، وكذا صرح الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" بأنه الأصح، خلافًا لمن نقل عنه القول الأول كما وقع في "جمع الجوامع" لابن السبكي وفي شرحِه ["المختصر"]
(2)
.
وحُكي هذا القول أيضًا عن البصري من المعتزلة وعن الكرخي من الحنفية، وقال العالمي من الحنفية: إنه اللائق بفروع أصحابهم. وقال الباجي من المالكية: إنه الصحيح. ونقله عن القاضي أبي بكر وابن خويز منداد.
وقال عبد العزيز من الحنفية أنه مذهب أصحابهم، قال: لأن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط الوقت في الاعتداد بالمؤقت، فإذا انقضى الوقت، فليس في الأمر بالأداء أمر بالقضاء.
(1)
في (ت، ق): وهذا المذهب الثاني.
(2)
في (ص): للمختصر.
أَيْ: يستلزمه كما هو مُدَّعَى مَن يقول: (إنه بالأمر الأول)، إذ ليس مراده أنه عَيْن الأمر بالقضاء وإنْ كان الأصفهاني في "شرح المحصول" قال: إنهم يقولون بدلالته عليه بالمطابقة. ويساعده قول ابن برهان: إنَّ الخلاف هل بقيت العبادة بعد الوقت واجبة بالأمر السابق؟ أو وجبت بأمر جديد؟
لكن الصواب ما قدمناه من الاستلزام كما قرره المازري وغيره.
وفى المسألة مذهب ثالث حكاه الآمدي عن صاحب "التقويم": أنه يجب بالقياس على العبادات الفائتة التي دل الدليل على وجوب قضائها
(1)
. والجامع بينهما استدراك مصلحة الفائت.
وحاصله أن ما لم يُنقل فيه أمر بالقضاء يكون مأمورًا؛ قياسًا، لا بالأمر الأول ولا بأمر جديد.
ونُقل معنى ذلك عن أبي زيد الدبوسي، إذ قال: إن ذلك بقياس الشرع.
ومراده الاحتراز عن قياس التلازم المذكور في المنطق اقترانيًّا أو استثنائيًّا.
وقرر بعض المتأخرين القول بكون القضاء بالأمر الأول بأن الأمر بالأداء مع تَعلُّق العِلم القديم بأنه لا يقع معه الأداء لو لم يكن المراد به وجوب قضائه لكان تكليفًا بما لا يطاق.
قلتُ: ولا يخفَى فساد ذلك؛ لأن كل أمر إذا تَعلَّق علم الله بأنه لا يُفعل، لا يخرج بذلك عن كونه مأمورًا به. وهذا النوع من المُحال لا خلاف في التكليف به كما سبق تقريره في مسألة "التكليف بالمحال".
(1)
الإحكام للآمدي (1/ 159).
تنبيهات
الأول: المراد بخروج الوقت في هذه المسألة الخروج الذي يُحكم على العبادة حينئذٍ بأنها به تصير قضاء؛ ليخرج بذلك ما لو بقي من الوقت ما يَسَع ركعة كما سبق تقريره في موضعه.
الثاني: من المسائل المفرَّعة على هذه القاعدة: ما لو استأجر سَنة فمضت ولم يتسلم المستأجر، انفسخ العقد، ولا يجب بدلها سَنة أخرى اعتبارًا بالعقد الأول، بل لا بُدَّ من إنشاء عقد جديد للمدة الثانية إنْ أرادها.
الثالث: يستفاد من التعبير في المسألة بِـ "القضاء" أن ما لا يُسمى "قضاء" لا يجري فيه هذا الخلاف، وذلك في الأمر المطلق إذا قُلنا:(لِلْفَوْر) وفات الفور، فإنَّ فِعله بعده ليس [لكونه]
(1)
قضاءً عند الجمهور، خِلافًا للقاضي أبي بكر. وقد سبقت المسألة في: الأمر هل هو للفور؟ أوْ لا؟
أما إذا قلنا: (الأمر للتراخي)، فليس بقضاء قطعًا كما صرح به صاحب "المعتمد" وغيره.
ومنهم مَن يرتب مسألة "الأمر على الفور" على مسألة "القضاء"، ويقول: إن الغرض الإتيان بالمأمور به سواء أكان مؤقتًا أوْ لا.
الرابع: محل الخلاف في مسألة القضاء يرجع إلى أصلين:
أحدهما: الأمر بالمركب أمر بأجزائه، سواء أجزاؤه الذاتية وأجزاؤه الخارجية التقييدية.
الثاني: إن الأمر بالفعل في وقت معيَّن فيه دلالة على أن المصلحة في إيقاعه فيه حتى لو فات تفوت المصلحة، فيفوت المعنى في أصل الأمر به.
(1)
كذا في (ص، ض، ق)، لكن في (ش): ككونه.
فمَن لاحظ الأصل الأول، قال: القضاء بالأمر الأول؛ لأنه اقتضى أمرين، [فعدَم أحدهما يوجب]
(1)
بقاء الآخر بالأمر الأول.
ومَن لاحظ الثاني، قال: القضاء بأمر جديد؛ إذ الزمن الثاني قد لا يشرك الأول في تلك المصلحة. وإذا شككنا، لم يثبت وجوب الفعل إلا بأمر آخَر.
الخامس: المراد بالأمر الجديد: إجماع أو قياس حلي أو نَص [حيث]،
(2)
احتمل مجيئه، كلما استدل على الأمر الجديد بحديث:"مَن نام عن صلاة أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها"
(3)
. إذ لو لم يوجد هذا النَّص لَمَا كان لنا دليل [نَصِّي]
(4)
يدل عليه.
وإنْ كان هذا الحديث تَعلَّق به مَن يقول بالأمر الأول؛ لكونه [كالبيان]
(5)
لبقاء المأمور به في الذمة، لكنه تَعَلُّق ضعيف، والأصوب قَلْبُه عليه.
أما إذا فات حدوث النصوص، فلم يَبْقَ إلا القياسات أو الإجماع؛ لأن الوحي قد انقطع.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ق): تعذر أحدهما فوجب.
(2)
في (ق، ض): متى.
(3)
سنن الدارمي (1229)، مسند أبي يعلى (3086)، صحيح ابن حبان (1556)، المعجم الأوسط (6129)، وغيرها. وقال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 1554).
وأيضا: صحيح البخاري (رقم: 572) بلفظ: (من نَسِيَ صَلَاة فَلْيُصَلِّ إذا ذَكَرَهَا)، صحيح مسلم (رقم: 680) بلفظ: (من نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلّهَا إذا ذَكَرَهَا)، وفي المصنف لابن أبي شيبة (رقم: 3738) بلفظ: (فَمَنْ نَامَ عن صَلَاةٍ أو نسى صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكرهَا).
(4)
في (ش): مرضي.
(5)
في (ش): كالمثال.
السادس: مما يتعلق بهذه المسألة ما هو عكس المعنى فيها، وهو أن المكلَّف إذا أتى بالأمور به على الوجه المطلوب منه، هل يقتضي إجزاءه عنه؟ أو لا يقتضيه؟
وربما تُذكر [هذه]
(1)
المسألة عقب المسألة السابقة كما ذكرها في "جمع الجوامع" وأن الأصح أن الإتيان بالمأمور به يستلزم الإجزاء وإلا لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيًا إما لِما فُعِل وهو تحصيل الحاصل، وإما لغيره فالمجموع مأمور به فلَم يُفعل إلا بعضه، والفَرْض خِلافه.
والمخالف في المسألة أبو هاشم وعبد الجبار، قالا: لا يوجب الإجزاء كما لا يوجب النهي الفساد.
قال في "المنتهى": (إنْ أرادا أنه لا يمتنع أن يَرِد أمر بعده بمثله فمُسَلَّم، ويرجع النزاع إلى تسميته "قضاء"، وإنْ أرادا أنه لا يدل على سقوطه فساقط)
(2)
.
قيل: مرادهما الأول كما صرح به عبد الجبار في "العمد" حيث قال: لا يمتنع أن يقول الحكيم: افْعَل كذا، فإذا فعلتَ، أديتَ الواجب ويلزمك مع ذلك القضاء.
لكن الخلاف المذكور في هذه المسألة مبني على تفسير الإجزاء بسقوط القضاء، أما إذا فسرناه بسقوط التعبد، فالامتثال مُحَصِّل للإجزاء بلا خلاف.
فلأجْل ذلك حذفتُ هذه المسألة من النَّظم هنا، لأنها تفريع على ضعيف، وأيضًا فقد صرحتُ في المقدمة بالمسألة وأنَّ صحة العبادة ينشأ عنها الإجزاء، وسبق شرح ذلك هناك، [فراجِعْهُ]
(3)
. والله أعلم.
(1)
في (ق، ض): في هذه.
(2)
منتهى الوصول (ص 97)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى -1985 م.
(3)
في (ق): فراجعه هناك.
ص:
544 -
وَالْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِشَيْءٍ لَيْسَا
…
أَمْرًا بِهِ، فَلَا يُرَى مَقِيسَا
الشرح:
هذه المسألة (وهي: الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر للمأمور الثاني بذلك الشيء؟ أو لا؟ ) مفرَّعة أيضًا على قاعدة أن " [الأمر لطلب]
(1)
الماهية"، فإن الَاآر با لأمر إنما طلب إيجاد الأمر من [مأموره]
(2)
، لا الفعل مِن مأمور مأموره. ومَن يجعله أمرًا له إنما هو عنده بطريق الاستلزام؛ لأن الآمر بالأمر بالشيء لولا أنه [طالب]
(3)
لإيجاد المأمور الثاني له لَمَا أَمَر بالأمر له.
وبالجملة فالجمهور على أنه ليس أمرًا به، ونقل العالمي الحنفي عن بعضهم أنه أمر، ونصره العبدري وابن الحاج في شرحيهما على "المستصفى"، وقالا:
(هو أمر حقيقةً لغةً أو شرعًا؛ بدليل قول الأعرابي: "آلله أمرك بكذا؟ " فقال: "نعم". فَفَهم الأعرابي مِن أمر الله لنبيه أنْ يأمرهم بذلك أنهم مأمورون به). انتهى
وجواب ذلك أن معناه: آلله أمرك أن تُبلغنا أمره بذلك؟ إذ أوامر الرسول كلها تبليغ لأمر الله.
ونحوه استدلال الخصم أيضًا بنحو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، فإنه لا يُفهم منه إلا أمر الله تعالى لأهل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصلاة.
(1)
في (ق، ض): الأول طلب.
(2)
كذا في (ق). لكن في (ص، ش، ض): مأمور.
(3)
في (ق): طلب.
وجوابه كما أشار إليه ابن الحاجب في "مختصريه": بأن معنى أمره بأمرهم تبليغه أمر الله؛ [لقوله]
(1)
تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67]، فليس ذلك من مسألتنا في شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تبليغه يكون بأمره، فله علينا الأمر؛ ولهذا من صفاته صلى الله عليه وسلم وأسمائه "الآمر الناهي"؛ لقوله تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث المطلب بن حنطب:"ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه"
(2)
. ويسمى أيضًا "المحلِّل المحرِّم؛ لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157].
وأما غَيره فلا إمرة له على مَن يأمره، فلا يكون أمره تبليغًا لأمر مَن أمره أن يأمر.
أما مثال المسألة فأن يقول له: (مُر زيدًا يفعل كذا).
وقد مُثِّل فيما مثلوا به بما في "الصحيحين" وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لعُمر وقد طلَّق ابنُه عبد الله امرأته وهي حائض: "مُره ليراجعها"
(3)
، وفي رواية:"فليراجعها حتى تطهر"
(4)
الحديث.
وفي التمثيل به نظر؛ فإنه صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة وهو قوله: (ليراجعها) بلام الأمر، وإنما يكون مثالًا لو قال:(مُره بأن يراجعها)، فتَعيَّن أنْ يكون عمر مُبلغًا ليس
(1)
في (ص): كقوله.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 13221)، شعب الإيمان (2/ 67، رقم: 1185). قال الألباني: (هذا إسناد مرسل حسن). السلسلة الصحيحة (1803).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 4953)، صحيح مسلم (1471) بلفظ:(مُرْهُ فَلْيراجِعْهَا) ، (صحيح البخاري، رقم: 6741) بلفظ: (لِيراجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حتى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 4953)، صحيح مسلم (رقم: 1471).
إلا، فيكون كما لو قال له:"قل له: افعل كذا"، فإن الأول آمِر، والثاني مُبلغ بلا خلاف كما قاله ابن الحاجب في "المنتهى".
قلتُ: ولهذا في بعض طُرق الحديث: "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها"
(1)
.
والعجبُ ممن يستدل بذلك على أنَّ الأمرَ بالأمرِ أمرٌ، قال: بدليل ما جاء أنه أَمَره، فلولا أن الأمرَ با لأمرِ أمرٌ لَمَا قال:"أَمَره".
وجوابه أنه أمره بصيغة "ليفعل" بلام الأمر.
وكلام سليم في "التقريب" يدل على اختيار المذهب الضعيف، فإنه قال:(إذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أُمته بشيء فإن ذلك الشئ يجب فِعله عليهم من حيث المعنى، وهكذا إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الواحد من أُمته أن يأمر غيره بشيء، كان دالًّا على وجوب الفعل عليه، ويصير ذلك بمنزلة ورود الأمر ابتداءً عليه). انتهى
وأخذ بعضهم من قوله: (من حيث المعنى) أنه لا يُسمى "أمرًا" وإن قُلنا بأنه وجب عليه، وفيه نظر ظاهر.
ومن العجيب أيضًا تفريع وجوب المراجعة أو استحبابها على هذا الخلاف وأنَّ مَن قال بالوجوب فمِن حيث كون الأمر بالأمر أمًرا، ومَن قال بالاستحباب فلكونه ليس أمرًا.
فإن مَن يراه أمرًا قد يرى بعدم الوجوب؛ لانصرافه بقرينة كما لو كان أمرًا ابتدائيًّا، لاسيما ونحن بيَّنا أن فيه الأمر صريحًا.
وإنما مدْرَك الشافعي وأحمد والأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهم في القول بالاستحباب -خِلافًا لقول مالك وأصحابه بالوجوب- انصرافه بقرينة قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ
(1)
صحيح البخاري (رقم: 5022).
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فإنما يجامعه التخيير إذا حُمل على الندب" جمعًا بين الدليلين، وغير ذلك من الصوارف.
فإن قلتَ: فقد اتفق الأصحاب على الاستحباب، وهو دليل على أنَّ الأمرَ بالأمرِ أمرٌ على ما قررت مِن كون الأمر للأعم.
قلتُ: لِمَا ثبت من وجود الأمر الصريح في الحديث.
وأيضًا فهو في قوة الأمر بالتبليغ لِما فُهم من تشوُّف الشرع لذلك الفعل، ولهذا في بعض الطرق أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذكر له عمر ذلك، تغيَّظ فيه، ثم قال له:"مُره فليراجعها"
(1)
، فكما أنه [بلَّغه]
(2)
الواقعة أَمرَه أن يُبلِّغ الحكم.
ومما مُثل به المسألة أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام في الصبيان: "مروهم بالصلاة وهُم أبناء سبع"
(3)
. رواه أبو داود وغيره.
والتمثيل يقتضي أن يكون الصبي مأمورًا بأمر الشارع، والإجماع على أنه ليس مخاطَبًا بخطاب التكليف وإنْ جَرَى خلاف بين أصحابنا الفقهاء في أن الصبي مأمور بأمر الولي؟ أم بأمر الشارع؟ لكن الأرجح الأول، نظرًا إلى [المرجَّح]
(4)
في مسألتنا، وهو أن الأمر بالأمر ليس أمرًا، بل جُعِل هذا دليلًا عليه؛ لأنه لا يُتصور أن يُخاطَب.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
كذا في (ق، ض)، لكن في (ص، ش): بلغ.
