المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الرابع ما يتوقف عليه الدليل الرابع (وهو "القياس - الفوائد السنية في شرح الألفية - جـ ٤

[شمس الدين البرماوي]

الفصل: ‌النوع الرابع ما يتوقف عليه الدليل الرابع (وهو "القياس

‌النوع الرابع ما يتوقف عليه الدليل الرابع (وهو "القياس

")

قد بيَّنا فيما سبق أنَّ أدلة الفقه الأصول الثلاثة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، وما يُستخرج به من الثلاثة وهو القياس. وأن الاستدلال بكل من الأربعة يتوقف الاستدلال به على شيء لا بُدَّ من معرفته. فلمَّا فرغنا مما يتوقف عليه الاستدلال بالثلاثة، ذكرنا ما يتوقف عليه الدليل الرابع -وهو القياس- وذلك: أركان القياس، وشروط كل ركن، والموانع فيها.

وقد سبق تعريف "القياس" بأنه: حَمْل معلوم على معلوم في حُكمه؛ لمشاركته له في المعنى المُقْتَضِي للحُكم. فلزِم مِن ذلك بالضرورة أن تكون أركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة الجامعة، والحكم [الملحق فيه]

(1)

.

وأما ما حُكي مِن خلاف في أن القياس يجوز من غير أصل فقال ابن السمعاني: (إنه قول مَن خلط الاجتهاد بالقياس)

(2)

.

أي: سمَّى الاجتهاد قياسًا. والحقُّ أنه نوع مِن الاجتهاد، والذي لا يحتاج إلى أصل هو ما سواه مِن أنواع الاجتهاد، وأما القياس فلا بُد له من أصل.

وكذا ما حكاه ابن السمعاني مِن خلاف شاذ في أن العِلة ليست مِن أركان القياس وأنه القياس بدونها إذا لاح بعض الشَّبَه. وهو قول باطل، لا سيما إذا قُلنا: إن العلة هي

(1)

ليس في (ص، ق).

(2)

قواطع الأدلة (2/ 135).

ص: 1868

الدالة على الحكم في الأصل مع وجود النص على الحكم، وأنهما دليلان كما سيأتي.

وأيضاً فقوله: (يكون بينهما بعض الشبه) هو [عَيْن]

(1)

العِلة في الجملة، وهو معنى قولي:

ص:

763 -

الرُّكْنُ لِلْقِيَاسِ إذْ يَتِمُّ:

أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، عِلَّةٌ، وَحُكْمُ

764 -

[كَـ: يَحْرُمُ]

(2)

النَّبِيذُ مِثْلَ الْخَمْرِ

لِوَصْفِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالسُّكْرِ

الشرح:

المراد بالأركان هنا: ما لا يتم القياس إلا به؛ لأنَّ القياس إذا كان هو حمل معلوم على معلوم على ما بيناه، فالحمل مصدر، وهو معنى من المعاني، فكيف يكون أركانه وأركان الشيء هو ما يتألف ذلك الشيء منه؟

فإطلاق الأركان على هذه الأمور مجَاز، إلا [أن]

(3)

يُعْنَى بالقياس مجموع هذه الأمور مع العمل تغليبًا، فيصير كل من الأربعة شطرًا له، لا شرطًا.

ونظير ذلك في الفقه: إطلاق أنَّ البيع أركانه ثلاثة: عاقد، ومعقود عليه، وصيغة.

وقد أوَّله الرافعي بنحو هذا التأويل، وهو أن المراد ما لا بُدَّ منه. وفيه أبحاث مشهورة في محله.

(1)

في (ص): قول باطل.

(2)

في (ت، س): كتحريم. وفي (ش): كمحرم. ولا يصح معهما الوزن.

(3)

في (ص): أنه.

ص: 1869

ونظيره أيضًا في العلوم العقلية: أن التصديق بالنسبة إلى ما يتوقف الحكم عليه من التصورات هل هي شطر له؟ أو شرط؟ وقد سبق بيانه أول المقدمة.

ويدل لجعله مطلقًا على المجموع أن الحمل إنما المراد به كشف ذلك وإظهاره؛ لأنه يتبين عند القائس أن الواقع في نفس الأمر هو كونه محمولًا عليه، فيكون الحمل في الحقيقة هو اعتقاد كَوْن ذلك.

كذلك قولي: ([كَـ: يَحْرُمُ]

(1)

النَّبِيذُ) أي: مثال القياس أن يقول القائل: يحرم النبيذ مثل ما يحرم الخمر بجامع ما بينهما من المعنى المقتضِى للتحريم وهو السُّكْر.

فـ"مِثْل" منصوب على الحال، أي: حال كونه مِثله. فالتحريم هو الحكم، والنبيذ هو الفرع، والخمر هو الأصل، والمعنى الجامع هو اتصاف كل منهما بالسكر، أي: بالإسكار. أي: شأنه أنْ يسكر. هذا على المرجَّح في تفسير "الأصل" و"الفرع" كما سيأتي بيانه.

فإنْ قلت: معنا تحريمان، أحدهما حكم الأصل والثاني حكم الفرع، فلِمَ لا عُدَّت الأركان خمسة؟

قلت: مَن يُطلق أن مِن أركان القياس الخكم لا يَرِد عليه ذلك؛ لأنَّ الحكم الذي في "الأصل" هو الذي في "الفرع"، فهو واحد في ذاته وإنِ اختلف محله، فهذه الحيثية هي المرادة وإنْ كانا اثنين باعتبار المحل.

وأما مَن يقول: إنَّ من أركان القياس حُكم الأصل -وهو الغالب- فيحتمل أن يريد ما ذكر مِن الاتحاد، ولكنه أُضِيف للأصل؛ لأنه الأول في الاعتقاد ثم يصير معتقدًا في الفرع.

أو يجاب -كما قال الآمدي- بأنَ حُكم الفرع ثمرةُ القياس، فلو كان من أركانه لَتَوَقَّف القياس عليه، وهو دَوْر.

(1)

في (ت، س): كتحريم. وفي (ش): كمحرم. ولا يصح معهما الوزن.

ص: 1870

ولكنه قد رُدَّ بأن ثمرة القياس إنما هي العِلم بالحكم، لا نفس الحكم. فإنْ أريد ما قررناه مِن أن القياس يكشف ما في نَفْس الأمر فصحيح، وإن أريد أنه من حيث هو دليل إنما يفيد العِلم بالحكم لا نَفْس الحكم فهو على أحد القولين في المسألة: أن الدليل هل يقتضي نفس الحكم؟ أو العِلم بالحكم؟ ورجح الثاني. والله تعالى أعلم.

ص:

765 -

فَـ"الْأَصْلُ": مَا [يُرَى]

(1)

مَحَلَّ الْحُكْمِ

إذْ شَبّهوا بِهِ، كخَمْرٍ سُمِّي

766 -

لَا حُكْمُهُ وَلَا دَلِيلُهُ وَلَا

مِنْ شَرْطِهِ كَوْنُ الدَّلِيلِ جَا عَلَى

767 -

أَنَّ قِيَاسَنَا عَلَيْهِ جَائِزُ

بِنَوْعِهِ أَوْ شَخْصِهِ وَحَائِزُ

768 -

وَلَا اتِّفَاقٌ أَنَّ فِيهِ الْعِلَّهْ

وَ"الْفَرْعُ": مَا التَّشْبِيهُ قَدْ أُحِلَّهْ

الشرح:

أي: إذا تَقرر أن أركان القياس أربعة، فلا بُدَّ من تعريف كل منها وبيان شَرْطه بوفاق أو خلاف. وإنما بدأتُ بِـ"الأصل" لِمَا لا يخفَى مِن تفريع غيره عليه، فهو أَوْلى مِن تأخيره كما فعل البيضاوي إلى ما بعد الكلام على العلة.

وقد سبق أن "الأصل" في اللغة: "ما يُبْنَى عليه الشيء" أو نحو ذلك، وأن له في الاصطلاح إطلاقات، أحدها ما يُذكر في القياس وهو المراد هنا، وقد اختُلف فيه على ثلاثة أقوال:

أحدها: المرجَّح وقول الأكثر وبه قال الفقهاء وكثير من المتكلمين وصححه ابن

(1)

في (ت): (يرى به). ولا يصح معه الوزن؛ فالصواب كما في سائر النُّسَخ.

ص: 1871

السمعاني: أنه محل الحكم المشبه به، كالخمر في المثال السابق.

الثاني: أنه دليل الحكم. حكاه في "الملخص" عن القاضي، وحكاه صاحب "الواضح" عن المعتزلة، فيكون في المثال قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وما في معنى ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.

الثالث: أنه نفس الحكم الذي في الأصل، وهو كالتحريم في المثال؛ لأنه الذي يتفرع عليه الحكم في الفرع.

ثم أشار ابن الحاجب إلى أن "الأصل" في اللغة: "ما يَنْبَني عليه غيره"، فهو يساعد إطلاقه اصطلاحًا على كل مِن الثلاثة، فلا بُعْد في الجميع.

لكن هذا وإنْ كان مُسلَّمًا لكن الأول أَرْجَح من حيث إنَّ باب القياس مَرْجِعه إلى الفقهاء، وقد ساعدهم الأصوليون فيه على مصطلحهم وجروا في ذلك على مقتضَى قولهم، فلا يطلقون "الأصل" إلا على ما يُطلقه الفقهاء وهو محل الحكم المشبه به؛ لئلا يختبط الذهن بين الاصطلاحات.

ثم قال ابن الحاجب بعد ما نقلناه عنه: (ولذلك -أيْ لأجل أن الأصل "ما يَنْبَني عليه غيره"- كان الوصف الجامع فرعًا للأصل، أصلًا للفرع)

(1)

.

ومراده أن الشيء الواحد يكون أصلًا باعتبار، فرعًا باعتبار. وهذا معنى قول الإِمام الرازي:(إنَّ الحكمَ أصلٌ في محل الوفاق، فرعٌ في محل الخلاف، والعِلة بالعكس)

(2)

.

وتحقيق ذلك: أنَّ الأصل إما إن يكون بالذات -أيْ بلا واسطة- أو بالعَرَض، أيْ: بواسطة أمر آخَر. فإنَّ أصلَ الأصل أصلٌ، فلا خِلاف في المعنى، بل في الاصطلاح.

(1)

مختصر المنتهى (3/ 14) مع شرحه.

(2)

المحصول (5/ 17).

ص: 1872

لكن قال ابن الحاجب بعد ذلك قبيل الكلام في شروط الفرع نقلًا عن الشافعية أنهم قالوا: إن حُكمَ الأصل -أيْ المُعَلَّل لا التعبُّدي فإنه ليس الكلام فيه- ثابتٌ بالعِلة.

قال: (والمعنى أنها الباعث على حُكم الأصل. وقال الحنفية: بالنَّص. والمعنى: أنَّ النص عَرَّف الحكم، فلا خِلاف في المعنى)

(1)

. انتهى

وذكره غيره أيضًا. والمسألة مشهورة في الخلاف بين الشافعية والحنفية، واقتضى نقلهم عن الشافعية ذلك أنهم يفسرون "العِلة" بالمؤثِّر أو الباعث حتى لا يكون النص على الحكم منافيًا لتعليله، بخلاف ما لو فُسرت بالمعرِّف، فإنه ينافي النص؛ لأنَّ النص أيضًا مُعرِّف، وهو قد عُرف من التعليل، فأيّ فائدة في النص؟ ولكن الشافعية ليس عندهم العلة إلا مُعرّفة، لا مُؤثِّرة. أي: إنها أَمَارة دالة على الحكم، وغايته أن يكون للحكم مُعَرِّفان: النَّص، والعِلة.

وإنما الداعي لابن الحاجب وغيره إلى ذلك أنهم لما جعلوا العلة فرعًا للأصل أصلًا للفرع كما سبق؛ حذرًا مِن لزوم الدَّوْر؛ لأنها إذا كانت مأخوذة مِن النص على حكم الأصل، فلا تكون مُعرِّفة لحكم الأصل؛ لِلِزُوم الدَّوْر. لَكِنَّا إذا قُلنا: مُعَرِّفة، تكون هي والنَّص مُعَرِّفَيْن. إلا أن تعريف النص قاصر على تعريف حُكم الأصل، والعِلة مُعرفة لحكم الأصل ولحكم الفرع معًا. فَتُعَرِّف حُكمَ الأصل لمن لم يَعْرفه مِن النص، وتُعَرِّف حُكمَ الفرع لمن عَرف مساواته مع الأصل.

فمَن عرف بطريق مِن الطُّرق أن علة تحريم المسكرات الإسكار، يَعْرف تحريم الخمر من ذلك، لا مِن نَصٍّ على تحريمه. ومَن عَرف تحريمه بنَصٍّ، لا يَضُره أنْ لا يَعْرفه مِن حيث العِلة؛ لأن التعريف إنما يكون لمن يجهل ما عرف به.

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (3/ 81).

ص: 1873

ولذلك فوائد كثيرة يظهر أثر اختلاف الشافعية والحنفية فيها، خلافًا لمن زعم أن الخلاف لفظي كما اقتضاه كلام ابن الحاجب والهندي وابن برهان.

منها: التعليل بالعلة القاصرة، فالحنفية منعوه؛ لزعمهم أنه لا فائدة فيه؛ لكون الحكم قد عُرف بالنص. ونحن نقول: فائدتها تعريف الحكم كما عَرَّفَه النَّص، فيكون للحُكم مُعَرِّفان. وستأتي المسألة وفوائد القاصرة.

ومنها: ما سيأتي من أن العلة هل يشترط أن لا يكون ثبوتها متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل؟ نحن نشترطه، وهُم لا يشترطونه. وسيأتي إيضاح ذلك في الكلام على العِلل.

ويأتي أيضًا في النَّظم الإشارة إلى مسألة أنَّ "الحكم ثابت بالعلة؟ [أَمْ]

(1)

بالنص؟ " في قولي: (وَالْحُكْمُ في الْأَصْلِ بِهَا قَدْ ثَبَتَا) البيت. وإنما ذكرتها هنا مبسوطة؛ لتعلقها تَعلقًا قويًّا بما سبق وإنْ كان لها تَعلُّق هناك أيضًا. وسنحيل هناك شرحها على ما تقرر هنا، فاعْلَمه.

قولي: (وَلَا مِنْ شَرْطِهِ) إلى آخِره -إشارة إلى ما شَرَطَه بعضهم في الأصل وليس شرطًا فيه.

فمنه ما شَرَط عثمان البتِّي، وهو بموحدة ثم مثناة من فوق مشددة نِسبة إلى موضع، قال السمعاني: أظنه بنواحي البصرة.

وعثمان هذا [رأَى]

(2)

أنس بن مالك، وروى عن الحسن البصري.

فقال عثمان: إنه لا بُدَّ في الأصل المقيس عليه أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بنوعه أو شخصه، حتى لو كان القياس في بيع مثلًا فلا بُدَّ مِن دليل على أنه يجوز القياس في البيوع أو إذْن بأنْ يُقاس على ذلك الأصل المنصوص.

(1)

في (ت، س): لا.

(2)

في (ت): روى عن.

ص: 1874

وخالفه الجمهور فجوَّزوا القياس على كل أصل انقدح في حكمه معنى مخيل غلب على الظن اتِّباعه. ومَن استقرأ ذلك في قياسات العلماء، وجدها طافحة به.

ومنه ما شَرَط بعضهم في الأصل أنْ يُجْمِعوا على أنَّ حُكمه مُعَلَّل، لا تَعَبُّدي. ونُقل عن بشر المريسي والشريف المرتضى.

ومنهم مَن شَرَط الاتفاق على وجود العلة في الأصل. وخالف الجمهور، فاكتفوا بانتهاض الدليل على ذلك.

قال الشيخ أبو إسحاق: (إنْ أراد مُشترِط ذلك إجماع الأُمة فهو يؤدي إلى إبطال القياس بالكُلية؛ لأنَّ نُفاة القياس مِن جُملة الأُمة، وإنْ أراد إجماع مَن يقول بالقياس فَهُم بعض الأُمة)

(1)

. انتهى

وفيه نظر؛ لأن مخالفة نُفاة القياس -كالظاهرية- سبق أنه لا يُعتبَر في الإجماع (على المرجَّح).

ومنهم مَن شَرَط كَوْنه غير محصور بالعَدد، نحو:"خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم"

(2)

.

ومنهم مَن شَرَط كَوْنه مؤثرًا في كل موضع، كما قاله القاضي أبو الطيب في إبطال بيع الغائب باع عَيْنًا لم يَرَ منها شيئًا، فبَطُل، كبيع النوى في التمر.

فقيل: إذا كان يَرى بعضه، يصح. فيقال: ليس مِن شرطه تأثيره في كل موضع.

ومنهم مَن شرط كون القياس صحيحًا.

(1)

اللمع في أصول الفقه (ص 103).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3136).

ص: 1875

ورُدَّ بأنه قياس وإنْ كان فاسدًا. قاله الأستاذ أبو منصور.

قلت: وفيه نظر؛ فإنَّ هذه الشروط إنما هي للقياس الصحيح.

وقولي: (بِنَوْعِهِ أَوْ شَخْصِهِ) متعلق بقولي في البيت قبله: (جَا).

وقولي: (وَحَائِزُ) بالحاء المهملة، أي: حائز ما جاء من الدليل بالنوع أو بالشخص. فهو توكيد لما سبق. والله أعلم.

