الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في: "العام" و"الخاص
"
568 -
فَذُو الْعُمُومِ: اللَّفْظُ إذْ يَسْتَغْرِقُ
…
صَالِحَهُ مِنْ غَير حَصْرٍ يُطْلَقُ
الشرح:
هذا الفصل معقود للثاني مِن مهمات أقسام الكلام، ولإمامنا الشافعي رضي الله عنه فيه البيان الشافي.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (لم نكن نَعرف الخصوص والعموم حتى قَدِمَ علينا الشافعي).
وإنما أخرتُ الكلام فيه عن الأمر والنهي لتعلقهما بنفس الخطاب الشرعي، وتعلق العموم والخصوص بالمخاطَب باعتبار كمِّيته.
فَ "العموم" في اللغة: شمول أمرٍ لمتعدد، والأمرُ الشامل هو العام، لفظًا كان أو غيره، نحو: عَمَّ الخيرُ، وعَمَّ الخصْبُ.
ولهذا يقع في عبارة بعض المناطقة: العام ما لا يمنع تَصوُّره مِن الشركة فيه.
والأكثر إنما يفسرون بذلك الكُلي، وهو بمعنى العموم لغةً، وأما اصطلاحًا فسيأتي.
فَ "العام" في الاصطلاح فيه تعاريف كثيرة، المختار منها تعريف أبي الحسين وابن السمعاني وغيرهما، وهو ما أوردتُه في النَّظم: إنه اللفظ المستغرق لِمَا يَصلح له مِن غير حَصْر.
وإنما عبرت بقولي: (فَذُو الْعُمُومِ) ولم أقُل: (العام)؛ لِضيق الرجز عن لفظه، فعدلتُ إلى معناه. "فذو" مبتدأ، وما بعده من التعريف خبره.
وأيضًا ففيه تنبيه على تسامح مَن قال: (العموم: اللفظ المستغرق)، كما عبر به عبد الجبار وابن برهان وغيرهما.
فَـ "اللفظ" جنس، وما بعده الخاصة، و"القول" وإنْ كان أحسن في التعبير لِكونه جنسًا قريبًا إلا أنه لَمَّا كان المراد هنا اللفظ الموضوع لمعنى؛ لأن الكلام فيه، ساغ التعبير به؛ لمساواته للقول، وكان "اللام" فيه للعهد العائد إلى ما سبق في التقسيم، وأيضًا [فقرينة]
(1)
استغراقه [المدلول]
(2)
يُخرج اللفظ الذي لا يدل.
وأيضًا ففيه التعريض بأن العموم حقيقة في اللفظ دُون المعاني، وستأتي المسألة؛ وذلك لأن القول كثيرًا ما يطلق على الرأي، كقولك:"قول الشافعي"، "قول أبي حنيفة"، ولا شك أنَّ الرأي معنى.
نعم، التعبير به مُعرَّفًا باللام -وإنْ سبق أنه مما يُعاب في التعاريف لأن التعريف للماهية - فيه ما فيه، لكن لما شاع استعمال ذلك وكثر بعد التنبيه مرات عليه، اغتُفِر، لاسيما في النَّظم.
وخرج بقيد "استغراق ما يصلح له":
- المُطْلَق؛ فإنه لا يدل على أفراد فضلًا عن استغراقها.
- والنكرة في الإثبات؛ فإنها لا تَعُم على المرجَّح (كما سيأتي)، سواء أكانت بصيغة مفرد (كـ "رجل") أو جمع (كـ "رجال") أو نحوه من أسماء الجموع (كـ "قوم" و"رهط") أو عدد
(1)
في (ت): بقرينة.
(2)
في (ت، س، ض، ش): للمدلول.
(كَـ "خمسة")، فإنَّ دلالةَ العدد على أفراده دلالةُ كُلٍّ على أجزائه، فلا استغراق فيه.
نعم، قد يطلق على هذه الأمور أنها عامة، أَيْ على سبيل البدل، كما في نحو:{تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، ونحو ذلك.
ومعنى "عموم البدل" أنه يَصْدُق على كل واحد بدلًا عن الآخَر، [لا مَعَ]
(1)
صِدقه عليه، بخلاف "عموم الشمول"، فإنه يَصدق على كل فرْد في حالة واحدة.
وحيثما يطلق "العموم" في الأصول والفقه وغالب العلوم فإنما يراد "عموم الشمول"، لا عموم البدل.
وهذا معنى قولي: (إذْ يَسْتَغْرِقُ صَالِحَهُ)، أي: حيث يكون مستغرقًا، أي: شأنه ذلك حتى يدخل فيه نحو: الشمس والقمر والسماء والأرض، فإن كُلًّا من ذلك عام وإنْ كان منحصرًا في الواقع في واحد أو في سبعة، وقد سبق في بعض تقسيمات "الكُلي" ما يوضح ذلك.
ومعنى قولي: (صَالِحَهُ) أي: الصالح له. فالإضافة بمعنى اللام.
ومما يدخل في مدلول الصلاحية أن كل مدلول بحسبه، كَـ"مَن" في شمول العقلاء دون غيرهم، و"ما" لغيرهم، و"أين" في عموم الأمكنة، و"متى" في عموم الأزمنة، و"كل" بحسب ما يدخل عليه كما سيأتي إيضاحه في صِيَغ العموم وإنْ كان مفردًا.
وكُل عام فاستغراقه في أفراد ما يدل عليه، فاستغراق "المفرد" في المفردات، و"الجمع" في الجموع، و"المثنى" في المثنيات، حيث كان فيها ما يقتضي العموم من "أل" أو "إضافة" أو غير ذلك.
(1)
كذا في (ت، س)، لكن في سائر النسخ: ولا يمنع.
وقد عُلم من تعبيري بِـ "الصالح له" دون قولي: "مدلوله" أن كونه صالحًا له إنما هو بحسب الأمر الذي اشتركت الأفراد فيه. فلو عُبربِ "المدلول"، لكان موضوعًا لكل فرد وَضْع المشترك لكل مِن مَعنييه أو معانيه، وليس ذلك مرادًا.
فالمراد بِـ "الصلاحية" أنْ يَصْدُق عليه لُغةً بهذا الاعتبار.
واستغنيت بعموم "صالحه" عن قول البيضاوي وغيره: (يستغرق جميع ما يصلح له)
(1)
.
نعم، اعترضه السبكي بأنَّ هذه الصيغ العامة من جملة المُعَرَّف، فأَخْذها في التعريف دَوْر، وادَّعَى أن جوابه متعذِّر.
قلتُ: قد يجاب بأنَّ كونها للعموم من باب وجود العموم فيها، لا تَصَوُّر العموم، وإنما يَلزم الدور لو توقَّف التعريف على تَصَوُّر العموم فيها كما سبق نظيره في حد "العِلم" ونحوه. إلا أن يقال: حصول العموم هنا لا بُدَّ مِن تَصوُّره؛ ليحكم بالعموم، فيرجع إلى التوقف على تصوره؛ فَجَاءَ الدور؛ لاتحاد جهة التوقف.
وقولنا: (مِنْ غَير حَصر) احتراز من اسم العدد، نحو "عشرة"، فإنها تستغرق الأفراد المركبة لكن بحصر؛ إذ دلالتها دلالة كُلٍّ على أجزائه، ودلالة العموم كُلّي على جزئياته كما سيأتي.
وبذلك صرح ابن الحاجب هنا وقال: (إنه لو لم مِحترز عنه بـ "عدم الحصر" لكان الحد غير مانع)
(2)
.
نعم، في كلامه في بحث "الاستثناء" ما يخالف ذلك، وتابعه في "جمع الجوامع"،
(1)
منهاج الوصول (ص 172) بتحقيقي.
(2)
مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 695).
والصواب ما هنا، لكن سبق في تفسير "الاستغراق " أنه مخرج للعدد، وعلى هذا فيستغنى عن قيد "عدم الحصر".
أما لفظ "المثنى" باعتبار جزئيه ولفظ "جمع القِلة" باعتبار أقَل الجمع (وهو ثلاثة أو اثنان على الخلاف في ذلك) و"جمع الكثرة" على أحد عشر -فإنه خارج بقيد "الاستغراق"، لأن دلالةَ كُلٍّ مِن ذلك دلالةُ الكل على أجزائه، وعمومه في كل اثنين اثنين وجَمْع جَمْع عموم بَدَل، لا عموم شمول، إلا أن يقترن به ما يقتضي العموم من "أل" أو "إضافة" أو "نفي" أو "شرط" أو نحو ذلك مما سيأتي تفصيله، فيفيد عموم الشمول بما انضم إليه كما سبق.
وكل ذلك سيتضح في الكلام على صِيَغ العموم مُفصلًا -إن شاء الله تعالى- لاسيما في مسألة أن "الجمع المنكَر لا يفيد العموم".
تنبيه:
قد عُلم مِن شرح هذا التعريف ضَعف غيره مِن التعاريف.
فمِن ذلك قول الغزالي: (إنه اللفظ الواحد الدال مِن جهة واحدة على شيئين فصاعدًا)
(1)
. فإنه ليس بجامع ولا مانع كما أشار إليه ابن الحاجب.
أما الأول فلخروج المعدوم والمستحيل؛ لأن ذلك لا يسمى "شيئًا" على قول أهل السنة مع أن العموم قد يكون فيهما، بخلاف قولنا:(الصالح له)؛ فإنه شامل لهما.
نعم، قد يجاب عن الغزالي بأن مراده بِـ "الشيء" المعنى اللغوي الشامل للموجود والمعدوم، وكونه لا يسمى "شيئًا" إلا الموجود إنما هو في عُرف المتكلمين، إلا أن يقال: مدرك الخلاف بينهم فيه إنما هو الاستناد إلى اللغة كما يُعرف ذلك مِن أدلتهم المقررة في
(1)
المستصفى (ص 224).
محلها.
قال ابن الحاجب: (ولخروج الموصولات وصلاتها؛ لأنها عامة وليست بلفظ واحد)
(1)
.
لكن في هذا أيضًا نظر؛ لأن الدال هو الموصول وهو مفرد، والصلات إنما هي لتبيين المراد منه؛ لتظهر الفائدة؛ ولهذا كان الإعراب إنما يُحكم به لمحل الموصول وحده.
اما الثاني: فلدخول المثنى؛ لأنه دال على مفرديه وليس بعام كما سبق، ولدخول المعهود (نحو:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173]) والنكرة (نحو: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]) وليس شيء منهما بعام.
ثم قال ابن الحاجب: (وقد يلتزم الغزالي هذين)
(2)
.
أي: فيدعي عمومهما؛ لمطلق الشمول في المثنى والعموم البدلي في النكرة.
وهو عجيب؛ فإن المثنى لا استغراق فيه بالمعنى السابق أو لأنه فيه حصر، وشَرْطُ العموم عدم الحصر. وأما العموم البدلي في النكرات فليس هو المراد كما سبق تقريره، فكيف يلتزم ما لا يمكنه التزامه؟ ! وقد قال هو في "المستصفى": إن النكرة في الإثبات لا عموم فيها
(3)
.
وذكر ابن الحاجب تعريف أبي الحسين الذي اخترناه، وزعم أنه ليس بمانع.
قال: (لأن الأعداد نحو: "عشرة" ونحو: "ضرب زيد عمرًا" يدخل كل منهما فيه)
(4)
.
(1)
مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر.
(2)
مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر.
(3)
انظر: المستصفى (1/ 243).
(4)
مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر.
مع أنه لا عموم فيهما؛ ولهذا احترز عنه الغزالي في تعريفه السابق بقوله: (اللفظ الواحد) إلي آخِره.
وما قاله ممنوع.
أما الأول: فقد بيَّنا أنه يخرج بقيد الاستغراق أو بقيد عدم الحصر.
وأما الثاني: فلأن الكلام في المفرد، وأما "ضرب زيد عمرًا" فليس بمفرد.
وقد سبق تقرير أن العموم من عوارض المفرد وأقسامه، فكيف يدخل في ذلك المركَّب؟ !
والتقدير في التعريف: "العام: اللفظ المفرد" كما سبق تقريره في شرح الحد.
وأيضًا فقد سبق في تفسير "الاستغراق" أنه الدلالة على كل فرد من جهة واحدة، و"ضرب زيد عمرًا" دال من جهات متعددة، فكل كلمة دالة على معناها؛ فلا استغراق.
وأما ما اختاره ابن الحاجب في تعريفه بقوله: (ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربة)
(1)
فإنه سالم من أمورٍ أُوردت على ما سبق.
وقال: "مطلقًا"، ليحترز عن المعهود؛ فان د لالته بقرينة العهد.
قلتُ: وهو معنى قولي: (يُطْلقُ)، وهو مؤخر من تقديم، وهو وفاعله جملة حالية، والتقدير: العام هو اللفظ حال كونه مطلقًا -لا بقرينة- المستغرِق لِمَا يصلح له.
ويجوز أن تكون الجملة في موضع رفع؛ صفة لِلَّفظ؛ على قاعدة: "الجملة إذا وقعت بعد المعرَّف بِـ "أل" الجنسية فإن فيها الوجهين".
إلا أنَّا قد قدَّمنا أن الألف واللام ينبغي أن تكون للعهد وهو ما له معنى، لا مطلق
(1)
مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر.
اللفظ؛ فتتعيَّن الحالية حينئذٍ.
وإنما قال ابن الحاجب: (ما دل) ولم يقُل: (اللفظ الدال)؛ لأن مختاره أنَّ العموم يكون في المعنى حقيقةً كاللفظ وإنْ كان المرجَّح خلافه كما سيأتي.
فإن قيل: لمَ لا قيدت تعريفك بأن يكون "بوضع واحد" كما قيد به البيضاوي؛ ليخرج المشترك وما لهَ حقيقة ومجاز؟ فإنه وإن كان مستغرقًا لجميع ما يصلح له لكن لا بوضع واحد.
قلتُ: إن كان اللفظ أُطلق في حالة واحدة على معنييه أو معانيه بالإرادة فذلك مجاز على المرجح كما سبق في بحث المشترك. ولو قلنا: حقيقة، ففيه الحصر، وهو خارج؛ مِن قولنا:(بلاحصر).
وإن كان إنما أطلق على أحد معنييه أو معانيه فلا استغراق، فلا يحتاج إلى هذا القيد.
ولذلك قرر الأسفراييني -شارح "البيضاوي"- أنه قيدٌ أريدَ به إدخال المشترك وما له حقيقة ومجاز، لا إخراجه ولكن حيث كان في المشترك ما يقتضي العموم، نحو:"رأيت العين أو العيون"، و"ما في الدار عين"، و"كل عين تفنى" ونحو ذلك إذا أريد بالعين حينئذٍ نوع من مدلولاتها، فإنه عام فيه بلا شك مع أنه لم يستغرق جميع ما يصلح له وهو بقية المعاني التي لم تقصد أصلًا.
فكأنه يقول: يستغرق جميع ما يصلح له استغراقًا مقيدًا بكونه بوضع واحد؛ ليخرج الاستغراق لما يصلح له بوضعين، فإنه غير معتبر، [فيُدْخِل]
(1)
الصورة التي ذكرناها، ويُخرج الاستغراق الذي لم يقصد في العموم؛ وذلك لأن قيد القيد مُدْخِلٌ في الأصل ما خرج بالقيد.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ت): تدخل.
فعُلِمَ بذلك أن معنى قوله وقول غيره في قيد القيد: (إنه مُدْخِل، لا مخُرج) ما ذكرناه، وإلا فالقيد إنما يكون للإخراج لا للإدخال. فَحَقَق ذلك وتجنَّب ما وقع لشارحي "المحصول" -الأصفهاني والقرافي- في ذلك مما لا ينبغي أنْ يُتشاغل به.
على أنه قد سبق أن إطلاق المشترك على معنييه أو معانيه من قبيل شمول العام لكن على الوجه الذي سبق تقريره هناك وما ذكرنا فيه من الأمور المهمة، فليراجع.
وعلى كل حال فَعَنْ ذلك كله غِنًى بقيد "استغراق ما يَصلح له" على ما قررنا أنه باعتبار أمر اشتركت فيه.
وإنما يكون ذلك بوضع واحد، فإن بقية المعاني التي هي بوضع آخَر ليست بواسطة أمر اشتركت فيه، بل هي مغايرة.
فإن قيل: كيف يفسر "العام" بِ "المستغرق" وهُما مترادفان، فيكون هذا من التعريف اللفظي، لا الحقيقي ولا الرسمي؟
قيل: لا نُسَلم الترادف لغةً، وبتقدير التسليم فالعموم الاصطلاحي ليس هو عَيْن المستغرق لغةً، فالأول بالاصطلاح، والثاني باللغة؛ فلا تَرادف.
وهذا الجواب ينفع في كثير من حدود يُورَد عليها مِثل ذلك، والله أعلم.
ص:
569 -
وَنَادِرًا يَحْوِي وَمَا لَمْ يُقْصَدِ
…
وَيُوصَفُ الْمَعْنَى بِهِ كَـ "الرَّشَدِ
570 -
يَعُمُّنَا وَالْخِصْبُ أَيْضا وَالْمَطَرْ"
…
لَكِنْ مَجَازًا بِالْأَعَمِّ يُدَّكرْ
الشرح:
لما عَرَّفتُ العام بأنه: "اللفظ المستغرق لما يصلح له" إلى آخِره، ذكرت هنا ما فيه خلاف
في دخوله، وما يكون إطلاق العموم فيه حقيقة ومجازًا، وما وقع في اصطلاحهم من العبارة في عام وأعم. فهذه ثلاثة أمور اشتمل عليها البيتان.
الأول فيه مسألتان:
إحداهما: هل يحكَم بدخول الصورة النادرة تحت اللفظ العام؛ لشموله إياها لغةً؟ أو لا؛ لخروجها باستبعاد قَصْدِها؟
والخلاف في هذه المسألة مذكور في الفقه مُفرَّع عليه مسائل سيأتي ذكر شيءٍ منها.
وزعم ابن السبكي أن الشيخ أبا إسحاق ذكر الخلاف فيها في الأصول.
قال شيخنا بدر الدين في "شرح جمع الجوامع": (ولم أجده في كُتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين:
أصحهما: نعم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا سبق إلا في خُفٍّ أو حافِر"
(1)
.
والثاني: لا؛ لأنه نادر عند المخاطَبين بالحديث، ولم يُرَد باللفظ)
(2)
.
وذكروا في المتمتع العادم للهدي أنه يصوم الأيام في الحج قبل عرفة، فلو أخَّر طواف الزيارة عن أيام التشريق وصامها، لا يكون أداء وإنْ بقي الطواف؛ لأن تأخُّره عن أيام التشريق مما يَبعد وَيندر؛ فلا يدخل في قوله تعالى:{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، بل هو محمول على الغالب المعتاد.
(1)
سنن ابن ماجه (رقم: 2878)، سنن النسائي (رقم: 3589). قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 3591).
(2)
انتهى كلام الزركشي في تشنيف المسامع (1/ 324).
قال الرافعي: كذا حكاه الإمام وغيره. وفي "التهذيب" حكاية وَجْه بخلافه.
وقال الغزالي في "البسيط": (لو أوصى بعبد أو برأس من رقيقه، جاز دفع الخنثى. وذكر صاحب "التقريب" وجهًا أنه لا يُجزئ؛ لأنه نادر لا يخطر بالبال. وهو بعيد؛ لأن العموم يتناوله). انتهى
فهذا ترجيح لدخول النادر؛ لكن الشافعي نص على عدم الدخول، وبه قطع إمام الحرمين في "العُمَد" كما حكاه عنه ابن العربي في "القَبس".
وفي "المطلب" في باب المسابقة أنَّ مَحط كلام الإمام والغزالي على أنه إنما يدخل في العام ما يخطر لِلَّافظ به حين النطق به، وهذا إنما يعتبر في قوله عليه الصلاة والسلام إذا قُلنا: إن جميع ما يقوله لا يكون إلا بوحي. أما إذا قلنا: يكون باجتهاد، فلا يظهر اعتباره؛ لأن موجبه عام لجميع الجزئيات.
ولكن جوابه ما سيأتي.
وحكى الرافعي عن الإمام في مهايأة المبعض: هل يدخل فيها النادر من هبة أو وصية إذا لم يصرحا في المهايأة بإدراج الاكساب النادرة؟ : (أنها تكون على الخلاف فيما إذا عمت الهبات والوصايا في قطر أنها تدخل لا محالة كالأكساب العامة، أو هي على الخلاف؛ لأن الغالب فيها الندور)
(1)
. انتهى
وفي "الأوسط" لابن برهان أن اللفظ العام لا ينزل على النادر؛ لأنَّا نقطع بكونها غير مقصودة لصاحب الشرع؛ لعدم خطورها بالبال.
قال: وبنى على هذا أصحابنا كثيرًا من المسائل، منها: أنهم أبطلوا حمل أبي حنيفة "لا
(1)
العزيز شرح الوجيز (5/ 148).
نكاح إلا بولي"
(1)
على المكاتمة، وقالوا: المكاتبة نادرة من نادر؛ لأن الأصل في النساء الحرائر، والإماء نادر، والمكاتب منهن نادر.
ويؤخَذ من تفصيل إلْكِيَا (في تخصيص العام بين أن يتقدم عهد كـ "أكرِم مَن دخل داري" ثم يقول: "أردت مَن تَقدم ذِكره مِن أخِصَّائي"، فيجوز؟ أو لا؟ فقيل: يجوز. وقيل: لا يجوز) أنَّ هذا التفصيل يجيء هنا؛ لأن التخصيص فرع الدخول في العام.
واعلم أن بعض المتأخرين استشكل إطلاق الخلاف في هذه المسألة، وقال: لا يبين لي في كلام الله تعالى؛ لأنه لا يخفى عليه خافية، فكيف يقال: لا يخطر بالبال؟ ! ونحوه ما سبق من كلام "المطلب".
وأجيب بأن المراد إجراء ذلك على ما يُعْهَد في كلام العرب مِن خطورِه بالبال؛ لأن كلام الله عز وجل جارٍ على أسلوب كلام العرب في مخاطبتها وإنْ كان فيها ما هو محُال في حقه كما في نسبة الغضب والقرب والبعد ونحو ذلك إليه تعالى.
وكذلك الاستثناء مثلًا، فإنه إنما دخل لِمَا لَعلَّه يُنسى، فيستدرك إخراجه، وهذا ظاهر كثير لمن تتبَّعه.
تنبيه: ينبغي تقييد المسألة:
- بأنْ لا يدوم ذلك النادر؛ فإنَّ النادر الدائم كالعام كما قرروه في "باب التيمم" وغيره.
- وبأنْ لا يساعده المعنى، فإنْ ساعده مع عدم ظهور اندراجه في اللفظ، فلم يتعرضوا له، فقيل: يحتمل أن يقال: يدخل قطعًا، وأن يقال: يجري فيه خلاف من الخلاف في بيع الأب مال ولده من نفسه وعكسه: هل يثبت فيه خيار المجلس؟ وجهان:
(1)
سبق تخريجه.
أحدهما: لا، فإن ثبوته للمتبايعين يقتضي التعدد، فعند الاتحاد لا يدخل.
والثاني: نعم؟ لأن المعنى في ثبوته موجود، وذِكر "المتبايعين" في لفظ الشارع لِكَوْنه الغالب المعتاد.
كذا وجهه الإمام في "النهاية".
المسألة الثانية:
إذا كان لفظ العام يَصدق على صورة يغلب على الظن أن المتكلم لم يقصدها لقيام قرينة على ذلك، هل تكون داخلة؛ لأن اللفظ يشملها؟ أَم لا تدخل؟ لاقتضاء القرينة عدم دخولها؟ فيه خلاف حكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص". ونقل [الأول]
(1)
عن أكثر متأخري أصحابهم، والثاني عن متقدمي أصحابهم وعن القفال من أصحابنا.
وذلك مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، هل يستدل به على إباحة أكل نوع مختلَف في جواز أكله أو شربه أو جماع مختلَف في [حِلِّه]
(2)
؛ عملًا بظاهر اللفظ؟ أوْ لا؛ لأنها مسوقة لبيان وقت الأكل وغيره مما ذكروا أنه يجوز بعد النوم نَسخًا لِمَا كان مِن التحريم لهما بعد النوم؟
ونحوه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، الآية، هل يستدل به على نوع مختلَف في وجوب الزكاة فيه؟
وكذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، هل يستدل به على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؟
(1)
كذا في (ص، ش، ق)، لكن في (ض): الامام. وفي (ت، س): الامام الاول.
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): حكمه.
ومن ذلك أيضًا ما سيأتي في العام بمعنى المدح والذم: هل يبقى على عمومه؟
وأشباه ذلك.
والأصح المختار: الدخول، وهو ما يقتضيه كلام أصحابنا في تفاريع الفقه.
ومنه يؤخذ حكاية الخلاف في المسألة، ففي "البسيط" -لما حكى الخلاف في التوكيل بشراء عبد وأطلق فاشترى من يعتق على الموكل- قال: ومثار الخلاف التعلق بالعموم أو الالتفات إلى المقصود.
ومن ذلك: ما يقع في ألفاظ الواقفين مما يكون فيه صورة يظهر أن الواقف لم يقصدها، الصحيح الدخول؛ لدلالة اللفظ، وعدم انضباط القصد وفقده.
نعم، الحنابلة يميلون إلى عدم الدخول، ويبنون عليه أصولاً عظيمة في "باب الوقف"، ومذهبنا خلاف ذلك؛ ولهذا استنبط ابن الرفعة من كلام الغزالي في "الفتاوى" أن مقاصد الواقفين تعتبر، فيُعَمم بها الخصوص ويُخصص بها العموم.
وليس المراد أن المقصود إخراج ما قد دخل، والفرق ظاهر بين عدم قصد الشيء وبين قصد خروجه، فغير المقصود يدخل لفظًا وحُكمًا، والمقصود إخراجه وإنْ دخل لفظًا لكن لا يدخل حُكمًا قطعًا؛ لأنه تخصيص، والتخصيص إخراج من الحكم، لا من المدلول.
نعم، لا يحكم بأنه مقصود إخراجه إلا بدليل، بخلاف غير المقصود فإنه لا يُعلم هل قصد خروجه؟ أو لا؟ والقرينة إنما بعَّدت أن يكون داخلاً، لا أنها صريحة في عدم دخوله.
ومن هذا نشأ الخلاف في أن المتكلم هل يدخل في عموم كلامه؟ وسبق بيانه في الأمر والنهي وأن المرجَّح دخوله في غيرهما، وسيأتي في المسألة مزيد بيان.
فإن قلت: ظاهر كلام الشافعي أن غير المقصود لا يدخل؛ ولهذا منع الزكاة في الحُلِىِّ؛ تمسكًا بآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} ؛ لأن قرينة الذم أخرجته عن العموم.
قلتُ: قد يمنع أن اعتماده على هذا المدرك وحده في ذلك، بل بقرينة أخرى اقتضته سيأتي بيانها في محلها من باب العموم.
وفي كلام إمام الحرمين وإلْكِيَا قاعدة في ذلك زادها ابن دقيق العيد وضوحًا:
أنَّ لفظ العام إما أن يظهر فيه قصد العموم مطلقًا بقرينة حالية أو مقالية، فيدخل قطعًا. وإما أن لا يظهر قصد العموم في شيء وأنه بمعزل عن قصد شيء آخر، فلا يدخل. هذا على المرجح.
ومثَّله ابن دقيق العيد بحديث: "فيما سقت السماء العشر"
(1)
هل يدخل القليل والكثير كما زعمت الحنفية؟ أوْ لا؛ لأن المقصود بيان القدر الواجب إخراجه، لا المخرج منه؟ وهذا إنما بُين في حديث:"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"
(2)
.
قال: (والتحقيق عندي أنَّ دلالة لفظ العام فيه أضعف مِن دلالة المقصود، ومراتب الضعف متفاوتة، فأما أنْ لا يظهر فيه شيء مما سبق فيحتمل الأمرين، مثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] هل يستدل به على منع شراء الكافر العبد المسلم ونحوه؟ ).
تنبيه:
يأتي في هذه المسألة ما سبق في التي قبلها من كونه هل يختص بلفظ غير الشارع من حيث التعليل بعدم خطوره في البال؟ أو لا يختص؟ ويجاب بما سبق.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 1378)، صحيح مسلم (رقم: 979).
نعم، قد يتوهم اتحاد المسألتين؛ لأن النادر هو غير المقصود، وليس كذلك.
فالفرق أن المقصود قد يكون نادرًا وقد لا يكون، والنادر قد يُقصد وقد لا يُقصد، فَرُب صورة تتوفر القرائن على أنها لم تُقصد وإن لم تكن نادرة، ورُب صورة تدل القرائن على أنها مقصودة وإنْ كانت نادرة.
الأمر الثاني: في محل العموم:
فأما كونه من عوارض اللفظ حقيقة فلا خلاف فيه. يقال: "هذا لفظ عام"، كما يقال:"لفظ خاص".
قال في "البديع": بمعنى وقوع الشركة في المفهوم، لا بمعنى الشركة في اللفظ.
يريد بذلك أنه ليس المراد بوصف اللفظ بالعموم وصفه به مجردًا عن المعنى، فإن ذلك لا وجه له، بل المراد وصفه به باعتبار معناه.
فمعنى كون اللفظ عامًّا حقيقة أنه يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون، لا أن يكون مشتركًا بالاشتراك اللفظي كالقرء للطهر والحيض لكونه وُضع لكل منهما.
وحاصله أن مدلوله معنى واحد مشترك بين الجزئيات المشخَّصة، بخلاف المشترك، فإنه وُضع لكل معنى على حدته مشخصًا.
وترتب على ذلك أن عموم الكلام النفسي هو بهذا الاعتبار؛ لأن اللفظ الدال عليه يقال فيه ذلك.
ولهذا قال الأبياري في قول الغزالي: (إن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ):
(لا يُظَن به إنكار كلام النفس وإلا لما كان في الاحتياج إلى الصِّيَغ ذكر معرفة وضع اللغة فيها). انتهى
واعلم أن إطلاق كون العموم في اللفظ كما عبرت بذلك في تعريف العام بقولي: (اللَّفْظُ
إذْ يَسْتَغْرِقُ) يدل على دخوله في المجاز كما يدخل في الحقيقة.
قاله الأكثرون، خلافًا لبعض الحنفية.
لنا: أنَّ أئمة اللغة وغيرهم لا يزالون يقولون في المحلَّى بِـ "أل" و"المضاف" و"النكرة في سياق النفي" ونحوه: إنَّ ذلك للعموم، مِن غير أن يُقَيِّدوا بكون ذلك في الحقيقة، بل للأعم من الحقيقة والمجاز.
وفي الحديث: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أنَّ الله أَحَلَّ فيه الكلام"
(1)
. والاستثناء معيار العموم، وقد استثنى منه وهو مجاز.
قلتُ: فيه نظر؛ لأن "صلاة" خبر عن الطواف، وهو نكرة؛ لأنها في إثبات، والاستثناء إنما هو في بعض أحكامها، إذِ التقدير: كالصلاة إلا في حل الكلام فيه، أي: في الطواف، فإنه ليس كالصلاة.
واستدل المانع بأن المجاز على خلاف الأصل؛ فيقتصر منه على قَدْر الضرورة، فلا يدخله عموم.
وجوابه: منع أن المجاز للضرورة، حتى إنَّ قومًا قالوا: إنه غالب على اللغات وإنْ سبق أن ذلك إنما هو في نوع منه غَيْر لفظ وهو المُقْتَضَى، فجرى فيه الخلاف لذلك.
ووقع في "منع الموانع"
(2)
لابن السبكي أن هذه المسألة هي مسألة "جريان العموم في المجاز". وليس كذلك كما بيناه، فهو وهْم.
هذا ما يتعلق بالعموم في الألفاظ.
(1)
المستدرك على الصحيحين (رقم: 1686)، صحيح ابن حبان (3836)، وغيرهما بنحوه. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3825).
(2)
منع الموانع (ص 508).
وأما كونه من عوارض المعاني أيضًا -أي: المستقلة التي ليست هي من مدلولات اللفظ المحكوم بأنه عام- فإن هذا قد تَقدم بيان تقرير العموم فيه، بخلاف ما نحن فيه وهو المعنى من حيث هو، وفيه مذاهب:
أحدها: أن العموم لا يكون في المعاني، لا حقيقة ولا مجازًا. حكاه ابن الحاجب وغيره.
ثانيها: أنه يكون في المعاني حقيقة كما يكون في الألفاظ، فيكون العموم موضوعًا للقَدْر المشترك بينهما بالتواطؤ على الأصح.
وقيل: موضوع لكل منهما حقيقة، فهو مشترك لفظي.
وممن قال بأنه حقيقة في المعاني كالألفاظ: أبو بكر الرازي من الحنفية، وحكاه عن مذهبهم، واختاره ابن الحاجب.
فيقال: عَمَّ المطرُ والخصبُ الناسَ، وعمهم العطاءُ، ونحو ذلك كله حقيقة.
والمذهب الثالث (وهو المختار وقول الأكثرين): أنه يكون من عوارض المعاني كما مثَّلنا، وأشرت إلى ذلك في النظم بقولي:
("الرَّشَد يَعُمُّنَا وَالْخِصْبُ وَالْمَطَرْ" لَكِنْ مَجَازًا) لا حقيقة.
ونقله مع الذي قبله الشيخ أبو إسحاق وجهين لأصحابنا وأنَّ الأكثرين على أنه مجاز، وكذا صححه إلْكِيَا وابن برهان.
ونقله عبد الوهاب في "الإفادة" عن الجمهور، واختاره الآمدي وغيره، وحملوا إطلادق عموم المطر والخصب ونحو ذلك على المجاز؛ لأن العام أمر واحد شامل لمتعدد، وعموم هذه ليس من ذلك؛ لأن الموجودَ [منها]
(1)
في محلٍّ غيرُ الموجود منها في المحل الآخَر، فليس
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): هنا.
بين المطر الواقع في ذلك المكان والعطاء المتصل بزيد نِسبة بالواقع بهذا المكان والعطاء المتصل بعمرو.
وأما جواب ابن الحاجب
(1)
عن ذلك بأن "اشتراط الوحدة في العموم ليس من اللغة بل المدار فيها على الشمول، سواء أكان هناك أمر واحد أَم لا" ففيه نظر؛ فإنه إذا لم يكن هناك وحدة، فهي أمور متعددة، فأين العموم حقيقةً؟ !
وأما قوله: (إن نحو: "عموم الصوت" متحد، وكذا الأمر والنهي اللذان هما الطلب النفساني، والمعاني الكلية)
(2)
كالحيوان فقد يجاب عنه بأن:
- العام في الصوت إنما هو سماع الصوت من السامعين، وهو من المتعدد المحل كما سبق، وإلا لزم أن يكون ذات الشمس أو القمر عامًّا؛ لأن كل واحد يراهما. أما نفس الصوت فلا عموم فيه.
- وأما الأمر والنهي النفسانيان فقد سبق في صدر المسألة بيان المراد بذلك وتقريره من كلام الأبياري شارح "المستصفى".
- وأما المعاني الكلية فسنوضح ذلك فيها في تقرير المذهب الذي بعد هذا (وهو المذهب الرابع) بالتفصيل بين المعاني الخارجية والذهنية، ففي الذهنية حقيقة، وفي الخارجية مجاز.
وقال الصفي الهندي: (إن هذا هو الحق، فتعدد الخارجي بتعدد محاله، بخلاف المعاني الكلية الذهنية، فإنها عامة بمعنى أنها معنى واحد متناول لأمورٍ كثيرة)
(3)
.
ولأن الخارجية ليس العموم فيها على سبيل الاستغراق الذي لا يتحقق العام إلا به كما
(1)
مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 698). الناشر: دار ابن حزم.
(2)
مختصر منتهى السؤل والأمل (2/ 698). الناشر: دار ابن حزم.
(3)
نهاية الوصول في دراية الأصول (3/ 1231).
سبق في تعريفه.
وقد حُكي في المسألة مذاهب أخرى ضعيفة.
منها: أنه حقيقة في المعاني دون الألفاظ. وهو أَبْعَدها، فإنْ ثبت فهو قادح في حكاية كثير الاتفاق على أنه حقيقة في اللفظ كما سبق.
ومنها: أنه مجاز في الألفاظ والمعاني معًا، وعموم اللفظ إنما هو بحسب الاصطلاح فقط. يخرج ذلك من قول الصفي الهندي في "الرسالة السيفية":(إن العموم من عوارض الألفاظ خاصة بحسب الاصطلاح إجماعًا، وكذا في اللغة على المختار، وقيل: من عوارض المعنى). انتهى
ومنها: أن المعنى الكلي يوصف بالعموم، بخلاف الجزئي.
ومنها: القول بالوقف. وعُزي للآمدي؛ وذلك لتعارض الأدلة من الجانبين وتكافُؤهما. وغير ذلك مما لا نُطَول به.
تنبيهان
الأول: مما يتفرع على الخلاف في هذه المسألة مسألة: المفهوم هل له عموم؟ أم لا؟ وكذا مسألة عموم المقتفَى في نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، حتى يَعم الأكل واللبس والبيع وسائر الانتفاعات بها وإنْ لم يكن لهذه الأحكام ذِكر، وسيأتي بيان ذلك في محله.
ومنها: أن العقل هل يكون مُخَصِّصّا؟
ومنها: أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم هل يكون عامًّا؟
وغير ذلك.
الثاني: أن هذا الخلاف يجري في الخصوص هل يوصف به اللفظ أو المعنى حقيقةً؟ أو مجازًا؟
وعبارة "المقترح" في ذلك: (القائلون بأن "العام والخاص من عوارض الألفاظ" اختلفوا على مذهبين) إلى آخِر ما ذكره.
الأمر الثالث:
يقال في المعنى: (أعم)، وفي اللفظ:(عام).
وهو معنى قولي: (بِالْأَعَمِّ يُدَّكَرْ). أي: يُعبر عن عموم المعنى بهذا اللفظ، ويذكر في وَصفه ذلك، فيقال: هذا أَعَم.
قال القرافي: (اصطلحوا على أن المعنى يقال له: "أَعَم" و"أَخَص"، واللفظ يقال له: "عام" و"خاص"، لأن "أَعَم" أَفْعل تفضيل، والمعاني أفضل من الألفاظ)
(1)
. انتهى
ولا يخفَى ما فيه من نظر، بل إطلاق الناس يخالف هذا الاصطلاح.، فيقولون فيها:(عام) و (خاص) كالألفاظ.
تنبيه:
الأخص يندرج تحت الأعم، ويقع في عبارة بعضهم: إن الأعم يندرج تحت الأخص. كما عبر به "المقترح".
ووجْه الجمع أنَّ الأول في اللفظ، فإن الحيوان صادق على الإنسان وغيره، بخلاف العكس.
والثاني في المعنى، فيقال فيه: إنَّ الإنسان لا بُدَّ فيه من الحيوانية. فصار الأعم مندرجًا في
(1)
نفائس الأصول في شرح المحصول (2/ 422).
الأخص، وهي الحيوانية في الإنسانية بمعنى الاستلزام. والله أعلم.
ص:
571 -
مَدْلُولُهُ كُلمة، أَيْ يُحْكَمُ
…
فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ إذْ تَحْكُمُ
572 -
لَاكُلٌّ الْمُخْتَصُّ بِالْمَجْمُوعِ
…
وَاحِدُ ذَا جُزْءٌ، وَبِالْمَرْفُوعِ
573 -
يَرْتَفِعُ الْكُلُّ، خِلَافَ الْكُلِّي
…
وَالْمُفْرَدُ الْجُزْئِيُّ مِنْ ذَا الْأَصْلِ
الشرح:
لَمَّا فرغتُ مِن تعريف "العام" وبيان أن محله الحقيقي اللفظ باعتبار عموم معناه، وكان فائدة ذلك أنه إذا حُكم على العام بحكم نفيًا أو إثباتًا، يكون ذلك الحكم عامًّا على كل فرد فرد حتى يستغرق، نحو: كل رجل يشبعه رغيفان. فيكون مدلوله حين الحكم عليه كُلية؛ لأن المراد حينئذٍ أنه صار قضية كُلية، كما أن الحكم على البعض قضية جزئية، وذلك معنى "القضية المسورة" عند المناطقة، حيث يقسمون ما له سور كُل أو بعض إلى: موجبة كُلية وجزئية، وسالبة كُلية وجزئية.
فالمعنى في القضية أنه قُضي وحُكم فيها بشيء على شيء، فعيلة بمعنى: مفعولة، وإنْ تركت الصلة لكثرة الاستعمال.
وفي كونها كُلية أن الحكم على كل فرد مما دخل تحت الموضوع، نحو: كل إنسان حيوان.
والجزئية: الحكم على البعض، نحو: بعض الحيوان إنسان.
وفي السلب: لا شيء من الإنسان بحَجر، بعض الإنسان ليس بحَجر.
فقولي: (إذْ تَحْكُمُ) هو بالتاء المثناة من فوق أو بالنون مبنيًّا للفاعل؛ ليباين قولي أولًا: (أيْ يُحْكَمُ) فإنه بالمثناة تحت مضمومة مبني للمفعول.
والمراد الإشارة إلى أن مدلول العام كلية عند الحكم عليه لا من حيث هو؛ لأن مدلوله من حيث هو "المعنى المستغرق" كما سبق في تعريفه، وهو من قبيل التصور، لا الحكم عليه؟ فإنه من قبيل التصديق.
وهذا معنى إطلاق مَن يطلق أنَّ مدلول العام كلية، فإنما مراده عند الحكم، لا مِن حيث التصور.
وقولي: (لَا كُلٌّ الْمُخْتَصُّ بِالْمَجْمُوعِ) إلى آخِره -أي: ليس مدلول العام حين الحكم عليه كُلًّا المجموعي، أي: الدال على أفراد مجتمعة، كالعشرة، ومقابِل هذا:"الجزء"
(1)
، نحو "الخمسة" منها، فنحو:"كل رجل يرفع الصخرة" من الكل المجموعي؛ إذ المراد فيه المجموع، لا كل فرد.
وليس المراد أيضًا -بالحكم في العام- الكُلي، وهو كما سبق: ما لا يمنع تَصوره من وقوع الشركة فيه. وربما يقال: ما يشترك في مفهومه كثيرون.
فليس مدلول العام -عند الحكم- الحكم على الكُلي؛ لأن الحكم على الكلي حكم على القَدْر المشترك بين الجزئيات، لا على كل جزئي جزئي حتى يستغرقها، كما تقول المناطقة في القضية التي هي غير محصورة ويقسمونها قسمين:
مهملة: وهي ما قصد فيها الحكم على الأفراد من غير تَعرُّض لكُلها ولا بعضها. نحو: الإنسان كاتب بالقوة.
و[طبيعية]
(2)
: وهي الحكم على ذلك القدر المشترك من غير نظر إلى المشخَّصات. نحو: الإنسان حيوان ناطق. فهو وإن كان فيه عموم لكنه ليس استغراقيًّا، بل بدلي، مِن قبيل
(1)
يعني: مصطلح "الكل" يقابله مصطلح "الجزء"، كالخمسة جزء من العشرة.
(2)
في (س، ض): طبيعته.
المطلق.
فحصل الفرق بين الحقائق الستة: الكُل، والجزء، والكُلي، والجزئي، والكُلية، والجزئية. وأنها الحكم على كل فرد أو بعض الأفراد، نحو:"بعض الإنسان كاتب"، ومعنى الحكم على كل منها إذا حكم.
وعرف أن العام في الحكم كُلية، لا كُلي في الحكم، ولا كُل في الحكم.
وممن تَعرَّض للفرق بين هذه الحقائق: شارحا "المحصول" -الأصفهاني والقرافي- وقد علمت مأخذهما من علم المنطق واصطلاح أهله.
وقولي: (وَبِالْمَرْفُوعِ يَرْتَفِعُ الْكُلُّ) إشارة إلى ما يتميز به "الكل المجموعي" عن "الكلي" مِن أنَّ الجزء مِن الكل إذا ارتفع، ارتفع الكل، كالواحد مِن العشرة. وأنَّ الجزئي مِن الكلي إذا ارتفع، لا يرتفع الكلي، فإنك إذا قلت:(هذا المتحرك ليس بإنسان)، فلا يلزم ارتفاع الحيوان عنه.
وعُلِم مِن هذا أنَّ الكُلي يَصْدق على كل مِن جزئياته، بخلاف العكس، وأن الجزء مِن الكل لا يَصْدقُ عليه اسم الكل، ولا العكس.