(3)
مسند أحمد (6689)، سنن أبي داود (رقم: 495) وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 495).
(4)
في (ق، ض): الراجح.
والعجب من بعض الفقهاء أنه يجعل هذا محل الخلاف، قال: لأنه أمر [اصطلاحي]
(1)
، بخلاف:"مُره فليراجعها".
ومن المتأخرين من جعل الضابط في الحالين أنه إن قامت قرينة على إرادة التبليغ فهو أمر، وإلا فلا. وهو حَسَن.
قلتُ: من أمثلته السالمة مما سبق حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار: "مُري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليها"
(2)
. يعني: المنبر. أخرجه البخاري وغيره.
تنبيه: مما يلتحق بهذه المسألة ويشبهها في اعتبار استلزام الطلب فيكون أمرًا -مواضع:
أحدها: نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، فإن الأمر بالأخذ يتوقف على إعطاءهم تلك، فهل يكون أمرًا لهم بالإعطاء؟ أو لا؟
فيه خلاف حكاه ابن القشيري، فقال بعض الفقهاء: يجب عليهم الإعطاء؛ من حيث إنَّ الأمر بالأخذ يتوقف عليه، فيجب من حيث كونه مُقدمة للواجب، كالطهارة للصلاة وإنِ اختلف الفاعل هنا، فيكون كالأمر لهم ابتداءً.
وقال القاضي: يجب لا بهذا الطريق، بل بالإجماع؛ لأنه إذا وجب عليه الأخذ، فيأمر بالإعطاء، وامتثال أمره واجب.
الثانى: الأمر بإتمام [الشيء]
(3)
يتضمن الأمر بالشروع؛ ولهذا احتج أصحابنا على
(1)
كذا في (ق)، لكن في (ص، ش): استصلاح. وفي (ض): اصطلاح.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 437)، وفي صحيح مسلم (رقم: 544) بلفظ: (انْظُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ).
(3)
في (ض، ق، ش): شيء.
وجوب العمرة من القرآن بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
قلتُ: إن كان الأمر بالإتمام بعد الشروع فلا يكون أمرًا بالشروع؛ لأنه تحصيل الحاصل. وإن كان قبل الشروع فهو أمر بالأصل عُبر عنه بالإتمام، كما في:{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، لا من حيث إنَّ الأمر بالإتمام تضمنه.
ولهذا قال بعض أصحابنا: إن في الآية دليلًا على أنَّ وجوب الحج كان في السنة السادسة في الحديبية؛ لأن الأمر ورد ونزلت آيته حينئذٍ ولم يكونوا في حج حتى يؤمروا بالإتمام؛ فَتَعيَّن أن يكون أمرًا بأصل الحج عُّبر فيه بالإتمام.
وأما العمرة فإن كانت الآية نزلت وقد أحرموا بها فلا دليل على وجوب العمرة؛ لأن الشروع تحصيل الحاصل، والإتمام واجب وإنْ كان الابتداء تطوعًا؛ [لآن]
(1)
هذا حكم الحج والعمرة باتفاق. وإنْ لم يكونوا عند نزول الآية مُحْرمين بالعمرة فالأمر لأصل العمرة كما قلناه في الحج ولكن عُّبر بالإتمام فيهما.
الثالث: الأمر بصفة [شيء]
(2)
هل يقتضي الأمر بالموصوف؟
قال الشيخ أبو إسحاق: (نعم، كالأمر بالطمأنينة في الركوع والسجود يكون أمرًا بهما). قال: وغلطت الحنفية حيث استدلوا على وجوب التلبية في الإحرام بما رُوي أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مُر أصحابك ليرفعوا أصواتهم بالتلبية"
(3)
. فجعلوا الندب إلى الصفة -وهي رفع الصوت بها- دليلًا على وجوبها.
(1)
من (ص، ش).
(2)
في (ص): الشيء.
(3)
سنن ابن ماجه (رقم: 2923)، سنن النسائي (2753). قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 2752).
أي: فكيف يكون الأمر بالصفة للندب وهو يتضمن الأمر بالموصوف إيجابا؟
قيل: قد نقل غيره عن الحنفية عكس ذلك، فنقل بعض الحنابلة ذلك عن أحمد وأصحابه؛ لأن الأمر بها لَمَّا كان أمرًا بالموصوف، كان ظاهره الوجوب فيهما، فلما دل الدليل على صرف الأمر بالصفة عن الوجوب إلى الندب، بقي الأمر بالموصوف على وجوبه.
قال: (وقد تمسك به أحمد على وجوب الاستنشاق بالأمر بالمبالغة، قال: وقالت الحنفية فيما حكاه الجرجاني: لا يبقى فيه دليل على وجوب الأصل). انتهى
وقد استُفيد منه جواز دعوى الغلط في المقالة مِن أي قائل كان لما ظهر من مدرك هذه المقالة.
نعم، حرر ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" المسألة، فقال: الأمر بالصفة إنْ كان المراد به الإيجاد فهو أمر بالموصوف، أو أنه إنْ وقع الموصوف فليكن بهذه الصفة، فلا يقتضي وجوب الموصوف.
قال: وقد يحتمل الحال الأمرين، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أفشوا السلام بينكم"
(1)
يحتمل أن [يُراد]
(2)
: إنْ سلمتم فأفشوا، ويحتمل: أوجدوا الإفشاء بإيجاد السلام.
قلتُ: وعكس ذلك أن يَرِد الأمر بصفة مع موصوف ويكون الوجوب في أمر الصفة، لا في الموصوف كما قرر ذلك أصحابنا في حديث:"مَن أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجَل معلوم"
(3)
أن المراد: إيجاب كون الأجل معلومًا، لا إيجاب الأجل، وإلا لكان السلم لا يجوز إلا في مكيل وموزون، لا في مذروع ومعدود.
(1)
صحيح مسلم (رقم: 54).
(2)
كذا في (ص)، لكن في (ض، ق): المراد.
(3)
سبق تخريجه.
وقولي: (فَلَا يُرَى مَقِيسَا) أي: مساويًا للأمر الابتدائي، فإن "القياس" لغةً: المساواة والتقدير. والله أعلم.
ص:
545 -
وَآمِر بِمَا لَهُ تَنَاوَلَا
…
فَالْأَكْثرونَ: لَيْسَ فِيهِ دَاخِلَا
الشرح:
هذا من مباحث الأمر باعتبار متعلقه وهو الآمر والمأمور أنه هل من قضية الأمر تَغايُرهما حتى لو كان الأمر بلفظ متناوِل للآمِر لا يكون داخلًا؛ لِفَقْد التغايُر؟ أو لا حتى [يكون]
(1)
مأمورًا بذلك؟ فيه مذهبان:
أحدهما وهو قول الأكثرين: أنَّ الآمر لا يكون داخلًا في أمره. وهو ما رجحه ابن الصباغ من وجهين حكاهما. وسبقه إلى ترجيحه الشيخ أبو حامد وقال: القول بالدخول ظاهر الفساد. وبه أيضًا قطع الجرجاني في "كتاب الوصية"، قال: لأن الظاهر أن المأمور غيره.
بل ظاهر كلام الرافعي جزمًا والنووي نقلًا عن أصحابنا أنَّ المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولو كان غير آمرٍ وناهٍ. ففي "الروضة" فيما إذا قال: "نساء المسلمين طوالق"، ففي طلاق زوجته وجهان. ثم صحح من "زوائده" أنه لا يقع، وعلَّله بأن الأصح عند أصحابنا في الأصول أنه لا يدخل
(2)
.
وجزم الرافعي بنحوه أيضًا في الكلام على الكنايات، فقال: (إذا قال: "نساء العوالم
(1)
في (ص): لا يكون.
(2)
روضة الطالبين (8/ 34).
طوالق وأنت يا زوجتي"، لا تطلق زوجته؛ لأنه عطف على نسوة لم يطلقن)
(1)
. انتهى
وهو صريح في أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه.
نعم، نقل الإمام في "المحصول" عن الأكثرين عكسه، فقال: المتكلم يدخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثرين، سواء أكان خبرًا أو أمرًا أو نهيًا، كقوله تعالى:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقول القائل: مَن أحسن إليك فأكرمه، أو: لا تُهِنه
(2)
.
وجرى أيضًا ابن الحاجب على الدخول مطلقًا، فقال في مسائل العموم:(المخاطِب داخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثر)
(3)
إلى آخِر ما سبق من كلام الإمام.
والحقُّ أن الأكثرين في الأمر والنهي على عدم الدخول كما ذكرناه هنا وفي النهي، وأما في الخبر فالاكثرون على الدخول كما سيأتي في باب العموم.
وفي كلام الصفي الهندي ما يُشعر بهذا التفصيل تبعًا لأبي الحسين، خلافًا لمن نقل عن الهندي أنه يقول بالدخول مطلقًا، وسيأتي ذِكر كلامه بعد ذلك.
ووقع في "جمع الجوامع" اختلاف في الموضعين، فقال هنا: إن الآمِر يدخل في عموم متعلق أمره
(4)
. وفي "باب العموم": إنه لا يدخل إلا إذا كان خبرًا، لا أمرًا
(5)
.
أي: ولا نهيًا. ولَمَّا استُشكل عليه ذلك أجاب في "منع الموانع" بما لا يخلص عن الإشكال.
(1)
العزيز شرح الوجيز (8/ 534).
(2)
انظر: المحصول (2/ 132).
(3)
مختصر المنتهى (2/ 228) مع بيان المختصر.
(4)
جمع الجوامع (1/ 488) مع شرح المحلي وحاشية العطار.
(5)
جمع الجوامع (2/ 29) مع شرح المحلي وحاشية العطار.
قال شارحه شيخنا بدر الدين الزركشي: (إنه لو جمع بين كلاميه بأن المذكور في "باب الأمر" حيث كان الخطاب متناولًا له نحو: "إن الله يأمرنا بكذا"، ونحو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، والمذكور في "باب العموم" حيث لم يكن بلفظ يتناوله نحو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فلا يدخل فيه موسى عليه السلام؛ بدليل قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وموسى عليه السلام لا يظن به ذلك)
(1)
.
قال: (ورأيت هذا التفصيل لأبي الخطاب في "التمهيد"، وبه يزول الإشكال). انتهى
قلتُ: وفي ذلك نظر؛ لأن الصيغة إذا لم يمكن أن تكون شاملة للمتكلم فليس محل الخلاف، وإن كانت شاملة له فالحكم كما سبق من التفصيل بين الخبر وبين الأمر والنهي.
ويظهر ذلك مما سنذكره في محل الخلاف كما ذكره الهندي نقلًا عن أبي الحسين، وقال: إنه جيد. فلا حاجة لنقله عن "التمهيد".
قولي: (بِمَا لَهُ تَنَاوَلَا) إشارة إلى تحرير محل الخلاف، وهو أن يأمر غيره بلفظ عام متناوِل للآمِر. فخرج بذلك ما لو أمر نفسه وحدها، فإنه لا يقال في مثل ذلك: إنه بلفظ يتناوله. وذلك كأن يقول لنفسه: افْعَل كذا.
أو يُجرد مِن نفسه مخاطبًا ويأمره بشيء وهو في الحقيقة آمِرٌ لنفسه.
أو يأتي بلام الطلب مع فعل المتكلم، نحو:"قوموا فلأُصَلِّ لكم"
(2)
، ونحو ذلك، فلا خلاف في جوازه وأن المتكلم هو المراد به.
(1)
تشنيف المسامع (2/ 615).
(2)
سبق تخريجه.
ولكن هل يسمى ذلك [حسنًا]
(1)
؟
قال الهندي تبعًا لأبي الحسين: (الحقُّ المنع؛ لأن فائدة الأمر الإعلام بالطلب، ولا فائدة في إعلام الشخص نفسه)
(2)
.
قال: (وهل يسمى أمرًا؟ إنْ شرطنا الاستعلاء -أيْ: أو العلو- امتنع، وإنْ لم نشرطه فيحتمل المنع أيضًا؛ لأن المغايرة بين الآمِر والمأمور معتبرة)
(3)
.
وخرج مما لو أمر غيره بلفظ خاص بذلك الغير، فهذا غير متناوِل للمتكلم؛ فلا يدخل فيه قطعًا، وسواء في هذا أمر مِن قِبَل نفسه أو إخبار عن أمر غيره، نحو ما سبق في:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} .
وخرج ما لو بلغ أمر غيره لكن بلفظ عام يتناوله، كما لو قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله أمر بكذا" أو: "أمركم بكذا"، فإن شرعه عام له ولغيره إلا أن يدل دليل على خصوصه أو خصوص غيره، فإن هذا في حيز الخبر، فيكون داخلًا فيه على الخلاف الآتي في "باب العموم"؛ ولهذا قال ابن العارض المعتزلي بعد حكاية قولين فيه: إن الصحيح دخوله.
وفي كلام الهندي نقلًا عن أبي الحسين وقال: (إنه جيد): (مما يفصل في هذا القسم أن الإنسان إذا خاطب غيره بالأمر، فإنْ نقل كلام الآمِر في ذلك الغير كقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ، دخل؛ لأنه خطاب مع المكلفين، وهذا على سبيل التمثيل وإلا فالأنبياء لا تورث، وإن نقل [أمر غيره]
(4)
بكلام نفسه وهو يتناوله، دخل أيضًا؛ [لما
(1)
كذا في (ص، ض، ش)، لكن في (ق): حسا.
(2)
نهاية الوصول (3/ 1002).
(3)
نهاية الوصول (3/ 1002).
(4)
كذا في (ص)، لكن في (ض، ش، ق): ذلك.
يشمله]
(1)
، مثل: إن الله يأمرنا بكذا. وإنْ لم يتناوله، لم يدخل، مثل: إن الله يأمركم)
(2)
. انتهى
وهو عائد إلى التفصيل بين الأمر فلا يدخل والخبر فيدخل، فليس للهندي مخالفة.
نعم، زعم بعضهم أن الظاهر أن هذا محل وفاق، وكأنه يقول: إن الذي يُلحظ فيه محض التبليغ ينبغي أن يكون شاملًا قطعًا.
لكن الظاهر أنه لا فرق كما سيأتي بسطه في "باب العموم".
قولي: (وَآمِرٌ) مبتدأ سوغ الابتداء به -مع كونه نكرة- اختصاصه بمتعلقه، والخبر جملة قولي:(فَالْأكْثَرُونَ: لَيْسَ فِيهِ دَاخِلَا) أي: قائلون ذلك. أو: قال الأكثرون ذلك. و [الفاء لقصد]
(3)
العموم في المبتدأ.
تنبيه:
ذكر في "جمع الجوامع" مسألة النيابة هل تدخل في المأمور به؟ أي: حتى يفعله غير المأمور نيابة عن المأمور؛ لأن الغرض حصوله في الجملة، أوْ لا؛ لأن الغرض الابتلاء والاختبار، فيفعله بنفسه؟
فعُلقتها بالأصول -وإنْ كانت من الفروع الفقهية كما هي مبسوطة في كتب الفقه في "باب الوكالة" وغيرها - أن المخاطَب بالأمر هل هو مكلف بمباشرته بنفسه؛ أوْ لا؟ وتبع في ذلك كثيرًا من الأصوليين كالآمدي وغيره، لكن ذِكرها في الفقه أليق؛ فلذلك لم أذكرها
(1)
ليس في (ص). وفي (ش): بما يشمله.
(2)
انظر: نهاية الوصول (3/ 1002 - 1003)، المعتمد (1/ 137).
(3)
في (ق، ض): الباء ليفيد.
في النَّظم.
وعبارة الأمدي: (يجوز عندنا دخول النيابة فيما كُلِّف به من الأفعال البدنية، خلافًا للمعتزلة؛ تعلُّقًا بأن المطلوب من المأمور قهر النفس وكسرها، والنيابة تأبَى ذلك)
(1)
.