وقولي: (وَ"الْفَرْعُ": مَا التَّشْبِيهُ قَدْ أُحِلَّهْ) تمامه ما بعده، وهو:

ص:

769 -

لَا حُكْمُهُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يُوجَدَا

تَمَامُ عِلَّةٍ بِهِ، فَإنْ بَدَا

770 -

بِالْقَطع ذَا، فَهْوَ إذَنْ قَطْعِيُّ

أَوْ كَانَ بِالظَّنِّ، فَذَا ظنِّيُّ

771 -

وَسَمِّ هَذَا بِـ"قِيَاسِ الْأَدْوَنِ"

كَقَيْسِكَ التُّفَّاحَ في الْمُعَيَّنِ

772 -

بِالْبُرِّ؛ لِلطّعْمِ الَّذِي في [ضِمْنِهِ]

(1)

[ولَيْسَ]

(2)

شَرْطَهُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ

773 -

بِالنَّصِّ إجْمَالًا، وَلَا انْتِفَاءُ

نَصٍّ أَوِ اجْمَاعٍ لَهُ اقْتِضَاءُ

774 -

بِوَفْقِهِ، فَإنْ أَتَى، كانَ عَلَى

ذَاكَ دَلِيلَانِ عَلَى مَا فُصِّلَا

الشرح:

وهو بيان لتعريف الركن الثاني من القياس وهو "الفرع" وبيان شرطه. وإنما قدمتُه على الحكم والعلة؛ لأنَّ "الفرع" مقابل للأصل، فناسب أن يذكر عقبه؛ لِمَا بين الضدين مِن

(1)

كذا في (ض، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في سائر النُّسَخ: ضمه.

(2)

في (ت): فليس.

ص: 1876

اللزوم الذهني.

وفي المراد به في القياس قولان:

أحدهما وهو الأرجَح: أنه المَحل المشبه، وهو معنى قولي:(مَا التَّشْبِيهُ قَدْ أُحِلَّهْ)، وهو بضم الهمزة على البناء للمفعول، أي: جُعل حالًّا فيه، وذلك كالنبيذ في المثال السابق.

والثاني: أنه الحكم القائم بالمحل المشبه.

وهذان القولان مُرتَّبان على القولين في تعريف الأصل. فمَن قال: "المحل" هناك، قال هنا:"المحل". ومَن قال هناك: "الحكم"، قال هنا:"الحكم".

وأما من قال هناك: (إنَّ الأصل هو الدليل) فلا يمكن أن يقول هنا: (دليل الفرع)؛ لأن دليله إنما هو القياس؛ ولذلك لم يُجعل حُكم الفرع من أركان القياس؛ لكونه ثمرته وناشئًا عنه كما سبق بيانه آنفًا.

وأما شرط الفرع:

فهو أن يشتمل على عِلة حُكم الأصل بتمامها حتى لو كانت ذات أجزاء، فلا بُدَّ مِن اجتماع الكل في الفرع.

ثم إنْ كان وجودها بتمامها فيه قطعيًّا كقياس الضرب للوالدين على قول: "أُف" بجامع أنه إيذاء، وكالنبيذ يُقاس بالخمر بجامع الإسكار، فَيُسَمَّى الأول:"قياس الأَوْلَى" والثاني: "قياس المساواة"، وكُل منهما قَطْعِي.

وإنْ كان وجود العلة بتمامها في الفرع ظنيًّا، فالقياس ظني، ويسمى "قياس الأَدون"، كقياس التفاح على البُر في أنه لا يباع إلا يدًا بِيَد [و]

(1)

نحو ذلك؛ بجامِع الطعم، لا أنَّ المراد بِـ"الأَدون" أن يكون المعنى الذي في الفرع ناقصًا عن المعنى الذي في الأصل، فإنَّ القياس

(1)

كذا في (ص)، لكن في (ق، س): أو.

ص: 1877

حينئذٍ فاسدٌ بالكُلية.

وهذا معنى قول ابن الحاجب في شروط الفرع: (أن يُساوي في العلةِ عِلةَ الأصل)

(1)

.

إلا أنه يُوهِم خروح قياس الأَوْلى، لكن لما كان المعنى نَفْي النقص دُون نفي الزيادة، صَحَّ تعبيره بالمساواة.

وعلى كل حال فالتعبير بوجود العلة بتمامها فيه أَجْوَد؛ لعدم الاحتياج لتأويل.

ثم فسر ابن الحاجب "المساواة" بقوله: (فيما يقصد مِن عَيْنٍ أو جنسٍ)

(2)

؛ للإشارة إلى ما سيأتي مِن تقسيمات العلة موضحًا.

ومن شروط الفرع أيضًا: أن يساوي حُكمُه حُكمَ الأصل فيما يقصد كونه وسيلة للحِكمة مِن عَيْن (كالقصاص في النفس بالمثقل إذا قِيس على المحدد) أو جنس (كالولاية في النكاح في الصغيرة تُقاس على المولى عليها في المال، فإنَّ ولاية النكاح مساوية لولاية المال في جنس الولاية، لا في عَيْن تلك الولاية). كذا ذكره ابن الحاجب، ولم أذكره في النَّظم هنا؛ لأنه من أحكام إثبات الحكم في الفرع بالقياس. أي: تعيين ما يحكَم على الفرع به من حكم الأصل.

قولي: (ولَيْسَ شَرْطَهُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ بِالنَّصِّ إجْمَالًا) معناه: أنه لا يشترط في الفرع أن يدل النص على حُكمه في الجملة لا بالتفصيل، خلافًا لقول أبي هاشم:(إنه يشترط، وإنَّ التفصيل يُطلب بالقياس). وحكاه أيضًا إلْكِيَا عن أبي زيد.

مثال ذلك: إذا قُلنا في اجتماع الجد مع الأخوة: يرث معهم؛ قياسًا على أحدهم؛ لأنَّ كُلًّا مِن الجد والأخ يدلي بالأب. فلولا دل الدليل على إرث الجد في الجملة لَمَا ساغ القياس في

(1)

مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 83).

(2)

مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 83).

ص: 1878

هذه الصورة.

ورُدَّ عليهم بأن العلماء قاسوا: (أنتِ علَيَّ حرام) إما على الطلاق في تحريمها أو على الظهار في وجوب الكفارة أو على اليمين في كونه إيلاء. ولم يوجد في ذلك نَص يدل على الحكم، لا جُملةً ولا تفصيلًا.

وقولي: (وَلَا انْتِفَاءُ نَصٍّ) أي: ولا يشترط أيضًا انتفاء نَص على حُكم الفرع بحكم يوافق الحكم الذي يُراد إثباته بالقياس عند الأكثرين، خلافًا للغزالي والآمدي؛ للاستغناء بالنص؛ ولهذا في قصة معاذ كان القياس فيها مُرتبًا بِـ"إنْ" الشرطية على فقدان النص، وهي أصل في مشروعية القياس.

وجواب ذلك: أن المراد تَعَيُّن القياس عند الفقد، وأما عند وجوده فيكون مِن اجتماع دليلين؛ إذ لا يمتنع تَرادُف الأدلة على مَدلول واحد.

وأيضًا: فبالقياس تُعرف علة الحكم، وهو معنى قولي:(فَإنْ أَتَى)، أي: نَصٌّ على وَفْق القياس، كان على ذلك الحكم في الفرع دليلان: النص، والقياس. وهو معنى (فُصِّلَا).

وقد فُهِم مِن القيدين المذكورين في المسألة أمران:

أحدهما: أن يكون النص الدال على حكم الأصل هو الدال على ذلك في الفرع بِعَيْنه، وذلك خارج بقولي:(بِوَفْقِهِ)، فإنه يقتضي المغايرة؛ ضرورة تَغايُر الموافِق للموافَق. فالقياس حينئذٍ باطل؛ إذ ليس ما ادُّعِي أنه أصل وأنَّ الآخر فرع بِأَوْلى مِن عكسه.

كما لو قِيس السفرجل على العنب في جريان الربَا فيه بِعِلة الطعم، فيقال: النهي عن بيع الطعام بالطعام شامل للأمرين، فجَعْل أحدهما أصلًا والآخَر فرعًا تَحَكُّم.

وكما لو قيس منع قَتْل المسلم بالذمي على مَنْعه بالحربي بأنَّ كُلًّا منهما فيه قَتْل "مَن فُضِّل

ص: 1879

بالإِسلام" بِغَيْره، فيُقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر"

(1)

نصٌّ شامل لهما. وهذا معنى قول البيضاوي: (وَأَنْ لَا يتنَاوَل دَليلُ الأصْلِ الفَرعَ، وَإلِاَّ لضَاعَ القِيَاسُ)

(2)

. وعليه يحمل قول ابن الحاجب فيما يشترط في الفرع: (وأن لا يكون منصوصًا عليه)

(3)

. أي: بِعَيْنه، خلافًا لحمل بعض شَارِحِيه ذلك على المسألة السابقة وهي أنْ يكَون النَّص موافقًا لنص الأصل، لا عَيْنه.

الأمر الثاني: أن يكون النص في الفرع على خلاف الحكم المراد إثباته بالقياس؛ لأن القياس حينئذٍ باطل، إذ القياس لا يُقدَّم على النص. لكن القياس في نفسه صحيح إلا أنه مُلْغًى لا يُعمل به؛ ولذلك يقال: إذا تَعارَض القياس والنص، فالنص مُقَدَّم؛ لأن التعارُض إنما يكون عند صحة المتعارِضَيْن. ففائدة القياس التمرين ورياضة الذهن، وهو معنى قوله في "جمع الجوامع":(إلا لتجربة النظر)

(4)

.

قلتُ: ولكن فيه النظر الذي سبق آخِر الكلام في الأصل.

ومما شُرط في الفرع أيضًا وليس بِمَرْضِيٍّ: أن لا يكون الفرع سابقًا على الأصل؛ لأنَّ المستفاد لا بُدَّ مِن تأخُّره عن المستفاد منه وإلا لتناقض فَرْض تَقدُّمه مع تأخّره، فلا يُقاس الوضوء على التيمم في وجوب النية؛ لأنَّ ورود التيمم بعد الهجرة والوضوء قبلها.

وردَّه ابن الصباغ بأنه لا يمتنع أن الشيء عليه أمارات متقدمة ومتأخرة، كمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم، منها مقارِن لنبوته ومنها ما هو بعد ذلك.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

منهاج البيضاوي (ص 220) بتحقيقي.

(3)

مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 83).

(4)

جمع الجوامع (2/ 270) مع حاشية العطار.

ص: 1880

وقال ابن دقيق العيد: إنما يُشترط هذا إذا كان طريق حُكم الفرع [مُتَعَيّنًا]

(1)

في استناده للأصل.

وقال ابن الحاجب: لا يمتنع أن يكون إلزامًا للخصم.

ولا يخفَى ما في المقالَين مِن نَظَر. والله أعلم.

ص:

775 -

وَ"الْحُكْمُ" كَالتَّحْرِيمِ في الْمِثَالِ

وَشَرْطُهُ الثُّبُوتُ بِاتِّصَالِ

776 -

في الْأَصْلِ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ، وَكَذَا

عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ لَيْسَ نُبِذَا

777 -

وَوَفْقُ خَصْمَيْنِ عَلَى ذَا الْمُثْبَتِ

وَلَيْسَ شَرْطًا اتِّفَاقُ الأُمَّةِ

الشرح:

هذا بيان الثالث من الأركان، وهو "الحكم"، وله بالنظر إلى تَعلُّقه بالأصل المقِيس عليه شروط على الراجح، وبعض على رأيٍ.

وإنما لم أذكر تعريفه هنا لأنه قد سبق تعريف الحكم في أول الكتاب؛ فأغْنَى عن إعادته هنا. وإنما مثلتُ بما وقع في المثال الممثَّل به للقياس حتى يجري مثله في كل قياس.

فمِن شروطه المعتبرة:

أن يكون ثبوته في الأصل إما بنص أو إجماع، [لا بقياس]

(2)

. أما النص من كتاب أو سنَّة فبِلا خلاف، وأما الإجماع فَعَلَى قول الجمهور.

(1)

كذا في (ص)، لكن في (ق): معينا. وفي (ش): مستفتيًا. وفي سائرها: سببا.

(2)

ليس في (ص، ق).

ص: 1881

وحكى الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" وجهًا أنه لا يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع إلا أن يُعْلَم النص الذي أجمعوا لأجله، فإنه يعود إلى قياس على ما ثبت بالنص.

قلتُ: وله قوة من حيث إن الإجماع قد يكون عن قياس، وسيأتي المنع فيه، وهو قولي:(لَا مِنَ الْقِيَاسِ)، فلا يجوز القياس على ما ثبت حُكمه بقياس على قول الجمهور من أصحابنا والحنفية. وخالف فيه الحنابلة وبعض المعتزلة كأبي عبد الله البصري.

لنا: أن العِلة الجامعة بين القياسين إنْ كانت واحدة فيهما، فالقياس في الحقيقة على أصلِ الأول، وذِكْر الأصل الثاني تطويلٌ بلا فائدة؛ للاستغناء عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول.

مثاله: لو قال الشافعية: (الوضوء عبادة، فيشترط فيه النية؛ قياسًا على الغسل). ثم قاسوا الغسل في اعتبار النية فيه على الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة، فَرَدّ الوضوء إلى الصلاة والصوم مِن الابتداء هو الوجه.

وكقياس التفاح على السفرجل بجامع الطعم بَعْد قياس السفرجل على البُر المنصوص بجامع الطعم.

وإنْ كانت العلة في القياسين مختلفة، لم ينعقد القياس الثاني؛ لانتفاء علة الحكم فيه؛ لأنَّ الفرض أنَّ العِلة الأُولى هي عِلة الحكم ولم توجد في الفرع الثاني.

كما يقال مِن جانِبِنا: (الجذام عيب يُفسخ به البيع، فيُفسخ به النكاح؛ قياسًا على الرتَق والقرن)، ثم يُقاس مثلًا القَرن على الجب في الحكم المذكور بجامع فوات الاستمتاع. فإنَّ عِلة ثبوت الحكم في القرن فوات الاستمتاع وهو غير موجود في الجذام، فلا يصح قياسه عليه. كذا مَثَّل به ابن الحاجب.

قال ابن السبكي: (وهو على سبيل ضرب المثال، وإلا فَرَدُّ المجبوب عندنا إنما هو

ص: 1882

لنقصان عَيْن المبيع نقصًا يفوت به غرض صحيح؛ وذلك لانسلاله من حد الرجال ذوي الشهامة، لا لفوات الاستمتاع؛ إذْ لا استمتاع بِذَكَر العبد؛ ولذلك لا [يثبت]

(1)

الرد بكونه عِنِّينًا، خلافًا للصيمري وإمام الحرمين. وأما إثبات الفسخ بالجب في النكاح فلفوات الاستمتاع. فالعلتان متغايرتان على كل حال).

قلتُ: قد يقال في تقرير كلام ابن الحاجب المَعْزِيّ عنده للشافعية: إنه يُقاس أولًا الجذام على الرتق والقرن في فسخ النكاح بجامع أن كُلًّا مِن ذلك عَيْب يُفسخ به البيع. فالأصل هو الرتق والقرن، والفرع هو الجذام، والعلة هي كونه عيبًا يُفسخ به البيع، فهي مركَّبة مِن الأمرين معًا؛ لأن انفراد العيب قد لا يُفسخ به وقد يُفسخ بالشيء ولا يكون عَيْبً، وحُكم الأصل هو فسخ النكاح به، فعَدَّيناه إلى الفرع.

فإذا قيل لنا: ما الدليل على حُكم الأصل وهو كون النكاح يُفسخ بالرتق والقرن؟

فنقول: دليله قياسه على الجب في فسخ النكاح بجامع ما بينهما من فوات الاستمتاع. وكَوْن الجب في باب النكاح عِلة فَسْخِه به فوات الاستمتاع -لا إشكال فيه، فاستقام [المثال]

(2)

.

واعْلم أن عبارة ابن الحاجب في المسألة: (أن يكون -أيْ حُكْم الأصل- غَيْرَ فرع) هو معنى قول البيضاوي: (شرطه ثبوت الحكم فيه بدليل غير القياس). فجَمْع ابن السبكي في "جمع الجوامع" الأمرين يقتضي أنهما مسألتان، وليس كذلك وإنْ كان لَمَّا سُئِل عن ذلك، أجاب في "منع الموانع" عنه بجواب متكلَّف لا حاجة للتطويل به.

نعم، قال في "شرح المختصر": (إنَّ الأصوليين أطلقوا هذا الشرط، وهو مخصوص

(1)

في (ص، ق): يفوت. والصواب: (يثبت) كما في (رفع الحاجب، 4/ 160).

(2)

كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: الحال.

ص: 1883

عندي بما إذا لم يظهر للوسط فائدة، كقياس السفرجل على التفاح، والتفاح على البُر. أما إذا ظهرت له فائدة، فلا يمتنع عندي أنْ يُقاس فرعٌ على فرعٍ إذا كان حُكم الفرع المقيس عليه -الذي هو وسط- أظهر وأَوْلَى بحيث إنه لو قِيس الفرع الأول -الذي هو فرع الفرع- على الأصل الأول، لاستُنكِر في بادِئ الرأي جدًّا، بخلاف ما إذا جُعِل مُندرجًا.