ومن هذا يُعلم جواب سؤال القرافي المشهور: أنَّ دلالة العام على الواحد مِن أفراده خارجة عن الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام، فيلزم فساد الانحصار فيها أو عدم دلالة العام على فرد مِن أفراده، وكلاهما باطل.
وسبق هذا السؤال في مباحث اللغة وجوابه، ونزيده هنا بيانًا، فنقول:
قال القرافي: (دلالة المشركين على الواحد منهم -كـ "زيد المشرك" مثلًا- لا يمكن أن تكون بالمطابقة؛ لأنه ليس تمام مُسمَّى المشركين، ولا بالالتزام؛ لأنه ليس خارجًا، ولا
بالتضمن، لأنه ليس جزء المسمَّى، إذِ الجزء يقابل الكل، والعموم كُلية، لا كُل)
(1)
. انتهى
وقد أجاب الأصفهاني عن ذلك بما حاصله: أنه دالٌّ بالمطابقة، قال:(لأنَّ تلك إنما هي في دلالة المفرد حيث لا حُكم، وأما عند الحكم فنحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] متضمن لقضايا كثيرة، كأنه قيل: "اقتل زيدًا المشرك وفلانًا المشرك" وهكذا إلى آخِره، وكل واحد مطابقة)
(2)
.
وأوضح مِن هذا ما أشرتُ إليه في الكلام على الدلالة أنْ يُقال: "الفرد المشخَّص مِن أفراد العام" لفظ العام دل عليه بالمطابقة من حيث المعنى المشترك فيه وإنْ كان لا يدل عليه من حيث خصوصه، فإن ذاك أمرٌ خارجي عن دلالة المتواطئ على جزئيات الكلي، فالاستدلال بالعام على المشخَّص من أفراده من هذه الحيثية، لا من حيث تشخيصه، وهو ظاهر، والله أعلم.
ص:
574 -
ثُمَّ دِلَالَة لَهُ قَطْعِيَّهْ
…
في أَصْلِ مَعْنًى، وَلنَا ظنِّيَّهْ
575 -
في كُلِّ جُزْئِيٍّ، وَذُو التَّعْمِيمِ
…
[مِنْ لَازِمِ]
(3)
الْأَشْخَاصِ لِلْعُمُومِ
576 -
في سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ
…
وَبُقَعٍ، لَا مُطْلَقُ الْمَعَانِي
الشرح:
قد عُلم مما قررناه أنَّ لفظَ العامِ له دلالتان:
(1)
شرح تنقيح الفصول (ص 26).
(2)
الكاشف عن المحصول (4/ 213 - 214).
(3)
كذا في (ص، ن 3، ن 4). لكن في (ض، س): ولازم. وفي (ن 1، ن 2): في جملة. وفي (ق، ن 5): فِى لازم.
- دلالة على المعني الذي اشتركت فيه أفراده، وهي التي بيَّنا أنَّ الحكم فيها على الكلي، وليس للعام بها اختصاص، فإنها تتعلق بِـ"الكُلي" سواء أكان فيه عموم أو لا.
- ودلالة على كل فرد من أفراده [بالخصوص]
(1)
، وهي التي لها خصوصية بالعام، ويُعبر عنها بِـ "الكُلية"، وعليها السؤال السابق وجوابه.
وحينئذٍ فيبقى النظر في أن الدلالتين قطعيتان أو لا.
أما الأُولى: فقطعية بلا شك، وهو معنى قولي:(في أَصْلِ مَعْنًى). أي: في ذلك المعنى المشترك.
قال صاحب "جمع الجوامع": (وهو عن الشافعي)
(2)
. أي: محكي عنه.
وهذا التخصيص لا معنى له؛ فإنه محل وفاق، ومعنى القطع فيه دلالة النصوصية. أي: هو نَص، فالقطع فيه من هذه الحيثية؛ فيكون كدلالة الخاص.
وأما الدلالة الثانية: فالمنقول عن الشافعية أنها ظنية، لا تدل على القطع إلا بالقرينة؛ وذلك لأن صِيَغ العموم تَرِد تارة باقية على عمومها، وتارة يُراد بها بعض الأفراد، وتارة يقع فيها التخصيص، ومع الاحتمال لا قَطْع.
بل لما كان الأصل بقاء العموم فيها، كان هو الظاهر المعتمد للظن، ويخرج بذلك من الإجمال؛ ولهذا الصحابة وأهل اللغة إنما يتطلبون عند ورود العمومات دليل التخصيص، لا دليل التعميم؛ لأنه الأصل.
وأيضًا فلولا ذلك لَمَا جاز تأكيد الصِّيَغ العامة، إذ لا فائدة فيه، وقد قال تعالى:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].
(1)
في (ص، ق): من خصوص.
(2)
جمع الجوامع (1/ 514) مع شرح المحلي وحاشية العطار.
والمنسوب للحنفية أنَّ دلالة العام على كل فرد منه قطعية، ولكن ذلك إنما قال به جمهورهم، ومنهم صاحب "اللباب" وأبو زيد الدبوسي وغيرهم، وإلَّا فقال بمثل قولنا:(إنها ظنية) أبو منصور الماتريدي ومَن تبعه من مشايخ سمرقند.
نعم، عَزى الأبياري في "شرح البرهان" كونها قطعية إلى المعتزلة، قال:(لاعتقادهم استحالة تأخير البيان عن وقت الخطاب، فلو لم يُرَد عمومه، لَزِمَ تأخير البيان)
(1)
.
ونقل هذا القول الأستاذ أبو منصور عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وكذا نقله الغزالي في "المنخول". ولكنه خلاف المشهور عن الشافعي الذي نقله إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما.
وكأنَّ مَن نقل عنه القطع توهَّمه من إطلاقه أنه نَص في الأفراد، وهو إنما يريد بالنصوصية -في الغالب- ما يكون ظاهرًا في الدلالة بحيث يكون الاحتمال فيه ضعيفًا.
ولهذا أنكر إلْكِيَا في"التلويح" على مَن نقل ذلك عن الشافعي، فقال: هذا لم يصح عنه، فالحقُّ غيره.
وعبارة إمام الحرمين في "البرهان": (أما الفقهاء فقد قال جماهيرهم: إن الصِّيَغ الموضوعة للجمع نصوص في الأقل، ظواهر فيما زاد عليه. والذي صح عندي من مذهب الشافعي أن الصيغة العامة لو صح تجردها عن القرائن، لكانت نصًّا في الاستغراق)
(2)
.
قال: (وإنما التردد فيما عدا الأقل من جهة عدم القطع بانتهاء القرائن المخَصِّصة)
(3)
. انتهى
(1)
التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 881).
(2)
البرهان (1/ 221).
(3)
البرهان في أصول الفقه (1/ 221).
نعم، في كلامه بعد ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي أن يُطلق ذلك، بل يقال: بعض الأفراد الدلالة فيه قطعية والبعض ظنية.
وكأنه يشير إلى ما قدَّمه مِن أنه لو كانت صيغة العموم جمعًا مثلًا فتكون في أقَل الجمع قطعية وفيما زاد ظنية. وكذا قال إلْكِيَا في "تعليقِه" في الأصول، وكذا قرره المازري، لكن قال:(إن محل الخلاف فيما زاد على أقَل الجمع، أما الأقل فقطعي بلا خلاف)
(1)
.
قلتُ: وكأنَّ هذا مُفرَّع على ما سيأتي في الباقي بعد التخصيص إذا كان العام جمعًا. ونحوه: هل يشترط أن يبقى أقَل الجمع؟ أو يجوز إلى واحد؟
وعلى كل حال فإذا كان الخلاف قائمًا، فكيف يحكي القطع في أقَل الجمع؟
وعبارة الإمام وإلْكِيَا إنما تشعر بنصوصية أقَل الجمع، فيقطع به قَطْع النصوصية، لا أنه بلا خلاف بين العلماء.
نعم، قيل: محل الخلاف ما لم تكن قرينة تقتضي قصد كل فرد، وذلك كالعمومات التي يُقطع بعمومها ولا يدخلها تخصيص، نحو:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. وسيأتي منها طائفة وزيادة بيان في الكلام على التخصيص، وكذلك ما لا يحتمل إجراؤه على العموم، كقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]. كذا استثناه بعض الحنفية. قال: لأن كل فرد فرد من الفريقين ليس مُعَينًا حتى يدل عليه العموم، بل ذلك كالمجمل، يجب التوقف فيه إلى بيان المراد منه.
وأنا أقول: لا يحتاج إلى هذا التقييد؛ فلذلك أطلقت في النَّظم؛ لأن الكلام في العام من الأصل، والأصل عدم القرائن على إرادة عمومه أو خصوصه.
(1)
انظر: إيضاح المحصول (ص 272).
تنبيه:
مما يترتب على هذا الخلاف أنه: هل ينسخ العام الخاص والخاص العام في القدر المعارض؟ وهل [يخصص]
(1)
العموم بالقياس وبخبر الواحد؟
ومن الفقه: لو قال في الإقرار: (له علَيَّ خاتم)، ثم قال:(ما أردت الفص)، ففي قبوله وجهان، أصحهما المنع؛ لأن الفص يتناوله اسم الخاتم، فهو رجوع عن بعض ما أَقَر بِه.
وفي تفريع هذا على المسألة نظر؛ فإن دلالة الخاتم على الفص ليس من دلالة العام على الأفراد، وإنما نشأ الخلاف: هل الفص داخل في مسمَّى الخاتم مِن دلالة الكل على الجزء؟ أو مُسمَّى "الخاتم" الحلقة بدون الفص؟
ولما كان الأرجح الدخول كان المرجح أنه لا يُقبل؛ فقد قال أهل اللغة: إن الخاتم اسم له مع الفص، وإلا فيُسمى حلقة، وقيل: فتخًا.
وقولي: (وَلَنَا ظَنيهْ) إلى آخِره -أي: وعندنا أيها الشافعية أن هذه الدلالة ظنية.
وقولي: (وَذُو التَّعْمِيمِ) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ العام في الأشخاص المدلول عليها بلفظ العام هل هو عام أيضًا في أحوال تلك الأشخاص والأزمنة والبقاع والمتعلقات؟ أو مُطْلَق فيها بحيث يُكتفَى من ذلك بما يَصْدُق من غير تعميم في الكل؟
فيه طريقتان:
إحداهما: أنَّ العام في الأشخاص عام في الأمور الأربعة. صرح به ابن السمعاني في "القواطع في مسألة "الاستصحاب"، والإمام في "المحصول" في "القياس"، إذ قال في جواب سؤال: (قُلنا: لَمَّا كان أمرًا بجميع الأقيسة، كان متناولًا لا محالة لجميع الأوقات،
(1)
في (ت): يختص.
وإلا لقدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة)
(1)
.
الثانية وإليها جنح كثير من المتأخرين كالآمدي والأصفهاني في شرح "المحصول" والقرافي وغيرهم: أن العام في الأشخاص ليس عامًّا في الأربعة؛ لأن العام في شيء بلفظ لا يكون عامًّا في غيره إلا بلفظ يدل عليه، بل مطلق. فإذا قال {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، عَمَّ كل مشرك، ولا يَعُم كل حال حتى يقتل في حال الهدنة أو الذمة أو نحو ذلك، لكن قيل: إنَّ في هذه الآية دليلًا على أنه مُطلق في غير الأشخاص، لا عام؛ لأنه قال:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، ولو كان عامًّا لكان ذكر العموم في "حيث" في الزمان تكرارًا.
نعم، بعد أنْ اختارها القرافي وقررها شكك عليها بأنه يَلزم عليها عدم العمل بجميع العمومات في هذا الزمان؛ لأنه قد عُمل بها في زمنٍ ما، والمطلَق يخرج عن عُهدة العمل به بِصُورَةٍ.
وأجاب عن ذلك الشيخ علاء الدين الباجي -فيما نقله الشيخ تقي الدين السبكي في كتاب "أحكام كُل"- بأن المراد بكونه مطلقًا في الأحوال والأزمنة والبقاع باعتبار الأشخاص الذين عُمل به فيهم، لا باعتبار أشخاص آخَرين، حتى إذا عُمل به في شخص في حالة ما في مكان ما، لا يُعمل به فيه مرة أخرى. أما في شخص آخَر فيُعمل به فيه وإلا يلزم التخصيص في الأشخاص، فالتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر ذلك الحكم، فإذا جُلد زانٍ، لا يُجلد ثانيًا إلا بزنًا آخَر. وبه ينجمع كلام مَن قال:"مُطْلَق" ومَن قال: "عام".
وكذا أجاب الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"، وقال في "شرح العمدة" في حديث أبي أيوب الأنصاري: "ثم قدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبل
(1)
المحصول (5/ 37).
القِبلة"
(1)
: (إنَّ في ذلك دلالة على العموم؛ لأنَّ أبا أيوب -وهو من أهل اللسان والشرع- فَهِمَ العموم في الأمكنة)
(2)
.
وإنما استدل به لأن الحديث عام في الأشخاص باعتبار أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها"
(3)
نكرة في سياق النهي، فكان عامًّا في كل استقبال واستدبار.
نعم، وقع له في "شرح العمدة" ما يخالف ذلك، فقال في حديث "بيع الخيار"
(4)
: (إن الخيار عام، ومتعلقه -وهو ما يكون فيه الخيار- مُطْلَق).
قال: (فيحمل على خيار الفسخ)
(5)
. انتهى
والتحقيق في المسألة (كما يُفهم مِن نُقول الطريقتين واختاره ابن المرحل والشيخ تقي الدين السبكي وولده) أنه يعم بطريق الاستلزام، لا بالوضع، وهو معنى:"مِن لازم الأشخاص"، أي: مِن لازم تعميمه للأشخاص عمومه في الأحوال والأزمنة والبقاع.
وقال الشيخ تاج الدين السبكي: (وقع لي مرة الاستدلال على العموم بحديث أبي سعيد بن المعلى حيث دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يُجِبْه، فقال له عليه الصلاة والسلام:"ألم يقُل الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] "
(6)
(1)
صحيح البخاري (386)، صحيح مسلم (رقم: 264).
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 99).
(3)
صحيح مسلم (264)، سنن الترمذي (رقم: 8)، سنن النسائي (21)، وفي صحيح البخاري (رقم: 386) بلفظ: (إذا أتيْتُم الْغَائِطَ فلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 2005)، صحيح مسلم (1532)، وغيرهما.
(5)
شرح عمدة الأحكام (2/ 106 - 110).
(6)
صحيح البخاري (رقم: 4204)، وغيره.
فقد جعله صلى الله عليه وسلم عامًّا في الأحوال).
قال: (ثم ظهر لي أنَّ العموم في الأحوال إنما جاء من صيغة "إذا" الشرطية، فإنها ظرف، والأمر متعلق بها، والمعلَّق على شرط يقتضي التكرار، والظرف يشمل جميع الأوقات)
(1)
.
نعم، قال الشيخ تقي الدين في مصنفه في "كل": إن تقرير الباجي المتقدم -وكذا ما في "شرح الإلمام"- قد يُعترض عليه بأن عدم تكرار الجَلْدِ مثلًا معلوم مِن كون الأمر لا يقتضي التكرار وبأن "المطلق" هو الحكم، و"العام" هو المحكوم عليه، وهُما غيران، فلا يصلح أن يكون ذلك تأويلًا لقولهم: العام مطلق.
قال: فينبغي أن يهذب هذا الجواب، ويجعل العموم والإطلاق في لفظ واحد، بأنْ يقال: المحكوم عليه -وهو الزاني مثلًا أو المشرك- فيه أمران، أحدهما: الشخص، والثاني: الصفة، كالزنا والشرك مثلا. فأداة العموم لَمَّا دخلت عليه أفادت عموم الشخص، لا عموم الصفة، والصفة باقية على إطلاقها، فهذا معنى قولهم:"العام في الأشخاص مُطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع". أي: كل شخص حصل منه مطلق زنا حُدَّ، أو مطلق شِرك قُتل بشرطه، ورجع العموم والإطلاق إلى لفظة واحدة باعتبار مدلولها مِن الصفة والشخص المتصف بها. ثم إنه مع هذا لا يكون كون الصفة مطلقة يحمل على بعض مُسماها؛ لأنه يَلزم منه إخراج بعض الأشخاص.
نعم، لو حصل استغراق الأشخاص، لم يحافظ مع ذلك على عموم الصفة؛ لإطلاقها.
تنبيه:
مما يوافق المختار في المسألة -وهو العموم في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات-
(1)
الإبهاج (2/ 86).
ما في فتاوى "الغزالي": الو قال لأَمته الحامل: "كل ولد تلدينه فهو حر" إنه كما يشمل الذكر والأنثى يشمل اختلاف الوقت، فينبغي أنْ يعم ويتكرر). انتهى
ونَصَّ الشافعي فيما إذا قال: (أنت طالق) ثم قال: (أردتُ إنْ دخلتِ الدار) أنه لا يدين، وإذا نوى إلى شهرين، يدين، فيفرق بين الزمان والمكان.
وظاهر كلام مُجَلي في "الذخائر" والرافعي وغيرهما أنه لا فرق.
نعم، هذا اللفظ لا عموم له البتة، وإنما هو مُطلق، والكلام في العام في الأشخاص، والله أعلم.
ص:
577 -
وَصِيَغُ الْعُمُومِ "كُلّ" وَكذَا
…
نَحْوُ "جَميعٍ" وَلمَوْصُولٍ بِذَا
578 -
يُقْضَى، كَذَا لِلشَّرْطِ وَاسْتِفْهَامِ
…
أَسْمَاءُكُلِّ هَذ الْأَقْسَامِ
الشرح:
لَمَّا تقرر أنَّ العموم من عوارض اللفظ قطعًا، ترتب عليه أنَّ العام هل له صيغة تخصُّه يتميز بها عن غيره تكون حقيقة فيه؟ أوْ لا؟
فيه مذاهب:
أحدها: نعم، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم.
قال عبد الوهاب: (هو قول مالك والفقهاء بأَسْرهم).
ومَن تتبع كلام مالك في "الموطأ" يجده كثيرًا.
وقال ابن حزم: إنه قول جميع أهل الظاهر، وبه نأخذ.
وقال الصيرفي: زعمت طائفة من أصحاب الشافعي أن مذهبه التوقف. كما هو أحد
المذاهب الآتية، وهو ضد قول الشافعي المشتهر في كُتبه وعند خصومه.
فَنَصُّه في "الرسالة": (إنَّ الكلام على عمومه وظاهره حتى تقوم دلالة على أنه خاص دون عام، وعلى أنه باطن دون ظاهر)
(1)
.
وقال أيضًا: (فكل خطاب في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في كلام الناس فهو على عمومه وظهوره إلى أن تأتي دلالة تدل على أنه خاص دون عام وباطن دون ظاهر).
وكرر مثل هذا فيها كثيرًا.
ثم ذكر الصيرفي نصوصًا للشافعي كثيرة صريحة، بل ظاهرها القطع بذلك، قال:(والدليل القطعي قائم عليه).
ثم بين عُلْقة مَن نقل عن الشافعي الوقف ورَدَّها، قال:(ولا يقال: له في المسألة قولا؛ لأن هذا غير معروف، بل العروف خلافه بين أصحابه، كالمزني وأبي ثور والبويطي والكرابيسي وداود والأشعري وسائر الشافعيين). انتهى
فقضى بأن الأشعري من أصحاب الشافعي، ونقل عنه ذلك، لكن سيأتي أن مذهب الأشعري الوقف، ويأتي الجمع بين كلاميه.
وممن نقل ذلك أيضًا عن الشافعي: الشيخ أبو حامد، وذكر نَصه في "الرسالة" السابق، وذكر نحوه عن نَصه في "أحكام القرآن".
وكذا قال أبو الحسين بن القطان: (إن فرقة شذت من أصحاب الشافعي زعمت أن مذهبه الوقف في صِيَغ العموم؛ لأشياء تعلَّقوا بها من كلامه، حيث قال في آيات: إنها تحتمل أن تكون للعموم وأن تكون للخصوص. والشافعي لم يُرِد ما ذهبوا إليه، وإنما مراده أنها
(1)
الرسالة (ص 322).
تحتمل عنده أن دلالة تنقله عن ظاهره من العموم إلى الخصوص، لا أنَّ حقه الاحتمال). انتهى
وبالجملة فنصوصه طافحة بِصِيَغ العموم وأنها تُحمل عليه عند الإطلاق والتجرد عن القرائن، ثم يبقى النظر في كونه قطعًا في كل فرد أو ظاهرًا أو أنه في أصل المعنى قطعي كما سبق.
وعلى هذا القول: إذا استعملت صيغة العام في خاص، تكون مجازًا، وستأتي المسألة مبسوطة.
المذهب الثاني: أنه قد يدل على العموم باللفظة الواحدة لكن مجازا، وإنما أصلها الخصوص، فلا يدل على العموم إلا بقرينة. وبهذا قال ابن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفية وغيرهما.
ثم اختلف هؤلاء في أنه: هل تحمل هذه الصيغ على اثنين؟ أو على ثلاثة؟ على حسب اختلافهم في أقَل الجمع، أيْ وإنْ لم يكن صيغة العام جمعًا.
قالوا: لأن ذلك محقَّق، والأصل عدم الزائد.
لكنه مردود بما سيأتي في ثبوت ذلك، فالجميع محقَّق.
الثالث: الوقف، ويُعزى للأشعري وكثير من أتباعه كالقاضي والآجري وغيرهما، وإليه ذهب الآمدي، ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الأشعري ومعظم المحققين؛ لأَنا سبرنا اللغة ووضْعها فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم، سواء وردت مطلقة أو بضرب من التأكيد.
قال الإمام في "البرهان": (ومما زَلَّ فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تُشعر بالجميع، بل تبقى على التردد. وهذا وإن صح النقل فيه فهو
مخصوص عندي بالتوابع المؤكِّدة لمعنى الجمع، كقولك: رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين. فأما ما ألفاظه صحيحة صريحة تعرض مُقَيدة فلا يُظَن بذي عقل أن يتوقف فيها)
(1)
. انتهى
وحاصله إنكار النقل عن الواقفية أنها لا تدل على العموم.
وسيأتي مذهب قريب من ذلك، وهو:
المذهب الرابع: أن شيئًا من الصيغ لا يقتضي العموم ولا مع القرائن، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم. وهو قول جمهور المرجئة، ونُسب أيضًا للأشعري.
وفي "البرهان": (نقل مصنفو "المقالات" عن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية، وهذا النقل على الإطلاق زلل؛ فإنَّ أحدًا لا يُنكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ مشعرة به، كقول القائل: رأيت القوم واحدًا واحدًا لم يَفُتني منهم أحد. وإنما كرر هذه الألفاظ قَطْعًا لِتَوَهُّم مَن يحسبه خصوصًا، وإنما أنكرت الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجميع)
(2)
. انتهى
قيل: وما ادعَى فيه الوفاق هو محل خلاف كما صرح به هو في "التلخيص من التقريب".
(1)
البرهان في أصول الفقه (1/ 222).
(2)
البرهان في أصول الفقه (1/ 221).
تنبيهات
الأول: القائلون بالوقف اختلفوا في محله على أقوال وفي صيغته على أقوال:
فأما الأول: فأحد الأقوال أنه على الإطلاق.
وثانيها: في الوعد والوعيد دُون الأمر والنهي ونحوهما.
ويُحكى هذا عن الكرخي كما حكاه أبو بكر الرازي عنه، ثم قال:(وربما ظن أن ذلك مذهب أبي حنيفة؛ لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين، ويجوز أن يغفر الله لهم في الدار الآخرة، وليس ذلك مدْركه، بل إن الأدلة الموجِبة للوعيد بالتخليد في النار إنما انتهضت في الكفار بدلائل من خارج)
(1)
.
وثالثها: عكسه، وهو عن المرجئة، فقالوا بصيغ العموم في الوعد والوعيد، وتوقفوا فيما عداها.
ورابعها: يوقف في العمومات الواردة بالوعيد على عصاة أهل الملة خاصة دون غير ذلك، وهو قول جمهور الأشعرية.
وخامسها: [يُوقف]
(2)
فيمن لم يسمع خطاب الشارع، فأما مَن سمع منه صلى الله عليه وسلم وعرف تصرفاته فيه ما بين خصوص وعموم فلا. حكاه المازري، قال: وهذا يلحق بالقائل بالعمومات؛ لأنه إنما شكك فيمن لم يسمع منه ويعرف قصده.
وسادسها: أن الوقف في الوعيد دون الوعد.
(1)
الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 102).
(2)
كذا في (ص)، لكن في (س): توقف.
قال القاضي: وفرقوا بينهما بما يليق بالتُّرَّهات.
وسابعها: أن الوقف فيما لم يتقيد به ضرب من التأكيد؛ فإن ذلك للعموم.
وثامنها: أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم، دُون غيرها، فإنه يُتوقَّف فيه. حكاه المازري عن بعض المتأخرين.
وأما صفة الوقف:
فقيل: لأن لفظة العموم مشتركة بين الواحد اقتصارًا عليه وبين أقَل الجمع فما فوقه اشتراكا لفظيًا، كالقرء والعين ونحوهما. حكاه المازري والأصفهاني، وهذا فيما يحتمل الواحد من العمومات كـ "مَن" و"ما". وأما ألفاظ الجموع ونحوها فمشتركة بين أقل الجمع وما فوقه.
وقيل: لعدم العِلم بكيفية الوضع؛ لأنها استعملت في العموم والخصوص ولكن لا يُدْرَى هل ذلك على وجه الحقيقة؟ أو المجاز؟
نعم، حكى ابن الحاجب هذين القولين على وجه آخر، وهو أن أحدهما: لا يُدْرَى هل وضعت هذه الصيغة للعموم؟ أو لا؟ وثانيهما: أنها استعملت للعموم، ولكن لا ندري هل هو حقيقة؟ أو مجاز؟ وجعل قول الاشتراك في أصل المسألة مباينًا لقول الوقف.
الثاني: مأخذ قول الوقف من الأصل أن الأشعري لمَّا تكلم مع المعتزلة في عمومات الوعيد في الكتاب والسنة نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] ومع المرجئة في عموم الوعد، نفى أن تكون هذه الصيغ موضوعة للعموم، وتَوقَّف فيها، وتبعه جمهور أصحابه.
وقال ابن القشيري في "باب المفهوم": لم يصح عندنا عن الشيخ إنكار الصيغ، إنما قال
ذلك في معارضاته في أصحاب الوعيد.
قال: وسِر مذهبه إنكار التعلق في مثل ذلك بالظواهر مع أن المطلوب فيه القطع، وهذا هو الحقُّ المبين. ولم يمنع من الظواهر في مظان الظنون.
ولهذا حكى الصيرفي عن الأشعري أنه يقول بالصيغ كالشافعي كما سبق، ومراده من حيث الظن، والوقف من حيث القطع، فلا منافاة بين النقلين.
الثالث:
في إثبات صيغ العموم بحث ذكره القرافي (في بعض كتبه) يظهر منه أنَّ مُسمى العموم في غاية الغموض، وهو أن صيغة العموم بين أفرادها قَدْر مشترك، ولكل فرد منها خصوص يختص به، كـ"المشركين" مثلًا اشتركوا في الشرك، وامتاز هذا بِطُولِه أو قصره، وهذا بسواده أو بياضه، إلى غير ذلك من أنواع التمييز، فالصيغة إما أن تكون موضوعة للقدر المشترك بينها أو لخصوصياتها أو للقدر المشترك بقيد العدد أو بقيد سلب النهاية أو لمجموع الأفراد أو للمجموع المركب من القدر المشترك والخصوصيات، فهذه احتمالات ستة، لا يصح تنزيله على واحد منها.
أما الأول: فلأنه يلزم أن يكون العموم متواطئًا، وذلك هو المطلق الذي عمومه عموم بدل، لا شمول.
الثاني: ظاهر البطلان؛ لأن العموم لم يوضع لكل فرد منها بحسب خصوصياته وإلا لَزِم أن تكون صيغة العموم مشتركة اشتراكًا لفظيًا بين الأفراد الداخلة تحته.
وكذلك القول في الاحتمال الأخير وهو أن تكون موضوعة للمشترك مع الخصوص في كل فرد؛ لأنه يلزم منه أن يكون اللفظ موضوعًا لحقائق غير مختلفة متناهية، ويستحيل أن تكون مشتركة اشتراكًا لفظيًا بين أفراد ومسميات غير متناهية.
وأما الاحتمال الثالث وهو أن تكون موضوعة للمشترك بين أفراده بقيد العدد فيُبطله أن "مفهوم العدد" أمر كلي، وكذلك "مفهوم المشترك"، فيكون المركَّب منهما كليا أيضًا، فيكون اللفظ مطلقًا، والكلام إنما هو في عموم الشمول.
وكذلك الرابع وهو القدر المشترك بقيد سلب النهاية؛ لأن المعنى يكون حينئذٍ في نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]: لا تقتلوا النفوس بقيد سلب النهاية؛ فينعدم الاستدلال به على ثبوت حُكمه لكل فرد.
وبهذا أيضًا يبطل الاحتمال الخامس.
ثم اختار أن صيغة العموم موضوعة للقدر المشترك مع قيد تتبعه لحُكمه في جميع موارده، قال:(فخرج بالقدر المشترك "الأعلام" كزيد وعمرو؛ لأن ألفاظها موضوعة بإزاء أمور جزئية، لا كلية، وخرج المطلق). انتهى ملخصًا.
وظاهره أنه اختراع، لكن في كلام صاحب "الحاصل" في تقسيم اللفظ إلى المطلق والعام ما [يؤخذ]
(1)
منه كثير مما ذكر.
الرابع:
في ثبوت صيغ العموم -لمن قال بها- أدلة لا تنحصر:
فمن القرآن نحو قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] الآية، ففهم نوح عليه السلام العموم من قوله تعالى:{فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27]؛ فلذلك أجيب بما يقتضي عدم دخوله في العام لمعنى أنه عمِل عملًا غير صالح، وقوله تعالى:{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31]، فَهِمَ منه إبراهيم
(1)
في (ت): يوجد.
عليه السلام العموم حتى قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]، فأجابته الملائكة بتخصيصه بإخراجه من العموم بقولهم:{لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} ، وكذا في استثناء امرأته مِن أهله.
وللآمدي هنا بحث ضعيف، لا حاجة لذِكره.
ومن السنة ما في "الصحيحين" في أمر الزكاة، قالوا: يا رسول الله، فالخمر؟ قال:"ما أنزل الله عليَّ فيها شيئًا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] "
(1)
.
وما في "البخاري" من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى لَمَّا دعاه وهو في الصلاة فلم يُجِبه: "ما منعك أن تجيبني؟ "
(2)
الحديث. فإنه طالبه بموجب العموم في {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 24].
وما في "الترمذي" وصححه النسائي من قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن جر ثوبًا من ثيابه من مخيلة، فإن الله لا ينظر إليه ". فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يُرخِين شِبرًا"
(3)
الحديث. وفيه: فقال: أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده. ففهم العموم، وأقره صلى الله عليه وسلم حتى قال له:"إنك لست ممن يصنعه خيلاء"
(4)
. وكذا فهمت أم سلمة العموم حتى قال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما قال.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2242)، صحيح مسلم (رقم: 987).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سنن الترمذي (رقم: 1731)، سنن النسائي (رقم: 5336، 9740)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1731).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 5447).
وما في "الصحيحين" لمَّا نزل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] الآية، قال ابن أم مكتوم: إني ضرير البصر. فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]
(1)
. فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فَهم العموم، ونزل القرآن بالتخصيص من العام.
وما في "الصحيح" أيضًا لما نزل {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، قال الصحابة: وأيّنا لم يظلم نفسه؟ ! فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم تسمعوا ما قال لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] "
(2)
. ففهموا العموم من: {الَّذِينَ} أو من النكرة في النفي حتى بَيَّن لهم أن المراد ظلم خاص.
وكذا لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، قال ابن الزِّبَعْرَى: قد عُبد المسيح والملائكة. فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]
(3)
، فأقره على العموم، ولكنه مخصص. والحديث مشهور في السير والتفسير، ورواه السهيلي عن ابن عباس بسندٍ صحيح.
وكذلك فَهم علي رضي الله عنه من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} العموم حتى قال: "أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف"
(4)
. رواه ابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والثعلبي من رواية ليث ابن أبي سليم.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 4704)، صحيح مسلم (رقم: 1898).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 3181)، صحيح مسلم (رقم: 124).
(3)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة (31882)، المعجم الكبير للطبراني (12739)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 3449).
(4)
الكامل في الضعفاء (3/ 122)، تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2469) نشر: نزار الباز - السعودية.
وفي حديث التشهد: "وعلى عباد الله الصالحين، إذا قلتموها، أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض"
(1)
. أخرجه الشيخان.
وفي "مسلم" عن أبي هريرة: لما نزل {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] الآية، اشتد على الصحابة، وقالوا: كُلفنا من العمل ما لا نطيق. فنزل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]
(2)
.
وفي "الترمذي" عن عائشة أنه لما نزل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"هذه معاتبة الله تعالى العبد"
(3)
الحديث.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الفتح: "مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"
(4)
، ثم استثنى مَن استثنى، فلولا العموم لَمَا احتاج لذلك.
وغير ذلك مما لا ينحصر من الآيات والأحاديث.
وأيضًا فقد اتفق الصحابة وأهل اللغة على العموم مِن هذه الألفاظ المفردة ولو كانت خالية مِن القرائن، ولَمَّا قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"؟
(5)
الحديث، فلم ينكر أحد العموم.
واستقراء كلام أهل اللغة يفيد القَطع بذلك.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 797)، صحيح مسلم (رقم: 402).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 125).
(3)
سنن الترمذي (رقم: 2991). قال الألباني: ضعيف الإسناد. (ضعيف سنن الترمذي: 2991).
(4)
مسند أحمد (7909)، صحيح ابن حبان (رقم: 4760)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 11298)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 7740).
(5)
صحيح البخاري (رقم: 1335)، صحيح مسلم (رقم: 20).
وأيضًا: فالعموم معنى من المعاني المفتقرة إلى وضع ما يدل عليه.
وأيضًا: فالاستدلال بالاستثناء في كثير من المواضع، وهو معيار العموم كما سيأتي.
وإنما تعرضت لهذا الطرف من الأدلة لمسيس الحاجة إليه.
إذا علمت ذلك فقد ذكرت عِدة من صيغ العموم بحسب تقسيم لها:
وهو أن المفيد للعموم إما من جهة اللغة أو العرف أو العقل.
والأول: إما أن تكون إفادته ذلك بنفسه أو بانضمام قرينة.
والأول: إما أن لا يختص بنوع أو يختص.
والثاني: إما أن تكون قرينته في الثبوت أو في النفي [أو]
(1)
ما في معناه.
فأشرتُ في النظم إلى هذه الأقسام على هذا الترتيب.
فذكرتُ من القسم الأول (وهو ما يدل بنفسه) ألفاظًا:
أحدها: "كل"، وقد سبق ذكر معناها في "فصل الحروف" وغيرها من الأدوات، وأنها إن أضيفت:
- إلى نكرة، فهي لشمول أفراده، نحو:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57].
- أو لمعرفة وهي جمع أو ما في معناه، فلاستغراق أفراده أيضًا، نحو:"كل الرجال" أو "كل النساء" أو"كل الناس على وَجَل إلا مَن آمَنه الله"، وفي الحديث:"كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فموبقها أو مُعتقها"
(2)
.
- أو لمعرفة مفرد، فلاستغراق أجزائه أيضًا، نحو:"كل الجارية حسن" أو "كل زيد
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): و.
(2)
صحيح مسلم (رقم: 223)، وغيره، ولفظ مسلم:(كُلُّ الناس يَغْدُو فَبَائعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا).
جميل".
ونزيد هنا أن مادتها تقتضي الاستغراق والشمول، كـ "الإكليل" لإحاطته بالرأس، و"الكلالة" لإحاطتها بالوالد والولد، فلهذا كانت أصرح صيغ العموم؛ لشمولها العاقل وغيره، المذكر والمؤنث، المفرد والمثنى والجمع. وسواء بقيت على إضافتها كما مثلنا، أو حُذف ما أضيفت إليه، نحو:{كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19]، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].
قال القاضي عبد الوهاب: (ليس بعدها في كلام العرب كلمة أَعَم منها تفيد العموم مبتدأة وتابعة لتأكيد العام، نحو: جاء القوم كلهم).
قال سيبويه: (معنى قولهم: "كل رجل": كل رجال)
(1)
. فأقاموا "رجلًا" مقام "رجال"؛ لأن "رجلًا" شائع في الجنس، و"الرجال" الجنس.
وأما مراعاة التذكير والتأنيث في خبرها وضميرها ونحو ذلك فمن وظيفة النحوي.
نعم، ينبه فيها على مواضع:
أحدها: أنَّ ما سبق -من كونها تستغرق الأفراد فيما إذا أضيفت لجمع مُعرَّف كما لو أضيفت لنكرة فتكون من الكلية كقوله صلى الله عليه وسلم حكايةً عن ربه عز وجل؛ "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته"
(2)
الحديث- هو قول الأكثر.
وذهب بعض الأصوليين إلى أنه مِن "الكل المجموعي"، لا من "الكلية"، وهو ظاهر تجويز ابن مالك فيها حينئذٍ اعتبار اللفظ واعتبار المعنى.
وبذلك صرح ابن الساعاتى فى "البديع"، فقال: إن قولك: "كل الرجال" كل مجموعي.
(1)
الكتاب لسيبويه (1/ 203).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 2577) وغيره.
ففرق بين أن يقال: "كل حبة من البُر غير متقومة" وأن يقال: "كل الحبات منه غير متقوم"، فالأول صحيح؛ لأنه كُلٌّ عددي، والثاني غير صحيح؛ لأنه كُلٌّ مجموعي.
وضُعِّف قوله بأن ذلك إنما هو بحسب الإرادة إذا اقتضاها قرينة؛ فقد قرر هو قبل ذلك أن قولنا: "كل شيء" ليس معناه "كل الشيء"؛ لأن الأول عددي والثاني مجموعي، والفرق بينهما ظاهر. فالخلل إنما جاء مِن تمثيله بِـ "كل حبة" و"كل الحبات".
ثانيها: إذا دخلت "كل" على جمع أو اسم جمع مُعرف باللام وقُلنا بعمومها، فهل المفيد له الألف واللام، و"كل" تأكيد؟ أو هي لبيان الحقيقة، و"كل" لتأسيس إفادة العموم؟ الثاني أظهر؛ لأن "كُلًّا" إنما تكون مؤكِّدة إذا كانت تابعة.
وقد يقال: اللام أفادت عموم مراتب ما دخلت عليه، و"كل" أفادت استغراق الأفراد. فنحو:"كل الرجال" تفيد فيها الألف واللام عموم مراتب جمع الرجل، و"كل" استغراق الآحاد.
ولهذا قال ابن السراج في الأصول: (إنَّ "كل" لا تدخل في المفرد والمعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم). انتهى
وهو ظاهر؛ ولهذا مُنع دخول: "أل" على "كل"، وعِيب قول بعض النحاة: بدل الكل من الكل.
ص:
ثالثها: ليس من دخولها على المفرد المعرف نحو قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه
(1)
؛ لأن الظاهر أنها مما هو في معنى الجمع المعرف حتى يكون لاستغراق الأفراد لا الأجزاء.
(1)
سبق تخريجه.
رابعها: محل عمومها إذا لم يدخل عليها نفي متقدمًا عليها، نحو:"لم يَقُم كل القوم"، فإنها حينئذٍ للمجموع، والنفي وارد عليه، ويسمى "سلب العموم"، بخلاف ما لو تأخر عنها نحو:"كل إنسان لم يقم"، فإنها حينئذٍ لاستغراق النفي في كل فرد، ويسمى "عموم السلب".
وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان، وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم-في حديث ذي اليدين:"كل ذلك لم يكن"
(1)
جوابًا لقوله: (أنسيمت؟ أَم قصرت الصلاة؟ ). أي: لم يكن كل من الأمرين، لكن بحسب ظنه صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك صحَّ أن يكون جوابًا للاستفهام عن أي الأمرين وقع. ولو كان لنفي المجموع لم يكن مطابقًا للسؤال ولا لقول ذي اليدين في بعض الروايات:(قد كان بعض ذلك)
(2)
، فإن السلب الكلي [نقيضه]
(3)
الإيجاب الجزئي. ومحل بسط ذلك عِلم البيان.
قال القرافي: وهذا شيء اختصت به "كل" من بين سائر صيغ العموم.
واعلم أن حُكم النهي فيما ذكر حكم النفي، فيُفرق بين "كل عالم لا تهنه" وبين "لا تُهن كل عالم".
والظاهر أن الشرط كذلك، نحو:"كل عبد لي إن حج فأعتقه"، أو:"فهو حر"، فيشمل كل فرد فرد، بخلاف:"إن حج كل عبد من عبيدي"، لا يعتق أحد منهم حتى يحج الجميع.
ومنه نحو قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] المراد المجموع، فهو أبلغ، ويلزم منه أنهم إذا رأوا بعض الآيات لا يؤمنون بها من باب أَولى.
(1)
صحيح مسلم (رقم: 573)، وغيره.
(2)
صحيح مسلم (رقم: 573).
(3)
في (ت): يقتضيه.
وأما إذا كانت "كل" مؤكِّدة، فهل يفرق فيها بذلك؟ نحو:"لم أر القوم كلهم" أو "القوم كلهم لم أرهم".
قال القرافي: لم أَرَ فيه نقلًا، وهو محتمل، لكن يرجح التفرقة أن صيغة التأكيد تقرير للسابق، فبتقدم النفي عليه لا يبطل حكم العموم، بخلاف المستقل.
لكن صرح ابن الزملكاني في "البرهان" بالتسوية.
نعم، أورد على قولهم:(تقدُّم النفي لسلب العموم) نحو قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]، فينبغي أن تُقيد القاعدة بأن لا ينتقض النفي، فإن انتقض، كانت لعموم السلب.
وقد يقال: انتقاض النفي قرينة إرادة عموم السلب؛ لأن النفي للموضوع، وما بعد "إلا" لا تَسلط للنفي عليه، بل هو مثبت، والتفريع في الاستثناء يجعل ما بعد "إلا" مستندًا لما قبلها، فالإثبات لكل فرد فرد كما لو لم يدخل النفي والاستثناء.
وأورد بعضهم على التقرير للقاعدة بأن "السلب الكلي يقتضي نفي الحكم عن كل فرد" أنه إنما يقتضيى نفي الحقيقة من حيث هي، ولكن نفي الحقيقة مستلزم لنفي الأفراد.
ورُدَّ ذلك بأن "كُلًّا" و"كلما" و" لا لشيء" و"لا واحد" وسائر كلمات السور إنما تستعمل باعتبار الأفراد، لا باعتبار الحقيقة، لأن اعتبار الحقيقة إنما هو في القضية الطبيعية، لا المسوَّرة.
الثاني من الصيغ: "جميع":
وهي مثل "كل"، إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة، فلا تقول:(جميع رجل)، وتقول:(جميع الناس) و (جميع العبد).
وإلا أنَّ دلالتها على كل فرد فرد بطريق الظهور، بخلاف "كل"، فإنها بطريق
النصوصية.
وفرق الحنفية بينهما بأن "كُلا" تعم على جهة الانفراد، و"جميع" على جهة الاجتماع.
ونقل ابن العارض المعتزلي في كتاب "النكت" عن الزَّجاج أنه حكاه عن المبرد.
قيل: والذي قاله المبرد إنما هو في نحو: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. وحكاه كذلك ابن الخشاب وابن إياز، وإن كان ابن بابشاذ نقل عنه خلافه.
على أنه قد تمنع التفرقة بينها وبين "كل" بذلك، فإن "جميع" تقتضي التفصيل بخلاف مجموع، وهذا شائع في الاستعمال.
قال بعضهم: إذا كانت "جميع" إنما تضاف لمعرفة فهو إما بِـ "اللام" أو بكونه "مضافًا لمعرفة"، وكُل منهما يفيد العموم، فَلَمْ تُفِده "جميع".
وجوابه أن ما فيه الألف واللام يُقدر حينئذٍ أنها للجنس، والعموم مستفاد من "جميع". وأما المضاف نحو:"جميع غلام زيد" فليست فيه لعموم كل فرد، بل لعموم الأجزاء كما سبق إيضاح الأمرين في الكلام على "كل"، فاعْلَمه.