وأجيب بأن فيها أيضا بذل المئونة أو حمل المنة.
نعم، شَرْطُ المسألة أن لا يكون ثَمَّ مانع؛ لتخرج النيابة في الصلاة ونحوها.
والمسألة مبسوطة في الفروع، والله أعلم.
ص:
546 -
وَالْأَمْرُ في النَّفْسِ بِشَيْءٍ عُيِّنَا
…
نَهْيٌ عَنِ الضِّدِّ الْوُجُودِي بُيِّنَا
547 -
وُجُوبًا اوْ نَدْبًا يُرَى، لَا اللَّفْظِي
…
فَلَيْسَ عَيْنَ أَوْ ضَمِينَ اللَّفْظِ
الشرح:
هذه المسألة أيضًا من مباحث مدلول الأمر، وهي أن دلالة الأمر على طلب الفعل المأمور به قطعية، لكن هل على طلب ترك الكف عنه؟ أو فِعل يحصل به الكَف عنه؟ وهو المراد بقولهم: هل هو نهي عن ضده؟ أو لا؟
واعْلَم أنه قد سبق في الكلام في حد "الأمر" أنه إما أن يراد بالأمر نفس الطلب أو الصيغة الدالة على الطلب، فالكلام في هذه المسألة بكل من الاعتبارين.
فالأول: وهو الأمر النفساني الذي هو الاقتضاء والطلب، اختلف المثبتون للكلام
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 196).
[النفسي]
(1)
في كونه نهيًا عن ضد المأمور به أوْ لا - على مذاهب:
أحدها: أن الأمرَ بالشيء المعيَّنِ عَيْنُ النهي عن ضده الوجودي. وهو قول الأشعري والقاضي، ونقله في "التقريب" عن جميع أهل الحق النافين لخلْق القرآن، وأطنب في نُصرته، ونقله الغزالي في "المنخول" عن الأستاذ والكعبي، ونقله ابن برهان في "الأوسط" عن العلماء قاطبة، وقال صاحب "اللباب" من الحنفية: إنه قول أبي بكر الجصاص، وهو أشبه. وقال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": إنه قول المتكلمين، الأشعري وغيره.
قال الشيخ أبو حامد: بَنَى الأشعري ذلك على أن الأمر لا صيغة له، وإنما هو معنى قائم بالنفس، فالأمر عندهم هو نفس النهي من هذا الوجه. أي: فاتصافه بكونه أمرًا ونهئا كاتصاف الكون الواحد بكونه قريبًا من شيء بعيدًا من شيء.
قال الماوردي: الأمر له متعلقان متلازمان: اقتضاء إيقاع الفعل، واقتضاء اجتناب تركه، والترك هو فِعل آخَر هو ضد المتروك.
الثاني: أنه ليس عَيْن النهي ولكن يتضمنه ويستلزمه من طريق المعنى. وبه جزم القاضي أبو الطيب، ونصره الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة" وابن الصباغ في "العدة"، ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن أكثر أصحابنا وأكثر الفقهاء.
وقال ابن السمعاني: (هو مذهب عامة الفقهاء)
(2)
.
ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر أصحاب الشافعي، قال: وهو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا وإن لم يصرحوا به.
وقال إمام الحرمين وابن القشيري والمازري: إن القاضي أبا بكر مال إليه في آخِر
(1)
في (ص): النفساني.
(2)
قواطع الأدلة (1/ 123).
مصنفاته.
واختاره الإمام فخر الدين والآمدي وأتباعهما، وإنْ جعلوا الخلاف في الأمر الذي هو الصيغة لكن قصدهم مدلولها، فيؤول إلى ما ذكرناه.
الثالث: أنه ليس عَيْن النهي عن ضده ولا يقتضيه. ونُقل عن اختيار الإمام والغزالي وإلْكِيَا الطبري.
وحكاه خَلقٌ من الأئمة عن المعتزلة، وليس بجيد؛ فإن المعتزلة لا يُثبتون الكلام النفسي بل اللفظ، والكلام الآن ليس فيه.
وقال إمام الحرمين وإلْكِيَا: إنه الذي استقر عليه رأي القاضي آخِرًا.
وهذا غير ما سبق نقله عنه، فله أقوال مضطربة، وحكى الآمدي وابن الحاجب عنه النفي مطلقًا، وقول أنه يتضمنه، وأنه آخِر قوليه.
أما الأمر بالاعتبار الثاني -وهو صيغة الأمر- فلا يجري فيها المذهب الأول وهو كَوْنه عَيْن النهي عن الضد قطعًا إلا أن يُراد اتحاد مدلوليهما، فيعود إلى الأمر النفساني.
وإليه أشار الصفي الهندي إذ قال: (لا يمكن أن تكون صيغة: "تحرك" مَثَلًا هي عين صيغة: "لا تسكن"؛ فإن ذلك معلوم الفساد، بل مَن قال: "إن الأمر بالشيء نهي عن ضده" عَنَى أن المعنى المعَبَّر عنه بِـ "تحرك" عَيْن المعنى المعبَّر عنه بِـ "لا تسكن")
(1)
.
ويجري فيه المذهبان [الآخَران]
(2)
، لكن عند مَن يرى بأن الأمر له صيغة، لا سيما مَن يقول بأنه: لا أمر إلا الصيغ.
فقالت المعتزلة -ومنهم عبد الجبار وأبو الحسين- بالقول الثاني، وهو أن الأمر يتضمن النهى عن الضد.
(1)
نهاية الوصول (3/ 988).
(2)
في (ق): الأخيران.
قال الأَبياري: إنهم إنما ذهبوا إليه لإنكارهم كلام النفس، والكلام عندهم ليس إلا العبارات، ولم يمكنهم أن يقولوا: الأمر بالشيء عَيْن النهي عن ضده؛ لاختلاف الألفاظ قطعًا، فقالوا: يقتضيه، لأن مُريد الشيء كارِهٌ لضده، فكأنه نهَى عنه.
وقال بالقول الثالث فيه (وهو أنه لا يدل عليه أصلًا) قدماء مشايخ المعتزلة وكثير من أصحابنا، وهو المختار، وجزم به النووي في "الروضة" في "كتاب الطلاق"؛ لأن القائل:"اسْكُن" قد يكون غافلًا عن ضد السكون وهو الحركة، فليس عَيْنه ولا يتضمنه.
وهو معنى قولي في النَّظم: (فَلَيْسَ عَيْنَ أَوْ ضَمِينَ اللَّفْظِ)، أي: لفظ النهي ليس عَيْن لفظ الأمر ولا يتضمنه، فحذف المضاف إليه من الأول، لدلالة الثاني عليه. واللام في "اللفظ" للعهد، أي: لفظ الأمر بالشيء المتكلم عليه.
واختار الآمدي
(1)
أن يقال: إن جوَّزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيًا عن ضده ولا يستلزمه، بل يجوز أن يأمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة. وإنْ مُنِع فالأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده.
قال الهندي: (لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب)
(2)
.
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 192).
(2)
نهاية الوصول في دراية الأصول (3/ 993).
تنبيهات
الأول: محل الخلاف في الأمر بمُعين الذات والوقت كما قاله الشيخ أبو حامد وابن القشيري، وكذا قيد به القاضي عبد الوهاب مذهب الشيخ الأشعري، فإن الأمر على التخيير قد يتعلق بالشيء وضده، فيكون المأمور به أحدها لا بعينه، وهو مراد القاضي بتقييده بأن لا يكون له بدل.
وربما جمع بينهما تأكيدًا كما عبر به عبد القاهر البغدادي فقال: إنه إنما يكون نهيًا عن الضد إذا كان بلا بدل وتخيير. وأراد بالبدل في المخيَّر لا الرتب؛ لأن الرتب المطلوب فيه مُعَين.
وخرج بقولي: "مُعيَّن"[الوقت]
(1)
الموسَّع، فإنه يُترك في وقتٍ لِيفعل في آخَر، فلا يكون الأمر به نهيًا عن ضده، إلا أن يقال: ضده الترك من أول الوقت إلى آخِره، فلا حاجة لاستثنائه.
وهذا معنى قولي في النظم: (بِشَيْءٍ عُيِّنَا)، فإنه يشمل المعيَّن في نفسه وفي وقته.
وقولي بعده: (لَا اللَّفْظِي) أي: لا الأمر اللفظي بِقَيْده وهو التعيين، فهو قيد فيهما.
وفي "القواطع" لابن السمعاني اشتراط كونه على الفور، فإنَّ ما كان على التراخي لا يُنهَى عن ضده؛ لجواز التأخير، وكذا ذكره بعض الحنفية كشمس الأئمة وغيره.
وفيه نظر؛ لأن ضده تركه بالكلية كما سبق نظيره في الموسَّع، فحَقِّق ذلك.
الثاني: محل الخلاف أيضًا في الضد الوجودي كما قيدت به في النظم، وذلك أنه هو الذي من لوازم نقيض الشيء المأمور، كالأمر بالحركة هل هو نهي عن نفس السكون الذي
(1)
في (ق): الموقت.
هو ضِد لها؟ أَم لا؟
فإن لم يكن له إلا ضد واحد فالخلاف في النهي عنه، كصوم يوم العيد، الأمرُ بالفطر فيه نهى عن ضده وهو الصوم، ومِثله الأمر بالإيمان نهيٌ عن الكفر.
وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادًا من قيام وقعود وركوع وسجود ونحوها، ففي النهي عنه -إذا قُلنا: نهي عن ضده أو يستلزمه- هل المراد جميع أضداده؟ أو واحد منها لا بِعَيْنه؟
فيه خلاف حكاه عبد العزيز من الحنفية.
قلتُ: والظاهر الثاني.
أما النقيض فقيل: نهي عنه بلا خلاف، فالأمر بالحركة نهى عن انتفائها، وبالعكس.
قلتُ: إنْ أُرِيدَ العدم المحض فليس داخلًا تحت القدرة، سواء فيه المقابلة في نقيضين أو في عدم وملكة، لأنه إنْ نُظِر إليهما بشرط وجود موضوع قابل للأمرين، فَهُمَا العدم والملكة كالبصر والعمى. وإنْ نُظر إليهما لا بشرط موضوع مستعد لذلك، فَهُمَا السلب والإيجاب، كالإنسانية وعدم الإنسانية.
وإنْ أريد فِعل وجودي يُضاد المأمور به فهو ما سبق فيما إذا لم يكن له إلا ضد واحد، وهو داخل في محل الخلاف.
فينبغي أن يُقال: إن التحرز بالوجودي عن الفعل الذي هو كَف لا العدم، فقد قال الآمدي وغيره: الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن قطعًا.
الثالث: قولي: (وُجُوبًا اوْ نَدْبًا) إشارة إلى أن مورد الخلاف مطلقُ الأمر، سواء أكان أمر
إيجاب أَم أمر ندب. وبه صرح القاضي في "مختصر التقريب"، و [جعل]
(1)
النهي عن الضد في الوجوب تحريمًا وفي الندب تنزيهًا.
قال: وبعض أهل الحق خصَّص ذلك بأمر الإيجاب، لا الندب. وهو ما حكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن الشيخ، وأنه قال في بعض كتبه: إنَّ الندب حسنٌ وليس مأمورًا به، وعلى هذا القول لا حاجة لاشتراط الوجوب في الأمر؛ لأنه لا يكون إلا للوجوب.
ثم قال عبد الوهاب: والصحيح عندي لا فرق بين الوجوب والندب.
افيج: استُشكِل تصوير المسألة بأن الكلام إن كان في النفساني فإنه إلى الله تعالى، فالله تعالى بكل شيء عليم، وكلامه واحد بالذات، وهو أمر ونهي وخبر واستخبار باعتبار المتعلق. وحينئذٍ فأمر الله تعالى بالشيء عَيْن نهيه عن ضده، بل وعَيْن النهي عن شيء آخَر لا تعلق له به -كالأمر بالصلاة والصوم- هو عَيْن النهي عن الزنا والسرقة، فكيف يأتي فيه ذلك؟ !
وإن كان الخلاف بالنسبة إلى المخلوق فكيف يكون هو عَيْن النهي عن ضده أو يتضمنه مع احتمال ذهوله عن الضد مطلقًا؟ كما هو حُجة من قال: لا عَيْنه ولا يتضمنه كما سبق.
وجوابه: أن الكلام في "التعلق"، فهل متعلق الأمر بالشيء هو عين متعلق النهي عن ضده؟ أو مستلزم له؟ كالعلم المتعلق بمتلازمين: يمين وشمال، وفوق وتحت، وشبه ذلك.
وأما في اللفظي فهل يدل عليهما معًا؟ أو على واحد فقط؟
على أن القرافي والصفي الهندي والتبريزي في "التنقيح" جزموا بأن الخلاف في المسألة في اللساني فقط، وأنه لا يتأتى في كلام الله تعالى أنه غيره.
(1)
كذا في (ص)، لكن في سائر النسخ: حمل.
قال الهندي: لا على رأْي مَن يرى تَعَدُّد كلام الله تعالى.
يريد تنويعه باعتبار المتعلق كما قدمناه. فإن كان مراد مَن خصص بغير كلام الله تعالى لِمَا فيه مِن الاتحاد في ذاته، فليس بينهم وبين الناس خلاف.
فإن قيل: على كل حال إنما يُتكلم في أصول الفقه في الأمر اللفظي، فَلِمَ تفرض المسألة في هذا العِلم في النفساني؟ وما فائدتها في هذا الفن؟
قلتُ: لأن اللفظي فرع النفسي؛ لدلالته عليه، فإذا وُجد، أَشْعَر بما يتعلق بالنفسي مِن كَوْنه عَيْنه أو ضمينه، وتأتي حينئذٍ الفائدة بوجود اللفظي.
الخامس: عكس هذه المسألة، وهو أن النهي عن الشيء هل هو أمر بضده؟ يأتي الكلام عليه في موضعه وهو مسائل النهي.
وقد خرج على القاعدة -[مما]
(1)
يتعلق بالأمر باعتبار الصيغة- مسائل:
منها: ما قاله العلامة شهاب الدين محمود الزنجاني في كتابه "تخريج الفروع على الأصول" بعد أن قرر أن مذهب الشافعي أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده وأن النهي ليس أمرًا بالضد، خلافًا للأصوليين من أصحاب أبي حنيفة:
(إنَّ التخلي للعبادة أفضل من الاشتغال بالنكاح، خلافًا لهم، لأن النكاح يتضمن ترك الزنا، والزنا منهي عنه نهي تحريم، لكن لَمَّا كان هذا يؤدي إلى قولهم بوجوب النكاح التزموه فيما إذا تركه جميع عُمره، فإنه يعاقب في الآخِرة)
(2)
. ولكنه مردود بما محله كتب الفقه.
ومنها: ما قاله الزنجاني أيضًا: (إرسال الطلقات الثلاث مباح عندنا، خلافًا لهم. قالوا: لأن الأمر بالنكاح نهي عن قَطْعِه بالكلية، والثلاث هي قَطْعه وقَطعْ مصلحته بالكُلية،
(1)
في (ص، ش): فيما.
(2)
تخريج الفروع على الأصول (ص 252).
بخلاف الطلقة والطلقتين فإنه قَطْعٌ لكن لا بالكُلية).
قال: (فلئن قُلنا: النكاح عند تنافر الأخلاق يصير مفسدة، فلَم يتضمن قَطْع مصلحة. قالوا: النكاح لا يصير مفسدة لا باعتبار ذاته ولا ما يختص به من الأحكام، وإلا [لامتنعت]
(1)
شرعيته)
(2)
. انتهى
قلتُ: هذا حيث لا معارض أرجح، وإلا فيُعمل بالمعارِض، وقد يكون في الطلقات الثلاث مصلحة ترجح على عِصمة تلك المرأة، لا مطلقًا.
