الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث في "المُطْلَق" و "المُقَيَّد
"
676 -
" الْمُطْلَقُ" الَّذِي عَلَى الْمَاهِيَّهْ
…
يَدُلُّ دُونَ الْقَيْدِ بِالْكُلِّيَّهْ
677 -
وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ، وَ "النَّكِرَهْ"
…
بِوَحْدَةٍ شَائِعَةٍ مُشْتَهِرَهُ
الشرح:
لَمَّا كان معنى "المطلق" و "المُقَيَّد" قريبًا مِن معنى "العام" و "الخاص" ذُكِرا [عقبهما]
(1)
، بل جعله البيضاوي تذنيبًا داخلًا في باب العام والخاص. أيْ: ذنابة وتتمة له.
و"المطلق": مأخوذ مِن مادة تدور على معنى الانفكاك مِن القيد، ثم صار في عُرْف اللسان حقيقة في اللفظ الآتي بيانه وبيان ضده وهو "المقيد".
فـ "المطلق" عُرفًا: اللفظ الدال على الماهيَّة بلا قَيْد. أي: بلا تقييد بشيء من عوارض الماهية من كثرة ووحدة. وإليه الإشارة بقولي: (دُونَ الْقَيْدِ بِالْكُلِّيَّهْ).
فإنْ قُيِّدت تلك الماهية بكثرة محصورة فالعدد، أو غير محصورة فالعام، أو قيدت بوحدة شائعة فالنكرة، أو مُعيَّنة فالمعرفة.
وقد سبق بيان ذلك في مباحث اللغة في تقسيم القول المفرد. وقد عُلم من هذا أن مفهوم "المطلق كُلي". هذا حاصل معنى كلام الغزالي في "المستصفى" والإمام الرازي
(1)
في (ض، ت): عقيبهما. وفي (س): عقبيهما.
وأتباعه.
ووهم ابن الزملكاني في "البرهان" حيث نقل عن الإِمام أنَّ المطلق والنكرة سواء، وأورد عليه أنَّ عَلَم الجنس -كَـ "أسامة"- يدل على الحقيقة مِن حيث هي وليس بنكرة.
وليس كما نَقل؛ لِمَا سبق مِن النقل عن الإِمام التقسيم المشْعِر بالمغايَرة.
وأيضًا فعَلَم الجنس إنما وُضع للماهية بِقَيْد حضورها في الذهن، لا مِن حيث هي. فكيف يوردها على الإِمام بتقدير أنَّ الإِمام وَحَّد بين المطلق والنكرة؟
نعم، الآمدي وابن الحاجب قالا: إن المطلق الدال على الماهية بقيد الوحدة الشائعة كالنكرة. إلا أنَّ دعوى الآمدي ذلك لقاعدته في إنكار الكُلي الطبيعي، وابن الحاجب وإنْ أَثبته لكنه وافق النحاة في عدم الفرق بين المطلق والنكرة. لكن النحاة إنما سلكوا ذلك [لعدم]
(1)
غرضهم في الفَرق؛ لاشتراكهما في أحكام الألفاظ، كقبول "أن" ونحوه. وقد سبق لذلك مزيد بيان في الفرق بين عَلَم الجنس واسم الجنس.
وأما الأصوليون فنظرهم في تحقيق المعاني، والقَطع بالفرق موجود كما سبق في التقسيم، وكذا الفقهاء؛ لاختلاف الأحكام بسبب المعاني.
فقال الغزالي فيمن قال: "إنْ كان حملُها غلامًا فأعطوه كذا" فكان غلامين: لا شيء لها؛ لأن التنكير يُشعر بالتوحيد.
وفيمن قال: "إنْ كان حملُك ذكرًا فأنت طالق طلقتين" فكان ذكرين: لا تطلق؛ لهذا المعنى.
وقيل: تطلق؛ حملًا على الجنس. فانظر كيف فرقوا بينهما.
(1)
في (ت، س، ض): لعذر. وفي هامش (س): (لَعَلَّهُ: لعدم).
قيل: والتحقيق أنَّ المطلق قسمان:
- واقع في الإنشاء، نحو:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، وهو الدال على الحقيقة مِن حيث هي. وعليه يُحمل كلام "المحصول" وأتباعه.
- وواقع في الخبر، كَـ "رأيت رجُلًا"، فالمراد واحد مِن الجنس. وعليه ينزل كلام ابن الحاجب.
تنبيهات
الأول: المطلق قطعيُّ الدلالة على الماهية عند الحنفية وظاهر فيها عند الشافعية كالعام، وهو يشبهه كما سبق؛ لاسترساله على كل فرد، إلا أنه على سبيل البدل، ولهذا قيل: عام عموم بَدَل.
الثاني: الإطلاق والتقييد مِن عوارض الألفاظ باعتبار معانيها اصطلاحًا. فإنْ أُطلِق في عُرف على المعاني فلا مُشَاححة في الاصطلاح، وهُما أمران نسبيان باعتبار الطرفين.
فمُطلق لا مطلق بعده (كَـ "معلوم")، ومُقيَّد لا مقيد بعده (كَـ "زيد")، وبينهما وسائط يكون مِن المقيد باعتبار ما قَبْل ومن المطلق باعتبار ما بَعْد، كجسم وحيوان وإنسان.
قال الهندي: فالمطلق الحقيقي ما دل على الماهية فقط، والإضافي مختلف.
فالحاصل أنَّ الشيء قد يكون مطلقًا باعتبار ومُقيَّدًا باعتبار. كَـ "رقبة مؤمنة" مطلق باعتبار سائر الرقاب المؤمنة، ومقيَّد باعتبار مُطْلَق الرقبة. وذلك إنما يكون في الاعتباري، لا الحقيقي.
الثالث: قال صاحب "خلاصة المآخذ": (اختيار مشايخ خراسان وما وراء النهر أن المطلق ثابت في الأذهان دُون الأعيان، وحُكمه حُكم العام إلى قيام دليل التعيين). انتهى
وحينئذٍ فيكون في العمل بالمطلق قبل البحث عن المقيد الخلاف في العموم.
أنْايع: قال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (إنَّ الآمدي وابن الحاجب إنما وَحَّدَا بين المطلق والنكرة؛ لِتَوَهُّمهما أن المطلق هو النكرة)
(1)
.
قيل: ولم يتوهماه، إنما تَحققاه [كمَا]
(2)
ذكرناه مِن الباعث لهما على ذلك، وإلا فلا يخفَى عليهما ولا على غيرهما أن مفهوم الماهية بلا قيد ومفهومها مع قيد الوحدة متغايران. وإنما التكليف لا يتعلق إلا بالموجود في الخارج، وذلك لابُدَّ أن يكون واحدًا غير مُعَيَّن.
ولهذا وافق صاحب "البديع" ابن الحاجب على مقالته، ثم قال فيما بعد:(إن الحق تفسير المطلق بالماهية مِن حيث هي)
(3)
. ولذلك فرّعا ما سيأتي. والله أعلم.
ص:
678 -
فَالْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ مِنْ مَاهِيَّهْ
…
لَيْسَ بِجُزْئِيٍّ عَلَى الْجَلِيَّهْ
679 -
لَكِنْ بِهِ يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ
…
فَغَيْرُهُ "مُقَيَّد"، يُقَاُل:
الشرح:
أي: يتفرع على أنَّ المطلقَ الدالُّ على الماهية من حيث هي (لا مَع وحدة شائعة؛ لأن ذاك النكرة) أنَّ الأمر بالمطلق أمر بالماهية، ولكن لَمَّا لم يحصل إلا في ضمن جزئي، اقتضى ذلك أنه مطلوب مِن حيث ما يحصل به الامتثال، لا أن الجزئي مطلوب ابتداءً.
(1)
جمع الجوامع (2/ 79) مع حاشية العطار.
(2)
في (ت): لما.
(3)
نهاية الوصول إلى علم الأصول للساعاتي (2/ 484) رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراة من الطالب: سعد بن عرير بن مهدي السلمي، جامعة أم القرى/ 1985 م.
وأما على طريقة الآمدي وابن الحاجب فالأمر بالمطلق أمر بجزئي من جزئيات الماهية، لا بالكُلي المشترك. فالمطلوب بـ "اضْرِب" مثلًا فِعل جزئي من جزئيات الضرب من حيث مطابقته للماهية الكُلية المشتركة؛ لأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان.
وضُعِّف ذلك بوضوح الفرق بين الماهية بشرط شيء وبشرط لا شيء ولا بشرط. وحينئذٍ فالمطلوب الماهية من حيث هي، لا بقيد الجزئية ولا بقيد الكلية. واستحالة وجودها في الخارج إنما هو من حيث تجردها، لا في ضمن جزئي، وذلك كافٍ في القدرة على تحصيلها.
نعم، ابن الحاجب يقول: إن الماهية مطلوبة أولًا باعتبار دلالة المطلق عليها بالمطابقة، ولما توقف وجودها على جزئي، كان ذلك الجزئي مطلوبًا من حيث توقف وجودها عليه؛ فآلَ الأمر إلى أن المطلوب بالمطلق جزئي وإن لم يكن بالمطابقة.
وممن حكى ما قرره الإِمام الرازي وأتباعه -مِن أن الأمر بالمطلق أمر بالكلي المشترك- عن مذهب الشافعي أبو المناقب الزنجاني، وقال:(إن مُقابِلَه مذهب أبي حنيفة).
تنبيه:
أَبْدَى الصفي الهندي احتمالًا في "باب القياس" في الكلام على حُجية قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] أنه إذن في كل جزئي من جزئيات الماهية. حيث اعترض الخصم بأن الدال على الكُلي لا يدل على الجزئي، فلا يَلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي من الكُلي الذي هو مُطْلَق الاعتبار.
فقال الهندي: (يمكن أن يجاب بأن الأمر بالماهية الكلية وإنْ لم يَقتضِ الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلَّف في الإتيان بكل واحد مِن تلك الجزئيات بدلًا عن الآخَر عند عدم القرينة المعيِّنة لواحد منها أو بجميعها، ثم التخيير بينها يقتضي جواز فِعل كل واحد
منها)
(1)
.
وقولي: (فَغَيْرُهُ "مُقَيَّدٌ") إشارة إلى أن تعريف مقابِل المطلق -وهو المقيد- بمقابِل تعريف المطلق. فيقال: المقيد الذي يدل على الماهية بقيد.
وقولي: (يُقَالُ) تتمته قولي بعده والله أعلم:
ص:
680 -
هُمَا كَذِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ
…
فِيمَا مَضَى لَكِنْ مِنَ التَّخْصِيصِ
681 -
بِذَيْنِ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ اتَّحَدْ
…
حُكْمُهُمَا وَمُوجِبٌ فِيمَا وَرَدْ
682 -
وَمُثْبَتٌ كِلَاهُمَا وَأُخِّر
…
مُقَيَّدٌ لِوَقْتِ أَنْ تَقَرَّرَ
683 -
عَمَلُ مُطْلَقٍ، فَمَنْسُوخٌ بِهِ
…
في غَيْرِ ذَا الْمُطْلَقِ قُلْ بِحَمْلِهِ
684 -
عَلَى مُقَيَّدٍ، نَعَمْ، إنْ نُفِيَا
…
فَقَائِلُ الْمَفْهُومِ قَالَ: أُجْرِيَا
685 -
تَقْيِيدُهُ بِهِ وَلكِنَّهُمَا
…
فَمُطْلَقٌ بِضِدِّ وَصْفٍ قُيِّدَا
686 -
وَذَانِ إنْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَرَدَا
…
مِنْ ذِي عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، فَاعْلَمَا
687 -
أَمَّا اللَّذَانِ اخْتَلَفَا في السَّبَبِ
…
أَوْ حُكْمِهِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُوجِبِ
688 -
فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهِمَا عَلَى
…
مُقَيَّدٍ، أَيْ: بِالْقِيَاسِ حُمِلَا
الشرح:
أي: المطلق والمقيد كالعام والخاص في كل ما سبق مِن المخصِّصات المتفق عليها والمختلف فيها والمختار والمُزَيَّف على ما فُضل هناك كما أشار إلى ذلك ابن الحاجب وغيره.
(1)
نهاية الوصول (7/ 3088).
ونزيدهما مسألة في حمل المطلق على المقيد.
ولا يقال: كان ينبغي -إذا كانت داخلة في تعميم التشبيه بالعام والخاص من حيث إنَّ العام محمول على الخاص والمطلق محمول على القيد -أن لا تُفْرَد بالذكر.
لأنَّا نقول: تخالفهما مِن وجوه أخرى، وهي أنَّ لنا هنا مَن يرى يحمل المقيد على المطلق، ولا قائل هناك يحمل الخاص على العام.
وأيضًا فالحمل هناك للعام على غير المُخرَج بالتخصيص، وهنا بالعكس، العمل هنا للمطلق على نفس المقيد.
وأيضًا فمِن أقسام ورود المطلق والمقيد ما قد يكون فيه تخصيص، وما يكون حملًا لا تخصيصًا.
وأيضًا فالحمل هنا بطريق القياس على رأيٍ، وغير ذلك من الأحكام الآتي بيانها، فاحْتِيجَ للإفراد بالذكر.
فإذا ورد مطلَق فقط أو مقيَّد فقط فحُكمه واضح، أو مطلق في موضع ومقيد في آخَر، فقصر المقيد على قيده يَطرقه الخلاف السابق في المفاهيم.
وأما تقييد المطلق بقيد المقيد فهو المراد هنا، لكن شرط فيه الماوردي والروياني أن يكون القيد معمولًا به، نحو:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] الآية، فالمرض والسفر شرط في إباحة التيمم.
فأما إذا لم يكن معمولًا به، فلا يُحمل عليه المطلق قطعًا، كقوله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فليس الخوف شرطًا في القصر.
وإهمال الأصوليين هذا الشرط إنما هو لوضوحه، وحينئذٍ فللمطلق والمقيد بشرطه أحوال:
الأُولى: أنْ يتحد حُكمهما والوجِب للحكم وهُما مُثبَتان أو ما في معنى الإثبات، وهو الأمر، نحو:(إنْ ظاهرتَ فأعتِق رقبة)، وفي موضع آخَر:(فأعتق رقبة مؤمنة). فهذا يُحمل فيه المطلَق على المقيَّد اتفاقًا كما قاله القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب، وابن فورك وإلْكِيَا وغيرهم.
وممن نقل موافقة أبي حنيفة في ذلك أبو زيد في "الأسرار" وأبو منصور الماتريدي في "تفسيره" وغيرهما؟ ولهذا حمل قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] على قراءة ابن مسعود: "متتابعات"، أي: إذا قيل: إنها قراءة. وأما إذا قلنا: (تفسير منه باجتهاده) كما يقوله أصحابنا، فلا.
ومن ذلك إطلاق تحريم الدم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] ، وفي موضع تقييده بالمسفوح حتى يكون الدم غير المسفوح من الباقي على اللحم والعظام غير منهي عنه كما قاله النووي في "شرح المهذب" نقلًا عن الثعلبي في "تفسيره"، قال:(وهو مِن كبار أصحابنا، وقَلَّ مَن تَعرض للمسألة، وهو أمر مهم؛ لمشقة الاحتراز فيه؛ ولأن الله لم يَنْهَ إلا عن الدم السفوح وهو السائل)
(1)
. انتهى
قلتُ: وكذا قال البغوي وابن القشيري في "تفسيرهما" وغيرهما أيضًا من المفسرين. بل نقل ابن عطية الإجماع على حِل الدم المخالِط للحم.
لكن في كل ذلك نظر؛ ففي "النهاية" لإمام الحرمين في "باب الرهن" أنَّ مذهب الشافعي الحكم بنجاسة الدم حالة تخلله في العروق.
وضَعَّف الإِمام اشتراط السفح بأنه ليس في سفحه وخروجه من اللحم والعروق ما يقتضي تنجسه بخصوصه، ولو كان التحريم مُقيدًا بالمسفوح لَمَا احْتِيجَ إلى استثناء الكبد
(1)
المجموع شرح المهذب (2/ 515).
والطحال.
ويدل لذلك أيضًا تضعيف أصحابنا مقالة الحنفية: إنَّ دم السمك والجراد طاهر؛ لأنه ليس مسفوحًا.
وأجاب الإمام الرازي في "تفسيره" بأن: (الآية إنما قيل فيها: {قُلْ لَا أَجِدُ} [الأنعام: 145] ، ويجوز أن يكون تحريم الدم على الإطلاق متأخرًا عن تحريم المسفوح)
(1)
. انتهى قلتُ: ولا يقدح ذلك في قاعدة حمل المطلق على المقيد باتفاق في مثل هذه الحالة؛ لأن [القيد]
(2)
خرج مَخْرَج الغالِب يومئذٍ؛ لأنهم كانوا يأخذون الدم المسفوح يضعونه في المصران ويجففونه ويضيفون به الناس. وشَرْط القيد كما سبق أن يكون معتبرًا.
ومما مثل به هذه الحالة أيضًا {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، وفي موضع بِقَيْد "منه" [المائدة: 6].
وحديث: "يمسح المسافر ثلاثة أيام"
(3)
وفي موضع: "إذا تطهر فلبس خُفَّيه"
(4)
.
وفي حديث: "فرض زكاة الفطر على كل صغير وكبير"
(5)
إلى آخره، وفي موضع: "ممن
(1)
مفاتيح الغيب (5/ 18).
(2)
كذا في (ق، ش، ت)، لكن في (ص): المقيد.
(3)
صحيح مسلم (276)، سنن أبي داود (157)، سنن النسائي (رقم: 128، 129)، وغيرها.
(4)
صحيح ابن خزيمة (رقم: 192)، سنن الدارقطني (1/ 204)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 1251)، وغيرها. قال الألباني: إسناده حسن. (السلسلة الصحيحة: 3455).
(5)
سنن الدارقطني (2/ 140) بلفظ: (فرض زكاة الفطر على الصغير والكبير)، وفي صحيح البخاري (رقم: 1432) بلفظ: (فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ على الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيِر من المُسْلِمِينَ)، صحيح مسلم (رقم: 984).
تمونون"
(1)
.
وفي: "لا نكاح إلا بولي"
(2)
في موضع آخَر: "بولي مرشد"
(3)
.
نعم، في بعض هذه المثُل نظر مِن حيث إن العام في الأشخاص عام في الأحوال، لا مطلق. وأيضًا هذا كما قال ابن العربي هو مسألة المفهوم، نحو:"في أربعين شاة شاة"
(4)
، وفي موضع:"في الغنم السائمة الزكاة"
(5)
. وهذا يقتضي مخالفة الحنفية في ذلك؛ لأنهم لا يقولون بالمفهوم، بل صرح ابن برهان في "الأوسط" بأن عندهم خلافًا في العمل [وأن الصحيح: يُحمل. وممن حكى الخلاف عندهم ابن السمعاني]
(6)
.
وحكى [الطَّرَسُوسِي]
(7)
في ذلك أيضًا الخلاف عن المالكية، وأنهم مثلوه بإطلاق المسح
(1)
سنن الدارقطني (2/ 140)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7475). قال الألباني: (هذا سند ضعيف كما قال الحافظ في "التلخيص"). (إرواء الغليل: 835).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
المعجم الأوسط للطبراني (1/ 166، رقم: 521)، سنن البيهقي الكبرى (13491) عن ابن عباس مرفوعا، بلفظ:(لا نِكَاحَ إِلا بِإِذْنِ وَلِيٍّ مُرْشِدٍ أَوْ سُلْطَانٍ). قال البيهقي: (تفرد به القواريري مرفوعًا، والقواريري ثقة، إلا أن المشهور بهذا الإسناد موقوف على ابن عباس).
وهو في: مسند الشافعي (ص 220)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 13428) موقوفًا على ابن عباس، بلفظ:(لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل). وانظر: كلام الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 7/ 578)، وكلام الألباني على طُرق هذا الحديث في (إرواء الغليل: 1839).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
كذا (ص، ق). وفي سائر النسخ: (وممن حكى الخلاف عندهم ابن السمعاني وأن الصحيح: يُحمل).