وقولي: (نَحْوُ "جَمِيعٍ") إشارة إلى أن ما كان من هذه المادة مثلها في العموم، كَـ"أجمع" و"أجمعين" ونحوهما. ومَن زعم أن "أجمعين" تقتضي الاتحاد في الزمان بخلاف "جميع"، فالأصح خلاف قوله، قال تعالى:{وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
نعم، اختلف في أن:"أجمع" ونحوه إذا وقع بعد "كل"، هل التأكيد بالأول والثاني زيادة فيه؟ أو بكل منهما؟ أو بهما معًا؟ الأرجح الأول كما في سائر التوابع.
ومن مادة [جمع]
(1)
أيضًا: "جاء القوم بأجمُعهم" (وهو بضم الميم جمع "جَمعْ" بفتح أوله
(1)
كذا في (ص، س، ض)، لكن في (ق): جميع.
وسكون ثانيه): كَـ "عَبْد وأَعْبُد". ولا يقال: بِـ "أجمَعهم" بفتح الميم؛ لئلا يتوهَّم أنه "أجمع" الذي يؤكد به؛ لأن ذاك لا يضاف للضمير ولا يدخل عليه حرف الجر. كذا قاله الحريري في "درة الغواص"
(1)
، لكن قد حكى الوجهين ابن السكيت، وإنْ كان الأقيس "الضم".
ويدخل في قولي: (نَحْوُ) أيضًا "سائر"، فقد قال الجوهري: إنها بمعنى "جميع"
(2)
؛ لأنها من سور المدينة، وهو المحيط بها.
وغلطوه، وليس كذلك؛ فقد ذكره السيرافي في "شرح سيبويه" والجواليقي في "شرح أدب الكاتب" وابن بري وغيرهم، وأوردوا له شواهد كثيرة.
وممن عدها من صيغ العموم القاضي في "مختصر التقريب" والقاضي عبد الوهاب في "الإفادة" كما نقله الأصفهاني في "شرح المحصول"، لكن الموجود في "الإفادة" إنما هو حكاية ذلك وتغليطه بأنها من "أسأر"، أي: أبقى، فهو من "السؤر" وهو البقية، فلا تعم كما هو المشهور.
لكن لا تَنافي بينهما، فهي للعموم المطلق ولعموم الباقي بحسب الاستعمال، كما تقول: اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث غيلان لما أسلم على عشرة نسوة: "أمسك أربعًا، وفارق سائرهن"
(3)
. أي: جميع من يبقى بعد الأربع.
ويدخل في قولي: (نَحْوُ) أيضًا: "معشر" و"معاشر" و"عامة" و"كافة" و"قاطبة".
(1)
درة الغواص في أوهام الخواص (ص 202).
(2)
قال في (الصحاح، 2/ 692): (سائر الناس: جميعهم).
(3)
صحيح ابن حبان (رقم: 4157)، سنن البيهقي الكبرى (13819) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 4145).
نحو: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام: 130]، "إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث"
(1)
، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقالت عائشة:"لَمَّا مات صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة"
(2)
. قال ابن الأثير: أي: جميعهم.
لكن "معشر" و"معاشر" لا يكونان إلا مضافين، بخلاف "قاطبة" و"عامة" و"كافة": فإنها تضاف وتفرد.
وقولي: (وَلمَوْصُولٍ بِذَا يُقْفَى) إلى آخره -أي: بالعموم يُقضى فيه، فالأسماء الموصولات من صيغ العموم، وكذا أسماء الشرط والاستفهام، لكن هل هي من القسم الذي يفيد بمفرده؟ أو لا؟
الظاهر الأول، خلافًا لمن زعم أن ذلك لانضمام الصلة ونحوها كما اعترض به القرافي على الإمام وعدى ذلك إلى أسماء الاستفهام والشرط وإلى ما سبق من لفظ:"كل" و"جميع"؛ لأنه لا بُدَّ في ذلك من انضمام لفظ إليه.
وهذا مردود؛ لأن الصلة إنما هي قيد في أصل الدلالة، لا في إفادة العموم. وكذا ما ينضم لأسماء الاستفهام والشرط ونحو:"كل" و"جميع".
نعم، من ألفاظ هذه الأنواع الثلاثة ما يختص في العموم بنوع في الغالب، نحو:"مَنْ" للعاقل، وربما قيل: التعبير بِـ "العالِم" أَوْلى؛ ليدخل نحو: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}
(1)
مسند أحمد (9973)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 6309)، المعجم الأوسط (رقم: 4578) بلفظ: (إنا معشر الأنبياء لا نورث). وفي صحيح البخاري (رقم: 2926)، صحيح مسلم (رقم: 1759) بلفظ: (إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لَا نُورثُ، ما تَرَكْنَا صَدَقَة). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، 3/ 100) في إسناد النسائي: (إسناده على شرط مسلم).
(2)
تاريخ دمشق (36/ 310)، المطالب العالية (15/ 727).
[لرعد: 43]. لكن الكلام الآن حيث كانت عامة، فالتعبير بالعاقل مستقيم، نحو:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
و"ما" لغير العاقل، نحو:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2]، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17].
ومنها ما يختص بالزمان، كـ"متى"، أو المكان، كَـ "أين".
وما يعم الكل، كَـ"أل"، وسيأتي إيضاحها في المحلَّى بِـ "أل" والفرق بينهما والخلاف فيهما.
وكَـ "أي" الشرطية والاستفهامية، لا الموصولة؛ فلذلك عَقَّبتُ بالأمثلة وبينتُ ما يحتاج إلى البيان وإخراج ما يخرج في الأبيات الآتية. والله أعلم.
ص:
579 -
كَـ "مَا"وَ "مَنْ "، وَلإنَاثٍ يَشْمَلُ
…
ذِي في كَـ "مَنْ بَدَّلَ دِينًا، يُقْتَلُ"
580 -
وَكَـ "مَتَى" في زَمَنٍ، وَ"حَيْثُما"
…
وَ"أَيْنَ" في الْمَكَانِ فِيمَا عُلِمَا
581 -
نَعَمْ، مِنَ الْمَوْصُولِ "أَيٌّ "تُفْرَدُ
…
فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ عُمُومٍ يُقْصَدُ
الشرح:
فأشرت إلى أن "مَن" و"ما" للعموم، سواء أكانتا للشرط أو للاستفهام أو موصولتين.
أما الشرطيتان: فبالاتفاق، وأما الاستفهاميتان فعَلَى قول الجمهور، منهم: الشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي وابن السمعاني وابن الصباغ وغيرهم، وأبو بكر الرازي والبزدوي من الحنفية، والقرطبي والأبياري مِن المالكية، واختاره الإمام الرازي والآمدي والهندي،
لكن ظاهر تقييد إمام الحرمين بالشرطية خروج الاستفهامية.
وأما الموصولتان: فالمختار فيهما العموم، فقد مَثَّل الغزالي في "المستصفى" لعموم "ما" بقوله صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت حتى تؤديه"
(1)
.
وقد مثل الكلُّ تأخيرَ البيان إلى وقت الحاجة بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] حتى قال ابن الزبَعْرى ما قال.
وجرى على عمومهما ابن الحاجب وابن الساعاتي والصفي الهندي.
ونقله القرافي عن صاحب "التلخيص"، يعني: النقشواني، وأنكر ذلك الأصفهاني وقال:(إن المصرح به فيه خلاف ذلك)
(2)
.
فلذلك أطلقته في النَّظم وإنْ كان مقتضى كلام كثير أنهما ليسا للعموم، وصرح به أبو منصور البغدادي وسليم في "التقريب"، وهو ظاهر تقييد القاضيين أبي بكر وعبد الوهاب "مَن" و"ما" بالشرطيتين والاستفهاميتين.
وفيهما قول ثالث لبعض الحنفية: أن العموم فيهما عموم كل مجموعي، لا كلية، بخلافهما شرطيتين واستفهاميتين. فإذا قال:(مَن زارني فأعطه درهمًا)، استحق كل واحد واحد ممن زاره درهمًا. وإذا قال:(أعط مَن في هذه الدار درهمًا)، استحق الكل درهمًا واحدًا.
(1)
سنن أبي داود (رقم: 3561)، سنن الترمذي (1266)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 3561).
(2)
الكاشف عن المحصول (4/ 230).
تنبيهات
الأول: استُشْكل عموم "مَن" و"ما" في الاستفهام مثلًا بأنه لو قيل: مَن في الدار؟ حَسُنَ أن يجاب بالمفرد، فيقال: زيد. وكذا لو قيل: ما عندك؟ فتقول: درهم.
وأجاب القرافي بما معناه أن العموم من حيث شموله لكل ما يصلح دخوله فيه، وأما الجواب بالواحد فباعتبار الواقع، ولا تنافي بينهما.
واستُشكل أيضا بِقَول الفقهاء فيما لو قال: (مَن دخل داري فله درهم)، أو:(مَن خلت فهي طالق) أنَّ مَن دخل ثانيًا لا يستحق درهمًا آخَر، ولا مَن دخلت لا تُطلَّق طلقةً ثانيةً.
وجوابه: أن العموم في الأشخاص، لا في الأفعال، إلا أنْ تقتضي الصيغة التكرر، نحو:"كلما"، أو يحكم به قياسًا؛ لكون الشرط علة، نحو:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية: 15]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7].
فإن قيل: لو قتل المُحرِم صيدًا بعد صيد، تكرر الجزاء مع أن الصيغة "مَن" في قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الآية.
قيل: لتعدد المحل كما أجاب به الماوردي والمحاملي والجرجاني في "المعاياة".
قالوا: بخلاف ما لو كان المحل واحدًا كالمثال السابق، حتى لو قال:(مَن دخل داري فله درهم) وله عدة دُور، فكلما دخل دارًا، استحق درهمًا؛ لاختلاف المحل.
ولهذا لو قال: (طَلق من نسائي مَن شئت)، لا يطلق إلا واحدة.
ولو قال: (مَن شاءت)، له أن يطلق عددًا يشاء؛ لتعدد المحل.
فإن قيل: لو قال: (مَن رد عبدي فله درهم) فرده جمع، استحقوا درهمًا، لا أن لكل
واحد درهمًا.
فالجواب -كما قرره الماوردي- أنه لم يصدر مِن كُلٍّ تمام الشرط المعلَّق عليه، بل جزؤه؛ فاستحق الجزء.
الثاني: أن العموم في "مَن" و"ما" وغيرهما لا يخفى أنه فيمن يقبل الحكم المذكور.
ففي "الكفاية" في باب السير: إذا قال الأمير: (مَن غزا معي فله دينار)، لا يدخل أهل الفيء ولا النساء، بخلاف ما لو قال: مَن قاتل معي فله دينار.
قال: لأن الغزو حُكم يتوجه لأهله، وأما الصبيان فخارجون من الأمرين؛ لذلك، وكذا العبيد بلا إذن السيد.
الثالث: لم أذكر اختصاص "مَنْ" بالعاقل و"ما" بغيره؛ لأنَّ كُلًّا منهما قد يستعمل في الآخَر كثيرًا في مواضع مشهورة في النحو، والعموم موجود، فلا حاجة لذِكر اختصاص ولا غيره فيهما.
وذكرتهما من أمثلة الأقسام الثلاثة؛ حتى يتقيدا بها؛ ليخرج ما سبق في باب الأدوات من ورودهما نكرتين موصوفتين ونكرتين تامتين، فإن ذلك لا عموم فيه إلا بقرينة نفي ونحوه، نحو: ما مررت بمن معجب لك، أو: بما معجب لك.
وقولي: (وَلإنَاثٍ يَشْمَلُ) إلى آخِره -إشارة إلى مسألة تتعلق بِـ "مَن" الشرطية، وهي أنها هل تشمل المؤنث؟ أو تختص بالمذكر؟
المشهور الأول؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء: 124]، فلولا شمولها للأنثى لَمَا بيَّن به مع المذكر، ولقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: ]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه". فقالت أم
سلمة: "فكيف تصنع النساء بذيولهن" الحديث
(1)
، وقد سبق، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهم دخول النساء في "مَن" الشرطية.
ولأنه لو قال: (من دخل داري فهو حر) فدخلها النساء، عُتِقن بالإجماع كما قاله في "المحصول".
وحكى ابن الحاجب وغيره قولًا أنَّ "مَنْ" تختص بالذكور، ولا يدخل فيها الإناث. ويُعزى لبعض الحنفية، وأغرب ابن الدهان النحوي فعزاه للشافعي.
وبنى المخالف على ذلك عدم قتل المرتدة؛ لحمله قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه"
(2)
على اختصاصه بالذكور.
ومذهبنا أنها تُقتل؛ بناء على دخول الإناث في الحديث.
نعم، قيد إمام الحرمين الخلاف بِـ "مَنْ" الشرطية، وبه عَبَّر ابن الحاجب وجَمعٌ حتى لا يجري الخلاف في الاستفهامية والموصولة.
لكن قال الصفي الهندي: الظاهر أنه لا فرق.
واعتذر بعضهم عن إمام الحرمين بأنه إنما قيد بذلك لكونه لم يذكر الاستفهامية والموصولة في صيغ العموم.
وقولي في النَّظم: (في كَـ "مَنْ بَدَّلَ") يحتمل الرأيين، أي: مثل: "مَن بدل دينه" في كونها شرطية أو في كونها مِن صُوَر "مَنْ" في الجملة، مثالًا، لا قيدًا، ولكن الاحتمال الثاني أعم وأَفْيد، فهو الأرجح.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 2854)، وغيره.
تنبيهات
الأول: الخلاف في مدلول "مَنْ" و "ما"، لا في لفظهما.
فقد قال النحاة كما في "التسهيل" وغيره: إن "مَن" و"ما" في اللفظ مفردان مذكران، وإذا قصد بمعناهما غير ذلك فإنما يدل عليه مراعاة المعنى مِن عَوْد ضمير ونحوه
(1)
.
ومرادهم بذلك أن معناهما في الأصل من حيث إطلاق لفظهما مفرد مذكر، ومخالفة ذلك إنما هي بحسب مراد المتكلم، فالكل باعتبار المدلول باعتبارين، وإلا فنفس اللفظ ليس الكلام فيه، فإن "لفظ سائر الكلمات" إذا أريد لفظه، يذكَّر باعتبار "لفظ"، ويؤنث باعتبار "كلمة".
فتقول: (زيد ثلاثي) و: (ثلاثية)، أي: كلمة ثلاثية.
الثاني: اختُلف في "مَنْ"، فالأرجح تناولها للعبيد، وقيل: تختص بالأحرار. وكأنَّ ذلك من حيث الشرع، فسيأتي أن العبيد هل تدخل في العمومات الشرعية؟ أو لا؟
وقولي: (وَكـ "مَتَى" في زَمَنٍ) أي إنَّ عموم "متى" إنما هو باعتبار الأزمنة، فنحو:(متى دخلت الدار، فأنت حر) يعتق بأيِّ وقت دخل.
نعم، قيده ابن الحاجب وغيره بالأزمان المبهمة، فلا يقال:(متى طلعت الشمس)، بل يقال:(إذا طلعت). وهذا مراد مَن أطلق العبارة كما أطلقتُ ذلك في النَّظم؛ لظهوره.
ولا فرق في "متى" أن يتصل بها "ما"(كَـ)"متى ما") أوْ لا.
وقولي: (وَ"حَيْثُمَا" وَ"أينَ" في الْمَكَانِ) معناه أن عمومهما في الأمكنة، كقوله: حيثما
(1)
تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك (ص 36).
تستقم يقدِّر لك الله خيًرا في سالف الأزمان.
وكقولك: أين أجلسَني الله أجلِس.
ومما يختص أيضًا من أسماء الشروط والاستفهام: "أنَّى وأيَّان" للزمان.
و"مهما" و"إذ ما" في الشرط. وغير ذلك مما تقرر في العربية.
ومما يدخل أيضًا في إطلاق الموصول: "الذي" و"التي" وفروعهما، و"ذا" بعد "ما" و"مَن" الاستفهاميتين، نحو:"ماذا عندك؟ " و"مَن ذا عندك؟ " على الخلاف في اشتراط ذلك، فإن الكوفيين لا يشترطونه؛ تعلقًا بقوله:(وهذا تحملين طليق). وأوَّلَه البصريون على أن "تحملين" حال، لا صلة.
وكذلك "ذو" الطائية وما تَفرع منها.
نعم، قيد بعضهم ذلك بأن لا يظهر فيه عهد، نحو:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4]، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، بخلاف نحو:{وَقَالَ الَّذِي آمَن} [غافر: 30]، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1].
وفيه نظر؛ لأنَّ شرط صلة الموصول العهد على ما فيه من إشكال سيأتي، ويأتي جوابه وأنه لا ينافي العموم، وحينئذٍ فنحو:{وَقَالَ الَّذِي آمَن} [غافر: 30] غايته أنه عام أريد به خاص، لا أنه لا عموم فيه أصلًا.
ومن الموصولات أيضًا "أل" في نحو: "العالم" و"المخلوق"، فيقتضي العموم، كما لو قال:(القائم من عبيدي حر)، أو:(الداخلة للدار من نسائي طالق).
ذكره بعض الحنفية، وهو واضح وإنْ تعقبه بعض شيوخنا بما لا يجدي، بل ويلزم على قوله أن لا يستدل بعموم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآيات.
نعم، مَن لم يجعل "مَنْ" و"ما" الموصولتين عامتين يقول بذلك أيضًا في:"الذي" و"التي" وفروعهما وغير ذلك من الموصولات.
وستأتي نصوص الشافعي وكلام الأصحاب في ذلك (في مسألة: المحلَّى بِـ "أل").
والراجح عموم الموصولات كلها سِوَى ما استثنيته في النَّظم، وهو "أي"، نحو:"يعجبني أيهم هو قائم"، فلا عموم فيها، بخلاف الشرطية نحو:{أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، والاستفهامية نحو:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]، ومن الشرطية:"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل"
(1)
.
وهي تشمل العاقل وغيره، كما في:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]، هذا هو المرجح عند الجمهور.
وممن صرح بعموم الشمول فيها الشيخ أبو إسحاق، وإنْ كان القاضي عبد الوهاب وافق ابن السمعاني في أنها للعموم البدلي، لا الشمولي، وكذا قال صاحب "اللباب" من الحنفية وأبو زيد في "التقويم": إنها نكرة، لا تقتضي العموم إلا بقرينة، حتى لو قال:"أي عبيدي ضربته فهو حر" فضربهم، لا يعتق إلا واحد، بخلاف:"أي عبيدي ضربك فهو حر" فضربوه جميعًا، عُتقوا؛ لعموم فعل الضرب.
وكذا صرح إلْكِيَا بأنها ليست للعموم.
وفي "فتاوى" القاضي حسين والغزالي: لو قال: "أي عبيدي حج فهو حر" فحجوا كلهم، لا يعتق إلا واحد.
لكن في "فتاوى الشاشي" أنه لا فرق عندنا بين الصورتين، وأنهم يعتقون جميعًا؛ عملًا بعموم "أي".
(1)
سبق تخريجه.
وبذلك صرح الأستاذ أبو منصور، فقال:("أَيّ " أَعَم المبهمات).
وزعم أصحاب الرأي أنه على الواحد غالبًا.
وكذلك قال أبو حنيفة في "أي عبيدي ضربت فهو حر": يحمل على الواحد، و"أي عبيدي ضربك ": على الجميع؛ لأنه أضاف الفعل الذي علق به الحرية إلى الجماعة.
قال الأستاذ: (ونحن نقول بعموم اللفظ في الموضعين). انتهى
ووجَّه ابن يعيش وغيره هاتين المسألتين -وهُما معروفتان لمحمد بن الحسن- بأن الفعل في المسألة الأولى خاص؛ لإسناده لضمير المخاطب، وفي الثانية عام؛ لإسناده لضمير هو عام. وقرروا أن الفعل يعم بعموم فاعله، لا بعموم مفعوله؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل، لا يُستغنى عنه، والمفعول يستغني عنه الفعلُ.
وبذلك أيضا وجَّه القاضي حسين الفرق.
وقد اعترض ابن عمرون النحوي على ذلك بأن ضمير الفاعل والمفعول فيهما على حدٍّ سواء، كقول العباس بن مرداس:
وما كنتُ دُون امرئ منهما
…
ومَن تخفض اليوم لا يُرفع
فإن "مَن" الشرطية عامة باتفاق، مع أن التقدير:"ومَن تخفضه اليوم"، و"الهاء" عائدة على "مَن" وهو الاسم العام.
وأما ضمير الفاعل فخاص، وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم.
وأطال في ذلك وفي الاستشهاد عليه.
واعلم أن الحنفية عدوا الحكم إلى "أي عبيدي ضُرب" مبنيًّا للمفعول. قاله ابن جني؛ لأن الفاعل وإنْ لم يُذكر ففي حُكم المذكور.
ويَرُده: "أيما إهاب دُفي فقد طهر"
(1)
، وهُم ممن قال فيه بالعموم حتى أدرجوا فيه جِلد الكلب.
تنبيه:
إذا اتصلت "أي " بِـ "ما"، كانت "ما" تأكيدًا لها، خلافًا لقول إمام الحرمين في "البرهان ": إن "ما" للعموم في "أيما امرأة نكحت نفسها" الحديث.
لاعتقاده أن "ما" فيها هي الشرطية.
وقريب من ذلك قول الغزالي: إنَّ "ما" مؤكدة للعموم.
لكن الصواب أن يُقال: إنها مؤكدة لأداة الشرط، وهو عند النحويين من التأكيد اللفظي بمنزلة تكرير اللفظ، فإنْ أراد الغزالي ذلك فواضح.
تنبيه آخر:
استُشكِل جَعْل الموصولات من صيغ العموم مع اشتراطهم في الصلة أن تكون معهودة معلومة للمخاطب إلا إذا قُصد الإبهام تهويلًا؛ لتذهب نفس السامع كل مذهب، كقوله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]؛ ولهذا كانت الصلة هي المعرِّفة للموصول، خلافًا لمن قال: إنَّ المعرِّف له هو "أل" ظاهرة أو مقدرة فيما ليست فيه كَـ "من" و"ما"، والعهد ينافي العموم (كما سيأتي)، وصرح به ابن الحاجب وغيره.
قلت: قد يجاب بأن العهد ليس في نفس الموصول المدَّعَى عمومه، بل في قيده، وقيد العام إنما يخصص محل عمومه ولا يسقط عمومه، كَـ: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين
(1)
سبق تخريجه.
رأت"
(1)
الحديث، فوصْفهم بالصلاح لم يخرج "عبادي" عن العموم بالكلية.
فإن قلتَ: العهد يجعل المدلول معيَّنًا، والعموم استغراق بلا حصر، بخلاف ما ذكرت من قيد الوصفية ونحوها.
قلتُ: لم يجعله إلا معيَّنًا في الذهن، لا في الخارج. فإذا أريد تعيُّنه في الخارج فذاك بحسب الواقع؛ ولهذا قال البيانيون في التعريف بالموصولية: إنه قد يكون لينبه المخاطب على [خطئه]
(2)
، نحو:
إن الذين تَرونهم إخوانكم
…
يشفي غليلَ صدورهم أن تُصْرَعُوا
فإنه ليس المقصود معيَّنًا في الخارج، بل كل مَن ظُن بهذه الصفة.
وقد يكون بالإيماء إلى وجه بناء [الخبر]
(3)
، نحو:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] الآية، ليس المراد قومًا بأعيانهم.
وبهذا التقدير يُعلم أن نحو: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} لم يخرج عن العهد؛ لأن كل ما يتخيله المخاطب في ذهنه يصير به عهدًا، بخلاف ما لم يُعْهَد فيه الصلة لا عهذا خارجيًا ولا ذهنيًا، فإنه مخصوص حقيقةً أو تقديرًا. فَتَأَمَّلْه.
فإن قيل: المحكوم بأنه معهود في المحلَّى "بأل" إنما هو الاسم الداخل عليه "أل"، وهو الذي يُقضَى بعمومه حيث لا عهد، فلِمَ لا قيل بعمومه ولو كان فيه عهد كما قلتَ به في الموصول؟ قلتُ: المعهود هو الاسم، و"أل" قرينة العهد.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 3072)، صحيح مسلم (رقم: 2824).
(2)
كذا في (ص)، لكن سائر النسخ في بعضها:(خطابه)، وفي البعض الآخر:(خطايه).
(3)
في (ق): الخير.
وأما المعهود في الموصول فهو الصلة، والموصول ليس فيه عهد، بل مُقيد بما فيه العهد، والله أعلم.
ص:
582 -
وَللْعُمُومِ أَيْضًا الْمُعَرَّفُ
…
بِـ "ألْ" لِغَير الْعَهْدِ فِيمَا تَصِفُ
الشرح:
هذا هو القسم الثاني من صيغ العموم الدالة عليه من حيث اللغة، وهو ما يدل لا مستقلًّا، بل بواسطة أمر آخر.
وقد سبق أنه قسمان: في إثبات، وفي نفي ونحوه.
فما في الإثبات ضربان: اقتران بالألف واللام، وتقييد بإضافة لمعرفة.
والمراد أن قرينته ليست هي النفي، لا أنه لا يكون في النفي؛ لئلا يَرِد:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات} [البقرة: 221]، "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"
(1)
.
فأشرت بهذا البيت إلى الضرب الأول من القسم الأول في الإثبات، وهو ما قرينته "أل"، وفي معناه أن يكون نفس "أل" هي العامة كما سبق في الموصولات، فإن القول فيهما واحد على القول بعموم الموصولة.
ولهذا يقع في تمثيلاتهم المحلَّى بِـ "أل" واستدلالاتهم على العموم فيها بمواضع "أل" فيها موصولة؛ إشعارًا بأنه لا فرق بينهما في الحكم.
ويتميز كلّ عن الآخر بأن الموصولة هي الداخلة على وصف صريح، كاسْم الفاعل
(1)
صحيح البخاري (رقم: 858)، صحيح مسلم (رقم: 442).
واسم المفعول ونحوهما من صِيَغ المبالغة، و"فعيل" كَـ "جريح"، والصفة المشبهة كالجميل، خلافًا لقول ابن العلج في "البسيط": إنها لا توصل بها؛ لبُعدها عن شبه الفعل؛ لثبوت معناها. ورجحه من المتأخرين الشيخ جمال الدين ابن هشام في "مغني اللبيب".
أما غير الصريح كالذي غلبت عليه الاسمية: كَـ "أبطح" و"أجرع" فَـ "أل" فيه للتعريف كما هي في الجوامد كَـ "رجل". فى أن أبا الحسن الأخفش يقول في "أل" الموصولة: إنها للتعريف.
وبالجملة فالمقترن بِـ "أل" كيف كانت إما أن تكون للعهد أو للجنس، والعهد إما ذِكري وإما ذهني. وفي تحقيقهما وتفاصيلهما أمور مشهورة في العربية لا نُطَول بها.
فإذا عرف إرادة العهد بقرينة، فلا عموم اتفاقًا. نحو:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]، {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36].
وممن نقل الاتفاق في ذلك الإمام الرازي في "المحصول".
قال بعضهم: إلا أن يكون باعتبار أفراد المعهودين خاصة، فيكون العموم فيه بهذا الاعتبار. وهو ظاهر.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين العام إذا ورد على سبب خاص؟ فإنه عام على المرجَّح كما سيأتي، فلِمَ لم يُجْرَ الخلاف الذي هناك هنا في أنه يَعُم المعهود وغيره ولا يُعْمَل بخصوص العهد؟
فالجواب أنَّ "أل" العهدية إذا لم يكن موضوعًا ما هي فيه للعموم، فليس من العام الذي يخرج بعضه ويبقى بعضه، بخلاف ذاك، فإن العموم فيه بالوضع، ولكن هل يطرقه تخصيص بالسبب؟ أوْ لا؟ فافترقا.
والجنسية إما أن تدخل على:
- جمع كثرة لمذكر كَـ "رجال"، أو مؤنث كَـ "صواحب"، أو قِلة وهو جمْعَا التصحيح لمذكر كَـ "مسلمين" أو مؤنث كَـ "مسلمات")، أو تكسير بوزن "أفعِلة" أو "أفعُل" أو "فِعْلة" أو "أفعال"، كَـ "أكسِية" و"أفلُس" و"صِبية" و"أجمال"). والقلِة من ثلاثة أو اثنين -على الخلاف- إلى أحد عشر، ومن بعدها للكثرة.
- أو ما في معنى الجمع من "اسم جنس جمعي" كَـ "تمر"، أو "اسم جمع" كَـ "قوم " و"رهط" و" طائفة" و"نساء".
- وإما على مثنى، كَـ "رجُلين".
- أو ما في معناه، كَـ "شفع" و"زكا".
- وإما على مفرد، كَـ "رجُل".
فأما غير المفرد مما ذكرناه فالصحيح من الأقوال أنه للاستغراق، نحو:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، "الناس مجزيون بأعمالهم"
(1)
و"في الغنم السائمة الزكاة"
(2)
. ومن الموصولة نحو: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث.
قال ابن برهان: القول بعمومها هو قول معظم العلماء.
وقال ابن الصباغ: إنه إجماع أصحابنا.
(1)
الأسرار المرفوعة للأخبار الموضوعة (ص 362)، المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 282).
(2)
سبق تخريجه.
ودليله أن العلماء لم تزل تستدل بآية السرقة وآية الزنا وآية الأمر بقتال المشركين ونحو ذلك.
وفي "الصحيحين" احتجاج عمر حين قتال أبي بكر رضي الله عنها مانعي الزكاة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"
(1)
الحديث، وأقره أبو بكر وغيره، ثم احتج أبو بكر بقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا بحقه"، والزكاة من حقه.
وقد احتج أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش"
(2)
، وأقروه. رواه أحمد والنسائي وغيرهمما.
ووقع في "شرح المهذب" أنه في "الصحيحين"، ولعله أراد معنى الحديث، وهو حديث ابن عمر مرفوعًا:"لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان"
(3)
.
وكذا الاستدلال بحديث: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث"
(4)
. رواه النسائي. وفي "الصحيحين" منه: "لا نُورَث، ما تركنا صدقةٌ"
(5)
. وغير ذلك مما لا ينحصر.
وأصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد في "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين": "فإنكم إذا قلتم ذلك، فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض"
(6)
. أخرجه البخاري
(1)
صحيح البخاري (رقم: 1335)، صحيح مسلم (رقم: 20)
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 32388)، مسند الإمام أحمد (رقم: 12329)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 5942)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 520).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 3310)، صحيح مسلم (رقم: 1820)، واللفظ لمسلم.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
صحيح البخاري (رقم: 2926)، صحيح مسلم (رقم: 1759).
(6)
سبق تخريجه.
ومسلم.
والقول الثانى: لا يفيد الاستغراق. حكاه صاحب "المعتمد" عن الجبائي، وحُكي أيضًا عن جمعٍ من الفقهاء.
قال ابن السمعاني: (سواء جمع السلامة والتكسير)
(1)
.
وقال سليم في "التقريب": سواء المشتق وغيره.
وحُكي أيضًا في "المعتمد" عن أبي هاشم أنه يفيد الجنس دون الاستغراق، وحكاه غيره عنه أيضًا وعن الفارسي.
ومن الغريب عزو المازري والأبياري في شرحَي "البرهان" ذلك للشيخ أبي حامد، يدفعان بذلك قول إمام الحرمين: إن اتفاق الأصوليين على أن ذلك يفيد الاستغراق.
ولا يصح عنه إلا أنه نقله عن أبي هاشم.
نعم، زعم بعضهم أن القول بعموم الجمع المعرف إذا كان جمع قِلة -مُشكل؛ لأنه إلى عشرة، والعموم ينافي ذلك.
وعنه أجوبة كثيرة:
منها جواب إمام الحرمين: حمل كلام سيبويه والنحاة على المنكَّر، وكلام الأصوليين على المعرَّف.
ومنها: أن أصل الوضع في القِلة ذلك، لكن كثر استعماله كالكثرة إما بِعُرف الاستعمال، أو بِعُرف الشرع.
ومنها: أن المقتضي للعموم إذا دخل على الواحد، لا تدفعه وحدته، فدخوله على جمع
(1)
قواطع الأدلة (1/ 167).
القِلة لا يدفعه تحديده بهذا العدد من باب أَوْلى.
وقيل: السؤال من أصله لا يَرِد؛ فقد قال الزَّجاج وابن خروف: إن جَمْعَي القِلة والكثرة سواء.
وقيل: لا يَرِد؛ لأمر آخَر، وهو أن المقتضي للعموم إذا دخل على جمع -فيه خلاف سيأتي- أن آحاده جموع أو وحدان. فإن كان وحدانًا فقد ذهب اعتبار الجمعية بالكلية، وإن كان جموعًا فلا تنافي بين استغراق كل جمعٍ جمعٍ [وكَوْن]
(1)
تلك الجموع كل واحد منها له عدد مُعَين.
وقيل غير ذلك.
وأما المفرد المحلَّى بِـ "أل" ففيه أيضًا مذاهب سواء أكانت "أل" مُعرفة أو موصولة (كما سبق تقريره).
أحدها: إفادته العموم، وهو ما نص عليه الشافعي في "الرسالة" حيث قال:(إن {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ونحوه مِن العام الذي خُص). وكذا في "الأم" و"البويطي".
ونقله عنه أصحابه في {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وله في الآية كلام آخر سيأتي بيانه.
وأيضًا: فلم تَزل العلماء تستدل بآية السرقة وآية الزنا من غير نكير.
ولوقوع الاستثناء منه وهو معيار العموم، نحو:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] الآية، {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] الآية.
(1)
كذا في (ت، س)، لكن في (ص، ق): لانه. وفي (ض، ش): كون.
وأيضًا: فيوصف بصيغة العموم، كما قال تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31].
وقال الأستاذ وسليم: إنه المذهب. ونقله الأستاذ أبو منصور عن القائلين بالصيغ، ونقله القاضي عبد الوهاب عن جمهور الأصوليين وكافة الفقهاء، وبه قال أبو عبد الله الجرجاني الحنفي، وقال القرطبي: إنه مذهب مالك وغيره من الفقهاء. وقال الباجي: إنه الصحيح. وبه قال أيضًا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان وابن السمعاني، واختاره إلْكِيَا وابن الحاجب، ونقله الآمدي عن الشافعي والأكثرين، ونقله الإمام الرازي عن المبرد والفقهاء.
نعم، اختُلف في جهة عمومه -هل هو من حيث اللفظ؟ أو المعنى؟ - على وجهين حكاهما الشيخ أبو حامد وسليم وابن السمعاني.
الأكثر على الأول، ورجحه سليم.
وصحح ابن السمعاني الثاني، قال:(وكأنه لما قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] أَفْهَمَ أن القطع من أجل السرقة)
(1)
.
وكذا قال إلْكِيَا: إنه من ترتيب الحكم على الوصف.
ولعله إنما ذكره تفريعًا على طريقة أرباب الخصوص، وإلا فقد قال هو آخرًا: إنَّ الصحيح أنَّ هذه الألفاظ للعموم.
المذهب الثاني: إنه يفيد الجنس، لا الاستغراق. وهو عن أبي هاشم والفارسي كما يقولان به في الجمع، واختاره الإمام الرازي وأتباعه.
(1)
قواطع الأدلة (2/ 155).
ولما نقله ابن الخباز النحوي عن الفارسي قال: إنه احتج على ذلك بأمور لا تصبر على النظر حق الصبر.
قال: (ويُضعِّف مذهبه أنها لو كانت لتعريف الماهية لم يكن بين النكرة والمعرف بها فرق، لأن النكرة تدل على الماهية دلالة وضعية، كَـ "فرس" و"حجر". فإذا قلت: "الفرس" و"الحجر" ولم تقصد العهد وأردتَ نفس الماهية فقد عَنيتَ ما عَنَاه الواضع، وأضَعْتَ حَقَّ الألف واللام؛ فثبت أن المراد بها العموم كما قال المبرد). انتهى
الثالث: أنه يحتمل الأمرين؛ فيكون مُجْمَلًا. حكاه الأستاذ عن بعض أصحابنا.
الرابع أنه يفيد العموم إن كان مما يتميز واحِدُه بالتاء ولكن لا يتشخص له واحد ولا يتعدد، كَـ "الذهب" و"العسل"، بخلاف ما يتشخص مدلوله كَـ "الدينار" و"الدرهم" و"الرجُل"، فإنه يحتمل العموم، نحو:"لا يقتل المسلم بالكافر"
(1)
، ويحتمل قصد تعريف الماهية، كَـ "الدينار أفضل من الدرهم ".
قاله الغزالي في "المستصفى" و"المنخول" وإنْ وافق في "معيار العلوم" على أنه للاستغراق، واختار هذا التفصيل أيضًا ابن دقيق العيد.
الخامس: الفرق فيما دخلت عليه "أل" بين ما فيه "هاء التأنيث" الدالة على توحيده كَـ "ضربة") فهو محتمل للعموم وللجنس، بخلاف ما لا هاء فيه أصلًا (كَـ "رجل")، أو فيه هاء بنيت عليها الكلمة (كَـ "صلاة" و"زكاة")، فالمقترن بِـ "أل" من ذلك عام.
نقله الأبياري عن إمام الحرمين، وقال:(إنه الصحيح)
(2)
.
ونوزع بأن الذي في "البرهان" ونقله عنه المازري غير ذلك.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 6517) وغيره بلفظ: (لَا يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِر).
(2)
التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 903).
تنبيهات
الأول: تقييد العموم فيما سبق بانتفاء العهد يقتضي أن الأصل فيه هو الاستغراق؛ ولذلك احتاج العهد إلى قرينة. فما احتمل العهد والاستغراق لانتفاء القرينة محمول على الأصل وهو الاستغراق (كما هو ظاهر كلام أكثر الأصوليين)؛ لعموم فائدته. ونقله ابن القشيري عن المعظم وصاحب "الميزان " عن ابن السراج النحوي، وهو الذي أورده الماوردي والروياني أول "البيع "، قالا: لأن الجنس يدخل فيه العهد، بخلاف العكس.
وظاهر كلام بعضهم الحمل على العهد، وبه صرح ابن مالك من النحاة.
وفي قول ثالث: إنه مجمل؛ لكونه محتملًا على السواء. وهو قول إمام الحرمين وابن القشيري، وقال إلْكِيَا: إنه الصحيح. بل سبق الإمام إلى ذلك غيره، فقد حكاه الأستاذ عن بعض أصحابنا.
وقول رابع يخرج من كلام ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" حيث قال: إنَّ هذا يختلف باختلاف السياق ومقصود الكلام، وُيعرف ذلك بقرائن ودلائل.
قلتُ: غايته تَوقُّف كل مِن الأمرين على قرينة تدل على إرادته. وهذا عَيْن القول بأنه مجمل، على أن الترجيح من هذا الخلاف مضطرب عند الأصوليين وغيرهم في أن: الأصل العموم حتى يقوم دليل على العهد؟ أو العهد حتى يقوم دليل على العموم؟ أو كلٌّ أصل فيحتاج لدليل؟
لكن الأول هو مقتضَى ترجيح الأكثر.
التنبيه الثاني:
إذا قلنا بعموم صيغ الجموع والمثنى وما في معناهما بقرينة في الإثبات كَـ "أل"
و"الإضافة" الآتي ذِكرها وفي النفي ونحوه مما سيأتي، هل تسلب دلالته على الجمعية وتصير أفراده وحدانًا كأفراد المفرد في ذلك؟ أو تبقى آحاده جموعًا أو مثنيات؟
فيه خلاف يظهر أثره في الاستدلال بذلك على حكم الواحد وفي أن العموم إذا خُص وكان جمعًا هل يجوز إلى أن يبقى واحدٌ؟ أو لا بُدَّ من عدد يَصْدُق عليه ذلك اللفظ؟ وستأتي هذه المسألة وما فيها في محلها من التخصيص، وفي غير ذلك أيضًا كما سبق في التفرقة بين جمعَي القِلة والكثرة، فيلحظ معنى ذلك في كل فرد من أفراد ذلك العام.
ذهب كثيرٌ إلى الثاني.
ورجح القرافي الأول، وقال:(يتعين اعتقاد زوال الجمعية ويصير كالمفرد، ويكون الحكم لكل فرد فرد، سواء كانت الصيغة جمعًا أو ما في معناه)
(1)
.
وربما نقل عن الحنفية الأول.
وعن الشافعية الثاني؛ ولهذا شرطوا في كل صنف من مستحقي الزكاة ثلاثة إلا العاملين، وقالوا فيمن حلف لا يتزوج النساء أو لا يشتري العبيد: لا يحنث إلا بثلاثة.
وعند الحنفية يحنث بواحد. قاله الرافعي في "كتاب الطلاق" محافظةً على الجمع، ولم ينظروا لكونه جمع كثرة حتى لا يحنث إلا بأحد عشر.
نعم، في "الحاوي" للماوردي: حلف "لا يتصدق على المساكين"، يحنث بواحد. أو "ليتصدقن على المساكين"، لا يبر إلا بثلاثة؛ لأنَّ نفي الجمع ممكن، بخلاف إثبات الجمع، أي: مع عمومه.
قلتُ: وبهذا نستفيد أنهم إنما قالوا في أصناف الزكاة بالجمع؛ لتعذر تعميمهم، فاقتصر
(1)
شرح تنقيح الفصول (ص 180).
على ما يقع عليه لفظ الجمع في الأصل.
ونقل عن ابن الصباغ أن اللام الداخلة على الجمع تُصيِّره كاسم الجنس، أي: حتى يصدق على الواحد، لكنه يشكل بمسألة أصناف الزكاة.
نعم، الفرع الثاني -وهو "لا أتزوج النساء" أو "لا أشتري العبيد"- في نفي، ومع ذلك شرطوا فيه الثلاثة.
وعلى الجملة فالفروع فيه مضطربة، إلا أن يُعلَّل كل فرع بما يليق به مِن غير نظر إلى خصوص ما نحن فيه.
على أنَّ القول الأول هو ما يقع في عبارة كثير من علماء البيان.
ففي "المفتاح" و"التلخيص" أن استغراق المفرد أشمل، بدليل:"لا رجال في الدار" إذا كان فيها رجل أو رجلان، دُون "لا رجل".
ذَكَرَا ذلك لَمَّا تَكلمَا على أن تعريف المسند إليه باللام قد يكون لإفادة الاستغراق؛ فعُلم من كلامهما أنَّ هذه القاعدة وإنِ استدل عليها بما هو في النفي وهو: "لا رجال في الدار" و"لا رجل في الدار"، فإنما ذلك لظهور الاستدلال منه، وإلا فلا فرق في قرينة العموم بين أن يكون في إثبات أو نفي.
نعم، النفي الداخل على الجمع قد يُعْنَى به سلب العموم أو نفي المجموعية، فلا يكون مما نحن فيه من "أل" المفيدة للاستغراق، كما قيل به في قوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 102]: إنَّ المراد: لا يدركه الكل، بل البعض. فهو مِن سلب العموم.
وقيل: المراد: لا يحيط بكنه حقيقته. فيكون من عموم السلب، وهو الأرجح، وعليه فالمراد نَفْي كل فرد فرد، لا نفي كل جمع جمع، حتى لا يلزم منه نفي إدراك فرد واحد أو اثنين.
ومن ثَم قالوا في قوله تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4]: إنما لم يَقُل: "وهن العظام" بالجمع؛ لإرادته شمول الوهن لكل عظم عظم، لا لجمعٍ جمع فقط الذي لا يلزم منه وهن كل فرد فرد من العظام.
قال صاحب "الكشاف": (إنما وَحَّد العظم لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية. وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو عمود البدن وبه قوامه قد أصابه الوهن. ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخَر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه، ولكن كلها)
(1)
. انتهى
وهو ظاهر فيما ذكر من الفرق.
ويحتمل أنه إنما أراد أن "اللام" في العظم للحقيقة، لا للاستغراق؛ لأنه ممن يرى بنفي إفادة "اللام" الاستغراق بذاتها كما سنذكره عنه من بعد.
وقد تعقب المولى سعد الدين التفتازاني على صاحب "التلخيص" وأشبع الكلام في إبطال مغزاه، فقال:(ولقائل أن يقول: لو سُلم كَوْن استغراق المفرد أشمل في النكرة المنفية فلا نُسلم ذلك في المعرَّف باللام، بل الجمع المحلَّى بلام الاستغراق يشمل الأفراد كلها مثل المفرد كما ذكره أكثر أئمة الأصول والنحو، ودل عليه الاستقراء، وصرح به أئمة التفسير في كل ما وقع في التنزيل من هذا القبيل، نحو: {أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33]، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، إلى غير ذلك؛ ولهذا صح بلا خلاف: "جاءني القوم -أو العلماء- إلا زيدًا" أو "إلا الزيدين" مع امتناع "جاءني جماعة من العلماء إلا زيدًا" على الاستثناء المتصل).