ومنها: ما قاله الرافعي في "الشرح الصغير" تفريعًا على الخلاف في القاعدة: (لو قال لها: "إنْ خالفت نهي فأنت طالق" ثم قال لها: "قومي" فقعدت)
(3)
.
وسيأتي في "باب النهي" في مسألة "النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده" الكلامُ على ذلك مبسوطا. والله أعلم.
ص:
548 -
ثُمَّ إذَا تَبَاعَدَ الْأَمْرَانِ
…
أَوْ مَا تَمَاثَلَا، هُمَا غَيْرَانِ
549 -
فَإنْ تَعَاقَبَا مَعَ التَّمَاثُلِ
…
وَمَانِعُ التَّكْرَارِ غَيْرُ حَاصِلِ
550 -
وَذَلِكَ الثَّاني بِعَطْفٍ، عُمِلَا
…
بِالْكُلِّ، أَوْ بِدُويهِ فَاحْتَمَلَا
الشرح:
من مباحث الأمر أنه إذا تَعدد، هل يلزم فيه تَغايُر المطلوب وتعدده؟ أو لا؟ وقد جعلته خمسة أقسام:
(1)
في جميع النسخ: لامتنع. والتصويب من (تخريج الفروع على الأصول، ص 253).
(2)
تخريج الفروع على الأصول (ص 253).
(3)
العزيز شرح الوجيز (9/ 141).
وذلك أن الأمرين إذا كانا من آمِر واحد:
- فإما أن يكونا في وقتين غير متعاقبين، بل بينهما فصل طويل بسكوت ونحوه، سواء أكانا بمأمور واحد أو لا.
- أو يكونا متعاقبين إلا أنهما بمأمورين متغايرين.
- أو يكونا متعاقبين إلا أنهما متماثلان، ولكن منع مانع مِن تَكرُّر المطلوب بهما.
- أو في التماثل كذلك ولكن لم يمنع من التكرار مانع، وهو إما بعطف أو بغير عطف.
فالأول وإليه أشرت بقولي: (تبَاعَدَ الْأَمْرَانِ)، أي: فهُما متغايران، وتغايُرهما قيل: بلا شك.
وفيه نظر؛ فإن الخلاف محكي فيه كما سيأتي نقلًا عن الصيرفي.
والثاني: وهو مما إذا تعاقَبَا لكن بمتغايِر، فهُما غَيْران أيضًا، كـ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
والثالث: أن يتعاقبا ويتماثلا وهناك مانع من التكرار عادي أو غيره، فهو متحد قطعًا. وهذا القِسم خارج من مفهوم القِسم الذي يأتي بعده.
وهو قولي: (وَمَانِعُ التَّكرَارِ غَيْرُ حَاصِل)، أي: أما إذا كان مانع التكرار حاصلًا، فالاتحاد قطعي؛ لأجل المانع.
فمِن الموانع: أن يستحيل عقلًا تكرره، كـ "اقتل زيدًا، اقتل زيدًا".
أو شرعًا، كـ "أَعْتق فلانًا، أعْتق فلانًا" حيث لا يمكن عتقه مرتين، بخلاف ذِمي التحق بدار الحرب ثم استرق، فإنه يمكن تكرر العتق فيه مرارًا.
ومنها: أن يكون مستغرقًا، كـ "اجلد الزناة، اجلد الزناة" أو "اجلد الزناة، اجلد زيدًا الزاني".
وأمَّا ما حكاه القاضي عبد الوهاب من قولي بالتغاير كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] أي: لأن التقدير "وحافظوا على الصلاة الوسطى" فإنه يجب أن تكون الوسطى غير الصلوات المذكورة، فذاك خلاف في أنه [دخل]
(1)
؟ أو لا؟ . وكلامنا فيما إذا كان داخِلًا قطعًا.
نعم، حكَى خلافًا فيما إذا كان الثاني أعم كَـ "اقتل أهل الأوثان، واقتل جميع المشركين"، قال: والصحيح أنه لا يقتضي المغايرة، بل ذلك للتفخيم والبدأة بما هو الأهم.
ومنها: أن تكون العادة في مِثله المَرَّة، نحو:"اسقني ماء، اسقني ماء"، فإنَّ دفْع الحاجة في ذلك غالبًا بِمَرَّة.
ومنها: تعريف الثاني، فإنه يقتضي إرادة الأول، لا غيره، نحو:"صَلِّ ركعتين، صَلِّ الركعتين"؛ لظهور العهد فيه؛ ولهذا حمل ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6] العُسر الثاني على الأول، حتى قال: لن يغلب عُسرٌ يُسْرَين.
ومنها: أن يكون بين الآمِر والمأمور عهد ذهني، فإنه يقتضي الاتحاد.
والرابع: وهو ما إذا تعاقبَا وتماثلا ولا مانع من التكرار، ولكن الثاني معطوف على الأول، نحو:"صَلِّ ركعتين، وصَلِّ ركعتين"، فهما غَيْر ان؛ لاقتضاء العطف المغايَرة، هذا مع [أن]
(2)
التأسيس هو الأصل، فرجحت المغايرة من وجهين، وهذا أرجح القولين في المسألة.
(1)
في (ت، ق): داخل.
(2)
ليس في (ض، ق، ت).
وهو معنى قولي: (عُمِلَا بِالْكُلِّ). وقد حكى القولين القاضي عبد الوهاب، وقال: إن التعدد هو الذي يجيء على أصول أصحابهم. بل قطع كثير هنا بالتعدد؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه. قاله الباجي وصاحب "الواضح"، وبه جزم ابن الصباغ في "العدة"، إلا أنه قال: إن ذلك حيث لم يكن في المعطوف ألِف ولام، فإنْ كان ففيه خلاف، فقيل بالاستئناف، لأن العطف يقتضي المغايرة، والألف واللام تقتضي الاتحاد
(1)
، فتساويَا، ووُقِف.
قيل: والأرجح التعدد؛ لأن كون العطف يقتضي التغايُر وإنْ كان مُعارَضًا بلام التعريف لكن يبقى كون "التأسيس هو الأصل" مُرجِّحًا سالِمًا مِن المعارضة.
نعم، اعتُرض بأن هذا أيضًا يعارضه براءة الذمة، فيبقى العطف، ويعارضه أحد الأمرين، فيبقى سالمًا من المعارضة، وهو يقتضي التأكيد.
وعلى هذا فتدخل هذه الصورة في مفهوم قولي: (وَمَانِعُ التكرَارِ [ليس حَاصِلًا])
(2)
فإن مانع التكرار فيها حاصل، فاعْلَمه.
الخامس: ما إذا تماثلا وتعاقبا من غير عطف، نحو:"صَلِّ ركعتين، صَلِّ ركعتين". وقد ورد هذا في حديث عبد الله بن مغفل في "البخاري" بلفظ: "صَلِّ قبل المغرب، صَلِّ قبل المغرب"، ثم قال في الثالثة:"لمن شاء"
(3)
. ورواه ابن حبان بلفظ: "صَلِّ ركعتين، صَلِّ
(1)
عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 2/ 125): (فَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقِيلَ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ).
(2)
كذا في جميع النُّسخ. والذي في النَّظم: غَيْر حاصِل.
(3)
صحيح البخاري (1128، 6934) بلفظ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ"، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ").
ركعتين"
(1)
.
فهذا فيه ثلاثة مذاهب، قال بكل منها خلائق؛ فلذلك لم أذكر في النظم ترجيحًا، بل قلتُ:(أَوْ بِدُويهِ فَاحْتَمَلَا)، أي: فاحتمل أن يقال بالتعدد، وأن يقال بالاتحاد. وهُما وجهان لأصحابنا حكاهما الشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي وغيرهما.
وقيل: يوقف.
فنقل قول الاتحاد -وهو كونه تأكيدًا له- عن أصحابنا الأستاذ أبو منصور، ونسبه ابن فورك والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ للصيرفي، وهو كذلك؛ فقد نَص عليه في كتاب "الدلائل والأعلام"
(2)
، بل زاد على ذلك فصححه فيما إذا لم يتعاقب الأمران. فمقتضاه أنه من محل الخلاف، وأنه مِثل المتعاقبين.
وعبارته: (متى خوطِبنا بإيجاب شيء وكُرِّر، لم يتكرر الفعل بتكرر الأمر، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} في مواضع كثيرة، والدليل عليه حديث الأقرع بن حابس في الحج). انتهى
وبه جزم أبو الخطاب الحنبلي في "تمهيده"، ونقل قول التعدد ابن الصباغ عن أكثر أصحابنا، وصححه الشيخ أبو إسحاق وإلْكِيَا الهراسي.
(1)
سنن أبي داود (رقم: 1281)، صحيح ابن حبان (رقم: 1588) بلفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى قبل المغرب ركعتين، ثم قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ". ثُمَّ قَالَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ: "لمِنْ شَاءَ").
قال الألباني في (التعليقات الحسان: 1586): (شاذ بذكر صلاته صلى الله عليه وسلم). وانظر: السلسلة الضعيفة (5662)، السلسلة الصحيحة (233).
(2)
في (ص): الدلائل والإعلام. لكن ذكر البعض أن اسمه: "دلائل الأعلام على أصول الأحكام" أو: "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام".
وقال ابن برهان: إنه قول الجمهور. وحكاه الهروي عن الأكثرين، ونسبه الأستاذ أبو منصور لأهل الرأي مع أنه قطع بالأول.
وقال الباجي أنه قول جماعة من شيوخهم وأنه ظاهر مذهب مالك.
قال: وإليه ذهب عامة أصحاب الشافعي.
وأما قول الوقف -وهو أنه لا يُحمل على التأكيد ولا على التكرار إلا بدليل- فنسبه الباجي لابن فورك، وهو كذلك؛ ففي كتابه: إنه الصحيح.
وحكاه ابن القشيري وغيره عن الواقفية، قال:(وكلام القاضي متردد، فتارة يميل إلى الوقف، وهو الصحيح عنه، وتارة يقول بأنه يقتضي إنشاءً متجددًا). انتهى
وممن حكى الوقف عن القاضي: أبو الحسين البصري.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويمكن تخريج هذين الوجهين من قول الشافعي في الفروع في "أنت طالق أنت طالق" ولا نية له: هل يقتضي التأكيد؟ أو الاستئناف؟ قولان.
ولم يرجح ابن الحاجب من الأقوال الثلاثة شيئًا، وجرى على عدم الترجيح أيضًا صاحب "جمع الجوامع" وإنْ كان قال في "شرح المختصر":(إن القول بالعمل بهما هو قول الأكثرين مِنا ومن غيرنا)
(1)
.
قؤلي: (هُمَا غَيْرَانِ) حذفت الفاء فيه؛ للضرورة، والأصل:"فهما غيران" على حد: من يفعل الحسنات الله يشكرها.
وهو جواب عن الصورتين المذكورتين.
(1)
رفع الحاجب (2/ 565).
تنبيهات
الأول: لا يخفَى أن محل هذه المسألة إذا لم نَقُل في الأمر الواحد: إنه يقتضي التكرار، بل إما للمرة، وإما لا للتكرار ولا للمرة، وهو الأرجح كما سبق.
ولا أن محلها أيضًا ما إذا لم يمتثل الأمر الأول، بل جاء الثاني قبل امتثاله، وإلا فهو مغاير قطعًا.
الثاني: نقل ابن القشيري عن القاضي أن فرض الكلام في الأمر الصادر من الخلْق، فلا يبعُد التفصيل بين المتعاقب وغيره. فأما أوامر الله تعالى فلا فرق؛ ولذلك جاز التخصيص.
قال ابن القشيري: وفيه نظر؛ فإن المتصل بنا من أوامر الله تعالى هو العبارات الدالة عليه، فأي فرق؟ ولو صح هذا لَصَحَّ تأخير المستثنى عن المستثنى منه.
الثالث: إذا تكرر المأمور به دون صيغته، نحو:"صَلِّ ركعتين ركعتين"، قال السبكي في "شرح المختصر":(فلم أَرَه مُصرحًا به في الأصول، والظاهر أنه لا فرق، فإنه قول الأكثرين فيما لو قال: "أنت طالق طالق" أنه مِثل "أنت طالق" في التفصيل والحكم، خلافًا لقول القاضي حسين: إنه يقع به طلقة واحدة قطعًا)
(1)
.
الرابع: مما يتفرع على المسألة في بعض الأقسام السابقة لو قال الموكِّل -الذي له زوجتان فأكثر- لوكيله: "طَلِّق زوجتي، طَلِّق زوجتي"، أو مَن له عبيد:"أَعْتِق عبدي، أعتق عبدي"، هل له تطليق ثنتين وإعتاق عبدين؟ أوْ لا؟
بل يجري في الواحدة إذا كان طلاقها رجعيًّا، فينبغي مراجعة نَقْلٍ في ذلك، فبعض المتأخرين قال: إنه لم يحضره نَقْل في ذلك.
(1)
رفع الحاجب (2/ 565).
والتخريج فيه على ما قُلناه ظاهر، والله أعلم.
ص:
551 -
وَصِيغَةُ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ
…
حَقِيقَةً، كَآبَةِ الْيَتِيمِ
الشرح:
لما فرغت من مباحث الأمر، انتقلت إلى مباحث النهي، وقد سبق حَدُّه وصيغته.
فمن مسائل النهي: أن صيغته تَرِد لمعانٍ كما في صيغة الأمر، لكن منها ما هو حقيقة وما هو مجاز، فأشرتُ إلى أن الحقيقة هي دلالتها على التحريم، وذلك مثل قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
وهو معنى قولي: (كَآيَة الْيَتِيمِ)، وهذا على أصح المذاهب التي سنذكرها إذا فرغنا من بقية معاني الصيغة وأمثلتها، والله أعلم.
ص:
552 -
وَلكَرَاهَةٍ مَجَازًا في {وَلَا
…
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}، ذَاكَ [نُقِلَا]
(1)
553 -
[كَذَاكَ لِلْإرْشَادِ]
(2)
في {لَا تَسْأَلُوا}
…
وَللدُّعَاءِ {لَا تُزِغْ} فَيُقْبَلُ
554 -
وَمِثْلُهُ أَيْضًا بَيَانُ الْعَاقِبَهْ
…
{لَا تَحْسَبَنَّ} لِلشَّهِيدِ وَاجِبَهْ
555 -
وَالِاحْتِقَارُ، نَحْوُ {لَا تَعْتَذِرُوا}
…
{وَلَا تَمُدَّنَّ} لِتَقْلِيلٍ أُرُوا
(1)
كذا في (ص، ش، ن). لكن في (ت، ض، ق): مثلا.
(2)
كذا في (ص، ش، ن 1، ن 4). لكن في (ض، ت، ق، ن 2): كذلك الإرشاد. وفي (ن 3): كذلك للارشاد. وفي (ن 5): كذاك في الارشاد. والوزن يصح في الجميع ما عدا (ن 3).
556 -
قُلْتُ: وَممَّا أَهْمَلُوهُ التَّسْوِيهْ
…
وَآيَةُ الْأَمْرِ الْمِثَالُ فَاسْوِيَهْ
الشرح:
أي: وتَرِد صيغة النهي مجازًا لهذه المعاني:
أحدها: الكراهة، وهو الثاني من معاني صيغة النهي مطلقًا، وربما عُبِّر عنه بنهي التنزيه، وبكراهة التنزيه.
مثاله قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].
قال الصيرفي: لأنه حثهم على إنفاق أطيب أموالهم، لا أنه [يحرم]
(1)
عليهم إنفاق الخبيث من التمر أو الشعير من القوت، وسبب النزول أنهم كانوا يعلقون الأقناء في المسجد للصدقة، فربما علقوا الحشف.