مثاله: التفاح رِبَوِي؛ قياسًا على الزبيب، والزبيب ربوي؛ قياسًا على التمر، والتمر رِبَوِي؛ قياسًا على الأرز، والأرز ربوي؛ قياسًا على البُر إذا كان الجامع في قياس التفاح على الزبيب الطعم، وفي قياس الزبيب على التمر الطعم مع الكيل، والتمر على البر الطعم والكيل والقوت الغالب، إذْ لو قِيس ابتداءًا لتفاح على البر، لم يَسْلَم مِن مانع يمنع عِلِّيَّة الطعم وحده، وكذا في الأقيسة التي بعده [يتخلص]

(1)

بما يُزاد فيها مِن مانع يمنع استقلال ذلك [بالعِلِّية]

(2)

بدون تلك الزيادة)

(3)

. انتهى بمعناه.

وقد أطال في ذلك بمسائل في الأقيسة من الفقه من "سلسلة"

(4)

الشيخ أبي محمَّد وغيرها، فليراجع منه. وهو معنى قوله في "جمع الجوامع":(وغير فرع إذا لم يظهر للوسط فائدة، وقيل: مطلقًا)

(5)

.

فهو -مع إبهامه أن ذلك منقول- لا يخفَى ما فيه من نظر؛ فإن المُنازع إذا نازع في

(1)

في (ت، س): تتخلص.

(2)

في (ص، ق، ش، ض): بالعلة.

(3)

رفع الحاجب (4/ 161).

(4)

قال تاج الدين السبكي في (رفع الحاجب، 4/ 162): (في كتاب "السلسلة" للشيخ أبي محمَّد منه الشيء الكثير).

(5)

جمع الجوامع (2/ 257) مع حاشية العطار.

ص: 1884

وصف أنه ليس مستقلًّا بالعلة ولم يُقِم المستِدلُّ دليلًا بالاستقلال، فالقياس فاسد. وإنْ أقام دليلًا، فالزائد لَغو ويرجع الكل إلى وصف واحد كالطعم فيما ذكر من الأقيسة؛ ولأجل ذلك لم أذكر في النَّظم هذا القيد؛ لأنه عندي غير معتيَر.

واعلم أن ابن برهان لَمَّا نقل عن الحنفية مَنع القياس على ما ثبت حُكمه بالقياس قال: (وساعدهم من أصحابنا أبو بكر الصيرفي، وجمهور أصحابنا على الجواز). قال: (وحَرْفُ المسألة أنه هل يجوز تعليل الحكم الواحد بِعِلَّتين؟ ). انتهى

قلتُ: المشهور عند أكثر أصحابنا المنع مطلقًا، وهو ظاهر نص الشافعي في "الأم"، فقال في المزارعة من اختلاف العراقيين أنَّ المساقاة على النخل جائزة و [المزارعة]

(1)

على الأرض البيضاء ممتنعة وأن مَن أجازها قاسَها على المضاربة- ما نصه: (وهذا غلط في القياس، إنما أَجَزْنَا بخبر المضاربة، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنها كانت قياسًا على المعاملة في النخل، فكانت تَبعًا قياسًا، لا متبوعًا مَقِيسًا عليها)

(2)

. انتهى

واستثنى الغزالي في مسائل الاجتهاد من هذه المسألة [نوعين]

(3)

:

[أحدهما]

(4)

: إذا قاس النبي صلى الله عليه وسلم فرعًا ثم قاس على ذلك الفرع فرعًا، وإذا أجمعت الأُمة على إلحاقه بالأصل ثم قِيس عليه.

إنتهى وفيهما نظر:

أما الأول: فإن ذلك بقياسه يصير نَصًّا.

(1)

في (ص): المساقاة.

(2)

الأم (7/ 112).

(3)

في (ص، ق، ش): صورتين.

(4)

في (ص، ق): إحداهما.

ص: 1885

وأما الثاني: فقد سبقت المسألة في القياس على مجمَع عليه، وسيأتي [فيها]

(1)

مزيد بيان.

ومن شروط حكم الأصل أيضًا ما أشرتُ إليه بقولي: (وَكَذَا عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ لَيْسَ نُبِذَا) أي: يشترط في حكم الأصل المقيس عليه أن لا يكون مَعْدُولًا به عن سَنَن القياس، أي: طريقه المعتبَر فيه؛ لِتَعَذُّر التعدية حينئذٍ.

وذلك على ضربين:

أحدهما: لكونه لم يُعْقَل معناه، إما لكونه استُثْنِي من قاعدة عامة، كالعمل بشهادة خزيمة وَحْده فيما لا تُقْبَل شهادة الواحد فيه، أو لم يُسْتَثْنَ، كتقدير نُصُب الزكوات وأعداد الركعات ومقادير الحدود والكفارات.

والضرب الثاني: ما عُقِل معناه ولكن لا نظير له، سواء أكان له معنى ظاهر (كرُخَص السفر) أو غير ظاهر (كالقسامة).

كذا مثَّل به ابن الحاجب، لكن في "جَعْله القسامة معقولة المعنى وهو خفي بخلاف شهادة خزيمة ومقادير الحدود" نَظَر ظاهر.

نعم، إذا كان المعدول عن سَنن القياس خارجًا عن المعنى الملاحَظ في الشرع لا لمعنى فهو واضح. أما إذا شُرع ابتداءً لا لمعنى، فجَعْله من الخارج عن سَنن القياس مجاز؛ لأنه لم يدخل حتى يخرج. وإذا كان أيضًا خارجًا عن المعنى لمعنى (كالعرايا المخرَجة من الربويات؛ لحاجة الفقراء في الأصل)، لا يُقال فيه:"خارج عن سَنَن القياس" إلا مجازًا. نَبَّه على ذلك الغزالي في "المستصفى".

نعم، يقع البحث في أمور جُعلت خارجة عن سَنَن القياس من وجه آخَر.

(1)

في (ت، س): فيهما.

ص: 1886

منها: رُخَص السفر، قالوا: لا يدخل فيها القياس؛ لعدم النظير، فيمنع لوجود المشقة في غير السفر مِن الأعمال الشاقة كالحمَّالين.

وجوابه: أن التعليل بمظنة المشقة؛ لِعدم انضباط الحكمة وهي المشقة كما سيأتي بيانه.

ومنها قولهم: يجري القياس في الحدود والكفارات والرُّخَص والتقديرات المراد فيها نفسها. أما مقاديرها فلا يجري فيها القياس.

ومنها: ما استُثني من القواعد العامة وهو معقول المعنى، ظاهر ما سبق أنه لا يقاس عليه. لكنه رأي بعض الحنفية، والذي عليه جمهورهم وجمهور أصحابنا أنه يقاس عليه، إلا أنهم لا يسمونه -والحالة هذه- "معدولًا به عن سَنَن القياس".

وقال محمَّد بن شجاع البلخي من الحنفية: إنْ ثبت المستثنى بدليل قطعي، جاز القياس عليه، وإلا فلا. والكرخي: إنْ كانت عِلة المستثنى منصوصة أو مجمَعًا عليها أو موافقة لبعض الأصول، جاز القياس، وإلا فلا.

وقال الإِمام الرازي: يُطلب الترجيح بينه وبين غيره.

ومن أمثلة المستثنى لمعنًى: تجويز بيع الرطب بالتمر في العرايا، فإنه على خلاف قاعدة الربويات عندنا، واقتُطِع عنها؛ لحاجة المحاويج، وذلك ثابت في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنهم لما شكوا إليه ذلك، رخَّصَ لهم في العرايا في الرطب

(1)

.

قال أصحابنا: والعنب بالزبيب كالتمر. ثم قيل: إنه قياس. وبه قال ابن أبي هريرة. وقيل: بالنص. قاله المحاملي وابن الصباغ، ورووا في الحديث أنه رخص بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب لهم. فترخيصه للأغنياء كما هو المرجَّح على ما وَرَدَ مِن الترخيص للمحاويج إنما هو بالقياس وكذا مَن أجاز بيع الرطب على الشجر بالرطب على وجه

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2080)، صحيح مسلم (رقم: 1539).

ص: 1887

الأرض إنما هو بالقياس أيضًا. ولكن الأصح المنع، و [ثانيها]

(1)

: يمتنع في نوع واحد.

ومنهم مَن أَجْرَى الأَوْجُه في الرطب بالرطب على الأرض.

ومن القياس في مثل ذلك أيضًا: قياس مَن جَوَّز في المصَرَّاة تَعْدِية الحكم لبدل صاع التمر مِن قوت غيره. ومَن قال: إن المردودة بعيب غير التصرية يُرَد بَدَل لَبنها صاعًا من تمر. وأشباه ذلك، وهو كثير.

على أن إمام الحرمين قال: إنَّ الوارد استثناءً غير معقول المعنى دائمًا، وإنَّ ما يُعقل معناه لا يُستثنى.

ولَعَله يمنع المعنى في مسألة العرايا، ويقول في العنب بالزبيب: إنه بالنص موافقة لمن سبق.

ومن شروط حُكم الأصل أيضًا تَوافُق الخصمين على حُكم الأصل. فإنْ كان أحدهما يمنعه فلا يُستدَل عليه بالقياس فيه.

وإنما شُرط ذلك لئلَّا يحتاج القائس عند المنع إلى إثباته، فيكون انتقالًا من مسألة إلى أخرى.

ولا يشترط اتفاق الأُمة، بل يكفي اتفاق الخصمين؛ لحصول المقصود بذلك.

وقول ثالث: إنه يُشترط اتفاق الخصمين واختلاف الأُمة حتى لا يكون مُجْمَعًا عليه. وهو رأي الآمدي، وهو قريب مما سبق.

نقل الشيخ أبي إسحاق له وجهًا أنَّ حُكم الأصل شَرْطه أنْ يكون منصوصًا، وإذا كان إجماعًا فلا بُدَّ أن يعْرف أنَّ مُستندَهم نَص.

(1)

كذا في (س)، لكن في (ص، ق): ثالثها.

ص: 1888

وقد سمّى بعضهم ما كان متفقًا بين الخصمين فقط بـ"القياس المركَّب"، ولكن الصحيح أن "المركب" إنما هو بِقَيْد أن يتفق الخصمان لكن لِعِلَّتين مختلفتين أو لِعِلَّة يمنع الخصم وجودها في الأصل كما قاله الآمدي وابن الحاجب.

كقول الشاقعي فيما إذا قتل الحُرُّ عبدًا: المقتول عبد؛ فلا يُقتل به الحر، كالمكاتب إذا قتل وترك وفاء ووارثًا مع المولى. فإنَّ أبا حنيفة يقول هنا: إنه لا قصاص. فليلحق العبد به هنا؛ بجامع الرق. فلا يحتاج الشافعي فيه إلى إقامة دليل على عدم القصاص في هذه الصورة؛ لموافقة خصمه.

فيقول الحنفي في منع ذلك: إنَّ العلة إنما هي جهالة المستحق من السيد والورثة، لا الرق؛ لأنّ السيد والوارث وإنِ اجتمعا على طلب القصاص لا يزول الاشتباه، لاختلاف الصحابة في مُكاتب يموت عن وفاء.

قال بعضهم: يموت عبدًا وتبطل الكتابة.

وقال بعضهم: يُؤَدَّى بَدَل الكتابة مِن [أكسابه]

(1)

، ويُحكم بعتقه في آخِر جزء من حياته.

فقد اشتبه المولى مع هذا الاختلاف، فامتنع القصاص.

فإن اعترض عليهم بأنكم لا بُدَّ أن تحكموا في هذه الحالة بأحد هذين القولين: إما بموته عبدًا، أو حُرًّا، وأيًّا ما كان فالمستحق معلوم.

فيقول الحنفي: نحن نحكم بموته حرًّا بمعنى أنه [يورث]

(2)

، لا بمعنى وجوب القصاص على قاتله الحر؛ لأنَّ حُكمنا بموته حرًّا ظني؛ لاختلاف الصحابة، والقصاص

(1)

في (ق): اكتسابه.

(2)

في (ص): لا يورث.

ص: 1889

ينتفي بالشُّبهة، فهذه جهالة تَصلُح لدرء القصاص ولا تمنع عِلمنا بمستحق الارث.

إذا عَلمت ذلك، فهذا القياس المركَّب لِعلتين مختلفتين يسمى "مركب الأصل"، يُسمَّى بذلك لاختلافهما في تركيب الحكم على العِلة في الأصل.

فإنْ كان الخصم يوافق على العِلة ولكن يمنع وجودها في الأصل فهو "مركَّب الوصف"، يسمى بذلك لاختلافهما في نفس الوصف الجامع.

كقولنا في تعليق الطلاق قبل النكاح: تعليق للطلاق، فلا يصح، كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق.

فيقول الحنفي: العِلة -وهي كونه تعليقًا- مفقودة في الأصل؛ فإنَّ قوله: (زينب التي أتزوجها) تنجيز، لا تعليق.

ثم المشهور عند الأصوليين أن هذين النوعين غير مقبولين.

أما الأول: فلأن الخصم لا ينفك عن منع عدم [العِلة]

(1)

في الفرع أو منع الحكم في الأصل، وعلى التقديرين فلا يتم القياس.

وأما الثاني: فلأنه لا ينفك عن منع الأصل كما لو لم يكن التعليق ثابتًا فيه، أو منع حُكم الأصل إذا كان ثابتًا. وعلى التقديرين لا يتم القياس.

قال الهندي: وخالف الخلافيون في النوعين، فقالوا:[يُقبلان]

(2)

.

نَعم، إذا سَلَّم الخصم العِلة فأثبت المستدِل في القسم الثاني أنها موجودة في الأصل، أو سَلَّم أنَّ العلة التي عيَّنها المستدِل في الأول هي العلة وأنها موجودة في الفرع، انتهض الدليل

(1)

في (س، ت، ض): العلية.

(2)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يفيدان.

ص: 1890

عليه، فيصح القياس؛ لاعتراف الخصم بالمقتضِي لصحته. وذلك كما لو كان مجتهدًا أو غلب على ظنه صحة القياس فإنه لا يكابِر نفسه فيما أَوْجَبه عليه.

أما إذا لم يتفق الخصمان على الحكم لكن حاول المستدِل إثباته بالنَّص ثم ثبتت العِلة بطريق مِن طُرُقها، فقيل: لا يُقبل ذلك منه؛ حذرًا من الانتشار. والأصح القبول [وإلَّا]

(1)

لم يقبل في المناظرة مقدمة تحتمل المنع.

تنبيهات

احدها: شرط بعضهم -ونقل عن بشر المريسي كما سبق نقله عنه في شروط الأصل- الاتفاق على تعليل حُكم الأصل. وليس بمعتبَر على كل حال، سواء جعل شرطًا في نفس الأصل أو شرطًا في حكمه.

وشرط بعضهم أن تكون عِلته منصوصة، والأصح خلاف ذلك، بل تثبت العلية بطريق من طُرُقها؛ لأن أدلة القياس شاملة لذلك كله.

ومنهم مَن يذكر الكلام في هذا الشرط في مباحث العلة، ولكن ذِكره هنا أنسب.

الثاني: قال ابن الحاجب: إنَّ من شرط حُكم الأصل أن يكون شرعيًّا.

أي: تفريعًا على أن القياس لا يجري في اللغات والعقليات.

قال: وأنْ لا يكون منسوخًا؛ لزوال اعتبار الجامع.

أي: في نظر الشرع، فلا يتعدى الحكم به.

ووافقه في "جمع الجوامع" على اشتراط كونه شرعيًّا، لكن إذا استلحق شرعيًّا، فإنَّ

(1)

في (ت، س): إذا.

ص: 1891

اللغوي والعقلي على تقدير أن يجري القياس فيهما فليس قياسًا شرعيًّا، والكلام إنما هو في القياس الشرعي، مع أن القياس فيهما صحيح يُتوصل به إلى الحكم الشرعي، كقياس تسمية اللائط "زانيًا" والنباش "سارقًا" والنبيذ "خمرًا"؛ [فيثبت]

(1)

الحد والقطع والتحريم.

فإذا قُيِّد بأنَّ ذلك إنما هو في استلحاق نفس الحكم الشرعي، فلا بُدَّ من اشتراط كونه شرعيًّا.

وزاد من الشروط كَوْنه غير متعبَّد فيه بالقطع. أيْ: بالعِلم القطعي، كإثبات حُجية خبر الواحد بالقياس على الشهادة والفتوى على قول مَن يقول: إن ذلك من المسائل العلمية، ونحوه إثبات كون الاجتهاد جائزًا في طلب الحكم الشرعي بالقياس على جواز الاجتهاد في طلب القِبلة.

ولم أذكر في النَّظم شرطًا مِن الثلاثة.

أما اشتراط كونه شرعيًّا: فإن القياس لا يختص بذلك، والمقصود إنما هو بيان ما يصح به القياس. وأما كونه معمولًا به في الشرع أو في اللغة أو في العقليات فأمر آخَر. وقد تَقدم أن القياس في العقليات جائز.

وأما اشتراط أن لا يكون منسوخًا: فلا حاجة إليه؛ لأن المنسوخ لم يَبْقَ له وجود في الشرع فيُلحق فيه الأحكام بقياس ولا غيره.

وأما اشتراط أن لا يكون قاطعًا: فهو مع مخالفته لتجويز القياس في العقليات على المرجَّح فإنما يتوجه أن يكون شرطًا فيما يقع فيه الاختلاف، فيثبت الحكم فيه بالقياس.

أما إذا كان الكلام في صحة القياس مِن حيث هو، فلا يحتاج لاشتراطه.

(1)

في (ص، ق، ش): ليثبت.

ص: 1892

وكذا قال الهندي: إنه إنما يستقيم [اشتراط ذلك فيما]

(1)

هو في الحكم الذي هو ركن القياس الظني، لا الذي هو ركن في القياس كيف كان.

الثالث:

أهملتُ في النَّظم ما شَرطه بعضهم في حُكم الفرع مِن كونه مساويًا لحكم الأصل فيما يقصد مِن عَيْن أو جنس. وربما جُعل هذا مِن شروط الفرع.

ومثَّلوا العين بالقياس للقتل بالمثقل على القتل بالمحدد، فإنَّ حكم الأصل (وهو القتل بذلك) هو بِعَيْنه حُكم الفرع (وهو القتل).

ومثَّلوا الجنس بقياس إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها على إثبات الولاية عليها في مالِها، فالجنس واحد وهو مُطلَق "الولاية"، والنوع يختلف؛ لأنَّ ولاية النكلاح غير ولاية المال؛ لاختلاف التصَرُّفين.

فإنْ خالف حُكم الفرع حُكم الأصل في العين والجنس، فسد القياس.

كقولنا: الظهار يوجب الحرمة في حق الذمي، كالمسلم.

فيقول الحنفي: الحرمة متناهية في الظهار بالكفارة، والحرمة في الذمي مؤبدة؛ لأنه ليس من أهل الكفارة؛ فاختلفَا.

وجواب الاعتراض بذلك أن يُبَيّن المستدِل الاتحاد، وهو هنا مَنعْ كَوْن الذمي ليس من أهل الكفارة.

وإنما أهملتُ ذلك كله لأنه بيان ما يُستفاد من القياس، لا شرط في شيء مق الأركان، وذلك مفهوم من تعريف "القياس" بأنه:"حمل معلوم على معلوم في حُكمه" أي: المقصود

(1)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): اشتراطهما.

ص: 1893

منه عينًا كان أو جنسًا، فيخرج المختلف. والله أعلم.

ص:

778 -

وَ"الْعِلَّةُ": الْوَصْفُ يَكُونُ ظَاهِرَا

مُنْضَبِطًا، إمَّا حَقِيقِيًّا يُرَى

779 -

أَوْ كَانَ عُرْفِيًّا أَتَى مُطَّرِدَا

أَوْ لُغَوِيًّا، أَوْ بِشَرْعٍ قُصِدَا

780 -

أَيْ: جَالِبًا مَصْلَحَةً، أَوْ رَافِعَا

مَفْسَدَةً، أَوْ دَافِعًا، أَوْ جَامِعَا

781 -

فَقَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: أَيْ تُعَرِّفُ

لِلْحُكْمِ، بِالتَّأْثِيرِ لَا تَتَّصِفُ

782 -

بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ أَوْ بِغَيْرِ

وَلَا بِجَعْلِهَا بِذِي تَأْثِيرِ

الشرح:

هذا هو الركن الرابع من أركان القياس وهو: "العِلَّة".

وأشرتُ إلى تعريفها بأنها: وَصْفٌ ظاهرٌ منضبطٌ مُعَرِّف لِلحُكم.

فخرج بقيد الظهور: الخفيُّ، كالبخر في الأسد.

وبالانضباط (والمراد به تميُّز الشيء عن غيره): ما هو منتشر لا ضابط له، كالمشقه؛ فلذلك لا يُعَلَّل إلا بوصف منضبط يشتمل عليها كما سيأتي.

وبقولنا: (مُعَرِّف للحكم) ما يُعَرِّف نقيضه وهو "المانع"، أو ما يتوقف عليه المعَرِّف وهو "الشرط" كما سبق تقرير ذلك في تقسيم الحكم الوضعي إلى: سبب، وشرط، ومانع.

وفصلتُ في النَّظم -لأجل الاختصار- بين قيد الانضباط وقيد كونه معرفًا بتقسيم المنضبط إلى: حقيقي، وعُرفي، ولُغوي، وشرعي. وتقسيمه باعتبار آخَر إلى: ما يكون جالبًا لمصلحة، أو رافعًا لمفسدة، أو جامعًا للأمرين فيكون دافعًا رافعًا.

ثم ذكرت الخلاف في أن العلة هل هي مؤثِّرة في الحكم بالذات؟ أو بالوصف؟ أو

ص: 1894

مُعَرِّفة ولا تأثير لها البتَّة؟ أو مؤثِّرة لكن بِجَعْل الباري تعالى ذلك؟

فالكلام على تقرير هذه الأمور.

أما الأول (وهو تقسيم الوصف الظاهر المنضبط إلى أربعة أقسام) فوَجْه الحصر أنَّ ما يُعْلَم مِن ذلك:

إما أن يتوقف العِلم به على وَضْع؟ أو لا؟ فإنْ لم يتوقف بل تُعُقِّل باعتباره في نفسه وإنْ كان تعريفه للحُكم إنما عُلِم مِن حيث الشرع، فهو "الوصف الحقيقي".

وْإن توقف على وضع، فإما أن يكون الواضع له الشرع (أي: لم تُعْرف [وَصْفِيتُه]

(1)

إلا بالشرع) أو مِن حيث وضع لفظ يدل عليه مِن اللغة أو العُرف، فيُعْلَم مِن واضع اللغات أو مِن أهل العُرف.

فالأول: الشرعي، والثاني: اللغوي، والثالث: العُرفي.

فأما الأول (وهو "الحقيقي") فلا خلاف في التعليل به إذا كان مشتملًا على مصلحة مما سيأتي، كالطعم في قولنا: مطعوم؛ فيكون رِبَوِيًّا. فإن الطعم يُدْرَك بالحسِّ، لا يتوقف تَعَقُّلُه على تَعَقُّلِ غيره.

وأما الشرعي (وهو الحكم الشرعي) فاختُلف في كونه علة لحكم شرعي:

فجَوَّز الأكثرون التعليل به، كتعليل منع بيع الكلب بنجاسته؛ لأن العلة هي المعَرِّف على قول أهل السُّنة كما سيأتي، فلا امتناع أن يُجْعَل حُكم شرعي مُعَرِّفًا لحكم شرعي.

وقيل: لا يُعَلَّل به؛ لأنه مُعَلَّل، فكيف يكُون عِلة؟

وجوابه: أنَّ جهة مَعْلُولِيَّتِه غير جهة عِلِّيَّتِه.

(1)

كذا في (ص، ق)، لكن في (ت): وضعيته.

ص: 1895

ثم اختُلف أيضًا على قول كَوْنه علة لحكم شرعي: هل يُعَلَّل به وصف حقيقي؟ على قولين حكاهما في "المحصول"، أصحهما -كما قاله الهندي وغيره- الجواز؛ لِمَا قُلنا من أن العلة المعَرِّف، فيجوز أن يُعَرِّف حُكمٌ شرعي وصفًا حقيقيًّا.

مثاله: تعليل كون الشعر موصوفًا بأنه تحله الحياة بأنه يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح؛ فيكون حيًّا، كاليد.

وأما اللغوي: فكتعليل تحريم النبيذ بأنه يسمى "خمرًا"؛ فحرم كعصير العنب.

وأما الوصف العُرفي: فنحو الشرف والخسة في الكفاءة وعدمها، فإن الشرف يناسب التعظيم والإكرام، والخسة تناسب ضد ذلك؛ فيُعَلَّل به بشرط أن يكون مطردًا، أي: لا يختلف باختلاف الأوقات، وإلا لجاز أن يكون ذلك العُرف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم دُون غيره، فلا يُعَلَّل به.

وأما تقسيم الوصف الظاهر المنضبط باعتبار وَجْه صلاحيته للتعليل مراعاةً لجلب المصالح ودرء المفاسد تَفضّلًا من الله عز وجل لا وجوبًا فالوصف إما أن يكون جالبًا لمصلحة للعبد أو دارئًا لمفسدة عنه، أو يجتمع فيه الأمران.

والدارئ للمفسدة على ثلاثة أقسام:

إما أن يكون دافعًا لها، أو رافعًا لها، أو يجتمع الأمران فيه فيكون دافعًا رافعًا.

فقولي في النَّظم: (أَوْ جَامِعَا) صادق على أمرين:

أحدهما: أن يكون جامعًا لجلب المصلحة ودرء المفسدة.

والثاني: أن يكون جامعًا لدفع المفسدة ورفعها.

فأما الوصف الجالب للمصلحة والدارئ للمفسدة والجامع للأمرين فسيأتي مبسوطًا في اشتمال العلة على مصلحة العبد.

ص: 1896

وأما كون الوصف "دافعًا لا رافعًا" أو "رافعًا لا دافعًا" أو "دافعًا رافعًا" فأمثلة ذلك كثيرة.

فمن الأول: العدة دافعة للنكاح إذا وُجدت في ابتدائه، لا رافعة له إذا طرأت في أثناء النكاح، فإن الموطوءة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية.

ومن الثاني: الطلاق، فإنه يرفع حِل الاستمتاع ولا يدفعه؛ لأن الطلاق -أيْ استمراره- لا يمنع وقوع نكاح جديد بِشرطه.

ومن الثالث: الرضاع، فإنه يمنع من ابتداء النكاح، وإذا طرأ في أثناء العصمة، رفعها. وإنما كان هذا وشِبهه من موانع النكاح يمنع في الابتداء والدوام [لتأبُّده]

(1)

واعتضاده بأن الأصل في الأبضاع الحرمة.

وأما تقييد الوصف الظاهر المنضبط بكونه مُعَرِّفًا وحكاية الخلاف فيه فهو المشار إليه بقولي: (فَقَالَ أَهْلُ الحَقِّ) إلى آخِره.

وحاصله حكايته أربعة أقوال في الأصل:

أحدها: قول أهل السنة وهو الحق: أن العلة مُعرِّفة للحكم، لا مؤثِّرة؛ لأن الحكم قديم، فلا مؤثر له. فإن أريد تعلُّق الحكم بالمكلَّف فهو بإرادة الله تعالى، لا بتأثير شيء من العالم.

ومعنى كونهها مُعرِّفة أنهها نُصبت أَمارة وعلامة يَستدل بها المجتهد على وجدان الحكم إذا لم يكن عارفًا به، ويجوز أن يتخلَّف

(2)

، كالغيم الرطب أَمارة على المطر وقد يتخلَّف. وهذا لا يُخْرِج الأمارة عن كونهها أَمارة.

(1)

كذا في (ق، ص، ش)، لكن في (ت): لفائدة.

(2)

يعني: قد توجد العِلة ويتخلَّف الحكم.

ص: 1897

وقد سبقت مسألة أن الدال على الحكم النص أو العلة، وسيأتي لنا عودة إليه قريبًا.

الثاني: أن العلة مؤثرة في الحكم، وهو قول المعتزلة، بناءً على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين. ثم قال بعضهم: إنها أثَّرت بذاتها. وقال بعضهم: بصفة ذاتية فيها. وقيل غير ذلك، وقال بعضهم: بوجوه واعتبارات.

وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة في الكلام على "السبب" من خِطاب الوضع.

وليس عند أهل السُّنة شيء من العالم مؤثِّرًا في شيء، بل كل موجود فيه فهو بخلق الله تعالى وبإرادته.

الثالث: أنها مؤثِّرة لكن لا بذاتها ولا بصفة ذاتية فيها ولا غير ذلك بل بِجَعْل الشارع إياها مؤثِّرة. وهو قول الغزالي، وكذا قال سليم الرازي.

قال الهندي: (وهو قريب لا بأس به).

وردَّه الإِمام الرازي بأن الحكم قديم، فلا يُتصور أن يؤثِّر فيه شيء.

وأيضًا: فإذا وُجِد المعلول فإما أن يكون مُوجِدُه الله تعالى أو تلك العلة أو هُما.

والأخيران باطلان، لما يَلزم منه أنَّ غَيْر الله خالقٌ، أو أن له شريكًا في خَلْقه، وذلك مُحَال؛ فَتَعَيَّن الأول.

ومنهم مَن بَنَى ذلك على أنه هل يعقل تأثير مِن غير أن يكون المؤثِّر مؤثِّرًا بذاته أو بصفة قائمة به أو نحو ذلك؟ أو لا يعقل؟

وبنوا [على ذلك]

(1)

مسألة خَلْق الأفعال. فأهل السنَّة يثبتون تعقله فيبطلون تأثير العبد في أفعاله، وإنما هي بِخَلْق الله تعالى وإيجاده.

(1)

في (ص): ذلك على.

ص: 1898

والمعتزلة يقولون: إنه

(1)

خالقٌ لأفعال نفسه.

ومحل بسط هذه المسألة أصول الدين.

الرابع: أنها مؤثِّرة بالعُرف. واختاره الإِمام الرازي في " [الرسالة]

(2)

البهائية في القياس".

فإن قلت: قال الآمدي وابن الحاجب: (إنَّ العلةَ: الباعثُ). فهل ذلك موافقة للمعتزلة؟ أو الغزالي؟ أو المراد غير ما أرادوه؟

قلت: ليس موافقةً لهم؛ لأنهما قد فَسَّرا ذلك بأنْ تكون مشتملة على حِكمة مقصودة للشارع مِن شَرْع الحكم، أي: مِن تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها حتى لا تكون مجرد أمارة، وذلك إنما يكون إذا كانت العلة مستنبطة؛ فإنها إذا كانت منصوصة أو مجمعًا عليها، فالمعَرِّف النص أو الإجماع.

فإن قوله مثلًا: (علة تحريم الخمر الإسكار) تصريح بحرمة الخمر، فلا يكون قد عُرِف بالعلة. وأما المستنبطة فإنما عُرِفَت من الحكم بطريق الاستنباط، فكيف تكون مُعَرفة له فيَلزم الدَّوْر؟

نعم، إنْ أُجيبَ بأن المراد مُعرِّفة لحكم الفرع وحُكمُ الأصل عَرَّفها، فلا دور. وهو معنى ما سبق نقله عن ابن الحاجب مِن أن الجامع فرعٌ للأصلِ أصلٌ للفرع، وسبق شرحه والتعقب عليه من وجه آخر.

نعم، ردوا قول الآمدي:(إنها بمعنى الباعث للشارع على شَرْع الحكم) بأنه مخالف

(1)

يعني: العَبْد.

(2)

في (ص): المسألة. وفي معجم الأدباء (6/ 2589) ذكر ياقوت الحموي من تصانيف الرازي: "النهاية البهائية في المباحث القياسية".

ص: 1899

لقول أهل السُّنَّة من حيث إنَّ أفعال الرب تعالى لا تُعَلَّل بالأغراض، وأن تفسيره بالاشتمال على حِكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم لا يدفع هذا المحذور؛ لأنَّ المعنى أنه لأجل ذلك شرعه، فهو الباعث والداعي.

فإذا قلت: (الربُّ تعالى حَرَّم الخمر؛ لأجل الإسكار)، فجعلتَ فِعلهُ لغرض، والرب منزه عن ذلك؛ لأن مَن فَعل فِعلًا لغرض لا بُدَّ أن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أَوْلى مِن عدم حصوله وإلا لم يكن غرضًا. وإذا كان أَوْلى، اكتسب به فاعلُه صفة مدح ويكون حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير، فتكون ممكنة غير واجبة؛ فيكون كمالُه تعالى ممكنًا غير واجب، وهو مُحال.

قلت: إذا حُمل كلام الآمدي وابن الحاجب على أحد أمرين، كان كلامهما سديدًا:

أحدهما: أن يكون المراد أن شرعه لذلك على وَفْق مصلحة للعبد أرادها الله تعالى له، وهو الذي خلقها، وذلك من فضله وإحسانه، لا أنه واجب عليه؛ إذ لا يَلزم مِن قولنا:(إن الحكمة مقصودة للشارع) الإيجابُ عليه، بل بالمعنى الذي قررناه.

ثانيهما: أن يُفَسر الباعث بما يُفسَّر به قول الفقهاء: (إن الله حَكم بكذا لِعِلة كذا، أو لمعنى كذا). فإنه ليس مرادهم تأثيره فيه لا بالذات ولا بغيرها، بل يَعْنون أن العلة باعثة للمكلَّف على الامتثال. كقولنا: حفظ النفوس يبعث المكلفين على فِعل القصاص الذي حَكم به الله تعالى، لا باعث للشرع على شرعية القصاص. كما نبه على ذلك الشيخ تقي الدين السبكي، وسيأتي في النَّظم التعرض له لما يترتب عليه من بيان أقسام العلة والطرق الدالة عليها.

نعم، ينبغي أن يتجنب الألفاظ الموهمة، فالاعتراض إنما يتوجه عليها بهذا الاعتبار. ولهذا قال تقي الدين أبو العز المقترح: مَن فسر العلة بالباعث للشارع على الحكم أو الحاملة له على ذلك أو الداعية إنْ أراد به إثبات غرض حادث له فهو محال قررنا بطلانه في علم التوحيد، وإن أراد به أن يعقبها حصول الصلاح في العادة فسميت "باعثًا" تَجَوُّزًا فهذا لا

ص: 1900

يجوز إطلاقه على الباري تعالى؛ لِمَا فيه من الإيهام للمُحال، إلا أن يُتَحَقَّق مِن الشرع إذن في إطلاقه، ولا سبيل إليه.