(1)
الكشاف عن حقائق التنزيل (3/ 6).
إلى آخر ما ذكر بِطُولِه.
ثم قال: (وإنما أطنبتُ الكلام في هذا المقام؛ لأنه من مسارح الأنظار ومطارح الأفكار، كم زلَّت فيه للأفاضل أقدامهم، وكَلَّتْ دُون الوصول إلى الحقِّ أفهامهم). انتهى
وهو كلام نفيس وإن كان لنا معه في بعضه أبحاث ليس هذا موضع ذكرها، لكن منها فيما نقلناه عنه من الاستشهاد بامتناع "جاءني جماعة من العلماء إلا زيدًا" على الاستثناء المتصل، قَصْده بذلك أنَّا إذا قلنا: آحاد الجمع العام جموع وإنَّ الجمعية في الأفراد باقية مع العموم، كان يلزم أن يجوز الاستثناء من جماعة جماعة، [لا]
(1)
من الأفراد واحدًا، وذلك ممتنع. فثبت سلب الجمعية بالكُلية، لكن لفظ "جماعة" ليس هو المدَّعَى أنه فرد من أفراد صيغ الجموع المقترنة بدليل الشمول كَـ "العلماء"، إنما الخصم يدَّعِي أنَّ آحاد "العلماء" علماء وعلماء وعلماء، وهكذا.
وعلى تقدير أنْ يكون هذا مراده بجماعة من العلماء فقد يقال: إنما امتنع الاستثناء منه؛ لكونه نكرة. وسيأتي أن النكرة -وإنْ كانت جمعًا- لا يستثنى منها.
وكان ينبغي أن ينقض على صاحب "التلخيص" بقوله عقب ذلك: (ولا تنافي بين الاستغراق وأفراد الاسم) جوابًا عن سؤال السكاكي: إن الاسم المفرد -الذي يقابل المثنى والمجموع- يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على الكثرة، والجمع بينهما في نحو "الإنسان" و"لا رجل في الدار" جمع بين متنافيين.
فأجاب بأنه لا تنافي؛ لأن الحرف وهو "لام الاستغراق" أو "لا" التي للنفي إنما دخلت عليه حال كونه مجردًا من إرادة معنى الوحدة والكثرة، ودلَّ على هذا التجرد كلمة الاستغراق، فيصير اللفظ بذلك دالًّا على الحقيقة، محتملًا للوحدة والكثرة.
(1)
من (ت، س).
فمقتضى الاستغراق عَيَّن أحد الاحتمالين ونَفَي الأخر؛ فلم يجتمعَا.
وأيضا: فلأنه بمعنى كل فرد، لا مجموع الأفراد، وإذا كان كذلك جاء مثلُه في الجمع، فيصير اللفظ بقرينة العموم المراد به الحقيقة من غير وحدة ولا كثرة، على أن في العموم مع الحقيقة إشكالاً سنذكره والجواب عنه.
الثالث:
التحقيق فيما يدخل عليه "أل" المعرِّفة وفي حكمها الموصولة كما سبق أنه:
إما أن يكون المراد معها نفس الحقيقة، لا ما يصدق عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحو ذلك. ويساوي ذلك دلالة عَلَم الجنس كما سبق تقريره في موضعه كَـ "أسامة".
وإما أن يكون المراد فردًا معينًا في الخارج (وهو العهد الخارجي)، ونحوه العَلَم الشخصي كَـ"زيد".
وإما فرد غير معيَّن (وهو العهد الذهني) كَـ "أدخل السوق" لمن ليس بينك وبينه عهد بِسُوق معيَّن، ونحوه النكرة كَـ"رجل".
وإما كل الأفراد (وهو الاستغراق)، ونحوه لفظ:"كل" ونحوها من صيغ العموم؛ فلذلك جعلوا ضابطها أن يحل "كل" محلها حقيقةً إذا أريد استغراق الأفراد.
فإن كان مجازًا فهو لاستغراق الخصوصيات، نحو "أنت الرجُل علمًا".
وقد شكك السكاكي في استفادة الاستغراق من اللام، فقال: (إن الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا كثيرة؛ لتحققها مع الوحدة تارة ومع الكثرة أخرى، وإنْ كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر بكون الحكم استغراقًا أو غير استغراق، على مقتضَى المقام. فإذا كان خطابيًّا مثل:"المؤمن غِير كريم، والفاجر خِب لئيم"،
حُمل على الاستغراق؛ بِعِلَّة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما -ترجيحٌ لأحد المتساويين
(1)
. وإذا كان استدلاليًّا، حُمل على أقَل ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة أو الاثنان في الجمع).
ثم اختار أن "اللام" للعهد، قال: (تبعًا لبعض أئمة أصول الفقه، وقَصْدُ الحقيقة [في]
(2)
جملة المعهود الذهني، ولكن الاستغراق في أفرادها لمكان الاحتياج على طريق التحقيق أو التهكم، أو لأنه عظيم الخطر، أو لغير ذلك)
(3)
. انتهى ملخصًا.
قال صاحب "التلخيص"
(4)
في "الإيضاح ": (حل هذا الإشكال يخرج مما سبق).
يريد ما قدمته من التفرقة بين قَصْد "الدلالة على الحقيقة" و"الدلالة على أفراد الحقيقة".
الرابع:
استُشكل على العموم في المفرد المُحلى بِـ "أل" ما لو قال: "الطلاق يلزمني لا أفعل كذا"، وحنث، فإنه لا يقع الطلاق الثلاث.
وقد سأل أبو العباس القرافي الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن ذلك، فأجابه -كما حكاه في "شرح المحصول"- بأن هذا يمين، فيراعَى فيها العُرف دون الأوضاع اللغوية
(5)
.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وقد يجاب بأن الطلاق حقيقة واحدة، وهي قطع عصمة النكاح، وليس له أفراد حتى يقال: تندرج في العموم، ولكن مراتبه مختلفة، منها ما
(1)
كأنه قال: أنَّ القصد إلى فَرد .. ترجيحٌ لأحد المتساويين.
(2)
في (ت، س): من.
(3)
مفتاح العلوم (ص 215 - 216).
(4)
يقصد: جلال الدين القزويني (المتوفى 739 هـ).
(5)
نفائس الأصول (2/ 509).
قصد به تشعيث النكاح وهو الرجعى، وجوز الشارع فيه أن يكون مرة بعد أخرى، والتشعيث الحاصل من الثانية اكثر مِن الأُولى، ومنها ما يحصل به البينونة مع إمكان الرد بغير محلل، وهو إذا كان بعوض، ومنها البينونة الكبرى وهو الثلاث، فيحمل اللفظ عند الإطلاق على أدنى المراتب، ولا يُعمم المراتب؛ لأنها ليسست أفرادًا، فالألف واللام لا تدل على قوة مَرتبة أو ضعفها، فلا يحمل إلا على الماهية).
قال: (وهذا شيء يمكن أن يقال، والأدب مع الشيخ عز الدين الاقتصار على جوابه)
(1)
. انتهى
قلتُ: على أن ما قاله الشيخ تقي الدين لا يخلوا من نظر؛ لِمَا قررناه من أن العموم لا ينافي الحقيقة، خلافًا للسكاكي، وحينئذٍ لا ينافي تفاوت الأفراد في مراتب ولا غيرها، فتأمَّله، وستأتي لنا مسائل في العام في النفي مع التعريف والتنكير.
الخامس:
قد سبق الخلاف في الجمع إذا اقترن به قرينة العموم: هل تصير أفراده جموعًا؟ أو وحدانًا؟ وأن ما في معنى الجمع مثله، كَـ "اسم الجمع" إذا دخلته "لام التعريف"، حتى يحنث مَن حلف "لا يكلم الناس" بواحد، لكن إذا حلف "لا يكلم ناسًا" لا يحنث إلا بثلاثة. نقله الرافعي في "كتاب الأيمان" عن ابن الصباغ وغيره، ففيه التفرقة بين قرينة العموم في الإثبات والنفي، وفيه ما سبق.
ثم يقع النظر من ذلك في ألفاظ، منها:"طائفة": فقيل: أقَلها ثلاثة. وقيل: يصدق على الأقل من ذلك؛ لأنها القطعة من الشيء.
(1)
الإبهاج (2/ 103).
والذي نَص عليه الشافعي الأول.
فقال في "باب صلاة الخوف": (والطائفة ثلاثة فأكثر، وأكره أن يصلي بأقل من طائفة)
(1)
. انتهى
واعترض عليه ابن داود بأن اللغة أنها تطلق على الواحد [بِقِلَّة. نُقِل]
(2)
عن الفراء.
وأيضًا فالشافعي قال في: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]: (إنَّ الطائفة تصدق على الواحد).
وأجيب:
- إما بأن مراد الشافعي بأنها ثلاثة في صلاة الخوف، فيستحب أن تكون ثلاثة، وذلك لقرينة:{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] وكذا في الأخرى {لَمْ يُصَلُّوا} الآية. فضمائر الجمع تدل على ذلك، لا أن كل طائفة ثلاثة.
- وإما أن الطائفة ثلاثة في اللغة كما نقله غير واحد، منهم الزمخشري وغيره.
وإنما قال في {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]: (إنها واحد) بقرينة الإنذار؛ لأنه يكون بالواحد.
ومنها: "قوم"، وهُم الذكور، بدليل:{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] الآية، فإنه قابلهم بالنساء.
وكذا "الرهط"، قال الجوهري: هو ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة.
وقال ابن سِيدَهْ: من ثلاثة إلى عشرة.
(1)
الأم (1/ 219).
(2)
في (ت، ش، ض): نقله ثعلب.
وكذلك "النفر" اسم جمع كَـ"قوم" و"رهط".
السادس:
للعلماء اضطراب في مواضع من "المحلَّى بِأل"؛ لمحل الاحتمال فيها، كلفظ "البيع" في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فيه للشافعي أقوال: هل هو عام مخصوص؟ أو أريد به خاص؟ أو اللام فيه للعهد؟ أو مجمل؟
وفي قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] له قولان في انه للعموم أو مجمل، الى غير ذلك.
فليس منشأ الخلاف في مثل ذلك التردد في عدم اقتضاء "أل" العموم؛ بل لتجاذب القرائن في الاحتمالات كما هو مبين في محله في الفقه، وسنذكر فيه بحثًا في "باب المجمل".
ونحو ذلك قول الزمخشري في لفظ "الحمد": (إن "أل" فيه للحقيقة، لا الذي يزعمه الناس من الاستغراق)
(1)
.
وتردد الناس في أنه يرى ما يُعْزى للمعتزلة مِن أنَّ "اللام" للعهد في "الحمد" الذي يعرفه كل أحد منه، أو أنه يقول: إنها للجنس المشار به إلى ما يعرفه كل أحد مِن الحمد كما ينقل ذلك عن المعتزلة أيضًا وأنهم لا يقولون بالاستغراق، أو هو مخالف لهم برأي آخر كما هو مُقرر في موضعه.
ونحو ذلك قول أهل المنطق: إن موضوع القضية إذا كان مُعرفًا بِـ "أل"، لا يكون مسورًا بسور الكلية كالواقع بعد "كل"، بل تكون مهملة، نحو:"الإنسانُ في خُسْر" كما تقدم التنبيه عليه في تقسيم الكلام وأن ابن الحاجب يقول: المتحقق فيها الجزئية. كما هو قول
(1)
الكشاف (1/ 53).
الغزالي في كتاب "معيار العلوم"، وكأنهم إنما لم يجعلوا "أل" سورًا؛ لمحل الاحتمال، بخلاف "كل"، فإنها صريحة، والله أعلم.
ص:
583 -
وَشَامِلٌ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} النَّبِيْ
…
وَإنْ وُصِلْ بِـ "قُلْ "، وَمثْلُ ذَاحُبِيْ
(1)
الشرح:
لما بينتُ أن المحلَّى بِـ "أل" للعموم، ذكرت مسائل من مختلف في محل العموم فيه، كالفروع للقاعدة.
فمنها: لفظ "الناس" في نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] هل يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فيه مذاهب هي جارية أيضًا في نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، {يَاعِبَادِيَ} [العنكبوت: 56]، وغير ذلك من صيغ العموم:
أحدها وهو الصحيح وقول الجمهور: نعم، لِصِدق ذلك عليه، فلا يخرج إلا بدليل.
ثانيها: لا، لقرينة المشافهة؛ لأن المشافِه غير المشافَه، والمبلِّغ غير المبلَّغ، والآمِر والناهي غير المأمور والمنهي، فلا يكون داخلًا.
ورُدَّ بأن الخطاب في الحقيقة هو من الله للعباد، وهو منهم، وهو مع ذلك مبلِّغ [للأمة]
(2)
، فالله هو الآمر الناهي، وجبريل هو المبلغ له، ولا تنافي في كون النبي صلى الله عليه وسلم مخاطَبًا
(1)
قد يكون معناه: اعتُرِض. في لسان العرب (14/ 162): (حَبَا لَهُ حَبِيٌّ: اعترضَ لَهُ مَوْجٌ).
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): للآية.
مخاطِبًا مبلَّغًا مبلِّغًا باعتبارين.
وربما اعتل المانع بأنه صلى الله عليه وسلم له خصائص، فيحتمل أنه غير داخل؛ لخصوصيته، بخلاف الأمر الذي خاطب به الناس.
ورُدَّ بأنَّ الأصل عدمُه حتى يأتي دليل.
ثالثها وبه قال الصيرفي والحليمي: لا يدخل إنِ اقترن ذلك بِـ "قُل"، نحو:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [لأعراف: 158]، {قُلْ يَاعِبَادِيَ} [الزمر: 53]، وإلا فيدخل.
ورَدَّه إمام الحرمين بأن القول مستندٌ إلى الله تعالى، والرسول مبلِّغ عنه، فلا معنى للتفرقة.
رابعها: يدخل في خطاب القرآن ولا يدخل في خطاب السُّنة. قاله المقتَرح.
تنبيهات
الأول: محل الخلاف حيث لا قرينة تنفي دخوله، نحو:"يا أيها الأمة" أو "يا أمة محمد". أما ذلك فلا يدخل فيه بلا خلاف. قاله الصفي الهندي
(1)
.
وأشار اليه القاضي عبد الوهاب، ومثَّله بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] الآية؛ لأنَّا المأمورون بالاستجابة.
قال: (ومثله قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا} [الطلاق: 10 - 11]، تقديره: اطلبوا رسولًا، على الإغراء). انتهى
الثاني: قيل: لا فائدة للخلاف في هذه المسألة، فإنه صلى الله عليه وسلم داخل في الحكم كَـ "الأُمَّة"
(1)
نهاية الوصول (4/ 1381).
قطعًا.
ورُدَّ باحتمال أن يقول المخالف: إنَّ ذلك بدليل خارجي.
وتظهر فائدته فيما لو فعل ما يخالف ذلك: هل يكون نسخًا في حقه؟
إنْ قلنا: هو داخل، فنسخ. أي: إذا دخل وقت العمل، لأن ذلك شرط المسألة كما سيأتي في كل عام وخاص بعده.
الثالث: مما يشبه هذه المسألة في مدركها أنَّ الشاة مثلًا مِن الأربعين من الغنم تزكي نفسها وغيرها. وكذا الواحد من الأربعين في الجمعة يصحح الجمعة له ولغيره، والنية في الصلاة إذا جعلناها ركنًا تُصحح نفسها وسائر الأركان.
وبه يندفع قول الغزالي: إنها بالشروط أَشبه من حيث إنها لا تتعلق بنفسها بل بغيرها.
نعم، أجاب الرافعي بأنه لا يمتنع أن تصحح سائر الأركان دون نفسها، لعدم احتياجها. قال:(وكأن القائل: "أُصلي" مريد معظم الأركان)
(1)
.
وفيه نظر إذا لم نجعل النية شرطًا، وما ذكرناه أَوْلى.
وقد تعلق بشبهة الغزالي مَن يجعل تكبيرة الإحرام شرطًا ومن يجعل السلام شرطًا. وجوابه ما سبق، والله أعلم.
ص:
584 -
وَيَدْخُلُ الْعَبْدُ كَذَاكَ الْكَافِرُ
…
في مِثْلِ لَفْظِ "الناسِ"؛ فَهْوَ وَافِرُ
الشرح: مِن المسائل المشار إليها أيضا هاتان المسألتان:
(1)
العزيز شرح الوجيز (1/ 461).
الأُولى: العبيد والإماء داخلون فيما يشملهم لُغة من خطاب الشارع، مثل:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104].
ومثل "المؤمنين" و"العباد" ونحو ذلك على الأصح من ثلاثة أوجُه حكاها الماوردي؛ لأنهم مكلفون، فلا مانع من دخولهم في لفظ يشملهم لغةً، وعليه أتباع الأئمة الأربعة. فقد نقله ابن برهان عن معظم أصحابنا، وبه قال أيضًا الأستاذ والقاضي أبو الطيب وإلْكِيَا، ونقله القاضي عبد الوهاب عن معظم أصحابهم.
وثانيها: لا يدخلون إلا بدليل؛ لأنهم أتباع الأحرار.
وثالثها: إنْ تَضمَّن الخطاب تعبُّدًا، تَوجه إليهم، أو مُلكًا أو ولاية أو عقدًا فلا.
بل حكى بعضهم الإجماع على عدم خطابهم بالعبادات المالية؛ لأنه لا ملك لهم. وفيه نظر.
قال الهندي: (القائلون بعدم دخول العبيد والكفار -أيْ في لفظ "الناس" ونحوه- إنْ زعموا أنه لا يتناولهم لغةً فمكابرة، وإن زعموا أنَّ الرِق والكفر أخرجهم شرعًا فباطل)
(1)
.
لأن الإجماع أنهم مكلفون في الجملة، أما المبعض فالظاهر تغليب جزء الحرية، فلا يجري فيه الخلاف في العبيد.
المسألة الثانية:
دخول الكفار في لفظ يشملهم لغةً كَـ "الناس" و"أُولي الألباب" ونحو ذلك، وهو الصحيح. وبه قال الأستاذ؛ إذْ لا مانع من ذلك.
ونقل عن بعض أصحابنا أنهم لا يدخلون، ولَعَله لكون الكفار غير مخاطبين بالفروع،
(1)
نهاية الوصول (4/ 1400).
وسبقت المسألة.
إلا أنَّ المانع هنا أَطلق، ولم يقيد بخطاب الفروع.
نعم، إنْ قامت قرينة بعدم دخولهم أو أنهم هم المراد لا المؤمنون، عُمل بها، نحو:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، لأن الأول للمؤمنين فقط إما نعيم بن مسعود الأشجعي أو أربعة كما نَص عليه الشافعي في "الرسالة"
(1)
، والثاني لكفار مكة.
لكن قد يقال: إنَّ "اللام" في ذلك للعهد الذهني، والكلام في الاستغراقية.
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73] المراد الكفار؛ بدليل باقي الآية. نَص عليه الشافعي في "الرسالة"، وجعله من العام الذي أُريدَ به خاص
(2)
.
فقد يُدَّعَى ذلك أيضًا في الآية التي قبلها، فلا تكون "أل" فيها عهدية.
ويتفرع على ذلك أنَّ الذِّمي إذا زنا، هل يرجم؛ من حديث:"الثيب بالثيب رجم بالحجارة "؟
فعندنا يُرجم، وعند الحنفية لا يرجم، لذلك.
أما "الذين آمنوا" و"المؤمنون" ونحو ذلك فلا يدخل فيه الكفار.
لكن ابن السمعاني -بعد أن نقل عن الحنفية أنَّ الخطاب بذلك لا يشملهم- قال: (المختار أنه يعم المؤمنين والكفار؛ لعموم التكليف، وإنما خُص المؤمنون بذلك؛ للتشريف،
(1)
الرسالة (ص 59).
(2)
الرسالة (ص 60).
لا للتخصيص، بدليل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة). انتهى
وضُعِّفَ بأن هذا لأمر خارجي، لا من حيث الصيغة، إما لعموم الشرع، أو للعمومات الشاملة لهم لغةً، أو لغير ذلك. والله أعلم.
ص:
585 -
كَذَا الْمُضَافُ إنْ يَكُنْ مُعَرَّفَا
…
جَمْعًا وَمُفْرَدًا وَلَوْ قَدْ وُصِفَا
586 -
بِوَحْدَةٍ بِالتَّاءِ أَوْ بِغَيْرهَا
…
مِنْ جِنْسِهِ كـ "تَمْرَةٍ" عَرَّفْتَهَا
الشرح: أي: ومن صيغ العموم بالقرينة في الإثبات: المضاف إلى معرفة، وهو معنى قولي:(إنْ يَكُنْ مُعَرَّفَا).
وسواء أكان ذلك المضاف:
- جمعًا، أي: في المعنى؛ ليدخل فيه الجمع بصيغته وما فيه معنى الجمعية من اسم جنس جمعي أو اسم جمع أو نحو ذلك كما سبق نظيره في المحلَّى بِـ "أل".
- أو مفردًا، وهو ما ليس شيئًا من ذلك.
أما الجمع فقد صرحوا به، نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخِر المذكورات بصيغة الجمع في الآية.
وفي التشهد: "وعلى عباد الله الصالحين"؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض"
(1)
.
(1)
سبق تخريجه.
وأما المفرد فزعم الهندي في "النهاية"
(1)
-كما نقله شيخنا بدر الدين الزركشي- أنهم لم يَنصوا على المسألة، وإنما ذلك من قضية التسوية بين الإضافة ولام التعريف.
قال: (لكن قد صرح بالتسوية جماعة)
(2)
.
وممن صرح بذلك الإمام الرازي في أثناء الاستدلال على أن الأمر للوجوب، وذلك في قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].
وفي الفروع الفقهية مما يشهد لإفادة المضاف المفرد العموم، لو قال:"إن كان حملك ذكرًا، فأنت طالق طلقة" أو "أنثى، فطلقتين" فولدت ذكرًا وأنثى، لم تطلق؛ لأن المعلق عليه "كل حملها ذكرًا أو أنثى" ولم يوجد.
ويجري مِثله في "تعليق العتق" وغيره.
ومن وروده للعموم قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وقوله تعالى:{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10]، والرسول إلى المؤتفكات موسى وهارون، ونحوه:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، وفي الحديث:"منعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها وصاعها"
(3)
.
وقال أصحابنا فيمن حلف ليشربنَّ ماء النهر: يحنث في الحال؛ لعموم المضاف وهو محال، فكان نحو:"لأصعدن إلى السماء". وفي وجه: لا يحنث، كما هو قول الحنفية؛ لأن العُرف في مِثله إرادة شيء من ماء النهر.
ويجري في أصل المسألة خلاف مما سبق في المحلى بِـ "أل"، نحو قول أبي هاشم وغيره:
(1)
نهاية الوصول (3/ 1234).
(2)
تشنيف المسامع (2/ 669).
(3)
صحيح مسلم (رقم: 2896) وغيره.
إنه لا يعم المضاف كما لا يعم المحلَّى. قال: لاستوائهما.
وقول الغزالي في "المستصفى" و"المنخول": (إن كان مما يتميز واحدُه بالتاء ولكن لا يتشخَّص له واحد كـ "الذهب" و"العسل"، فيعم، أو لا يتميز بالتاء بل يتشخص كَـ "الدينار" و"الدرهم" و"الرجُل" فيحتمل العموم)
(1)
.
وسبق أنه خالف ذلك في "المعيار"، وأنَّ ابن دقيق العيد اختار تفصيله السابق.
وقول آخر بالتفصيل بين ما فيه "هاء التأنيث" للوحدةكـ "ضربة" فيحتمل العموم وغيره، وبين ما لا "هاء" فيه كـ "رجل"، أو فيه هاء لا للوحدة بل بُني عليها كـ"صلاة" و"زكاة"، فيعم.
وإلى هذا الخلاف أشرت بقولي في النَّظم: (وَلَوْ قَدْ وُصِفَا بِوَحْدَةٍ بِالتَّاءِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهِ). أي: ولو كان ذلك المضاف متصفًا بأنه واحد إما بالتاء الفاصلة بينه وبين جنسه كَـ "تمرة" و"تمر") وإما بوحدة لا بالتاء كَـ "دينار" و"درهم" و"رجل").
نعم، للقرافي هنا تفصيل آخر بين أن يَصدُق على القليل والكثير نحو:"مالي صدقة" فيعم، وبين أن يَصدُق على الجنس بِقَيْد الوحدة فلا يعم، نحو:"عبدي حر" و"امرأتي طالق".
قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": (وقد أشار إليه ابن الحاجب إشارة لطيفة -يعني في "مختصره الكبير"
(2)
- حيث قال في [تعداد]
(3)
صيغ العموم: والمضاف مما يصلح للبعض
(1)
المستصفى (ص 233).
(2)
مختصر منتهى السؤل والأمل (2/ 701)، الناشر: دار ابن حزم.
(3)
في (ت): هذا إن.
والجميع)
(1)
.
وهذا التفصيل يقرُب مما سبق عن الغزالي في اسم الجنس المحلى بِـ "أل". قيل: ولعله إنما أخذه منه.
تنبيهات
أحدها: ما سبق في الجمع أو نحوه المحلى بِـ "أل" حيث كان عامًّا هل أفراده جموع؟ أو وحدان؟ يأتي مثله هنا.
ومما يدل على الثاني في باب المضاف ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض" مع أنَّ الصيغة "عباد الله" جمع مضاف، فجعله الشارع شاملًا لكل فرد فرد، ولم يقُل: سلمتم على كل عباد عباد من عباد الله.
ويدل له أيضًا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، ففهم صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى:{وَأَهْلَكَ} [هود: 40] أن ابنه داخل حتى أجابه تعالى بأنه: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46].
وكذا قوله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] فَهِم إبراهيم عليه السلام العموم لكل واحد واحد، فقال:{إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]، حتى أجابه الملائكة بتخصيص لوطٍ من العموم وأهلِه إلا امرأته.
وفهمت فاطمة رضي الله عنها من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] أن الولد وارث، وهي ولد واحد، حتى أجابها الصديق رضي الله عنه بقوله عليه السلام: "إنا معاشر
(1)
شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (1/ 143 - 144)، ط: دار النوادر.
الأنبياء لا نورث"
(1)
، وهو كثير.
ومَن تتبع هذا، يجده غير منحصر، وكذلك التشكيك في اجتماع العموم في جمع القِلة مع تحديده وغير ذلك مما سبق. فليستحضر ما يمكن مجيئه هنا.
الثاني:
حيث قلنا بتعميم المضاف فعمومه أقوى من عموم المحلَّى بِـ "أل" الاستغراقية؛ بدليل أن الإمام الرازي ممن ينفي عموم المحلَّى بِـ "أل" وقد صرح بتعميم المضاف في: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] كما سبق.
قال السبكي في "شرح المختصر": (ولذلك لو حلف لا يشرب الماء، حنث لشرب القليل؛ لعدم تناهي أفراده، فلما استحالت إرادة الجميع، انتقل لأحد محامل اللام وهو الجنس، ولو حلف لا يشرب ماء البحر، لم يحنث إلا بِكُله؛ لأن عموم الإضافة أقوى، وكأنه قال: "ماء البحر كله")
(2)
. انتهى
وتوجيه ذلك أن "لا يشرب الماء""اللام " فيه تحتمل الاستغراق والجنس، فاستحالة الاستغراق قرينة إرادة الجنس، وليس للمضاف إلا وجه واحد وهو الاستغراق، فاستمر عليه.
ثم قال: (ولو كتب الزوج بِطلاق زوجته عند بلوغ الكتاب، فبلغها وقد انمحى موضع الطلاق أو سقط، فالأصح: لا يقع؛ لأنه لم يبلغها جميع الكتاب. وقيل: يقع. وقيل: إن قال: "إذا جاءك كتابي"، يقع؛ لأنه قد جاءها كتابه. وإن قال:"إذا جاءكِ الكتاب" لم يقع؛ لأنه لم
(1)
سبق تحريجه.
(2)
رفع الحاجب (3/ 81).
يَجِئها جميعه، وكذا إذا قال:"إذا جاءك كتابب هذا"؛ لتأكيد المفرد المضاف باسْم الإشارة، فقد جعل على هذا الوجه عموم الإضافة أقوى)
(1)
. انتهى
وفيه نظر؛ لأن مدْرَك هذا الوجه أنه أرادبِ "الكتاب" المجموع، وتعليله بأنه لم يجئها جميعه يرشد إلى ذلك، فأين العموم فيه الذي قُدِّم عليه عموم الإضافة؟
وإنما يقال: (أقوى) إذا كان كل منهما للعموم، اللهم إلا أن يريد أنه محتمل للمجموع، فأشبه الفرع الذي قَبْله في احتمال الجنسية، ولا كذلك المضاف؛ فإنه لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، فيصح.
الثالث:
لو قال: "زوجتي طالق" وله زوجات، لمَ لا يطلق الكل؛ لأن المضاف يَعُم كما هو قول ابن عباس وأحمد فيما حكاه الروياني في "البَحر"؟
قال: لأنَّ الواحد يُعبر به عن الجنس، مِثل:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] المراد: ليالي الصيام. ثم أجاب بأنه مجاز، والكلام محُال على الحقيقة ما أمكن. انتهى
وفيه نظر؛ لأن العموم في المضاف حقيقة، والتفريع عليه، وإنما يجاب عنه بما سبق في المحلى بِـ "أل" من قوله:(الطلاق يلزمني) من اقتضاء العُرف ذلك، ولا يأتي جواب السبكي هنا؛ لأن الكلام في زوجاته.
أما لو قال: "مالي صدقة"، فإنه يعم؛ إذْ لا عُرف فيه؛ ولهذا استدل على إباحة السمك الطافي بحديث:"والحل ميتته"
(2)
.
(1)
رفع الحاجب (3/ 82).
(2)
سنن أبي داود (رقم: 83)، سنن الترمذي (69) وغيرهما بلفظ:(هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحلُّ مَيْتَتُهُ). قال=
الرابع:
قيل: يُستثنى من محل الخلاف في المضاف لفظ "بعض" و"نصف" و"ثلث" و"ربع" ونحو ذلك؛ إذْ لو اقتضى العموم، لَمَا كان فرقٌ بين الحكم على البعض والحكم على الكل، وينبغي أن يخصص ادعاء ذلك بما إذا لم تَدْع للعموم ضرورة، نحو:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]؛ لاستحالة أن يفضل كل واحد على كل من سواه، فتفوت الأفضلية للبعض.
فإنْ دعت الضرورة للعموم، فهو عام، نحو:{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]، {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [سبأ: 42]، {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50]، {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24]، على أن في عموم بعض هذه الأمثلة نظرًا، والله أعلم.
ص:
587 -
كَذَاكَ في سِيَاقِ نَفْيٍ نَكِرَهْ
…
وَمنْهُ: "لَا يَسْتويان"، وَاذْكُرَهْ
588 -
في نَحْوِ: "لَا أَكلْتُ"، أَوْ سِيَاقِ
…
نَهْيٍ أَوِ الشَّرْطِ إذَا [يُلَاقِي]
(1)
589 -
كَذَاكَ الِاسْتِفْهَامُ، نَحْوُ:"هَلْ رَجُلْ؟ "
…
وَفي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ ذَاكَ قُلْ
الشرح: قد سبق أنَّ مِن أقسام العام لغةً ما يكون في النفي أو معناه، فذكرتُ في هذه
=الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 83).
(1)
في (ض، ش، ن 3، ن 4): تلاقي.
الأبيات منه أربع مسائل، وخامسة من غيره ذكرتها استطرادًا.
الأولى:
النكرة في سياق النفي، سواء باشرها النافي وهو "ما" و"لا" و"لاتَ" و"ليس" و"لَمْ" و"إنْ" والفعل المستعمل فيه نحو "قَلَّما رجل يفعل كذا إلا بكذا" أو لم تباشره أداة النفي، خلافًا للآمدي في قوله في "الأبكار": إن ما لم تباشره لا يعم.
حتى زعم بعضهم أن التعبير بكون "النكرة في النفي "أحسن؛ لأنه أعم، بخلاف السياق، فإنه قاصر على محل خلافية الآمدي، لكن الظاهر أن السياق يدخل فيه ما باشر النافي وما لم يباشر.
وبالجملة فيُرد على الآمدي بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ردًّا على مَن قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فلو لم يكن عامًّا لَمَا حصل به الرد.
ومما استُدل به على أن النكرة في النفي عامة أنه لو لم يكن كذلك لَمَا كان قولنا: "لا إله إلا الله" نفيًا لدعوى مَن ادَّعى إلهًا سوى الله. ذكره الإمام الرازي.
نعم، من النكرة في النفي ما هو نَص، ومنها ما هو ظاهر في العموم.
فالأول:
إما لكون النكرة لا تقع إلا في نفي وشبهه، نحو:"ما فيها ديار" أو "داعٍ" أو "غريب" أو "أحد" إذا لم تُقَدر همزته بدلًا من واو "واحد" فإن ذلك يكون في الإثبات نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]
وإما لكونها مما يصدق على القليل والكثير، نحو:"ما فيها شيء".
وإما أن يكون اسمًا لـ "لا" العاملة عمل "إنَّ"، نحو:"لا حول ولا قوة إلا بالله" سواء
بُنيت كما مثلنا أو لم تُبن نحو: "لا غلام سفر قادم" و"لا طالعًا جبلًا ظاهر"، ونحو ذلك مما اختل فيه شرط التركب مع "لا".
وإما أن تكون مقترنة بـ "مِن" المزيدة لتنصيص العموم أو تأكيده كما قاله في "التسهيل".
فالأول نحو: "ما في الدار مِن رجل"، والثاني نحو:"ما فيها مِن ديار"؛ لأن العموم فيها نَص كما قدمنا بدون "مِن"، فدخولها مؤكِّد، بخلاف الأول فإنه محتمِل قبل دخول "مِن" لإرادة نفي الواحد أو الجنس وإنْ كان مرجوحًا فبدخول "مِن" صار نصًّا في العموم.
وسواء في مَدْخول "من"[أن]
(1)
يكون مبتدأ نحو: ألَا لا من سبيل إلى هند.
أو فاعلًا، نحو:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2].
أو مفعولًا، نحو:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
أو اسم كان، نحو:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4].
أو مفعولًا أولًا في "باب ظن" أو نحو ذلك.
نعم، يُنبه في هذا القسم على أمرين:
أحدهما: أن المفيد للعموم الذي فيه "مِن" لتنصيص العموم هل هو "مِن"؟ أو النفي؟
الراجح الثاني؛ لأنها كانت للعموم فيه ظاهرًا، فلم تُفِد "مِن" إلا جعله نصًّا.
ثانيهما: أن "مِن" الداخلة على النكرة مطلقًا هل تحتمل معنى آخر؟
قيل: نعم، تكون للتبعيض ولابتداءِ الغاية.
قال ابن مالك: (في كلام سيبويه إشارة إلى أنها للتبعيض، أيْ إذْ قال في "ما أتاني مِن
(1)
كذا في (ص)، لكن في (س): بين أن.
رجل": إنَّ "مِن" أُدْخِلت؛ لأن هذا موضع تبعيض)
(1)
. هذا نصُّه.
وقد استشكل أبو حيان مجامَعة التبعيض للعموم؛ إذ يصلح موضعها "بعض"، وهو ينافي العموم.
قيل: والحامل له على ذلك اعتقاده أنَّ "مِن" هي المفيدة للعموم. ولكن سبق أن الراجح خلافه.
فعَلَى الراجح -وهو أن المفيد له النفي- لا ينافيه؛ لأن النفي كأنه منصب على كل بعض بعض إشعارًا بشمول كل بعض، وهو حقيقة العموم.
الثانى: وهو ما ليس نصًّا:
وهو النكرة في النفي في غير الصُّوَر المذكورة في القسم الأول، نحو:{لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47]، و"ما مررت برجل"، و"ليس في الدار رجل"، ونحو ذلك.
وقد اختُلف في عموم النكرة فيه على قولين:
أحدهما: لا، وهو قول المبرد كما حكاه أبو حيان في "الارتشاف" في "باب حروف الجر"، واختاره القرافي وحكاه عن سيبويه وعن الجرجاني والزمخشري إذ قال في قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]: إنَّ العموم استُفيد من لفظة "مِن"، وكذا {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأنبياء: 2] الآية، وإنَّ "مِن" تارة تكون لإفادة العموم نحو ما تقدم، وتارة لتوكيد العموم نحو:"ما جاء في من أحد".
ولكن يحتمل أن مراد الزمخشري: لا تفيده نصًّا، بل ظهورًا؛ بدليل مقابلته بتوكيده، فيكون جاريًا على ما قررناه، ولأن قوله:(إنَّ "مِن" هي المفيدة للعموم) لو حمل على إفادة
(1)
شرح التسهيل لابن مالك (3/ 135)، الكتاب لسيبويه (4/ 225).
أصل العموم، لكان هو القول المرجوح فيما سبق.
فإذا أُوِّل على إفادته نَصِّيَّته، كان مطابقًا للراجح وهو أنَّ النفي هو المفِيد له.
ونقله أيضًا القرافي عن ابن السيد تمسكًا بقوله: إنَّ "لا رجلَ في الدار" بالبناء على الفتح جواب لمن قال: "هل في الدار مِن رجل؟ " فإنه سؤال عن مفهوم مطلق الرجل. وإنَّ "لا رجُل" بالرفع جواب لمن قال: "هل في الدار رجل واحد؟ "، فلذلك يُقال في هذا:"بل رجلان".
ويمكن حمل كلامه على الفرق بين النصية والظهور، لا أنه لا عموم فيه أصلًا.
وتبع القرافي في نقل ذلك عن مَن سبق الأصفهاني في "شرح المحصول"، وحكاه الأبياري في "شرح البرهان" والقرطبي في أصوله عن النحاة، قال:(وإن كان ظاهر كلام الأصوليين التسوية بينها وبين المبنية على الفتح).
والقول الثاني: إنها تعم، وهو ظاهر إطلاق الجمهور، ونقله أبو حيان عن سيبويه وأن "مِن" إذا دخلت في مثل هذا فإنما هي لتأكيد الاستغراق.
وكذا نقله عن سيبويه أيضًا إمام الحرمين في كلامه على حروف المعاني، فقال: (قال سيبويه: إذا قلت: "ما جاءني رجل" فاللفظ عام، ولكنه يحتمل أن يريد "ما جاءني رجل، بل رجلان" -كما يعدل عن الظاهر في نحو: "جاء الرجال إلا زيدًا"
(1)
- فإذا قلت: "ما جاءني من رجل" اقتضى نفي جنس الرجال على العموم من غير تأويل)
(2)
. وهذا صريح في تقرير القول المرجح.
لكن قال القرافي أنه لم يجد هذا النص في كتاب سيبويه وأنه سأل عنه مَن هو عالم
(1)
هذه الجملة ليست في "البرهان".
(2)
البرهان في أصول الفقه (1/ 143).
بالكتاب، فقال: لا أعرفه.
ورُد ذلك بأن مَن حفظ حُجةٌ على مَن لم يحفظ.
وقد صنف ابن خروف في ما نقله إمام الحرمين عن سيبويه ولم يجده في كتابه، ولم يذكر هذا الموضع منه.
وما نقله القرافي عن سيبويه إنْ ثبت فيُحمل على إرادة نفيه للعموم نصًّا، لا ظهورًا؛ جمعًا بينه وبين هذا النص، وكذا غيره كما سبق.
وأما قول "جمع الجوامع": (نصًّا إنْ بُنيت على الفتح، وظاهرًا إنْ لم تُبن)
(1)
فحسن من حيث إنه جمع بين القولين مِن غير أن لا يبقى في المسألة خلاف، إلا أنه قاصر من حيث إن النصية تكون في مواضع أخرى وإن لم تُبْن كما قررناه.
تنبيهات
الأول: إذا قلنا بأن النكرة في النفي للعموم فظاهر كلام الحنفية -واختاره السبكي- أن ذلك من حيث إن النفي إذا ورد على الماهية، لزم منه انتفاء الأفراد المتضمنة لها، فالعموم فيه لزوم، لا بالذات.
وظاهر قول غيره من الشافعية -واختاره القرافي- أن ذلك بالذات، وأن النفي إنما هو للأفراد؛ بدليل جواز الاستثناء، والماهية لا يستثنى منها، بل من الأفراد.
لكن فيه نظر؛ لأنَّ الأفراد مُراد نفيها قطعًا سواء بالمطابقة أو اللزوم، فالاستثناء سائغ على كل حال.
(1)
جمع الجوامع (2/ 10) مع شرح المحلي وحاشية العطار.
ويبنى على الخلاف التخصيص بالنية، فإنْ قلنا يقول الحنفية فلا يؤثر، حتى لو قال في اليمين:"لا أكلت" ونوى معينًا، لا يُسمع. وإنْ قلنا يقول الآخر، فيؤثر وُيسمع. وسيأتي في هذه المسألة مزيد بيان.
وقال القاضي تاج الدين السبكي في "منع الموانع": (المختار في المبني على الفتح أن العموم باللزوم، وفي غيره أن العموم بالذات)
(1)
.
ولا يظهر لهذا التفصيل وجه، على أنه قد سبق في تقرير العموم في الصيغ ما يؤيد قول الشافعي في المسألة، فراجعه.
الثاني: محل كون النكرة في النفي للعموم -كما قاله السهروردي في "التنقيحات"- ما إذا لم يقصد سلب العموم في الحكم، نحو:"ما كل عدد زوجًا"، فإنَّ المقصود إبطال قول مَن قال:"كل عدد زوج"، ففرق بين عموم السلب وسلب العموم.
الثالث: هل يقال: إن العام هو النكرة في النفي بلا زيادة على ذلك؟ أو بزيادة عليه وهو أن العموم لضرورة تصحيح الكلام؟
ذهب أبو الحسين في "المعتمد" إلى الأول، والإمام الرازي إلى الثاني. وكذا قال إلْكِيَا والدبوسي.
قيل: وهو الحق.
ولعل فائدة الخلاف في ذلك تظهر في التراجيح.
الرابع: محل عموم النكرة في النفي إذا كانت مفردًا، فإن كانت جمعًا أو ما في معناه نحو:"ما رأيت رجالًا" فقال أبو هاشم: لا تعم؛ بدليل: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ
(1)
منع الموانع (ص 178).
الْأَشْرَارِ} [ص: 62].
وصححه إلْكِيَا، قال:(لأن الإبهام في النكرة اقتضى الاستغراق، فإذا ثُني أو جُمع، زال الإبهام، ويَحسُن أنْ يقال حينئذٍ: "ما رأيت رجالا، بل رجلين").
وظاهر كلام الغزالي ترجيحه أيضًا، وقال القاضي: هو كالنفي للواحد في الاستغراق.
وقد سبق في مسألة أن "عموم الجمع هل أفراده جموع؟ أو وحدان؟ " كلام صاحب "التلخيص" في البيان وإيضاحه ما يوضح هذا البحث، فراجعه.
قولي: (وَمنْهُ: "لَا يَسْتَوِيَانِ"، وَاذْكُرَهْ في نَحْوِ: "لَا أَكَلْتُ") إشارة إلى مسألتين مفرعتين على أن "النكرة في النفي للعموم"، ولكن فيهما خلاف من وجه آخر:
الأُولى:
نفي الاستواء وما في معناه من التساوي والمساواة والتماثل والمماثلة ونحو ذلك سواء فيه نفيه في فعل مثل: "لا يستوي كذا وكذا" أو في اسم مثل: "لا مساواة بين كذا وكذا" هل يعم كل استواء؟ أو لا؟
قولان:
بأولهما قال جمهور أصحابنا، وعليه جرى الآمدي وابن الحاجب وغيرهما.
وبالثاني قال أبو حنيفة وأصحابه والمعتزلة والغزالي والإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي.
وأثر الخلاف في:
الاستدلال على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الحشر: 20] فلو قيل به، لثبت استواؤهما.
والاستدلال على أن الفاسق لا يلي عقد النكاح بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ
كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]؛ إذ لو قلنا: يَلِي، لاستوى مع المؤمن الكامل وهو العدل. فإنِ ادُّعِي أن الفاسق في الآية إنما أريد به الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن، قلنا: ففيه دلالة على أن الكافر لا يكون وليًّا على المؤمنة.
ومَن نفى العموم في الآيتين، لا يمنع قصاص المؤمن بالذمي ولا ولاية الفاسق.
فإن قلتَ: قوله تعالى: {هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] قرينة على أن المراد نفي الاستواء في الآية بالفوز، لا مطلقًا، وكذا قوله عقب الآية الأخرى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 26] إلى آخره -قرينة أن المراد نفي الاستواء في دخول الجنة.
قلتُ: لا قرينة في ذلك، غايته أنه ذكر بعض أفراد العموم، ولا يخصِّص على الصحيح.
ومن أمثلة المسألة أيضًا: قوله تعالى في سورة آل عمران: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113]، وفي الجاثية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] الآية -على قراءة {سَوَاءً} بالنصب، وفي الحديد:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] وفي الزمر: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} [الزمر: 29] ، ونحو ذلك.
إذ لا فرق -كما سبق- في نفي النكرة الدالة على الاستواء بين أن يكون فعلًا أو اسمًا.
واعلم أن مأخذ القولين في المسألة أن "الاستواء في الإثبات" هل هو من كل وجه في اللغة؟ أو مدلوله لغةً الاستواء من وجه ما؟
فإن قلنا: من كل وجه، فنفيه مِن سلب العموم، فلا يكون عامًّا.
وإن قلنا: من بعض الوجوه، فهو من عموم السلب في الحكم؛ لأن نقيض الإيجابِ الكُلي سَلْبٌ جُزئي، ونقيض الإيجابِ الجزئي سَلْبٌ كُلي.
ولكن كون الاستواء في الإثبات عامًّا من غير صيغة عموم -ممنوع، غايته أن حقيقة
الاستواء [ثبتت]
(1)
.
وأعجب من ذلك احتجاج الإِمام الرازي وأتباعه بأن نفي الاستواء أعم مِن نَفْيه من كل وجه ومن نَفْيه مِن بعض الوجوه، والأعم لا يَلزم منه الأخص.
وهو مردود -كما قاله ابن الحاجب وغيره- بأنَ ذلك في الإثبات.
أما نفي الأعم فيلزم منه انتفاء الأخص، كنفي "الحيوان" نفي للإنسان.
هذا إن سَلَّمنا أنَّ الاستواء عام له جزئيات.
أما إذا قلنا: [حقيقة]
(2)
واحدة، فإنه يلزم مِن نَفيها نفي كل متصف بها.
وقد استدل مَن نفى العموم في المسألة أيضًا بأنه لو عَمَّ، لم يَصْدُق؛ إذ لا بُدَّ بين كل شيئين من مساواة ولو في نفي ما سواهما عنهما.
وجوابه أنه إنما ينفي مساواة يصح انتفاؤها، لا كل مساواة؛ لأن ذاك مدرك إرادته بالعقل.
وفي كلام إلْكِيَا حكايته قول ثالث، وهو حكايته عن قوم أنه من باب المجمل؛ لأنه يحتمل من كل وجه ومن الوجه الذي قد ذكر في الآيتين الأولتين، وهو قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وكذا التفصيل في الأخرى؟ إذ معناه: "لا يستوون في الفوز بالجنة".
وعليه جرى الهندي، إذ قال:(الحق أن قوله: {يَسْتَوِي} أو {لَا يَسْتَوِي} من باب المجمل ومن باب المتواطئ، لا العام)
(3)
. انتهى
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (ت، ش، ض): نفيت.
(2)
كذا في (ص)، لكن في (س): حقيقته.
(3)
نهاية الوصول (4/ 1369).
وقد سبق أن ذلك مِن ذِكر بعض أفراد العام، ولا يلزم منه أن يبقى مجملًا.
ونظير هذا الخلافِ الخلافُ في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] هل هو عام حتى إذا خرج منه شيء يكون تخصيصًا بدليل؟ أو مجمل؛ لأنا نعلم بالضرورة تساويهما في الإنسانية وغيرها؟
والأرجح الأول؛ لعموم نفي المشابهة؛ فلذلك يحتج به على أن المرأة لا تكون إمامًا ولا قاضيًا ولا إمامة في اقتداء المذكور بها وغير ذلك؛ عملًا بالعموم.
وأما كون تساويهما في الإنسانية فذاك خارج من المراد كما سبق، ومن ثَم امتنع اجتماع المثلين.
قال ابن دقيق العيد: (لفظ "المثل" قال على المساواة بين الشيئين إلا فيما لا يقع التعدد إلا به).
وفي شرح "جمع الجوامع" لشيخنا بدر الدين الزركشي أن المصنف (يعني تاج الدين السبكي) قد اختار أمرًا آخر غير ما سبق، وهو أنَّ لفظ "المساواة" المراد به المعادلة، والسواء: العدل، و"فلان لا يساويه" أي: لا يعادله ولا يكون وزانه، ومنه قوله: وليس سواء عالم وجهول. وقوله:
وأَعْلَمُ إنَّ تسليمًا وتركًا
…
لَلَا متشابهان ولَا سَوَاء
أي: لا يتعادلان ولا قريبًا من المعادلة، وإذا كان معناه المعادلة والمكافأة، كان هذا معناه نفيًا وإثباتًا. وحينئذٍ فيتوقف الاستدلال بالآية على عدم القصاص في الكافر وعدم ولاية الفاسق بالآية الأخرى على أنه ليس بكفء وأن الكفاءة معتبرة
(1)
. انتهى ملخصًا.
(1)
تشنيف المسامع (2/ 687).
ولا يخلو من نظر لمن تأمله.
المسألة الثانية:
الفعل المنفي هل يعم حتى إذا وقع في يمين نحو: "والله لا آكل" أو "لا أضرب" أو "لا أقوم" أو "ما أكلت" أو "ما قعدت" ونحو ذلك ونوى تخصيصه بشيء، يُقبل؟ أو لا يعم فلا يقبل؟
يُنظر: إما أن يكون الفعل متعديًا أو لازمًا، فالأول هو الذي يُنصب فيه الخلاف عند أكثر الأصوليين كما سنذكره.
فإذا نُفي ولم يُذكر له مفعول به، ففيه مذهبان:
أحدهما قول الشافعية والمالكية وأبي يوسف من الحنفية: إنه عام.
وثانيهما وبه قال أبو حنيفة: لا يعم. واختاره القرطبي من المالكية والإمام الرازي من الشافعية.
ومنشأ الخلاف أنَّ المنفي الأفراد، فيقبل إرادة التخصيص ببعض المفاعيل به؛ لعمومه؟ أو المنفي الماهية ولا تَعدد فيها؛ فلا عموم؟
وقد سبق أن الأصح هو الأول، وبنوا عليه أن الحالف إذا قال:"إن تزوجت أو أكلت أو شربت أو سكنت أو لبست" ونوى شيئًا دون شيء، لا يُقبل.
فإنْ ذَكر المفعول به كـ "لا آكل تمرًا" أو "لا أضرب زيدًا" فلا خلاف بين الفريقين في عمومه وقبوله التخصيص.
لكن فرق الحنفية بأن المفعول به إذا لم يذكر، يكون النفي منصبًّا على حقيقة الأكل وماهيته، وإذا ذكر المفعول به، توجَّه النفي إليه، فكان الفعل المتعلق به عامًّا يقبل التخصيص.
ورُد بأن المقدَّر في حكم المذكور، فلا فرق.
نعم، ألحقَ أبو حنيفة بذكرِ المفعول به ما إذا أتى بعد الفعل بمصدره كـ "لا آكل أكلا"؛ لأنه إذا ذكر، تقيَّد الفعل به، فكان كالمفعول به.
وأجيب عنه بأنه وإن لم يذكر فلم يخرج عن دلالة الفعل عليه؛ لأنه مضمونه، فكان كالمذكور.
وربما قرروا قوله بأن المصدر يدل على المرة، فجاز أن يراد به خاص.
وجوابه: أن المصدر المؤكد لا يدل إلا على الحقيقة؛ فلهذا كان مؤكدًا.
واعلم أن الإِمام الرازي لما اختار مذهبهم قال: (نَظرُ أبي حنيفة فيها دقيق؛ لأن النية لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو غيره، والأول باطل؛ لأن الملفوظ هو الأكل وهو ماهية واحدة لا تقبل التعدد. فإن أُخِذَت مع زيادة عليها فتعددها بحسبه، وحينئذ فتقبل التخصيص. فإذا لم تكن تلك الزيادة، فلا تَعدد، فلا تقبل تخصيصًا. وأيضًا أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالزمان والمكان، لم يصح، فكذا إذا نوى تخصيص المفعول به بشيء دون شيء)
(1)
. انتهى بمعناه.
ورُد بأن الماهية إنما لا تتعدد إذا لم يدخل عليها النفي؛ لأنها حينئذ من قبيل المطلق. فإذا نفيت، فلا بُد من نفي جميع الأفراد؛ ضرورة انتفاء الماهية، سواء قلنا: النفي للأفراد بالذات، أو: باللازم لنفي الماهية.
فتبيَّن أن النظر الدقيق إنما هو لأصحابنا.
وأما دعوى الإجماع على عدم صحة التخصيص بزمان أو مكان وقياس المفعول به
(1)
المحصول (2/ 384).
فممنوعان.
أما الأول: فالشافعية لا فرق عندهم في صحة إرادة التخصيص بين المفعول به وبين الزمان والمكان ونحوهما، وقد نص الشافعي على أنه إذا قال:"إن كلمت زيدًا فأنت طالق" ثم قال: "أردت شهرًا" أنه يصح ويُقبل منه.
وأما الثاني -وهو القياس عليه- فلو سلم، أمكن الفرق بأن المفعول به من مقومات الفعل المتعدي وجودًا وذهنًا، إذ لا يوجد ولا يُعقل إلا به. وأما الزمان والمكان فمتعلِّقان بالفاعل حيث افتقر، وإلا فأفعال الله تعالى لا تفتقر لزمان ولا مكان.
ومما ضعِّف به قول الحنفية أنهم وافقوا في الفعل المذكور على جواز تخصيصه باللفظ بخلاف النية، وعللوه بأن النية ضعيفة، فلا تقوى على تخصيص المقدَّر. فناقضوا في جعله عامًّا لقبول التخصيص باللفظ، غير عام لعدم قبوله التخصيص بالنية.
ثم هو على العكس مما ذكروه؛ فإن الضعيف يقوى على تخصيص الضعيف ما لا يقوى على القوي، فإذا كان يَقْوَى على تخصيص القوي وهو المفعول إذا ذُكر، فأَولى أن يقوى على تخصيصه إذا لم يُذكر وكان مُقدرًا.
ومن هنا يُعلم ضعف رد القرافي عليهم بمثل قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]؛ لأنه ليس محل النزاع، إنما محله التخصيص بالنية.
تنبيهات
الأول: ظاهر كلام إمام الحرمين والغزالي والآمدي والهندي أن الخلاف لا يجري في الفعل القاصر حتى يجوز التخصيص باعتبار المصدر المضمن له بالنية قطعًا.
لكن القاضي عبد الوهاب في "الإفادة" أطلق الفعل، فاقتضى أنْ لا فرق، فقال: الفعل
في سياق النفي هل يقتضي العموم كالنكرة في سياق النفي؛ لأن نفي الفعل نفي للمصدر، فإذا قلنا:"لا يقوم زيد"، كأنَّا قلنا:"لا قيام"؟ أوْ لا؟ إلى آخِره.
وربما وقع في تمثيل الغزالي المسألة بأفعال قاصرة وإن كان موضوع المسألة فيما له مفعول، فمثَّل بِـ "إنْ ضربت -أو إن خرجت- فأنت طالق" ونوى الضرب بآلة بعينها أو الخروج من مكان بعينه، مع أن ترجمة المسألة ليس فيها التخصيص بالنية في الآلة ولا في فعل قاصر في المكان، اللهم إلا أن يريدوا بتعدي الفعل ما هو أعم من التعدي بنفسه أو بالحرف.
وقولي في النظم: (في نَحْوِ: "لَا أَكَلْتُ") يحتمل نحوه في كونه فعلًا أو في كونه فعلًا متعديًا.
ومن أمثلة العموم في اللازم قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74]، {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36]، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118].
الثاني: إذا قال: "إن أكلت" فهو مثل: "لا أكلت"؛ لِمَا سيأتي من كون النكرة في سياق الشرط للعموم كالنفي، فمِن ثَّم جمع بينهما ابن الحاجب وغيره.
وإن كان ابن السبكي جعل ذلك ضعيفًا، إذ قال:("لا أكلت"، قيل: و"إنْ أكلت")
(1)
.
لأنه يحمل كلام مَن قال: (النكرة في سياق الشرط للعموم) على العموم البدلي، لكن سيأتي رد ذلك وأن المراد الشمولي.
ولا تظن أني أسقطتُ ذلك في النظم اختيارًا مني لهذا، بل لأني لما ذكرتُ أن النكرة في الشرط تعم، كان ذلك مُكتفًى به؛ لأنه والنفي في ذلك سواء.
(1)
جمع الجوامع (2/ 20) مع حاشية العطار.
الثالث: لا يختص جواز التخصيص بالنية بالعام، بل يجري في تقييد المطلق بالنية؛ ولذلك لما قال الحنفية في "لا أكلت":(إنه لا عموم فيه، بل مطلق، والتخصيص فرع العموم)، اعتُرض عليهم بأنه يصير بالنية تقييدًا لمطلق، فَلِمَ [منعوه]
(1)
؟
نعم، إذا قلنا بجواز الأمرين بالنية، فيقال: كيف خالفت الشافعية ذلك في فروع؟ منها إذا قال: "كل امرأة لي طالق" أو "نسائي طوالق" وعزل بعضهن بالنية، لا يقبل.
وكذا لو قال: "أنت طالق ثلاثًا" وأراد تفريقها على الأقراء أو أراد "إذا جاء رأس الشهر"، على الصحيح في الكل.
وجوابه أنه إنما لم يُقبل؛ لأنه ادَّعى خلاف الظاهر، بخلاف مسألة:"لا أكلت" و"إن أكلت"، فإنه إذا نوى مأكولًا خاصًّا، فليس فيه مخالفة الظاهر.
ولهذا قلنا في المسائل السابقة: إنه مع نفي القبول يُديَّن إلا إذا رفع بالكلية، كما إذا قال:"أردت إن شاء الله" على ما ذكره كُبراء المذهب.
ولو أَقرَّ في صك أنه لا دعوى له على زيد ولا طلب بوجه من الوجوه ثم قال: "أردت في عمامته -أو قميصه- لا في داره وبستانه"، قال القاضي أبو سعد: هذا موضع تردد، والقياس قبوله؛ لأن غايته تخصيص عموم، وهو محتمل.
قال النووي: (الصواب لا يقبل في ظاهر الحكم، لكن له تحليفه أنه لا يعلم أنه قصد ذلك).
الرابع: حكى الغزالي عن الحنفية أنهم ردوا هذه المسألة إلى أنه من المقتضَى، وهو لا عموم له.
(1)
كذا في (من)، لكن في سائر النُّسخ: يمنعوه.
ورَدَّه بالفرق بينهما من جهة أن المقدَّر في المقتضى إنما هو لِيَتم الكلام به، وأما المفعول فإن الفعل يدل عليه بصيغته ووضعه، فَـ "الأكل" يدل على "مأكول" لا من جهة الاقتضاء، بل من نفس اللفظ.
قيل: وفيما قاله نظر؛ فإن الذي هو من دلالة اللفظ بوضع الفعل إنما هو المصدر؛ لدلالة الفعل عليه مع الزمان المحصل، أما بقية المفاعيل -وكذا الفاعل- إنما دلالته عليه باللزوم، لا بالصيغة والوضع.
المسألة الثانية من مسائل الأصل:
" النكرة في سياق النهي" للعموم؛ لأنه في معنى النفي كما صرح به أهل العربية، نحو:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24].
ويجري فيه ما سبق فيما يختص بالنفي، نحو:"لا تضرب من أحد"، أو لا يختص، نحو:"لا تضرب من رجل"، ويدخل أيضًا الفعل المنهي عنه، نحو:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
الثالثة:
" النكرة في سياق الشرط" للعموم أيضًا، نحو:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] ونحو ذلك؛ لأنه في معنى النفي؛ لكونه تعليق أمر لم يوجد على أمر لم يوجد.
وقد صرح إمام الحرمين في "البرهان" بإفادته العموم، ووافقه الأبياري في شرحه، وهو
مقتضَى كلام الآمدي [و]
(1)
ابن الحاجب في مسألة: "لا أكلت" و"إن أكلت" كما سبق.
وزعم بعضهم أن المراد بعمومه "العموم البدلي" لا "الشمولي" كابن السبكي في "شرح المنهاج"، كأنه أخذ ذلك من أن أداة الشرط إما للتكرر وهي "كلما" أو لغيره وهي باقي الأدوات، ولكن هذا لا ينافي العموم وإلا لم تكن أدوات الشرط للعموم وقد سبق أنها مِن صِيَغِه.
ويدل على ذلك أن المراد في نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} أنه لو استجاره واحد أو الكل، كان الحكم فيهم ما ذُكر، فلولا العموم لاقتصر على إجارة واحد، فإذا استجار بعده أحد، لا يجيره، كـ "أعتق رقبة" لا يختص؛ لأن عمومه بدلي، حتى إذا أعتق واحدة، لا يَلزم أن يعتق بعدها شيئًا.
والتكرير في "كُلما" إنما هو في واحد، نحو:"كلما جاءك زيد فأعطه درهمًا". وهو واضح.
الرابعة:
النكرة في سياق الاستفهام الإنكاري تعم أيضًا؛ لأنه في معنى النفي كما صُرِّح به في العربية في "باب مسوغات الابتداء وصاحب الحال" وفي "باب الاستثناء" وفي "الوصف المبتدأ المستغني بمرفوعه عن خبر" عند مَن يشترط [تقدُّم نَفْي]
(2)
أو ما في معناه، نحو:"هل قائم زيد؟ "، وفي غير ذلك.
قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] ، {هَلْ تَعْلَمُ
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): وكذا.
(2)
كذا في (ت، س)، لكن في سائر النُّسخ: النفي.
لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، فإن المراد نفي ذلك كله؛ لأن الإنكار هو حقيقة النفي.
المسألة الخامسة:
وهي المذكورة استطرادًا بعد ما ذُكر من صيغ العموم لغةً بقرينة في النفي: "النكرة في سياق الامتنان"، وهي للعموم كما ذكره القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في الكلام في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، وجرى عليه ابن الزملكاني في كتاب "البرهان".
قيل: والقول بذلك مأخوذ من قول البيانيين في تنكير المسند إليه: إنه يكون للتكثير، نحو:"إنَّ له لإبلًا" و "إن له لغنمًا". وعليه حمل الزمخشري {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الشعراء: 41]، وكذا قرره في قوله تعالى:{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)} [الغاشية: 12] ، ولكن في أخذ العموم من ذلك نظر؛ إذْ لا يَلزم من الكثرةِ الاستغراقُ.
قلت: مرادهم بالكثرة البلوغ إلى غاية لا تدرك، مبالغةً في الكثرة، لا كثرة ما وإن كان ذلك على وجه الادعاء، وحينئذٍ فهو معنى العموم؛ فإنهم قالوا فيه:(إنه الاستغراق من غير حصر) كما سبق.
ونظير ذلك ما قالوه في نحو: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]، وفي نحو:"لبيك وسعديك" من كون المراد الكثرة بلا حصر، وهذا أمر مذوق لمن تأمله.
نعم، لا يبقى لخصوص الامتنان معنى، بل كل مقام اقتضى في النكرة التكثير يقال فيه ذلك، والامتنان فرد منه، وهو حسن.
تنبيه:
مما ذكر من عموم النكرة في الإثبات - غير ما سبق من الامتنان ونحوه - صُوَر:
منها: ما سيأتي من الجمع المنكَّر على قول الجبائي، ويأتي رده.
ومنها: "النكرة في سياق الطلب"، نحو:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201]. وقد يقال: إن كان ذلك لاقتضاء المقام التكثير، فهو مما سبق تقريره في الامتنان، وإن كان التنكير فيه للتعظيم، فلا يلزم منه العموم؛ لأن العظمة باعتبار الشيء في نفسه، والتكثير باعتبار الكمية. وذِكر هذا الدعاء من جوامع الأدعية يحتمل أن يكون لإرادة التكثير أو التعظيم، لا لاقتضاء العموم بذاته.
ومنها: "النكرة في سياق الأمر" على خصوصه وإن دخل تحت الذي سبق من الطلب. قاله في "المحصول" ونقله عن الأكثرين، واستدل عليه بأن نحو:"أعتق رقبة" لولا أنه للعموم لَمَا خرج عن العهدة بأي إعتاق أعتقه، بل يعتق جميع ما يَقدر عليه من رقاب الدنيا.
وهو عجيب؛ فإنه مطلق يكتفَى فيه بواحد؛ فإن عمومَه عمومُ بَدَل.
قال أبو الحسين بن القطان: (إذا قال: "اقتل مشركا"، لا يلزم منه قتْل كل مشرك، بل يقتل مشركًا ما).
قال: (ويحتمل أن يريد معيَّنًا، فيجب التوقف إلى البيان. وقيل: إذا حمل على الجنس، خُص ووقف فيه. وهو قول أهل العراق). انتهى
ومنها: قول الحنفية: إن النكرة إذا وُصفت بصفة عامة، كانت معرفة بذلك، كالمعرف بـ "لام الجنس".
قالوا: مثل: "لا تكلم إلا رجلًا كوفيًّا"، فله أن يكلم جميع الكوفيين، بخلاف ما لو قال:"إلا رجلًا" فكلَّم رجلين؛ فإنه يحنث.
ومنه قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221]؛ لأنه في معرض التعليل، فلولا أنه عام لَمَا صح التعليل.
ومنه أيضًا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ، فهو عندهم عام؛ لأجل وصفه
بالأحسنية، إذِ المراد بالوصفِ الوصفُ المعنوي، لا خصوص النعت النحوي.
ورُدَّ ذلك بأن هذا العموم إنما هو العموم العقلي الذي يأتي من الأقسام، والكلام في العام لغةً.
على أن ما ذكروه قد صرح محمَّد بن الحسن في "الجامع الكبير" بما يخالفه، فقال فيما لو حلف لا يكلم كوفيًّا: إنه يبر بواحد. ولو كان للعموم لَمَا برَّ بذلك، بل بالجميع.
وأيضًا فهو مردود بأن الوصف للنكرة ليس مسوقًا للتعميم، بل لبيان المراد بالنكرة.
وقد فرعوا على هذا قاعدتهم المشهورة، وهي:"أيُّ عبيدي ضربك فهو حر" فضربوه جميعًا، عُتقوا. و "أيُّ عبيدي ضربته فهو حر" فضربهم جميعًا، لا يُعتق إلا واحد منهم.
والفرق أنه وصف في المسألة الأولى بالضرب، وهو عام، وفي الثانية قطع عن الوصفية؛ لأن الضرب إنما أضيف إلى المخاطَب، لا إلى النكرة التي [تتناولها]
(1)
"أيّ".
وهو عجيب؛ لأنه إنْ أريد النعت النحوي فلا نعت في الموضعين، وإن أريد الوصف المعنوي فهو موجود في الموضعين؛ لأنه كما وصف في الأُولى بالضاربية وُصِف في الثانية بالمضروبية له.
وقد أجاب بعضهم عن ذلك بما لا يشفي؛ فلا نُطَول به.
ومنها: الفعل المتعدي إذا حذف مفعوله واحتمل أن يكون معرفة ونكرة ولكنه ذُكر لِيعم، نحو:"زيد يعطي ويمنع "، ومنه:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، أي: كل أحد.
ولم يذكر ذلك الأصوليون، بل أهل البيان. لكن عموم المفعول إنما هو بالقرينة التي
(1)
كذا في (ص)، لكن في (س): يتناولها.
اقتضت أن يكون عامًّا كما مُثِّل، فالتعميم في الحقيقة إنما هو بلفظ عام مقدَّر، فيكون كما لو ذُكر؛ بدليل أنه لو قال قائل:(هل ضربت رجلًا؟ ) فقلت: (ضربت)، لا عموم فيه؛ لعدم قرينة العموم، بل فيه قرينة الخصوص.
قولي: (كَذَاكَ في سِيَاقِ نَفْيٍ بكِرَهْ) أي: كذلك من الصِّيَغ "النكرة في سياق النفي". فـ "كَذَاكَ" خبر مقدَّم، و"نَكِرَهْ" مبتدأ مؤخَّر، و"في سياق نفي" حال.
وقوفي: (وَاذْكُرَهْ في نَحْوِ) إلى آخِره -أي: اذكُر العموم واعتقده في ذلك أيضًا. والله أعلم.
ص:
590 -
وَقَدْ يَعُمُّ اللَّفْظُ عُرْفًا مِثْلُ مَا
…
في رَأْيٍ الْفَحْوَى وَ"حُرِّمَ" اتْمِمَا
الشرح:
هذا هو القسم المقابل للعام لغةً، وكذا ما بعده، وهو أن يكون اللفظ عامّا بالعُرف أو بالعقل.
فالأول في ثلاثة أمور:
أحدها: فحوى الخطاب.
الثاني: لحن الخطاب وإنْ لم أذكره في النَّظم ولا فرق، وهو واضح.
ولكني جريت على المشهور كما فعل صاحب "جمع الجوامع".
وقد مَثَّل هو في "شرح المنهاج" بالقسمين، وهُما الحكم على شيء والمسكوت عنه مساوٍ له فيه أو أَوْلى، نحو:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].
وقد سبق بيان القسمين في مفهوم الموافقة وحكاية الخلاف في "الفحوى" أنه دَلَّ على المسكوت قياسًا؟ أو نقل عُرفًا؟ أو مجازًا بالقرينة؟ أو دَلَّ من حيث المفهوم؟
فلذلك قلت: (في رَأْيٍ)؛ لأن الراجح ما نص عليه الشافعي أنه بالقياس.
والثالث: ما نُسب الحكم فيه لذات، وإنما تعلق في المعنى بفعل اقتضاه الكلام، نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].
فإنَّ العُرف في الأُولى نقله إلى تحريم الأكل على العموم، وفي الثانية إلى جميع الاستمتاعات المقصودة من النساء، فيشمل الوطء ومقدماته، ومنهم مَن يُقَدر الوطء فقط.
وسيأتي بيان ذلك مبسوطًا في "مسألة عموم المقتضَى".
ومنهم مَن زعم أنه من قبيل المجمل، وسيأتي بيانه أيضًا هناك وفي باب "المُجْمَل".
وقولي: (وَ"حُرِّمَ" اتْمِمَا) أي: أتمم المذكور في الآية، إما الآية الأولى أو الثانية. والله أعلم.
ص:
591 -
وَعَقْلًا ايْضًا مِثْلُ تَرْتِيبٍ عَلَى
…
وَصْفٍ، فَذَا بِلَفْظِهِ لَنْ يَشْمَلَا
592 -
وَمثْلُهُ الْمَفْهُومُ في الْمُخَالَفَهْ
…
وَللْعُمُومِ ضَابِط مَا خَالَفَهْ
الشرح:
هذا الثاني من المقابل للعام لغةً، وهو العام بالعقل، وذلك ثلاثة أمور:
أحدها: ترتيب الحكم على الوصف، نحو:"حرمت الخمر؛ للإسكار"، فإن ذلك يقتضي أن يكون عِلَّة له، والعقل يحكم بأنه كما وُجدت العلة يوجد المعلول، وكلما انتفت ينتفي.
فهذا القسم لم يدل بِلُغة؛ لأنه لا منطوق فيه بصيغة عموم، ولا بالمفهوم، وذلك ظاهر،
ولا بالعُرف؛ لعدم الاشتهار فيه، فلم يَبْقَ إلا العقل.
وإذا قلنا بأن نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] من باب القياس، يكون من العام عقلاً أيضًا.
ولك أن تقول في عموم العِلل: إن هذا إنما هو في العِلل العقلية، أما الشرعية فمُعَرِّفات، ولا يَلْزَم من ثبوتها ولا من انتفائها ما ذكر؛ فقَدْ يتخلف المعلول؛ لمانع، وهي مسألة "نقض العلة"، وسيأتي إيضاح ذلك في "باب القياس"؛ فإنه محله.
نعم، ترتيب الحكم على العلة وإنْ كان من حيث عموم العلة عقلًا لكنه إذا كان من الشرع، فالحكم في عمومه لكل ما فيه تلك العلة التي وقع القياس بها -شرعي.
وقيل: لُغوي، وقيل: لا يعم، لا شرعًا ولا لغةً.
ومن أمثلة المسألة: قولة صلى الله عليه وسلم في قتلى أُحد: "زملوهم بكلومهم ودمائهم؛ فانهم يحشرون وأوداجهم تَشْخَبُ دمًا"
(1)
. فإنه يعم كل شهيد شرعًا، أو لغةً، أوْ لا ولا (على الأقوال).
(1)
انظر: مسند أحمد (رقم: 23708)، معرفة السنن والآثار للبيهقي (3/ 142، رقم: 2097)، ولفظ أحمد:(زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ).
وفي: سنن النسائي (2002) وغيره، ولفظ النسائي:(زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلمٌ يُكْلَمُ في الله إِلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ المسْكِ). قال الألباني: صحيح. "صحيح النسائي: 2001).
وفي: سنن الترمذي (3029)، سنن النسائي (4005) وغيرهما، بلفظ:(يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ في يَدهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا .. ) الحديث. قال الألباني: صحيح. "صحيح سنن الترمذي: 3029).
الثاني: مفهوم المخالفة عند القائل به، كقوله صلى الله عليه وسلم:"مطل الغني ظلم"
(1)
، فإنه بمفهومه يدل على أن مطل غير الغني عموماً لا يكون ظلمًا.
والثالث: إذا وقع جوابًا لسؤال، كما لو سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن مَن أفطر، فقال:"عليه الكفارة"؛ فيُعلم أنه يَعُم كل مفطر.
وإنما لم أذكر هذا في النَّظم لأنه يمكن دخوله تحت الذي قبله، فإنه ينحل إلى أن الحكم بالكفارة لأجل الإفطار، فهو تعميم بالعلة، والله أعلم.
وقولي: (وَللْعُمُومِ ضَابِطٌ مَا خَالَفَهْ) تمامه قولي بعده:
ص:
593 -
مِعْيَار صِحَّةُ الِاسْتثنَاءِ
…
مِنَ الَّذِي فِيهِ احْتِمَالٌ جَائِي
594 -
لِأنَّهُ إخْرَاجُ مَا قَدْ وَجَبَا
…
دُخُولُهُ، فَلَا عُمُومَ نُصِبَا
595 -
في عَدَدٍ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلْ
…
وَلَا مُنكَّرٍ سِوَى مَا قَدْ قُبِلْ
596 -
وَلَوْ يَكُونُ في جُمُوعٍ رَاسِبًا
(2)
…
إذِ الدّخُولُ لَيْسَ فِيهِ وَاجِبَا
الشرح:
لما انتهى الكلام في صيغ العموم لغة وعرفًا وعقلاً، ذكرتُ ضابط العام الذي به يعرف عمومه، حتى لو ادُّعي في شيء عموم، عُرض على الضابط، فإن قَبِله، عرفنا عمومه.
وهو أنَّ: ضابط العموم ومعياره صحة الاستثناء منه، نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
(1)
سبق تخريجه.
(2)
جاء في "لسان العرب، 1/ 418 ": (جَبَل راسبٌ: ثابتٌ).
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2، 3]؛ ولذلك يستدل به من أثبت صيغ العموم ردًّا على من زعم أن وضعها للخصوص أو وقف كما سبق من المذاهب.
وقولي: (مِنَ الَّذِي فِيهِ احْتِمَالٌ جَائِي) قَيدٌ في الضابط، زِدته على البيضاوي وغيره ممن يطلق أن الاستثناء معيار العموم، حتى يخرج العدد إذا قلنا بصحة الاستثناء منه كما هو قول الجمهور (كما سيأتي)، فإنه قابل للاستثناء وليس بعام قطعًا.
فيقال: إلا أنه ليس محتملًا للعموم، ونحن إنما جعلنا الاستثناء معيارًا في لفظ يكون محتملاً، فيكون المراد يكون الاستثناء معيارًا أنَّ كل ما لم يَقبل الاستثناء منه لا يكون عامًّا، لا أن كل ما يَقبل الاستثناء منه عام.
ثم عَللتُ كون الاستثناء معيارًا بأن الاستثناء: إخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه، فإذا كان القابل للإخراج بالاستثناء واجب الدخول، فكل فرد يمكن إخراجه به واجب الدخول، وذلك حقيقة العموم.
وما اعتُرض به من كون وجوب الدخول يناقض خروجه بالاستثناء -فاسد؛ لأنا لم نَدَّعِ وجوب الاندراج إلَّا بتقدير أن لا يخرج بالاستثناء، فهو خارج منه وإن دخل لغةً. وسيأتي في التنبيهات فيه زيادة بيان وأن الحكم على المستثنى منه إنما هو بعد إخراج المستثنى، فلا تناقض.
وقولي: (فَلَا عُمُومَ نُصِبَا في عَدَدٍ) إلى آخره -هو مما نُفي فيه العموم، لعدم صِدق ضابط العام فيه؛ ولذلك عطفته بِـ "الفاء" المشعرة بالسببية والترتيب.
فأشرت إلى مسألتين، لتمهيد الضابط وتقريبه:
الأُولى: أن العدد ليس بعام، بل دلالته دلالة الكل على أجزائه، ولو كان عامًّا لكان من دلالة الكلي على جزئياته مستغرقًا لها، وهو وإن ساغ الاستثناء منه على الراجح لكنه -كما
تَقدم- ليس محتملًا للعموم حتى يكون الاستثناء منه دليل عمومه.
وإنما قلت: إنه يستثنى منه على الراجح؛ لأن الاستثناء من العدد فيه ثلاثة مذاهب:
الصحيح: الجواز مطلقًا؛ يخطيء ذلك في كلام العرب فيما لا ينحصر.
الثاني: المنع مطلقا؛ لأن أسماء الأعداد نصوص، والنصوص لا تقبل التخصيص. ونقل ذلك ابن عصفور عن البصريين، قال: إلا إذا كان العدد مما يستعمل للمبالغة، كالمائة والألْف. أي: ولأجل ذلك لا يكون في نحو قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] إبطالًا لقول المنع مطلقًا؛ لأن هذا خارج عن محل الخلاف.
والثالث: إن كان المستثنى عقدًا كالعشرة والعشرين، فلا يجوز، وإن لم يكن عقدًا كالواحد والاثنين إلى التسعة، جاز. أي: ومحله أيضًا فيما لا يكون للمبالغة، وإلا فقوله تعالى:{إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} المستثنى عقد، فكيف تمتنع؟
ونشأ من هذا الخلاف خلافٌ في فروع:
منها: لو قال: "أربعتكن طالق إلا فلانة"، وقع الطلاق على الكل عند القاضي حسين والمتولي؛ لعدم صحة الاستثناء؛ لأن الأربع ليست صيغة عموم، بل نصوص، فرَفْع البعض رفْع بعد نَص، فكان كقوله:"أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك".
وردَّ ذلك الرافعي بأن مقتضَى التعليل بذلك أن لا يصح الاستثناء من العدد في الإقرار، نحو:"له عليَّ عشرة إلا درهما".
قال: (ومعلوم أنه ليس كذلك)
(1)
.
(1)
العزيز شرح الوجيز (9/ 131).
ثم استشكل على القاضي قوله: (إنه لو قدم المستثنى على المستثنى منه كما لو قال: "إلا فلانة أربعتكن طوالق" أنه يقع على الثلاث دون المستثناة)، وما الفرق بين التقدم والتأخر في هذا؟
قيل: ولا إشكال؛ لأنه لَمَّا أخرج قبل الحكم، كان الحكم موجهًا للثلاث دون المستثناة.
قلتُ: وهو عجيب؛ فإن الرافعي إنما استشكل تعليل القاضي بأنه ليس عامًا حتى يخرج منه، بل نص، ومن هذه الحيثية لا فرق بين التقديم والتأخير.
المسألة الثانية:
الجمع المنكَّر -كـ "رجال" و"مسلمين" ونحوهما- ليس بعام، خلافًا للجبائي من المعتزلة كما نقله القاضي في "مختصر التقريب" والإمام الرازي والآمدي وأتباعهم، وربما حُكي عن المعتزلة كما عبَّر به ابن برهان، لكن الذي حكاه عبد الجبار إنما هو عن الجبائي، وحكى مقابِلَه عن أبي هاشم.
نعم، لا اختصاص للمعتزلة بذلك، فقد حكى الشيخ أبو حامد الخلاف وجهين لأصحابنا، وكذا الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" وسليم في "التقريب"، ونصر ابن حزم قول التعميم، ونُقل أيضًا عن جمهور الحنفية، واختاره البزدوي وابن الساعاتي.
وعلى كل حال فالأصح أنه "لا يعُم" كما قال الشيخ أبو حامد وسليم: إنه ظاهر المذهب، وعليه عامة أصحابنا. قال: لأن أهل اللغة يسمونه نكرة، ولو كان عامًّا، لم يكن نكرة.
أي: لمغايرة معنى النكرة لمعنى العموم كما سبق في تعريف "العام"، ولأنه يَصْدُق على أقَل الجمع وعلى ما زاد مرتبة بعد أخرى إلى ما لا يتناهى، وهذا الأخير هو مدلول "العام". وإذا كان مدلول النكرة أعم من هذا ومن الصُّوَر السابقة، فالأعم لا يدل على الأخص،
وعمومه في هذه [الصُّوَر]
(1)
إنما هو عموم بدل، لا شمول.
ومن هنا يُعلم فساد قول الجبائي: إنه مشترك بين هذه [الصور]
(2)
، فيحمل على الجميع؛ بناءً على أن المشترك يُحمَل على جميع معانيه. فإنه يقول بذلك كالشافعي.
لأنَا
(3)
نمنع كونه مِن قبيل المشترك، بل مِن الكُلي الذي تحته جزئيات يصدق على كل منها حقيقة، كـ "إنسان" على كل فرد فرد، فالمراتب في الجمع كالأفراد في "إنسان".
وأما استدلاله على عمومه بأنه يَقبل الاستثناء وهو دليل العموم فيُرَد بمنع ذلك؛ فإنَّ الأصح عند النحاة أنه لا يجوز الاستثناء من النكرة؛ لِمَا سبق أنه "إخراج ما لولاه لوجب دخوله"، وهذا لا يجب دخوله على تقدير عدم الاستثناء، نحو:"جاء رجال إلا زيدًا"؛ لجواز أن يكون "رجال" مراد المتكلم بها غير زيد، فلا يحتاج لإخراجه؛ لأنه لم يدخل.
وتَعلُّق مَن جوَّز الاستثناء منه بأن "عموم البدل موجود فيه، وذلك كاف في صحة الاستثناء" مردود بأنه لم يُقْطَع بدخوله حتى يخرج.
نعم، اختار ابن مالك أن الاستثناء من النكرة جائز بشرط الفائدة، نحو:"جاءني قوم صالحون إلا زيدًا"، وخَرَّج عليه الاستثناء من العدد نحو:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} .
وعلى تسليم أنه يجوز الاستثناء من الجمع المنكَّر فقد بيَّنا أنَّ المراد يكون "الاستثناء معيار العموم" أنَّ ما لا يُستثنَى منه لا يكون عامًّا، لا أن كل ما يصح الاستثناء منه يكون عامًّا؛ بدليل العدد.
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الصورة.
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الصورة.
(3)
هذا بيان سبب فساد قول الجبائي.
ولهذا كان قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]"إلَّا" فيه صفة للنكرة، لا استثناء منه؛ لِتَعذُّر الاستثناء فيه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ على القول الراجح.
تنبيهات
الأول: إذا قلنا بأنَّ الجمع المنكر ليس عامًّا، فعَلَى ماذا يحمل؟
فقيل: يُحمل على أقَل الجمع.
وقيل: يُحمل على مجموع الأفراد مِن دلالة الكل على الأجزاء، ويحكَى في المسألة خلاف آخَر لا تَحقُّق له، أضربنا عنه.
نعم، أقَل الجمع ما هو سنذكره في بحث "التخصيص" وأنَّ "جمع القِلة" أقَلُّه ثلاثة إلى عشرة، وأقَل "جَمْع الكثرة" أحد عشر فصاعدًا.
ولهذا قال الهندي في هذه المسألة: (الذي أظنه أنَّ الخلاف في عموم الجمع المنكَّر في غير جمع القِلة، وإلا فالخلاف فيه بعيد جدًّا؛ إذْ هو مخالف لِنَصِّهم أنه للعشرة فما دُونها، فالقول بعمومه بعيد)
(1)
.
لكن القاضي في "مختصر التقريب" لما نقل مذهب الجبائي نقله في الجمْعَين معًا، وهو قضية كلام البزدوي.
نعم، فرَّق بعض الحنفية، فقال في "جمع السلامة": يُحمل على المتيقن، وهو أقَل الجمع. وفي "جمع الكثرة": يُحمل على العموم.
(1)
نهاية الوصول (4/ 1332).
وهو أقرب من القول بالتعميم في النوعين؛ لِمَا قررنا في نهاية القِلة أنها إلى عشرة، وفي الكثرة إلى ما لا نهاية له.
الثاني:
من فروع هذه المسألة: لو أَقرَّ له بدراهم، قُبِل تفسيره بأقَل الجمع على الأرجح كما هو ظاهر كلام الأصحاب، وقد صرح الهروي في "الإشراف" بحكاية وجهين فيه مَبنيين على القاعدة، وأشار إليه أيضًا الماوردي في "الحاوي".
وغير الإقرار في ذلك مِثله، كَالعتق والنذر والوصية ونحو ذلك.
ففي الرافعي في فروع "الطلاق": (لو حلف لا يشتري العبيد أو لا يتزوج النساء، يحنث بثلاثة)
(1)
.
وفي "طبقات العبادي" أن أبا عبد الله البوشنجي نقل عن الشافعي -فيما لو قال: (إنْ في كفي دراهم هي أكثر من ثلاثة فعبدي حر) فكان في كله أربعة- أنه لا يعتِق عبده؛ لأن ما زاد في كفه على ثلاثة درهم واحد، لا دراهم.
وهذا حَمْل لقول المعلِّق: "أكثر" على معنى "زائد"؛ لأنه العُرف، فأما إذا قصد أن المجموع أكثر، فينبغي أن يعتِق. وبالجملة فلم يحمل "دراهم" على العموم.
وقد عُلم مما حكيناه من الخلاف أن رد ابن الحاجب وغيره على الجبائي بأنه لو قال: (له عندي عبيد) صحَّ تفسيره بأقَل الجمع، أي: اتفاقًا، لا يحسُن؛ لجواز أن يقول الجبائي بالوجه الآخر في المسألة.
وأيضًا فقد يقول: إنما حُمل على ذلك؛ لتعذُّر العمل على العموم؛ إذِ المقر له لا يستوعب
(1)
العزيز شرح الوجيز (12/ 347).
ملك العبيد.
لكن في هذا نظر؛ لأن مِثل هذا إنما يُحمل على ما يمكن منه.
الثالث: كل مما دلَّ على جمعية دلالة المجموع -كـ "ناس" و"خيل" ونحو ذلك- حُكمه حُكم الجمع، لا نحو "قوم" و"رهط"؛ لأن دلالته دلالة المجموع، لا الجميع، وسيأتي في مسألة "أقَل الجمع" في ذلك مزيد بيان.
الرابع: ضمير الجمع [لمخاطَبين]
(1)
يَعُمهم، كـ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وهل يَعُم غيرهم؟ أم لا؟
هي مسألة الخطاب الشفاهي، وستأتي.
ونقل صاحب "الكبريت الأحمر" -من المعتزلة- أن القاضي عبد الجبار نقل في الدرس عن الشيخ أبي عبد الله البصري أنه يُحمل على الاستغراق.
وجرى على ذلك في "المحصول"، فقال: إذا قال: "اكرموا زيدًا"، دل على الاستغراق حتى يتوجه الأمر إلي كل واحد بخصوصه.
وما قاله يقتضي أنه لو قال مثلًا لعبيده أو وكلائه: "أعطوا زيدًا مما في أيديكم عشرة"، يكون كل واحد مأمورًا بإعطاء عشرة.
وفيه نظر، وإنما ينبغي أنْ يُحمل على أنَّ كل واحد يعطي قَدْر ما يَخُصه مِن توزيع العشرة عليهم، حتى لو قال لنسوته:"إنْ أعطيتنني ألفًا فأنتن طوالق" يُوزع كذلك.
نعم، لو أعطت واحدة أكثر مما عليها وكان المعطَى هو القَدْر الذي قاله، وقع الطلاق كما في الذي قبله.
(1)
في (ص، ق): المخاطبين.
وقولي: (وَلَا مُنكرٍ سِوَى مَا قَدْ قُبِلْ) أي: سِوَى النكرة في سياق النفي وما أُلحق به كما سبق، فإن ذلك مقبول فيه ادِّعاء العموم.
وقولي: (وَلَوْ يَكُونُ في جُمُوعٍ) أي: ولو يكون التنكير في صِيَغ جموع، فإنه لا عموم فيه.
ثم أشرت إلى دليل نفي العموم وخروجه من ضابط الاستثناء بقولي: (إذِ الدُّخُولُ لَيْسَ فِيهِ وَاجِبَا)، وسبق تقريره، والله أعلم.
ص:
597 -
وَمنْهُ فِعْل مُثْبَت، نَحْوُ: "قَضَى
…
لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ" فِيمَا يُقْتَضَى
598 -
كَذَاكَ "كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ في
…
سفَرِهِ"، وَالْمُقْتَضَى فِيهِ نُفِي
الشرح:
هذا أيضًا مما لا عموم فيه؛ لأنه نكرة، وهو الفعل المثبت، فقد حكى الزجاجي إجماع النحاة على أن الأفعال نكرات؛ لأن كل فعل له فاعل يكون به جملة، والجُمَل نكرات؛ ولذلك لا [يضاف الفعل]
(1)
؛ لانتفاء فائدة الإضافة من الجمل، وإن أضيف إليها فلكونها حَلَّت محل مفرد.
وقد مثلتُ في النَّظم المسألة بنحو: ("قَضَى لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ")، ونحو:("كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ في سَفَرِهِ").
وأشرتُ بالمثالين إلى أنه لا فرق بين أن يكون الفعل مما ادُّعي أنه يدل على التكرر عُرفًا (نحو: "كان") أو لا، وأنه لا فرق بين أن يذكر له متعلق من صيغة العموم أو لا، وأنه لا
(1)
في (ت): يضاف للفعل. وفي (س): تضاف للفعل.
فرق بين أن يكون المعبر عنه لفظًا (كـ "أمر صلى الله عليه وسلم " و"نهى" و"قضى بكذا") أو فِعلًا غير لفظ (كـ "صلى" ونحوه).
وفي كل من ذلك خلاف وتفصيل نذكره.
فأما الفعل الذي لا يُشعِر بتكرر قطعًا فأصح الأقوال فيه وقول الجمهور أن الراوي إذا أخبر به، لا يكون عامًّا؛ لأنه إذا كان له جهات وأحوال، فلا يقع إلا على وجه واحد:
- فإنْ عُلم بدليل، تَعَيَّن الحملُ عليه.
- أو لم يُعْلم والأحوال فيه غير متضادة، فهو محمول على واحد منها مِن غير تعيين؛ للاحتمال. ولا عموم؛ للاستحالة.
- وإن [كانت]
(1)
متضادة، فهو مجُمل حتى يتبين الحال.
فمن ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم الباب، فلمَّا فتحوا كنتُ أول مَن ولج، فلقيتُ بلالاً، فسألته: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: ركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلَّى في وجه الكعبة ركعتين"
(2)
.
وهذا معنى تمثيل ابن الحاجب بقوله: (مِثل: "صلَّى داخل الكعبة"، فلا يَعُم الفرضَ والنفلَ)
(3)
.
وذلك لأن قول بلال: "ركعتين" تقديره: صلَّى ركعتين. وبعض الشراح لمَّا لم يكن في لفظ الحديث "صلى داخل الكعبة" جعله في كلام ابن الحاجب مثالًا.
(1)
في (ت): كانت فيه.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 388).
(3)
مختصر المنتهى (2/ 181) مع بيان المختصر.
وأما قول أصحابنا بالاكتفاء بالفعل الواحد للفرض والنفل في مسائل (كصلاة داخل المسجد الفرض، فإنه يحصل به التحية، وكالغسل في يوم الجمعة للجنابة وغسلها، وكذا في العيد، وكالفرض عند الإحرام بحج أو عمرة يُغني عن ركعتي الإحرام، وما أشبه ذلك) فليس من عموم الفعل الفرض والنفل، بل لسقوط السُّنة به، لحصول المقصود، كما يسقط فرض الكفاية عن مَن لم يفعل بفعل غيره إذا عَلِمه، أو أنه يحصل له الثواب على النفل، لكن هذا إذا نواهما، فإنْ نوى الفرض فقط ففي حصول السُّنة كلام في ذلك مذكور في الفقه في مواضعه.
ومثل ذلك أيضًا حديث عمران بن حصين في "أبي داود" و"الترمذي" و"النسائي" أنه صلى الله عليه وسلم: "صلى بهم، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم"
(1)
. قال الترمذي: حسن غريب. والحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
وكذا الحديث المشار إليه في النَّظم وهو: "قضى بالشفعة للجار"
(2)
محمول -إنْ صحَّ-
(1)
سنن أبي داود (رقم: 1039)، سنن الترمذي (رقم: 395)، وغيرهما، وفي سنن النسائي (1236) بلفظ:(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ، فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ). قال الألباني: ضعيف شاذ. (إرواء الغليل: 403).
(2)
قال الإِمام البخاري في (التاريخ الكبير، 1/ 111): (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: "قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ في الدَّارِ وَالأَرْضِ"). وفي مصنف ابن أبي شيبة (22716) بلفظ: (قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ لِلْجِوَارِ)، وفيه أيضًا (22717) بلفظ:(قَفَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ بِالجوَار). وفي صحيح البخاري (رقم: 2138) بلفظ: (قَضَى النبي صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ في كل مَالٍ لم يُقْسَمْ)، صحيح مسلم (رقم: 1608) بلفظ: (قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ في كل شِرْكَةٍ لم تُقْسَمْ ربْعَةٍ أو حَائِطٍ، لَا محلُّ له أَنْ يَبِيعَ حتى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ). وفي سنن النسائي (4705) بلفظ: (قَضى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ والجوَار). وقال الألباني: صحيح بما قبله. (صحيح النسائي: 4719).
على أنه قضى به لجار في حالة يكون فيها الشفعة، أو أن الشريك يسمى "جارًا" كما قاله الشافعي رضي الله عنه في "المختصر" في استدلال الخصم بحديث:"الجار أحق بسقبه"
(1)
، أو قال:"بشفعته"
(2)
كما رواه في "الأم" عن سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبي رافع.
واستشهد في "الأم" و"المختصر" في تسميته "جارًا" يقول الأعشى: (أَجَارَتنا بِيني، فإنك طالِقة). فسمَّى الزوجة "جارًا"؛ فكذا الشريك.
وإنما قلتُ: (إنْ صحَّ)؛ لأن بعض الحفاظ قال: لم يَرِد بهذا اللفظ.
قال ابن السبكي في "شرح المختصر": (إنه لفظ لا يُعرف). قال: (ويقرب منه ما رواه النسائي عن الحسن مرسلًا: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالجوار")
(3)
. انتهى
وقال غيره: إن النسائي قد روى أيضًا من حديث أبي الزبير عن جابر: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بالجوار"
(4)
.
وأخرجه البيهقي من حديث سمرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالجوار، وقال: جار الدار أحق
(1)
الأم (7/ 110)، صحيح البخاري (رقم: 2139).
(2)
مصنف عبد الرزاق (14396)، مصنف ابن أبي شيبة (22719). وفي سنن الترمذي (1369) بلفظ:(الجار أحق بالشفعة). وفي سنن أبي داود (3518) بلفظ: (الجار أحق بشفعة جاره).
وقال الألباني في (إرواء الغليل: 1540): (حديث جابر: "الجار أحق بشفعة جاره .. "صحيح).
(3)
رفع الحاجب (3/ 172).
(4)
سنن النسائي (رقم: 4705) بلفظ: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة والجوار). وقال الألباني: صحيح بما قبله. (صحيح النسائي: 4719).
بالدار"
(1)
.
نعم، روى هذا الأخير أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وممن قال: (إن الفعل المثبت لا يَعُم) القاضي أبو بكر، والقفال الشاشي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد، والشيخ أبو إسحاق، وسليم، وابن السمعاني، وإمام الحرمين، وابن القشيري، والإمام الرازي، ونقله الآمدي عن الأكثرين.
ولم يفصلوا بين عمومه في أحواله وبين أن يذكر له متعلق بصيغة عموم؛ نظرًا إلى أن صيغة (فَعَلَ) تقتضي تَقدم معهود خاص، فيكون مُقَدمًا على العموم.
فنحو: "نهى عن بيع الغرر"
(2)
، لا يَعُم كل غَرر.
وكذا نحو: "أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب"
(3)
. رواه مسلم عن ابن مغفل.
"نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وعن الثنيا"
(4)
.
وكذا حديث: "قضى بالشفعة للجار" كما سبق.
قال الغزالي: (وكما لا عموم للفعل بالنسبة إلى أحواله، لا عموم له بالنسبة إلى
(1)
سنن البيهقي الكبرى (رقم: 11361) بلفظ: (عن سمرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالجوار"، وعن سمرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جار الدار أحق بالدار"). والجزء الثاني في سنن الترمذي (رقم: 1368).
وقال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1368).
(2)
مسند أحمد (8871)، سنن أبي داود (رقم: 3376) وغيرهما. وقال الألباني في (إرواء الغليل: 1294): صحيح. وهو في صحيح مسلم (1513) بلفظ: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر).
(3)
صحيح مسلم (280)، ورواه البخاري (3145) عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا.
(4)
صحيح مسلم (رقم: 1536).
الأشخاص إلا أن يدل دليل من خارج، نحو:"صلوا كما رأيتموني أصلي"
(1)
.
والقول الثاني: التفصيل بين الأحوال فلا عموم له فيها، وبين ما يذكر بصيغة عموم فيعمها؛ نظرًا إلى صِيَغ العموم المتعلقة بالفعل.
واختار هذا ابن الحاجب بعد أن قال: (إن الفعل المثبَت لا عموم له). وجعل هذا مسألة أخرى بعد أن فرغ من مسألة الفعل المثبت.
وقد سبقه إلى هذا شيخه الأبياري حيث أورده سؤالًا في "شرح البرهان" والآمدي بحثًا، فأقامه ابن الحاجب مذهبًا وارتضاه، وتبعه ابن الساعاتي في "البديع".
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": (اختار بعض الفضلاء -وكأنه يريد ابن الحاجب- عموم نحو: "قضى بالشفعة للجار"؛ بناء على عدالة الصحابي ومعرفته باللغة ومواقع اللفظ، مع جواز أن تكون الرواية على وَفْق السماع مِن غير زيادة ولا نقصان).
قال: (ومنهم مَن قال: لا يَعُم؛ لأن الحجة في المحكي، ولا عموم في المحكى).
ثم قال: (وهذا لا بُدَّ فيه من تفصيل: إنْ كان المحكي فِعلًا لو شوهد لم يَجُز حملُه على العموم، فلذلك وجه. وإنْ كان فِعلًا لو حُكي لكان دالًّا على العموم، فعبارة الصحابي عنه يجب أن تكون مطابقة [للمقول]
(2)
؛ لِمَا تَقدم مِن معرفته وعدالته ووجوب مطابقة الرواية للمعنى المسموع). انتهى
وما قاله قد ذكر القاضي في "التقريب" قريبًا منه، إذ قال: (إن الصحابي العالم باللسان إذا قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم " عبَّر عن إثبات معنى وحُكم ليس له في اللسان ألفاظ محتملة،
(1)
صحيح البخاري (5662) وغيره.
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): للقول.
[قُبِل]
(1)
ذلك بمثابة روايته اللفظ. وإنْ ذكر معنًى وهو مما له عبارة محتملة، وجب مطالبته بحكاية اللفظ). انتهى
ونحو ذلك قول ابن القشيري: إذا تحققنا في "قضَى بكذا" أنَّ القضاء فِعل فليس بعام. وإنْ كان لفظًا فإنِ اختص بمعيَّن في خصومه، تَعَيَّن، إلا أن يقوم دليل على العموم.
أي: كما أشار إليه الغزالي كما سبق.
قال ابن القشيري: فإنْ كان لفظًا عامًّا في وضع اللغة، تمسكنا بعمومه. أي: كما لو قال الشارع: "قضيت بالشفعة للجار" أو: "لا تقتلوا الكلاب" أو: "لا تبتاعوا بالملامسة"(وهو قول الشيخ تقي الدين) لو حُكي لكان دالًّا على العموم.
ومن ثَّم قال القرافي: (إن المسألة مبنية على جواز الرواية بالمعنى، فإنْ منعنا، امتنعت المسألة؛ لأنَّ "قضى" ليس هو لفظ الشارع، وإنْ جوَّزنا -وهو الصحيح- فشرطه المساواة، فيجب حينئذٍ فيما فيه صيغة عموم -كـ "الغرر"- أن يكون عامًّا، وإلا فتقدح في عدالته حيث روى بصيغة العموم ما ليس بعام، وحينئذٍ فلا يتجه قولنا: "الحجة في المحكي، لا في الحكاية"، بل الحجة في الحكاية؛ لأجل قاعدة الرواية بالمعنى)
(2)
.
قلتُ: وربما عبر بعضهم عن هذا التفصيل بأن لفظ "قضى" عام، بخلاف لفظ "أمر" و"نهى" ونحوهما.
وفيه نظر؛ لأن كلاًّ مِن الأمرين محتمل أن يكون المعبر عنه كان بصيغة عموم أو كان خاصًّا.
وفي المسألة مذهب آخر بالتفصيل في "قضى" بين أن تتصل به "الباء" نحو: "قضى
(1)
كذا في (ت، س)، لكن في (ش، ض): قيل.
(2)
شرح تنقيح الفصول (ص 189)، نفائس الأصول (2/ 544).
بالشفعة" فلا يعم، أو لا، نحو: "قضى أن الخراج بالضمان" فيعم؛ لأن الظاهر من ذلك حكايته لفظه عليه السلام. حكاه القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" والقاضي عبد الوهاب وصححه، وحكاه عن أبي بكر القفال من أصحابنا، لكن المحرر عن القفال ما سبق.
على أنَّ مِثل هذا "الباء" فيه مُقدَّرة، فلا فرق بين وجودها لفظًا أو تقديرًا.
ومذهب آخر بالتفصيل بين لفظ "أمر" و"نهى" وبين سائر الأفعال، فالأول للعموم، والثاني محتمل. واختاره القرطبي، قال: لأنَّ الأمر والنهي لا بُدَّ فيهما من دالٍّ مِن الشارع عليهما، فلمَّا لم يذكر الصحابي لا مأمورًا ولا منهيًّا، عُلم أن المخاطَب بذلك كل المكلفين كسائر خطابات التكليف.
ولا يخفَى ضَعْف ذلك مما سبق من توجيه الأقوال.
تنبيهان
الأول: وقع في كلام الشافعي ما يقتضي العموم وما يقتضي عدمه، فيكون له قولان. فقال في "الأم" مجيبًا عن قوله على:"لعن الله المحلل والمحلل له"
(1)
ما نصه:
(ونكاح المحلل الذي رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه عندنا -والله أعلم- ضرب من نكاح المتعة؛ لأنه غير مُطلَق)
(2)
. انتهى. أي: غير عام.
(1)
سنن أبي داود (رقم: 2076)، سنن ابن ماجه (1936)، وغيرهما. قال الألباني:(صحيح. "صحيح أبي داود: 2076).
(2)
الأم (5/ 79).
وقال في تأجيل الدية على العاقلة [ثلاث]
(1)
سنين كما نقله عنه الإِمام في "النهاية" أنه
قال في بعض مجاري كلامه: (لم ينقل النقلة واقعة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب العقل فيها على العاقلة إلا المرأتين، فأمكن من ذلك أن يضرب عقل المرأة على العاقلة في ثلاث سنين. ثم إذا قلت ذلك، اطرد فيه أن بدل كل نفس مضروب في ثلاث سنين)
(2)
.
أي: سواء كان الواجب الدية كاملة (كالرجل) أو نصفها (كالمرأة).
قال الإِمام: (ويمكن أن يقال: قول الراوي "قضى" تأسيسُ شرع منه، وليس تمهيدًا في قضية)
(3)
إلى آخِره.
قلت: ومثل ذلك استدلاله بحديث: "قضى صلى الله عليه وسلم بأن الخراج بالضمان"
(4)
، واستدلاله بقوله:"نهى عن بيع اللحم بالحيوان"
(5)
، فاستدلاله رضي الله عنه وأصحابه بمثل ذلك مما لا ينحصر- دليل على قولهم بالعموم، لكن عمومه ليس بالصيغة، بل لورود ما يدل على العموم غير ذلك من لفظ الشارع، أو من حيث عموم شرعه، أو بالقياس.
وفي "المستصفى" في "باب السُّنة": (إن قول الصحابي: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا" أو: "نهى عن كذا" قيل: إنه أمر لجميع الأُمة. والصحيح أن من يقول بصيغ العموم ينبغي أن يتوقف في هذا، ويحتمل أن يكون ما سمعه أمرًا للأُمة أو أطلقه أو لشخص بعينه؛ فيوقف
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): في ثلاث.
(2)
نهاية المطلب (16/ 528).
(3)
نهاية المطلب (16/ 528).
(4)
سنن الترمذي (رقم: 1285)، سنن النسائي (4490)، وغيرهما. قال الألباني: حسن. "صحيح سنن الترمذي: 1285).
(5)
سبق تخريجه.
فيه إلى الدليل، لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمره للجماعة)
(1)
.
الثاني:
جعل بعض المتأخرين الخلاف في المسألة لفظيًّا من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغ المذكورة، والمثبِت له إنما هو بدليل من خارج، وهو إجماع السلف على التمسك بها، وهو قريب مما سبق عن الغزالي.
لكن في جعله لفظيًّا نظر؛ فإنه إذا وَرَدَ مثل هذه الصيغ ولم يَقُم دليل، فالقائل بالعموم يُعمم من غير تَوقُّف على مجيء دليل عليه.
اما القسم الثاني:
وهو الفعل الذي قد تلمح إفادته التكرار (نحو: "كان يفعل كذا") ففي عمومه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق، أصحهما: لا عموم فيه؛ لأنه فِعل مُثْبَت. وحكى الوجهين أيضًا ابن برهان.
وذلك كحديث أنس في "البخاري": "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في السفر"
(2)
. فمقتضاه وقوع الجمع لكن -على المرجَّح- مَرة، إما تقديمًا وإما تأخيرًا، لا أنه كان يجمع بينهما في السفر دائمًا.
وذهب ابن برهان إلى قولٍ بالتفصيل:
- بين ما شأنه أن يشيع، فَيعُم، نحو قول عائشة: "كانت الأيدي لا تُقطع في زمن النبي
(1)
المستصفى (ص 105).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 1059)
- صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه"
(1)
- وبين ما شأنه الكتمان، كَـ "الوطء" ونحوه، فلا يَعُم، يقول زيد بن ثابت:"كانت عمومتي يفعلونه ولا يغتسلون"
(2)
.
قيل: ومنشأ الخلاف أنَّ "كان" هل تقتضي التكرار؟ أو لا؟
فقيل: تقتضيه لُغةً. وبه جزم القاضي أبو بكر، فقال: إن قول الراوي: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا" يفيد في عُرف اللغة تكثير الفعل وتكريره، قال تعالى:{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55] أي: يداوم على ذلك.
وكذا قال القاضي أبو الطيب، وجرى عليه ابن الحاجب، إلا أنه قال ما معناه: إنه لا يَلزم مِن التكرار العموم. وهو ظاهر.
وقيل: تقتضي التكرار عُرفًا لا لغةً. ونقله صاحب "المعتمد" عن عبد الجبار، وقال الهندي: إنه الأظهر.
ويمكن حمل كلام ابن الحاجب أيضًا على هذا.
والثالث: لا يفيده لا لغةً ولا عرفًا. واختاره في "المحصول".
وقال النووي في "شرح مسلم": (إنه المختار الذي عليه أكثر المحققين من الأصوليين، فهي تفيد مرة. فإنْ دل دليل على التكرار من خارج، عُمل به، وإلا فلا)
(3)
.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (28114) بلفظ: "لَمْ يَكُنْ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الشَّيْءِ التَّافِه". قال الإِمام الدارقطني في كتابه "العلل"، 14/ 202):(حديث عائشة صحيح، ويشبه أن يكون هشام وصله مرة وأرسله مرة).
(2)
مسند أحمد (21134) بنحوه.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 21).
والتحقيق ما قاله ابن دقيق العيد: إنها تدل على التكرر كثيرًا
(1)
، كما يقال:"كان فلان يقري الضيف"، ومنه:"كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس"
(2)
الحديث، ولمجرد الفعل قليلاً مِن غير تكرر
(3)
، نحو:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف بعرفات عند الصخرات"
(4)
، وقول عائشة:"كنت أُطَيِّب النبي صلى الله عليه وسلم لِحِلِّه وحرمه"
(5)
. ولم يقع وقوفه بعرفة وإحرامه وعائشة معه إلا مرة.
ومنه: ما في "سنن أبي داود" بسند صحيح عن عروة عن عائشة وهي تذكر شأن خيبر:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص النخل"
(6)
. فهذا لا يمكن فيه التكرار؛ لأن خيبر كانت سنة سبع، وعبد الله بن رواحة قُتل في غزوة مؤتة سنة ثمان.
واعلم: أن هذا الخلاف غير خلاف النحاة في أن "كان" هل تدل على الانقطاع؟ أو لا؟
اختيار ابن مالك الثاني، ورجح أبو حيان الأول.
وإنما قلنا: (إنه غيره)؛ لأنه لا يلزم من التكرار عدمُ الانقطاع، فقد يتكرر الشيء ثم ينقطع.
(1)
يعني: تأتي كثيرًا دالة على التكرار.
(2)
صحيح البخاري (رقم: 1803)، صحيح مسلم (رقم: 2308).
(3)
يعني: تأتي قليلاً لمجرد الفعل من غير تكرُّر.
(4)
صحيح مسلم (1218) بلفظ: ( .. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى الى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاء إِلَى الصَّخَرَات
…
) الحديث.
(5)
مسند أحمد (25564)، سنن النسائي (رقم: 2691)، صحيح ابن حبان (3772). قال الألباني: صحيح الإسناد. "صحيح النسائي: 2690).
(6)
مسند أحمد (25344)، سنن أبي داود (رقم: 1606) وغيره. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أبي داود: 1606).
نعم، يلزم بالضرورة من عدم الانقطاعِ التكررُ، لكن لا قائل به.
قولي: (وَالْمُقْتَضَى فِيهِ نُفِي)[هي]
(1)
مسألة مستأنفة بعد تمام المسائل التي لا عموم فيها؛ لكونها نكرة في الإثبات، وهي أن المقتضَى هل هو عام؟ أو لا؟
والمرجَّح المنع، وهو معنى قولي:(نُفِي)، أي: العموم. فالضمير فيه عائد إلى العموم الذي الباب معقود له، أي: نفاه الأكثرون كما سيأتي.
وقد سبق في تقسيم الكلام إلى منطوق ومفهوم وتقسيم "دلالة المنطوق" أنها إذا توقفت في الصدق أو الصحة على محذوف، تسمَّى "دلالة الاقتضاء".
ف "المقتضِي "(بالكَسر) هو الكلام المحتاج للإضمار. و"المقتضَى"(بالفتح) هو ذلك المحذوف. ويعبر عنه أيضًا بِـ "المُضْمَر" وإن لم يكن اصطلاح النحاة.
فالمختلف في عمومه على أظهر الاحتمالين هذا المقتضَى بالفتح؛ بدليل استدلال مَن نفى عمومه يكون العموم من عوارض الألفاظ، فلا يجوز دعواه في المعاني كما ذكره ابن السمعاني وغيره.
ويحتمل أن محل الخلاف في "المقتضِي"(بالكسر) وهو المنطوق به المحتاج في دلالته للإضمار كما صَوَّر به من الحنفية شمس الأئمة والدبوسي وصاحب "اللباب"، لكن جَعْلهم مدار الخلاف على أن ذلك المحذوف "هل هو كالمنطوق حتى يقال بعمومه؟ أو معدوم حقيقةً حتى لا يُدَّعَى فيه العموم؟ " يقتضي خلاف ذلك.
إلا أنْ يقال: مرادهم عموم المنطوق المحتاج للإضمار باعتبار الإضمار أوْ لا، لا عموم المنطوق لذاته، فبهذا ينجمع الطريقان في محل الخلاف.
(1)
كذا في (ق، س)، لكن في (ص): هذه.
وبالجملة فحاصل المسألة أن المحتاج إلى تقدير -في نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] و [غيرها]
(1)
من الأمثلة الآتي ذِكرها- إنْ دَلَّ دليل على تقدير شيء من المحتملات بِعَيْنه، فذاك، سواء أكان المقدَّر عامًّا في أمور كثيرة أو خاصًّا بِفَرد. وإنْ لم يدل دليل على تعيين شيء -لا عام ولا خاص- مع احتمال أمور متعددة لم يرجح بعضها، فهل تُقَدَّر المحتملات كلها وهو المراد بالعموم في هذه المسألة؟ أوْ لا؟
فيه مذاهب، وأجرى القرافي الخلاف وإنْ تَعيَّن البعض بدليل، قال:(كما يقول الشافعي بالجمع بين الحقيقة والمجاز وإنْ كانت الحقيقة متعينة).
وما قاله بعيد، والظاهر أن الأقوال حيث لا دليل كما قرره ابن الحاجب وغيره.
أحدها: نعم، نقله الأصفهاني في "شرح المحصول "عن "شرح اللمع" للشيخ أبي إسحاق، وبه قال جمعٌ من الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر الشافعية والمالكية، وصححه النووي في "الروضة" في "كتاب الطلاق" حيث قال: المختار لا يقع طلاق الناسي؛ لأن دلالة الاقتضاء عامة.
يعني من قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"
(2)
الحديث. إلا أن يُحمل كلامه على أن الذي يُقدَّر يكون عامًا، لا أن المراد التعميم بتقدير المحتملات كلها.
وكذا يحمل على ذلك قول مَن قال: إن قاعدة الشافعي تقتضي التعميم؛ بدليل أنَّ كلام الناسي عنده لا يُبطل الصلاة، وعند أبي حنيفة يبطلها.
وكذا يحمل كلام مَن نقل من الحنفية (وهُم من سبق ذِكره آنفًا) عن الشافعي أنه يقول بالعموم؛ تنزيلًا للمقدِّر منزلة المنصوص، بخلاف قول أبي حنيفة، فإن عنده أن ذلك معدوم
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): نحوها.
(2)
سبق تخريجه.
حقيقةً، فلا يوصف بالعموم.
نعم، سيأتي حكايته نَص للشافعي مُصرِّح بتقدير المحتملات.
فإن قيل: إذا كان بعض المحتملات عامًّا وبعضها خاصًّا ولم يدل على التعيين شيء، فهل يترجح العام؛ لِكثرة فائدته؟ أو لا؟
قيل: اختيار القرافي تقدير الأعم.
قلتُ: وقرره الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام"، وقال:(إنه وجه يمكن أن يحصل به مقصود مَن أراد التعميم، مِثل أن يُقَدر في مِثل: "رُفع عن أمتي الخطأ" حُكمَ الخطأ). انتهى
ومثله تقدير الإِمام الرازي في: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} التصرف في الميتة؛ ليعم الأكل والبيع والملابسة وغير ذلك.
الثاني: أن المقتضَى لا عموم له باعتبار تقدير المحتملات كلها، وهو المشهور عن الحنفية وعن جمهور الشافعية.
قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": وهو المختار عند الأصوليين؛ لأن ضرورة [الإخبار]
(1)
تندفع بالبعض، فلا حاجة للزائد عليه.
قيل: فيؤدي للإجمال.
وعُورِض بأن إضمار الكل يَلزم منه تكثير مخالفة الدليل، أو أن العموم من عوارض اللفظ، والمقتضَى معنى، لا لفظ، أو غير ذلك.
ثم اختلف القائلون بعدم التعميم على أقوال:
أحدها: أنه مجُمَل؛ فيُتوقَّف فيه حتى يبيَّن المراد بدليل أو يترجح بكونه أقرب إلى
(1)
في (س): الاضمار.
الحقيقة أو بغير ذلك. وهو ما اختاره الشيخ أبو إسحاق والغزالي وابن السمعاني والإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم. فإنْ رجح بعضها [بمُرجح]
(1)
، فلا إجمال، فإن المقدَّر حينئذٍ كالملفوظ، فإن كان عامًّا فعام من هذه الحيثية، أو خاضًا فيتعين.
ثانيها: أنه ليس بمجمَل، بل يُحمل على اللائق بالمقصود. حكاه ابن برهان.
وفيه نظر؛ فإنه إذا كان لائقًا دون غيره، فقدْ تَرجَّح، والصورة
(2)
حيث لم يترجح منها شيء.
ثالثها: يرجع في التعيين للمجتهد.
وهو فاسد؛ لأن المجتهد لا يقول إلا بدليل، والفرض خلافه.
رابعها: يضمر الموضع المختلف فيه؛ لأن المجمَع عليه مستغنٍ عن الدليل. حكاه الشيخ أبو إسحاق.
وفيه نظر أيضًا؛ فإنَّ المخالِف -في ذلك المختلَف فيه- يقول في تقدير خصمه مِن غير دليل: إنه تَحَكُّم.
خامسها: يُقدر ما يقتضيه عُرف الاستعمال قبل الشرع. ونُقل عن الآمدي.
وفيه النظر السابق، وهو أن الكلام في ما لم يترجح فيه شيء لا بِعُرْفٍ ولا بِغيره.
الثالث من المذاهب: التوقف في رجحان شيء من القولين. وهو ظاهر كلام الآمدي آخِرًا؛ لتعارض المحذور مِن كثرة الإضمار ومن الإجمال.
نعم، اختار في "باب المجمل" أن كثرة الإضمار أرجح؛ لثلاثة أَوجُه: كون الإضمار في
(1)
كذا في (س، ق)، لكن في (ص): مرجح.
(2)
يعني: صورة المسألة.
اللغة أكثر من الإجمال، والإجماع على وجود الإضمار، والخلاف في جواز الإجمال، ودلالة حديث:"لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم الشحوم، فجملوها، وباعوها، وأكلوا أثمانها"ـ
(1)
على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم في التحريم.
وأما ابن الحاجب فخالف هناك اختيار الكرخي في مِثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أن ذلك مجمل مع التزامه هنا أن الإجمال أقرب من مخالفة الأصل.
واعلم أن الشافعأنه نَصان يوافق كل منهما قولًا من القولين الأولين:
أحدهما: نَصه في "الأم"
(2)
في "كتاب الحج" لما ذكر الدماء الواجبة [للترفه]
(3)
-وهو دم التقليم وترجيل الشعر والطيب واللباس والتغطية- جعل جميع ذلك مقدَّرًا في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196].
قال الماوردي: (التقدير عند الشافعي: "فمن كان منكم مريضًا فتطيَّب أو لبسَ أو أَخذَ من ظفره")
(4)
إلى آخره.
الثاني: قوله في "الإملاء": إنَّ هذا ليس مضمرًا في الآية، وإنما يضمر حلق الرأس فقط، والباقي مقيس عليه.
قلت: ويمكن الجمع بين النصين -مع التزام أن الشافعي لا يُقدِّر الجميع- بأن يقال: إنَّ نَص "الأم" إنما دل على أن الحكم في الكل كذلك، لكن لا من حيث وجوب تقدير
(1)
مسند البزار (1/ 295)، مصنف ابن أبي شيبة (21615) وغيرهما. وبنحوه في: صحيح البخاري (رقم: 3273، 4357)، صحيح مسلم (رقم: 1582).
(2)
الأم (2/ 188).
(3)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): للمترفه.
(4)
الحاوي الكبير (4/ 227).
الاحتمالات كلها عمومًا، بل لأن الدليل قام على تقدير هذه الأمور بأعيانها حتى لا يجري في غيرها من الاحتمالات.
ونحن قد بيَّنا أن الدليل إذا قام على تقدير شيء، وجب تقديره واحدًا أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وسواء أكان ذلك الدليل قياسًا أو غيره؛ فلهذا قال في نص "الإملاء": وإنه يُضْمَر الحلق. أي: لقرينة سبب النزول في الآية، فإن كعب بن عجرة قال:"فِيَّ نزلت، حُملت إلى رسول الله والقمل يتناثر على وجهي"
(1)
الحديث، وغير الحلق بالقياس عليه.
تنبيهات
الأول: نشأ من هذا الخلاف اختلاف في المقدر فيما لا ينحصر في الكتاب والسنة.
من ذلك قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي: وقت الحج. ثم قيل: التقدير: وقت الإحرام. وقيل: وقت الأعمال.
ومنه: هو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} سبق تقدير الإِمام في "تفسيره": التصرف؛ ليعم. وهو خلاف ما قدَّره في "المحصول" مِن "أَكْل".
قيل: وهو أجود؛ لأن الأكل إذا حرم على الإطلاق لا للحرمة ولا للاستقذار ولا للضرر، يكون نجسًا، فينشأ عنه امتناع بيعه والصلاة فيه ونحو ذلك من الأحكام، إلا ما يستثنى من دبغ الجلد والاستصباح بالدهن؛ لدليل قام على ذلك، ولهذا قال عليه السلام:"إنما حر من الميتة أكلها"
(2)
. وعليه أيضًا حديث: "لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم شحوم
(1)
صحيح البخاري (رقم: 1721)، صحيح مسلم (رقم: 1201).
(2)
تهذيب الآثار للطبري (2/ 803)، سنن الدارقطني (1/ 42)، وغيرهما. وهو في صحيح البخاري (1421) وصحيح مسلم (363) بلفظ:(إنما حُرم أكلُها).
الميتة، فجملوها، فباعوها"
(1)
؛ لأنه إذا حرمت، لزم منع بيعها وغيره كما قررناه.
ومنه حديث: "إنما الأعمال بالنية"
(2)
، هل يُقَدَّر:"إنما صِحَّة"؛ لأن نفي الصحة أقرب إلى الحقيقة وهي نفي الذات؟ أو يُقدر نفيُ الكمال؟ أو يُقدر ما هو أعم نحو: "إنما يُعتَبر" أعم من الاعتبار للصحة أو للكمال؟ أو غير ذلك؟
وقد بسطناه في "شرح العمدة"، ونزيد هنا ما قال إمام الحرمين: إنه لا ينبغي للخصم -على بُعد مذهبه- أن يُقَدر الكل إلا إذا لم يُنافِ بعضُها بعضًا، فمن قَدَّر الكل عند المنافاة فقد أساء وأسرف وركب شططًا. وهذا مِثل:"لا صيام"، فإن تقدير الكمال ينافي تقدير الصحة؛ إذْ نفي الكمال يُفْهِم إثبات الصحة، فلا يصح تقديره مع نفي الصحة
(3)
.
ووافق إمامَ الحرمين على هذا ابنُ السمعاني.
قيل: وفيما قالاه نظر، فإنَّ نفي الكمال لا يقتضي إثبات الصحة، فإن نفي الأخص قد يكون لانتفاء الأعم، ولانتفاء الأخص مع ثبوت الأعم، كما في قوله تعالى:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] أي: لا عمد [فيها]
(4)
فترونها. ونحوه قول الشاعر: علَى لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمناره. أي: لا منار له فيُهتدَى به.
نعم، تَوجُّه النفي للأخص وإنْ ثبت الأعم أرجح مِن حيث إنه لولا ثبوت الأعم لَمَا كان لتسليط النفي على الأخص معنى ولا فائدة.
ولهذا قال أبو حيان في "تفسيره" عند قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9]: إن
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
البرهان (2/ 659).
(4)
كذا في (ص، ق)، لكن في (ت، س، ض): لها.
الأكثر في كلام العرب فيما إذا نُفِي المقيد بقيد أنه نَفْي للقيد فقط وإثبات للمقيد، وأنَّ نفيهما معًا خلافُ قول الأكثر في كلامهم
(1)
.
فوضح بذلك قول الإِمام والسمعاني.
ومنه حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(2)
. كذا رواه بهذا اللفظ أبو القاسم التيمي الحافظ في "مسنده" عن ابن عباس مرفوعًا، والبيهقي في "خلافياته" عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه ابن ماجه والضياء المقدسي، كلاهما عن ابن مصفى بلفظ:"إن الله وضع عن أمتي"
(3)
.
نعم، أنكره أحمد، وقال محمَّد بن نصر المروزي: ليس له إسناد محتج به.
وقال البيهقي عن الحاكم: إنه تفرد به الوليد بن مسلم عن مالك، وهو صحيح غريب.
وعلى كل حال فيقدر فيه كما تَقدم: "رُفع حُكم"، وهو أحسن من تقدير:"إثم" أو نحوه إنْ قُلنا: الأعم أرجح.
ومن هذا الباب: "لا هجرة بعد الفتح"
(4)
. أي: لا وجوب هجرة؛ لأن الهجرة جائزة،
(1)
تفسير البحر المحيط (1/ 184).
(2)
سُنن ابن ماجه (2045) وغيْره بلفظ: (وضع عن أمتي .. )، صحيح ابن حبان (7219) وغيْره بلفظ: (تجاوز عن أمتي
…
). وقال الشيخ الألباني في (إرواء الغليل، رقم: 265): "صحيح بمعناه). وذكر بعض طُرُقه وألفاظه في (إرواء الغليل، رقم: 82) وقال: (المشهور في كُتُب الفقه والأصول بلفظ: "رفع عن أمتي
…
"، ولكنه منكر). وانظر المقاصد الحسنة للإمام السخاوي (ص 369).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
صحيح البخاري (رقم: 2631)، صحيح مسلم (رقم: 1862).
و"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"
(1)
، "لا عدوى ولا طيرة"
(2)
، "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"
(3)
، "لا إيمان لمن لا أمانَ له، ولا عهد لمن لا دِين له"
(4)
، "لا نكاح إلا بولي"
(5)
، "لا أُحِل المسجد لِجُنُب ولا لحائض"
(6)
.
وهو باب واسع، مقرر كل لفظة منه في موضعها، ولكنه إنما يتأتى على أن اللفظ الشرعي يُطلق على الصحيح والفاسد. أما إذا قُلنا:(يختص بالصحيح) وهو الحقُّ، فنفْي ذلك لا يحتاج لتقدير أصلًا؛ لأن الحقيقة غير متعذرة حتى يُعدَل إلى المجاز؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:"ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ"
(7)
.
الثاني:
قد تَقرر أنَا إذا قُلن النهي عموم المقتضَى وأنهْ يقدر بعض المحتملات ولو كان عامًّا إذا دل عليه دليل. لكن الحنفية عَدوا منع العموم فيه إلى صورة تقدير العام، وبنوا عليه مسائل، فقالوا: إذا قال: "أنت طالق" ونوى الثلاث، لا يصح.
(1)
مصنف عبد الرزاق (1915)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 4721)، سنن الدارقطني (1/ 419)، وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (السلسلة الضعيفة: 183).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 5380)، صحيح مسلم (رقم: 2220).
(3)
صحيح مسلم (رقم: 710).
(4)
مسند الإِمام أحمد بن حنبل (رقم: 12406)، صحيح ابن حبان (رقم: 194)، وغيرهما بلفظ:(لَا إِيمَانَ لمِنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 194).
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سنن أبي داود (رقم: 232)، السنن الكبرى للبيهقي (13178)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 232).
(7)
سبق تخريجه.
وعندنا يصح؛ لأن عندهم المقتضَى لا يمكن أن يكون عامًّا، وعندنا يمكن.
وتقريره أنَّ "أنت طالق" يحتمل أن يُقَدر بعده: "واحدة" و"اثنتين" و"ثلاثًا". فإذا نوى الثلاث أو اثنتين، أضمر بعض المحتمل الذي هو أَعَم من قوله "واحدة"، فقُبل.
ووافقوا على أنه لو قال: "أنت طالق طلاقًا" ونوى الثلاث، وقعت؛ لأنه صرح بما كان يُقَدر في دلالة الاقتضاء، فجاز أن يخصصه ويعممه.
ونحوه: "حلف لا يشرب" ونوى مياه العالم، وقد سبق أن مسألة:"لا آكُل" و"إنْ أكلت " جعلها بعض الحنفية من فروع هذه المسألة.
الثالث:
اختلف في دلالة الاقتضاء: هل هي مغايرة [للإضمار]
(1)
؟
ومَن قال بالتغاير فَرَّقوا بفروق فيها نظر. ولا جدوى لذلك ولا طائل تحته، فلا نُطَول به، فإن المتكلمين في عموم المقتضَى أمثلتهم وتقريراتهم شاهدة بأن لا فرق بينهما هنا.
الرابع:
ليس بين قولنا هنا: (إن الراجح أن المقتضى ليس بعام) وبين ما سبق من كون {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} [المائدة: 3] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ونحو ذلك من العام عُرفًا- تنافٍ؛ لأن المراد هناك أنه إذا قُدِّر شيء عام في جزئيات، يكون المفيد لعمومها العرُف. والذي هنا إنما هو هل يُقَدَّر كل المحتملات؟ أوْ لا؟ والله أعلم.
(1)
في (ص): للاجمال. وفي (ق): للاحتمال.
ص:
599 -
كَذَاكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا عَمَّا
…
وَمَا يَلِي مِنْ ذِي الْعُمُومِ ذَمَّا
600 -
أَوْ مَدْحًا الْعُمُومُ فِيهِ بَاقِي
…
مَا لَمْ يُعَارِضْهُ عُمُومٌ لَاقِي
الشرح: تضمن البيتان مسألتين:
الأُولى المرجح فيها عدم العموم، والثانية بالعكس.
فأما الأُولى وإلى نَفْي العموم فيها أشرت بقولي: (كَذَاكَ)، أي: كالذي قبله في كون العموم فيه نُفِي، وهي "المعطوف على العام" إذا تَعَذَّر عمومه، وجب أن يعتقد خصوصه، ولا يلزم أن يكون عامًّا كالمعطوف عليه.
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده"
(1)
. رواه أحمد وأَبو داود والنَّسائي. ولفظه عن قيس بن عباد، قال:(انطلقت أنا والأشتر إلى علي، فقلنا: هل عَهِدَ إليك نبي الله شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؛ قال: لا، إلَّا ما كان في كتابي هذا. فأخرج كتابًا من قُراب سيفه، فإذا فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهُم يد على مَن سواهم، وَيسْعَى بذمتهم أدناهم، ألَا لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده")
(2)
. والحديث في "البخاري"
(3)
سوى قوله: (ولا ذو عهد في عهده).
(1)
مسند أحمد (6690)، وفي: سنن أبي داود (2751)، سنن النَّسائي (4745)، وغيرهما بلفظ:(لا يُقتل مسلم بكافر .. ). قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 2208).
(2)
سنن النَّسائي (رقم: 4734)، سنن أبي داود (رقم: 4530) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4530).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 2882) بلفظ: (وَأَنْ لَا يقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ).
والخلاف في هذه المسألة شهير بيننا وبين الحنفية مع الاتفاق على أن "النكرة في سياق النفي للعموم". فهُم يقدرون - تتميمًا للجملة الثانية - لفظًا عامَّا؛ تسويةً بين المعطوف والمعطوف عليه في متعلقه، فيكون على حد قوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، فيُقدر:"ولا ذو عهد في عهده بكافر"؛ إذ لو قدّر خاصًّا وهو "ولا ذو عهد في عهده بحربي"، لزم التخالف بين المتعاطفين وأن يكون تقديرًا بلا دليل، بخلاف ما لو قدّر عامًّا، فإن الدليل عليه من المصرح به في الجملة التي قبلها، وحينئذٍ فيخصص العموم في الثانية بالحربي بدليل آخَر، وهو الاتفاق على أن المعاهد لا يُقتل بالحربي ويُقتل بالمعاهد والذمي.
قالوا: وإذا تَقرر هذا، وجب أن يخصص العام المذكور أولًا؛ ليتساوَيا، فيصير:"لا يُقتل مسلم بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بحربي".