قال: فهو المراد هنا بالخبيث، لا الحرام الذي في نحو قوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وربما مُثِّلت الكراهة بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وبقوله تعالى:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، أي: على عقدة النكاح، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول"
(2)
، وذلك كثير.
الثالث: الإرشاد، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، والمراد: الدلالة على أن الأحوط ترك ذلك. كذا مَثَّل به إمام
(1)
في (ت، ض، ق): محرم.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 153)، صحيح مسلم (رقم: 267) واللفظ لمسلم.
الحرمين، قيل: وفيه نظر، بل هو للتحريم.
قلتُ: الذي يظهر قول الإمام؛ فإن الأشياء التي يسأل عنها السائل لا يعرف حين السؤال هل [تؤدي]
(1)
إلى محذور؟ أو لا؟ ولا تحريم إلا [بالتحقق]
(2)
.
ومنهم مَن يمثله بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا"
(3)
.
قال الرافعي في "باب الهبة": (هذا إرشاد، ومعناه: لا تعمروا طمعًا في أن يعود إليكم، فإن سبيله سبيل الميراث)
(4)
. فما تقولونه لغو.
وبالجملة فهذه الأمثلة ونحوها النهي فيها لمعنى دنيوي، فكان إرشادًا، ولا امتناع أن يكون أيضا أمرًا شرعيًّا كما نَص عليه الشافعي في نظيره مِن الأمر، وقد سبق ذِكره؛ ولهذا وقع التردد في النهي عن "الماء المشمس" هل هو دِيني؟ أو إرشادي؟ كما بُيِّن ذلك في الفقه.
الرابع: الدعاء، نحو:{لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وقولي: (فَيُقْبَل) استئناف على وجه التفاؤل بقبول هذا الدعاء.
الخامس: بيان العاقبة، كقوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية في الشهداء؛ فلذلك قلتُ: (لِلشَّهِيدِ وَاجِبَهْ)، أي: نازلة في الشهيد مُبَينة لعاقبته.
(1)
في (ص): يؤدي.
(2)
كذا في (ص، ش)، لكن في (ت، ق): بالتحقيق.
(3)
سنن أبي داود (رقم: 3556)، سنن النسائي (3731) وغيرهما، بلفظ:(لَا ترقبوا، ولا تعمروا). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3556).
(4)
العزيز شرح الوجيز (6/ 312).
و [مثله]
(1)
قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42].
السادس: الاحتقار، نحو:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] الآية، والمراد: تحقير شأن المخاطَب بهذا النهي.
السابع: التقليل، كقوله تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131]، أي: إنَّ ذلك قليل لا يلتفت إليه، وهذا غير التحقير السابق، فإن ذلك لتحقير المخاطب، وهذا التحقير شيء في المخاطب به.
فمَن يمثِّل بهذه الآية للتحقير فليس بجيد، وكذا مَن يجعلهما واحدًا ويمثِّل بها لهما كما فعل الأَرْدبِيلي في "شرح منهاج البيضاوي"، ووافقه شيخنا بدر الدين الزركشي في "شرح جمع الجوامع" وشرحَهما فيه على أنهما واحد.
نعم، التمثيل به هو ما في "البرهان" لإمام الحرمين، ولكن فيه نظر؛ فإن النهي في الآية للتحريم، فإن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم تحريمه عليه.
ويستدل أصحابنا له بذلك، إلا أن يجاب بأنه لم يخرج عن كونه فيه تقليل أو تحقير من حيث هو، وهو حيمئذ عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره وإنْ كان بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم حرامًا. فقد اشتمل النهي على التحريم باعتباره، وعلى التقليل أو التحقير من حيث هو عام له ولغيره، فليُتأمَّل.
الثامن: التسوية، ولم أر مَن ذكره، وهو أَوْلى بالذكر من كثير مما ذكروه، ويمثَّل له بقوله تعالى:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16]؛ لأن المراد التسوية في الأمرين.
وهو معنى قولي: (آيَةُ الْأَمْر الْمِثَالُ فَاسْوِيَه)، أي: في هذه الآية التي يمثَّل بها لأمر
(1)
في (ق، ت): منه.
التسوية المثال لنهي التسوية، والمراد صيغة الأمر وصيغة النهي، وإلا فمع التسوية لا أمر ولا نهي حقيقة.
وأصل قولي: (فَاسْوِيَهْ) فَاسوه، أي: اسوه معه. فإثبات الياء فيه كإثبات الألف في قول الشاعر: (ولا ترضاها ولا تملق)، وحركت؛ للضرورة، وفتحت؛ لأنه أخف.
تنبيهان
الأول: هذا ما ذكرته في النظم من المعاني، ومما أأذكره فيه: منها: ورودها للأدب، كقوله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
ولكن هذا راجع للكراهة؛ إذِ المراد: لا تتعاطوا أسباب النسيان، فإن نفس النسيان لا يدخل تحت القدرة حتى يُنهَى عنه.
ومنها: التحذير، كقوله تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
ولكن هذا أيضًا راجع للتحريم؛ إذِ المراد: ولا تتركوا الإسلام، بل أديموه إلى الموت حتى لا تموتوا إلا وأنتم مسلمون.
ومنها: اليأس، كقوله تعالى:{لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66].
وقد يقال: إنه راجع للاحتقار؛ فلهذا مَثَّل بعضهم له بذلك كما سبق.
ومنها: إيقاع الأمن، كقوله تعالى {وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31].
ولكن هذا راجع إلى الخبر، كأنه قيل: أنت لا تخاف. وسيأتي الكلام على ورودها للخبر.
ومنها: الالتماس، نحو قول المساوي للمساوي: لا تفعل كذا. وقد سبق نظيره في "الأمر" وأنه مَنعْ بمنزلة التحريم، ولكنه لا أثر له؛ لأن المتكلم به ليس ممن يَمنع ولا
يُوجِب.
ومنها: الخبر، ومثَّله الصيرفي بقوله تعالى:{لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
وهو عجيب؛ فإنه لو كان نهيًا لحذفت النون، فهو خبر لفظًا ومعنًى [بعجزهم]
(1)
عن ذلك.
أما ورود الخبر بمعنى النهي فكثير، كقوله تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، أي: لا ترتابوا -على أحد التآويل.
وذُكِرت أقسام أُخَر فيها نَظَر، أضربتُ عنها في هذا الشرح أيضًا.
الثاني:
كون صيغة النهي حقيقةً في التحريم مجازًا في غيره هو أصح المذاهب كما في نظيره في "الأمر" أن صيغته للوجوب حقيقة وما سواه مجاز. فإذا تَجَرَّد النهي عن القرائن، حُمِل على التحريم. وهذا ما تظاهرت عليه نصوص الشافعي وأصحابه.
ففي "الرسالة" في "باب العلل في الأحاديث" ما نَصه: (وما نهى عنه فهو على التحريم حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد غير التحريم). انتهى
وفي "الأُم" في "كتاب صفة الأمر والنهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ": "إن كل ما نهى عنه فهو محرم حتى تأتي دلالة أنه بمعنى غير التحريم). انتهى
ونَص عليه أيضًا في "أحكام القرآن"، ولهذا قال الشيخ أبو حامد: قطع الشافعي قوله بأن النهي للتحريم قولًا واحدًا حتى يَرد ما يَصْرفه، وله في الأمر قولان.
(1)
في (ق، ت): لعجزهم.
ثاني المذاهب: أنه حقيقة في الكراهة، وربما عُبِّر عنه بأنه للتنزيه، ونظيره في "الأمر" أن يكون للندب.
ثالثها: أنه مشترك بين التحريم والتنزيه.
ورابعها: الوقف، وعُزي للأشاعرة.
وما ذكر من بقية المذاهب في "الأمر" لا يجري هنا وإنْ أمكن جريان بعض ذلك، لكن لم يُنقل؛ ولهذا عَيَّن ابن الحاجب هذه الأربعة، وظاهر ذلك أنه لعدم جريان غيرها.
نعم، إذا قُلنا: حقيقة في التحريم، فهل هو بالشرع؟ أو اللغة؟ أو المعنى؟
فيه الخلاف السابق في "الأمر".
وحكى القرافي هنا قولًا بالإباحة، وأنكره بعضهم عليه، وإنما قال الغزالي في "المنخول":(إن مَن حمل الأمر على الإباحة ورَفْع الحرج حمل هذا على رفع الحرج في ترك الفعل)
(1)
.
وقال أبو زيد في "التقويم": لم أقف على الخلاف في حكم "النهي" كما في "الأمر". فيحتمل أنه على الاختلاف فيه.
وقال البزدوي: إن المعتزلة قالوا بالندب في الأمر، وقالوا بالتحريم في النهي؛ لأن الأمر يقتضي حُسن المأمور به، والواجب والمندوب داخلان في اقتضاء الحسن، بخلاف النهي، فإنه يقتضي قُبح المنهي عنه، والانتهاء عن القبيح واجب.
والله أعلم.
(1)
المنخول (ص 126).
ص:
557 -
فَإنْ [تَكُنْ]
(1)
بَعْدَ الْوُجُوبِ وَرَدَتْ
…
تَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ فِيمَا قَدْ ثَبَتْ
الشرح:
اعْلَم أنه قد سبق في الأمر مسائل يقع النظر في كون النهي مِثله فيها أوْ لا، تعرضتُ في النظم لطائفة منها.
فمنها هذه المسألة، وهي أن صيغة النهي إذا وردت في شيء قد كان واجبًا إلى حين ورودها، هل يكون سَبْق الوجوب قرينةً تُبيِّن أنَّ النهي خرج عن حقيقته وهو التحريم؟ أوْ لا؟
وهي مَبنية على مسألة: الأمر بعد الحظر. إنْ قُلنا: يستمر على الوجوب، فهنا يستمر على التحريم مِن باب أَوْلى، وإنْ قُلنا: هو هناك قرينة، فهنا طريقان:
أحدهما: القطع بعدم كون الوجوب السابق قرينة صارفة عن التحريم، وبها قال الأستاذ أبو إسحاق والغزالي في "المنخول" وحكيَا الإجماع على ذلك.
الثاني: طرد ما يمكن طرده من خِلاف الأمر، كالقول بأنه للإباحة.
ومنهم مَن قال: إنه للكراهة. وهو مذكور في "مسودة"[بني]
(2)
تيمية عن حكاية القاضي أبي يعلى منهم.
وفيها قول آخر: إنه هنا رفع الوجوب، فيكون نسخًا، ويعود الأمر إلى ما كان قبله.
(1)
في (ش، ت، ق، ن 5): يكن.
(2)
في (ض، ق، ت): ابن.
قلتُ: لكنه لا يخرج عما سبق، فإنَّ الوجوب إذا نُسخ، هل يبقى الجواز بمعنى رفع الحرج؟ أو الإباحة؟ أو الاستحباب؟ فيه خلاف سبق وسيأتي في "باب النسخ" أيضًا.
وقد حكى ابن فورك الطريقين: القطع، وإجراء الخلاف، وقال: الأشبه التسوية.
ومنع إمام الحرمين [الاتفاق]
(1)
، وطرد الوقف هنا بناء على اعتقاده أن لا فرق بينهما. لكن قد فرق غيره بوجهين:
أحدهما: أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك، وهو على وَفْق الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل. وحمل الأمر على الوجوب يقتضي الفعل، وهو على خلاف الأصل.
ثانيهما: أن النهي لدفع المفسدة والأمر لتحصيل المصلحة، واعتناء الشارع بِدَرْء المفاسد أشد مِن جَلْب المصالح.
وفَرْق ثالث: وهو أن الإباحة أحد محامل "افْعَل"، بخلاف "لا تفعل".
وأَوْرَد ابن الحاجب الخلاف على وجه ليس بجيد يحتاج لتأويل إن أمكن.
تنبيه:
هل يجري هنا في ورود النهي بعد الاستئذان وشبهه ما سبق في ورود الأمر بعده؟ وَرد فيه مواضع متباينة بدليل من خارج أو بحسب ما يدل السياق عليه.
فما هو على التحريم: حديث المقداد: "أرأيت إن لاذ مني بشجرة بعد أن قالها -أي: كلمة الإيمان- أفأقاتله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا"
(2)
. أي: لا تقاتله، وحديث: "أينحني بعضنا
(1)
في (ق، ت): من الاتفاق.
(2)
صحيح البخاري (3794)، صحيح مسلم (رقم: 95).
لبعض إذا التقينا؟ قال: لا"
(1)
. وحديث بيع الرطب بالتمر بعد قوله: "أينقص الرطب إذا جف؟ " فقيل: نعم. قال: "لا"
(2)
.
ومما ليس للتحريم: حديث: "أَنُصَلي في مبارك الإبل؟ قال: لا. أَنُصَلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم"
(3)
. فإن النهي هنا للكراهة. وحديث سعد بن أبي وقاص: "أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا "
(4)
الحديث.
نعم، صرح القاضي الحسين بأن الوصية بما زاد على الثلث حرام.
وعبارة الرافعي: (لا ينبغي أن يوصي بأكثر من الثلث)
(5)
. فظاهره: أنه نهي إرشاد؛ بدليل: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة"
(6)
. وأيضًا فإن الورثة قد تجيز الوصية، فتحصل الوصية بالزائد على الثلث. والله أعلم.
(1)
سنن ابن ماجه (رقم: 3702)، سنن الترمذي (رقم: 2728) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 2728).
(2)
سنن أبي داود (رقم: 3359)، سنن النسائي (4546)، سنن ابن ماجه (2264)، وغيرها، ولفظ أبي داود:(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ " قالوا: نعم. فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك).
قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3359).
(3)
صحيح مسلم (رقم: 360) بلفظ: (قال: أُصَلِّي في مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قال: نعم. قال: أُصَلِّي في مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قال: لَا).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 1233)، صحيح مسلم (رقم: 1628).
(5)
العزيز شرح الوجيز (7/ 22).
(6)
صحيح البخاري (رقم: 1233)، صحيح مسلم (رقم: 1628).
ص:
558 -
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الدَّوَامَ مَا لَم
…
[يَكُنْ]
(1)
لَهُ الْمَرَّةُ قَيْدًا زَاحَم
الشرح:
من المسائل التي يخالف النهي فيها الأمر: أن النهي يقتضي الدوام مطلقًا، بخلاف الأمر على ما سبق من القول الراجح فيه.
وقطع كثير في النهي بذلك، كالصيرفي وأبي إسحاق الشيرازي، بل نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد وابن برهان وأبو زيد في " التقويم ".
والفرق بينه وبين الأمر أن له حدًّا ينتهي إليه، فيقع الامتثال فيه بالمرة، وأما الانتهاء عن المنهي عنه فلا يتحقق إلا [باستيعابه]
(2)
في العمر، فلا يُتصور فيه تكرار، بل استمرار به يتحقق الكَف.
نعم، نقل القاضي عبد الوهاب قولًا أنه كالأمر في اقتضاء المرة، وأنَّ القاضي أبا بكر وغيره أجروه مجَرى الأمر في عدم الاستيعاب.
وممن نقل ذلك عن القاضي: أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وإنْ كان المازري نقل عنه خلاف ذلك. قيل: وهو الصواب.
وفي "أدب الجدل" للسهيلي أن القول باقتضائه الاجتناب في الزمن الأول وحده مما لا تجوز حكايته؛ لضعفه وسقوطه.
(1)
في (ق، ت، ن 2، ن 3، ن 4): تكن.
(2)
كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ش، ض): باستيفائه.
وممن نقل الخلاف أيضًا الآمدي وابن الحاجب، واختار الإمام في "المحصول" أنه لا يقتضي التكرار مطلقًا.
فتَحَصَّلنا على ثلاثة مذاهب، ثالثها: يقتضيه مرة عقب تعلُّق النهي.