تنبيهان

الأول: قد سبق في الكلام على السبب أن "العِلة" قِسم من السبب، فهو أَعَم منها؛ فإنها يُعتبر فيها المناسبة وهو أَعَم من ذلك. فقد يكون زمانًا ومكانًا وغير ذلك مما بيَّناه هناك.

ونزيد هنا أنَّ بينهما فرقًا في اللغة والكلام والأصول والفقه.

فأما اللغة:

فَـ"السبب" ما يُتَوَصَّل به إلى غيره ولو بوسائط. كتسمية الحبل سببًا. وذكروا للعلة معاني يدور [القَدْر]

(1)

المشترك فيها على أن يكون أمر مستمدًّا من آخَر له في إيجاده تأثير.

ولهذا يقول أكثر النحاة: "اللام" للتعليل، و"الباء" للسببية. ولم يعكسوا التعبير فيهما.

وقال ابن مالك: (الباء للسببية والتعليل). فَغَايَر بينهما.

وأما في الكلام:

فالسبب: ما يحصل الشيء عنده، لا بِه. والعلة: ما يحصل به.

وأيضًا: "العلة" ما يتأثر بها المعلول بلا واسطة ولا شرط. و"السبب" ما يُفضِي للحكم بواسطة وشرط؛ ولذلك يتراخى حتى توجد وسائطه وشرطه وتنتفي موانعه.

وفي الأصول:

(1)

في (ص، ق): الأمر.

ص: 1901

قال الآمدي في "جدله"

(1)

: العلة ما تكون للمظنة أو للحكمة، وأما السبب فللمظنة دائمًا، إذ بالمظنة يُتَوصل إلى الحكم لأجل الحكمة.

وأما في الفقه:

فذكر إلْكِيَا أنه يطلق فيه على أمور:

منها: أن الإمساك مثلًا للقتل سبب، ومباشرة القتل عِلة. كأنه يجعل ما لا واسطة فيه "عِلة"، وما فيه واسطة "سببًا".

وقال مرة: العلة ما يعقبه الحكم، والسبب ما يتراخى عنه و [يتوقف]

(2)

على شرط أو شيء بعده.

وذكر الغزالي في الجنايات أن ما له مدخل في التلف إنْ لم يؤثر فيه ولا فيما يؤثر فيه فهو الشرط، كالإمساك. وإنْ أثَّر فيه وحَصَّله فهو العلة، ويسمى المباشرة، كالقَدِّ. وإنْ أثَّر فيه ولم يحصِّله فهو السبب، كشهادة الزور.

وللقفال تَفْرقة أخرى قريبة من ذلك، وبسط ذلك محله الفقه.

الثاني:

قد يُعبَّر عن "العلة" بألفاظ ذكرها المقترح: السبب، الأَمَارة، الداعي، المستدعي، الحامل، المناط، الدليل، المقتضي، الموجِب، المؤثِّر.

وزاد غيرُه: المعنى.

وكُل ذلك اصطلاح سهل، والله أعلم.

(1)

كتاب للآمدي في عِلم الجدل.

(2)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يتوقف عنه.

ص: 1902

ص:

783 -

وَالْحُكْمُ في الْأَصْلِ بِهَا قَدْ ثبَتَا

وَلَيْسَ بِالنَّصِّ [بِحُكْمٍ]

(1)

أُثْبِتَا

الشرح:

المراد بالثبوت: ثبوت معرفته؛ لِمَا قررناه من أنَّ العِلة مُعَرِّفة، لا مؤثِّرة.

وقد سبق تقرير هذه المسألة في تعريف الأصل وقول ابن الحاجب: (إنَّ الوصف الجامع فرعٌ للأصل، أصلٌ للفرع). وأنه ليس مذهب الشافعية، وإنما مذهبهم أنها مُعرفة لا مؤثِّرة كما سبق تقريره قريبًا، فلا حاجة إلى إعادة شيء مما سبق. والله أعلم.

ص:

784 -

وَمنْ شُرُوطِهَا: اشْتِمَالُهَا عَلَى

حِكْمَةٍ، ايْ تَبْعَثُ أَنْ يُمْتَثَلَا

785 -

وَنَفْيُ الِاطِّلَاعِ لَيْسَ قَادِحَا

إنْ يَقُمِ الدَّلِيلُ فِيهِ جَانِحَا

786 -

نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ

عِنْدَ انْضِبَاطٍ هِيَ فِيهِ الْعِلَّةُ

الشرح:

أي: من شروط العلة اشتمالها على حكمة باعثة لكن على معنى أنها تبعث المكلَّف على الامتثال، لا أنها باعثة للشرع على ذلك الحكم كما سبق تقريره وأنَّ المراد بذلك هذا أو أنه على وَفْق ما جعله الله عز وجل مصلحة للعبد تفضلًا عليه وإحسانًا له، لا وجوبًا على الله تعالى.

(1)

في (ت، س، ن 5): لحكم.

ص: 1903

ففي ذلك بيان قول الفقهاء: (الباعث على الحكم بكذا هو كذا). أو أنهم لا يريدون بَعْث الشارع، بل بَعْث المكلَّف على الامتثال، مثل حفظ النفوس باعث على تَعاطي فِعل القصاص الذي هو مِن فِعل المكلَّف.

أما حُكم الشرع فلا علة ولا باعث عليه. فإذا انقاد المكلَّف لامتثال أمر الله تعالى في أخذ القصاص منه ولكونه وسيلة لحفظ النفوس، كان له أجران: أَجْر على الانقياد، وأجر على قصد حفظ النفوس. وكلاهما أمر الله به، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، وقال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].

ومن أجل كون العلة لا بُدَّ من اشتمالها على حِكمة تدعو إلى الامتثال كان مانعها وصفًا وجوديًّا يُخِلُّ بحكمتها، ويسمى هذا "مانع السبب".

فإنْ لم يُخِل بحكمتها بل بالحكم فقط والحكمة باقية، يُسمى "مانع الحكم". وقد سبق بيان ذلك في تقسيم خطاب الوضع أول الكتاب.

فمثال المقصود هنا وهو "مانع السبب": الدَّين إذا قلنا بأنه مانع لوجوب الزكاة؛ لأن حِكمة السبب -وهو ملْك النصاب- استغناء مالِكه به، فإذا كان محتاجًا إليه لوفاء الدَّين، فلا استغناء؛ فاختلَّت حِكمة السبب بهذا الوصف المانع.

وقولي: (وَنَفْيُ الِاطِّلاع) إلى آخِره -إشارة إلى أن الوصف وإنِ اشتُرط فيه اشتماله على حكمة لكن يجوز التعليل بما لا يُطلَع على حكمته؛ لأنه لا يخلو عنها في نفس الأمر. فإنَّ التعبُّدي ليس المراد به ما لا عِلة له، بل ما لا يُطَّلَع على عِلته، ولكن ما لا يُعْقَل فيه مناسبة يسمى "أَمَارة".

نعم، إذا قُطِع بعدم وجود الحكمة في بعض الصوَر، جاز أن يُعَلَّل بالمظنة، خلافًا للجدليين. وممن صرح بالجواز: الغزالي وابن يحيى في "الأصول"، كاستبراء الصغيرة، فإنَّ حكمة الاستبراء تيَقُّن براءة الرحم، وهي مفقودة في الصغيرة، والتيقن محقَّق بدون

ص: 1904

الاستبراء. والخلاف في الفقه في ذلك كثير منتشر.

فمِن ذلك أن مَن قام مِن النوم وشَكَّ في طهارة يده، يُكره أن يغمسها في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثًا، فإن تَيقَّن فلا كراهة.

وقال إمام الحرمين: يُكره وإنْ عُلِّق الحكم في الخبر على توهُّم النجاسة؛ لجواز أن يكون للتوهم ثم يَعُم، كالعدة شُرعت لبراءة الرحم ثم عُمّمَت في موضع تُعْلَم فيه البراءة.

قال الشاشي في "المعتمد": (والمذهب الأول؛ لأنه علق على توهُّم النجاسة، وما عُلق بشيء، ينتفي عند انتفائه. هذا هو الأصل في العِلَل).

قال: (وقد أبْعَدَ الإِمام المَرْمَى في تشبيهه بالعدة، وإلحاقه بالنجاسة المحققة أَوْلَى؛ فإنها تؤثر في المنع مِن غمس اليد في الإناء، ثم لا يثبت هذا الحكم فيه إذا كانت النجاسة متوهمة، أو بجعل توهم النجاسة كتحققها. كما قال أحمد في المنع، ويلحق ذلك بالعدة. فإذا لم يلحق حال تَوهُّم النجاسة بالعدة في وجوب المنع؛ فلأنْ لا يلحق حال تَحقُّق الطهارة في الاستحباب بالعدة أَوْلى. والعدة فيها ضربٌ من التعبد، و [حال تَحقُّق]

(1)

البراءة حالة نادرة، فألحقت بالغالب؛ لعدم إمكان الضبط. وتَيقُّن الطهارة ليس بنادر، والأصل طهارة اليد). انتهى

قلتُ: فلو غسل مَن شك في نجاسة يده مرة أو مرتين بحيث تيقن طهارتها، فالأرجح لا تزول الكراهة حتى يغسل ثلاثًا؛ عملًا بظاهر الأمر. هذا مع انتفاء المعنى، [إلا]

(2)

أنْ يقال: دخله هنا ضربٌ مِن التعبد، فيكون كالعدة.

ومن ذلك أيضًا: لو قال: (أنت طالق آخِر حيضك) أو: (مع آخر حيضك) فأصح

(1)

في (ص، ق): جاء في تحقيق.

(2)

في (س، ت): الأول إلا.

ص: 1905

الوجهين أن الطلاق سُنِّي. ونَسبه الإِمام في "النهاية" للقياسيين، وقال في الوجه الثاني وهو أنه بِدعي:(إنه يعتقد بالرجوع إلى التوقف بالتعبد)

(1)

. انتهى

ومَأْخَذ الأول: أنَّ الحكمة في تحريم طلاق الحائض تطويل العدة، وهو مقطوع بانتفائه في هذه الصورة؛ فلا يثبت الحكم.

ومأخذ الثاني: انتفاء الحكمة، [فأثبت]

(2)

بالعِلة وهي الحيض، وهو معنى قول الإِمام:(بالتعبد) أيْ: مِن جهةٍ. وإلا فالحيض هو العلة، ولا امتناع أن يكون الشيء تَعبُّديًّا مِن وَجْهٍ معقولًا مِن وَجْهٍ.

والحاصل: أن التعليل بالمظنة وإنْ قُطِع فيها بنفي الحكمة إما لعدم انضباطها أو غير ذلك.

ونحو هذا أيضًا: ما ذكره أصحابنا في "باب صلاة العيد" في ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم في طريق والرجوع في أخرى مِن الخلاف أنَّ: ما فَعله صلى الله عليه وسلم لمعنًى وزال، هل تبقى [سُنِّيَّته]

(3)

؟ أو لا؟ على وجهين، كالرمل ونحوه.

لكن ليس هذا عَيْن الخلاف المذكور هنا؛ لأنَّ القائل ببقاء [سُنيته]

(4)

يقول: له علة أخرى. وهو جارٍ على جواز التعليل في حالة بِعِلَّة وفي أخرى بِعِلة غيرها.

وقولي: (نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تكُونَ الْحِكْمَةُ) إلى آخره -بيان أن ما سبق هو في الوصف المشتمل على الحكمة، أما نفس الحكمة فهل يجوز التعليل بها؟ أو لا؟ ثلاثة أقوال:

(1)

نهاية المطلب (14/ 18).

(2)

في (ت، س، ض): فيما ثبت.

(3)

في (ص، ق، ش): سببه.

(4)

في (ص، ق، ش): سببه.

ص: 1906

أحدها: يجوز مطلقًا؛ لأنها المقصود في التعليل. وهو اختيار الإِمام الرازي.

والثاني: المنع مطلقًا؛ لخفائها (كالرضا في البيع؛ ولذلك أُنِيطَت صحةُ البيع بالصِّيَغ الدالة عليه) ولعدم انضباطها (كالمشقة؛ فلذلك أنيطت بالسفر).

وهذا ظاهر كلام "جمع الجوامع" ترجيحه.

والثالث: وهو ما صححه ابن الحاجب واختاره الهندي وعليه جريتُ في النَّظم: التفصيل بين أن تكون الحكمة (أي: المصلحة المقصودة لشرع الحكم) ظاهرة منضبطة فيجوز التعليل بها، وبين أن لا يكون كذلك فيمتنع.

ووجْه ذلك: أنَّا نعْلم أنها هي المقصودة للشارع، وإنما عدل عن اعتبارها لخفائها واضطرابها في الأغلب، فإذا زال هذا المانع بظهورها وانضباطها، صَحَّ أن يُعَلَّل بها.

وقولي: (عِنْدَ انْضِبَاطٍ) فيه استغناء عن اشتراط الظهور؛ لاستلزام الانضباط الظهور.

وقولي: (هِيَ فِيهِ الْعِلَّةُ) جملة اسمية خبر "كان" في قولي أول البيت: (يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ). والضمير في "فِيهِ" يعود على الحُكم. أي: هي العلة في الحكم. والله أعلم.

ص:

787 -

لَا عَدَمِيٌّ عِلَّةً في مُثْبَتْ

أَيْ: كَالْإضَافِيِّ، فَذَا لَا يُثْبَت

الشرح:

أي: لا أنْ يكون وصفٌ عدميٌّ علةً في حُكم ثبوتي. أي: فهذا من شروط العلة أيضًا على المختار عند الآمدي وابن الحاجب وغيرهما؛ لأن العدم إن كان:

ص: 1907

- مطلقًا، فالتعليل به باطل قطعًا؛ لعدم تخصيصه بمحل أو بحكم، فلا [تميُّز]

(1)

فيه؛ لأنَّ الكل فيه سواء.

- أو عدمًا مخصوصًا، فلا يُعلَّل به إنْ كان وجود ذلك "المفروض عَدَمه" منشأ مصلحة؛ لأنه لا يكون عدمه مصلحة أيضًا. وإنْ كان وجوده منشأ مفسدة فهو من قبيل الموانع، والمانع لا يكون علة، بل لا بُدَّ من مُقْتَضٍ. وهو معنى قول بعض الجدليين:[لأن]

(2)

العدم طرد، والتعليل بالطرد ممتنع.

قال: فلو قال الشارع: (حكمتُ بكذا؛ لعدم كذا) كان للتأقيت (بمعنى: إذا انعدم، فاعرفوا ثبوت الحكم)، لا للتعليل.

وخالف الإِمام الرازي وأتباعه فجوَّزوا أن يعلل به الحكم الثبوتي كما يُعلل به الحكم العَدَمي.

وقال في "المحصول": (خلافًا لبعض الفقهاء). قال: (لأنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض المقدمات، والدوران يفيد الظن).

ولكن ضعّف هذا بأنه ليس له جهة اقتضاء يتخيل بالدوران التعليل بها.

مثاله في الفقه: أن يقال: (بيع الآبق باطل؛ لعدم القدرة على التسليم).

وقد يقال: إنما العلة العجز، وهو أمر وجودي، فهُما صفتان وجوديتان متقابلتان، لا مِن قبيل العدم والملكة.

ووقع في "جمع الجوامع" النقل عن الإِمام المنع، وعن الآمدي الجواز. وهو سَبْق قَلَم.

(1)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تمييز.

(2)

في (ت، س، ض): ان.

ص: 1908

نعم، اختار الإِمام في "المعالم" المنع كما هو طريقة الآمدي.

واعلم أن في ثبوت الخلاف بين الإِمام والآمدي نظر؛ لعدم تَوارُدهما على محل واحد، فإنَّ الإمام بناه على رأيه أن العلة مُعَرِّف، ولا امتناع أن يُعَرِّف عَدَميٌّ وجوديًّا.

والآمدي بناه على أنها بمعنى الباعث، قلتُ: على كل حال الخلاف بينهما ثابت ولو كان مدْركهما [خِلافًا]

(1)

بينهما آخَر.

نعم، قال ابن التلمساني: إن المسألة مبنية على تخصيص العلة، فإن منع التخصيص، جَوَّز هنا، ومَن جوَّز التخصيص يقول: العلة ضابط المصلحة، وهي شيء، والعدم لا شيء، فكيف يعلل به الشيء؟

قولي: (لَا عَدَمِيٌّ عِلَّةً) قد يدخل فيه ما إذا كان العدمٍ ليس تمام العلة، بل جزء منها، فإنَّ الخلاف جارٍ في ذلك أيضًا، فإنَّ العدمي أعم أن يكون كُلّا أو بعضًا.

وقولي: (أَيْ: كالْإضَافيِّ) أي: من جملة العدمي إذا كان الوصف إضافيًّا، وهو ما [تَعقُّله]

(2)

باعتبار غيره، كالبنوة والأبوة، والتقدم والتأخر، والمعيَّة والقَبْلية والبَعْدية، ففي التعليل به ما سبق.

وإنما قلنا: إنه عدمي؛ لأن وجوده إنما هو في الأذهان، لا في الخارج. هذا على المختار من الخلاف في أن الإضافي عدمي أو لا. ومحل بسطه عِلم الكلام. والله أعلم.

(1)

في (ص، ق، ض، ش): خلاف.

(2)

في (ق): تعلقه.

ص: 1909

ص:

788 -

وَعِلَّةٌ قَاصِرَةٌ يُعَلَّلُ

بِهَا، فَذَا يُفِيدُ مَا يُفَصَّلُ

789 -

فَمِنْهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْمُنَاسَبَهْ

وَمَنْعُ إلْحَاقٍ لِمَا قَدْ قَارَبَهْ

790 -

وَقُوَّةٌ لِلنَّصِّ، وَالزِّيَادَهْ

لِلأَجْرِ في امْتِثَالِهِ عِبَادَهْ

791 -

وَاعْدُدْ مِنَ الْقَاصِرَةِ الْمَحَلَّا

وَجُزْءَهُ وَلَازِمًا قَدْ حَلَّا

الشرح:

هذا من الذي اشتُرط في العلة، ولكن الراجح المنع، وهو كَوْن العلة لا تكون قاصرة، بل متعدية لغير الحل المنصوص؛ حتى لا يُعَلَّل بالقاصرة، وهي التي لا توجد في غير المحل المنصوص.

ولا تخلو القاصرة من أمرين: أن تكون عِليتها ثابتة بنص أو بإجماع، أو تكون مستنبطة.

فأما الأول: فأَطْبَقَ العلماء كافَّة على جواز التعليل بها، وأن الخلاف كما في "التقريب والإرشاد" للقاضي إنما هو في المستنبطة. وأغرب القاضي عبد الوهاب في "الملخص" بحكاية قول بمنع التعليل بها مطلقًا منصوصة كانت أو مستنبطة، وقال: إنه قول أكثر فقهاء العراق.

وأما الثاني: وهو أن تكون مستنبطة فالذي ذهب إليه الأكثرون (منهم الشافعي وأصحابه ومالك وأحمد والقاضي أبو بكر وإمام الحرمين وكذا عبد الجبار وأبو الحسين، وعليه المتأخرون كالإمام الرازي وأتباعه والآمدي): أنه يُعَلَّل بها.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه (منهم الكرخي وبه قال أبو عبد الله البصري) إلى أنه لا يُعلل بها. وحكاه الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" ثم النووي في "شرح المهذب" وجهًا لأصحابنا.

ص: 1910

احتج المانع بأنه لا فائدة في التعليل بها؛ لأن الحكم مقرَّر بالنص. وغير المنصوص لا توجد فيه تلك العلة، فأي فائدة لها؟

والجواب: أن القاصرة المنصوصة أو المجمَع عليها متفق عليها، وما قالوه موجود فيها، فلو صح ما قالوه لكان النص عليها عبثًا والإجماع عليها خطأ. ونفي الفائدة أو حصرها فيما نفوه ممنوع؛ فلها فوائد تذكر مُفَصَّلة.

منها: معرفة مناسبة الحكم للحكمة؛ إذ بالتعليل تُعرف الحكمة وأن الحكم على وَفْق الحكمة والمصلحة؛ فيكون أَدْعَى إلى القبول والانقياد مما لم تُعْلَم مناسبته.

لكن قال المقترح: إن السببية إنما جعلت لتعريف [الحكم]

(1)

، لا لِما ذُكِر.

وجوابه: أنه لا ينافي الإعلام طلب الانقياد لحكمته.

ومنها: إفادة المنع لإلحاق فرع بذلك؛ لعدم حصول الجامع الذي هو [عِلة]

(2)

في الأصل.

واعتُرض بأن ذلك من المعلوم من موضوع القياس، فأين الفائدة المتجددة؟

وأجيب بأنه لو وُجد وصف آخَر مُتَعَدٍّ، لا يمكن القياس به حتى يقوم دليل على أنه أَرجح من تلك العلة القاصرة، بخلاف ما لو لم يكن سوى العِلة المتعدية، فإنه لا يفتقر الإلحاق بها إلى دليل على ترجيح.

نعم: سيأتي في باب التراجيح أنهما إذا تعارضا مِن غير أن يكون لإحداهما مرجِّح أن الأصح تقديم المتعدية. وقيل: القاصرة. وقيل بالوقف.

(1)

في (ض، ت، س): الحكمة.

(2)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): علته.

ص: 1911

فلا يُعترض به على ما قررناه؛ لأن القصد أنها إذا رجحت القاصرة بدليل، قُدِّمت، أو كان للقاصرة مرجِّح يقابل التعدي، تَعادَلَا، فظهرت الفائدة.

ومنها: أن النص يزداد قوة بها، فيصيران كدليلين يتقوى كل منهما بالآخر. قاله القاضي في "التقريب والإرشاد"، وهو مخصوص بما يكون دليل الحكم فيه ظنيًّا، أما القطعي فلا يحتاج لتقوية. نبه عليه الإِمام في "البرهان".

ومنها ما قاله الشيخ تقي الدين السبكي: إن المكلف يزداد أجرًا بانقياده للحكم بسبب تلك العلة المقصودة للشارع مِن شرعه، فيكون له أجران: أجر في امتثال النص، وأجر في امتثال المعنى فيه

(1)

.

وذكر بعضهم معنًى خامسًا: أن معرفة العلة زيادة في العِلم، ولا شك أنه فضل على مَن لم يَعلم.

ولكن فيه نظر؛ لأنَّ المانع يمنع أن يكون هذا عِلة حتى يكون العِلم به فضيلة، بخلاف الفوائد المذكورة.

وذكر الشيخ أبو إسحاق من الفوائد أيضًا أنه لو حدث فرع فيه تلك العِلة، أُلْحِق بالأصل؛ لأجلها. فلو لم تكن معلومة مِن قبل حدوثه؛ لَمَا ألحقناه.

وضُعِّف بأنه حينئذٍ يتبين أن العلة غير قاصرة، والكلام في القاصرة.

فلذلك لم أَتَعَرَّض في النَّظم لشيء من ذلك.

وقولي: (وَاعْدُدْ مِنَ الْقَاصِرَةِ الْمَحَلَّا) إلى آخِره -إشارة إلى أن مِن العلل القاصرة:

- محل الحكم، كقولنا: الذهب رِبوي، لكونه ذهبًا، والخمر حرام؛ لأنه مُسْكر معتصر

(1)

انظر: رفع الحاجب (4/ 187).

ص: 1912

من العنب.

- وجزء المحل الخاص به، كالتعليل باعتصاره من العنب فقط.

- والوصف اللازم، كالنقدية في الذهب والفضة، فأنه وصف لازم لهما.

ومثَّله في "المستصفى" بالصغر في الولاية عليه. وفيه نظر؛ فإنه ليس بلازم، فقد يكبر، فهو كالشدة المطربة في العصير إذا اشتد.

وقَيَّدنا الجزء بالخاص؛ تَحَرُّرًا من المشترك بين المحل وغيره، فإن ذلك لا يكون إلا في المتعدية، كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة، فإن جزءه المشترك وهو عقد الذي هو شامل للمعاوضة وغيرها -لا يُعَلَّل به. وإنما لم أقيد بذلك في النَّظم لظهور المراد بالجزء؛ لأنَّ لفظ القصور مخرج له بالضرورة.

واعلم أن الهندي جعل الخلاف في هذا مبنيًّا على جواز التعليل بالعلة القاصرة، فمَن منع هناك منع هنا، ومن أجاز -وهُم الأكثرون- أجاز هنا.

لكن المتجه أنه مِن صُوَر القاصرة، فلا حاجة لجعله مبنيًّا عليه، فإن ذلك يُشْعِر بالمغايرة، وليس كذلك.

وهو معنى قول ابن الحاجب في شروط العلة: (وأن لا تكون المتعديةُ المحلَّ ولا جزءًا منه؛ لامتناع الإلحاق، بخلاف القاصرة).

أي: فإنها تكون نفس المحل أو جزءه.

نعم، جَعْله ذلك شرطًا في المتعدية مع عدم إمكانه -فيه نظر؛ فإن انتفاء المستحيل في الشيء لا يُجعل شرطًا له؛ لأنه تحصيل الحاصل إلا أن يذكر ذلك على سبيل التنبيه والتوكيد.

وفي المحل والجزء قول ثالث: إنه يمتنع التعليل بالمحل دُون الجزء.

قولي: (لِمَا قَدْ قَارَبَهْ) أي: منع الإلحاق بالأصل الفرع الذي قد قارب الأصل ولكن لم

ص: 1913

توجد فيه العلة؛ لأن الفرض أنها قاصرة على محلها.

وقولي: (في امْتِثَالِهِ عِبَادَهْ) أي: له الأجر في امتثال الوصف المعَلَّل به حال كونه مقصودًا به العبادة. والله أعلم.

ص:

792 -

وَعَلَّلُوا بِذِي اشْتِقَاقٍ وَلَقَبْ

وَعَدَدٍ؛ لِنَفْيِ تَأْثِيرٍ وَجَبْ

الشرح:

اشتمل هذا البيت على ثلاثة أمور جائزة في التعليل:

أحدها:

التعليل بالاسم المشتق -كاسْم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ونحو ذلك- جائزٌ على معنى أن المعنى المشتق ذلك منه هو علة الحكم، نحو:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، "مطل الغني ظلم"

(1)

، "ليس للقاتل ميراث"

(2)

، وغير ذلك مما لا ينحصر.

وفي معناه "الموصول"، فإنَّ صلته تكون علة للحكم، سواء أكانت صلته فيها مشتق كالفعل ونحوه أو لا.

وحكى بعضهم فيه الاتفاق. وفيه نظر؛ فإنَّ سليمًا في "التقريب" حكى قولًا، بمنع التعليل بالاسم مطلقًا، جامدًا كان أو مشتقًا.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 1914

الثاني:

التعليل بالاسم اللقب، والمراد به ما ليس بمشتق، لا الذي هو أحد أقسام العَلَم فقط كما عُبِّر في المفاهيم بِـ "مفهوم اللقب"، والمراد به الأعم من العَلم واسم الجنس الجامد.

ومثال التعليل باللقب: تعليل الربا في النقدين بكونهما ذهبًا وفضة، وتعليل ما يُتيمم به بكونه ترابًا، وما يُتوضأ به بكونه ماءً. كما أشار إلى التمثيل بذلك الشيخ أبو إسحاق في "اللمع"، والتعليل بذلك جائز على الأصح.

وقيل: ممتنع؛ لأنه لا إشعار له بمعنى يُجْعَل عِلته.

ورُدَّ بأن المدار على أنه تعلق به الحكم كيف كان، فكما يجوز النص على حُكمه وهو جامد فكذلك تكون عِلته وهو جامد.

ووقع في "المحصول" حكاية الاتفاق على أنه لا يجوز التعليل بالاسم، كتعليل تحريم الخمر بأنه يسمى "خمرًا"، قال: (فإنا نَعلم بالضرورة أن هذا اللفظ لا أثر له، فإنْ أُريد به [تعليل لمسمَّى]

(1)

هذا الاسم من كونه مخامرًا للعقل فذلك تعليل بالوصف، لا بالاسم)

(2)

.

فيصير ما قاله الإمام طريقة ثانية بعدم الخلاف والقطع بالمنع.

لكن الأصح الجواز كيف فُرِض الخلاف كما صححه ابن السمعاني وغيره.

وقد وقع للشافعي التعليل به كثيرًا، فمن ذلك قوله في بول ما يؤكل لحمه: لأنه بول، فشابَهَ بول الآدمي.

(1)

كذا في (ص، ق)، لكن في (ت): التعليل بمسمى. وفي (س): تعليل مسمى.

(2)

المحصول (5/ 311).

ص: 1915

وقال صاحب "الخصال" من الحنابلة أنَّ الإمام أحمد نَص على التعليل به أيضًا.

واعْلَم أن الشيخ بدر الدين في "شرح جمع الجوامع" ذكر أمرين:

أحدهما: أنه جعل من التعليل بالاسم قِسمًا ثالثًا غير المشتق واللقب بعد أن فسر المشتق بأنه ما اشتق مِن فِعل، كالسارق والقاتل، فقال:(الثالث: اسم اشتُق مِن صفة، كالأبيض والأسود).

قال: (قال ابن السمعاني: فهذا مِن عِلل الأشباه الصورية، فمَن احتج بالشبه الصوري احتج به)

(1)

.

وفيما قاله نظر من حيث إن مذهب البصريين أن الأفعال مشتقة من الاسم وهو المصدر، والكوفيون عندهم بالعكس، فلا توافق التفرقة بين ما اشتق من اسم وما اشتق مِن فِعل لا البصريين ولا الكوفيين. فإنْ أراد بما اشتُق مِن فِعل أنْ يُسْمَع له فِعل وبما اشتُق مِن اسم أنْ لا يُسْمَع له فِعل، فيقال: الأبيض والأسود ونحوهما من الألوان لها فِعل، [وهو: بيض وسَوِدَ]

(2)

، قال الجوهري:(وقد سَوِدَ الرجُل، كما يقول: عَوِرَتْ عَيْنُه)

(3)

.

قال نُصَيْب

(4)

:

سَوِدْتُ فلم أَمْلِكْ سوادي وتَحْتَه

قميصٌ مِن القُوهِي بِيضٌ بَنائِقُه

وإنْ أراد أن الصفة المشبهة ليس من المشتق فممنوع؛ لأنه من أوصاف اسم الفاعل إلا أنه من اللازم. وكذا لو جعل "أَفْعَل" تفضيل، كما يقول: هذا أَسْوَد مِن هذا.

(1)

تشنيف المسامع (3/ 230).

(2)

هذه العبارة ذُكرت هنا في (ت، هامش س)، لكن في سائر النُّسخ ذُكرت بعد قول نُصَيْب.

(3)

الصحاح (2/ 491).

(4)

نُصيب بن رباح شاعر مشهور، توفي 108 هـ. (الأعلام، 8/ 31).

ص: 1916

وكأنَّ مراد ابن السمعاني أن السواد والبياض لا مناسبة فيهما بجلب مصلحة ودرء مفسدة؛ فيكون التعليل بهما ونحوهما من الشبه الصوري، لا أنَّ المدار على اشتقاقه من فِعل ولا اسم.

الثاني: قال: لك أن تسأل عن الفرق بين العلة القاصرة والتعليل بالمحل والتعليل بالاسم.

قال: والجواب أنَّ العلة القاصرة أعم من المحل؛ لأن المحل ما وُضع له اللفظ، كالخمر والبُر. والقاصرة وصف اشتمل عليه محل الوصف لم يوضع له اللفظ، كالنقدية، فكل محل علة قاصرة، وليس كل علة قاصرة محلًّا.

قال: (وأما الفرق بين المحل والاسم فقيل من وجهين:

أحدهما: أن المراد بالاسم الجامد الذي لا يُنبئ عن صفة مناسبة، بخلاف الخمر الدال على التخمير المناسب للتحريم. وهذا يشكل بالبر فإنهم جوَّزوا التعليل به وهو جامد.

والثاني: أن يكون المراد التعليل بالتسمية، نحو:"حرمتُ الخمر؛ لتسميتها خمرًا، والتفاضل في البُر؛ لتسميته بُرًّا" ونحوه؛ إذِ التسمية لا تأثير لها، بخلاف المعنى المستفاد من المحل بإشارة أو تنبيه. وربما التفت الكلام هنا إلى الاسم والمسمَّى هل هما واحد؟ أو متغايران؟ والمراد "المسمَّى" الذي هو مدلول الاسم، فحُكمه حُكم سائر العِلل، إنْ كان مؤثِّرًا أو مناسِبًا، عُلل به، وإلا فلا. ومَن أراد "الاسم" الذي هو اللفظ، لم يُعَلل به قطعًا)

(1)

انتهى

وفيه مناقشات:

أحدها: قوله في التفرقة بين المحل والقاصرة: (إنَّ القاصرة وَصْفٌ اشتمل عليه محل

(1)

تشنيف المسامع (3/ 140 - 141).

ص: 1917

الوصف لم يوضع له اللفظ) غير سديد؛ لأنَّ قصده بيان أن القاصرة أعم، فذكر شيئًا لا يدخل فيه المحل، فكيف يكون أعم؟ !

وأيضًا فتعريف القاصرة بذلك ولم يشترط في الوصف أن يكون لازمًا، بل الذي لم يوضع له اللفظ. أي: اللفظ الدال على المحل يشمل الوصف غير اللازم؛ ليخرج نحو الطعم في البُر، فإنه غير لازم، فهو مِن المتعدي؛ لشموله غير البُر مع أنَّ اسم البُر ليس موضوعًا له.

وإنما كان صواب العبارة أن يقول: والقاصرة أَعَم من المحل؛ لأنها تكون بالمحل وبجزئه الخاص وبالوصف اللازم للمحل أو لجزئه الخاص كما سبق إيضاحه.

ثانيها: تفرقته بين المحل والاسم بوجهين، ثم قال عقب الأول:(وهذا يشكل بالبُر). [فليس]

(1)

فيه إشكال؛ لأن الكلام في التفرقة بين حقيقتيهما، لا بين حُكميهما، فإنه قد قدّم أنَّ حُكمهما في التعليل الجواز.

ثالثها: قوله في الفرق الثاني بين الاسم والمحل: (إنَّ المحل يُلْحَظ فيه مناسبة، بخلاف الاسم). قد يُدَّعَى أنه يُلحظ في التسمية معنى [مناسب]

(2)

.

ثم ذكر التفاته إلى أنَّ الاسم عَيْن المسمَّى أو غيره. يُقال: عليه التفريع، على أنَّ الاسم يُعَلَّل به وإنْ لم يكن فيه مناسبة كما سبق تقريره. وإنما السؤال عن الفرق بين حقيقتيهما، لا عن كون أحدهما يُعلَّل به والآخَر لا يُعلل به، فَتَأَمَّله.

(1)

كذا في (س)، لكن في (ص، ق): ليس.

(2)

في (ص، ق): المناسب.

ص: 1918

الأمر الثالث مما اشتمل عليه البيت:

تَعَدُّد العِلل والحكم المعَلَّل واحد، والتعدد فيه على وجهين:

أحدهما: أن يكون كلٌّ مِن ذلك المتعدد مستقلًّا بالعِلِّية لو انفرد.

والثاني: أن يكون أوصاف متعددة ولكن مجموعها عِلة، وكلُّ واحدٍ منها جزء علة.

والأمران جائزان؛ فلهذا أطلقتُ قولي في النَّظم: (وَعدد) وإن كان في الثاني مجازًا؛ إذ لا يقال: إنها عدد عِلل، بل عدد أجزاء عِلة واحدة. لكني قصدتُ إدخالها اقتصارًا؛ لأنهما في الحكم واحد، وهو الجواز.

وأيضًا: فإذا جاز تَعدُّد العلل المستقلة فلأنْ يجوز تَعدُّد أركان عِلة واحدة من باب أَوْلى.

فأما المسألة الأُولى:

فالمعلَّل بالعلل المتعددة إما أن يكون واحدًا بالنوع أو واحدًا بالشخص. فالواحد بالنوع يجوز تعدد عِلله بحسب تعدد أشخاصه بلا خلاف: كتعليل إباحة قتل زيد بِرِدَّته، وقتل عمرو بالقصاص، وقتل بكر بالزنَا، وقتل خالد بترك الصلاة.

وأما الواحد بالشخص فلا خلاف في امتناع تعدد العِلل العقلية فيه؛ لأنها بمعنى تأثير كل واحدة، والمؤثِّرات على أثر واحد مُحَال كما قرر في محله.

وأما العلل الشرعية فهي محل الخلاف. والصحيح فيها فمن المذاهب الجواز والوقوع، كتحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة، وكالحدث بخروج مِن فرج وزوال عقل ومس فرج ولمس أجنبية، فإنَّ كل واحد من المتعددين المذكورين يُثْبِت الحكم مستقلًّا. وإنما كان كذلك؛ لأن العلة الشرعية بمعنى المعَرِّف، ولا يمتنع تعدُّد المعرف؛ لأن مِن شأن كل واحد أن يُعَرِّف، لا الذي وُجِد به التعريف حتى تكون الواحدة إذا عُرفت فلا تُعرف الأخرى؛ لأنه تحصيل الحاصل.

ص: 1919

وهو معنى قولي: (لِنَفْيِ تَأْثِيرٍ وَجَبْ). أي: إنما جاز تعدُّد العلة؛ لأن العلل الشرعية يجب نفي التأثير عنها، بل هي مُعَرِّفة.

والمذهب الثانى: ونقله القاضي وإمام الحرمين واختاره الآمدي: إنه غير جائز. فبالضرورة يكون غير واقع. وأن ما ذكرتم من الوقوع يعود إلى القسم الأول وهو أن المعلل بها واحد بالنوع، وأما الشخص فمتعدد. فالقتل بأسباب أشخاص القتل متعددة، والنوع واحد في المحل الواحد. فإنَّ القتل في صورة واحد مُحال تَعَدُّده؛ إذ هو إزهاق الروح. وكذلك أسباب الحدث إنما هي أحداث في محل، لا حدث واحد.

قيل: لو ارتضعت صغيرة بلبن زوجة أخيك وبلبن أختك كانت محرمة عليك؛ لكونك خالها وعمها، ولا يقال: فيه تحريمان: تحريم العم، وتحريم الخال. فهو مُزيل لِمَا تعلقوا به من الشبهة.

وفيه نظر؛ فقد يقال فيه بذلك بحسب التقدير؛ إذ لا مانع من ذلك.

والمذهب الثالث: وبه قال الأستاذ وابن فورك واختاره الإمام الرازي وأتباعه: أن ذلك جائز في العلة المنصوصة دون المستنبطة؛ لأن المنصوصة دل الشرع على تعددها، فكانت أمارات. وأما المستنبطة فما فائدة استخراجها علة إلا أنه لا علة غيرها تُتَخَيَّل.

وجوابه: أنها إذا كانت أمارات فاستنبطت متعدِّدة، فلا فرق.

الرابع: أن التعدد جائز عقلًا وممتنع شرعًا، على معنى أنه لم يقع في الشرع، لا على معنى أن الشرع دل على منعه. وهذا ما نقله ابن الحاجب عن إمام الحرمين. ونقل الآمدي عنه خلاف ذلك، ولكن قال الهندي: إن هذا هو الأشهر في النقل عنه. قيل: وهو الصحيح؛ فإنَّ عبارته في "البرهان": "ليس ممتنعًا عقلًا وتسويغًا ونظرًا إلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعًا". وقال أنه تصفح الشريعة فلم يجد ذلك.

ص: 1920

وقال: إن المختلفين في المسائل يختلفون في العِلل كاختلافهم في الحكم، كباب الربا.

وأما كلام الإمام في "الفروع" فإنه يقتضي خلاف ذلك، كما قال في تدبير المستولدة: إنه يصح، ويكون لعتقها يوم موت السيد سببان. إلا أن يقال: إنه قد صرح بأنه لا بقاء للتدبير. وكأنه إنما منع اجتماع علتين مُعَرِّفتين أو مؤثِّرتين، فحيث لا يحصل اجتماع لا مَنعْ.

نعم، هل يجري هذا الخلاف في التعليل بِعلتين سواء أكانتا متعاقبتين أو معًا؟ أو هو مختص بِالمَعِيَّة؟

كلام ابن الحاجب يقتضي الأول، ورجح غيرُه الثاني؛ لما يَلزم من شموله حالة التعاقب أن يكون [أحدٌ مِن الأُمة يمنع]

(1)

أنَّ اللمس والمس ليسَا بعِلتين وإنْ وُجِد أحدهما بمفرده، بل لا علة إلا واحد فقط، فلا يكون للحدث -مثلًا- غير علة واحدة. ولا قائل بذلك.

وأما المسألة الثانية:

فهي التعليل بالوصف المركب، والمعظم على الجواز، وبه قال المتأخرون ومنهم الإمام الرازي وأتباعه؛ لأن الذي يُستَدل به على العِلة المفردة يُستدل به على المركَّبة، فهُما سواء. وذلك كما تقول في قصاص النفس: قَتْل عَمْد مَحْض عدوان. هذا قول الجمهور.

ومنهم مَن منع ذلك مطلقًا.

ومنهم مَن قال: يجوز ولكن لا تزيد الأوصاف على خمسة. نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ووقع في "المحصول" في نقله عن حكاية الشيخ أبي إسحاق أنه قال: لا تزيد على سبعة.

قيل: وكأنه تصحيف، والذي في عِدة نُسخ من "شرح اللمع" إنما هو خمسة. والله أعلم.

(1)

في (س، ت): أخذ من الآية منع. وفي (ش، ض): أخذ من الآية يمنع.

ص: 1921

ص:

793 -

كَذَا تَعَدُّدٌ لِحُكْمِ وَاحِدَهْ

كسِرْقَةٍ قَطْعًا وغُرْمًا [قَائِدَهْ]

(1)

الشرح: هذه المسألة مقابلة للمسألة السابقة، وهي أن تتحد العلة ولكن يتعدد المعلول فيكون أحكامًا مختلفة، وله صورتان: أنْ لا يكون المتعدد من الحكم فيه تضاد، أو يكون فيه تضاد.

فأما الأُولى: فذهب الجمهور فيها إلى أن العلة الواحدة الشرعية يجوز أن يترتب عليها حُكمان شرعيان مختلفان معًا؛ لأنَّ العلة إنْ فُسرت بالعَرِّف فجوازه ظاهر؛ إذ لا يمتنع عقلًا ولا شرعًا نَصْبُ أَمارة واحدة على حُكمين مختلفين، بل قال الآمدي: لا نعرف في ذلك خلافًا. كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الهلال أَمارة على وجوب الصوم والصلاة، أو: طلوع فجر رمضان مُعرِّفًا لوجوب الإمساك من الصبح. وسواء أكان ذلك في الإثبات أو في النفي.

فمِن الإثبات ما مثَّلتُ به في النَّظم من السرقة، فإنها عِلة في القطع؛ لمناسبة زَجْر السارق حتى لا يعود، وفي غرامة المال المسروق لصاحبه؛ لمناسبته لِجَبْره. وهو كثير.

ومن العلة في النفي: الحيض؛ فإنه عِلة لمنع الصلاة والطواف وقراءة القرآن ومَس المصحف، ووطئها، وطلاق الزوج، وغير ذلك؛ لمناسبته للمنع من كل من ذلك. ولا بُعد في مناسبة وصف واحد لِعَدَد من الأحكام كما مثَّلنا.

وذهب شرذمة يسيرة إلى المنع من ذلك، قالوا: لِمَا فيه مِن تحصيل الحاصل؛ لأن الحكمة

(1)

كذا في (ن 3، ن 4)، ويظهر لي أنَّ معناها: كَسَرقة تَقُود إلى القَطْع والغُرْم. وفي (ق، ص، ش، ن 2، 5): قايدة. وفي (ن 1): فائدة. وفي (ت): فايدة.

ص: 1922

التي اشتمل عليها الوصف استوفاها أحد الحكمين.

وَرُدَّ بأنه يكون فيه حكمة أخرى تناسب الحكم الآخَر، أو أن الحكمة لا تحصل إلا بالحكمين معًا.

الصورة الثانية: أن يكون بين المتعدد مِن الحكم المعَلل تضاد. وعلى هذه الصورة اقتصر البيضاوي، ولم يصرح ابن الحاجب بها. ولكنها داخلة في إطلاقه تعليل حُكمين بِعِلَّة واحدة. ولكن لا يجوز هنا إلا بشرطين متضادين، كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحيز، وعِلة للحركة بشرط الانتقال عنه. وإنما اعتُبر فيه الشرطان لأنه لا يمكن اقتضاؤهما لهما بدون ذلك؛ لئلَّا يَلزم اجتماع الضدين، وهو مُحال. وإنما شُرط التضاد في الشرطين؛ لأنه لو أمكن اجتماعهما كالبقاء في الحيز مع الانتقال -مثلًا- فعند حصول ذينك الشرطين إنْ حصل الحكمان -أعني السكون والحركة- لَزِمَ اجتماع الضدين. وإنْ حصل أحدهما دون الآخر، لزم الترجيح دون مُرجِّح. وإنْ لم يحصل واحد منهما، خرجت العلة عن أن تكون علة؛ فتعَيَّن التضاد في الشرطين. وهو معنى قول البيضاوي:(ولكن بشرطين متضادين). والله أعلم.

ص:

794 -

وَمِنْ شُرُوطِهَا انْتِفَا تَأَخُّرِ

ثُبُوتهَا عَنْ حُكمِ الَاصْلِ المُعْتَرِي

795 -

وَعَوْدِ الِابْطَالِ عَلَى أَصْلٍ، وَإنْ

تَكُنْ بِالِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا قَدْ زُكِنْ

796 -

فَالنَّفْيُ لِلْمُعَارِضِ الْمُنَافِي

لَهَا، وَأَنْ تَعْرَى مِنَ الْخِلَافِ

797 -

لِلنَّصِّ وَالْإجْمَاعِ فِيمَا عَلِمَه

وَشَرْطُهَا التَّعْيِينُ؛ فَاطْرَحْ مُبْهَمَهْ

ص: 1923

الشرح: اشتملت هذه الأبيات على خمسة مِن شروط [عِلة]

(1)

الأصل.

أحدها ما ذكره ابن الحاجب وغيره: أن لا يكون ثبوت العلة متأخرًا عن ثبوت حُكم الأصل. وخالف في ذلك قوم من أهل العراق كما قاله القاضي عبد الوهاب. كما لو قيل فيمن أصابه عَرَق الكلب: أصابه عرق حيوان نجس؛ فكان نجسًا، كلعابه. فيمنع السائل كَوْن عرق الكلب نجسًا.

فيقول المستدِل: لأنه مستقذر شرعًا، أي: أمر الشارع بالتنزه منه؛ فكان نجسًا، كالبول.

فيقول المعترِض: هذه العلة ثبوتها متأخر عن حُكم الأصل، فتكون فاسدة؛ لأن حُكم الأصل -وهو نجاسته- يجب أن يكون سابقًا على استقذاره؛ لأن الحكم باستقذاره إنما هو مرتب على ثبوت نجاسته. وإنما كانت هذه العلة فاسدة لتأخرها عن حكم الأصل؛ لِمَا يَلزم مِن ثبوت الحكم بغير باعث (على تقدير تفسير العلة بالباعث)، وقد فرضنا تأخُّرها عن الحكم، وهو محُال.

فإن قلنا بأن العلة أَمارة مُعَرِّفة لا باعثة فيلزم منه تعريف المعَرف، وهو محال؛ لأن الفرض أن الحكم قد عُرف قبل ثبوت عِلته. لكن إنما يتأتى هذا إذا قلنا أن معنى "المُعَرِّف": الذي يحصل التعريف به. أما إذا قلنا: الذي مِن شأنه التعريف، فلا. فلذلك قال الهندي: إنَّ الحقَّ الجواز إنْ أُريدَ بالعلة المعرف. أي: لأن المعرف يتأخر، بل الحادث يُعَرِّف القديم كما في تعريف العالَم لوجود الصانع واتصافه بصفات ذاته السنية.

الثاني:

أنْ لا يعود على حُكم الأصل بالإبطال، حتى لو استنبطت مِن نَص وكانت تؤدي إلى

(1)

في (ت): علية.

ص: 1924

ذلك، كان ذلك فاسدًا. وإنما لم أُخَصص هذا الشرط بالمستنبطة بل أطلقتُ كما أطلقه ابن الحاجب وغيره وإنْ قيدت الشرط الذي بعده بالمستنبطة؛ لأنَّ ما يعود بالإبطال لا يكون في منصوصة؛ لئلَّا يؤدي للتناقض، ولا في مستنبطة؛ لِمَا ذكرناه، وذلك لِمَا يَلزم مِن إبطالها أصلها أن تكون هي باطلة؛ لأن الفرع يَبْطل ببطلان أصله.

ولهذا ضُعِّف تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة"

(1)

ونحو ذلك أنَّ المعنى فيه سد خلة المستحق حتى يجوز أن يدفع له قيمة الشاة كما سبق في أمثلة التأويلات البعيدة.

ووَجْه ضَعْفه أنه يعود على أصله -وهو إيجاب الشاة- بالبطلان، وذلك أنه يَلزم أن لا تجب الشاة عينًا؛ فإنَّ غَيْر الشاة ليس بِشاة.

قال بعض المحققين: ليس هذا رفعًا؛ لأنه إنما يكون رفعًا أنْ لو أدى إلى عدم إجزاء الشاة مثلًا.

ولهذا قال أصحابنا في الإيتاء في الكتابة: إنه إنْ شاء السيد أَسقط عن المكاتب قَدْر ما يؤتيه مِن آخِر نجم، وإنْ شاء إذا قبضه يدفع منه. ذلك لأن المعنى في الإيتاء إعانة المكاتب، وهو حاصل بذلك، ولم يقولوا: إنه عاد بالإبطال باعتبار أن الإيتاء صار غير واجب عَيْنًا. ولهذا قال السهروردي: أنصف أمير المتأخرين -يعني الغزالي- إذ قال في "المستصفى": ليس هذا رفعًا للنص، وإنما يَلزم أنْ لو جوَّزوا الترك مطلقًا، أما إلى بدل فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة. فإنَّ مَن أدَّى خصلة من خصال الكفارة المخيرة فقد أدَّى واجبًا وإنْ كان الوجوب يتأدى بغيرها، فهذا توسيع للوجوب، لا إسقاط له.

وأما تخصيص الشاة بالذِّكر فيجوز أن يكون لكثرة الوجود عندهم كما ذكر الحجر في الاستنجاء مع جوازه بالمدر والخرق ونحوها، أو لسهولة الأداء على المالك.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 1925

وأجاب بعضهم عن ذلك بأن وجه الرفع للنص في ذلك أن الزكاة تتعلق بِالعَيْن على الأرجح من أقوال الشافعي، فإذا جُوِّزَت القيمة، كان تعليقًا للزكاة بالذمة؛ فأبطل التعلُّق بِالعَيْن.

ويمكن أن يُفَرق بذلك بين هذا وبين مسألة الإيتاء في المكاتب، فيقال: الإيتاء لم يتعلق بعين ما يأخذه السيد، بدليل أنه لو أعطاه مِن غير الذي جاء به، جاز قطعًا.

ولكن فيه نظر؛ فإنه لو أعطى شاة مِن غير الأربعين بأنْ حَصَّلها للمستحق مِن خارج، فإنه يجوز قطعًا. وإنما فائدة تَعلُّقها بالعين ما لو تلف -قبل التمكن بعد الوجوب- منها شيءٌ، سقطت زكاته.

وجواب آخَر: أن الإبطال هو تغيير النص، ولا يجوز تغييره ولا سيما وباب الزكاة تَعبُّد.

ولا يخفَى ضعف هذا؛ فإنَّ التعميم والتخصيص [يُغَيِّران]

(1)

، وسيأتي أنهما جائزان.

فالإشكال قوي والأجوبة ضعيفة. وعُلم من اشتراط أن لا تَعُود العلة على النص بالإبطال أنها لو عادت بالتعميم أو بالتخصيص كان جائزًا.

أما عَوْدها بالتعميم فبِلا خلاف كما يستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي القاضي وهو غضبان"

(2)

أن العلة تشويش الفكر؛ فتعدَّى إلى كل مُشَوِّش مِن شدة فرح ونحوه.

قال القاضي أبو الطيب الطبري: أجمعوا على أنه ليس لنا علة تعود على أصلها بالتعميم إلا هذا المثال، وذلك جائز بالإجماع.

وفيما قاله نظر؛ فقد وُجِد من ذلك كثير، نحو: النهي عن الصلاة وهو يدافع الأخبثين، والأمر بتقديم العشاء على الصلاة، فإنَّ العلة ترك الخشوع، فَيَعُم كل ما يحصل به ذلك. بل

(1)

كذا في (ش)، لكن في (ت): تغييرات.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 1926

باب القياس كله من باب تعميم النص بالعلة، وقد تَقدم طرف من ذلك في باب العموم في تقسيم العمومات، فليراجَع.

وأما عودها بتخصيص النص فللشافعي فيه قولان مستنبطان مِن اختلاف] قوله]

(1)

في نقض الوضوء بمس المحارم.

ففي قول: ينقض؛ تمسكًا بالعموم في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43].

وفي قول وهو الراجح: لا ينقض؛ نظرا إلى كَوْن الملموس مظنة للاستمتاع، لاسيما إذا فُسرت الملامسة في الآية بالجماع؛ فعادت العلة على عموم النساء بالتخصيص بغير المحارم.

ومثله: حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان

(2)

شامل للمأكول وغيره، والعِلة فيه -وهو معنى الربا- تقتضي تخصيصه بالمأكول؛ لأنه بيع رِبَوِي بأصله، فما ليس بِرِبَوِي لا مدخل له في النهي؛ فلذلك جرى للشافعي قولان في بيع اللحم بالحيوان غير المأكول، مأخذهما ذلك.

ولكن الأرجح هنا المنع؛ عملًا بالعموم مِن غير نظر للمعنى؛ ولهذا لم يرجِّح كثيرٌ مِن الخلاف شيئًا؛ لاضطراب الترجيح كما عرفته. وكذا جرى على عدم الترجيح ابن السبكي في "جمع الجوامع".

وعبارة النَّظم إنما يخرج ما يعود بالتعميم وبالتخصيص، فيحتمل أن [ذلك]

(3)

للجواز

(1)

كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (س): قوليه.

(2)

مسند البزار (12/ 205، رقم: 5888) ط: مكتبة العلوم والحكم، سنن الدارقطني (3/ 70)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 2252)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 10350). قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 1351).

(3)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تلك.

ص: 1927

[أو]

(1)

أنَّ في بعض ما خرج قولان.

نعم، قول الجواز هو الظاهر [كتخصيص]

(2)

عمومات الألفاظ، بل بعضهم جعله من جملة تخصيص العموم بالقياس، فيجري فيه الخلاف الذي هناك.

وكذا ذكر الهندي في موضع، فقال: إن الخلاف هنا مبني على أنه هل يجوز تخصيص العموم بالقياس؟ أم لا؟ .

لكن ذاك إنما هو في قياس على نَص خاص إذا عارض عموم نَص آخر، وهذا معناه أن العلة المستنبطة مِن أصل عام في كتاب أو سُنة هل يشترط أن لا تعود على [أصلها]

(3)

بالتخصيص؟ [أم]

(4)

لا؟ فهو غيره.

نعم، قال الهندي في "الرسالة السيفية": إن القولين مبنيان على القولين في تخصيص العلة.

قال: لأن التخصيص مُنافٍ، والفرع لا ينافي أَصْلَه.

وأما الغزالي فجزم في "المستصفى" بأن العلة إذا [عكرت]

(5)

على الأصل بالتخصيص، لا يُقبل، واستثنى ما إذا سبق المعنى إلى الفهم.

قال: (فيجوز أن يكُون

(6)

قرينةً مخصِّصة للعموم، وأما المستنبَطة بالتأمل ففيه نظر).

(1)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): و.

(2)

كذا في (ص، ش)، وفي بعض النُّسخ: لتخصيص.

(3)

في (ص، ق، ش): أصله.

(4)

كذا في (س، ت)، لكن في (ق، ص، ش): أو.

(5)

في (س، ت): عادت.

(6)

يعني: المعنى الذي سبق إلى الفهم.

ص: 1928

الثالث:

يشترط في العلة إذا كانت مستنبطة أن لا تكون معارَضة بمعارِض مُنافٍ موجود في الأصل صالح للعِلية وليس موجودًا في الفرع؛ لأنه متى كان في الأصل وصفان متنافيان يقتضي كل منهما نقيض الآخر، لم يَصلح أن يُجعل أحدهما علة إلا بمرجِّح.

مثالُه قول الحنفي في نية صوم الفرض: صوم عين؛ فيتأدَّى بالنية قبل الزوال، كالنفل.

فيقال له: صوم فرض؛ فيُحتاط فيه ولا يُبْنَى على السهولة.

وقولي: (لِلْمُعَارِضِ الْمُنَافِي لَهَا) احتراز عما إذا كان المعارِض للفرع، لا للعلة، فإنه ليس من شروط العلة، خلافًا لبعضهم.

كقول شافعي في مسح الرأس: ركن في الوضوء؛ فيُسَن تثليثه، كغسل الوجه.

فيعارضه الخصم، فيقول: مسح في وضوء؛ فلا يُسن تثليثه، كالمسح على الخفين.

وذلك لأن انتفاء [المعارِض]

(1)

في الفرع إنما هو شرط ثبوت حُكم العلة في الفرع، لا شرط في صحة العلة نفسها، فيجوز أن تكون صحيحةً سواء ثبت الحكم في الفرع أَمْ تَخلَّف بسبب من الأسباب اقتضى تَخُّلفه. فمَن ادَّعاه شرطًا للعلة نفسها فقد وَهمَ، فالمعارضة في الفرع تَقدح في القياس، لا في خصوص العلة.

فإنْ قِيل: لم قيّد المعارِض بِـ "المُنافي"، ومفهوم المعارضة يقتضي المنافاة.

قيل: لأن المعارِض قد يكون غير مُنافٍ، وذلك في غير العلة كما سيأتي، فأريد تحقيق أن المراد هنا المنافي؛ لأن ما لا يُنافي مِن الأوصاف غايته أن يكون علة أخرى، وسبق أنه يجوز اجتماع عِلتين لمعلول واحد.

(1)

في (ص، ق، ش): التعارض.

ص: 1929

ومثال ذلك: أن يتفقا على أنَّ البُر رِبَوِي ويُعَلِّل أحدُهما بالطعم ويذكر مناسبته، والآخَر بالكيل ويذكر مناسبته.

نعم، قد يؤول إلى الاختلاف كما في مثالنا، فإنَّ [التفاح]

(1)

داخل في تعليل الأول وخارج من تعليل الثاني، لكن إنما لم يكن قادحًا في العلة مع أنه قد يؤدي للاختلاف؛ لأنه مساوٍ له في الأصل، وليس الشرط أنْ يُساويه مِن كل وجه.

الرابع مما يُشترط في العلة:

أن تكون عَرِيَّة مِن مخالفة نَص كتاب أو سُنَّة أو مخالفة إجماع؛ لأن النص والإجماع لا يقاومهما القياس، بل يكون إذا خالفهما باطلًا.

مثال مخالفة النص: أن يقول حنفي: المرأة مالكة لبضعها؛ فيصح نكاحها بغير إذْن وليها؛ قياسًا على ما لو باعت سلعتها.

فيقال له: هذه عِلة مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل"

(2)

.

ومثال مخالفة الإجماع: أنْ يقال: مسافر؛ فلا تجب عليه الصلاة في السفر؛ قياسًا على صومه في عدم الوجوب في السفر، بجامع السفر.

فيقال: هذه العلة مخالفة للإجماع على عدم اعتبارها في الصلاة [وأنَّ]

(3)

الصلاة واجبة على المسافر مع وجود مشقة السفر.

(1)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): النكاح.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فإن.

ص: 1930

الخامس:

أن تكون العلة مُعَيَّنة، لا مُبْهَمة بمعنى شائعة، خلافًا لمن اكتفى بذلك؛ تَعلُّقًا بقول عمر رضي الله عنه:"اعْرف الأشباه والنظائر، وقِس الأمور برأيك"

(1)

. فيكفي عندهم كون الشيء مشبهًا للشيء شبهًا ما.

قال الهندي: لكن أطبق الجماهير على فساده؛ لأنه يُفْضِي إلى أن العامي والمجتهد سواء في إثبات الأحكام الشرعية في الحوادث؛ إذ ما مِن عامِّي جاهل إلا وعنده مَعْرفة بأنَّ هذا النوع أصل مِن الأصول عامٌّ في أحكام كثيرة. وأجمع السلف على أنه لا بُدَّ في الإلحاق مِن الاشتراك بوصف خاص، فإنهم كانوا يتوقفون في الحادثة ولا يُلحقونها بأيّ وصف كان بَعد عجزهم عن إلحاقها بما شاركها في وصف خاص.

أما التعليل بأحد أمرين أو ثلاثة أو نحو ذلك من المحصور فلا يمتنع. كما يقول أصحابنا فيما إذا مَس الرجل مِن الخنثى فرج الرجال أو المرأة من الخنثى فرج النساء فإنه ينتقض الماس إذا كان أجنبيًّا مِن الخنثى؛ لأنه إما ماس فرج أو لامس أجنبية أو أجنبي. فعللوا النقض بأحد الأمرين: اللمس أو المس.

وذلك في الفقه كثير، فعَلِمْنا المراد هنا بالإبهام. والله أعلم.

(1)

سنن الدارقطني (4/ 206) بلفظ: (اعْرفِ الأَمْثَالَ وَالأَشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ). وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد، قال الحافظ ابن حجر في (التقريب، ص 370): (متروك الحديث).

وفي سنن البيهقي الكبرى (رقم: 20134) بلفظ: (فَتَعَرَّف الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ).

ص: 1931

ص:

798 -

وَلَا تَكُونُ ضُمِّنَتْ زِيَادَهْ

نَافَتْ، وَلَا مُقَدَّرَ الْإرَادَهْ

799 -

وَعَدَمُ الشُّمُولِ في دَلِيلِهَا

لِحُكْمِ فَرْعٍ، ذَاكَ مِنْ عَدِيلِهَا

الشرح:

هذه ثلاثة شروط أخرى في العلة:

أحدها: أن لا تتضمن العلة زيادة على النص إنْ كانت تلك الزيادة منافية لمقتضَى النص كما شرط الآمدي هذا فيه وإنْ كان بعضهم أطلقه. ولكن أشار ابن الحاجب إلى تضعيفه بقوله: (وقيل: إنْ نافَت). لكن المختار ما قاله الآمدي؛ لأنها إذا لم تُنافِ، لا يضر وجودها.

الثاني: أن لا يكون وصفا مقدَّرًا غير حقيقي كما شرط ذلك الإمام الرازي. كما لو علل جواز التصرف في الشيء ببيع أو هبة أو وقف أو عتق بأنه ملك لفاعل ذلك، فإنَّ الملك إنما هو وصف حُكمي. فمنهم مَن فسره بأنه معنى مُقَدَّر في المحل يعتمد المكنَة من التصرف على وجه ينفى التبعة والغرامة.

وكذلك قال صاحب "التتمة" في باب الإجارة: ما قَبِل التصرف مملوك، وما لا يَقبل -كالحشرات- فلا.

ومحل بيان ذلك وما يترتب على التعاريف فيه كُتب الفقه.

قال في "المحصول": (الحقُّ أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدَّرة، خلافا للفقهاء العصريين). انتهى

ص: 1932

قال صاحب "تنقيح المحصول": أَنكر الإمام وجمعٌ [تصوُّر]

(1)

التقدير في الشرع فضلًا عن التعليل به.

قلتُ: الفروع الفقهية طافحة بالتعليل بالأمور التقديرية، لا يكاد أن يكون عندهم في ذلك خلاف، وكأنها عندهم بمنزلة التحقيقات. ألا ترى أن الحدث عندهم وَصْفٌ وجودي مُقدَّر قيامه بالأعضاء، يَرفعه الوضوء والغسل، ولا يرفعه التيمم ونحو ذلك؟

الثالث: أن لا يكون دليل العِلة شاملًا لحكم الفرع:

- بعمومه، كقياس التفاح على البُر بجامع الطعم. فيقال: العلة دليلها حديث: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل"

(2)

. رواه مسلم.

وأما تمثيل ابن الحاجب بِـ "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل" فلا يُعْرف بهذا اللفظ. فالفرع داخل في الطعام.

- أو بخصوصه، كقوله عليه السلام:"من قاء أو رعف فليتوضأ"

(3)

. وإنْ كان الحديث

(1)

كذا في (ت، س)، لكن في سائر النسخ: تصوير.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سنن الدارقطني (1/ 154) بلفظ: (مَن قلس أو قاء أو رعف فلينصرف فليتوضأ، وليتم على صلاته). وقال الإمام الدارقطني: (أصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج عن أبيه مُرْسَلًا).

وفي سنن البيهقي الكبرى (رقم: 652) بلفظ: (إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس أو رعف فليتوضأ، ثم لِيَبْنِ على ما مضى مِن صلاته ما لم يتكلم). وقال الإمام البيهقي: (رواه إسماعيل بن عياش مرة هكذا مرسلًا كما رواه الجماعة، وهو المحفوظ عن ابن جريج، وهو مرسل). وقال أيضًا: (قال الشافعي في حديث ابن جريج عن أبيه: ليست هذه الرواية بثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أطال الحافظ ابن الملقن في كتابه (البدر المنير، 4/ 100 - 109) في الكلام على طُرُقه، نقل =

ص: 1933

ضعيفًا لكن يُذكر للتمثيل.

فلو قيل في القيء: خارج مِن غير السبيلين؛ فينقض كالخارج منهما. ثم استُدِل على أن الخارج منهما ينقض بهذا الحديث، لم يصح؛ لأنه تطويل بلا فائدة، بل في الثاني -مع كونه تطويلًا- رجوع عن القياس؛ لأنَّ الحكم حينئذٍ ثبت بدليل العلة، لا بنفس العلة، فلم يثبت الحكم بالقياس.

ثم ذكر الآمدي وابن الحاجب أنه قيل: إنَّ هذه مناقشة جدلية، وهي لا تقدح في صحة القياس؛ لأنَّ المناقشة الجدلية ترجع إلى بيان أوضاع الأدلة، وليس فيها بحث فقهي.

ولم يُجِيبَا عن ذلك.

ولكن جوابه أن لها فائدة فقهية، وذلك لأنَّ الحكم في المسألة الأُولى كان مستندًا للنص، فجعله المناظِر مستندًا للقياس، وحكم العموم والقياس مختلف.

وفي الثاني كان قياسًا، فعاد منصوصًا، ولا يخلو مثل ذلك من غرض. فيقال: إنْ كان في التطويل مقصد فقهي، قُبِل، وإلا فلا.

قلتُ: وأيضًا فقد سبق أن اجتماعَ النص والقياس في الفرع اجتماعُ دليلين، ولا منع من ذلك؛ لِمَا فيه من الترجيح لو عُورِض؛ لكثرة الأدلة.

فقولي: (وذَاكَ مِنْ عَدِيلِهَا) أي: في أن النص يكون دالًّا على العلة وعلى الفرع فيكون الفرع عديلًا لها في دلالة النص عليهما معًا. وفيه الإيماء بأنه لا يمتنع أن يتوارد دليلان على ذلك الفرع وإنْ لم يكن تصريحًا به.

= اختلاف الأئمة في تضعيفه.

ص: 1934

تنبيه:

الاقتصار على هذه الشروط فيه نَفْي كثير مما عُدَّ شرطًا ولم نتعرض له؛ اختصارًا، كاشتراط بعضهم في المستنبطة أن تكون مِن أصل مقطوع بحكمِه، والصحيح لا؛ [إذْ]

(1)

يجوز القياس على ما ثبت حُكمه بدليل ظني كخبر الواحد والعموم والمفهوم وغيرها.

وشرط بعضهم أن يُقطع بوجودها في الفرع. والأصح المنع؛ لأنَّ القياس إذا كان ظنيًّا، فلا يضر كون مقدماته أو شيء منها ظنيًّا. والله أعلم.

* * *

(تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الرابع، وَيلِيه الجزء الخامس، وأوله: مسالك العلة)

(1)

في (ت، س، ض): لأنه.

ص: 1935