(7)
في (ت، س، ض): (الطُّرْطُوشي). وفي (البحر المحيط، 3/ 8): ("الطَّرَسُوسِيُّ" بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ). =
وتقييده في موضع بِـ "إذا تطهر" كما سبق.
واستثنى منه بعض الحنابلة ما لو كان القيد آحادًا والمطلق متواترًا، قال: فإنه يبنى على أن الزيادة نسخ، وعلى نَسخ المتواتر بالآحاد. والمنع قول الحنفية.
لكن قضية ذلك أن الحمل ليس بيانًا، بل نسخًا، وفيه خلاف، والذي صححه ابن الحاجب وغيره الأول.
لكن منشأ هذا الخلاف أن الزيادة نسخ؟ أوْ لا؟ ومع ذلك لابُدَّ من تأخُّر المقيد؛ لأن الناسخ متأخر. ولكن ظاهر القول يحمل المطلق على المقيد هنا أنه لا فرق بين أن يتقدم المقيد أو يتأخر أو يقارِن أو يُجهل.
وقال الغزالي في "المستصفى": (إنَّ هذا صحيح على مذهب مَن لا يرى بين العام والخاص تقابُل الناسخ والمنسوخ)
(1)
. انتهى
وهو يقتضي أنَّ مَن ينسخ بالعام المتأخِّر ينسخ بالمطلق المتأخِّر، ويقف عند الجهل بالتاريخ كما قاله الهندي والأردبيلي.
ولكن الحقّ أنَّ هذا لا يلزم، فقد نقل الغزالي أن القاضي مع مصيره إلى التعارض في "باب العام والخاص" -أيْ ينسخ بالمتأخِّر- نقل الاتفاق على تنزيل المطلق على المقيد في هذه الحالة، أي: ذلك لأن بين العام والخاص تَعارُضًا في نفي الحكم وإثباته، وأما المطلق والمقيد فحُكمهما متحد، فلا معارضة؛ فلا نَسخ.
=و"طُرْطُوشة" مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس على ساحل البحر وهي شرق الأندلس (وفيات الأعيان، 4/ 265). و "طَرَسُوس" من بلاد الثغر بالشام (الأنساب لابن السمعاني، 4/ 60).
(1)
المستصفى (ص 262).
نعم، إذا تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق، كان ناسخًا له بدليل الخطاب كما سبق نظيره في التخصيص.
وهو معنى قولي في النَّظم: (إنْ اتَّحَدْ حُكْمُهُمَا وَمُوجِبٌ) إلى قولي: (فَمَنْسُوخٌ بِهِ).
وفي هذه الحالة مذهب ثالث: أنه لا يُحمل المطلق على المقيد، لا بيانًا ولا نسخًا، بل يحمل المقيد على المطلق، سواء تَقدَّم أو تأخر.
وأما ما سبق في المتحد الحكم والوجِب وهُما مثبَتان ولم يتأخر المقيد عن وقت العمل مِن أنه يحمل المطلق على المقيد فأشرف إليه بقولي: (في غَيْرِ ذَا الْمُطْلَقِ قُلْ بِحَمْلِهِ عَلَى مُقَيَّدٍ).
الحالة الثانية:
أن يكونا مع اتحاد السبب والحكم منفيين أو في حكم المنفي وهو النهي، نحو: إلا تعتق مكاتبًا) وفي موضِع: (لا تعتق مكاتبًا كافرًا). وهو ما مثَّل به ابن الحاجب [للنفي]
(1)
، يريد ما في معناه، وهو النهي.
نعم، إدخال هذا القسم في المطلق والمقيد غير جيد؛ لأن النكرة في سياق النهي عامة، فَهُما عام وخاص، فيَخُص العام بالخاص مَن يحتج بالمفهوم، ومَن لا يعمل به يعمل بالأعم مطلقًا، إلا أنه يطرقه هنا ما سبق مِن أنَّ ذِكر بعض أفراد العام هل يخص؟ أوْ لا مطلقًا؟ أو إنْ كان له مفهوم، خص، [أوْ لا]
(2)
فلا؟ وسبق ترجيح هذا.
وإلى هذه الحالة أشرتُ في النَّظم بقولي: (نَعَمْ، إنْ نُفِيَا) إلى آخِره.
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" في حديث: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه
(1)
كذا في (ق، س)، لكن في (ص): بالنفي.
(2)
كذا في (ص، ق)، وفي (س): وإلا.
وهو يبول"
(1)
: (إنه وردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمين مطلقًا).
وقال: (فمِن الناس مَن أخذ بهذا العام، وقد سبق إلى الفَهم أنَّ العامَّ محمولٌ على الخاص، فيختص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث؛ لأنَّ هذا الذي قِيل متجه في باب الأمر والإثبات، فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق في صورة الإطلاق مثلًا، كان فيه إخلال باللفظ الدال على المقيد وقد تناوله لفظ الأمر، وذلك غير جائز.
وأما في باب النهي فإذا جعلنا الحُكم للمقيد، أَخْلَلْنَا بمقتضَى اللفظ المطلق مع تَناوُل النهي له، وذلك غير سائغ)
(2)
. انتهى
ومراده أنه في حالة النهي يخرج عن كونه مطلقًا ومقيدًا، بل عامًّا وخاصًّا كما ذكرناه، وإنْ سُمي مطلقًا ومقيدًا فمجاز كما عبَّر به هو عنهما آخِرًا.
وإذا كان عامًّا، فذكر الخاص بذلك الحكم هي مسألة ذِكر بعض أفراد العام، أي: فلا تخصيص. لكن قد سبق أن ذلك حيث لا مفهوم له، وإلا فالراجح التخصيص.
فإن قيل: العموم إنما هو فيما دخل عليه النهي، وهو فِعل الإمساك.
قيل: قد قرر هو قبل ذلك أنَّ العام في الأشخاص عامٌّ في الأحوال والأزمنة والأمكنة.
ثم قال عقب ما سبق: (إن هذا العمل إذا قُدِّرَا حديثين، أما إذا قُدِّرَا حديثًا واحدًا، فالزائد في الرواية الأخرى زيادة عَدْل يجب العمل بها)
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 103).
(3)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 104).
الحالة الثالثة:
أن يكون أحدهما في معنى النفي والآخَر في معنى الإثبات، بأنْ يكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا.
مثل: (إنْ ظاهرت فأعتق رقبة)، ويقول:(لا تملك رقبة كافرة). فلابُدَّ من التقييد بنفي الكفر؛ لاستحالة إعتاق الرقبة الكافرة. فالحمل في ذلك ضروري، لا من حيث إن المطلق حُمل على المقيد؛ ولذلك قال ابن الحاجب: إنه واضح.
وإلى هذه الحالة أشرتُ في النظم بقولي: (وَذَانِ إنْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَرَدَا) إلى آخره.
فَـ "ذان" إشارة إلى ما سبق مِن المطلق والمقيد، وتسميتهما بذلك مع كونهما عامًّا وخاصًّا مجَازٌ كما سبق.
الحالة الرابعة:
أنْ يختلفَا في السبب والحكم، كتقييد الشاهد بالعدالة وإطلاق الرقبة في الكفارة، فلا يحمل أحدهما على الآخر اتفاقًا كما نقله القاضي أبو بكر وإمام الحرمين وإلْكِيَا وابن برهان والآمدي وغيرهم.
لكن نقل الباجي عن القاضي أبي محمَّد - مِن المالكية - أن: (مذهب مالك فيه حمل المطلق على المقيد؛ لأنه روي عنه أنه قال: عجبٌ مِن رجل عظيم مِن أهل العلم يقول: إن التيمم إلى الكوعين. فقيل له: إنه حمل ذلك على آية القطع. فقال: وأين هو من آية الوضوء؟ ).
أي: فلمَ لا حَمله على آية الوضوء؛ لأن كُلًّا منهما طهارة؟ !
قال الباجي: (وهذا التأويل غير مُسلَّم؛ لأنه يحتمل أنه إنما يحمله على آية الوضوء
بقياس أو عِلة، والخلاف إنما هو في العمل بمقتضى اللفظ)
(1)
.
قلت: وأيضًا فيكون مِن الحالة الآتية. وهي مع اتحاد السبب كما سيأتي التمثيل به، والكلام هنا إنما هو عند اختلافهما.
نعم، للشافعي قول في كفارة القتل بجواز الإطعام كما في الظهار، فيخرج منه خلاف في هذه الحالة.
نعم، إنْ كان يُلتفت فيها إلى أنه:
- هل هو من باب القياس؟ فيمتنع؛ لأن من شرط القياس اتحاد الحكم.
- أو باللفظ؟ فيحمل عليه.
واعلم أن هذه الحالة تخرج مِن ذِكري في النَّظم ما فيه اتحاد في الموِجب أو في الحكم أو فيهما، فيخرج ما اختلفا فيهما، فلا يحمل.
الحالة الخامسة:
أن يتحد السبب ويختلف الحكم، كإطلاق اليدين في [آية]
(2)
التيمم وتقييدهما بالمرافق في آية الوضوء، وموجِبهما واحد وهو الحدث، أو هو مع الوقت، أو الوقت فقط على الخلاف المذكور في الفقه.
وظاهر إطلاقهم أنه لا خِلاف في العمل هنا، لكن ابن العربي في كتابه "المحصول" حكى فيه الخلاف الآتي في الحالة التي بعدها بين الحنفية والشافعية، وكذا حكى فيه أبو الخطاب الحنبلي روايتين عن أحمد، ومثَّلاه بما سبق، وكذا مثل القاضي في "التقريب".
(1)
إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 286).
(2)
كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: باب.
بل مقتضَى إطلاق ابن الحاجب أنه لا يُحمل فيه اتفاقًا، فإنه قال:(إنِ اختلف حكمهما مثل: "اكْسُ ثوبًا"، و "أَطْعِم طعامًا نفيسًا"، فلا يحمل أحدهما على الآخر بِوَجْهٍ اتفاقًا)
(1)
.
وهذا يشمل ما إذا اتحد السبب وما إذا اختلف. وكذا المثال الذي مَثَّل به يحتمل الأمرين.
الحالة السادسة:
أن يختلف السبب ويتحد الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار واليمين، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل، فالحكم واحد، وهو وجوب الإعتاق، والسبب مختلف، وهو الظهار والقتل واليمين.
وكقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] يُحمَل على قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
فهذا هو موضع الخلاف بيننا وبين الحنفية كما سيأتي.
وإليها وإلى الحالة التي قبلها أشرتُ في النظم بقولي: (أَمَّا اللَّذَانِ اخْتَلَفَا في السَّبَبِ) إلى آخر البيتين.
وحاصل الخلاف - في هذه الحالة الأخيرة - مذاهب:
أحدها: أن الطلق يُحمل على المقيد بمقتضَى اللغة مِن غير دليل ما لم يَقُم دليل يحمله على الإطلاق. قال الماوردي والروياني في "باب القضاء": (إنه ظاهر مذهب الشافعي). وقال الماوردي في "باب الظهار": (إنه عليه جمهور أصحابنا).
وقال سُليم: إنه ظاهر كلام الشافعي. وحكاه القاضي عبد الوهاب عن جمهور
(1)
مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 349).
أصحابهم.
ونقله إمام الحرمين عن بعض أصحابنا، لكنه رَدَّه بقوله:(إن أقرب طريق هؤلاء أن كلام الله تعالى في حُكم الخطاب الواحد؛ فيترتب فيه المطلق على المقيد).
قال: (وهذا من فنون الهذيان؛ فإنَّ قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة متباينة، لبعضها حُكم التعلق والاختصاص ولبعضها حُكم الانقطاع. فمَن ادَّعَى تنزيل جهات الخطاب على حُكم كلام واحد مع العلم بأنَّ في كتاب الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة، فقد ادَّعَى أمرًا عظيما)
(1)
. وأطال في ذلك.
والمذهب الثاني: أنه لا يحمل عليه بنفس اللفظ، بل بدليل آخَر من قياس ونحوه، كما يخصَّص العموم بالقياس. فإنِ انتظم قياس بشروطه أو غيره كذلك قُيِّد به وإلا فالمطلق باقٍ على إطلاقه والمقيَّد على تقييده. وهذا هو الأظهر مِن مذهب الشافعي كما قاله الآمدي وصححه هو والإمام الرازي وأتباعهما.
وإليه أشرت بقولي في النظم: (أَيْ: بِالْقِيَاسِ حُمِلَا). فيحتاج كل حَمْلٍ إلى عِلة جامعة يقع بها الإلحاق.
ففي المثال السابق -وهو تقييد الرقبة بالإيمان- الجامِعُ كَوْنُ كل منهما كفارة، وفي تقييد اليدين في التيمم بالمرافق الجامعُ أنَّ كلًّا منهما طهارة في حدث في أعضاء منها اليدان.
وممن ذهب إلى هذا القول القفال الشاشي، ونقل عن ابن فورك، وصححه الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين وابن القشيري والغزالي وابن برهان وابن السمعاني.
ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": إنه الأقرب.
(1)
البرهان (1/ 290).
واختاره القاضي أبو بكر ونَسبه للمحققين، وقال: لو كان تقييد المطلق لِتَقيُّد المقيَّد، لجاز إطلاق المقيَّد لإطلاق المطلَق، وهو لا يجوز إجماعًا. أي: لأن الذي لا يحمل المطلق على المقيد يعمل بالمقيد في محله بلاشك.
ونقله الماوردي أيضًا عن ابن أبي هريرة، ونقله القاضي عبد الوهاب عن جمهور المالكية وغيرهم، ونقله الأستاذ أبو منصور عن ابن سريج، ونقله الروياني عن بعض أصحابنا وضعَّفه كما ضعفه الماوردي، ونُقل عن كثير غير هؤلاء.
على أنَّ بعض المتأخرين زعم أن هذا كله لا يقاوم ما سبق من النقل في المذهب الذي قبله عن نفس الشافعي ومذهبه وهُم أعرف بذلك.
لكن في "مناقب الشافعي" لابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي يَعِيب على مَن يقول: لا يُقاس المطلَق من الكتاب على المنصوص. وقال: يلزم مَن قال هذا أنْ يُجيز شهادة العبيد والسفهاء؛ لأن الله عز وجل قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقال في موضع آخر: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. قال: ولكن المطلق يقاس على المنصوص في مِثل هذا، فلا يجوز إلا العدل). انتهى
وهو صريح في أن الحمل بالقياس.
وقال ابن برهان: كل دليل يجوز تخصيص العموم به يجوز تقييد المطلق به، وما لا فلا؛ لأنَّ المطلق عام مِن حيث المعنى، فيجوز التقييد بفعله عليه السلام وتقريره - خلافًا لبعضهم - وبمفهوم الخطاب.
وقال ابن فورك وإلْكِيَا والقاضي عبد الوهاب: إنَّ القائلين بأنه قياس اختلفوا: هل القياس تخصيص للمطلق؟ أو زيادة فيه؟ والصحيح الأول، صححه عبد الوهاب وغيره.
وفي "المنخول" للغزالي: (إن القائلين بالقياس اختلفوا، فقيل: لا يجوز الاستثناء من محل
التقييد، فليكن من محل آخر، وهو عدم إجْزَاء [المرتد]
(1)
بالإجماع).
قال: (وهذا باطل، وإنَّ المستنبط مِن محل التقييد إنْ كان مخيلًا صالحاً، قُبِل، وإلا فهو باطل؛ لعدم الإخالة)
(2)
.
والمذهب الثالث: قال الماوردي: أَوْلى المذاهب يُعمل بالأغلظ حُكمًا من المطلق والمقيد إلا أنْ يدل على الحملِ على الآخَر دليلٌ.
الرابع: التفصيل بين أن يكون القيد في المقيد وصفًا فيحمل المطلق عليه كالإيمان في الرقبة كما سبق، أو ذاتًا فلا، كالتقييد بالمرافق في الوضوء دُون التيمم. وهو حاصل كلام الأبهري الآتي نقله في الشروط. وحينئذٍ فيكون هذا القول هو عَيْن القول بحمل المطلق على المقيد، وغايته أن ذلك شَرْطه.
الخامس: لا يحمل المطلق على المقيد مطلقًا، لا من حيث القياس ولا من حيث اللغة باللفظ. وهو مذهب الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية بعد أن قال: إن الأصح عندهم أنه يحمل عليه قياسًا؛ لأن تقييد الخطاب في محل لا يقتضي تقييده في محل آخر؛ كما أن تخصيص العموم في موضع لا يوجب تخصيص العموم في موضع آخر.
ومنشأ خلافهم في المسألة أمور:
أحدها: أن المطلق هل هو ظاهر فيما يشمله؟ أو نَص فيه؟
فإنْ قُلنا: نَص، فلا يحمل على المقيَّد بالقياس، لأنه يكون نسخًا، والنسخ بالقياس ممتنع.
ثانيها: أن الزيادة على النص نَسخٌ عندهم وتخصيصٌ عند الشافعي كما نقله في "المنخول" عنه والنسخ لا يجوز بالقياس، ويجوز التخصيص.
(1)
كذا في جميع النسخ ولفظ "المنخول، ص 178": (المزيد).
(2)
المنخول (ص 178).
ثالثها: عدم حُجية المفهوم عندهم، فلا يحمل المطلق عليه؛ لذلك.
تنبيهات
الأوَّل:
يُشترط في حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة السادسة شروط:
منها: أن يكون القيد صفة، نحو تقييد الرقبة بالإيمان، لا ذاتًا كالإطعام في كفارة القتل، فلا يحمل على الظهار في وجوبه عند تعذُّر صوم الشهرين على أصح قولَي الشَّافعي، وكحَمل التَّيمم في الأعضاء الأربعة على الوضوء في ذلك، بل يقتصر على الوجه واليدين.
قال الماوردي: (ولذلك حمل إطلاق اليدين في التَّيمم على قيد المرافق في الوضوء؛ لأنَّ ذلك صفة في اليدين، لا أصل مستقل كما في الرأس والرجْلين)
(1)
. انتهى
ومنهم مَن منع ذلك؛ لأنَّه في ذات الساعدين زيادة على الكوعين. ومَن ثَم رجح ذلك النووي، فقال: يجب المسح في التَّيمم للكوعين.
وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي والشَّيخ أبو حامد والماوردي والروياني، ونقله [المازري]
(2)
عن الأبهري من المالكيّة.
إلَّا أن القفال مَثَّل بالتيمم إلى المرفقين للصفة كما زعمه الآمدي.
وفيه ما سبق مِن أنَّه حمل في ذاتٍ، لا في صفة.
وقضية رد أصحابنا على الحنفية (في منعهم حمل المطلق على المقيد لكونه زيادة على
(1)
انظر: الحاوي الكبير (10/ 463).
(2)
في (ص، ت، س): الماوردي.
النص) [بأنَّ]
(1)
زيادة الصفة ليست زيادة؛ لدخولها تحت المطلق -أنَّ إثبات الذّات بالحمل لا يجوز اتفاقًا؛ لأنَّه زيادة قطعًا.
لكن الماوردي نقل عن ابن خيران في "باب القضاء" أن المطلق يحمل على المقيد في الأصل أيضاً، كإثبات الطَّعام في كفارة القتل. أي: على أحد القولين.
ومن أمثلة عدم إثبات أصل بالحمل: إذا اختار المُحْرِم في جزاء الصيد إخراج الطَّعام، فيُفرِّقه على ثلاثة؛ لأنَّ "مساكين" جمعٌ أقَله ثلاثة، ولا يوجِب عليه إطعام ستة حَملًا على كفارة الإتلاف في الحج، فإنَّه يجب لستة؛ لأنَّ ذلك زيادة ذوات ثلاث.
ومنها: أن لا يتردد المطلق بين مقيدين متضادين يحتمل حَمْله على كل منهما. وسيأتي بيان ذلك في الفرع الآتي.
ومنها: أن لا يكون في الإباحة. ذكره ابن دقيق العيد في حديثي المحرم إذا لم يجد نعلين فإنَّه يلبس الخفين. فقال هناك: إنَّ المطلق لا يُحمَل على المقيد في جانب الإباحة؛ إذْ لا تَعارُض.
ومنها: أن لا يمكن الجمع بين المطلق والمقيد. فإن أمكن، فلا يُحمل أحدهما على الآخَر.