تنبيهات
الأول: هذا في النهي المطلق، أما المقيد بشرط أو صِفة ففيه الخلاف السابق في الأمر باقتضائه للتكرار، وأولى بعدم اقتضائه للتكرار؛ ولهذا فرق إلْكِيَا بين النهي المقيد بشرط أو صفة فلا يقتضي التكرار، وبين النهي المطلق فيقتضيه.
ولهذا حكاه صاحب "الواضح" عن أبي عبد الله البصري تسويةً بينه وبين الأمر في حال [التعلق]
(1)
، بخلاف الأمر، قال: كما إذا قال لعبده: (اسقني الماء إذا دخل زيد الدار)، فيكتفَى بمرة، ولا يجب أن يسقيه كلما دخل زيد الدار.
الثاني: يؤخذ من كون النهي للدوام أنه للفور؛ لأنه مِن لازِمه؛ فلذلك لم أذكره في النظم؛ ولهذا قالوا: لا يُتصور مجيء الخلاف في كون الأمر للفور هنا.
وقال أبو حامد: إنه يقتضي الفور على المذهب بلا خلاف.
وحكى ابن عقيل الحنبلي عن القاضي أبي بكر أنه لا يقتضيه.
وقال ابن فورك: يجيء الخلاف في النهي إنْ قُلنا: الأمر يقتضي التكرار بظاهره. وإنْ قُلنا: لا يقتضيه الأمر إلا بدليل، فكالأمر في الخلاف في الفور.
وقال الإمام الرازي: إنْ قُلنا في الأمر: "يقتضي التكرار" فهو للفور، أو لا فلا.
(1)
في (ق): التعليق.
ونازعه النقشواني والأصفهاني في بناء عدم وجوب الفور على عدم اقتضاء التكرار؛ لجواز أن لا يقتضي التكرار ويقتضي الفور.
الثالث: قد عُلم أن اقتضاء النهي الدوام ليس بالوضع، بل [بالضرورة]
(1)
في اجتناب المنهي عنه، فلذلك لم أَقُل في النَّظم: إنه يدل على الدوام، بل يقتضيه، أي: بطريق اللزوم لامتثال النهي.
وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَرَّةُ قَيْدًا زَاحَمْ) معناه أنه إنما يقتضي الدوام إذا لم يكن قُيد بمرة واحدة. كما لو قيل: (لا تفعل هذا مرة فقط)، فإنه حينئذٍ يتقيد بالمرة قطعًا، ولا يجري فيه خلاف.
ومعنى "زَاحَمْ": عارَض مع إطلاق النهي. والله أعلم.
ص:
559 -
وَالنَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ أَمْرَا
…
بِأَحَدِ الْأَضْدَادِ لَيْسَ يَعْرَى
الشرح:
هذه المسألة مما يتساوى فيه الأمر والنهي على المختار، فكما أن الأمر النفسي بشيء مُعَين نَهْي عن ضده الوجودي -كما سبق- يكون النهي النفساني عن شيء مُعيَّن أمرًا بأحد أضداده الوجودية، لأن الامتثال لا يتحقق إلا بذلك.
ولم نُعِد هنا القيود المذكورة هناك، اختصارًا، فينبغي أن تُستحضر.
فإذا لم يكن للمنهي عنه إلا ضد واحد فهو مأمور به قطعًا، كالنهي عن الكفر، فإنه أمر
(1)
في (ف): لضرورة.
بالإيمان، والنهي عن الصوم أَمْرٌ بالإفطار، ونحو ذلك.
وإنْ كان له أضداد فلا يكون مأمورًا بالكل قطعًا.
وهل يكون مأمورًا [بأحدها]
(1)
؟
فيه طريقان مشهوران:
أحدهما: أنه مأمور به قطعًا، ولا يجري فيه الخلاف السابق في الأمر، وهي طريقة القاضي في "التقريب"؛ لأن دلالة النهي على مقتضاه أقوى من دلالة الأمر على مقتضاه؛ لأن مطلوب النهي فِعل الضد وهو تَرْك المنهي، ولا بُدَّ من حضوره في ذهنه، فإحضار الضد في جانب النهي أَوْلى منه في جانب الأمر؛ ولأن النهي يستدعي درء مفسدة، والأمر جلب مصلحة، واعتناء الشرع بدرء المفاسد أكثر من [اعتنائه بالآخَر]
(2)
.
الطريقة الثانية: إجراء الخلاف الذي في الأمر وإن كان نهيًا عن جميع الأضداد عند القائل به كما سبق.
وهو ما قاله إمام الحرمين في "البرهان" والقاضي عبد الوهاب في "الملخص" وابن السمعاني في "القواطع" وسليم في "التقريب"، إلا أنه قال: يكون متضمنًا للأمر بأحد أضداده.
وكذا حكى ابن برهان في "الأوسط" عن العلماء قاطبةً أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده. ونقله صاحب "اللباب" عن الشافعي وعن عامة أصحابهم الحنفية.
ومُقَابِله قول أبي عبد الله الجرجاني: إنه لا يقتضي أمرًا بها.
(1)
في (ت، ق، ض): بأحدهما.
(2)
كذا في (ص، ش). ويحتمل في (ص): اعتنائه بالأجر. لكن في (ض، ت، ق): اغتنام الأجر.
ومَن تَردد قوله في أن الأمر عَيْن النهي عن الضد أو يتضمنه -كالقاضي كما سبق- طريقته هنا كذلك.
وكذا قال ابن الحاجب بعد نقل القولين عنه في الأمر: (وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما)
(1)
. أي: في الرأيين المنقولين عنه في "الأمر".
إلا أن كلامه يتضمن حكاية طريقة ثالثة: أن النهي ليس أمرًا بضد قطعًا، وأن الخلاف إنما هو في الأمر هل هو نهي عن ضده؟ أو لا؟
وذلك ظاهر من قوله: (ثم اقتصر قوم، وقال القاضي: النهي كذلك فيهما). أي: في أنه عَيْنه أو يتضمنه، أي: اقتصر قوم على أن الأمر نهي عن ضده، ولم يقولوا به في النهي، فلا يكون أمرًا بأحد أضداده.
ثم قال في أثناء الاستدلال تعبيرًا عن هؤلاء: (الفارُّ مِن الطَّرْد) إلى آخِره.
لكن قال السبكي في "منع الموانع" أنه لم يجد له في هذه الطريقة مستندًا مِن معقول ولا منقول.
قال: ولا رأيتها فيما رأيت مِن كتب الأصول، ولا أدري من أين أخذها؟
قال: ولَعَله أخذها مِن قول بعض الأصوليين في الاستدلال على أن الأمر ليس نهيًا عن ضده: "كما أن النهي ليس أمرًا بضده"، فكأنه مُقاس عليه؛ للقَطعْ فيه بذلك. لكن ليس [فيه]
(2)
صراحة؛ لاحتمال أن يُراد ذِكر المسألتين معًا، واختيار النفي فيهما، لا لكون إحداهما أصلًا للأخرى. ولا عُلْقة له أيضًا بما سيأتي من الفرعين في الفقه الآتي بيانهما؛ لِمَا سنقرره من أن الفارق بينهما إنما ادُّعِيَ مساعدة العُرف له فيه، لا لهذا المعنى.
(1)
مختصر المنتهى (2/ 48) مع (بيان المختصر).
(2)
في (ص): له.
قال: ولهذا حذفتها في "جمع الجوامع".
تنبيهات
الأول: قيل: التحقيق في هاتين المسألتين في الأمر والنهي ما أشار إليه أبو نصر القشيري أن معنا مقامين:
- كون الأمر نهيًا عن الضد، وعكسه.
- وكون المأمور منهيًّا عن الضد، وعكسه. وكذا الآمِر والناهي.
فأما الثاني: فنقل القاضي فيه الإجماع وأنه لا شك فيه.
قال ابن القشيري: وأنا لا شك أنه ممنوع، أي: لأن ما يقال في الأمر والنهي يقال مِثله في المأمور والآمِر والمنهي والناهي.
وأما الأول فلا سبيل إلى القول به مع تجويز عدم خطوره بالبال، وعلى تقدير خطوره فيه فليس الضد مقصودًا بالذات، بل لضرورة تحقُّق المأمور به.
ولكن هذا مردود بما سبق.
الثاني: ظاهر كلام الأصوليين أن هاتين المسألتين ليستا مقصورتين على صيغَتي الأمر والنهي، بل كيف قُدِّر أمر ونهي ولو في ضِمن خبر أو فِعل للرسول صلى الله عليه وسلم أو إجماع أو قياس أو غير ذلك مما بيَّناه في أقسام الحكم في المقدمة في تفسير "الاقتضاء".
بل وغالب مسائل هذا الفصل في الأعم من الأمر والنهي بصيغتهما أو بغيرها.
وقد سبق طرف من ذلك في الخلاف في صيغة الأمر هل هي حقيقة في الوجوب فقط؟ أو لا؟ ولهذا يذكر كثير من الأصوليين المسألة في تقسيمات الحكم كما ذكرها هناك الإمام -وأتباعه كالبيضاوي- مُعبِّرًا بأن وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه.
الثالث: وقع في كلام أصحابنا في الفقه مسألتان قد تتفرعان على هذه القاعدة، ووقع فيهما اضطراب شديد، نذكرهما باختصار، وهُما:
إذا قال لامرأته: (إن خالفتِ أمري فأنت طالق) ثم قال لها: (لا تكلمي زيدًا)، فكلمته، لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه، لا أمره.
ولو قال: (إن خالفتِ نهيى فأنت طالق)، ثم قال لها:(قومي)، فقعدت، الأظهر عند الإمام وغيره أنه لا يقع، لكن كلام "الروضة" يقتضي عكسه، وعليه جرى البارزي في "التمييز".
وهو مُشْكل؛ لأنه إنْ عمل بالقاعدة، فالمرجح فيها استواؤهما، خلافًا للطريقتين الأخيرتين كما سبق وإنِ اقتضى كلام الرافعي في "الشرح الصغير" تفرعهما على القاعدة، وإنْ لم يعمل بالقاعدة بل عمل بالعُرف كما أشار إليه الغزالي في "الوسيط" في الفرع الأول من كون أهل العُرف يَعُدُّونه مخالفًا للأمر، أي: حتى تطلق وإن كان ذلك خلاف قول الجمهور. ومنعوا العُرف فيه؛ إما لاضطرابه وإما لكون العُرف لا يَعُدُّ الأمر نهيًا ولا النهي أمرًا.
وأما مِن جهة اللغة فقد سبق أن لفظ الأمر ليس عَيْن النهي قطعًا ولا يتضمنه على الأصح، فأشكل الفرق بين الفرعين.
ولبسط القول فيهما موضع أَليَق من هذا، والله أعلم.
ص:
560 -
وَمَنْ نَهَى بِمَا لَهُ تَنَاوَلَا
…
فَإنَّهُ كَالْأَمْرِ لَيْسَ شَامِلَا
الشرح:
هذه المسألة موافقة لنظيرها في الأمر، وهي أن المتكلِّم بالنهي الشامل له هل يكون
داخلًا فيه؟ أوْ لا؟
الصحيح المنع كما سبق نظيره في الأمر، وبيَّنا ذلك مبسوطًا، فلينظر من هناك، والله أعلم.
ص:
561 -
وَمُطْلَقُ النَّهْيِ وَلَوْ تَنْزِيهَا
…
فِيمَا سِوَى عِبَادَةٍ أَوْ فِيهَا
562 -
لِدَاخِلٍ أَوْ لَازِمٍ مُفِيدُ
…
شَرْعًا فَسَادَهُ، وَذَا التَّقْيِيدُ
563 -
يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ بَدَا
…
مِنْ خَارِجٍ، كَالْبَيْعِ في وَقْتِ النِّدَا
564 -
وَكطَلَاقِ حَائِضٍ، وَكَالَّذِي
…
صَلَّى بِمَغْصُوبٍ، وَمثْلٍ فَاحْتَذِي
565 -
وَالشَّكُّ في اللَّازِمِ كَالْيَقِينِ
…
أَلْحَقَ ذَاكَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ
الشرح:
من مباحث النهي أنه: هل يقتضي الفساد في المنهي عنه إذا فُعِل؟ أوْ لا؟
وفيه هذا التفصيل المذكور على المختار من الأقوال، وهو أن النهي:
- إما أن يكون لِعَيْن ذلك الشيء، كالنهي عن الزنا؛ حِفظًا للأنساب، والنهي عن اللواط؛ لأنه في غير محل [النسل]
(1)
الذي شُرع الوطء لأجْله.
- فيما أن يكون لخلل في جزء الماهية، كالنهي عن بيع حَبل الحبلة؛ لجهالة المبيع أو أجل الثمن على التفسيرين المشهورين فيه.
وكلا هذين القسمين أردتُ بقولي: (لِدَاخِلٍ).
(1)
في (ق، ض): القبل.
- وإما أن يكون لأمر خارج عن ماهية المنهي عنه، لكنه لازِم له، كبيوع الربا.
فهذه الثلاثة النهي فيها يدل على فسادها إذا فُعِلت؛ إذ لو لم يَقْتَضٍ الفساد لَفاتت حِكمة النهي عنه، وأيضًا فلم تَزَل العلماء تستدل على الفساد بالنهي في الربويات والأنكحة وغيرها شائعًا ذائعًا من غير نكير؛ فكان إجماعًا سكوتيًّا، وسواء ذلك في العبادات والإيقاعات، كإيقاع الطلاق والعتق ونحو ذلك، والمعاملات ونحوها.
نعم، هل يدل على فساد ذلك من جهة الشرع؟ أو وضع اللغة؛ لأن صيغته تدل على عدم المشروعية؟
قولان حكاهما القاضي في "التقريب" وكذا ابن السمعاني، ونقل عن طائفة من الحنفية ثالثًا: أنه يقتضيه من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ؛ لأن النهي يدل على قُبح المنهي عنه، وهو مضاد للمشروعية. قال: وهو أَوْلى.
وعلى المختار -وهو الأول- جريتُ في النظم، فقلتُ:(شرعًا) كما جرى عليه ابن الحاجب وغيره؛ إذ ليس في اللغة ما يدل على سَلْب أحكام المنهي عنه، وإنما يستفاد ذلك من الشرع. وأما كونه قبيحًا فإنَا لم نَعلم قُبحه إلا بالشرع.
وقولي: (وَذَا التَّقْيِيدُ) إلى آخِره -إشارة إلى المقابل للأقسام الثلاثة السابقة، وهي أن يكون النهي عنه لا لذاته ولا لجزء داخل فيه ولا لأمر ملازم له، بل لأمر خارج غير لازم، وإنما هو مجاور له فقط، غير متصل به، فلا يقتضي الفساد لا في عبادة ولا في إيقاع ولا في غيرهما؛ ولهذا مَثَّلت بثلاثة أمثلة:
الأول من المعاملات، وهو البيع في وقت النداء للجمعة؛ لقوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ لأنه أمر في معنى النهي، وسبق أن المراد هنا ما هو أَعَم مِن النهي بصيغته وغير صيغته، فالنهي فيه راجع إلى تفويت الجمعة، وليس لِعَيْن البيع ولا لِجُزْئه ولا لِلَازِم له.
ومثله النهي عن تَلَقِّي الركبان وعن بيع الحاضر للبادي، خلافًا لمن زعم أن النهي لخارج لازم، حتى أنه استشكله على القاعدة، ولا إشكال؛ لأن النهي فيه إنما هو للتضييق على أهل البلد ببيعه قليلًا قليلًا ونحو ذلك.
والمثال الثاني من الإيقاعات: طلاق الحائض، فإنه لتطويل العدة؛ فلذلك لو كانت حاملًا وقُلنا:"إن الحامل تحيض" وكانت تلك الأدوار لا تنقضي بها عِدة المطلق فإنه لا يكون الطلاق بِدْعيًّا.
ومثله إعتاق الراهن العبد المرهون إذا كان مُوسِرًا، فإنه ينفذ وإن كان منهيًّا عنه؛ لأنه لِتعلُّق حق المرتهن.