وأما أصحابنا فإذا قدَّروا في الجملة الثانية، فإنما يقدِّرون خاصًّا، فيقولون:"ولا ذو عهد في عهده بحربي"؛ لأن التقدير إنما هو بما تندفع به الحاجة بلا زيادة، وفي تقدير بـ "حربي" كفاية، ولا يضر تخالفه مع المعطوف عليه في ذلك؛ إذ لا يشترط إلَّا اشتراكهما في "أصل الحكم"، وهو هنا "منع القتل" بما يذكر أو بما يقوم الدليل عليه، لا في كل الأحوال.
كما في قوله تعالى: {وُبُعُوَلَتُهُنَّ} [البقرة: 228] فإنه مختصٌّ بالرجعيات وإنْ تَقدم المطلقات بالعموم، وستأتي المسألة.
وممن حرر محل الاختلاف بذلك ابن السمعاني، فقال:(لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه، بل يُضمر قَدْر ما يفيد ويستقل به. وعند أبي حنيفة يضمر فيه جميع ما سبق مما يمكن إضماره)
(1)
. انتهى
(1)
قواطع الأدلة (1/ 205).
وقيل بالوقف.
وقيل: إنْ قُيد بقيد غير قيد المعطوف عليه فلا يُضمر فيه، وإنْ أطلق، أضمر فيه. كذا نُقل عن بعض الحنابلة، وعن بعض المتأخرين منهم أنَّه إنما يخصص المعطوف عليه بما في المعطوف من الخصوص إذا كان بخصوص المادة كالحديث، لا نحو:"اضرب زيدًا وعمرًا قائمًا في الدار".
ولأجل ذلك عِيب على مَن ترَجم هذه المسألة - كالآمدي - بأن "العطف على العام هل يقتضي العموم في المعطوف؟ "؛ فإن هذا شامل لما لا خلاف فيه، وهو ما لو قال:"ولا ذو عهد في عهده بحربي"، فلا يَسع أحدًا أن يقول باقتضاء العطف على العام - هنا - العموم مع كون المعطوف خاصًّا.
ولا نحن نقول فيما إذا قُدر عام: (إنه خاص) بلا دليل خصصه، إنما المقصود بالمسألة أن إحدى الجملتين إذا عُطفت على الأخرى وكانت الثانية تقتضي إضمارًا ليستقيم وكان نظيره في الجملة الأولى عامًّا، هل يجب أن يساويه في عمومه فيضمر عام؟ أو لا كما قررناه؟
ولذلك لّمَا رأى ابن الحاجب التَّرجمة بذلك مختلة، عبَّر عنها بقوله:(مسألة: قالت الحنفية: مثل قوله صلى الله عليه وسلم: )
(1)
الحديث.
ومنهم مَن يصحح التَّرجمة بِـ "العطف على العام" بأن هذا خرج مَخْرج اللقب على المسألة، لا لمراعاة قيودها.
وسلك الإمام فخر الدين والبيضاوي والهندي وغيرهم مسلكًا آخر في التَّرجمة، فقال: عطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيص المعطوف عليه.
أي: فإن "بكافر" في الجملة الثانية تخصَّص "بالحربي"، فهل يكون تخصيصًا للعام الأول
(1)
مختصر المنتهى (2/ 195) مع بيان المختصر.
به، ويكون التقدير:"لا يقتل مسلم بكافر حربي"؟ أي: بل يقتل بالذمي؟ أو هو باق على عمومه ولا يقدح عطف الخاص عليه؟
الأول قول الحنفية، والثاني قول الشَّافعية.
ولكن هذا يشمل ما لو صرح في الثانية "بحربي" من باب أَولى، ولا يضر ذلك في التصوير، إلَّا أنَّه يخرج عن ملاحظة المقدر هل يقدر عامًّا؟ أو خاصًّا؟
ومما يُضعف قولهم أنَّ كون الحربي مهدرًا مِن المعلوم من الدين بالضرورة، فلا يَتوهم أحد قَتْل مُسلِم به، فحمل الكافر في "لا يُقتل مسلم بكافر" عليه ضعيفٌ؛ لعدم فائدته.
على أن ترجمة المسألة بِـ "المعطوف" على كل حال فيه نظر؛ لأن المعطوف في الحديث في الحقيقة هو "ذو عهد" على النائب عن الفاعل في "يُقتل" وهو "مُسلم"، إلَّا أنْ يُقدر بعده مجرور بِباء؛ ليقابل"بكافر" في الجملة الأُولى، فيكون من عطف معمولين على معمولي عامل، وهو جائز قطعًا.
لكن فيه على كل حال إبهام؛ لأنَّا لا نَعلم ما المراد بالمعطوف: المرفوع؟ أو المجرور؟
نعم، ابن السمعاني وجمع من أصحابنا قد وافقوا الحنفية على أن مُدَّعاهم في هذه المسألة أرجح، وكذا ابن الحاجب مُصرَّح بموافقتهم، قائمٌ بالاستدلال لهم، مجيبٌ عن أدلتنا وإنْ لم يكن من مذهبه قتل المسلم بالكافر، إلَّا أنَّه يقول:(التخصيص طَرَق العام الأول بدليل من خارج، والعام الثاني كذلك)
(1)
.
(1)
انظر: مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 196).
تنبيهات
الأول: كل ما سبق مِن اختلاف الفريقين إنما هو حيث كان الأمر لا يستقيم إلَّا بإضمار في الجملة الثانية.
فهل يضمر قَدْر الضرورة؟ أو ما دل عليه العام في الجملة قبلها؟
ولهذا عقبتُ في النَّظم هذه المسألة بمسألة المقتضَى؛ لاشتراكهما في الإضمار، لكن قَدْر الحاجة؟ أو العام؟ فيه الخلاف.
نعم، ذهب قوم من أصحابنا إلى أن الجملة الثانية كلام تام لا يحتاج إلى تقدير خاص ولا عام، وأن المعنى: النهي عن قتل المعاهد ما دام في عهده. فالقيد في منع قتله كَوْنه "في عهده"، والفائدة حاصلة بذلك.
واعتُرض:
- بأنه يلزم امتناع قتل المعاهد مطلقًا ولو قَتل مسلمًا أو معاهدًا.
- وبأنه لا يصير له مناسبة للجملة قبله؛ لأن تلك في بيان "المكافأة في القصاص"، وهذه في "مطلق قتل المعاهد"، وأي ارتباط بينهما؟ " وكلام البليغ يُصان عن ذلك.
- وبأن الإقدام على قتل ذي العهد حرام، والصحابة يعرفون ذلك، وقد قال تعالى:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، فلم يَبْقَ في ذلك فائدة جديدة؛ ولذلك لَمَّا كان إقدام المسلم على قتل الكافر غير الحربي محرَّمًا، لم يذكر في الجملة الأولى إلَّا كونه إذا قتله هل يقتل به؟ أو لا؟
والجواب:
عن الأول: أنَّه عام خُص، كما أنهم قدَّروا "ولا ذو عهد في عهده بكافر"، وهو كان عامًّا
خُص. بل في تقديرهم ذلك مجازان: حذف وتخصيص، وفي هذا التقدير تخصيص فقط.
وعن الثاني: كما قال أَبو إسحاق المروزي في "التعليقة": إن عداوة الصحابة للكفار في صدر الإسلام كانت شديدة جدًّا، فلما قال عليه الصلاة والسلام:"لا يقتل مسلم بكافر" خشي أن يتجرد هذا الكلام، فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر مِن معاهد وغيره، فعقبه بقوله ما معناه:(ولا يُقتل ذو عهد في زمن عهده).
وعن الثالث: بأن هذا الحكم عام في الصحابة وغيرهم، وربما اشتدت عداوة غير الصحابة للكفار؛ فقتلوا المعاهد وغيره؛ غفلة عن عصمة المعاهد، بل وفي الصحابة قد يكونون إنما علموا ذلك بهذا اللفظ. فلو سكت الشارع عنه؛ لَبادروا لقتلهم.
وأما أن في القرآن ما يدل على تحريم قتل المعاهد فليس هذا بأول شيء توارد عليه دلالة الكتاب والسُّنة.
الثاني:
ذكر القدوري من الحنفية في كتابه "التجريد"
(1)
في الحديث تقديرين آخَرين غير تقديرهم المشهور:
أحدهما: أنَّه لا حذف فيه، بل على التقديم والتأخير. والأصل:"لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر".
وثانيهما: أن"ذو عهد" مبتدأ، و"في عهده" خبره، و"الواو" للحال. أي: لا يقتل المسلم بكافر، والحال أنَّه ليس ذو عهد في عهده.
(1)
التجريد (11/ 5456).
قال: (ونحن لو فرضنا خلو الوقت عن عهد لجميع الكفار، لم يقتل مسلم بكافر)
(1)
.
أي: لأنه لا كافر حينئذٍ إلَّا وهو حربي.
وجوابه: أن الأول ضعيف؛ لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، ولا دليل يقتضيه.
والثاني في غاية البعد؛ لأن فيه إخراج "الواو" عن أصلها وهو العطف، ومخالفة رواية "ولا ذي عهد" بالخفض إما عطفًا على كافر كما يقوله الجمهور، أو على "مسلم" كما يقوله الحنفية وأنه خفض بالمجاورة.
وأيضًا فيقتضي بمفهومه أن المسلم يقتل بالكافر مطلقًا في حالة "كون ذي العهد في عهده"، وهذا لا يقوله أحد، فإنه لا يُقتل بالحربي اتفاقًا.
الثالث:
من فروع هذه القاعدة:
لو قال: "حفص طالق ثلاثا وعمرة"، قال القاضي حسين قبيل باب طلاق المريض:(يحتمل أن تقع على "عمرة" واحدة؛ لأن المعطوف يجوز أن يكون بخلاف المعطوف عليه).
وفي "الرافعي": (لو طلَّق إحدى امرأتيه ثلاثًا ثم قال للأخرى: "أشركتُك معها"، عن إسماعيل البوشنجي أن المسألة جرت بين يدي فخر الإسلام الشاشي بمدينة السلام، فأجاب بأنها تطلق واحدة. وخالف البوشنجي فيه وقال: قد أوقع على الأُولى ثلاثًا، والعطف يقتضي التشريك)
(2)
.
قال الرافعي: (والتردد قريب من الخلاف فيما إذا قال مَن تحته أربع لِثلاث منهن:
(1)
التجريد (11/ 5459).
(2)
العزيز شرح الوجيز (9/ 24 - 25).
"أوقعتُ عليكن - أو بينكن - طلقة"، ثم قال للرابعة:"أشركتُك معهن". وفيه وجهان، أظهرهما: تطلق واحدة، والثاني: عن القفال: تطلق ثنتين)
(1)
.
نعم، ربما قدر الأصحاب في بعض الفروع ما في المعطوف عليه في المعطوف، ولَعَلَّه لقرينة في ذلك الموضع.
ففي "فروع ابن الحداد": أوصَى لزيد بعشرة ولعبد الله بعشرة ولخالد بخمسة، وقال:"قدِّموا خالدًا على عبد الله"، وكان الثُّلث عشرين، كان لزيد ثمانية، ولخالد خمسة؛ لتقدمه، ولعبد الله سبعة؛ لأن الثلث لا يفي بالكل. فيجب أن ينقص الخَمس من كُلٍّ، ويزاد نقص عبد الله واحدًا، لتقدم خالد عليه.
ووافقه الأصحاب، وكأنه قال:"وقدموا خالدًا على عبد الله بشيء". ولو قدر كذلك؛ لكان لخالد أربعة وشيء، ولعبد الله ثمانية إلَّا شيء.
المسألة الثانية:
العام إذا كان في سياق المدح أو الذم، هل العموم فيه باقٍ؟ أو لا؟
وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5].
فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنَّه غير باقٍ على عمومه. ونقله إمام الحرمين وغيره عن الشَّافعي، وهو أحد وجهين لأصحابنا، حكاهما أَبو الحسين بن القطان والأستاذ أَبو منصور وسليم الرازي وابن
(1)
العزيز شرح الوجيز (9/ 24 - 25).
السمعاني وغيرهم.
ونقل الثاني منهما أَبو بكر الرازي (مِن الحنفية) عن القاشاني، ونقله ابن برهان عن الكرخي وغيره.
وقال إلْكِيَا: إنه الصحيح. وجزم به القفال الشاشي؛ ولذلك منع الشَّافعي التمسك بآية الزكاة السابقة في وجوب زكاة الحلي المباح، إلى غير ذلك. وجزم به أيضًا القاضي حسين.
الثاني وعليه الجمهور: أنَّه عام؛ إذْ لا تنافي بين قَصْد العموم وبين المدح أو الذم.
وقال الأستاذ أَبو إسحاق الأسفراييني: إنه الظاهر من المذهب. وقال الشيخ أَبو حامد وسليم: إنه المذهب. وكذا قال ابن برهان وابن السمعاني والشيخ أَبو حامد وغيره.
والثالث: وهو أصحها، وهو الثابت عن الشَّافعي، الصحيح من مذهبه: إنه باقٍ على عمومه إذا لم يعارضه عام آخر لم يُسَق لمدح ولا ذم. فإنْ عارضه ذلك، عُمل بالمعارِض الخالي مِن المدح والذم. وهذا في الحقيقة عَيْن القول بالعموم؛ لأن غاية المعارَضة قرينة تُقَدِّم غيرَه عليه في صُورة.
ولهذا قال الشيخ أَبو حامد وسليم الرازي وابن السمعاني وغيرهم من أئمتنا: إنه لا خلاف حينئذ على المذهب أنَّه يترجح على ما فيه مدح أو ذم.
نعم، حكى غير هؤلاء الخلاف مطلقا في الحالين.
وحكى أَبو عبد الله السهيلي - من أصحابنا - وجهًا أنَّه يوقف هذان العامَّان إلى أن يتبين الحال، كالمتعارضين.
ولكن يدل للمُرجَّح عملُ الصحابة بالعام المعارِض للعام الذي فيه المدح.
فقد رُوي عن عثمان كت أنَّه قال في الجمع بين الأختين بملك اليمين: "أحلتهما آية
وحرمتهما آية، والتحريم مُقدَّم"
(1)
. وأراد بآية الحل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، وآية التحريم:{وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23]. فحَكَمَ بعموم آية الحل، ولكن قدم عليه آية التحريم؛ لأن آية الحل مسوقة للمدح والمنة. ووافقه الصحابة على ذلك.
وبهذا رد على داود احتجاجه بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على إباحة الأختين بملك اليمين.
ومَثَّل أَبو عبد الله السهيلي للعامَّين اللذين سِيق أحدهما للمدح دُون الآخر بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، فإنه سِيق للمدح وهو يَعُم مِلك اليمين، سواء الأخت وغيرها، فيرجح عليه {وَأَنْ تَجْمَعُوا} ؛ فإنه عام في مِلك اليمين والنكاح.
نعم، قد يقال: إن بين الآيتين عمومًا وخصوصًا مِن وجه، فرجحت إحداهما بكونها تقتضي التحريم كما سبق عن عثمان، لا لِكونها تجردت عن مدح فَقُدِّمت على ذات المدح.
ومَثَّل الشيخ أَبو حامد وابن السمعاني وغيرهما بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية، سِيقت لبيان عَيْن المحرمات دُون العَدد، بخلاف آية:{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]، فإنها للعَدد، وهي تعم الأخت وغيرها، فيقضَى بتلك؛ لأنها مسوقة لبيان المحرَّم. وكذلك يُقضَى بها على قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
(1)
الذي في مصنف ابن أبي شيبة (16264) وسنن الدَّارَقُطني (3/ 281) واللفظ للدارقطني: (أن عثمان بن عفان سُئل عن الأختين مما ملكت اليمين، فقال: لا آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما آية).
وفي: مصنف عبد الرزاق (12728)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 13708) وغيرهما واللفظ للبيهقي: (أحلتهما آية وحرمتهما آية، وأما أنا فلا أحب أنْ أصنع هذا).
تنبيهات
أحدها: ليست هذه المسألة مقصورة على ما سِيق للمدح أو الذم فقط، بل ذلك خارج مخَرَج المثال.
وإنَّما الضابط أن كل عام سِيق لغرض هل يبقى على عمومه؟ أو يكون ذلك الغرض صارفًا له عن العموم؟
فيقال على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء أو كان عثريًّا العُشر، وما سُقي بالنضح نصف العُشر"
(1)
مَسوق لبيان مقدار الواجب، فلا يكون عامًّا في الخضراوات نحو القثاء والرمان.
ومَن يقول بالعموم، يقول: إنه خُص بنحو ما رواه الحاكم: "فأما القثاء والرمان والقصب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(2)
. أو: إن هذا الحديث عام قدِّم على حديث: "فيما سقت السماء"؛ لكونه مسوقًا لبيان المقدار.
الثاني: قال الشيخ عز الدين: ليس من هذا الباب: العام المرتب على شرط تَقدم ذِكره، بل ذلك خاص اتفاقًا، كقوله تعالى:{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، فالشرط المتقدم هو صلاح المخاطَبين الحاضرين، وصلاحهم لا يكون سببًا للمغفرة لمن تَقدم مِن الأمم قبلهم أو يأتي بعدهم؛ فإن قواعد الشرع تَأبى ذلك،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
المستدرك على الصحيحين (رقم: 1458)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7268) بلفظ: (وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (التلخيص الحبير، 2/ 165): (فيه ضعف وانقطاع).
فإنَّ صلاح كل [أحد]
(1)
لا يتعداه لغفران غيره إلَّا أن يكون فيه سبب، وهنا لا سبب؛ فلا يتعدى، فيتعين أن يكون المراد:"فإنه كان للأوابين منكم غفورًا"، فإن الشرط لا يكون جزاؤه لغيره.
قلت: وتحتمل الآية أيضًا أن "الألف واللام" في "الأوابين" للعهد، كما في قوله تعالى:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، في خبر:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170] الآية.
وقد قيل هنا: إن الرابط العموم اكتُفي به لدخول المبتدأ تحته. فيقال هنا مثله.
وربما يُقَرَّر في آية "الأوابين" بأن الجواب فيه مُقدَّر، أي: إن تكونوا صالحين فأنتم أوابون، والله تعالى للأوابين غفور. أو أن الخطابَ في قوله تعالى:{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: 25] عامّ للخلق كلهم، أي: يا أيها العباد إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا. ويكون صلاح كلٍّ سبئا لمغفرته، من باب"ركب القوم دوابهم"، لا أن المجموع سببٌ للغفران للمجموع.
الثالث:
قيل: إنَّ هذه المسألة هي مسألة "غير المقصودة" هل تدخل في العموم؟ وقد سبقت، فلا حاجة لإعادتها.
يدل على ذلك أن القاضي عبد الوهاب لما حكى الخلاف في تلك، مَثَّل بآية الزكاة: هل يدخل فيها الحُلي المباح ونحوه مما لم يُقصَد؛ ووافقه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام". ومِن ثَمَّ نقل الأصفهاني في "شرح المحصول" الخلاف الذي نقله القاضي
(1)
كذا في (ق، ص)، لكن في (س): واحد.
عبد الوهاب في "غير المقصودة" هنا.
وعلى هذا فاستغراب ابن السبكي في "منع الموانع" الخلاف في غير المقصودة - حتَّى نَقْلُه عن"المسودة" الأصولية لبني تيمية - ليس بجيد.
قلتُ: قد يفرق بين المسألتين بأن تلك لا يشترط فيها وجود قرينة من مدح وغيره تَصْرفه عن العموم بالكُلية، والعموم باق هناك في غير المقصودة إجماعًا.
وأما هنا فيرتفع العموم فيه، ويكتفى فيه ببعض ما يصدق عليه اللفظ عند مَن يرى بأن لا عموم فيه؛ ولهذا نُقل عن الشَّافعي في هذه المسألة أنَّه قال:(الكلام مفصل في مقصوده، مجمل في غير مقصوده). فانظر كيف سماه "مجملًا"؛ والله أعلم.
ص:
601 -
وَذُو الْعُمُومِ في خِطَابٍ شُوفِهَا
…
بِهِ لِمَوْجُودٍ، وَمَا لَهُ انْتِهَا
602 -
لِغَيْرِهِمْ لَفْظًا، وَلَكِنْ يَشْمَلُ
…
لِأَنَّ شَرْعَهُ عُمُومًا يُقْبَل
الشرح:
مما اختُلِف في عمومه: الخطاب الوارد شفاهًا في الكتاب والسنة، مِثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 168]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 172]، {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف: 68].
لا خلاف في أنَّه عام في الحكم الذي تضمنه لمن لم يشافَه به، سواء أكان موجودًا أو غائبًا وقت تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم أو معدومًا بالكلية. فإذا بلغ الغائب والمعدوم بعد وجوده، تَعَلَّق به الحكم.
وإنَّما اختُلِف في جهة عمومه.
والحاصل: أن العام المشافَه فيه بحكم لا خِلاف في شموله لغةً للمشافَهين وفي غيرهم حُكمًا، وإنَّما الخلاف في غيرهم: هل الحكم شامل لهم باللغة؟ أو بدليل آخر؟
ذهب جمعٌ من الحنابلة والحنفية إلى أنَّه من اللفظ.
وذهب أكثرون إلى أنَّه بدليل آخر، وذلك مما عُلم مِن عموم دِينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة إلي يوم القيامة.
ويدل عليه قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وبعثت إلى الناس عامة"
(1)
. وأَصْرح من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [الجمعة: 2] إلى قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3].
وهذا معنى قول كثير كابن الحاجب: (إن مِثل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 168]، ليس خطابًا لمن بَعْدهم - أَيْ مَن بَعْد المواجَهين - وإنَّما يثبت الحكم بدليل آخَر من إجماع أو نص أو قياس)
(2)
.
واستدلوا بأنه لا يقال للمعدومين: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} .
وأجابوا عما استدل به الخصم بأنه: الو لم يكن المعدومون مخاطبين بذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم مرسَلًا إليهم) بأنه لا يتعين الخطاب الشفاهي في الإرسال، بل مطلق الخطاب كافٍ.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 328).
(2)
مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 223).
تنبيهات
الأول: قال ابن دقيق العيد: مَن خصَّه بالمخاطَبين فينبغي أن يعتبر فيه أحوالهم؛ حتَّى لا يدخل في خطابهم مَن ليس بِصِفتهم إلَّا بدليل مِن خارج، وهذا غير الاختصاص بأعيانهم، وهو أعلى مرتبة منه؛ لأن اعتبار الأعيان في الأحكام عليه أدلة كثيرة. ويحتمل أن لا يعتبر أحوالهم وصفاتهم إلَّا لاعتبار مناسبة أو غيرها، والأليق بالتخصيص الأول.
وقال في "شرح العنوان": الخلاف في عموم خطاب المشافَهة قليل الفائدة، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق؛ لأن اللغة تقضى بأنْ لا يتناول غير المخاطَب، والقَطْع بأن الحكم شامل لغير المخاطَب؛ لِمَا عُلم من عموم الشريعة.
الثاني: عَبَّر جمعٌ عن المسألة بأن الخطاب مع الموجودين في زمنه عليه السلام لا يتناول مَن بَعدهم إلَّا بدليل منفصل.
وعَبَرَّ جمعٌ بأخص، وهو نحو:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ، {يَاأَيُّهَا آمَنُوا} .
وقال بعض المتأخرين: للألفاظ حالتان: أن يكون محكومًا بها، أو محكومًا عليها.
ففي الأول: يجب أن يكون مدلولها موجودًا حالة الحكم، نحو:"يا زيد"، ونحوه.
وفي الثاني: يشمل مَن وُجِد ومن سيوجَد، نحو:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وذلك كما لو قلت لولدك: "اصحب العلماء"، فلا فرق بين الموجود عالِمًا حال الخطاب ومَن سيصير عالِمًا بعد ذلك.
الثالث: اعترض النقشواني في "تلخيص المحصول" على هذه المسألة بقول الأصوليين: إن المعدومَ محكومٌ عليه بالخطاب القديم مِن غير فرق بين خطاب المشافَهة وغيره.
وأجيب بأن ذلك غفلةٌ منه؛ لأن ذاك في الكلام النفسي، والكلام هنا في الخطاب
اللفظي.
وأجاب في "البديع" بأن الكلام هناك في تسميته أمرًا ونهيًا، وهنا في تسميته خطابًا.
وضُعِّف بأن ذلك إذا قلنا: لا يسمى خطابًا. والمرجَّح خلافُه كما سبق.
الرابع: مما يحقق المرجَّح في المسألة (وهو أن الخطاب مقصور لُغة على المشافَهين) الاتفاق على أنَّه لو قال لمن حضر مِن زوجاته: (يا نسائي أنتن طوالق)، لا يقع الطلاق على مَن لم [يواجهه]
(1)
بالخطاب مِن بقية زوجاته ولو كان في المجلس.
ويُعرف تمييز مَن خوطِب مِن غيْره بالقرائن.
وقولي: (لِأَنَّ شَرْعَهُ) إلى آخِره هو تعليل لعمومه، أي: ليس العموم باللفظ مِن وضع اللغة، بل لكون شرعِه عامًّا. ولم أذكر الإجماع ولا القياس؛ لأن هذا كافٍ، والقياس إنما نشأ مِن هذه الحيثية، والإجماع إنما استند إلى عموم شرعه. والله أعلم.
603 -
ثُمَّ خِطَابُ الْمُصْطَفَى لَا يَشْمَلُ
…
أُمَّتَهُ، وَالْجَمْعُ حَيْثُ يُجْعَلُ
604 -
مُذَكَّرًا مُسَلَّمًا لَا يَدْخُلُ
…
فِيهِ الْإنَاثُ؛ فَلِذَا يُفَصَّلُ
605 -
إلَّا بِتَغْلِيبٍ مَعَ الدَّلِيلِ
…
وَلَيْسَتِ الْأُمَّةُ في الْمَشْمُولِ
606 -
بِنَحْوِ {يَا أهْلَ الْكِتَابِ} ثُمَّ مَا
…
خُوطِبَ وَاحِدٌ بِهِ لَنْ يَعْمُمَا
الشرح:
اشتملت الأبيات على أربع مسائل:
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تواجهه.
الأولى:
خطاب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بنداءٍ ونحوه هل يتناول الأُمة؟ أو لا؟
وذلك مِثل قوله تعالى: ، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [التحريم: 1]: ا، ونحو ذلك مما يمكن أن يراد بما تضمنه مِن الحكم الأُمة معه، ويمكن أن يراد النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا به، ولا قرينة على إرادتهم معه.
فقال الجمهور: ليس بعام للأُمة إلَّا بدليل يوجب التشريك، إما مطلقًا أو في ذلك الحكم بخصوصه مِن قياس أو غيره. وحينئذ فشمول الحكم لهم بذلك لا باللفظ؛ لأن اللغة تقتضى أن خطاب المفرد لا يتناول غيره.
وقال أَبو حنيفة وأحمد: يشمل الأُمة، ولا ينصرف الحكم عنهم إلَّا بدليل من خارج. واختاره جمعٌ من أصحابنا كابن السمعاني، وكذا إمام الحرمين على ما يؤول إليه تفصيل له نذكره.
أما ما لا يمكن إرادة الأمة معه فيه مِثل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2]{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ونحو ذلك فلا دخول للأُمة فيه قطعًا.
ومن ذلك ما قامت فيه قرينة على اختصاصه به من الخارج، نحو:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. فتفصيل إمام الحرمين بين أن تَرِد الصيغة في محل التخصيص فيكون خاصًّا به، أوْ لا فيكون عامًّا - ليس قولًا آخَر، بل تبيين لمحل الخلاف.
وأما ما لا يمكن فيه إرادة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الحكم المقترن بخطابه بل يكون الخطاب له والمراد الأُمة فليس ذلك مِن محل النزاع أيضًا، وذلك مِثل قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، فخطابه بذلك من مجاز التركيب، وهو ما أُسنِد فيه الحكم
لغير مَن هو له، نحو:"أنبت الربيع البقل"، {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]. وقد سبق تقريره في "باب المجاز".
ولأجل ذلك انتُقد على ابن الحاجب تمثيله محل النزاع بآية: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} .
نعم، حكى ابن عطية عن مكي والمهدوي أن الخطاب بقوله تعالى:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أُمته. ثم قال:(وهذا ضعيف؛ لا يقتضيه اللفظ)
(1)
.
والتحقيق: أن هذا ونحوه من باب"خطاب العام مِن غير قَصْد مخاطَب معيَّن".
والمعنى: اتفاق جميع الشرائع على ذلك، أي: ويكون هذا مثل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] كما قرره أهل البيان، وأنهم لَمَّا تناهت حالهم الفظيعة في الظهور، لم يختص بها مخاطَب دون مخاطَب.
ونحوه: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"بَشِّر المشائين في ظُلَم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"
(2)
.
قيل: والأَولى أن يُقَرر مِثل ذلك بأنه عام عموم الشمول، كاستعمال المشترك في معانيه، لا أن المراد عموم البدل للمخاطَبين للصلاحية لكل مخاطَب بما يقتضي أن يصير الضمير - وهو أَعْرَف المعارف - في معنى النكرة. وإذا قرر:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ} ، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ونحو ذلك على هذا المحمَل، اندفع الإشكال في هذه الآيات ونحوها من أصله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس مقصودًا بذلك.
(1)
المحرر الوجيز (2/ 288).
(2)
سنن أبي داود (رقم: 561)، سنن التِّرمِذي (223) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 561).
وأما التقييد بأن لا قرينة على إرادة الأُمة معه فمُخرج لِمَا إذا دلت قرينة على ذلك، فليس ذلك من محل النزاع أيضًا، مِثل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، الآية، فإن ضمير الجمع في:"طَلَّقْتُم" و"طَلِّقُوهُنَّ" قرينة لفظية تدل على أن الأُمة مقصودة معه بالحكم، وأنَّ تخصيصه بالنداء تشريفٌ له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمامهم وقدوتهم وسيدهم الذي يَصدر فِعلهم عن رأيه وإرشاده؛ ولذلك ابتدأ الشَّافعي رحمه الله "كتاب الطلاق" بهذه الآية؛ لِمَا فهمه من عمومها.
وخطاب الواحد وإن كان قد يَرِد بصيغة جمع، نحو:{قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون: 99، 100] إلَّا أنَّه مجاز، فلا يقدح في دعوى القرينة في نحو:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} ، بل القرينة في مِثل ذلك قد توجد والضمير مفرد، نحو:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، الآية، فإن غير النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم أَوْلى منه به؛ ولهذا قال بعده:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
تنبيهات
الأول: عَكْس هذه المسألة - نحو "يا أيها الأُمة" - قال الهندي والقاضي عبد الوهاب: لايدخل قطعًا. كما سبق تقريره في مسألة: شمول {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الرسولَ.
الثاني: القائلون بشمول نحو {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} للأُمة لا يقولون: إنه باللغة، بل للعُرف في مِثله، حتَّى لو قام دليل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم مِن ذلك، كان من العام المخصوص. ولا يقولون: إنهم دخلوا بدليل آخَر؛ لأنه حينئذٍ ليس محل النزاع. فيتحد القولان.
الثالث: مما يظهر فيه ثمرة الخلاف في المسألة ما خرَّجه الحنفية على أصلهم مِن انعقاد
النكاح بلفظ الهبة بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، إذِ الأُمَّة مِثله في هذا الحكم؛ لشمول اللفظ لهم عُرفًا.
وعندنا لم يدخل غيره، فيكون مِن خصائصه على المرجَّح.
وفي وَجْه أنه لا ينعقد نكاحه بلفظ الهبة؛ قياسًا على الأُمة. عَكْس مقالة الحنفية مطلقًا.
المسألة الثانية:
جمع الذكر السالم - كَـ "المسلمين" - هل يدخل فيه الإناث؛ وكذا ضمير المذكرين نحو: "فعلوا" و"افعلوا" و"تفعلون" و"فعلتم" ونحو ذلك.
بل ولا يختص بالضمائر، بل اللواحق، نحو:"ذلكم" و"إياكم" إذا قلنا بأنها حروف لحقت الضمائر المنفصلة، وهو المرجَّح، فكل ذلك لا يدخل فيه النساء إلَّا بطريق التغليب مجازًا. هذا ما ذهب إليه الشَّافعي وأصحابه والجمهور، كما لا يدخل "الرجال" في لفظ المؤنث إلَّا بدليل.
وممن نقله عن الشَّافعي القفالُ الشاشي وابن القطان والشيخ أَبو حامد والماوردي في "كتاب القضاء"، والروياني: في "كتاب السير"، وابن القشيري.
قيل: وأخذوا ذلك من حديث عائشة: "يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة"
(1)
. أخرجه ابن ماجة بإسناد جيد.
فلو كن يدخلن في جمع المذكر وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]، ونحو قوله:{وَجَاهَدُواْ} [البقرة: 218] لَعرفت عائشة ذلك ولم تَسأل.
(1)
مسند أحمد (25361)، سنن ابن ماجة (2901) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجة: 2362).
وهذا أَوْلى من الاستناد إلى حديث أم سلمة في النَّسائي: "قلت: يا رسول الله، ما لَنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يُذكر الرجال؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية"
(1)
؛ لجواز أن تريد أُم سلمة: ما لَنا لا نُذكر صريحًا بالتنصيص؟
وممن نقله عن أصحابنا الأستاذُ أَبو منصور وسليم في "التقريب"، واختاره القاضي أَبو الطيب في "الكفاية"، وابن السمعاني في "القواطع"، وإلْكِيَا الهراسي، ونصره ابن برهان في "الوجيز" ونقله في "الأوسط" عن معظم الفقهاء، والشيخ أَبو إسحاق في "التبصرة"، ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة، وقال القاضي: إنه الصحيح.
وذهبت الحنفية - ومنهم شمس الأئمة وصاحب"اللباب" وغيرهم - إلى أنَّه يتناول الذكور والإناث.
وحكاه القاضي أَبو الطيب عن أبي حنيفة، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد، ونُسب للحنابلة والظاهرية.
لكن ظاهر هذا القول أنَّه ليس مِن حيث اللغة، بل بالعُرف أو بعموم الأحكام أو نحو ذلك.
قال إمام الحرمين: (اندراج "النساء" تحت لفظ "المسلمين" بالتغليب، لا بأصل الوضع)
(2)
.
وقال الأبياري: (لا خلاف بين الأصوليين والنحاة في عدم تناولهن بجمع المذكرين.
(1)
السنن الكبرى للنسائي (11404)، مستدرك الحاكم (3560).
(2)
البرهان (1/ 244).
وإنَّما ذهب بعض الأصوليين إلى ثبوت التناول؛ لكثرة اشتراك النوعين في الأحكام)
(1)
.
أي: فيكون الدخول عُرفًا أو نحوه، لا لُغةً.
ثم قال: (وإذا قُلنا بالتناول، هل يكون دالًّا عليهما بالحقيقة والمجاز؛ أو عليهما مجازًا صِرفا؟ فيه خلاف، ظاهر مذهب القاضي الثاني، وقياس قول الإمام الأول)
(2)
.
تنبيهات
الأول: احترزت بقولي: (الْجَمْعُ) عن اسم الجمع نحو: "قوم" كما سبق في مسألة "الجمع المحلَّى بِأل".
وبقولي: (المسَلَّم) - أي الذي سلم فيه بِناء واحِدِه - عن المكسر
(3)
كَـ "رجال"، فإنه لا يشمل المؤنث قطعًا، وعن اللفظ الذي يدل على الجمعية من غير علامة للتذكير وليس جمعًا مكسرًا، كَـ "الناس"، فإنه يدخل فيه الرجال والنساء قطعًا.
وقولي: (فَلِذَا يُفَصَّلُ" إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية وما سبق في سببها.
نعم، ما أُلحق بالجمع: منه ما يُلْحَق به في هذا الحكم (كَـ "بنين")، ومنه ما يشملهما قطعًا (كَـ "عشرين")، ومنه ما يختص به الإناث قطعًا (كَـ "أرضين" و"سنين").
ويظهر ذلك كله بتأمله.
(1)
التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 41).
(2)
التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 42 - 43).
(3)
يعني: قولي: (المسَلَّم) احترزت به عن المكسر.
الثاني: يُستثنى من محل الخلاف في ضمير الجمع المذكر ما لو عاد على النوعين، نحو:"يا أيها الرجال والنساء"، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فلا خلاف في دخولهن. قاله القاضي عبد الوهاب، ولكن هذا بقرينة، والكلام حيث لا قرينة.
ونحوه في القرينة (وإنْ تأخرت) حديث: "سبق المفردون"، ثم فسرهم صلى الله عليه وسلم بقوله بعده:"هم الذاكرون الله كثيرا والذاكرات"
(1)
. فلا شاهد فيه لمن قال بالدخول.
ومنهم مَن قال: محل الخلاف في غير الخطاب الشفاهي، أما إذا شافَه رجالًا ونساءً بـ "افعلوا"، فإنهن يدخلن قطعًا. ولكن هذا بالقرينة، والكلام حيث لا قرينة.
ولم يختلف المفسرون في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، أنَّه متناول لآدم وحواء ولإبليس.
وربما كانت القرينة مخُرجة، كما في قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فإن المشركات لا يَدخُلن؛ لقرينة نهيه عليه السلام عن قتل النساء.
ولأجل قرينة الإدخال استُدل بقوله عليه السلام: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"
(2)
على أن المرأة تُقيم الحد على مملوكها بحق المِلك الذي يشترك فيه الذكر والأنثى، فالقرينة: تعليق الحكم بوصف الِملك.
الثالث: سكتوا عن الخناثى، هل يدخلون في خطاب المذكر؟ أو المؤنث؟
والظاهر مَن تَصرّف الفقهاء دخولهم في خطاب النساء في التغليظ والرجال في التخفيف، وربما أُخْرج عن القسمين. وقد أُفرد أحكام الخناثى بالتصنيف.
(1)
صحيح مسلم (2676).
(2)
مسند أحمد (736)، سنن أبي داود (4473) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4473).
الرابع: مما يُخرَّج على هذه القاعدة مسألة "الواعظ" المشهورة في الفقه وهو قوله للحاضرين عنده: "طلقتكم ثلاثًا" وامرأته فيهم وهو لا يدري.
أفتى الإمام بوقوع الطلاق. قال الغزالي: وفي القلب منه شيء. وقال الرافعي والنووي: ينبغي أن لا يقع. قال النووي رحمه الله: لأن النساء لا يدخلن في هذا اللفظ كما تَقرر في الأصول.
وذكر الرافعي مَأْخذًا غير ذلك، وذكر غيرهما أنَّه ينبغي أن يخرَّج على "حنث الجاهل" كما لو حلف لا يسلم على زيد، فسلَّم على قوم هو فيهم ولم يَعلمه.
وفي المسألة مباحث مذكورة في كتب الفقه لا نُطَول بها.
المسألة الثالثة:
خطاب الشارع بنحو: "يا أهل الكتاب" لا يدخل فيه أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، سواء أكان ذلك من خطاب الله عز وجل أو خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم لهم بأمر الله تعالى.
ومثله خطاب بني إسرائيل، كقوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} [النساء: 47]{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64]، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا} [المائدة: 59]، {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]، ونحو ذلك من الآيات، وهو كثير.
إلَّا أنْ يدل دليل على مشاركتهم لهم فيما خوطِبوا به؛ وذلك لأن اللفظ قاصر عليهم، فلا يتعداهم.
والمراد بـ "أهل الكتاب"اليهود والنصارى، لا عبدة الأوثان ولا المجوس؛ إما لأن كتابهم رُفع، أو لغير ذلك مما قرره أصحابنا في النكاح وغيره.
وخالف في ذلك أَبو البركات مجد الدين ابن تيمية في "مسودته" في الأصول، وقال: (إنه
يشمل الأُمة إنْ شركوهم في المعنى)
(1)
.
قال: (لأن شرعه عام لبني إسرائيل وغيرهم مِن أهل الكتاب وغيرهم كالمؤمنين؛ فيثبت الحكم فيهم كما في أهل الكتاب. وذلك كأمره لواحد مِن المكلَّفين، فإنه يعم غيره).
أي: على رأي من يقول به كما سيأتي.
قال: وإن لم يشركوهم فلا، كما في قوله لأهل بدر:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 69]{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران: 122]، فإنَّ ذلك لا يَعُم غيرهم.
قال: (ثم الشمول هاهنا هل هو بطريق العادة العُرفية؟ أو الاعتبار العقلي؟ فيه الخلاف المشهور).
قال: (وعلى هذا ينبني استدلال الأئمة على حُكمنا بمثل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44]، الآية، فإن هذه الضمائر راجعة لبني إسرائيل).
قال: (وهذا كله في الخطاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أما خطابه لهم على لسان موسى أو غيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فهي مسألة: شرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ والحكم هنا لا يثبت بطريق العموم الخطابي قطعًا، بل بالاعتبار العقلي عند الجمهور)
(2)
.
وأما عكس هذه المسألة: وهو دخول الكفار في نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو "يأيها المؤمنون" أو نحو ذلك - فقد سبق الكلام عليه في مسألة دخول الكافر في لفظ "الناس"المقترن بلام الاستغراق وأن المسألة مَبنية على تكليف الكافر بالفروع، فدخولهم من حيث عموم الشرع، لا مِن حيث اللغة، فإنَّ الوصف نحُرج لهم.
(1)
المسودة (ص 42).
(2)
المسودة (ص 42 - 43).
المسألة الرابعة:
خطاب الشرع لواحد هل يدخل فيه غير ذلك المخاطَب؟ أو لا؟
وهي أَعَم من المسألة السابقة، وهي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يختص به، هل تدخل الأُمة؟
ولكن ربما تفاوتا بمدارك خاصة بأحدهما دون الآخر. يظهر ذلك للمتأمل.
وإنْ كان الشيخ أَبو حامد فَرَضَ مسألة خطاب الواحد بأَعَم مِن خطاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن خطاب النبي لواحد مِن أُمته، ومثَّله بـ {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65].
وحاصل هذه المسألة: أن الخطاب الخاص بواحد من الأُمة إنِ اقترن بما يخص ذلك الواحد، فلا يكون غيرُه مِثله في ذلك الحكم، كحديث أبي بردة في العناق في "الصحيحين":"تجزئك، ولن تجزئ عن أحد بعدك"
(1)
.
نعم، رخص النبي صلى الله عليه وسلم في العناق أيضًا لزيد بن خالد الجهني كما في أبي داود
(2)
، ولعقبة بن عامر كما في "الصحيحين"
(3)
، وربما قال:"ولن تجزئ عن أحد بعدك". وهو محمول على تخصيص لعموم بعد تخصيص.
وإنْ لم يقترن بما يدل على اختصاص المخاطَب به فالأصح مِن المذاهب أنَّه لا يتناول
(1)
صحيح البخاري (912)، صحيح مسلم (1961).
(2)
في سنن أبي داود (2798): (عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَأَعْطَانِي عَتُودًا جَذَعًا. قَالَ: فَرَجَعْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ جَذَع. قَالَ: "ضَحِّ بِهِ". فَضَحَّيْتُ بِهِ).
قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 2798).
(3)
صحيح البخاري (2178)، صحيح مسلم (1965)، ولفظ البخاري:(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ أَنْتَ").
غيره من الأُمة إلَّا بدليل، وهو قول الجمهور.
ونَص عليه الشَّافعي، فقال الإمام في "النهاية" في "باب الرضاع":(وقد أشار الشَّافعي إلى تَصرُّف في حديث سالم رمز إليه المزني، وهو أن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختص بشخص في حكاية حال، فحُكْم الصيغة اختصاص الحكم بالمخاطَب. وإذا قضينا بأن الناس في الشرع واحد فإنما هو مُتلَقّى من إجماع الصحابة لما يشاهدونه من قرائن الأحوال الدالة على عدم الاختصاص).
قال: (واضطرب رأيهم في قضية سالم في التخصيص واللفظ في نفسه مختص بالمخاطَب، فلم يَجُز تعميم الحكم، لاسيما إذا اعتقد خلافه مما يستقل دليلًا)
(1)
. انتهى
القول الثاني: ويُعْزى للحنابلة، صرح به القاضي أَبو يعلى منهم وغيره: أنَّه عام بنفسه. إلَّا أن كلام القاضي يقتضي أنَّه عام بالشرع، لا بوضع اللغة؛ للقطع باختصاصه لغةً.
وحكى ابن القطان من أصحابنا هذين القولين وجهين لأصحابنا، قال: والأكثرون على الأول، والثاني: أنَّه للعموم؛ بدليل حديث: "حُكمي على الواحد حُكمي على الجماعة"
(2)
.
وحكى الأستاذ أَبو منصور خلافًا لأصحابنا أن العموم لغير الواحد هل هو بالقياس؟ أو بحديث "حُكمي على الواحد"؟ وقال: إن الأول قول ابن سريج.
فيخرج مِن قول الإمام: (إنه بالإجماع) ومن هذين ثلاثةُ آراء في جهة العموم.
(1)
نهاية المطلب (15/ 353).
(2)
قال الإمام السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 314): (ليس له أصل كما قاله العراقي في تخريجه، وسُئل عنه المزي والذهبي فأنكراه، وللترمذي والنَّسائي من حديث أميمة ابنة رقيقة: "ما قولي لامرأة واحدة إلَّا كقولي لمائة امرأة" لفظ النَّسائي، وقال التِّرمِذي: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة").
وفي كلام الإمام أيضًا ما يُشعر برابع، وهو أنَّه بمقتضى عُرْف الشرع.
وفي كلام غيره إطلاق أنَّه بالعُرف، حتَّى إنَّ الإمام قال: لا ينبغي أن يكون لهذا الخلاف حقيقة.
وخالفه المقترح وغيره، وقالوا: الخلاف معنوي.
والقول الثالث في الأصل وبه قال أَبو الخطاب [من]
(1)
الحنابلة: أنَّه إنْ وقع جوابًا لسؤال كقول الأعرابي: "واقعتُ أهلي في رمضان"
(2)
فقال: "أَعْتِق"، كان عامًّا، وإلَّا فلا، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"مروا أبا بكر فليُصَلِّ بالناس"
(3)
، فلا يدخل فيه غير أبي بكر. وكذا قوله في المبارزة:"يا فلان، قُم فبارز"
(4)
.
قال: و (كذلك إذا حَكم صلى الله عليه وسلم في حادثة بين نَفْسَين، كان واجبًا على كل أَحد أن يحكم عليه بمثل تلك الحادثة. فهذا لا أعلم فيه خلافًا)
(5)
. انتهى
(1)
كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (س، ض، ت): و.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
صحيح البخاري (633)، صحيح مسلم (418).
(4)
الذي في السنن الكبرى للبيهقي (18124) بلفظ: (قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُمْ يَا حَمْزَة، قُمْ يَا عَليّ، قُمْ يَا عُبَيْدَة،
…
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ عُتْبَةَ
…
) الحديث. وبنحوه في: مسند أحمد (948)، سنن أبي داود (2665)، مستدرك الحاكم (4882) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2665).
(5)
التمهيد في أصول الفقه (1/ 276).
تنبيهات
الأول: حديث: "حُكمي على الواحد حُكمي على الجماعة" لا يُعرف بهذا اللفظ، وسُئل عنه المِزِّي والذهبي، فقالا ذلك.
نعم، معناه ثابت، فروى التِّرمِذي والنَّسائي من حديث مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء من المهاجرات نبايعه، فقال:"إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلَّا كقولي لمائة امرأة"
(1)
. وقال التِّرمِذي حسن صحيح.
الثاني: إذا قُلنا بعموم خطاب الواحد وأن ذلك بِعُرف الشرع حتَّى يصير إذا تلفظ بالواحد، كان المراد به كل أحد عمومًا، وإنْ كان مجازًا إلَّا أنَّه صار حقيقة شرعية أو عُرفية، تَفَرع عن ذلك مسائل:
منها: ما حكاه الرافعي عن أبي العباس الروياني: (أن الرجُل إذا قال: "متَى قلتُ لامرأتي: أنت علَيَّ حرام، فإني أريد به الطلاق"، ثم قال لها بعد مُدة:"أنت علَيَّ حرام"، يحتمل وجهين:
أحدهما: الحمل على الطلاق؛ لكلامه السابق.
والثاني: أنَّه كما لو ابتدأ به؛ لاحتمال أن نيته تغيرت)
(2)
.
(1)
مسند أحمد (27051)، سنن التِّرمِذي (1597)، سنن النَّسائي (4181)، وغيرها. قال الألباني: إسناده صحيح. (السلسلة الصحيحة: 529).
(2)
العزيز شرح الوجيز (8/ 525).
وإنه يقتضي أنَّها لو لم تتغير، يُحمل على الطلاق جزمًا.
ويشبه المسألة ما لو ذكرا صداقًا في السر وصداقًا بالعلانية، وكذا إذا استعملا لفظ "المفاوضة" وأرادا "شركة العنان"، فإنه جائز على المنصوص.
وكل هذه المسائل مما يؤيد قول العموم لغير المخاطَب الواحد بالعُرف أو بغيره كما سبق، فإنه قوي وإنْ كان المرجَّح خلافه.
الثالث: "النداء" في هذه المسائل ليس بقيد، بل على سبيل المثال، وكذا الخطاب؛ إذَ المراد الحكم كيف كان. والله أعلم.
ص:
607 -
وَفي الْخِطَاب يَدْخُلُ الْمُخَاطِبُ
…
في خَبَرٍ يَعُمُّهُ، وَالْوَاجِب
608 -
أَخْذٌ مِنَ الأَنوَاعِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
…
في آيَةِ الْأَخْذِ لِفَرْضِ مَالِهِمْ
الشرح:
أي: ومن الصُّوَر التي اختُلف في محل العموم فيها هاتان المسألتان:
الأُولي: أنَّ المخاطِب (بكسر الطاء) داخل - على الأرجح من المذاهب - في عموم متعلق خطابه إذا كان صالحًا له وكان خبرًا، لا أمرًا ولا نهيًا، أما الآمِر والناهي فغير داخلين في أمر ونهي بصيغة تَعُمهما كما سبق مبسوطًا في باب الأمر والنهي.
سواء أكان ذلك الخبر إخبارًا:
- عن أمر ونهي، كما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله أمر بكذا"، أو:"نهى عن كذا".
- أو عن غيرهما، كقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن قال لا إله إلَّا الله خالصًا من قلبه، دخل الجنَّةَ"
(1)
، "مَن أحيا أرضًا ميتة، فهي له"
(2)
.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] إذا قلنا بصحة إطلاق لفظ "شيء" عليه تعالى، وكذا:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شّيْءٍ} [الرعد: 16] فإنه وإنْ دخل لفظًا بناء على هذه القاعدة لكنه خارج قطعًا؛ إما بالعقل أو بغير ذلك كما سنذكره في مسألة التخصيص بالعقل.
وخرج بقيد "أن يكون اللفظ صالحًا لدخوله فيه" ما إذا كان بلفظ المخاطبة: نحو: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"
(3)
. بل ولو قُلنا في الأمر والنهي: إن الآمِر والناهي يدخلان فيهما لكن إذا كان بلفظ الخطاب لا يدخلان، نحو:"لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول"
(4)
. بخلاف نحو: "من نام فليتوضأ"
(5)
، فإن القائل بدخول الآمِر والناهي يقول هنا بالشمول.
نعم، الخلاف في الخبر وفي الأمر والنهي محله إذا لم يَقُم دليل على الدخول في الحكم، فإنْ كان كذلك فالشمول بذلك الدليل قطعًا.
واعلَم أنَّه يجري مع وجود لفظ الخطاب ما سبق مِن خلاف الحنابلة في أن الخطاب مع
(1)
مسند أحمد (22113)، صحيح ابن حبان (200) وغيرهما، ولفظ ابن حبان:(مَنْ شَهِدَ انْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 200).
(2)
سنن أبي داود (3073)، سنن الترمذي (1378) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1550).
(3)
صحيح البخاري (5757)، صحيح مسلم (1646).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سنن أبي داود (203)، سنن ابن ماجة (477)، وغيرهما. قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 113).
الموجودين يتناول مَن بعدهم بغير دليل منفصل.
وقد سبق في باب الأوامر والنواهي أن مقتضى كلام الرافعي والنووي في مسائل من "الطلاق" أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولو كان غير آمرٍ وناهٍ على الأصح.
ومما لم يسبق ما قاله أصحابنا فيما لو وقف على الفقراء ثم صار فقيرًا، هل يجوز له الأخذ؟ والأصح نعم، وقيل: لا، لأن مطلق الوقف ينصرف إلى غير الواقف.
وهذا وإن لم يكن فيه خطاب لكن الخلاف في الحقيقة في أن المتكلِّم بكلام يشمله: هل يدخل فيه؟ أو لا؟ سواء أكان هناك خطاب أو لا كما عُلم ذلك مِن الأمثلة السابقة.
وكثير من الأصوليين يعبر بذلك، وكثير يعبرون بِـ "المخاطِب" كما عبَّر به ابن الحاجب وغيره، وجرينا عليه في النَّظم، وكأنَّ النظر فيه إلى معنى الخطاب وإنْ لم يكن صيغة خطاب. فتأمله.
تنبيهات
الأول: وقع بحث في أن جبريل عليه السلام هل يدخل فيما [يُبلغه للنبي]
(1)
صلى الله عليه وسلم من التكليف؟
والتحقيق نعم فيما يحتاج لفعل، كإمامته به في اليومين، وأما غيره فمأمور بتبليغه إياه فقط.
الثاني: المخاطَب (بفتح الطاء) هل يجري فيه الخلاف في المكسور؟
قال الشيخ جمال الدين في كتاب "التمهيد": لا يَبعُد تخريجه فيه. وفرع عليه لو قال:
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يبلغ به النبي.
"أعطِ هذا لمن شئت"، أو:"اصنع فيه ما شئت"، فليس له أخذه. ولو قال:"وكَّلتُك في إبراء غرمائي" وكان هو منهم، لم يدخل
(1)
.
وعلَّله القاضي أَبو الطيب بقوله: لأن المذهب الصحيح أن المخاطَب لا يدخل في عموم أمر المخاطِب له.
وذكر فروعًا غير ذلك.
وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يرد كون هذا قاعدة وتخريجها على مسألة المخاطِب (بالكسر)، وكتب بخطه:(إنه لا خلاف بين العلماء - بل بين الناس - مطلقًا في المخاطب بنحو "قوموا" أن كل مَن خوطِب به داخل. فإنْ كان الخطاب بنحو "مَنْ" و"الذين" فلا خلاف في الدخول أيضًا، نحو: "مَن رد عبدي فلَهُ كذا"، "مَن دخل الدار من نسائي فهي طالق"، فالمخاطب بذلك ونحوه داخل قطعًا، ولا يتخرج على المخاطِب - بالكسر - لأن المنع في ذلك لأن الشخص لا يخاطِب نفسه، فالقرينة فيه ظاهرة. والخلاف في الفروع المذكورة إنما هو لمدْرَك آخَر، وهو اقتضاء الحال أن لا يدخل المخاطب بما خوطب به لتهمة أو نحوها من القرائن، لا أن المخاطب هل يدخل في الخطاب؟ فإنه متناقض). انتهى ملخصًا.
وتعقب أيضًا الفروع المذكورة بما يطول ذِكره، وفي هذه الإشارة كفاية.
قلتُ: لكن كلام القاضي أبي الطيب السابق ذِكره أن المدرك هذا، وأن الخلاف منقول، وأن الراجح فيه عدم الدخول، إلَّا أنْ يُحمل على أن مراده بكونه لا يدخل في عموم أمر المخاطب له - لقرينة أنَّه لَمَّا لم يصرح المتكلم بإدخاله بالخطاب، كان المراد غيره.
قيل: وهذه المسألة هي مسألة: أوامر الله تعالى العامة هل يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم؟
(1)
التمهيد للإسنوي (ص 353).
وقد سبق أن الصحيح الدخول.
المسألة الثانية:
ذهب الجمهور إلى أن مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع إلَّا أن يُخص بدليل من السنة.
وهو ما نص عليه الشَّافعي في "الرسالة"، إذ قال بعد ذِكر الآية ما نصه:(وكان مخرج الآية عامًّا على الأموال، وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون بعض، فدلَّت السّنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض)
(1)
.
وقال في موضع آخر: (ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء، وأن الزكاة في جميعها، لا في بعضها دون بعض)
(2)
.
ونُقل عن نَص البويطي نحوه؛ ولهذا احتج بها أصحابنا على وجوب الزكاة في مال التجارة وعلى أخذ الشاة الصغيرة من الصغار، ونحو ذلك.
ومَن يرى العموم يستدل بها في كل نوع اختُلف في الزكاة فيه إلَّا أن يخرج مِن دلالة السُّنة المنع فيه.
ونُقل عن الشَّافعي أنَّه نَص في موضع آخَر على أن الآية من المجمَل الذي بيَّنته السّنة، وربما حمل نصه الأول على أنَّه أراد ذلك؛ لأن آخِره يقتضي احتمال الأمرين، إلَّا أن يقال: إنه إنما ذكره لكونه مرجوحًا بالنسبة إلى الأول، والإجمال شرطه التساوي.
وبالجملة فالقولان هنا كالقولين المنقولين عنه في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:
(1)
الرسالة (ص 187).
(2)
الرسالة (ص 196).
43] وفي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، مع قولين آخرين، وفي غير ذلك أيضًا.
وعلى قول الإجمال فلا يُستدل بها على مختلَف فيه إلَّا بدليل على شمول الآية له.
ونُقل عن الكرخي من الحنفية أن مقتضى الآية إنما هو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد.
ورجحه ابن الحاجب حيث قال خلافا للأكثر: (لنا: أنَّه بصدقة واحدة يَصْدُق أنَّه أخذ منها صدقة، فيلزم الامتثال. وأيضًا فإن كل دينار مال، ولا يجب ذلك بإجماع)
(1)
. انتهى
وقد أُجيب:
- عن الأول بمنع صِدق ذلك؛ لأن "أموالهم" جمع مضاف، فكان عامًّا في كل نوع نوع وفرد فرد، إلَّا ما خرج بالسُّنة كما أشار إليه الشَّافعي.
- وعن الثاني بأن المراد: عن كل نصاب نصاب كما بيَّنته السُّنة.
ومما ذكر احتجاجًا للكرخي: أنَّ "مِن" في الآية للتبعيض ولو كانت الآية عامة، والتبعيض يَصْدُق ببعض المجموع ولو مِن نوع واحد.
وجوابه أن التبعيض في العام إنما يكون باعتبار تبعيض كل جزئي جزئي منه، فلا بُدَّ أن يكون مأخوذًا مِن كل نصاب؛ إذ لو أسقطت "مِن" لكان المال يؤخذ كله صَدَقة.
نعم، أجاب القرافي عن شُبهة الكرخي بأن "مِن" لا بُدَّ مِن تَعلُّقها بمحذوف، والأصل:"خذ صدقة كائنة من أموالهم"، فلمَّا قدم الجار والمجرور، كان في محل نَصب على الحال مِن المفعول، فلو أريد الخصوص، كانت الصدقة كائنة من بعض أموالهم، لا مِن كلها،
(1)
مختصر المنتهى (2/ 228) مع بيان المختصر.
وهو خلاف قضية أنَّها كائنة من أموالهم.
وفيه نظر؛ لأن وجود كونها بعض أموالهم يَصدق ولو كان بعض نوع منها.
ولعلَّ ما قاله القرافي هو الحامل لبعضهم على قوله: إن الجار إنْ كان متعلقًا بالفعل وهو "خُذ"، رجح قول الكرخي؛ لأن "صدقة" نكِرة في إثبات، فيحصل الامتثال بصَدقة واحدة مِن نوع. وإنْ تعلَّق بصفة "صَدقة" فيقوى قول الجمهور؛ لأنها إنما تكون من أموالهم إذا كانت مِن كل نوع نوع.
وفيه النظر السابق.
عَلَى أن أبا بكر الرازي - من الحنفية - نقل في كتابه عن شيخه أبي الحسن الكرخي أن الآية تقتضي أخذ الحقِّ مِن سائر أصناف الأموال.
فعَلَى هذا لا يبقى خلاف.
وأما الآمدي فتوقف في المسألة فلم يرجح شيئا، إذ قال في آخر كلامه:(وبالجملة فهي محتملة، ومأخذ الكرخي دقيق)
(1)
.
فائدة:
استنبط ابن حبان في صحيحه دليلًا لمقالة الكرخي السابقة من حديث: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة"
(2)
، فقال:(هذا يبين أن المراد مِن قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] أن المراد به بعض المال؛ إذ اسم"المال" يقع على ما دُون الخمس مِن ذلك، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب الصدقة عن ما دُون الذي أخذ)
(3)
. انتهى
(1)
الإحكام للآمدي (2/ 298).
(2)
صحيح البخاري (1340)، صحيح مسلم (979)، صحيح ابن حبان (3268).
(3)
صحيح ابن حبان (8/ 62).
ولا يخلو مِن نَظَر؛ فإن التخصيص يَطرق العام ولا ينفِي كونه عامًّا، بل يصير عامًّا مخصَّصًا. وقد سبق نحو هذه الشبهة في كلام ابن الحاجب والجواب عنها، والله أعلم.
فائدة:
609 -
لِلشَّافِعِيِّ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ
…
يُنْزَلُ [كَالْعُمُومِ في الْمَقَالِ]
(1)
610 -
لَكِنْ لَهُ: وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ
…
إذَا تَطَرُّقٌ لِلاحْتِمَالِ
611 -
فِيهَا، [اكتَسَتْ]
(2)
ثَوْبًا مِنَ الْإجْمَالِ
…
وَسَقَطَ الْأَخْذُ بِالِاسْتِدْلَالِ
612 -
وَالْجَمْعُ قَالَ شَيْخُنَا: في الْأُولَى
…
لَفْظٌ وَذِي فِعْلٌ، فَهَذَا الْأَوْلَى
الشرح:
هذه أيضًا مِن المواضع التي يبحث عن اقتضاء العموم فيها، ومَن يُثبته يجعله نوعًا خارجًا عما سبق من صيغ العموم.
وإنَّما أفردته بالترجمة؛ لأنه من أصول إمامنا الشَّافعي الذي ذكره بأبلغ عبارة وأجمعها. وله عبارة أخرى ربما تُوهِم مخالفتها، فأوضحتها، وبيَّنتُ أنَّه لا تنافي بينهما على المرجَّح.
فأما العبارة الأولى فقد اشتهرت عنه ونقلها إمام مذهبه إمام الحرمين، وهي:"تَرْك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال - يُنَزَّل مَنزلة العموم في المقال".
ومعناها أن الشارع صلى الله عليه وسلم إذا حَكم بأمر في واقعة اطَّلع عليها إما بسؤال سائل أو بغير ذلك وهي تحتمل وقوعها على وجه من وجهين أو وجوه، يكون ما حَكم به صلى الله عليه وسلم عامًّا في كل محتملاتها، وكأنه تَلفَّظ بعمومه فيها.
(1)
في (س، ت): في العموم كالمقال.
(2)
في (ض، من، ت): اكتسب.
فمن ذلك: أن غيلان بن سلمة الثقفي أَسلم وعنده عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أمسك أربعًا، وفارق سائرهن"
(1)
. رواه الشَّافعي من حديث معمر، عن الزُّهْريّ، عن سالم، عن أبيه. وكذا التِّرمِذي بلفظ:"فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعًا ويترك سائرهن"
(2)
. ورواه أيضًا ابن ماجة والبيهقي، وأخرجه ابن حبان والحاكم.
وما نقله التِّرمِذي عن البخاري - من كونه غير محفوظ من تلك الجهة - يُعارضه تصحيح الأئمة له وما له من الشواهد.
واعلم أنَّه وقع في "النهاية" للإمام وتبعه الغزالي في "وسيطه" وفي "المستصفى" وتبعه الإمام الرازي في "المحصول" وكثير من أتباعهما وبعض "شراح البيضاوي" وافقهم أن صاحب هذه الواقعة ابن غيلان.
وهو غلط؛ فليس في الصحابة ابن غيلان.
نعم، في الرواة ابن عيلان (بالمهملة)، وهو قيس بن عيلان بن مضر، وزفر بن عيلان. وكأن هذا هو الحامل لابن الحاجب بعد قوله في "المختصر":(إنه ابن عيلان). ضبطه بخطه بالمهملة، ذكره في باب "الظاهر والمؤول" في التأويلات البعيدة.
فأخذ الشَّافعي من هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم على أكثر من العدد الشرعي، عليه أن يختار العدد الشرعي من الكل ولو مع تأخُّر العقد عليهن عن المتروكات
(3)
؛ لعدم
(1)
صحيح ابن حبان (4157)، سنن البيهقي الكبرى (13819) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 4145).
(2)
سنن التِّرمِذي (1128)، سنن ابن ماجة (1953) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن التِّرمِذي: 1128).
(3)
يعني: التي اختارها كان عقد نكاحها متأخِّرًا عن عقد التي تركها.
استفصال النبي صلى الله عليه وسلم عن كونه عقد على الكل مغا أو مرتَّبًّا؛ تنزيلًا لذلك منزلة التنصيص على عمومه في الأحوال كلها، وإلَّا لكان تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة.
ونحو ذلك: ما رواه أَبو داود عن هُشَيم، عن ابن أبي ليلى، عن [حُمَيْضَة]
(1)
بنت الشمردل، عن قيس بن الحارث:"أَنَّهُ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ ثَمانِ نِسْوَة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا"
(2)
. وإسناده حسن، وله إسناد آخر يَقوى به.
وأخرج البيهقي بسنده عن عروة بن مسعود قال: (أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي عَشر نِسْوَة، أربع منهن من قريش، إحداهن بنت أبي سفيان، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَخَلِّ سَائِرَهُنَّ"). قال: (فَاخْتَرْتُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، منهن ابنة أَبِي سُفْيَانَ)
(3)
. رجاله ثقات إلَّا أن فيه إرسالًا.
وروى الشَّافعي والبيهقي بسند غير قوي من حديث عمرو بن الحارث، عن نوفل بن معاوية، قال:(أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "فَارِقْ وَاحِدَةً، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا"). قال: (فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي عَاقِر مُنْذُ سِتينَ سَنَةً، فَفَارَقْتُهَا)
(4)
.
(1)
في جميع النسخ: خميصة. والصواب: حميضة.
(2)
سنن أبو داود (2241)، سنن ابن ماجة (1952). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2241).
(3)
سنن البيهقي الكبرى (13833). قال الألباني في (إرواء الغليل: 1883): (أخرجه الحافظ ابن المظفر .. والبيهقى .. والضياء المقدسى .. من طريق محمد بن عبيد الله، عن عروة، به، وقال المقدسى: رجاله ثقات، إلَّا أن عروة الثقفى قتلته ثقيف فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن عبيد الله لم يدركه).
(4)
مسند الشَّافعي (ص 274، رقم: 1316)، سنن البيهقي الكبرى (13835). قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 1884).
وكذا عمم الشَّافعي الحكم في الأختين؛ لحديث فيروز الديلمي أنَّه أسلم وتحته أختان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اختر أيتهما شئت"
(1)
. رواه أحمد والتِّرمِذي وابن ماجة.
وخالف أَبو حنيفة في جَعْلِ ترك الاستفصال كالعام، وقال: إنه لم يقع في الواقعة إلَّا حالة واحدة، فإنْ دَلَّ على خصوص حاله دليل، فهو، وإلَّا [فمُجمَل]
(2)
إلى قيام دليل على كيفية الوقوع. ووافقه أصحابه سوى محمد بن الحسن؛ فإنه استحسن مقالة الشَّافعي.
ثم أوَّل أصحابه هذه الأحاديث إما على أنَّه صلى الله عليه وسلم علم أن عَقد كل واحد ممن خَيَّره كان على كل نسائه معًا، لا مُرتَّبًا، وإما أنَّه مُرتَّب ولكن قوله له:"أمسك أربعًا" معناه: ابتدئ نكاح أربع. أو أن المراد: اختر أربعًا أوائل، أو غير ذلك من التأويلات البعيدة.
والقول بالعموم أقرب من ذلك كله؛ فقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستفسر في القضايا؛ حتَّى لا يدع ريبةً ولا إشكالًا.
ففي قصة ماعز لما قال: (زنيت)، قال له:"كيف كذا؟ أَبِكَ جنون؟ هل أحصنت؟ "
(3)
. وغير ذلك من السؤالات الواقعة في حديثه في "الصحيحين" وغيرهما. وفي "البخاري": "لعلك قَبَّلْتَ أو غَمَزتَ"
(4)
.
وفي ابن حبان: "هل تدري ما الزنا"
(5)
.
(1)
سنن التِّرمِذي (1129)، سنن ابن ماجة (1951). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن التِّرمِذي: 1129).
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فمحتمل.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 6430)، صحيح مسلم (رقم: 1691).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 6438).
(5)
صحيح ابن حبان (4399)، سنن أبي داود (رقم: 4428)، سنن النَّسائي الكبرى (7165) وغيرها.=
وفي حديث: علقمة بن وائل في "مسلم" في الرجل الذي جاء يقود آخر بنَسعَة وقال: هذا قتل أخي. فقال: "أقتلته؟ " قال: نعم. قال: "كيف قتلته؟ " فذكر له كيف وقع
(1)
.
وفي حديث المجامع في رمضان: "هل تجد؟ هل تجد؟ "
(2)
.
وفي حديث بيع الرطب بالتمر لَمَّا سُئل عنه، صححه التِّرمِذي وغيره:"أينقص الرطب إذا جف؟ "
(3)
.
وغير ذلك مما لا ينحصر، مع أن بعضه ليس فيه حد ولا قصاص حتَّى يُدَّعى أن الاستفسار إنما هو للاحتياط فيهما.
ومما يُبعِد نفي القول بالعموم: كيف يخاطِب النبي صلى الله عليه وسلم بالتخيير مَن هو متجدد في الإسلام وغريب مِن غير سبق بيان لشرائط النكاح مع أن الحاجة داعية إليه؛ لِقُرب عهده بالإسلام؟ "
وأَبْعَد منه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يعرف كُلَّ حالة مِن حالات كل مَن خَيَّره، ولأن العقود فيها وقَعَت معًا، أو يعرف القديمات مِن الجديدات، ويصرح بالاختيار ومراده التعيين للقديمات، لاسيما وحديث الأختين فيه:"اختر أيتهما شئت"، فعلَّق بمشيئته. وتقريره مَن عمد إلى أقدم مَن عنده ففارقها واختار غيرها، وأنه فَهِم ذلك من قوله قوله:"اختر من شئت" الذي
= قال الألباني: ضعيف. (التعليقات الحسان: 4383).
(1)
صحيح مسلم (رقم: 1680).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 1834)، صحيح مسلم (رقم: 1111).
(3)
شرح معاني الآثار (4/ 6، رقم: 5076). وهو في: سنن التِّرمِذي (رقم: 1225)، سنن أبي داود (رقم: 3359) وغيرهما بلفظ: (أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ ). قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1352).
تضمنه قوله: "فَارِقْ وَاحِدَةً، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا".
فإن قيل: كيف يثبت العموم بغير صيغة؟
قيل: الشَّافعي إنما قال: (يُنزل منزلة العموم). وهذا كما قال في المشترك في كونه يُحمل على معانيه: (إنه كالعام)، ولم يَقُل: إنه عام.
نعم، هو عكس إخراج صيغة العموم عن عمومها بالقرينة (كما سبق في مسائل، وكما سيأتي) على رأْي في العام على سبب، لكن المرجَّح في الوارد على سبب أنَّه باقٍ على عمومه، يُفرَّق بينه وبين هذا بأن تخصيص العام أصعب من تعميم الخاص.
تنبيهات
الأول: قَيَّد إمام الحرمين وابن القشيري القول في ترك الاستفصال بالعموم بأن يظهر استبهام الحال على الشارع. فإن عُلم بحال الواقعة، نَزل جوابه على وَفْقها ولا عموم.
قال: (كما يجري كثير من الفتاوى على مثل ذلك).
قلتُ: هذا في الحقيقة بيان لصورة المسألة، لا تقييد. ألا ترى إلى قول الشَّافعي:(تَطرَّق إليها الاحتمال)؛ فإنَّ ما عَلِم به لم يَبْق فيه احتمال.
ونحو ذلك ما حكى الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام" عن بعضهم أنَّه زاد في القاعدة أنَّه عام في واقعة سُئل عنها ولم تقع بعد، فإنْ وَقَعت وعُلِم حالها فلا عموم، بل الجواب واقعٌ على ما علِم. وإن التبس علينا أَعَلِمَ؟ أو لا؟ فالوقف.
وذكر الأبياري هذه الأقسام الثلاثة، غير أنَّه قال في الثالث: (إنه إنْ عُلم استبهامه على النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة، فالحمل على العموم باتفاق، وإنْ لم يُعلم استبهامه عليه، فالالتفات إلى القيد الوجودي يمنع القضاء على الأحوال كلها، وهو مُدرك أبي حنيفة، والالتفات إلى
الإطلاق في السؤال ونحوه يقتضي استيفاء الأحوال)
(1)
.
أي: وإلا لكان إطلاقًا في موضع التقييد، أو إبهامًا في موضع البيان المحتاج إليه.
الثاني:
قال الأستاذ أَبو منصور: وافقنا أهل الرأي على جَعْلِه كالعام في جنين الحرة حيث أوجب فيه صلى الله عليه وسلم غرة عَبد أو أَمَة ولم يسأل أَذَكَر هو؟ أم أنثى؟
قال الحافظ العلائي: وكذا حديث أم سلمة في المرأة التي كانت تهراق الدماء، فاستفتت لها أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أنْ يُصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قَدْر ذلك"
(2)
الحديث. فأطلق الجواب باعتبار العادة مِن غير استفسار عن أحوال الدم، فكان مُقدَّمًا على التمييز.
لكن المرجَّح عندنا تقديم التمييز؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش مرفوعًا: "دم الحيض أَسود يُعْرَف، فإذا كان ذلك، فأَمْسِكي عن الصلاة"
(3)
الحديث.
ومن الحمل على العموم: حديث الأعمى الذي كانت أم ولده تقع فيه صلى الله عليه وسلم؛ فقتلها، فلما ذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم، قال:"اشهدوا أن دمها هدر"
(4)
. فاحتج به المالكية على عموم تحتم قتل
(1)
التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 7 - 9).
(2)
سنن النَّسائي (رقم: 208)، سنن أبي داود (رقم: 274) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 274).
(3)
سنن أبي داود (رقم: 286)، سنن النَّسائي (215)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 204)
(4)
سنن أبي داود (رقم: 4361)، سنن النَّسائي (4070)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4361).
المتعرض لجنابه صلى الله عليه وسلم ولو تاب؛ لأنه لم يستفسره، وكذلك قال أحمد؛ لأنه لم يسأل سيدها هل استتابها فتابت؟ أو لا؟ فيعُم وجوب القتل الحالين.
الثالث:
تقرير النبي صلى الله عليه وسلم في الواقعة بمنزلة صريح جوابه حتَّى يكون عامًّا، كما قال ابن دقيق العيد: إن الأقرب تنزيله على ذلك؛ طردًا للقاعدة، ولإقامة التقرير مقام الحكم عند الأصوليين.
و[هكذا الحديث]
(1)
: "إنَّا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإنْ توضأنا به، عطشنا"
(2)
يستدل به على أن إعداد الماء الكافي للطهارة بعد دخول الوقت مع القدرة عليه غير لازم؛ لأنهم أخبروا أنهم يحملون القليل من الماء، وهو محتمل أن يكون للعجز وأن يكون مع القدرة، ولم ينكر عليهم؛ فَيَعُم؛ لترك الاستفصال.
الرابع:
إذا ثبت عمومه، فقد يَطرقه التخصيص، وقد يُخصَّص به ما هو أعم منه:
فالأول: كحديث المرأة التي أراد زوجها أن يأخذ منها ابنها، فقال لها:"أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي"
(3)
. ولم يُفصِّل بين سِن وسِن؛ فيُخَص بحديث الذي خيَّره فيه؛ لتمييزه.
(1)
في (ت): هذا كحديث. وفي (ش): هكذا كحديث.
(2)
سنن أبي داود (رقم: 83)، سنن التِّرمِذي (69)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 83).
(3)
مسند أحمد (6893)، سنن أبي داود (رقم: 2276) وغيرهما. قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 2276).
والثاني: كحديث "إنَّ أُمي توفيت، أفينفعها إنْ تَصدقت عنها؟ قال: نعم"
(1)
. ولم يستفسره هل أوصت بذلك؟ أوْ لا؟ فيُخَص به - مع عمومه - حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث"
(2)
الذي هو أعم من الصدقة وغيرها.
الخامس:
قد يُستشكل على الشَّافعية عدم العمل بعموم إيجابه صلى الله عليه وسلم الكفارة على المجامع في رمضان
(3)
ولم يستفسره عن كونه مُقيمًا أو مُسافرًا، عامدًا أو ناسيًا، مفسدًا بالجماع أو لا، ونحوه مما قُيِّد به إيجاب الكفارة.
وجوابه: أن ذلك مفهوم من قوله: (هلكت وأهلكت)، فإنه يدل على اجتماع الشروط.
وكُل موضع يُتخَيل فيه المخالفة إذا تأمله المنصف، يجد فيه قرينة المنع من العموم.
السادس:
إذا كان بعض حالات الواقعة نادرًا، فقضية كلام المقترح أنَّها لا تدخل في العموم، لأن العموم فيها ضعيف.
لكن الظاهر الدخول إذا قلنا بدخول النادر تحت اللفظ العام. بل قيل: يدخل قطعًا؛ لجواز أن يكون هو الواقع في الواقعة.
نعم، قضية كلام الرافعي أيضًا عدم الدخول؛ إذْ قال في اختلاع الحائض لَمَّا استدل
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2605)، سنن أبي داود (رقم: 2882)، سنن التِّرمِذي (669) وغيرهما.
(2)
سنن التِّرمِذي (رقم: 1376)، سنن النَّسائي (3651)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن التِّرمِذي: 1376).
(3)
سبق تخريجه.
بقصة امرأة ثابت في خلع الحائض: (إن الحيض ليس بأمر نادر)
(1)
.
فإن مفهومه أنَّه لو كان أمرًا نادرًا، لَمْ يَعُمه الحكم.
وقال ابن دقيق العيد في حديث سبيعة الأسلمية لما أخبرته بوضع حملها، قالت:"فأفتاني أني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إنْ بَدَا لي"
(2)
: (إن بعضهم استدل به على انقضاء العدة بوضع الحمل على أي وجه كان، مُضغة أو عَلَقة، استبان فيه التخلق أم لا؛ لعدم الاستفصال).
قال: (وهو ضعيف لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع العَلَقة والمضغة نادر).
قال: (وإنَّما تقوى القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض)
(3)
. انتهى
وقولي: (لَكِنْ لَهُ: وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ) إلى آخره - إشارة إلى أن للشافعي عبارة أخرى نُقِلت عنه وهي أيضًا مما يليق بفصاحته رضي الله عنه، ظاهرها مُخَالَفَةُ ما سبق، وهي:"وقائع الأحوال إذا تَطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال".
فإنَّ مفهومها أن المحتمِلَ من الوقائع لوجهين أو وجوه - مُجْمَلٌ، لا عام؛ لتعارض الاحتمالات من غير ترجيح.
قال القرافي: (سألت بعض الفضلاء الشَّافعية عن ذلك فقال: يحتمل أن يكون للشافعي قولان فيه).
ثم جمع القرافي بينهما بطريقين:
(1)
العزيز شرح الوجيز (8/ 483).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 3770)، صحيح مسلم (رقم: 1484).
(3)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 195).
(أحدهما: أن الأُولى فيما ضَعُف احتماله؛ لأن الاحتمال الضعيف لا يؤثر في دلالة الظواهر؛ لأنها لا تخلو عن احتمال. والثانية فيما قَوِيَ فيه الاحتمال بحيث ساوى الباقي أو قاربَه.
الثاني: أن الأُولى إذا كان الاحتمال في محل الحكم، والثانية فيما إذا كان في دليل الحكم.
فالأول: كقصة غيلان؛ لأن الاحتمال في النسوة، ونحوه:{فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] يحتمل أن تكون سوداء أو بيضاء وغير ذلك من الأوصاف.
والثاني: كحديث: "فيما سقت السماء العشر"
(1)
، يحتمل أن يراد به عموم ما فيه الزكاة حتَّى من الخضروات، ويحتمل أنَّه سِيق لبيان قَدْر المخرج؛ لأن اللفظ إذا خرج لمعنى، لا يُحتج به في غيره. وكحديث المُحْرِم الذي وقع عن راحلته، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تمسوه طِيبًا، ولا تُخمِّروا رأسه"
(2)
يحتمل أن يختص به وأنْ يَعُم كل محُرم)
(3)
. انتهى
وضُعِّفَ الفرقان:
- بأن الاحتمال وإن ضَعُف فهو داخل في العموم، فيحتمل أنَّه المراد دون غيره، فهو - في ذلك - والقوي سواء.
- وأنَّ المحرم الذي مات: الاحتمال فيه في محل الحكم، بل غالب وقائع الأعيان الاحتمال فيها في محل الحكم، لا في دليله.
وجمع الأصفهاني في "شرح المحصول" بأجود من طريقي القرافي، و [كذلك]
(4)
الشيخ
(1)
صحيح البخاري (1412).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 1208)، وفي صحيح مسلم (رقم: 1206).
(3)
نفائس الأصول (2/ 537 - 538)، شرح تنقيح الفصول (ص 187).
(4)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): لم يذكر.
تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" والشيخ تقي الدين السبكي في "باب ما يحرم من النكاح" من"شرح المنهاج"، وهو أن:
الأُولى: فيما إذا كان فيه لفظ للنبي صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان:"أمسك أربعًا" على رواية مَن روى قوله: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن"
(1)
. وكذا في باقي الذين أسلموا كما تَقدم.
والثانية: فيما إذا لم يكن له فيها قول، بل حُكي فِعله فقط، نحو:"قضى بالشفعة للجار"
(2)
. وسبق منه طائفة في مسألة الفعل المثبَت.
وإنَّما كان كذلك، لأن العموم من عوارض اللفظ قطعًا، وفي المعنى خلاف كما سبق أول الباب، فأمكن أن يحال عليه العموم.
نعم، سبق أنَّه ينبغي أن يكون تقرير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كقوله. وقد ذكرنا في " [باب]
(3)
السُّنة" أن التقرير هل هو من قبيل القول؟ أو الفعل؟ فإنما يأتي حمله على العموم إذا قلنا أنَّه كالقول.
وإلى هذا الجمع الثالث أشرت بقولي: (وَالْجَمْعُ قَالَ شَيْخُنَا) إلى آخره، إشارة إلى أن شيخنا شيخ الإسلام أبا حفص البلقيني قال:(إن هذا هو الأَولى في الجمع بين عبارتَي الشَّافعي).
فقولي: (في الْأُولَى) في شَطر البيت بضم الهمزة، أي: العبارة الأُولى.
وقولي في آخِر البيت: (الْأَوْلَى) بفتح الهمزة، أي: الأَرجَح.
وإنما تَعرضتُ لذلك؛ لِمَا كان شيخنا عليه من الاعتناء بنصوص الشَّافعي وممارسة
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
في (س، ت): كتاب.
كلامه.
تنبيهات
الأول: وقع في عبارة الشيخ تقي الدين في "شرح المنهاج" أن الاستدلال في العبارة الأُولى بقول الشارع وعمومه.
وقد يُستشكل بأن محل الخلاف حيث لا يكون ثَمَّ لفظ عام، إلَّا أن يقال: مراده بِـ "قوله وعمومه " على تقدير أن يُجعل عامًّا كما قررناه، لا أن يكون صيغته صيغة عموم.
نعم، قيل: في حديث: "اختر أيتهما شئت" صيغة عموم، وهي "أي" الموصولة.
لكن سبق أن "أيًّا" الموصولة لا عموم فيها. وبتسليم أن يكون فيها عموم فهو من جهة المرأتين، لكن يحتمل أن يكون في حالة نكاحهما مرتبًا أو معًا؛ ولهذا أدخلوه في محل الخلاف.
وأيضًا فعموم الشمول فيه متعذر، إنما عمومه عموم بدل، وإلا لجاز الجمع، وقد قال تعالى في المحرَّم:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23].
الثاني: في ذكر أمثلة - غير ما سبق - تتمهد بها العبارتان، فمنها:
مِن الأولى: حديث ابن عمر في "الصحيحين": أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم أتاه رجل وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله، حلقت قبل أن أرمي. فقال: "ارْمِ ولا حرج". وأتاه آخَر، فقال: ذبحتُ قبل أن أرمي. فقال: "ارْمِ ولا حرج". وأتاه آخر، فقال: أفضت قبل أن أرمي. فقال: "ارْمِ ولا حرج"
(1)
. وفي حديث ابن عبَّاس نحوه.
فقوله: "ولا حرج" شامل للعمد والسهو والعِلم والجهل وغير ذلك من الحالات، وأما
(1)
سبق تخريجه.
الحديث الذي فيه: "لم أَشْعُرْ، ففعلت كذا"
(1)
فتلك واقعة أخرى.
ويكون الأمران مِن ذِكر بعض أفراد [العام]
(2)
، لا أنَّه من المطلق والمقيد فيتقيد بحالة عدم الشعور.
ومنها: حديث الذي كان على خيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فقال له صلى الله عليه وسلم:"أَكُل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ "
(3)
. الحديث. وقال له فيه: "لَا تَفْعَلْ، بِعْ الجْمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا". رواه البخاري. فاحتج به الشَّافعية والحنفية على الجواز، قَبِض أو لم يَقبِض؛ لعدم الاستفسار.
ومنها: حديث ثابت بن قيس: "خذ الحديقة، وطلقها تطليقة"
(4)
. ولم يفصل بين أن تكون حائضا أو لا. وقد سبق، ونحو ذلك، وهو كثير.
ومن الثانية:
حديث؛ "أنَّه كان يغتسل هو وبعض أزواجه من إناء واحد تختلف أيديهما"
(5)
محتمل لكونه مع رشاش ودونه.
ومع الرشاش محتمل أن الواقع قُدِّر، لو قُدِّر مخالفًا لغَيَّر أوْ لا.
والإناء صغير، أو ما فيه قُلَّتان.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 83)، صحيح مسلم (رقم: 1306).
(2)
في (ص، ق): العموم.
(3)
صحيح البخاري (رقم: 2089)، صحيح مسلم (رقم: 1593)، واللفظ للبخاري ولكن بـ (ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيًا).
(4)
صحيح البخاري (رقم: 4971) بلفظ: (اقْبَل الحْدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَة).
(5)
صحيح البخاري (رقم: 258).
وأيضًا فيحتمل أن تتأخر يده صلى الله عليه وسلم عنها أو يدها حتى يُستدل به على الأول للطهارة بفضل مائِها أو لا؛ ولذلك جاء في حديث عائشة أنها قالت: "أَبْقِ لي، أَبْقِ لي". ولم يَرِد أنه قال لها: أَبْقِي لي، أَبْقي لي.
ومنها: ما روي "أن زنجيًّا وقع في بئر زمزم؛ فمات، فأمر ابن عباس بأن تُنزح"
(1)
.
فاستدل به الحنفية على تنجيس الماء الذي بلغ قُلتين وإنْ لم يتغير، بل بمجرد الملاقاة.
وأجاب الشافعي بأنه قد يكون الدم ظهر وغَيَّر، ويحتمل أن نزحها كان [تنظيفًا]
(2)
، لا لأجل التنجيس، وأن يكون احتياطًا؛ لاحتمال التغير؛ فلا يتعيَّن كونه للتنجيس بمجرد الملاقاة.
إلى غير ذلك، وقد ذكر الحافظ العلائي في قواعده طائفة مِن الأمثلة.
الثالث:
قولي: (إذَا تَطَرُّقٌ) أي: إذا حصل أو وُجد؛ لأن "إذَا" تختص بالجُمَل الفعلية.
وقولي: (سَقَطَ الْأَخْذُ بِالِاسْتِدْلَالِ) أي: سقط الأخذ للحُكم منها بسبب الاستدلال؛ فإنه لا دليل فيها؛ لإجمالها. والله أعلم.
* * *
(تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الثالث، وَيلِيه الجزء الرابع، وأوله: التخصيص)
(1)
سنن الدارقطني (1/ 33) بلفظ: (أَنَّ غُلامًا وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ؛ فَنُزِحَتْ). وفي تاريخ ابن أبي خيثمة (1/ 289، رقم: 981) بلفظ: (إِنَّ إِنْسَانًا وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، فَمَاتَ، فَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْعُيُونِ فَسُدَّتْ وَأَنْ يُنْزَحَ الْمَاءُ).
(2)
في (ص، ق): تطييبًا.