ذكره ابن الرفعة في "المطلب"، قال: كحديث ابن عمر: "من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلَّا أن يشترط المبتاع"
(2)
. وفي رواية: "مَن باع عبداً فماله للبائع"
(3)
بدون ذِكر
(1)
في (ت، س): فإن.
(2)
صحيح البُخاريّ (رقم: 2250) بلفظ: (وَمَن ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ).
(3)
سنن أبي داود (رقم: 3435)، سنن النَّسائيّ (رقم: 4636) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3435).
"وله مال". فإن الرّواية الأُولى تقتضي أنَّ بعض العبيد لا يكون له مال، فتكون الإضافة فيه للتمليك. والمال فيه محمول على ما يُملِّكه السيد إياه، وليس كل عبد يملّكه السيد مالاً. والثانية تشمل كل عبد، فكانت الإضافة فيها إضافة تخصيص، لا تمليك، فيحمل على ثيابه التي عليه؛ فإنَّه لابُدَّ غالبًا لكل عبد مِن ثياب.
قال: فهذه الرِّواية مُطلقة تنزل على ما ذكرناه، فلا حاجة إلى تقييدها بحالة تمليك السيد المال؛ لأنَّ الجمع ممكن.
ومنها: أن لا يكون المقيد ذُكِر معه قَدْر زائد يكون ذلك القيد لأجله، كـ. "إنْ قتلت، فأعتق رقبة"، وفي موضع:"إن قتلت مؤمنًا، فأعتق رقبة مؤمنة"، فلا يحمل المطلق هنا على المقيد؛ لأنَّ التقييد إنما جاء للقدْر الزائد؛ فيقتصر عليه.
ولذلك لَمَّا قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] وفي الآية الأخرى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فقال أصحابنا: يحمل مطلق الآية الثَّانية على تقييد الأُولى بأن يموت وهو كافر. خلافًا لأبي حنيفة حيث قال بإحباط العمل بالرّدة وإنْ لم يتصل بالموت.
فبحث فيه بعض المحقّقين بأن في المقيد زيادة يَرْجِع القيدُ لها ليست في المطلق، فكيف يحمل على المقيد؟ والزيادة هي الخلود في النَّار، وَمن لم تتصل رِدَّته بالموت بل أَسْلَم قَبْله، لا يخلد في النَّار.
وأيضاً فالآيتان عام وخاص، لا مطلق ومقيد.
على أنَّ الآية المطْلَقة التي تَعلَّق بها الحنفية فيها: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]، وذلك لا يكون فيمن عاد للإسلام؛ ولأجْل ذلك نَصَّ الشَّافعي في "الأم" على أن الرِّدَّة بمجردها تُحبط العمل وإنْ لم تتصل بالموت -على معنى: ذهاب الأَجْر.
ومنها: أن لا يمنع مِن الحمل مانع، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الآية، لم يُقيد بالدخول وقيدت به في عِدة الطلاق في قوله:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49] الآية، فلا يقيد في الموت بالدخول؛ للمانع، وهو بقاء أحكام الزوجية بعد الموت، وهو أنَّها ترثه وتُغسله، بخلاف المطلَّقة بائنًا، فمنع ذلك من التّقييد والتخصيص.
الثَّاني:
وقع في "الوسيط" للغزالي في "باب قطاع الطَّريق" أنَّ المقيد يحمل على المطلق عكس ما هو المذهب، وذلك حيث احتجَّ للقول بأنَّ توبة قاطع الطَّريق بعد القُدرة عليه تُسقط عنه الحد.
قال: (لأنه تعالى خصص هنا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، وأَطلَق في آية السرقة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39])
(1)
.
أي: فيُعمل بالمطلَق وهو سقوط حد القاطع، قُدِر عليه أو لم يقدر؛ حملًا على عموم آية السرقة.
قلتُ: ويمكن أنَّه فعل ذلك لأنَّه عام، لا مطلق. وآية التّقييد ذِكْر بعض أفراد العام، وقد سبق بيان ذلك.
نعم، عمل الأصحاب بذلك في صورة، وهي حديث:"يمسح المسافر ثلاثة أيَّام بلياليهن"
(2)
. لا يتقيد بهذه الإضافة، بل ثلاث ليالٍ مع الأيَّام مطلقًا؛ حملًا على إطلاق:
(1)
الوسيط في المذهب (6/ 499).
(2)
سبق تخريجه.
"يمسح المقيم يومًا وليلة"
(1)
.
قلتُ: يجوز أن يكون ذلك لتوجه المعنى، فيلحق قياساً لما سبق من اشتراط نفي الدليل على العمل بالمطلق مطلقًا.
الثالث: اللفظ المطلق إذا تَطرق إليه التّقييد، حكى فيه السمناني في "الكفاية" الخلاف في الاحتجاج بالعام بعد التخصيص.
وفيه نظر؛ فإن المطلَق هنا صار بعد التّقييد مرادًا به المقيَّد ليس إلَّا، وإلا فلا فائدة في الحمل. إذْ لو قِيل بالعمل بالمطلَق فيما بقي من الأفراد، لم يتحقق حَمْلُ المطلَق فيه على المقيَّد.
الرابع: قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" في قولهم: (إنَّ المطلَق يُكتفَى بالعمل به مَرة، فلا يكون حُجَّة فيما زاد): إنَّه إنْ أُرِيدَ يُكتفَى به فِعلاً فمُسلَّم، أو حَمْلًا عليه فممنوع. فإذا قال:"أَعتِق رقبة" وأعتقت، لا يَلزم إعتاق أخرى؛ لحصول المقصود مِن غير أن يكون هناك عموم. وكذا "إنْ دخلتِ الدار فأنتِ طالق" فدخلت مرَّة، انحلت اليمين، بخلاف ما إذا قال:"أعتق رقبة" وحملناها على المؤمنة، فإنَّه يمتنع إجزاء الكافرة. والله أعلم.
ص:
فرع:
689 -
الْمُطْلَقُ الَّذِي لَهُ قَدْ وَرَدَا
…
قَيْدَانِ فِيهِمَا تَنَافٍ قَدْ بَدَا
690 -
يَكُونُ بِالْأُولَى مُقَيَّدًا، وَإنْ
…
تَسَاوَيَا، فَالْغِ كلَيْهِمَا، وَدِنْ
691 -
بِمُطْلَقٍ، قُلْتُ: وَنَصُّ الشَّافِعِيْ
…
في "الْأُمِّ" ثُمَّ في "الْبُويطِيْ" التَّابع
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (1866)، سنن النَّسائيّ (رقم: 129)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح النَّسائيّ: 129).
692 -
بِأنَّهُ يُعْمَلُ بِالْقَيْدَيْنِ
…
أَيْ: [مبهم]
(1)
مُنْحَصِر في ذَيْنِ
693 -
وَذَاكَ في غُسْل مِنَ الْكَلْبِ وَرَد
…
"إحْدَى" فَفِي "أُولَى" وَ"أُخْرَى" الْمُسْتَنَدْ
الشَّرح:
أي: تفرع عمَّا سبق في حمل المطلق على المقيد أنَّه لو كان مقابل المطلق مقيدان متضادان، فعَلَى أيهما يحمل؟ يُنظر:
إمَّا أن يكون السبب مختلفًا، فلا يجوز حمل المطلق على أحدهما إلَّا بدليل، وحينئذٍ فما لم [يدل]
(2)
قياس ولا غيره على الحمل عليه، يفرض عدمًا، ويحمل على ما دل عليه الدليل. ولأجل ذلك لم أذكر في النَّظم هذه الحالة، بخلاف الحالة الآتية.
وقد سبق أنَّ مِن شروط حمل المطلق على المقيد أن لا يتردد بين مقيدين متضادين، ووعدنا ببسطه هنا، فنقول:
ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور والشَّيخ أبو إسحاق في "اللمع" وإلْكِيا.
وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الاتفاق، ولكنه ليس بجيد؛ فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافًا لأصحابنا، ولم يرجِّح شيئًا.
وممن ذكره الماوردي في "باب الكفارات" ومَثَّله بالصيام في كفارة اليمين [بأنَّ]
(3)
في وجوب تتابعه قولان، أصحهما المنع؛ لأنَّه دائر بين قيدين: التتابع في صوم الظهار، والتفريق
(1)
كذا في (ص، ق، س، ن). لكن في (ض، ت، ش): منهم. والمُثبت هو الصواب؛ لقول المؤلف: (فقد جريت في النظم على ما نقلوه عن النَّصُّ أنَّه عمل بالقيدين، أي: بالإبهام).
(2)
في (ص، ق): يذكر.
(3)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فإن.
في صوم التمتع في الحج، وليس أحدهما أوْلى مِن الآخَر؛ فيبقى على إطلاقه.
وكذا ذكره الروياني في "باب كفارة اليمين" وغيرها، قال: وهذا مما سبق الشَّافعي إليه ولم يُسبق فيه.
ومَثَّله بعضهم بتردد إطلاق اليدين في التَّيمم بين الوضوء المقيَّد بالمرافق وقطع السرقة المقيَّد بالكوع بالإجماع. ولكن الأَشبَه به أَرْجَح في الحمل وهو الوضوء؛ لأنَّ التَّيمم بَدَلُه، وهُما طهارتان.
فإن لم يوجد مرجِّح، قال إلْكِيَا: يجب الوقف.
وكذا قال الإمام في "المحصول": (إنَّ مَن لا يرى تقييد المطلق أصلًا، لا يقيد هنا بأحدهما. ومَن يرى أنَّ التقيد باللفظ لا بالقياس، لا يقيده أيضاً بأحدهما. ومَن يراه بالقياس فيُلحقه بما القياس عليه أَوْلى)
(1)
. انتهى
ولهذا قيل: يرجح حمل مطلق الصوم في كفارة اليمين على كفارة الظهار في التتابع، لا على صوم التمتع في التَّفريق، لاسيما والتفريق فيه ليس هو التَّفريق المراد بين كل يوم مع آخر، بل في موضع واحد.
والشافعي له قولان في وجوب التتابع في كفارة اليمين، الجديد: المنع، لا لعدم حمل المطلق على أَوْلى القيدين، بل لعدم وجوب ما في صوم الظهار والقتل من التغليظ بالشهرين، فغلظ بالتتابع أيضاً؛ لعظم مفسدتهما. وليس ذلك في كفارة اليمين؛ لِخِفَّة الأمر، لاسيما إذا كان الحنث خيرًا.
وإنْ كان السبب واحدًا: وهو ما ذكرته في النَّظم، فإن كان حملُه على أحدهما أرجَح مِن الآخَر بأنْ كان القياس فيه أظهر، قُيِّد به؛ لأنَّ العمل بالقياس الأَجْلَى أَوْلى.
(1)
المحصول (3/ 147).
فإن تَساويَا، فيُعمل بالمطلَق، ويُلغَى القيدان. كالبَيِّنتيْن إذا تعارضتَا، فإن الأرجَح فيهما لتساقط وكأن لا بَيِّنَة هناك.
وهو معنى قولي: (فَالْغِ كِلَيْهِمَا، وَدِنْ)، فحذفت الهمزة من "ألغ"؛ لضرورة النظم. ومعنى قولي:"دِنْ" أي: اعمل بالمطلق دِينًا وشرعًا.
ولك أن تدخل مسألة المختلفين في قول النَّظم أنَّه يتقيد بالأَوْلى من المقيدين، وإنْ تساويَا، عُمِل بالمطلق.
ويُمثَّل بقوله تعالى في قضاء رمضان: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وفي كفارة اليمين:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، فإنَّه متردد - كما سبق- بين صوم الظهار والقتل وبين صوم التمتع.
نعم، ما ذكر في مسألة اتحاد السبب إذا لم يكن أَوْلى بأحد القيدين مِن طرحهما والعمل بالمطلق هو ما أجاب به القرافي قول بعض الحنفية له: إنَّ الشَّافعية خالفوا قاعدتهم في حمل المطلق على المقيد في حديث الولوغ، فإنَّه قد جاء:"إحداهن بالتُّراب"
(1)
وهو مطلق، وجاء في رواية:"أُولاهن"
(2)
وفي رواية: "أُخراهن"
(3)
، وهُما قيدان متنافيان، فلم يحملوا، وجَوَّزوا
(1)
مسند إسحاق بن راهويه (39)، سنن النَّسائيّ الكبرى (رقم: 69)، مسند البزار (15/ 332، رقم: 8887). انظر كلام الحافظ ابن الملقن على طُرق هذه الرِّواية في (البدر المنير، 1/ 548)، وانظر أيضاً كلام الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، 1/ 40).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 279)، وغيره.
(3)
مسند البزار (17/ 262، رقم: 9950) بلفظ: (آخِره بالتُّراب)، وفي سنن التِّرمذيُّ (91) وغيره بلفظ:(يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتُّراب). قال الألباني: صحيح. (صحيح التِّرمذيُّ: 91).
التتريب في كُلِّ مِن السبع.
فقال له القرافي: (ذلك إنَّما هو حيث يكون قيداً واحدًا، أما في القيدين فيُعمل بالمطلق)
(1)
.
وما ذكره هو ما جَرَى عليه أصحابنا في الفقه مِن عدم تَعَيُّن شيء مِن السبع، وقالوا: التتريب في الأُولى أَوْلى، لا واجب. لكن نَصَّ الشَّافعي في "الأم" على تَعيُّن الأُولى أو الأَخيرة، وكذا نَصَّ فيما نقله البويطي في "مختصره"، وهو معنى قولي:(ثُمَّ في "الْبُوَيْطِيْ" التَّابع) أي: الذي هو مِن أتباع الشَّافعي الآخِذين بنصوصه، فهو عمل بالقيدين على معنى أن الواجب أحدهما لا بِعَيْنه، وأحدهما قَدْر مشترك، فهو القيد، لا كُل مِن [المشخصين]
(2)
، وفائدته دَفْع الخمسة المتوسطة بين الأُولى والأخيرة.
وبحث الشَّيخ تقي الدين السبكي في ذلك أنَّه ينبغي وجوبه في كليهما؛ لورود الحديث فيهما ولا تَنافي في الجمع بينهما.
قلتُ: لكن الشَّافعي إنَّما عَوَّل في إحدى المرتين -الأُولى والأَخيرة- على حديث التّقييد بذلك كما سنذكره.
وقد جريتُ في النَّظم على ما نقلوه عن النَّصُّ أنَّه عمل بالقيدين، أي: بالإبهام، فاعْلَمه.
فأمَّا نَص الشَّافعي في "الأم" فذكره في باب ما ينجس الماء مما خالطه، فقال:(أخبرنا سفيان، عن أيوب بن أبي تميمة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أُولاهن أو أُخراهن بالتراب")
(3)
.
(1)
شرح تنقيح الفصول (ص 269).
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الشخصين.
(3)
الأم (1/ 6)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 91)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 1079).
قال الألباني: =
وأورد أحاديث أخرى، وقال في النجاسة:(فإن غسل واحدة يأتي عليه طهر، وهذا مِن كل شيء خالطه إلَّا أن يشرب فيه كلب أو خنزير فلا تطهر إلَّا بأنْ يغسل سبع مرات. وإذا غسلهن سبعًا، جعل أُولاهن أو أُخراهن بتراب، لا تطهر إلَّا بذلك)
(1)
.
ولفظ نَص "البويطي" في أثناء "باب غسل الجمعة" قال (يعني الشَّافعي): (وإذا ولغ الكلب في الإناء، غُسل سبعًا أُولاهن أو أُخراهن بالتُّراب، فلا يُطهره غير ذلك، وكذلك رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). انتهى
وهو يشير إلى ما سبق عن "الأم" مِن ورود الحديث بالتقييد بالأُولى أو الأخيرة. وإذا كان الحديث كذلك، فليس مما نحن فيه مِن ورود مقيدين متنافيين.
فإن قلتَ: لِمَ لَمْ يعمل الأصحاب بذلك؟ بل جوَّزوا أن يكون التُّراب في إحداهن إلَّا ما ذكره المرعشي في ترتيب الأقسام مِن التّقييد كما في "البويطي" و "الأم".
قلتُ: لأنَّ الشَّافعي نَصَّ على ذلك أيضاً، ففي "عيون المسائل" ما نَصه: إلَّا أن يشرب فيه كلب أو خنزير فلا يجزئ إلَّا غسلها سبعًا إحداهن بالتُّراب، لا يطهر إلَّا بذلك.
ولفظة: "إحداهن" كما نقلها في "عيون المسائل" عن الرَّبيع عن الشَّافعي نقلها حرملة عن الشَّافعي. كذا أفاده شيخنا شيخ الإسلام البلقيني في كتاب "ترتيب الأم".
قلتُ: ونَصُّ الشَّافعي السابق لا يُنافي هذا المذكور؛ لأنَّ هذا كالمجمَل وذاك تفصيل له، أو مطلق وذاك تقييد له. فَتَأَمَّله.
= صحيح. (صحيح التِّرمذيُّ: 91). وقال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 1/ 546): رواية صحيحة.
(1)
الأم (1/ 6).
واعْلَم أنَّ حكايتهم حديث: "أخراهن" بالانفراد إنما أخِذت من رواية: "وعفروه الثامنة بالتراب"
(1)
، وليس فيها دليل؛ فإن المراد بها أن الثامنة زيادة على السبع بالماء. فسواء تَقدمت أو توسَّطت أو تأخرت هي ثامنة مِن حيث إنَّها تراب، وهي إحداهن من حيث المزج بواحدة؛ ولهذا شُرط المزج وإنْ رجح السبكي الاكتفاء بتعفير التُّراب، ومحل بيان ذلك الفقه.
تنبيه:
السؤال المذكور عن بعض الحنفية لازِم للحنفية أيضاً، فإنهم يحملون المطلق على المقيد إذا اتفق السبب والحكم. ونظير هذا السؤال سؤالان آخَران:
أحدهما: أنَّ أبا حنيفة قال: (لَّا يجري التحالف بين المتبايعين إلَّا إنْ كانت السلعة قائمة، أما في التالفة فالقول قول المشترى). وعندنا يتحالفان مطلقًا مع أنَّه روي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان، تحالفاً"
(2)
ورُوي بقيد: "والسلعة قائمة"
(3)
، فلِمَ لا حُمل المطلق على المقيد عندنا؟
وجوابه: أنَّه وَرَدَ بقيد آخَر ضد ذلك، وهو: "إذا اختلف المتبايعان و [المبيع]
(4)
مستهلك، فالقول قول البائع"
(5)
. رواه الدارقطني. فرجعنا إلى أصل الإطلاق أو الانحصار
(1)
صحيح مسلم (رقم: 280).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
كذا في (س)، لكن في (ص، ق): البيع.
(5)
سنن الدارقطني (3/ 21).
في [القيدين]
(1)
؛ [إذْ لا غيرهما]
(2)
، فانحصر العمل بِأحد [المقيدين]
(3)
وهو العمل بالمطلق.
وأيضاً: [فالمقيِّدان]
(4)
ضعيفًا الإسناد، وأمَّا قول الغزالي في كتاب "المآخذ":(إنَّ المقيَّد بقيد "الهلاك" أَجمع أهل الحديث على صحته) فممنوع؛ لِمَا ذكرناه.
وأيضاً: فلأنه إذا كان التحالف مع قيام السلعة مع إمكان الاستظهار بالرجوع إلى القيمة وتَعَرُّف صفاتها، فالتحالف مع تلفها وعدم إمكان الرجوع إلى صفاتها أَوْلى.
ثانيهما:
أنَّ في كتاب "فريضة الصدقة" في فريضة الإبل: "فإن زادت على عشرين ومائة"
(5)
، جاءت الزيادة مقيدة في حديث ابن عمر:"فإن زادت واحدة"
(6)
. فلا يجب في مائة وعشرين وبعض واحدة إلَّا ما في مائة وعشرين. فلِمَ لا حُمل المطلق على المقيد؟
وجوابه: أنَّا حملْنا وقُلنا: الواجب حقتان.
إنَّما يَرِد ذلك على الإصطخري الذي يقول: (إنَّ مطلق الزيادة كافٍ). فيجب عنده في الزائد -[ولو بعض]
(7)
الحادي والعشرين- ثلاث بنات لبون. والله أعلم.
(1)
في (س): القيدان.
(2)
في (ض، س، ت): إذا اعتبرهما.
(3)
في (ت): القيدان.
(4)
في (ت): القيدان.
(5)
صحيح البُخاريّ (رقم: 1386).
(6)
سنن أبي داود (رقم: 1568) وسنن ابن ماجة (رقم: 1805)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1568).
(7)
كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت، س): بعد. في (ض): بعض.
الفصل الرابع في "الظاهر" و "المؤَوَّل"
694 -
تَفْسِيرُ كُلٍّ وَصَحِيحُ الثَّانِي
…
وَفَاسِد - لَهَا مَضي بَيَانِي
695 -
لَكِنْ نَقُولُ: إنْ وَهَى الدَّلِيلُ
…
فَعِنْدَ ذَاكَ يَضْعُفُ التَّأوِيل
696 -
كحَمْلِ "أَمْسِكْ أَرْبَعًا" عَلَى: ابْتَدِي
…
نِكَاحَهُنَّ، مَا لَهُ مِنْ عَضُدِ
697 -
وَنَحْوه {سِتِّينَ مِسْكِينًا} عَلَى
…
سِتِّينَ مُدًّا، مِثْلُ ذَا لَنْ يُقْبَلَا
الشَّرح:
أي: هذا الفصل فيما سبق مِن [أحد]
(1)
المهمات مِن أقسام القول، وهو:"الظاهر" و "المُؤَوَّل". وقد سبق تفسير كل منهما في مباحث الأقوال، وسبق أن التأويل ينقسم إلى صحيح وفاسد وتفسير كل منهما.
فقولي: (لَهَا) أي: للأمور الثلاثة (مَضى بَيَانِي) فتعلق اللام بالمصدر وهو "بيان"، والإشارة بالسبق إلى قولي في تقسيم المنطوق إلى "نص" و "ظاهر".
(وَالَّذِي قَدْ ضَعُفَا فِيهِ احْتِمَالٌ "ظَاهِرٌ" قَدْ عُرِفَا) أي: "الظاهر" ما يدل على معنى مع احتمال إرادة معنى غيره مرجوح، بخلاف "النَّصُّ"، فإنَّه الذي لا يحتمل غير معنى.
وسواء في "الظاهر" أن يكون:
(1)
في (ت، س): إحدى.
- دلالته من حيث اللُّغة، كـ "الأسد" مع احتمال الشجاع.
- أو من حيث العُرْف، كـ "الغائط"، فإنَّه يحتمل معناه الأصلي وهو المكان المطمئن.
- أو من حيث الشرع، كـ "الصَّلاة" مع احتمال إرادة الدعاء كما في {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103].
وأصل "الظاهر" في اللُّغة: الواضح.
وأمَّا المؤول تأويلًا صحيحًا أو فاسدًا فسبق في قولي:
وَإنْ عَلَى الْمَرْجُوحِ جَا دَلِيلُ
…
فَتَرْكُ ظَاهِرٍ لَهُ تَأْوِيلُ
صَحِيحٌ، اوْ مَا أَشْبَهَ الدَّلِيلَا
…
فَفَاسِد، وَلَيْسَ ذَا مَقْبُولَا
أَوْ لَا لِشَيْءٍ أبدًا فَلَعِبُ
…
وَلَيْسَ في التَّأوِيلِ هَذَا يُحْسَبُ
وسبق شرح ذلك كله.
وقولي هنا: (لَكِنْ نَقُولُ) أي: نزيد هنا على ما سبق أنَّ التأويل إذا كان دليله ضعيفًا، كان مردودًا كما سبقت الإشارة إليه هناك، ويُسمى "التأويل البعيد"، بخلاف ما دليل إرادة الخفي فيه قوي، فإنَّه صحيح، ويسمى "التأويل القريب".
فمن القريب بل المتعين تأويل آيات الصفات والأحاديث المشْكلة، فإن الدليل العقلي والشرعي قائم على عدم إرادة ظاهره، بل اتفاق السلف والخلف على منع حمله على الظاهر إذا خالف التنزيه. وقد سبق تقرير ذلك مرات
(1)
.
وأمَّا في أدلة الأحكام الفرعية فكثير، كتأويل: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
(1)
بل هذا يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد سبق بيان ذلك في مقدمة تحقيقي (ص 32).
بالسواك"
(1)
أي: أمر إيجاب، فإن مطلَق الأمر قد ورد في قوله:"استاكوا"
(2)
.
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
وأمَّا التأويلات البعيدة فذكرت في النَّظم منها مثالين:
أحدهما: تأويل الحنفية قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة وقد أسلم على عشر نسوة: "أَمْسِك أربعًا وفارق سائرهن"
(3)
على أن المراد: ابتدئ نكاح أربع إنْ شئت بعد مفارقتك [مَن]
(4)
تقرر نكاحه مِن الأربع الأوائل.
ونحوه تأويل "الأربع" بالأوائل، أي: أمسك الأربع الأوائل وفارق سائرهن، وهو مَن بقي بعد الأوائل.
ووَجْه بُعده أن مخاطبة مَن تَجدد إسلامه مِن غير سَبْق بيان لشروط النكاح بذلك مع أن الحاجة داعية إليه لِقُرْب عَهْده بالإسلام -في غاية البُعد، ومع أنَّه لم ينقل تجديد قط لا منه ولاِ من غيره.
وأيضًا: فالابتداء يحتاج إلى رِضَى مَن يبتدئها، ويصير التقدير: فارِق الكل، وابتدِئ بعد ذلك مَن شئت. فيضيع قوله:"اختر أربعاً"؛ لأنهن قد لا يرضين -أو بعضهن- أن يرجع إليه.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
مسند أحمد (رقم: 1835)، مصنف ابن أبي شيبة (1806)، مسند البزار (4/ 131، رقم: 1302)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 151)، وغيرها. قال الشَّيخ الألباني: ضعيف. (السلسلة الضعيفة: 1748). وانظر كلام الحافظ ابن الملقن عليه في (البدر المنير، 2/ 40).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
في (ص، ق): مع.
وأيضًا: الأمر للوجوب، وكيف يجب عليه ابتداؤه وليس بواجب في الأصل؟
ومن ثَمَّ قال أبو زيد مِن الحنفية: هذا الحديث لا تأويل فيه، ولو صح عندي لقُلتُ به.
ولهذا قلتُ في النَّظم: (مَا لَهُ مِنْ عَضُدِ)، أي: ليس لتأويلهم بذلك شيء يعتضد به. وقد سبق فوائد تتعلق بهذا الحديث في قاعدة: "ترك الاستفصال"، فليراجع.
قال ابن الحاجب: (وأمَّا تأويل قوله صلى الله عليه وسلم لفيروز الديلمي وقد أَسلم على أختين: "اختر أيتهما شئت"
(1)
فأبعد)
(2)
.
أي: تأويله بمثل ما سبق في حديث غيلان أَبْعَد؛ لِما سبق مِن الأمرين، وزيادة أمر ثالث وهو التصريح بقوله:"أيتهما شئت"، لظهوره في أن التَّرتيب غير معتبَر.
ولهم أيضاً تأويل ثالث يشملهما، وهو أنَّه لعل هذا كان قبل حَصر النساء وقَبْل تحريم الجمع بين الأختين. وهو مردود بما سبق.
المثال الثَّاني:
تأويلهم قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] على إطعام طعام ستِّين مسكينًا، وهو ستون مُدًّا ولو كان ذلك لمسكين واحد في ستِّين يومًا؛ لأنَّ المقصود دفع الحاجة، وحاجة ستِّين كحاجة واحد في ستِّين يومًا؛ فاستويَا في الحكم.
ووجْه بُعْده أنَّه تعطيل للنَّص؛ إذ جعلوا [المعدوم]
(3)
-وهو "طعام"- مذكورًا، فيصح كونه مفعولًا لِـ "إطعام"، وجعلوا المذكور -وهو "ستِّين مسكينًا"- عَدمًا مع صلاحيته لكونه مفعولًا لِـ "إطعام" مع ظهور قصد العدد؛ لفضل الجماعة وبركتهم وتظافُر قلوبهم على
(1)
سبق تخريجه.
(2)
مختصر المنتهى (2/ 419) مع بيان المختصر.
(3)
في (ص، ق): المعلوم.
الدعاء للمحسن، وهذا لا يوجد في الواحد؛ ولهذه الحكمة شُرِعَت الجماعة في الصَّلاة وغيرها.
وأيضًا فلا يجوز استنباط معنى مِن النَّصُّ يعود عليه بالإبطال.
قال إمام الحرمين: (ولأنَّ "أطعم" يتعدى إلى مفعولين، والمهم منهما ما ذُكر، وغير المهم هو المسكوت عنه، وقد ذكر الله عدد المساكين وسكت عن ذِكر [الطَّعام]
(1)
، فاعتبروا المسكوت وتركوا المذكور، وهو عكس الحق)
(2)
.
وانتصر المازري
(3)
للحنفية بوجهين: فقهي، ونحوي:
فالفقهي: أنَّه لا يَلزم مِن قولهم إبطال النَّصُّ إلَّا إذا جوَّزوا إعطاء المسكين الستين مُدًّا دفعةً، أما في ستِّين يومًا فكل يوم ذلك المعطَى يَصدُق عليه أنَّه مسكين. فإذا أطعِم في ستِّين يومًا، كان إطعام ستِّين مسكينًا؛ لأنهم لم يُعيِّنوا المعطَى، إنَّما ذلك على سبيل الاتفاق مثلًا.
وأمَّا النّحوي: فذكر أن سيبويه يُقدِّر المصدر بـ "ما" ويقدره بـ "أن". فهنا يُقدَّر بـ "ما"، أي: فما يُطعِم ستِّين مسكينًا. وإليه جنح أبو حنيفة. وغيرُه يُقدِّر بـ "أن".
ورُدَّ الأوَّل بأنَّ تعطيل النَّصُّ بالاتحاد حاصل سواء في ستِّين يومًا أو دفعةً، وقد سبق حِكمة الجمع.
ورُدَّ الثَّاني بأنَّ الذي يُقدِّره سيبويه إنَّما هو في المصدر العامل، يُقدِّره بالحرف المصدري مع الفعل على تفصيله المشهور في الماضي والحال والمستقبل.
قال ابن السبكي: (وقد أرسلتُ إلى الشَّيخ جمال الدين ابن هشام وهو أَعْلَم هذه
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الاطعام.
(2)
البرهان (1/ 361).
(3)
إيضاح المحصول (ص 399 - 400).
الأقاليم الآن بالعربية، فقال: لا يعْرف ما قاله المازري في كلام سيبويه)
(1)
. انتهى
وحينئذٍ فما قاله المازري إنَّما هو إذا كانت "ما" موصولة بمعنى "الذي" حتَّى يكون مُعبّرًا به عن الأمداد التي هي الطَّعام.
ومن أمثلة البعيد أيضاً تأويلهم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارَقُطْني عن عائشة: "أيُّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل"
(2)
على الصغيرة والأَمَة والمكاتِبة.
ووجه بُعده أنَّ الصغيرة ليست بامرأة في لسان العرب، وقد ألزموا سقوط هذا التأويل على مذهبهم، فإن الصغيرة لو زوجت نفسها، كان العقد عندهم صحيحًا [لكن]
(3)
يتوقف على إجازة الولي. فلما ألزِموا بذلك، فروا إلى حمله على الأَمة، فألزموا بطلانه بقوله صلى الله عليه وسلم:"فلها المهر"
(4)
. ومَهْر الأَمَة إنَّما هو لسيدها، ففروا مِن ذلك إلى حمله على المكاتبة، فقيل لهم: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ صيغة العموم الصريحة [المؤكدة]
(5)
بضم "ما" معها في قوله: "أيُّما" على صورة نادرة لا تخطر بالبال غالبًا وذلك بالنسبة للمخاطَبين في غاية البُعد.
وقد رتبها في "المختصر" وتبعه في "جمع الجوامع" لما قررناه في الجدال، وهو مِن المحاسن المغفول عن إدراكه.
(1)
رفع الحاجب (3/ 465).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
في (ص، ق): لا.
(4)
سنن أبي داود (رقم: 2083)، سنن ابن ماجة (رقم: 1879) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2083).
(5)
في (ت، س، ض): المذكورة.
ومنها: حملهم حديث أبي بكر في "كتاب فريضة الصدقة" في "البُخاريّ": "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة"
(1)
وفي رواية أبي داود والترمذي مِن حديث ابن عمر: "وفي الغنم في أربعين شاة شاة"
(2)
على أنَّ المراد: في أربعين شاة قيمة شاة؛ لأنَّ اندفاع الحاجة كما تكون بالشاة تكون بالقيمة.
وهو يؤدِّي إلى بطلان الأصل؛ لأنَّه إذا وجبت القيمة، لم تجب الشَّاةِ؛ فعاد هذا الاستنباط على النَّصُّ بالإبطال، وذلك غير جائز.
قيل: وفيه نظر؛ لأنهم لم يُبطلوا إخراج الشَّاةِ، بل قالوا: يتخير بين الشَّاةِ وقيمة الشَّاةِ.
وهو استنباط يعود بالتعميم كما في "وليستنج بثلاثة أحجار"
(3)
تعمم في الخِرَق ونحوها. وفي: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"
(4)
تُعمَّم في كل ما يشوش الفكر، ولا يعود بالإبطال.
وأُجيب بأنَّ الشارع لَعلَّه راعَى أن يأخذ الفقير مِن جنس مال الغني، فيتشاركان في الجنس، فيبطل بالقيمة، فعاد بالبطلان مِن هذه الجهة، وباب الزكاة فيه ضرْب مِن التعبُّد.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
مسند الشَّافعي (ص 13، رقم: 38)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 437، 500)، وغيرهما. قال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 2/ 296): (هو حديثٌ صحيحٌ).
(4)
مسند أحمد (20405)، سنن ابن ماجة (رقم: 2316)، وغيرهما بلفظ:(لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1888).
وهو في صحيح البُخاريّ (6739) بلفظ: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان). وفي صحيح مسلم (1717) بلفظ: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان).
قلتُ: وأيضًا فإذا كان التقدير "قيمة شاة"، يكون قولهم بإجزاء الشَّاةِ ليس بالنص، بل بالقياس، [فيترك]
(1)
المنصوص ظاهرًا ويخرج ثم يدخل بالقياس. فهذا عائد بإبطال النَّصُّ لا محالة.
ومنها حديث: "لا صيام لمن لم يُبيِّت الصيام من الليل"
(2)
. وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجة عن ابن عمر على خلافٍ في رَفْعه ووَقْفه. ورواه الدارقطني عن عائشة [مرفوعًا]
(3)
. حملوه على صوم القضاء والنذر؛ بِناءً منهم على مذهبهم في صحة الفرض بِنِيَّة مِن النهار.
قال ابن الحاجب: (فجعلوه كاللغز)
(4)
.
أي: في حملهم العام على صورة نادرة. فإن ثبت ما ادَّعوه مِن الحُكم بدليل كما قالوا، فليُطْلَب لهذا الحديث تأويل قريب غير هذا، مِثل نفي الكمال، فقد قال إمام الحرمين: إنَّه أقرب مِن التأويل السابق.
قال: (وهو أقرب أيضاً مما قاله الطحاوي وتبجَّح به مِن أنَّ المراد النَّهي عن الاكتفاء بِنِيَّة صوم الغد في بياض نهار اليوم، بل عليه أن يؤخَر النيَّة إلى غيبوبة الشَّمس؛ حتَّى يكون بإيقاع النيَّة في الليل مُبَيِّتًا. وزعم أن هذا التأويل يجري في جميع أنواع الصوم فرضًا ونفلًا)
(5)
.
(1)
في (ق، ص): فيدرك.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ليس في (ص، ق).
(4)
مختصر المنتهى (2/ 425) مع بيان المختصر.
(5)
البرهان (1/ 344).
قال الإمام: (وهو كلام غث لا أصل له، وهو يَحطُّ مِن مرتبة الطحاوي)
(1)
.
وحاصل التأويل أنَّ "مَن لم يُبَيِّت" يشمل: مَن لم يَنْوِ أصلًا، ومَن قدَّم النيَّة على الليل فنوى قبل غيبوبة الشَّمس. فظاهر العموم بطلان صوم الجميع.
وقال الطحاوي: يستقر مَن لم يَنْوِ أصلًا ومَن قدَّم النيَّة على الليل، ويخرج عنه مَن أخرج النيَّة عن الليل وأوقعها في نهار الصوم بِناءً على القياس على التطوع المنصوص عليه.
وقد أطال الإمام في رَدِّه بما لا مزيد على حُسنه.
ومنها حملهم قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] في آيتَيِّ الفيء والغنيمة على الفقراء منهم دُون الأغنياء؛ لأنَّ المقصود دفع الخلة، ولا خلة مع الغني. فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أنَّ القرابة هي سبب استحقاقهم ولو مع الغِنَى.
فإن عللوا بالفقر وإنْ لم يكن قرابة، فعطَّلوا لفظ:{ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]. وإنِ اعتبروهما معًا فلا يبعد، وغايته تخصيص عموم كما فعله الشَّافعي في أحد القولين في تخصيص اليتامى بذوي الحاجة.
نعم، هو أنزل مِن صنيع الشَّافعي في اليتامى؛ مِن وجهين:
أحدهما: أنَّه زيادة على النَّصُّ، كالإيمان في "رقبة"، وأبو حنيفة يرى ذلك نَسخًا، والنسخ لا يكون بالقياس واستنباط المعنى. بخلاف ما قال الشَّافعي في اليتامى، فإنَّه لا يرى الزيادة نسخًا.
الثَّاني: أن لفظ "اليتيم" مع قرينة إعطاء المال مُشْعِر بالحاجة، فاعتباره مأخوذ من نَفْس الآية. واليتيم إذا تَجرد عن الحاجة، غير صالح للتعليل، بخلاف القرابة، فإنَّها مناسبة
(1)
البرهان (1/ 344).
للإكرام باستحقاق خمس الخمس.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]، الآية، حمله مالك على أنَّه بيان للمصرف دون إرادة استيعاب الأصناف بالعطاء.
وقد نُقل عن الشَّافعي استبعاده، وذلك واضح؛ لأنَّ الاقتصارَ على صنْفٍ تعطيلٌ، لا تأويل؛ لأنَّ "اللام" للملك، والعطف للتشريك فيه. وقد وافقنا المالكيّة في ما لو أوصى بثلث ماله للفقراء وفي الرقاب وفي سبيل الله على أنَّه لا يجوز صرف الثلث إلى أحدها. ولذلك أوضح الشَّافعي مذهبه بمسألة الوصيَّة.
قال إمام الحرمين: (ولم يظن -يعني الشَّافعي- أنَّ أحدًا يُجيز أن يُقدم في مسألة الوصيَّة على منع)
(1)
. انتهى
وقد أَحدث بعض المتأخرين منعًا؛ إلحاقًا لها بمصرف الصدقات.
ولم يَرْتَضِ ابن الحاجب أن التأويل في هذه الآية من البعيد.
قال: (لأنَّ مساق الآية قبلها [والرد]
(2)
على لمزهم في المعْطِين ورضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم يدل عليه)
(3)
.
أي: على أنَّ الغرض بيان المصرف.
وبالجملة فالجدال بين الفريقين في ذلك طويل، لا يليق بهذا المختصر. والقصد التمثيل. ومنها حديث:"ذكاة الجنين ذكاة أُمه"
(4)
. رواه أحمد وابن حبان مِن حديث أبي سعيد
(1)
البرهان (1/ 360).
(2)
في (ص): وارد.
(3)
مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 431).
(4)
مسند أحمد (رقم: 11361)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 1476)، صحيح ابن حبان (5889). قال الألباني: صحيح. (صحيح التِّرمذيُّ: 1476).
مرفوعًا، وهو يُروى بالرَّفع على المحفوظ، وبه ينتهض استدلال الشَّافعي على أنَّه يحل بذكاة أُمه إذا لم يُقْدر على ذبحه.
وعند الحنفية تجب ذكاة الجنين مطلقًا، ويروون الحديث بنصب "ذكاة أُمه" على تقدير "كذكاة أُمه"، فنُصِبَ على إسقاط الخافض. وعلى هذا يحملون رواية الرفع على حذف مضاف، أي:"مِثل ذكاة أُمه"، ويوجهون النصب بتوجيه آخَر، وهو أنَّه منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع، والعامل فيه "ذكاة" الأُولى، والخبر محذوف، أي:"واجبة" أو: "لازِمة" أو نحو ذلك.
لكن أصحابنا وهَّموا رواية النصب، وقالوا: المحفوظ الرَّفع كما قاله الخطابي وغيره؛ إمَّا لأنَّ "ذكاة" الأُولى خبر مقدَّم، و "ذكاة" الثَّاني هو المبتدأ، أي: ذكاة أُم الجنين ذكاة له، وإلا لم يكن للجنين مزية. وحقيقة "الجنين" ما كان في البطن، وذبحه في البطن لا يمكن. فعُلم أنَّه ليس المراد أنَّه يُذكَّى كذكاة أُمه، بل إنَّ ذكاة أُمه ذكاةٌ له كافية عن تذكيته، ويؤيده رواية البيهقي:"ذكاة الجنين في ذكاة أُمه"
(1)
. وفي رواية: "بذكاة"
(2)
.
فالنصب إنْ ثبت فهو على حذف هذا الخافض، لا على حذف الكاف كما زعموا.
قال ابن عمرون: تقديرهم حذف الكاف ليس بشيء؛ لأنَّه يَلزم منه جواز قولك: "زيد عمرًا" أي: "كعمرو". وأيضًا فحذف حرف الخفض مِن غير سبق فِعل يدل على التوسع
(1)
موطأ مالك (رقم: 1046) من قول سعيد بن المسيب، وعنه نقله البيهقي (مختصر خلافيات البيهقي، 5/ 85).
(2)
قال الإمام البيهقي في (مختصر خلافيات البيهقي، 5/ 85): (روى مَالك عَن نَافِع أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهم كَانَ يَقُول: "إِذا نحرت النَّاقة، فذكاة مَا فِي بَطنهَا بذكاتها إِذا كَانَ قد تمّ خلقه وَتمّ شعره، فَإِذا خرج من بَطنهَا -يَعْنِي حَيا- ذبح حَتَّى يخرج الدَّم مِن جَوْفه).
فيه. وعلى تقدير صحة النصب، فيجوز أن يكون على الظرفية، أي: وقت ذكاة أُمه. فحُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه، وهو حينئذٍ دليل للشافعي؛ لأنَّ الثَّاني إنَّما يكون وقتًا للأول إذا أغنى الفعل الثَّاني عن الأوَّل، ويرجح هذا التقدير موافقته لرواية الرفع.
وأمَّا ما قالوه في تقدير الرَّفع فساعدهم ابن جني -على عادته- وقال: إذا حمل على ما قاله أبو حنيفة، يكون المجاز وقع في الخبر، وهو الكثير، فكان الحمل عليه أَوْلى.
وهذا مردود بما قاله ابن عمرون؛ لأنَّ سياق الحديث وسؤالهم: أنلقيه؟ أَم نأكله؟ لم يكن لأنهم شكوا أنَّ ما أدرك ذكاته وذكي مِن هذا الصنف المأكول يحل أكله، وإنَّما سألوه عن ما تَعذَّر فيه الذبح؛ فوجب حمله على ذلك؛ ليكون الجواب مطابقًا للسؤال.
ومنها حديث الحسن، عن سمرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن مَلَكَ ذا رَحِم مَحْرَم فهو حُر"
(1)
. رواه أحمد وأبو داود والنَّسائيُّ وابن ماجة والطبراني، والترمذي وقال: لا نعرفه مسندًا إلَّا مِن حديث حماد عن قتادة عن الحسن.
وقد [تكلم]
(2)
في هذا الحديث غير واحد مِن الحفَّاظ، وقد رُوي مِن قول عمر ومن قول الحسن، وقال النَّسائيّ:(حديث منكر). ورُوي من حديث ابن عمر وعائشة.
فعَلَى تقدير صحته حمله بعض الشَّافعية على الأصول والفروع؛ لأنَّ مذهب الشَّافعي اختصاص العتق بذلك، لا مطلق الرَحم. لكن ليس للشافعي احتياج لهذا الحمل في ثبوت الحكم، إنَّما له أدلة أخرى مشهورة في الفروع، مع ضعف هذا الحديث من الأصل. فليس هذا الحمل بمرضِي عند الحُذاق.
(1)
سنن أبي داود (رقم: 3949)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 1365)، وسنن ابن ماجة (رقم: 2524)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1746).
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): نظر.
ومنها حديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة؛ فتقطع يده، ويسرق الحبل؛ فتقطع يده"
(1)
. أخرجه البُخاريّ ومسلم عن أبي هريرة. حمله بعضهم على البيضة مِن الحديد وحَبل السفينة. حكاه ابن قتيبة عن يَحْيَى بن أكتم.
ووَجْه بُعده أنَّه ليس موضع تكثير لما يقطع به السارق، إنَّما هو موضع تقليل؛ إذ لا يقال: قبح الله فلاناً؛ عرض نفسه للضرب في عقد جوهر. إنَّما يقال: عرض يده في خلق رث. وإنَّما سياق الحديث في تَدَرُّج السارق مِن القليل إلى أن يصعد، فأول ما سرق بيضة الدجاج مثلاً والحبل الذي ثمنه يسير، وإنْ كان لا يُقطع بهما لكنه يتدرج إلى أن يسرق أكثر فأكثر حتَّى يسرق نصابًا؛ فتُقطع.
وأمَّا الجواب بأن ذلك كان أولاً ثم جاء الإعلام بأنه لا يُقطع إلَّا في ربع دينار فصاعدًا فَفِيه بُعْد.
ومنها حديث: "أُمر بلال أن يشفع الأذان"
(2)
. أخرجاه.
نقل عن بعض السلف أن الأذان فرادى، وأن الحديث محمول على أن يجعل أذانه شفعاً لأذان ابن أم مكتوم.
وضُعِّف بأنَّ بلالًا كان يؤذن بِلَيْل، وابن أم مكتوم يتأخر حتَّى يقال له:"أصبحت أصبحت"
(3)
، فكيف يكون [الأوَّل]
(4)
شفعًا للثاني؟ !
(1)
صحيح البُخاريّ (رقم: 6401)، صحيح مسلم (رقم: 1687).
(2)
صحيح البُخاريّ (رقم: 580)، صحيح مسلم (رقم: 378).
(3)
صحيح البُخاريّ (592).
(4)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الاذان.
وفيه نظر؛ فقد روي في حديث آخَر أنَّ أذان ابن أم مكتوم كان يتقدم على أذان بلال
(1)
.
والأجود الرد بغير ذلك، وهو ثبوت كوْن الأذان مثنى.
وقد أشرتُ إلى هذه التأويلات البعيدة كلها بقولي في النَّظم: (مِثل ذَا لَنْ يُقْبَلَا). والله أعلم.
(1)
مسند أحمد (27480)، صحيح ابن خزيمة (406)، صحيح ابن حبان (3473، 3474)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3464).
الفصل الخامس في "المُجْمَل" و "المُبَيَّن"
698 -
قَدْ فُسِّرَ "الْمُجْمَلُ" وَ"الْمُبين"
…
فِيمَا مَضى، وَهَا هُنَا [يُبيَّنُ]
(1)
699 -
أَنَّ مِنَ الْمُبين ابْتِدَاءَ
…
آيَةَ {وَالسارق} لَا مِرَاءَ
الشَّرح:
أي: ومن أقسام القول: "المُجْمَل" و "المُبَيَّن". وقد سبق أيضاً في تقسيمات الألفاظ تفسيرهما ومحلهما، ولكن نذكر هنا مِن أمثلتهما وأحكامِهما طَرفًا يتضحان به.
ولنُقدِّم على ذلك أنَّه قد سبق أنَّ المجمل أصله مِن الجمل وهو الجمع، ونزيد هنا أنَّ من معانيه اللغوية أيضاً: الإبهام، مِن "أَجْمَل الأمر" أي: أَبْهَمه.
ومنها: التحصيل. مِن "أَجْمل الشيء": حَصَّله. فيمكن أن يكون الاصطلاحي من واحد منها.
وأمَّا في الاصطلاح فذكروا له تعريفات، والمختار ما أسلفناه من التعريف هناك، إلَّا أن قولي فيه:(مَا لَمْ تتضح دلالته) يشمل ما هو المقصود هناك مِن أقسام القول، ويشمل الفعل أيضاً؛ لأنَّه لا تتضح دلالته.
ولذلك اختاره ابنُ الحاجب، وضَعَّفَ تفسيره بِـ "اللفظ الذي لا يُفهم منه عند الإطلاق
(1)
في (ن 1): نبين.
شيء" بأنه يدخل فيه المُهْمَل والمستحيل
(1)
.
أي: لأنَّه لا يُفهم مِن المُهْمَل شيء، وأمَّا المستحيل فليس بشيء.
وانتُقِد ذلك بأن قوله: "عند الإطلاق" يقتضي أنَّه يُفهم منه شيء عند التّقييد، فلا يدخل المهمل ولا المستحيل؛ لأنهما لا يُفهم منهما شيء لا عند الإطلاق ولا عند التّقييد.
قلت: إذا لم يُفهم منه عند الإطلاق شيء، فتقييده في ذلك وعدم تقييده سواء؛ لأنَّ التّقييد لا يُحدِث للمطلق دلالة بعد أن لم تكن. وإنَّما الحادث مِن دلالة المطلق عند التّقييد مِن مجموعهما، لا مِن اللفظ وَحْده.
قال ابن الحاجب: (ولا ينعكس)
(2)
. أي: هذا التعريف؛ لجواز فَهْم أحد المحامل منه على الجملة وهو أحد هذين. فيُفْهِم انتفاء غيرهما؛ ولأن ذلك قد يكون في الفعل كقيامٍ مِن الرَّكعة الثَّانية مِن غير تَشَهد، فإنَّه مجمَل؛ لاحتمال الجواز والسهو مع أنَّه ليس بلفظ.
وسبق أيضاً أنَّ "المبيَّن" إنَّما يكون مِن الابتداء، أو إمَّا أنه كان مجُمَلًا ثم صار مبيَّنًا.
فمِن الذي عَدَّه بعضهم مِن "المجمَل" وهو مِن المبيَّن في الابتداء قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. قال بعض الحنفية: مجُمَل؛ لأنَّ اليد تطلق على ما هو للكوع وما هو للمنكب وما هو للمرفق؛ فيكون مشتركًا، وهو مِن المجمَل. والقطع: يطلق على الإبانة وعلى الجرح؛ فيكون مجمَلًا.
والصحيح أنَّه لا إجمال في ذلك؛ لأنَّ اليد حقيقة إلى المنكب؛ لصحة إطلاق بعض اليد لِمَا دُونه، والقطع حقيقة في إبانة المنفصل، فلا إجمال في شيء منهما، فإطلاقها إلى الكوع مجاز قام الدليل على إرادته في الآية وهو فِعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم والإجماع. والله أعلم.
(1)
مختصر المنتهى مع شرط الأصفهاني (2/ 358).
(2)
مختصر المنتهى مع شرط الأصفهاني (2/ 358).
ص:
700 -
وَمثْلُهَا تَحْرِيمُ الُامَّهَاتِ
…
وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ
الشَّرح:
أي: ومما عُدَّ مِن "المجمَل" وهو مِن "المبيَّن" نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فإنَّه يحتمل تقديرات، فزعم الكرخي والبصري وبعض أصحابنا أنَّه مجُمَل.
والصحيح -وهو مذهب الشَّافعي كما قال ابن برهان- أنَّه مِن "المبَين"، قال: خلافًا للحنفية؛ لأنَّ الحذف إذا قامت عليه قرينة، وضحت دلالته؛ لأنَّ العُرف دَلَّ على أحد التقديرات وهو الفعل المقصود مِن تلك الذّات التي أُسْنِد التحريم إليها، بدليل أنَّه لو قال لغيره:"حرمت عليك هذا الطَّعام"، عُقِل منه تحريم الأكل، فكذلك يُعقَل مِن تحريم الميتة تحريمُ أكلها، وكذلك الأمهات المعقول فيهن تحريم نكاحهن، فلا إجمال.
واحتج لهذا الشَّيخ أبو حامد باحتجاج الصّحابة بظواهر هذه الأمور ولم يرجعوا إلى غيرها، فلو لم يكن مِن المبيَّن، لم يحتجوا بها.
نعم، إذا لم يتضح أحد المجازات المقَدَّرة بقرينة ولا بشهادة عُرف، قُدِّر الجميع؛ لأنَّه الأقرب إلى الحقيقة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها؛ فأكلوا ثمنها"
(1)
. فلو لم يَعُم جميع التصرفات، لَمَا اتجه اللعن في البيع. وقد سبق شرح هذا كله في دلالة المقتضى [في]
(2)
باب العموم في أنَّه يَعُم؟ أوْ لا؟
(1)
سبق تخريجه.
(2)
كذا في (س، ت)، لكن في سائر النسخ: وفي.
أما إذا قُلنا بأن الأحكام تتعلق بالذوات وأنها توصف بالحِل والحرمة كما ذهب إليه المعتزلة ويُعْزَى للحنفية أيضاً، فعدم الإجمال فيها واضح.
نعم، اختلفوا في الأحكام هل تكتسب بها الذوات صفة؟ أوْ لا؟
فالجمهور على المنع وأنها مِن صفات التعلق. فإذا قيل: هذا الشيء نجس، فليس النجاسة ولا كونه نَجِسًا راجعًا إلى نفسه ولا إلى صفة للذات، بل الذّات على حالَتَي الطهارة والنجاسة سواء، لم تستفد بهذا الحكم صفة زائدة قائمة بها، وإنَّما استفادت تَعلُّق حُكم الاجتناب -مثلاً- في النجاسة بها، وفي الخمر تَعلُّق التحريم بشربها، وأشباه ذلك. كما إذا عَلِمْتَ أنَّ زيدًا قائم أو قاعد، لم يكتسب زيد بذلك وصفاً، ولا تغَير مِن صفاته شيء.
وذهب السرخسي وفخر الإسلام -مِن الحنفية- إلى أنَّ الحكم يتعلَّق بالعين كما يتعلق بالفعل، وتكتسب العين وصفًا به.
قال القاضي في "التقريب": واعتل مَن زعم أنَّ التحريم والوجوب يرجعان إلى ذات الفعل بضرْبٍ من الجهل، وهو أنَّه لو توهم عدم الفعل؛ لَعدمت أحكامه بأسرها، فوجب أن تكون أحكامه هي هو.
قال: وهذا باطل؛ لأنَّه قولٌ يوجِب أن يكون جميع تصرفات الأجسام وأحكامها وأقوالها وأفعالها هي هي؛ لأنَّه لو تصوّر عدم الجسم؛ [لعُدمت]
(1)
أحواله وأكوانه وجميع تصرفاته، [فيجب]
(2)
أن يكون هو عبارة عن أفعاله ونحو ذلك، ولا يقول بذلك عاقل.
قال: واعتلوا أيضاً بقولك: هذا حلال وهذا حرام.
وجوابه أنَّه لا اعتبار بالإطلاقات التي منها حقيقة ومنها مجاز.
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: لعدم.
(2)
كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: لوجب.
وأعلم أن القاضي أبا الطَّيِّب جعل مِن أمثلة المسألة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض"
(1)
.
قال: (فمن أصحابنا مَن قال: مجُمَل؛ لأنَّ الأعيان لا تدخل في التحريم، بل الأفعال. ويحتمل أنَّ المقدَّر "المروردَّ أو "المكث"، فيتوقف فيه؛ إذ ليس إضمار أحدهما بِأَوْلى مِن الآخَر). انتهى
لكنْ قام الدليل على جواز المرور، وهو:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]؛ فتعيَّن المُكث، فلا إجمال. والله تعالى أعلم.
ص:
701 -
وَفي الْوُضُوءِ {بِرُءُوسِكُمْ} ، وَفي
…
"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِيَ الْخَطَأ" نُفِي
702 -
كَذَاكَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَليْ"
…
وَنَحْوُهُ، فَوَاضِحٌ ذَا مُنْجَلِيْ
الشَّرح:
هذه ثلاثة مواضع أخرى قيل: إنها مُجْمَلة. والصحيح خِلافُه.
أحدها:
قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)} [المائدة: 6]، ذهب بعض الحنفية إلى أنَّه مجُمل؛ لتردده بين الكل والبعض، وأن السُّنَّة بيَّنت البعض. وحكاه في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري. والمرجَّح أنَّه لا إجمال، لأنَّ:
مَن ذهب إلى أن الوجوب متعلق بالبعض -كالشافعية- اعتمادًا على إفادة "الباء"
(1)
سبق تخريجه.
التبعيض، أو أنَّه لو لم يكن المراد بعد دخول "الباء" البعض، لم تكن لها فائدة؛ فإنَّ "مسح" يتعدى بنفسه. أو أن الرأس آلة و "الباء" للاستعانة، والآلة لا يمسح بجميعها، فلا إجمال عنده.
ومَن رأى مسح الكل -كالمالكية على المشهور عندهم- لِتعلُّق الحكم بالرأس، والأصل والحقيقة هو الكل، فلا إجمال أيضاً عنده.
ومَن قال: إن القدر المشترك بين مسح الكل والبعض، فيَصْدُق مسح البعض. ونَسَبه في "المحصول" للشافعي. وقال البيضاوي:(إنَّه الحقُّ). لكنَّه مخالف لما أسلفه من أنَّ "الباء" تجيء للتبعيض كالآية. ونقل ابن الحاجب عن الشَّافعي وأبي الحسين وعبد الجبار ثبوت التبعيض بالعُرف، لكن نقل في "المعتمد" عن أبي الحسين أن اللُّغة تقتضي مسح الجميع.
ثم قال ابن الحاجب: (وعلى قول الشَّافعي ومَن وافقه لا إجمال)
(1)
. انتهى
وعبارة الشَّافعي في كتاب "أحكام القرآن": فكان معقولًا في الآية أنَّ مَن مسح مِن رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلَّا هذا، وهو أظهر معنييها، أو مسح الرأس كله.
قال: (فدلت السُّنَّة على أن ليس على المرء مسح رأسه كله. وإذا دلت السُّنَّة على ذلك، فمعنى الآية أنَّ مَن مسح شيئًا مِن رَأسه أَجزأَه). انتهى
فلم يثبت الشَّافعي التبعيض بالعُرف كما زعمه ابن الحاجب.
ومَن قال بالإجمال زعم أن السُنَّة بينت المراد وهو مسحه صلى الله عليه وسلم على ناصيته وكمل على العمامة، ففي رواية عن أبي حنيفة: إذا مسح بناصيته، أجزأه، وهي ما بين النزعتين، وهي أقل من الربع. والرواية الأخرى المشهورة عنه وبها قال أبو يوسف: أنَّه لا بُدَّ مِن مسح ربع
(1)
مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 365).
الرأس بثلاثة أصابع.
وقال زفر: (الواجب الربع مطلقًا كيف مسحه).
وقال محمَّد بن مسلمة مِن المالكيّة: (يجوز اقتصاره على الثلثين). وقال أشهب: (على الثُّلث).
والكل تَعلَّقَ ببيان ما في الآية مِن الإجمال على رأيهم.
ثانيها:
قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفع عن أُمتي الخطأ"، وقد سبق في باب العموم تخريجه وفي وَجْه دلالة الاقتضاء منه وتقرير أنَّه ونحوه ليس من المجمل.
والقائل بأنه مجُمل: أبو الحسين وأبو عبد الله البصريان وبعض الحنفية، ويُحكى أيضاً عن القدرية. قالوا: لتردده بين نفي الصورة والحكم. وأيضًا إذا لم يكن نفي المذكور مرادًا، فلا بُدَّ مِن إضمار لمتعلق الرَّفع وهو متعدد.
وأُجيب عن الأوَّل بأنَّ نفي الصورة لا يمكن أن يكون مُرادًا؛ لِمَا فيه مِن نسبة كلامه صلى الله عليه وسلم إلى الخُلْف، فتَعيَّن أن المراد نفي الحُكم.
وأمَّا الثَّاني: وهو احتمال المضمرات، فقد دلَّ الدليل على المراد إمَّا بالعُرف أو غيره على ما سبق نظيره في نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .
فيقال هنا: دلَّ العُرف بأن المرفوع المؤاخذة والعقاب كما قرره القاضي في "التقريب"، وجرى عليه ابن الحاجب.
بل قال ابن السمعاني: (إنَّه يمكن أن يقال: إنَّه معقول المعنى لغةً أيضاً، ألا ترى أنَّه إذا
قال لعبده: "رفعت عنك جنايتك"، عُقِل منه رفع المؤاخذة؟ )
(1)
.
أما التضمين؛ فلأنه مِن خطاب الوضع كما سبق في الكلام في خطاب الوضع في مقدمة الكتاب.
فيقال هنا: إنَّ هذا ليس بعقاب، بل جُبران للمتلفات؛ ولذلك يجري في مَن ليس مُكلَّفًا أصلًا، كالصبي والمجنون.
أو: إنَّ هذا العموم في نفي المؤاخذة مخصَّص بالدليل، إمَّا الإجماع أو غيره كما هو موضح في محله.
نعم، انتُقد على ابن الحاجب و "جمع الجوامع" في قولهما في "باب المقتضَى":(إنَّه لا عموم فيه)، مع قولهما هنا:(إنَّه لا إجمال).
وجوابه أنَّه لا يلزم مِن نفي عمومه ثبوت الإجمال، لأنَّ بعض المقدرات إذا دلَّ الدليل عليه مِن غير أن يقال بالعموم في كل المقدرات، انتفى العموم والإجمال كما بيناه هنا، وسبق أيضاً تقريره هناك.
وحاصل ما ذُكر في هذه المسألة مِن المذاهب -كما قاله الاصفهاني في "شرح المحصول"- ثلاثة:
- مجمل.
- ومحمول على رفع الإثم ناجزًا والعقاب آجلًا. وهو مذهب الغزالي؛ لِمَا سبق مِن العُرف، إلَّا أنَّه يستثني الضَّمان كما سبق.
- ثالثها واختاره في "المحصول": محمول على رفع جميع الأحكام الشرعيّة.
(1)
قواطع الأدلة (1/ 293).
وكذا حكى الثلاثة الأقوال القاضي عبد الوهاب في "الملخص" ونسب الثالث لأكثر الفقهاء من أصحابنا وأصحابه، واختار هو الثَّاني.
ثالثها:
قوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلَّا بولي"
(1)
. وقد رواه أبو موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلَّا بولي". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وابن حبان، وصححه ابن المديني وغيره.
والمراد هنا هذا الحديث ونحوه مما فيه نفي ذوات واقعة تتوقف الصحة فيها على إضمار شيء: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"
(2)
، "لا صيام لمن لم يُبَيِّت الصيام"
(3)
، وهو كثير. وقد سبق تقرير المقدَّر فيه في دلالة المقتضَى وفي عمومه أولاً.
والمراد هنا أنَّ الجمهور على أنَّها ليست بمجملة؛ بناء على القول بثبوت الحقائق الشرعيّة. فإن المختل منها بشرط أو ركن يصح نفيه حقيقة؛ لأنَّ الشرعي هو تام الأركان متوافر الشروط؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: "ارْجع فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ"
(4)
. وإذا كانت الحقيقة هي المراد نفيها، فلا يحتاج نفيها لإضمار شيء؛ فلا إجمال.
وذهب القاضي أبو بكر وبعض المعتزلة إلى أنَّها مجُملة؛ بناءً منه على مذهبه في نفي الحقيقة الشرعيّة، وأنَّ الشرعي للأَعم [مِن]
(5)
الصَّحيح والفاسد.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
في (ص، ق، ش): و.
نعم، القائلون بالإجمال اختلفوا في سببه على أقوال:
أحدها: أنَّه لم يُرد بنفيه نفي وقوعه؛ لأنَّ ذلك مُشاهَد، وإنما أريد به أمر آخَر غير مذكور، وهو محتمل.
الثَّاني: أن ذلك محُتمِل نفي الوجود ونفي الحكم.
الثالث: أنَّه يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال. وبهذا صرح القاضي في "التقريب". وزعم الماوردي أنَّ القاضي مذهبه الوقف في هذه المسألة، وهو غير الإجمال؛ لأنَّ القائل بالوقف يحصر في الاحتمالين ويتوقف على رجحان أحدهما، وأمَّا القائل بالإجمال فيقول: يحتمل احتمالات كثيرة؛ فكان مجملًا.
وفي هذا الفرق عندي نظر، وبالجملة فالمدْرَك في غالب هذه المسائل ما قررناه مِن الشبهة والجواب، وإلى ذلك أشرتُ بقولي:(فَوَاضِحٌ ذَا مُنْجَلِيْ). أي: فلا يُعد مِن الإجمال مع وضوخ المراد.
تنبيه:
اختُلف في مواضع هل هي مِن المجمل؟ أو لا؟ والخلاف فيها قوي، منها:
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وللشافعي فيها أربعة أقوال:
أحدها: أنَّها عامة خصَّصها الكتاب.
الثَّاني: عامة خصَّصتها السُّنة.
الثالث: مجملة بيَّنها الكتاب.
الرابع: مجملة بيَّنتها السُّنة.
واختلف قوله أيضاً في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] على قولين:
أحدهما: عام خصَّصته السُّنة.
والثَّاني: مجمل بيَّنته السنة.
ومنشأ الخلاف أن "أل" للشمول، أو عهدية، أو للجنس من غير استغراق، أو محتملة.
وفيه سؤال، وهو أنَّ اللفظ في كل مِن الآيتين مُفرد مُعرَّف، فإنِ عَمَّ مِن حيث اللفظ فليعُم في الآيتين، أو المعنى فليَعُم فيهما أيضًا، وإنْ لم يَعُم لا مِن حيث اللفظ ولا المعنى فَهُما مستويان مع أن الصَّحيح في آية البيع العموم وفي آية الزكاة الإجمال.
وجوابه أنَّ في ذلك سِرًّا، وهو أنَّ حِل البيع على وَفْق الأصل مِن حيث إنَّ الأصل في المنافع الحِل وفي المضار الحرمة بأدلة شرعية، فمهما حَرُم البيع فهو خلاف الأصل.
وأمَّا الزكاة فهي على خلاف الأصل، لتضمنها أخذ مال الغير بغير إرادته، فوجوبها على خلاف الأصل.
والأخبار الواردة في البابين مُشعِرة بهذا المعنى، فلذلك اعتنى صلى الله عليه وسلم ببيان المبيعات الفاسدة، كالنهي عن بيع حَبَل الحُبلة، والمنابذة والملامسة وغير ذلك، بخلاف الزكاة، فإنَّه لم يَعتنِ فيها ببيان ما لا زكاة فيه. فمَن ادَّعى وجوبها في مخُتلَفٍ فيه كالرقيق والخيل، فقد ادَّعى حُكمًا على خلاف الدليل.
وأمَّا تَردُّد الشَّافعي في آية البيع هل المخصِّص [أَو]
(1)
المبيِّن لها الكتاب أو السُّنَّة؟ دون الزكاة، فلأنه عَقَّب على البيع بقوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والربا مِن أنواع البيع اللغوية، ولم يُعقِّب آية الزكاة بشيء. والله أعلم.
(1)
في (ص، ق): أم.
ص:
703 -
وَإنِّمَا "الْبيَانُ" إخْرَاجٌ إلَى
…
حَوْزِ التَّجَلِّي مَا يَكُونُ مُشْكِلَا
الشَّرح:
الإشارة بذلك إلى أنَّ هذه الأمثلة إنَّما لم يحكَم عليها بأنها كانت مجُمَلة ثم بُيِّنت فصارت من المجمَل أولاً ومن المبَيَّن آخِرًا، بل حُكِمَ عليها بأنها مُبيَّنة من الابتداء؛ لأنَّ "البيان" فُسِّر بأنه الإخراج مِن حَيِّز الإشكال إلى حيز التجلي. وهذه لم تكن في ابتدائها مُشْكِلة، بل واضحة كما بَيَّناه.
واعْلَم أن البيان يُطْلق تارةً على فِعل مُبيِّن وهو التبيين، كالسلام بمعنى التسليم، والكلام بمعنى التكليم. فهو اسم مصدر، لا مصدر، لعدم جريانه على الفعل.
ويُطلَق تارةً على الدليل الدَّال على ذلك، وتارةً على المدلول وهو المبيَّن (بالفتح)؛ أي: مُتعلَّق التبيين ومحِله؛ فمِن ثَمَّ اختلف العلماء في تفسير "البيان".
فالتعريف الذي ذكرناه جارٍ على الإطلاق الأوَّل، وهو الذي عرَّف به الصَّيْرفيُّ كما نقله ابن السمعاني وغيره، وجرى عليه إمام الحرمين والآمدي وابن الحاجب، إلَّا أنهم زادوا عليه:(والوضوح)؛ تأكيدًا وتقريرًا.
وأُورِد عليه أنَّه غير جامع؛ لأنَّه يخرج عنه البيان ابتداءً وهو الظاهر مِن غَيْر سَبْق إجمال.
قال ابن السمعاني: (فإنه ربما ورَدَ مِن الله تعالى بيان لمِا لم يخطر ببال أحد)
(1)
.
وأيضًا ففي التعبير بـ "الحيز" -وهو حقيقة في الأجسام- تَجَوُّز في إطلاقه في المعاني،
(1)
قواطع الأدلة (1/ 258).
ونحوه "التجلي".
وأجيب عن الأوَّل: بأنَّ السامع لِما يَرِد مِن المبين بمنزلة مَن أشْكل عليه الحكم في ذلك؛ إذ لم يكن عنده عِلم من ذلك. كذا أجاب به القاضي عبد الوهاب، ولكن في تسميته عدم العلم "إشكالًا" تَجَوُّز. على أنَّ هذا فرع عن تسمية إيراد ما كان واضحاً مِن الابتداء بيانًا. وقد لا يختاره الصَّيْرفيُّ، ويخص البيان بما سبقه إشكال فبيَّنه.
وعن الثَّاني: بأنَّ المجاز بالقرينة يدخل في التعاريف كما صرح به الغزالي، وسبق بيانه أول الكتاب.
وعَرَّف الأكثرون -ومنهم الآمدي- البيان بأنه الدليل، والبصريُّ بأنه العِلم الحاصل عن الدليل. وهذان مُفرَّعان على الإطلاقين الآخَرين.
وممن اختار تعريف الصَّيْرفيُّ: القاضي أبو الطَّيِّب وغيره مِن أئمتنا.
واعترضه ابن السمعاني بأنَّ لفظ "البيان" أظهر مِن لفظ "إخراج الشيء" إلى آخِره.
وقد يُمْنَع ذلك.
وقال الماوردي: إنَّ جمهور الفقهاء قالوا: "البيانُ" إظهارُ المراد بالكلام الذي لا يُفهم منه المراد إلَّا به.
قال ابن السمعاني: (وهو أحسن مِن جميع الحدود)
(1)
.
والعجب أنَّه أورد على الصَّيْرفيُّ المبيَّن ابتداء، ولا شك في وروده هنا، بل أولى؛ لأنَّه صرح بتَقدُّم كلام لم يُفْهَم المراد منه.
وأيضًا فالبيان قد يَرِد على فِعْلٍ، ولا يُسمى مثل ذلك كلامًا.
(1)
قواطع الأدلة (1/ 259).
واعْلَم أنَّ الشَّافعي في "الرسالة" قال: ("البيان" اسم جامع لأمور متفقة الأصول مُتَشعِّبة الفروع)
(1)
. وليس مراده تفسيره كما فهمه ابن داود وقال: إن البيان أبين من التفسير. وإنَّما مراده أنَّه أنواع مختلفة المراتب، بعضها أَجْلَى مِن بعض، فمنه ما لا يحتاج لتَدبُّر، ومنه ما يحتاج له. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ مِن البيان لَسِحرًا"
(2)
. فبيَّن أنَّ بعض البيان أظهر مِن بعض.
ويدل عليه أنَّ الله تعالى خاطبنا بالنص والظاهر وبالمنطوق والمفهوم والعموم والمجمل والمبين وغير ذلك مما سبق، ولذلك عَقد الشَّافعي لكل مِن الأنواع بابًا، فقال:"باب البيان الأوَّل"، "باب البيان الثَّاني"، وهكذا.
وللحنفية في أصولهم اصطلاحات في البيان وأقسامه مشهورة. والله أعلم.
ص:
704 -
نَعَمْ، مِنَ "الْمُجْمَلِ" في الْقُرْآنِ
…
وَسُنَّةٍ نَوْعٌ بِلَا بَيَانِ
705 -
وَ"الْمُتَشَابِهُ" اسْمُهُ كَمَا مَضَى
…
وَمَثَّلوهُ بِأُمُورٍ تُقْتَضَى
706 -
وَمنْهُ مَا إجْمَالُهُ قَدِ انْمَحَى
…
بِمَا أَتَى مِنَ الدَّلِيلِ أُوضِحَا
707 -
كَقَوْلِهِ جَلَّ عَلَا: {أَوْ يَعْفُوَ}
…
{وَالرَّاسِخُونَ} ، وَعَلَيْهِ الْوَقْف
708 -
مُرَتَّبٌ، وَالْقُرْءِ في الْمَقْرُوءِ
…
في آيَةِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ
709 -
وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ في جِدَارِهِ
…
في خَبَرٍ في وَضْعِ خُشْبِ جَارهِ
(1)
الرسالة (ص 21).
(2)
صحيح البُخاريّ (رقم: 4851)، صحيح مسلم (رقم: 869).
الشرح:
أي: إذا تحرَّر معنى الإجمال والبيان، انبنى عليه معرفة ما ورد مجُمَلاً ولم يَرِد بيانه، وما كان مجُمَلًا ووَرَدَ بيانه. فالوارد مِن المجمَل إمَّا في الكتاب أو السُّنة أو في كلام العرب وغيرهم؛ فذكرنا هنا الأنواع الثلاثة:
الأوَّل: ما وَرَدَ في القرآن مجُمَلاً ولم يأت بيانه، ويسمى "المتشابه" كما سبق في تقسيم الألفاظ أن النَّصُّ والظاهر يقال لهما "المُحْكَم"، وغيرهما المقابِل لهما -وهو الذي لم تتضح دلالته لا في الابتداء ولا في الانتهاء- يقال له:"المتشابه". والأصل في ذلك قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
وهذا لِأَصَح الأقوال دليل واضح، والثَّاني: أنَّ القرآن كله محُكم؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، والثالث: كله متشابه؛ لقوله تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23].
فعَلَى الصَّحيح ليس المراد بالمحكم والمتشابه في الآيتين الأخيرتين ما أُرِيدَ في الأُولى، بل المراد بالمحكم في الكل أنَّه لا خلل فيه بوجه مِن الأوجُه، بل في غاية البلاغة والإحكام لِما أريدَ فيه من المقاصد.
والمراد بأنَّ الكل متشابه أي: يشبه بعضه بعضًا في الحقِّ والصدق والإعجاز وفي البلاغة والمعاني اللطيفة، وأنَّ بعض معانيه يشبه بعضاً مِن الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار وغير ذلك مما ليس له انحصار.
وعلى القول بانقسامه إلى محكَم ومتشابه ففي المراد بكلِّ منهما أقوال كثيرة، أَرْجَحُها ما اقتصرتُ عليه هنا مِن أنَّ "المحكم" المتضح المعنى كيف كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وأنَّ "المتشابه" ما لم يتضح، وعِلمُه عند الله لم يُطْلِع عليه عباده.
وأمَّا ما كان أولاً غير متضح ثم وضح فهو القسم الثَّاني، وقد بيَّناه عقب هذا، وهو ما أريد في قوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؛ إذِ الآية الأُولى وهي: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لا حصر فيها؛ بدليل "منه" الدّالة على البعض.
نعم، في ثبوتِ هذا القسم -وهو الذي استأثر الله تعالى بعلمه ولم يُطلع الأمة عليه وربما أَطْلَع عليه بعض أصفيائه دُون الأُمة- خِلافٌ.
فقال الراغب في مقدمة تفسيره: (ذهب عامة المتكلمين إلى أنَّ كل القرآن يجب أن يكون معلومًا وإلا أدَّى إلى إبطال فائدة الانتفاع به)
(1)
.
ويناسب هذا القول أنَّ المفسرين لم يحجموا عن تفسير شيء من القرآن ويقولوا فيه: (إنَّه متشابه لا يَعلمه إلَّا الله)، بل فسروا كل ما فيه حتَّى الحروف المقطعة في أوائل السور ونحوها.
وأمَّا الآيات المشكل ظاهرها -كآيات الصفات- فللناس فيها طريقان:
منهم من لا يخوض فيها بتأويل، ويؤمن بها كما جاءت على مُراد الله تعالى مع التنزيه عن النقائص وكُل ما قام الدليل العقلي والنقلي على استحالته على الله تعالى، وهو طريق السلف والأئمة الماضين.
والطريق الثَّاني: الخوض في التأويل بما يناسب المقام مما قام الدليل عليه من لغة العرب؛ لأنَّ الله تعالى لا يخاطبنا إلَّا بما يُفهَم مِن كلامهم وعُرِف مِن أوضاعهم، حقيقةً كان أو مجازًا.
وهذا طريقة الخَلَف المحققين، وربما وَجَب في هذا الزمان القول به؛ لِمَا انتشر مِن فساد
(1)
تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 33).
المجسمة والمبتدعة ودعوتهم لمن لا معرفة له إلى بدعتهم [تخييشًا]
(1)
عليهم بورود الظواهر وأن ذلك غير محُال، وأنَّ هذا طريقة السلف. ولا يُعْلِمُونهم باتفاق الطريقين على التنزيه، فنسأل الله السلامة. وقد بيَّنا ذلك في غير موضع مِن هذا الكتاب
(2)
.
والمقصود أنَّ هذا القسم مِن المجمل المسمَّى بِـ "المتشابه" يمثَّل بنحو أوائل السور عند مَن لا يرى تفسيرها وبالآيات والأحاديث المشكلة المعنى عند مَن لا يرى الخوض في تأويلها.
وقولي: (وَمنْهُ مَا إجْمَالُهُ قَدِ انْمَحَى بِمَا أَتَى مِنَ الدَّلِيلِ أُوضِحَا) إشارة إلى القسم الثَّاني مِن المجمل وهو الذي كان مجملًا في الابتداء ثم بُيِّن بعد ذلك بالدليل، فصار مبيِّنًا في الانتهاء، وهو لا ينحصر.
ومنه بيان نحو ما سبق في: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وفي نحو: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] على ما سبق من أحد أقوال الشَّافعي، وفي ما ادُّعي إجماله من آية السرقة ونحوها مما أسلفناه عند القائل بأنه مجُمل، فإنَّه يقول: إنَّه بُيِّن بعد ذلك.
بل ذلك جارٍ في جميع الأسماء الشرعيّة الواقعة في القرآن والسُنَّة، نحو:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، و {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. فمِن أصحابنا مَن قال: هي مجُملة؛ لأنَّ المراد مِنها لا تدل عليه اللُّغة. ومنهم مَن قال: عامة خُصَّ منه ما دخل لغةً وخرج شرعًا. والحقُّ أنَّها -تفريعًا على ثبوت الحقائق الشرعيّة- مُبيَّنة، لا إجمال فيها.
(1)
كذا في (ت، س) وقد يكون معناها: التغليف بالخيش؛ لإخفاء شيء. ويحتمل تكون الكلمة: (تحبيشًا) أو (تخبيشًا). ومعناهما: تجميعًا؛ أي: يجمعون الظواهر الواردة التي أشار إليها المؤلف.
(2)
ذكرتُ في مقدمة تحقيقي (ص 32) منهج أهل السُّنة والجماعة، بخلاف ما زعمه البرماوي هنا.
ومنه أيضاً تخصيص العام، ومنه النسخ إذا قلنا: بيان، لا رَفْع. وسيأتي.
ومثلتُ ذلك في النَّظم بأمثلة، منها:
وهو في التركيب لا في الإفراد: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. فإن الذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون الولي؛ لأنَّه الذي يعقد نكاح المرأة؛ لأنها لا تُزوج نفسها، ويحتمل أن يكون الزوج؛ لأنَّه الذي بيده دوام العقدة والعصمة. ثم وقع الاختلاف في بيانه، فقال الشَّافعي في القديم -وهو مذهب مالك - بأنه الولي، وعليه جَمْعٌ مِن التّابعين وفقهاء المدينة: الزُّهريّ، وربيعة، يزيد بن أسلم، والحسن، ورُوي عن ابن عباس، وهو قول أحمد.
وقال الشَّافعي في الجديد: إنَّه الزوج. وبه قال أبو حنفية، وحُكي عن علي وابن عباس وجبير بن مطعم وابن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد والثوري.
وللقول بالقديم عندنا شروط: أن يكون الولي أباً أو جدًّا، وأن يكون قبل الدخول، وأن يكون عن دَيْن، لا عَيْن، وأن تكون بكرًا عاقلةً صغيرةً أو سفيهةً على المرجَّح، وأن يكون بعد الطلاق أو معه بِخُلع على الأرجح. ومحل بسط ذلك الفقه.
ومنها قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]، فإنَّه يحتمل أن يكون الكلام تَمَّ عند قوله:{إِلَّا اللَّهُ} . أي: إنَّه سبحانه استأثر بِعلمه، فيكون الوقف عليه، والذي بعده مبتدأ وخبر؛ لأنَّ كون الجملة خبرًا عمدة أَوْلى [مِن أن]
(1)
يكون حالًا فضلة كما سيأتي تقريره.
ويحتمل أن لا يوقَف عليه، ويكون "والراسخون" عطفًا على الذي قبله؛ لأنَّ الراسخين أيضاً يَعلمونه بإعلام الله تعالى لهم، فلمَّا احتمل واحتمل، كان مجمَلًا.
(1)
كذا في (ص، ق)، لكن في (ش): وأن. وفي (س، ت، ض): بأن.
ثم بعد ذلك مَن يرى بأنَّ لنا مجمَلًا استأثر الله تعالى بعلمه وهو "المتشابه"، يقول: تَبين بالدليلِ التمامُ عند: {إِلَّا اللَّهُ} . ومَن يرى بخلاف ذلك، لا يقف، وهو الراجح، وعليه يصح التمثيل.
وإليه أشرف بقولي: (وَعَلَيْهِ الْوَقْفُ). ويكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} جملة حالية من المعطوف دون المعطوف عليه؛ لِتعذُّر عودها للمعطوف عليه، كما تقول: "جاءني زيد وعمرو راكبًا)؛ لأنَّ وجوب اشتراك المتعاطفين إنَّما هو في العامل، لا في كل شيء. أما إذا أَمْكَن العَوْدُ للكل، فإنَّه يَعُود للكل كما سبق في تَعَقُّب الاستثناء ونحوه جُمَلًا أو مفردات.
والحاصل في هذه الآية أنَّ الواو مُترددة بين العطف والاستئناف.
ومما يرجح القول بأن الوقف ليس على {إِلَّا اللَّهُ} مع ما سبق مِن أنَّ الله لا يخاطبنا بما لا نفهم: أنَّ أحدًا لا يقول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم[لا]
(1)
يَعلم المتشابه. فإذا جاز أن يَعرفه الرسول، جاز أن يَعرفه الربانيون مِن صحابته وأتباعهم مِن أئمة أُمته.
كان ابن عباس إذا قرأ الآية يقول: "أنَا مِن الراسخين في العلم"
(2)
. ويقول في قصَّة أهل الكهف {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]: "أَنا مِن أولئك القليل"
(3)
.
وقال مجاهد: لو لم يكن للراسخين في العلم حظٌّ مِن المتشابه إلَّا أن يقولوا: "آمَنَّا به"، لم يكن لهم على الجاهل فَضْل؛ لأنَّ الكل يقولون:"آمَنَّا به".
وقيل: التقدير في الآية: (يقولون: عَلِمنا وآمَنَّا به)؛ لأنَّ العِلم بالشيء سابق على الإيمان
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ق، س): لم.
(2)
لم أجده مُسنَدًا.
(3)
تفسير الإمام الطبري (15/ 226) بإسناده، تفسير (الوسيط، 3/ 142) للإمام الواحدي بإسناده (طبعة: دار الكتب العلمية - بيروت).
به كما ترجمه البُخاريّ: "باب العِلم قبل القول والعمل؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] الآية، فبدأ بالعِلم". وقد سبقه إلى هذا سفيان بن عيينة؛ إذْ لا يُتصور الإيمان مع الجهل. وأيضًا فلو لم يَعْلم الراسخون المتشابه، لم يكونوا راسخين، ولم يقع الفرق بينهم وبين الجهال.
فإن قيل: فما الحكمة في إنزال المتشابه والحاجة للعباد إنما هو البيان والهدى؟
قلت: أما على إمكان عِلمه فلأنْ يبحث عنه العلماء ويتبصروا في دقائقه وغوامضه؛ فيُؤجَروا على ذلك، وليحذروا مِن قول المشركين:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، ولمَا في الامتحان بذلك مِن ما أُعِدَّ مِن ثواب الاجتهاد كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] إلى قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الروم: 45] الآية، فنبههم على أنَّ أعلى المنازل هو الثواب، فلو كان القرآن كله محُكمًا لا يحتاج لِتأويل، لسقطت المحنة وبَطُل التفضيل واستوت منازل الخلق، ولم يظهر بذلك فضل العالم على الجاهل.
وما لم يوقف على معناه إمَّا لتعذُّره -على القول باستئثار الله تعالى بعلمه- أو بعد البحث فلَم يُعْرف، فيكون الامتحان بالإيمان به.
ومن فوائده: هدم مذهب القائلين بأنه يجب على الله تعالى مراعاة مصالح العباد، كالمعتزلة.
ومنها إقامة الحجة على مَن نزل القرآن بلسانهم وهُم عاجزون عن الوقوف على ما فيه مِن السر والحكمة والبلاغة.
ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإنَّه يحتمل الحيض والطهر، لكن يتبين المراد به بالدليل من خارج.
فالشافعي لَمَّا حمله على الطهر، حمله لقوله صلى الله عليه وسلم في طلاق ابن عمر:"مُره فليراجعها حتَّى تحيض ثم تطهر". قال: "فتلك العدة التي أمر الله"
(1)
.
وأيضًا فقال: ثلاثة (بالتاء). فلو كان المراد الحيضة، لَقال:(ثلاث قروء).
وغير ذلك مِن الأدلة.
وأبو حنيفة لَمَّا حمل على الحيض، ذَكر دليله.
فَعَلَى كل حال هو مِن المجمَل الذي بيّن بعد ذلك.
ومنها حديث أبي هريرة في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن جارٌ جارَه أن يغرز خشبة في جداره"
(2)
.
فإنَّ الضمير في "جداره" يحتمل عوده على الغارز، أي: لا يمنعه جاره أن يفعل ذلك في جدار نفسه. وعلى هذا فلا دلالة فيه على القول القديم عندنا أنَّه إذا طلب جاره منه أن يضع خشبة في جداره المطلوب منه، وجب عليه التمكين. ونَصَّ عليه الشَّافعي في "مختصر البويطي"، وقوَّاه النووي.
ويحتمل أن يعود على الجار الآخَر، فيكون فيه دلالة على ذلك. لكن يُرجِّح الأوَّل موافقته لقاعدة العربيَّة في عَوْد الضمير إلى أقرب مذكور. وكلٌّ مِن القولين يُدَّعَى فيه أنَّه تبيّن المجمَل بالدليل على المدعَى. ولكن للقديم شروط معروفة في الفقه.
ومن الأمثلة -ولم أتعرض له في النَّظم- قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، فإنَّه قد استثنى مِن المعلوم ما لم يُعْلم؛ فصار الباقي محتملًا؛ فكان مجُملاً. وقد سبق ذلك في أنَّ العام بعد التخصيص حُجَّة أوْ لا، وسبق إيضاحه.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
صحيح البُخاريّ (2331)، صحيح مسلم (رقم: 1609).
ومثله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، فإن الحقَّ لَمَّا لم يكن معلومًا، كان مجمَلًا.
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلَّا صلحًا أَحَل حراماً أو حرم حلالًا"
(1)
. على ما في التمثيل بهذين مِن نظر. وبالجملة فقد تَبين المراد من ذلك كله بالدليل. والله أعلم.
ص:
710 -
وَمَثّلوا "الْمُجْمَلَ" غَيْرَ الْمُنْزَلِ
…
بِلَفْظِ "مُخْتَارٍ" مِنَ الْمُؤَوَّلِ
711 -
بِفَاعِلٍ في الْأَصْلِ أَوْ مَفْعُولِ
…
" [زيدٌ طَبِيبٌ مَاهِر]
(2)
ذُو قُوْلِ"
الشَّرح:
هذا هو القسم الثالث: وهو المجمل في كلام العرب وغيرهم مِن غير الكتاب والسُّنَّة، وهو معنى قولي:(غَيْرَ الْمُنْزَلِ). فإن الكتاب والسُّنَّة منزلان.
فمنه لفظ "مختار"، فإنَّه محتمل أن يكون اسم فاعل وأصله "مخُتير" بالكسر على وزن مُقتدر، وأن يكون اسم مفعول على وزن مُعتبر. تحركت "الياء" فيهما بعد فتحة، فقُلِبَت "أَلِفًا".
قال العسكري: (ويتميز بحرف الجر، تقول:"هذا مختار لِكذا" في الفاعل، و "مختار مِن
(1)
سنن أبي داود (رقم: 3594)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 1352)، وغيرهما. قال الألباني في (صحيح أبي داود: 3594): حسن صحيح. وقال في (صحيح التِّرمذيُّ: 1352): صحيح. وقال في (إرواء الغليل: 1420): حسن.
(2)
في (ش): وقد ظننته ما هو. وفي (ت): زيد ظننت ماهر.
كذا" في المفعول)
(1)
.
والفرق بَيْن هذا وبين نحو "قروء" أنَّ الإجمال طَرأَ على هذا باعتبار الإعلال والعمل التصريفي كما بيَّناه، و "القرء" مجُمَل مِن حيث وضعه، مع أنَّ كُلًّا منهما إجماله مِن حيث هو مُفرد، لا بواسطة تركيبه كما سبق من الأمثلة.
وحاصله أنَّ المجمل أعم مِن المشترك؛ لأنَّ المجمل يشمل ما احتمل معنيين سواء واللفظ فيهما حقيقة أو مجاز، أو أحدهما حقيقة والآخر مجاز مساوٍ للحقيقة كما بيَّنا ذلك في تقسيم اللفظ في بحث اللغات.
فلذلك يدخل فيه ما كان صالحاً لمتماثلين بوجه من الوجوه، كالنور للعقل وللشمس، والجسم للسماء وللأرض، والرجُل لزيد ولعمرو. كذا ذكره الغزالي، وفيه نظر ظاهر؛ لأنَّه [يَلزم]
(2)
أنَّ كل متواطِئ مجمَل.
وقولي: (زَيْدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ) معطوف على ما سبق، حُذف منه حرف العطف، أو هو مِن باب سَرد الأمثلة. وهو مثال [المجمَل]
(3)
باعتبار التركيب، لا الإفراد. وذلك أنَّ "ماهر" يحتمل عَوْده إلى ذات "زيد" وإلى وصفه المذكور وهو "طبيب". ولا شَكَّ أنَّ المعنى مُتفاوت باعتبارهما وإنْ كان بينهما فرق. وهو مِن الأمثلة التي ليست مِن الكتاب ولا السُّنَّة ولا مِن كلام العرب.
ومما لم أذكره في النَّظم أيضاً وهو كالذي قَبْلَه: "الثلاثة زوج وفرد". فإن اللفظ متردد بين العَوْد للأجزاء وبين العود للصفة، وإنْ شئت قلت: بين جمع الأجزاء وبين جمع
(1)
الفروق اللغوية (ص 125).
(2)
في (ت): لا يلزم.
(3)
كذا في (ص)، لكن في (ق، س): لمجمل.
الصفات، فهو محتمل من حيث هو، أي: مِن حيث دلالة اللفظ، لا الواقع. وإن كان أحد الاحتمالين -وهو كونه مركبًا مِن زوج وفرد- هو الواقع.
ولا يخفَى ما في ذلك مِن نظر. فلذلك أسقطته مِن أمثلة "جمع الجوامع" كما مَثَّل مصنفه به في "شرح المختصر".
وقولي: (ذُو قُوْلِ) أي: مِن مهارته له قولٌ مُعتبر كيف فُرِض عود ماهر. والله أعلم.
ص:
712 -
أَمَّا الدَّلِيلُ في الْبيانِ فَإلَى
…
قَوْلٍ وَفِعْلٍ قَسْمُهُ قَدْ فُصِّلَا
713 -
فَإنْ يَكُنْ عَنْ مُجْمَلٍ تَأخَّرَا
…
فَسَابِق إنْ عِلْمُ سَبْقِهِ جَرَى
714 -
أَمَّا مَعَ الْجَهْلِ فَذُو الْبيانِ
…
الْقَول، أَيْ لِقُوَّة التّبيانِ
715 -
كَذَا إذَا تَنَافَيَا، وَهْوَ كَمَا
…
طَافَ طَوَافَيْنِ وَكَانَ أَحْرَمَا
716 -
أَيْ قَارِنًا لَكِنَّهُ قَدْ أَمَرَا
…
بِوَاحِدٍ، مَثِّلْ بِذَا، لَا تَأثرَا
الشَّرح:
لما انتهى الكلام في المجمل وأقسامه الثلاثة وكان الثالث منها يكون مجُمَلًا أو، ثم يجيء ما يبينه فيصير مبينا وعُرف معنى "البيان"، ذكرتُ هنا أنَّ الدليل المبيِّن إما قول أو فعل.
فالقول يكون مبينا اتفاقًا، وهو إما مِن الله عز وجل أو مِن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالأول كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]، فإنه مُبيِّن لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. هذا إذا قلنا بأن المراد بالبقرة بقرة مُعيَّنة، وهو المشهور. وعن ابن عباس خِلافه، وأنه قال: "لو ذبحوا أي بقرة كانت؛
لأجزأهم ذلك، ولكنهم شددوا، فسألوا؛ فشدد الله عليهم"
(1)
.
الثاني كقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري من حديث ابن عمر: "فيما سقت السماء أو كان عثريّا العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر"
(2)
. ورواه مسلم عن جابر بنحوه
(3)
. وهو مبيِّن لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
واستفدنا مِن هذا المثال أنَّ السُّنَّة تُبيّن مجُمَل الكتاب، وهو كثير، كما في الصلاة والصوم، والحج والزكاة والبيع والربا وغالب الأحكام التي جاء تفصيلها في السُّنَّة.
وأما الفعل فالمراد به فِعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي كونه بيانًا خلاف. فالجمهور: نعم، وخالف شرذمة يسيرة فيه.
دليل الجمهور -كما قال ابن الحاجب- أنه صلى الله عليه وسلم الصلاة والحج بالفعل وقال: "خذوا عني مناسككم"
(4)
، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"
(5)
.
روى الأول مسلم في حديث جابر الطويل، والثاني البخاري من حديث مالك بن الحويرث.
لا يقال: إن الذي وقع به البيان قول، وهو قوله:"صلوا" و"خذوا".
لأَنا نقول: إنما دلَّ القول على أنَّ فِعله بيان، لا أنَّ نفس القول وقع بيانًا.
وأيضًا فالفعل مُشاهَد، والشاهدة أَدَل، فهو أَولى مِن القول بالبيان.
(1)
تفسير الطبري (1/ 347، 348) بإسناده بنحوه.
(2)
صحيح البخاري (1412).
(3)
صحيح مسلم (981).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
وفي الحديث: "ليس الخبر كالمعاينة"
(1)
. رواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعًا، وابن حبان، والطبراني وزاد فيه:"فإن الله تعالى أخبر موسى بن عمران عليه السلام عما صنع قومه من بعده، فلم يُلْقِ الألواح، فلمَّا عاين ذلك، ألقَى الألواح"
(2)
.
وأما شُبهة الخصم بأنَّ الفعل يطول فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله -فمردود؛ [لأنه]
(3)
قد يطول بالقول ويزيد على زمان الفعل. وأيضا فهو أقوى مِن القول في البيان كما سبق.
واعلم أنه يدخل في الفعل ما سبق في بيان السُّنَّة في "باب الأدلة"، وأنَّ الترك فِعل؛ لأنه كَف، فيكون مِن الترك بيان، وذلك كترك التشهد الأول بعد فِعله صلى الله عليه وسلم إياه، فإنه بيان أف غير واجب.
والإشارة والكتابة: قال صاحب "الواضح" من الحنفية: لا أعلم خلافا في أنَّ البيان يقع بهما.
وقولي: (فَإنْ يَكُنْ عَنْ مُجْمَل تَأَخَّرَا)، أي: إذا تَقرر أنَّ البيان يكون بالقول وبالفعل، فلو تأخر عن المجمَل قولٌ وفعلٌ فما الذي يكون بيانًا؟
ففي قولي: "يَكُنْ" ضمير الشأن، والألف في "تأخرا" ضمير القول والفعل، فهي "ألِف" اثنين، لا "ألِف" الإطلاق.
(1)
مسند الإمام أحمد (رقم: 1842)، صحيح ابن حبان (رقم: 6213)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 6185).
(2)
المعجم الأوسط (1/ 12، رقم: 25)، صحيح ابن حبان (رقم: 6214). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 6181).
(3)
كذا في (ص، ق)، لكن في (س): بأنه.
لتأخرهما عن المجمَل حالتان:
إحداهما: أن يتفقا في غرض البيان بلا تنافٍ.
والثاني: أن يكون بينهما تنافٍ.
فأما الأُولى: [فأنْ]
(1)
يسبق أحدهما ويُعلم، فهو المبيِّن، قولًا كان أو فعلًا. وإنْ لم يُعلم السابق فلا يُقضَى على واحد منهما بأنه المبيِّن بعينه، بل يُقضَى بحصول البيان بواحد لم يُطّلَع عليه وهو الأول في نفس الأمر، والتأكيد بالثاني. وقيل: يتعيَّن -في حالة الجهل بالسابق- غيرُ الأرجح للتقدم حتى يكون هو المبيِّن؛ لأنَّ المرجوح لا يكون تأكيدًا للراجح؛ لعدم الفائدة. واختاره الآمدي.
ولكن جوابه أنَّ المؤكِّد المستقل لا يَلزم فيه ذلك، كالجمَل التي يُذكر بعضها بعد بحض للتأكيد. فإنَّ التأكيد يحصل بالثانية وإنْ كانت أضعف بانضمامها إلى الأُولى. وإنما يَلزم كَوْن المؤكّد أقوى في المفردات، نحو: جاءني القوم كُلهم.
الثانية: إذا لم يتفق الفعل والقول بل تنافيَا في الحكم كما لو رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بعد نزول آية الحج في القِران بطواف واحد، ورُوي أنه طاف قارنًا طوافين، فالمختار عند الجمهور -منهم الإمام وأتباعه وابن الحاجب- أنَّ المبيِّن هو القول، سواء كان قبل الفعل أو بعده. ويُحمل الفعل حينئذٍ على الندب أو على الوجوب المختص به صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن القول يدل على البيان بنفسه، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه، والدال بنفسه أقوى مِن الدال بِغَيره.
لا يُقال: قد سبق أن الفعل أقوى في البيان.
لأنَّا نقول: التحقيق أنَّ القول أقوى في الدلالة على الحكم، والفعل أَدل على الكيفية.
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ت): فإما أن.
ففِعل الصلاة أَدل مِن وصفها بالقول؛ لأن فيه المشاهدة. وأما استفادة وجوبها أو ندبها أو غيرهما فالقول أقوى وأوضح؛ لِصراحته.
وخالف أبو الحسين، فقال: إنَّ المتقدِّم هو البيان، قولًا كان أو فعلًا.
ويَلزمه -كما قال ابن الحاجب- نَسخ الفعل بالقول إذا وقع الفعل متقدِّمًا مع إمكان الجمع بينهما؛ لأَنا إذا حملنا الفعل على البيان أو الخصوصية، جمعنا بين القول والفعل، بخلاف النسخ، فإنه إبطال للمنسوخ.
وقولي: (مَثِّلْ بِذَا، لَا تَأْثُرَا)، أي: اجعله مثالاً على تقدير أنْ لو وقع، أما كونه قد وقع وصار حديثًا مأثورًا فلا، وهو معنى قولي:(لَا تَأْثُرَا). يقال: آثرت الحديث آثره، أي: نقلته، فأنا آثر والحديث مأثور. و"الألف" مِن (تَأْثُرَا) بدل مِن نون التوكيد الخفيفة. ويقع في كلام كثير من شُراح "المختصر" والبيضاوي جَعْل ذلك حديثًا، وليس كذلك كما بينته، بل كلام القاضي تاج الدين السبكي في "شرح المنهاج" يُوهم ذلك. والله أعلم.
ص:
717 -
وَمَنْ أُرِيدَ فَهْمُهُ فَيَجِبُ
…
لَهُ الْبيانُ حَسْبَمَا يَسْتَوْجِبُ
الشَّرح:
هذه المسألة قد سبقت في أنَّ لنا قِسمًا مِن "المجمَل" يستمر بلا بيان إلى آخِر الدهر، وذلك إنما يكون عند عدم الحاجة إلى بيانه، بأنْ لا يكون مِن دلائل الأحكام المكلَّف بها.
فأما إذا كان كذلك وأريد بالخطاب إفهام المخاطَب به؛ لِيعمل به فِعلًا أو اعتقادًا، فيجب أن يبُيَّن له ذلك على حسب ما يراد بذلك الخطاب؛ لأن الفهم شرط التكليف. فأما مَن لا يراد إفهامه ذلك فلا يجب البيان له باتفاق.
ولهذا قال بعضهم: إنه لا يجب البيان في الخطاب إذا كان خبرًا لا يتعلق به تكليف، وإنما يجب في التكاليف التي يحتاج إلى معرفتها.
قلتُ: والمسألة تلتفت إلى "تكليف المُحال" وهو تكليف الغافل، وقد سبق امتناعه، بخلاف "التكليف بالمُحَال". والله أعلم.
ص:
718 -
وَعَنْ زَمَانِ الْفِعْلِ لَا يُؤَخَّرُ
…
نَعَمْ، إلَيْهِ وَاقِعٌ؛ فَيُؤْثَرُ
الشَّرح:
أي: إذا عُلِمَ أنه يجب البيان عند الحاجة، فهل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بما يحتاج للبيان؟ أوْ لا سواء أكان ذلك في بيان المجمل أو غيره من تخصيص أو تقييد أو نسخ أو نحو ذلك؛ له حالان:
إحداهما: تأخيره عن وقت العمل بالخطاب، وهو معنى قولي:(عَنْ زَمَانِ الْفِعْلِ)، أي: الفعل الممتثل به الخطاب.
والثانية: تأخيره عن وقت الخطاب إلى زمان تَوجُّه التكليف بمباشرة الفعل، لا عنه.
فأما الأُولى (وهي التأخير عن الوقت الذي إذا أُخِّر البيان عنه، لم يتمكن الكلَّف من المعرفة بما تضمنه الخطاب) فلا يقع فيها تأخير البيان وإنْ جاز أن يقع بِناء على جواز التكليف بالمحال، وهو الراجح كما سبق، خلافًا للمعتزلة؛ لأن العلة في عدم وقوع التأخير عن وقت العمل أن الإتيان بالشيء مع عدم العلم يه ممتنعٌ، فالتكليف بذلك تكليف بما لا يُطاق.
ولهذا قال إمام الحرمين: إنْ منعنا التكليف بما لا يطاق فلا يجوز تأخير البيان عن وقت
الحاجة، وإلا جاز. ولكن لم يقع؛ لأن التكليف بالمحال غير واقع.
أي: الذي ليس مُحَاله لِتَعَلُّق عِلم الله تعالى بأنه لا يقع؛ لأنَّ ذلك واقع قطعًا كما سبق في موضعه. فالتعبير بأنه "لم يقع " أصوب مِن "لا يجوز".
وأما وقت الحاجة فالمراد به -كما قال إمام الحرمين- تَوَجُّه الطلب، وبه يجاب عن كون الأستاذ لم يستحسن التعبير ب "الحاجة"، قال: لأنها تليق بمذهب المعتزلة القائلين بأنَّ للمؤمنين حاجة إلى التكليف.
قال: فالعبارة الصحيحة -على مذهبنا- أن يقال: تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب.
وهو مُشَاححة لفظية، والمعنى واحد كما بيَّناه.
نعم، ترددوا في أنَّ المراد بوقت الحاجة أو وقت الفعل زمن يمكن فيه الفعل، أو زمن يضيق بحيث لا يمكن فيما دونه الفعل. كالظهر مثلًا هل يجب بيانها بمجرد دخول الوقت؛ أو لا يجب إلا إذا ضاق وقتها؟
صرح أبو الحسين في "المعتمد" وغيره بالثاني، والقاضي أبو بكر بالأول.
واستُشكل بتعليلهم المنع في أصل المسألة بأنه مِن التكليف بما لا يطاق.
ويمكن جوابه بأنه لما دخل الوقت، تَعَلَّق الطلب به، فكيف يُطلب منه ما لا علِم له به؟
وأما الحالة الثانية وهي "تأخير البيان إلى وقت الحاجة" لا عَنْهُ:
فأرجح المذاهب أنه جائز وواقع مطلقًا، سواء أكان للمبيَّن ظاهر يُعمَل به (كتأخير بيان التخصيص وبيان التقييد وبيان النَّسخ) أوْ لا (كبيان المجمَل).
وبهذا قال أكثر أصحابنا وغيرهم، وعليه جمعٌ من الحنفية، واختاره الإمام الرازي وأتباعه، وابن الحاجب. ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الشافعي نفسه، ونُقل عن
الأشعري وعن المزني وعن ابن أبي هريرة وغيرهم، وإليه ذهب المحققون من المتأخرين كالقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيىرازي؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18] و"ثُمَّ" للتراخي، وقال في قصة نوح:{وَأَهْلَكَ} [هود: 40] والعموم يتناول ابنه؛ ولهذا سأل عن إهلاكه. وكذا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية.
وسأل ابن الزِّبَعْرَى عن دخول عيسى والملائكة، فجاء. البيان بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]، وغير ذلك.
الثاني: المنع مطلقًا، فلا يقع مجُمَل إلا والبيان معه، وكذا غير المجمَل. وينقل عن أبي إسحاق المروزي والصيرفي وأبي حامد المروروذي والدَّقاق، وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية، وإليه صار ابن داود الظاهري، ونقله ابن القشيري عن داود نفسه وعن غيرهم.
نعم، الصيرفي رجع، فقد قال الأستاذ أبو إسحاق: إنه نزل به أبو الحسن الأشعري ضيفاً، فناظره، فلم يَزَل به حتى رجع إلى مذهب الشافعي.
نعم، عبارته في كتاب "الدلائل والأعلام" مُصرِّحة بالتفصيل الآتي، وهو:
المذهب الثالث: أنه يجوز تأخير بيان المجمَل دُون غيره، وذلك جابى على اعتقاد الصيرفي أن الصيغة العامة إذا وردت، [يجب]
(1)
اعتقاد عمومها والعمل بموجبها. وَيلزم مِن رجوعه عن منع التأخير -فيما نقله الأستاذ عنه- رجوعه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة.
ولذلك نَقل هذا القول الثالث عن الصيرفي القاضيان أبو الطيب وعبد الوهاب، ويُنقل أيضا عن كثير مِن الحنفية، حتى قال أبو بكر الرازي: (هو عندي مذهب أصحابنا؛ لأنهم
(1)
كذا في (ص)، لكن في (ت): يجوز.
يجعلون الزيادة على النص نَسخًا إذا تراخت عنه، فلا يجيزونها إلا بمثل ما يجوز به النَّسخ، ولو جاز عندهم تأخير البيان في مِثله، لَمَا كانت الزيادة نَسخًا، بل بيانًا)
(1)
.
الربا: يجوز تأخير بيان العموم؛ لأنه قبل البيان مفهوم، بخلاف المجمَل؛ لأنه قبل البيان غير مفهوم. حكاه الماوردي والروياني وجهًا لأصحابنا، وكذا حكاه ابن السمعاني عن بعضهم، وحكاه ابن برهان عن عبد الجبار.
فيتعجب مِن قول القاضي عبد الوهاب: (إنه لم يَقُل به أحد). وأما المازري فنقله عن بعضهم، وقال: لا أثق به.
والخامس: يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي، لا الأخبار كالوعد والوعيد. حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة، ومنع السمعاني ذلك عن الكرخي. قال الماوردي: ولم يَقُل به أحد مِن أصحاب الشافعي.
والسادس: عكسه، حكاه الشيخ أبو إسحاق، ونازع بعضهم فيه وفيما قبله بأنَّ الكلام في خطاب التكليف، لا في الأخبار.
السابع: يجوز تأخير بيان النَّسخ دون غيره. حكاه في "المعتمد" عن أبي على وابنه وعبد الجبار.
والثامن: يجوز فيما ليس له ظاهر، كالمشترك (قال الإمام الرازي: والمتواطئ. وفيه نظر)، دُون ما له ظاهر كالعام والمطلق والمنسوخ، فإنه يجوز تأخير بيانه التفصيلي دُون الإجمالي، فإنَّ الإجمالي يُشترط وجوده عند الخطاب؛ حتى يكون مانعًا من الوقوع في الخطأ، فيقال: هذا العام مُراد به خاص، أو: هذا المطلق مُراد به مقيد، أو: هذه النكرة مراد بها مُعيَّن، أو: هذا الحكم سيُنسخ.
(1)
الفصول في الأصول (2/ 49).
أما البيان التفصيلي فليس ذِكره مع الخطاب شرطًا.
نَقل هذا المذهب الإمام الرازي وأتباعه عن أبي الحسين والدَّقاق والقفال وأبي إسحاق.
فأما أبو الحسين فصحيح، وأما القفال فالظاهر أنه الشاشي، لكن سبق أنه موافق للجمهور، بل هو موجود صريحا في كتابه "التبصرة".
وأما أبو إسحاق فإنْ كان المروزي كما صرح به الإمام، فقد سبق عنه النَقل بموافقة المعتزلة على المنع، وحكى عنه القاضي عبد الوهاب الثالث، وقال الهندي: إنَّ عنه روايتين. وإن كان الشيرازي فقد صحح في "شرح اللمع" الجواز مطلقًا.
والتاسع: حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد: أنَّ بيان المجمَل إنْ لم يكن تبديلاً ولا تغييرًا، جاز مقارنًا وطارئًا، وإلا فيجوز مقارنًا، لا طارئًا. ثم ذكر أنَّ الاستثناء مِن بيان التغيير.
قال أبو زيد: والخلاف الذي بيننا وبين الشافعي في بيان الخصوص، فعندنا هو من قبيل بيان الاستثناء، فلا يجوز إلا مقارنًا، وعند الشافعي مِن قبيل بيان المجمل، فيصح مقارنًا وطارئًا. فمَن أُوصِي له بخاتم ولعمرو بِفَصِّه بكلام متصل، فالفص كله للثاني، ويكون تخصيصه بيانًا كالاستثناء. فإنْ فَصَل الوصية بالفص، كان الفص بينهما؛ لأنه في الفصل ليس بيانًا.
قال: وأما بيان المجمل منفصلًا فجائز، فمَن أَقَر بشيء، جاز أن يُبينه متصلًا ومُنفصلًا.
والعاشر: يجوز في النسخ ولا يجوز في غيره. بل قيل: إنَّ محل الخلاف في غيره، وأما هو فباتفاق. وهو مقتضَى كلام القاضي وإمام الحرمين، وبه صرح ابن برهان والغزالي وغيرهما. ولكن الخلاف محَكي في الكل كما سبق، ومنهم مَن يوحِّد بَين هذا وبين القول الخامس ويقول:(إن التعبير في الخامس أَجود؛ لعمومه). وفيه نظر.
تنبيهات
الأول: ذكر المازري مِن فوائد الخلاف في المسألة ورود خبر الواحد متأخرًا عن عموم الكتاب، رافعًا لبعض مقتضاه، كحديث:"مَن قتل قتيلًا فله سلبه"
(1)
.
الثاني: القائلون بجواز التأخير اختلفوا في جواز التدريج بالبيان -بأن يُبيِّن تخصيما بعد تخصيص -على مذاهب:
أحدها (وهو قول الأكثر ومنهم القاضي): يجوز ذلك في الثاني والثالث، وما بعدهما كالأول. فيقال مثلًا:(اقتلوا المشركين)، ثم يقال:(سُلخ الشهر)، ثم يقال:(الحربيين)، ثم يقال:(إذا كانوا رجالًا).
والثاني: المنع في الثاني وما بعده، لأنَّ قضية البيان أنْ يكمله أولًا.
والثالث: يجوز ذلك في المجمل، وأما في العموم فعلى الخلاف في البيان الأول.
الراب يجوز إذا علم المكلف أنَّ فيه بيانًا متوقعًا. ومنهم مَن يأخذ مِن هذا قولًا آخَر مفصِّلا في أصل [المسألة]
(2)
، فيقول: يمتنع تأخير بعض البيان، ولا يمتنع تأخير الكل.
التنبيه الثالث:
المانعون لتأخير البيان اختلفوا في مسألتين:
إحداهما: هل يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم تأخير تبليغ ما أُوحي إليه مِن الأحكام إلى وقت الحاجة؟
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2973)، صحيح مسلم (رقم: 1751).
(2)
كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (ض، ت، س): الحكم.
الأكثر: نعم؛ لأن وجوب معرفتها إنما هو للعمل، فلا حاجة له قبل وقت العمل.
وقيل: لا، لقوله تعالى:{بَلِّغْ} [المائدة: 67].
ورُدَّ بأنَّ الأمر ليس للفور، وبأن المراد: بَلِّغ القرآن. وفي هذا نظر؛ إذ لا فرق بين القرآن والسُّنَّة في ذلك.
نعم، حكى صاحب "المصادر" عن عبد الجبار أنَّ المنزل إنْ كان قرألا، فيجب تبليغه في الحال؛ لقصد انتشاره وإبلاغه. أو غير قرآن، لم يجب.
الثانية: إسماع العام المقصود تخصيصه بدون مخُصِّصه -جوَّزه الأكثر، ومنعه أبو الهذيل والجبائي في التخصيص بالسمع، لا بالعقل.
الرابع: إذا تعارض دليلان كل منهما بيانٌ في شيء مجملٌ في آخَر، كحديث:"فيما سقت السماء العشر"
(1)
بيانٌ في الإخراج مجملٌ في المقدار، وحديث:"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"
(2)
بيانٌ في المقدار مجمَلٌ في الإخراج.
فتَمسَّك أبو حنيفة بالأول في عدم اعتبار النصاب، وتمسَّك الشافعي بالثاني في اعتباره.
قال الماوردي: (ومذهبنا يترجَّح بأنَّ بيان المقدار في خبرنا قاضٍ على إجمال المقدار مِن خبرهم، كما أنَّ البيان بالإخراج مِن خبرهم قاضٍ على إجمال الإخراج من خبرنا)
(3)
.
الخامس: يدل للجواز وقوع ذلك في مثل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ السَّلَب للقاتل، نزلت الآية في بدر، والحديث كان في
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
الحاوي الكبير (3/ 211).
[حنين]
(1)
. وجاء بيان ذوى القربى أنهم بنو هاشم وبنو المطلب دُون بني عبد شمس وبني نوفل، مع كون الأربعة بني عبد مناف.
وكذا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 83] نزلت، ثم بيَّن جبريل. وكذا الزكاة، وكذا السرقة، وغير ذلك مما بيَّنه صلى الله عليه وسلم على تدريج.
السادس: ثمرة الخلاف في المسألة: إذا اطَّلع المجتهد على عموم في القرآن ثم على ما يرفع بعضه من السُّنَّة، فإنْ منعنا تأخير البيان وكان الخبر متواترًا، كان نسخًا، وإلا فلا نأخذ به. وإنْ أَجزنا تأخير البيان، كان ذلك تخصيصًا إنْ قلنا:[يُخَصَّص]
(2)
المتواترُ بالآحاد. ويُمثَّل بما سبق ونحوه.
ومن هنا يُعرف وجه الاحتياج إلى معرفة التواريخ؛ لِمَا يترتب عليها مِن أحكام الشرع.
السابع: إذا قلنا بالمنع مِن تأخير البيان، فالمختار عند ابن الحاجب وغيره جواز تأخير إسماع المخصّص الموجود. وهو رأي أبي هاشم والنظام وأبي الحسين.
وقال الجبائي وأبو الهذيل: [ممتنع]
(3)
في الدليل المخصص السمعي دُون العقلي.
وعلى الأول: فمَن ليس موجودًا حال نزول المخصّص، لا يُشترط إسماعه؛ لعدم إمكانه.
ويجب تعميم الموجودين بالإسماع، ولا يكفي البعض؛ ولذلك استدل بأن فاطمة رضي الله عنها سمعت آية:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] ولم تسمع: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث"
(4)
.
(1)
في (ت، س): خيبر.
(2)
كذا في (ص)، لكن في (ت): تخصيص.
(3)
كذا في (ص)، لكن في (س، ق): يمنع.
(4)
سبق تخريجه.
وسمع الأكثر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ولم يسمعوا في المجوس: "سنوا بهم سُنة أهل الكتاب"
(1)
. رواه الشافعي وغيره. ولولا شرط إسماع الكل، لَمَا صح الاستدلال بذلك، فإنه كان للخصم أن يقول: إنما يشترط سماع البعض، وقد سمع غيرُ فاطمة وغيرُ الأكثر. والله أعلم.
ص:
719 -
وَجَازَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَظْنُونُ
…
مَا كانَ قَطْعِيَّا، وَذَا مَزْكُونُ
الشَّرح:
أي: لا يشترط في البيان أنْ يكون أقوى مِن المبيَّن على ما اختاره الإمام الرازي، ونقله الهندي عن الجماهير، ولم ينقله ابن الحاجب إلا عن الكرخي، وقال: إنَّ المختار خِلاف ذلك. وهو أنه يجب كون البيان أقوى، والكرخي إنما قال: تجب المساواة حتى يمتنع بالأدنى.
قال الهندي: (ولا يتوهم في حق أحد أنه ذهب إلى اشتراط أنه كالمبيَّن في قوة الدلالة، فإنه لو كان كذلك، لَمَا كان بيانًا له، بل كان هو يحتاج إلى بيان آخَر)
(2)
.
نعم، ابن الحاجب بعد أنْ أَطْلَق المسألة أولًا ذَكر دليلًا يقتضي تخصيصها، فإنه قال: النا: لو كان مرجوحًا أو مساويًا لألغِيَ في صورة المرجوحية الأقوى بالأدنى في العام إذا خُصِّص والمطلَق إذا قُيِّد، وفي صورة التساوي يَلزم التحكم)
(3)
. أي: وكلاهما لا يجوز.
فإنْ كان ما اختاره هو التفصيل بين بيان العام والمطلق وبين بيان المجمَل، فهو غير
(1)
سبق تخريجه.
(2)
نهاية الوصول في دراية الأصول (5/ 1890).
(3)
مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 391).
مذهب مَن عَمَّم في الكل، وإلا فيكون دليلًا خاصًّا على دعوى عامة. والعجب أنه في المخصِّصات جرى على تخصيص الأقوى بالأدنى في غالب المسائل. وأما المجمَل فالاكتفاء فيه بالأدنى واضح لا خفاء به، إذْ لا تَعارُض بينه وبين المبيِّن.
وقولي: (وَذَا مَزْكُونُ) أي: معلوم. والله أعلم.