والمثال الثالث من العبادات: الصلاة في الدار المغصوبة، ونحوه الوضوء من إناء الذهب والفضة والاستنجاء بهما، وأمثال ذلك.
وهو معنى قولي: (وَمِثْلٍ فَاحْتَذِي)، أي: وبمثل ذلك احتذِ، أي: اطلُب حذو ذلك. هذا قول الأكثرين في القِسمين، ووراء ذلك خلاف نذكره مبسوطًا في المنهي عنه لِعينه أو لجزئه.
وحاصل ما فيه مذاهب:
أحدها: المختار كما سبق أن النهي يدل على الفساد مطلقًا، سواء أكان المنهي عنه عبادة أو معاملة. وهو رأي الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأهل الظاهر وطائفة من المتكلمين كما نقله القاضي في "مختصر التقريب" وابن فورك والأستاذ أبو منصور.
وقال الشيخ أبو حامد: (إنه مذهبنا الذي نَص عليه الشافعي وأكد القول فيه في "باب البحيرة والسائبة" أن النهي إذا ورد مجردًا، اقتضى فساد الفعل المنهي عنه. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأهل الظاهر وكافة أهل العلم). انتهى
وكلامه في مواضع من "الرسالة" يدل عليه، ومَن تَأمل استدلاله بالآيات والأحاديث عَلم ذلك، كاحتجاجه في النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة على فسادها، وكقوله:(وكل موضع خَلَا عن الولي والشهود والرضا من المنكوحة الثيب فين فاسدًا؛ لأنه أخلَّ بشيء مما سَنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه)
(1)
. وكما ذكره مِن نحو ذلك في "بيع الغرر".
وقال ابن السمعاني: إنه الظاهر من مذهب الشافعي وإن عليه أكثر الأصحاب.
وقال أبو زيد الدبوسي -من الحنفية- أنه قول علمائهم؛ لأن القبيح لِعَيْنه لا يشرع لِعَينه. وقال: سواء قَبُحَ لعينه وضعًا أو شرعًا، كالنهي عن بيع الملاقيح، والصلاة بغير طهارة.
الثاني: لا يدل على الفساد أصلًا، ويحتاج الفساد إلى دليل غير النهي. وهو قول الأشعري والقاضيين أبي بكر وعبد الجبار، وزاد ابن برهان نَقْله عن أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، واختاره من أصحابنا القفال الشاشي وأبو جعفر السمناني والغزالي، وحكاه عن جمهور المتكلمين
(2)
، وإلْكِيَا الطبري عن أكثر الأصوليين، وصاحب "المحصول" عن أكثر الفقهاء، والآمدي عن المحققين. قال الشيخ أبو إسحاق: وللشافعي كلام يدل عليه.
ولهذا قال المازري: أصحاب الشافعي يحكون عنه القولين.
ونَص الغزالي على أن الاعتماد على فساده إنما هو على فوات شرط، ويُعْرف الشرط بدليل يدل عليه، وعلى ارتباط الصحة به.
وحكى جماعة -آخِرهم الصفي الهندي- إطلاق حكايته عن الحنفية. والصواب أن خِلافهم إنما هو في المنهي عنه لِغَيره كما سيأتي، أما المنهي عنه لِعَينه فلا يختلفون في فساده،
(1)
الرسالة (ص 344).
(2)
عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 2/ 167): (وحكاه القاضي عن جمهور المتكلمين).
وبه صرح أبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة" كما سبق آنفًا نَقْلُه عنه، وكذا قال شمس الأئمة السرخسي في "أصوله"، وقرره عنهم ابن السمعاني وهو أثْبَت؛ لأنه كان أولا حنفيًّا.
الثالث: أنه يدل على الفساد في العبادات دون العقود. وبه قال أبو الحسين، وحكاه ابن الصباغ عن متأخري أصحابنا، وحكاه الهندي عن اختيار الغزالي والإمام الرازي، لكن آخِر كلامه في "المستصفى" يقتضي قولا آخَر يأتي ذِكره، و [كذا]
(1)
ذكر في كُتبه الفقهية ما يقتضي خلاف ذلك.
فنَصُّه في "الوسيط": (عندنا مطلق النهي عن العقد يدل على فساده، فإن العقد الصحيح هو المشروع، والمنهي عنه لعينه غير مشروع، بخلاف ما نُهي عنه لمجاوِرِه، كالبيع في وقت النداء)
(2)
.
ثم قسم المناهي في البيع إلى ما لا يدل على الفساد، كالنجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي، وإلى ما يدل على الفساد إما لخلل في رُكنه أو شرطه وإما لأنه لم يَبْقَ للنهي تَعلُّق سوى العقد، فحُمل على الفساد، كبيع حبل الحبلة والحصاة وبيوع الغرر
(3)
. انتهى
وأما المنهي عنه لخارج لكنه وصف لازم فكالذي قبله على الأصح في اقتضاء الفساد، وذلك كالربا، فإنه لوصف الزيادة المقارن للعقد اللازم له، وكصوم يوم النحر وأيام التشريق؛ لكونها أيام ضيافة الله، وهذا معنى لازم لها.
ومقابِل الأصح قولٌ ثانٍ: إنه لا يقتضي الفساد مطلقًا، وعزاه ابن الحاجب للأكثرين.
وقول ثالث عن الحنفية: إنه يدل على فساد الوصف لا الموصوف المنهي عنه؛ لكونه
(1)
في (ق، ض، ت): كذا.
(2)
الوسيط (3/ 63).
(3)
الوسيط (3/ 63 - 70).
مشروعًا بدون الوصف. وبنوا على ذلك ما لو باع درهمًا بدرهمين ثم طرحا الزيادة أنه يصح العقد.
قلتُ: ومن هنا يُعلم أن ما يُنقل عنهم في الفرق بين الفاسد والباطل أن "الباطل" ما لم يُشرع بأصله ولا وَصفه، و"الفاسد" ما شُرع بأصله دُون وَصفه -أن مرادهم أن الباطل هو المنهي عنه لعينه أو لجزئه، والفاسد هو المنهي عنه لوصف لازم لكن يكون الفساد راجعًا للوصف لا للموصوف، خِلافًا لِمَا يتبادر للفهم من الحكم على الأصل بالفساد.
ومن هنا يُعلم أيضًا وَجْه ما قاله الهندي وابن فورك: إن محل الخلاف إنما هو في الفساد بمعنى البطلان، لا على معنى تفرقتهم بين الفساد والبطلان.
فائدة:
رد الشافعي رضي الله عنه هذا القول بأن النهي عن الشيء لوصفه يضاد وجوب أصله. فقال ابن الحاجب: (أراد أنه يضاده ظاهرًا). لا قطعًا، وإلا لَوَرَد عليه نحو الصلاة في أعطان الإبل والأماكن المكروهة، إذ لو كان يضاد وجوب الأصل، لم تصح الصلاة، وليس كذلك، فإذا كان المراد: يضادها ظاهرًا، خرجت هذه الصورة؛ لأنها تضاد ظاهرًا؛ لدليل راجح.
نعم، قَيَّده البيضاوي في توضيحه بالتحريم، فقال: قال الشافعي: حُرمة الشيء لوصفه تُضاد وجوب أصله.
وهو تقييد حسن مُخرج لما سبق من الصلاة في الأماكن المكروهة حتى لا يحتاج أن يقال: يضاده ظاهرًا، لا قطعًا.
لكن مقتضاه أن النهي يدل على الفساد هنا إذا كان نهي تحريم لا تنزيه حتى يكون النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة صحيحًا.
وزعم الصفي الهندي أنه لا خلاف فيه، قال: (على ما يشعر به كلامهم وصرح به بعض
المصنفين)
(1)
.
وهو عجيب، فإن الأظهر أنه لا فرق بين التحريم والتنزيه في ذلك.
وهو معنى قولي في النَّظم: (وَلَوْ تَنْزِيهَا)؛ لأن "المكروه" مطلوب الترك، و"الصحيح" مطلوب الفعل شرعًا؛ فيتنافيان، فيُعْلم أن طلب تركه يقتضي عدم انعقاده.
وقد سبق بيان ذلك في أول الكتاب في الكلام في الأحكام في مسألة أن "الأمر لا يتناول المكروه"، وأن الصحيح عند أصحابنا فسادُ الصلاة في الأوقات المكروهة وإنْ قُلنا: النهي للتنزيه.
فإنْ قلتَ: فيَلزم على هذا فساد الصلاة في الأماكن المكروهة، وليس كذلك.
قلتُ: إنما قلنا بالصحة فيها لأن النهي فيها ليس لوصف لازم، بل لأمر خارج غير لازم، كالصلاة في المغصوب، والبيع في وقت النداء، فصار هذا كالوضوء بالماء المشمس، وهو صحيح بلا خلاف.
فإنْ قلتَ: فما الفرق بين الزمان والمكان؟
قلتُ: الفعل في الزمان يُذْهِب جُزءًا منه، فكان النهي منصرفا لإذهاب هذا الجزء في المنهي عنه، فهو وصف لازم، إذْ لا يتصور وجود فِعل إلا بإذهاب جزء من الزمان. وأما المكان فلا يذهب جزء منه ولا يتأثر بالفعل، فالنهي فيه لأمر خارجي مجاور، لا لازم. فحَقِّق ذلك؛ فإنه نفيس.
واعْلَم أن حقيقة هذا الخلاف بيننا وبين الحنفية ينبني على أصل آخَر وهو أن الشارع إذا أمر بشيء مطلقًا ثم نهى عنه في بعض أحواله، هل يصير فَقْد تلك الحالة شرطًا في المأمور به
(1)
نهاية الوصول (3/ 1180).
حتى لو فُعِل بدونه لا ينعقد كما في سائر الشروط؟ أو لا؟
فعندنا: نعم، وعندهم خِلافه. وذلك كصوم يوم النحر والتشريق، الصوم مأمور به في الأصل، ومنهي عن إيقاعه في النحر والتشريق. ونحوه طواف الحائض، الطواف مأمور به ومنهي عن إيقاعه في حالة الحيض.
فإذا فعل المأمور به في تلك الحالة، كان صحيحًا من حيث الأصل، فاسدًا من حيث الوصف.
وقالوا: إن النهي يدل على الصحة حينئذٍ كما نُقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن؛ احتجاجًا بأنه لو كان غير صحيح لم يحتج للنهي عنه، بل يكون النهي لغوًا، إذ لا يقال للأعمى:(لا تبصر)، فيصح عندهم لذلك صوم العيد والتشريق والصلاة في الأوقات المكروهة. هكذا احتج به أبو زيد الدبوسي وغيره.
[قالوا]،
(1)
: ولا يُخلِّص من ذلك أن يُجعل النهي منصرفًا إلى إيجاد صورته؛ لأن الحقيقة الشرعية إنما تكون بالصورة والمعنى بها يكون صحيحًا، فلولا أنه صحيح لَمَا نُهِي عنه.
والجواب: أن فساده إنما عُرف بالنهي عنه، وإنما يكون النهي لغؤا لو كان فساده قد عُرف بغير النهي. وادِّعاء أن النهي لا يكون للصورة فقط ممنوع؛ لأنه يكون تلاعبًا، فنُهي عنه لذلك.
ويدل عليه ما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش وقد قالت: "إني امرأة أُسْتَحاض فلا أَطْهُر، أَفَأَدعُ الصلاة؟ ": "فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة"
(2)
الحديث. ولو كان المنهي عنه صحيحًا لَصَحَّت صلاة الحائض؛ إذِ النهي إنما هو للصلاة
(1)
في (ص): وقالوا.
(2)
سبق تخريجه.
الشرعية، لا اللغوية.
وذهب قوم إلى أنه لا يدل على الصحة، وادَّعى القاضي فيه الاتفاق.
وكأن الحنفية لما قالوا: فاسد من حيث الوصف، يصدق موافقتهم على الفساد في الجملة.
نعم، فرَّعوا على ذلك أنه لو نذر صوم يوم النحر، ينعقد نَذْره عندهم، ويجب عليه إيقاعه في غير يوم النحر. فإنْ أَوْقَعه فيه، كان ذلك محرَّمًا، ويقع عن نذره.
وكذا قالوا في طواف الحائض: إنه يجزئها عن طواف الفرض حتى [يحصل]
(1)
التحلل به.
وإذا باع درهمًا بدرهمين، يبطل العقد في الدرهم الزائد، ويصح في القَدْر المساوي.
كل ذلك تحقيق لقولهم: إنه صحيح بأصله، فاسدٌ بالوصف.
وبالغوا في التخريج على هذه القاعدة، فقالوا: الزنا يُثبت المصاهرة حتى تحرم أُم المزني بها وبنتها على الزاني، وإنَّ الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين، ملكوها.
لكن الصواب أن هذا ليس من هذه القاعدة؛ لأن الزنا والاستيلاء من الأفعال الحسِّية، ولا خِلاف عندهم في أن النهي عن الأفعال الحسية لانتفاء الشرعية؛ ولهذا لم يَقُل أحد بمشروعية الزنا والغصب. ولهم في ذلك مأخذان:
أحدهما: أن المنهي عنه في يوم النحر مثلًا إيقاع الصوم، لا الصوم الواقع، والمفهومان متغايران؛ إذْ لا يَلزم مِن تحريمِ الإيقاع تحريمُ الواقع، كما لا يَلزم مِن تحريمِ الكون في الدار المغصوبة تحريمُ نفس الصلاة؛ لِتغايُر المفهومين.
(1)
كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (ت، ض): يحلل.
قلتُ: قد سبق أنَّ فِعل الشيء وإيقاعه والفعل الواقع معناهما واحد، وأيضا سبق الفرق بين النهي عن الفعل في الزمان وفي المكان.
المأخذ الثاني: أن النهي يستلزم تَصوُّر حقيقة المنهي عنه شرعًا، وذلك يقتضي الصحة، والمنهي عنه قبيح لذاته، وذلك قائم بالوصف، لا بالفعل.
قلتُ: لكن لا نُسَلم أن القبح في المنهي استُفِيد من غير النهي، فلا يُعْرف قُبح المنهي عنه إلا بالنهي، وقد مضى تقريره.
وبالجملة فعند الشافعي أن المعصية والصحة متنافيان في زمان واحد مِن حيثية واحدة.
وبحث بعض المحققين في القول بأن "النهي يقتضي الصحة" بأنه إنْ أريد "الصحة العقلية" على معنى إمكان كونه صحيحًا، فلا خلاف في ذلك، أو "العُرفية" على معنى أنه يَصْدُق على صومه عُرفًا اسم ذلك، فكذلك.
وأدلتهم إنما تدل على الصحة بهذين المعنيين، أما "الشرعية" على معنى ترتُّب الآثار عليه شرعًا فَهُم لا يقولون به، ولا أدلتهم تقتضيه؛ فيرجع الخلاف لفظيًّا.
قلتُ: قد سبق للخلاف فوائد في النذر ونحوه.
وأما المنهي عنه لأمر خارج غير لازم فلا يقتضي الفساد عند الشافعي والجمهور، سواء أكان في العبادات أو في العقود.
قال الآمدي: (لا خلاف أنه لا يقتضي الفساد إلا ما نُقل عن مالك وأحمد)
(1)
. انتهى
وهو المشهور عند الحنابلة وداود، وعُزي إلى أبي هاشم وغيره؛ ولهذا أَبْطل أحمد الصلاة في الدار المغصوبة كما سبق بيانه في الأحكام.
(1)
الإحكام (2/ 210).
نعم، قيل: إطلاق النقل عن أحمد ليس بجيد؛ فإنه إنما قال ذلك في بعض العبادات وبعض العقود خاصة، كالبيع في وقت النداء والصلاة في المغصوب، وإلا فهو موافق على وقوع الطلاق في الحيض وفي طُهْر جامَعَها فيه وإرسال الثلاث ونحو ذلك.
نعم، إذا قُلنا في هذا النوع:(إنه يقتضي الفساد) كما يقول أحمد وغيره فقام دليل في موضع على أنه لا يقتضي الفساد:
هل يكون اللفظ باقيًا على حقيقته؛ لأنه لم يخرج عن جميع موجبه، فيصير كالعام الذي خرج بعضه، فإنه يبقى حقيقة فيما يبقى (على المرجَّح كما سيأتي)؟
أو يبقى مجازًا؛ لخروجه عما يقتضيه في الأصل؟
فيه خِلاف حكاه ابن عقيل في كتاب "الواضح"، وهو مبني على أن لفظ النهي يدل على الفساد [بصيغته]
(1)
، أما إذا قلنا:(يدل عليه شرعًا أو معنًى)، فليس فيه إخراج بعض مدلول اللفظ.
ولعل هذه المسألة هي فائدة الخلاف في كونه لُغةً أو شرعًا أو معنًى.
وقد حُكي في الخلاف أقوال سوى ما سبق كما زعمه بعض المصنفين:
منها ما حكاه الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" أن: (النهي إن كان مختصًّا بالمنهي عنه كالصلاة في الثوب النجس، دَلَّ على فساده، وإلا فلا، كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير والبيع وقت النداء)
(2)
.
قلتُ: لكنه لا يخرج عمَّا سبق، فإن الثوب النجس إنما كان مختصًّا لأن شرط الصلاة
(1)
من (ص، ش).
(2)
شرح اللمع (1/ 297).
طهارة الثوب، فالنهي عنه لعدم شرطه، بخلاف ما لا [يختص]
(1)
؛ لأنه لأمر خارجي.
ومنها: القول بأن النهي عن العبادة يقتضي الفساد مطلقًا، والتفصيل بين ما هو لِعَيْنه أو لخارج لازم أو مجاور لها [إنما]
(2)
هو في غير العبادات. نقله ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي، واختاره الإمام الرازي في "المعالم"، وجرى عليه البيضاوي، وظاهر نَقْل الآمدي أنه قول أصحاب الشافعي واختاره.
قيل: ونَصَّ عليه الشافعي في "الرسالة" و"البويطي"، وهو ظاهر عبارة ابن السبكي في "جمع الجوامع" على ما قرره شيخنا الزركشي في شرحه.
وعندي أنه يمكن حمل كلامه على أن التفصيل يعود إلى الجميع؛ بدليل آخِر كلامه، [بل]
(3)
والمنقول عن نَص "الرسالة" و"البويطي" يمكن حمله على ذلك، بل ما سبق في المذهب المختار من النصوص وكلام الأصحاب يقتضي ذلك.
ومنها: ما حكاه القرافي عن المالكية أنه يقتضي شبه الفساد، ولكن ظاهره يقتضي تخصيصه بالعقود.
قلتُ: الظاهر أن مراد قائله بِـ "شبه الفساد" نَفْس الفساد، وإنما عبر بذلك تفرقة بَيْنه وبين ما نُهي عنه من الفاسد الذي قد عُلِم فساده بغير النهي.
ومنها: أن ما يُخِل بركن أو شرط يقتضي الفساد دُون ما لا يُخل بواحد منهما. ذكره ابن برهان وابن السمعاني، وهو ظاهر كلام الغزالي في "المستصفى" آخِرًا.
قالوا: فيكون معنى كلامه أن النهي لم يقتضِ فساده، إنما فساده عُلِم بأمر آخَر.
(1)
كذا في (ت)، لكن في (ص): يخص.
(2)
من (ص).
(3)
في (ق): قيل.
قلتُ: يمكن ادِّعاء أنه عَيْن قول الجمهور مِن حيث إنه رجع النهي عنه لأمر داخل أو لازم، ولكن كونه داخِلًا أو لازمًا استُفيد مِن غير النهي.
ومنها: ما ذكره المازري في "شرح البرهان" عن شيخه -والظاهر أنه أبو الحسن اللخمي- التفصيل بين ما النهي عنه لِحَقِّ الخلْق فلا يقتضي الفساد، أو لِحَقِّ الله تعالى فيقتضيه. قال: ولهذا لم يُبْطِل الشارع بيع المُصرَّاة، بل أَثبت للمشتري الخيار. قيل: وهو قول غريب.
قلت: هو في الحقيقة راجع إلى ما سبق مِن الفرق بين اللازم والمجاور، فإن مراده بِـ "حَقِّ الخلْق" نحو الصلاة في المغصوب، بخلاف الصلاة بالنجاسة.
على أن ما ذكره من التعبير بذلك ينتقض طردًا وعكسًا؛ فإن البيع بالشرط الفاسد والأجل المجهول فاسد مع أنه لِحَقِّ الآدمي، ونحوه -على مذهبهم- البيع على بيع أخيه، والبيع في وقت النداء لِحَقِّ الله عز وجل وهو صحيح. نعم، هو عندهم فاسد كما سبق.
تنبيهان
الأول: قولي: (وَمُطْلَقُ النَّهْيِ) أي: الذي ليس مقيَّدًا بما يُشعر بالفساد أو بالصحة.
فالأول: نحو: (لا تُصل بغير طهارة)، ونحوه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُزَوِّج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تنكح نفسها"
(1)
. رواه ابن ماجه والدارقطني بطُرق، فآخِر الحديث يدل على اقتضاء ذلك الفساد.
ومثله: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكلب، وقال فيه:"فإنْ جاء وطلب ثمنه، فاملأ كفه ترابًا"
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
مسند أحمد (2626)، سنن أبي داود (رقم: 3482) وغيرهما. قال الألباني صحيح الإسناد. =
رواه أبو داود بإسناد صحيح، ونهيه عن الاستنجاء بالعظم والروث، وقال:"إنهما لا يطهران"
(1)
. رواه الدارقطني وصححه. ففي ذلك كله أنه يقتضي الفساد قطعًا، خلافًا لِمَا أفهم كلام بعضهم -كابن برهان- من إجراء الخلاف فيه أيضًا.
والثاني كحديث: "لا تصُرُّوا الغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين"
(2)
الحديث. ونحو ذلك مما فيه النهي وإثبات الخيار. ومِثله أيضًا: النهي عن طلاق الحائض والأمر فيه بالمراجعة.
وقولي: (وَالشَّكُّ في اللَّازِمِ كَالْيَقِينِ) أي: إنَّ المشكوك في كونه لازمًا بماذا يلتحق؟
وهي مسألة نفيسة تَعَرَّض لها الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعده"، فقال: (كل تَصَرُّف منهي عنه لأمر [يجاوره]
(3)
أو [يقارنه]
(4)
مع توفر شروطه وأركانه فهو صحيح، وكل تصرف نُهي عنه ولم يُعلم لماذا نُهي عنه؛ فهو باطل؛ حملًا للفظ النهي على الحقيقة)
(5)
. انتهى
وقد استُفيد من كلام ابن عبد السلام أن المراد بالخارجِ غيرُ اللازم الذي لا يتعلق
= (صحيح أبي داود: 3482).
(1)
سنن الدارقطني (1/ 56) بلفظ: (نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّران). وقال الإمام الدارقطني: (إسناده صحيح). سنن الدارقطني، الناشر: مؤسسة الرسالة، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، الطبعة: الأولى - 2004 م.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 2043).
(3)
في (ت): يجاوزه.
(4)
في (ص، ت): يقاربه.
(5)
قواعد الأحكام (2/ 21).
بإخلال ركن أو شرط، فالأول هو مرادهم بالجزء الداخل، والثاني هو مرادهم باللازم الخارج؛ لِلزوم الشرط للماهية، فنشأ من ذلك الخلافُ في الأمثلة.
الثاني:
قال ابن السمعاني في "الاصطلام" في مسألة "صوم يوم العيد": (إنهم لم يتعرضوا لحقيقة الفرق بين المنهي عنه لِعَينه أو لغيره. ويمكن أن يقال: النهي لعينه هو ما طُلب فيه إيجاد ضد المنهي عنه، كالنهي عن صوم يوم العيد، وما ليس كذلك فالنهي فيه لغيره، كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، ليس المطلوب ترك الصلاة، وكذا البيع في وقت النداء، إذْ لو اشتغل بغير البيع كان كذلك)
(1)
. والنهي عن صوم يوم العيد ونكاح المحارم ونحوه كما صرح به القاضي الحسين في "باب النذر" من "تعليقته".
على أن ابن السمعاني قد ضايق في بعض كتبه الخلافية في الفرق، وقال: إن النهي لا يكون لعين المنهي عنه أبدًا، إنما هو دائما لغيره؛ إذ الأحكام ليست بأوصاف ذاتية للأفعال، بل متعلقة بها.
وفيما قاله أولًا نظر؛ لِمَا قررناه أول المسألة من الفرق بين الأمرين.
وكذا فيما ضايق به على الفرق بينهما نظر؛ فإن الأحكام وإنْ لم تكن وصفًا بل متعلقة لكن التعلق مرة يقع بواسطة و [مرة]
(2)
بلا واسطة؛ فحصل الفرق، والله أعلم.
(1)
الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة (2/ 217 - 218)، الناشر: دار المنار بالقاهرة، تحقيق: د. نايف نافع، الطبعة: الأولى / 1412 هـ- 1992 م.
(2)
في (ت): مرة يقع.
ص:
566 -
وَالنَّفْيُ في قَبُولٍ اوْ إجْزَاءِ
…
هَلْ هُوَ لِلصِّحَّةِ ذُو اقْتِضَاءِ؟
567 -
أَوْ لِلْفَسَادِ؟ رَجَّحُوا كِلَيْهِمَا
…
بِمَا أتي مِنْ شَاهِدٍ عَلَيْهِمَا
الشرح:
لَمَّا [بينتُ]
(1)
أن النهي يقتضي الفساد فيما سبق من الأنواع، ذكرتُ ما هو في معنى النهي هل يقتضيه أيضًا؟ أو لا؟ وذلك فيما إذا نفى الشارع القبول عن فعل في حالة من أحواله، كقوله تعالى:{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91]، {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [التوبة: 54]
(2)
، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"
(3)
، "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"
(4)
، "لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول"
(5)
، ونحو ذلك.
ووجْه مشابهته للنهي أنه في معنى: "لا يُصَلِّ أحدكم إلا بطهارة" و"لا تُصَل حائض إلا بخمار". وهكذا في الكل، فيقتضي الفساد كالنهي على ما سبق.
ويكون معنى نفي القبول نفي الصحة؛ ولذلك أدخل ذلك في "جمع الجوامع" في نفس
(1)
في (ش): ثبت.
(2)
في جميع النُّسخ: لن تقبل منهم نفقاتهم.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 135)، صحيح مسلم (رقم: 225).
(4)
سنن أبي داود (رقم: 641)، سنن الترمذي (رقم: 377)، سنن ابن ماجه (رقم: 655) وغيرهم. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 641).
(5)
سبق تخريجه.
المنهي عنه لوصفه، حيث قال عن أبي حنيفة:(إنَّ المنهي عنه لوصفه يفيد الصحة. وقيل: إنْ نفي عنه القبول)
(1)
إلى آخِره، إذ التقدير: وقيل في المنهي عنه: إنْ نُفِي عنه القبول فإنه أيضًا يفيد الصحة على قولٍ.
والحاصل أن ما نُفي عنه القبول هل يكون فاسدًا؟ أو لا؟ قولان:
أحدهما: أن القبول والصحة متلازمان، فإذا نفي أحدهما، انتفى الآخَر.
الثاني: لا؛ لأن القبول أخص من الصحة؛ إذ كل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبولًا؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن أتى عرافًا، لم تُقبل له صلاة"
(2)
، "إذا أبق العبد، لم تُقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه"
(3)
، "مَن شرب الخمر، لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا"
(4)
، وشبه ذلك. فيكون القبول هو الثواب ونحوه.
وقد يصح الفعل ولا ثواب فيه كما هو الصحيح عندنا في الصلاة في المغصوب، فلا يلزم حينئذٍ مِن نفي القبول نفي الصحة.
وهذان القولان متكافئان، لا رُجحان لأحدهما على الآخَر، لأن نفي القبول وَرَدَ في
(1)
جمع الجوامع (1/ 503) مع شرح المحلي وحاشية العطار.
(2)
صحيح مسلم (رقم: 2230).
(3)
سنن النسائي (4049)، صحيح ابن خزيمة (941)، وغيرهما. وقال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 4060).
والحديث في صحيح مسلم (رقم: 70) دُون قوله: "حتى يرجع إلى مواليه".
(4)
سنن ابن ماجه (رقم: 3377)، سنن الترمذي (رقم: 1862) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1862).
الشرع تارة بمعنى نفي الصحة كما في حديث: "لا تُقبل صلاة بغير طهور"
(1)
ونحو ذلك مما يستدل به أصحابنا وغيرهم على اشتراط الطهارة أو ستر العورة.
وتارة ينفي القبول مع وجود الصحة، كما في الأحاديث السابقة في الآبق وشارب الخمر ومَن أتى العراف.
وحكى الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" القولين، وأشعر كلامه بعدم ترجيح أحدهما على الآخَر، حيث حكى في تفسير "القبول" قولين: (أحدهما: ترتيب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، فيقال:"قَبِل عُذرَه" إذا رتب على عذره الغرض المطلوب وهو عدم المؤاخذة بالجناية، وعلى هذا فالصحة والقبول متلازمان.
والثاني: أن "القبول" كون العبادة بحيث يترتب الثواب عليها، وعلى هذا فالقبول أَخَص من الصحة، فكل مقبول صحيح، ولا ينعكس)
(2)
. انتهى
نعم، ابن عقيل -من الحنابلة- حكى القولين في كتابه في الأصول، ورجح أن الصحيح لا يكون إلا مقبولًا، ولا يكون مردودًا إلا وهو باطل.
لكن ترجيحه ذلك ليس بالواضح مع كثرة مجيء الأمرين في الشرع كما أشرنا إليه؛ ولذلك جريتُ في النظم على عدم الترجيح، فقلتُ:(رَجَّحُوا كِلَيْهِمَا بِمَا أتي مِنْ شَاهِدٍ عَلَيْهِمَا).
وقولي: (اوْ إجْزَاءِ) أشرتُ به إلى أن نفي الإجزاء كنفي القبول فيما ذكر، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا
(1)
سبق تخريجه.
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 63 - 63).
تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن"
(1)
. رواه الدارقطني، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أربع لا تجزئ في الضحايا"
(2)
، ونحو ذلك.
نعم، اختُلف في كيفية الخلاف فيه على طريقين:
أصحهما: القطع بأنه كَنَفْي القبول.
والثاني: أن فيه الخلاف السابق في نفي القبول، وأَوْلى باقتضائه الفساد؛ لأن الصحة قد توجد حيث لا قبول، بخلاف الإجزاء مع الصحة.
قلتُ: وقد سبق في الكلام في خطاب الوضع معنى الإجزاء والفرق بينه وبين الصحة بما يخدش ما ذكر هنا، فراجعه، والله تعالى أعلم.
(تم الجزء الأول بعون الله وتوفيقه في ليلة سفر صباحها عن سابع عشر شهر المحرم الحرام من شهور سنة ست وعشرين وثمانمائة بمنزلي بالصالحية من الشام المحروسة أحسن الله عاقبتها، ويتلوه الجزء الثاني: الفصل الثاني في "العام" و"الخاص")
(3)
.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
كُتِب هذا في آخِر نُسخة (ص)، ثم كُتب بعده:(انتهى انتساخه عشية يوم الخميس لسبع بقين من جمادى الأولى من شهور سنة تسع وعشرين وثمانمائة برباط السِّدرة الملاصق للمسجد الحرام بمكة المشرفة زادها الله تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة. . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم).