المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث في تعارض الأدلة وحكمه - الفوائد السنية في شرح الألفية - جـ ٥

[شمس الدين البرماوي]

الفصل: ‌الباب الثالث في تعارض الأدلة وحكمه

‌الباب الثالث في تَعَارُض الأدلة وحُكمه

925 -

أَدِلَّةٌ لِلْفِقْهِ قَدْ تُعَارَضُ

لِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ، فَالْعَارِضُ

921 -

مِنْ ذَاكَ إنْ أَمْكَنَ فِيهِ الْجَمْعُ

وَلَوْ بِوَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ دَفْعُ

922 -

فَبِهِمَا يُعْمَلُ كالَّذِي مَضَى

مِنَ الْعُمُومِ إذْ يُخَصُّ بِاقْتِضَا

923 -

وَكَالْمُقَيَّدِ الَّذِي لِلْمُطْلَقِ

مُقَيِّدٌ، وَظَاهِرٌ لَمْ يُطْلَقِ

924 -

يُعْدَلُ لِلتَّأوِيلِ عَنْهُ لِلَّذِي

دَلَّ، وَمَنْسُوخٌ بِنَاسخٍ خُذِ

الشرح: لما انتهى الكلام في مباحث أدلة الفقه المتفق عليها والمختلَف فيها، كانت ربما تَعارض منها دليلان باقتضاء حُكمين متضادين، فاحتِيج إلى معرفة التعادل والتراجيح وحُكم كل منهما، وذلك إنما يقوم به مَن هو أَهْل لذلك، وهو المجتهد.

فلذلك قدم الآمدي وابن الحاجب وجمعٌ باب الاجتهاد على هذا، لكن الإمام في "المحصول" وأتباعه قدَّموا التعادل والتراجيح على الاجتهاد؛ لأنه المقصود، وذاك مِن باب ما يتوقف عليه المقصود.

وإنما جاز دخول التعارض في أدلة الفقه لكونها ظنية؛ إذِ القاطعان لا يتعارضان كما سيأتي، وكذا القاطع والظني، إذْ لا ظن مع القطع بخلافِه.

فما يقع التعارض فيه إما أن يمكن فيه الجمع ولو بوجه ما، وإما أن لا يمكن فيه الجمع أصلًا. فما أمكن فيه الجمع يُجْمَع ويُعْمَل بالدليلين، وذلك في صوَر:

ص: 2163

منها ما سبق من تخصيص العام بالخاص على تفاصيله السابقة، وكذا تقييد المطلق بما ورد من المقيد، وحمل الظاهر المحتمِل لمعنى مرجوح على المرجوح حيث دل دليل على منع العمل به، وهو "التأويل". وكذلك إذا تأخر المعارِض فإنه يكون ناسخًا، فَقَدْ عُمل بالدليلين كُل منهما في وقت، بالمنسوخ أولًا ثم بالناسخ بعد ذلك.

وقولي: (كَالَّذِي مَضَى) بيان؛ لأنَّ الجمع بين الدليلين لا ينحصر في ذلك، فقد يقع الجمع بين الدليلين بغير ذلك أيضًا؛ لأنَّ العمل بالدليلين أَوْلى من إلغاء أحدهما على كل حال.

وذلك كما في حديث: "أيما إهاب دبغ فقدْ طهر"

(1)

مع حديث: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا بعصب"

(2)

. فيُحمل الثاني على ما لم يدبغ.

وسواء أكان الدليلان معًا من الكتاب أو من السُّنة أو واحد من الكتاب وآخَر من السُّنَّة. وستأتي مذاهب أخرى فيما إذا تَعارض كتاب مع سنة، وسبق من هذا النوع في باب التخصيص والنَّسخ ما يُغني عن إعادته. والله أعلم.

ص:

925 -

أَمَّا إذَا لَمْ يَكُ جَمْعٌ مُمْكِنُ

وَثَمَّ رُجْحَانٌ، إلَيْهِ يُرْكَنُ

926 -

وَحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ فَالْمُجْتَهِدُ

مُخَيَّرٌ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُوجَدُ

927 -

مِنَ التَّعَارُضِ الَّذِي قَدْ ذُكِرَا

في قَاطِعَيْنِ، بَلْ وَلَا قَطْعٌ يُرَى

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سنن أبي داود (رقم: 4128)، سنن الترمذي (رقم: 1729) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4128).

ص: 2164

928 -

مُقَابِلًا لِلظَّنِّ، كَالْقَطْعِيِّ

مِنْ مُجْمَعٍ مَعْ غَيْرِهِ الظَّنِّيِّ

الشرح:

أي: أما إذا لم يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فذلك محل التعادل والتراجيح.

فَـ "التعادل": تَساوي الدليلين المتعارضين بحيث لا يكون في أحدهما ما يرجحه على الآخر.

و"الترجيح": تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى؛ فيُعْلَم الأقوى، فيُعمل به.

وقد قدمت في النَّظم ما فيه الترجيح على التعادل؛ لأنَّ الكلام في تفاصيله يأتي من بَعْد، بخلاف التعادل، فإنَّ الذي فيه ما ذكرته هنا.

فقولي: (وَثَمَّ رُجْحَانٌ) أي: وكان هناك رجحان. فـ "ثَمَّ " إشارة للمكان، كما في قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64].

وقولي: (إلَيْهِ يُرْكَنُ) هو جواب الشرط، وهو إذا لم يمكن جمع. وكان الأصل:"فإلَيْهِ يُرْكَنُ" أي: يُعتمد ويُعمل به، ولكن حذفت "الفاء"؛ للضرورة، كما في قول الشاعر:(مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ، اللهُ يَشْكُرُهَا). أي: فالله يشكرها.

واعْلَم أن العمل بالراجح فيما له مُرجِّح هو قول الأكثر، سواء كان المرجح معلومًا أو مظنونًا. حتى أن المنكرين للقياس عملوا بالترجيح في ظواهر الأخبار.

وخالف القاضي أبو بكر في جواز العمل بالمرجح بالمظنون، قال: وإنما أَقبل الترجيح بالمقطوع به، كتقديم النص على القياس، لا بالأوصاف ولا الأحوال ولا كثرة الأدلة؛ لأنَّ الأصل أنْ لا يُتبع شيء مِن [الظنون]

(1)

؛ لأنه عُرضة الغلط والخطأ.

(1)

كذا في (س، ص)، لكن في (ق): المظنون.

ص: 2165

[خالفنا هذا في]

(1)

الظنون المستقلة؛ لإجماع الصحابة عليها. أما الترجيح بالظنون فَعَمَل بالظن الذي لا يستقل بنفسه دليلًا، فيبقى على الأصل في عدم اتِّباعه.

وأجيب بأن الإجماع منعقد فيه أيضًا.

وخالف أبو عبد الله البصري في العمل بأصل الترجيح، وقال: لا يُعمل به، بل عند التعارض يَلزم التخيير أو الوقف.

قال إمام الحرمين: (كذا حكاه القاضي عن البصري هذا الملقَّب بِـ "جعل"

(2)

، ولم أره في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها)

(3)

.

وقال غيره: إنْ صح عنه فهو مسبوق بإجماع الصحابة والأُمة مِن بَعدهم، فلا يُلتفت إلى هذا القول.

وكذلك لا التفات إلى مَن منع الترجيح فيه عملًا بمثله في الشهادات، والفرق أن في الشهادات نوعًا مِن التعبد لا يوجد في غيرها.

وقولي: (وَحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ) المراد به حالة التعادل، فالتعادل بين القاطعين أو الترجيح - ممتنعٌ، سواء كانا عقليين أو نقليين.

وإليه أشرت بقولي: (وَلَيْسَ شَيْءٌ) إلى آخره. أي: لا يقع تَعارض بين ما ذكر، فالتعادل فيه والترجيح مختصان بالدلائل الظنية؛ إذْ لو فُرِض تَعارض بين قطعيين لأنَّ مقتضاهما

(1)

كذا في (ص، ض)، لكن في (س، ت): خالصا ولأن. وفي (ش): خالفنا ذلك في. وفي (ق): خالصًا وذلك في.

(2)

هو الحسين بن علي بن إبراهيم الكاغدي البصري (توفي 399 هـ)، كان فقيهًا حنفيًّا متكلمًا.

(3)

البرهان في أصول الفقه (2/ 741).

ص: 2166

متناقضان، فيلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، وترجيح أحدهما محُال؛ لأنَّ الرأي السديد في العلوم أنها لا تتفاوت إلا بحسب كون بعضها أَجْلَى أو أَقرب حصولًا أو أشد استغناء عن التأمل.

قيل: فَعَلَى مقتضَى هذا قد يدخل الترجيح بالنسبة إلى الأذهان؛ لأنه المقصود وإنْ كان لا يدخل بالنسبة إلى ما في نفس الأمر.

وكذلك لا تَعارض بين قاطع وظني؛ لِمَا قدمناه من استحالة وجود ظن في مقابلة تيقُّن خِلافه، فالقاطع هو المعمول به، وذاك لَغْو.

وكذلك لا يتعارض حُكم مجمع عليه مع حكم آخر ليس مجمعًا عليه، وهو معنى قولي:(كَالْقَطْعِيِّ مِنْ مُجْمَعٍ)، أي: عليه. فحذفت صِلَته؛ للعِلم بها.

وقولي: (مَعْ غَيْرِهِ الظَّنِّيِّ) أي: مع غير المجمع عليه الذي هو ظني، فَـ "الظني" بَدَل مِن "غيره"؛ لأنَّ المعرفة تبدل من النكرة وغير نكرة؛ لأنها لتوغلها في الإبهام لا تتعرف بالإضافة، فيكون على حد قوله تعالى:{إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53]. ولا يعرب صفة؛ لأنَّ النكرة لا تُوصَف بالمعرفة، إلا أن يقال: المحلَّى بِـ "أل" وإنْ كان معرفة لفظًا ثمنه نكرة معنًى، بدليل وَصْفه بالجملة وهي نكرة، كما في قوله:(ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسبُّني).

فأما حالة التعادل وهي التي لا ترجيح فيها فالكلام فيها في أمرين:

أحدهما: في محله.

والثاني: في حُكمه.

فأما الأول (ولم أذكره في النَّظم؛ لِقلة جدواه في الفقه) فالتعادل إما في الأذهان وإما في نفس الأمر.

ص: 2167

فإنْ كان باعتبار ما في الأذهان فصحيح، وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي، وهو قول الإِمام أحمد وجمعٍ من فقهائنا؛ لأنه يقتضي التخييرَ بين الحكمين، والإجماعُ على بطلانه.

وهل منعوه شرعا؟ أو عقلاً؟ فيه نظر.

وجَوَّزه الباقون، وذلك بأنْ يُنصب علامتان متساويتان في اقتضاء الظنين.

هذا على المشهور في النقل، ولكن كلام الغزالي يدل على أن مَن قال:(المصيب واحد) لم يُجَوِّز تَعادُل الأمارتين، وأنَّ الخلاف إنما هو بين المصوبة لكل مجتهد.

وعبارته: (إذا تعارض دليلان عند المجتهد، فالمصوبة يقولون: هذا لِعَجْزه، وإلا فليس في أدلة الشرع تَعارض)

(1)

. انتهى

واختار الإِمام الرازي في المسألة تفصيلًا، وهو أن تعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد -ككون الفعل واجبًا وحراما- جائزٌ في الجملة، غير واقع شرعًا.

أي: غير جائز الوقوع شرعًا كما يظهر لمن تَأمل كلامه أنَّ هذا مراده.

وأنَّ تَعادلهما في فِعلين متنافيين والحكم واحد جائز، كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جِهَتَا القِبلة.

احتج مَن منع تَعادل الأمارتين في نفس الأمر مطلقًا بأنه لو وقع:

- فإما أن يُعمل بهما، وهو جَمع بين المتنافيين.

- أو لا يُعمل بواحد منهما، فيكون وَضْعُهما عبثًا، وهو محُال على الله تعالى.

- أو يُعمل بأحدهما على التعيين، وهو ترجيح من غير مرجِّح.

- أو لا على التعيين، بل على التخيير. والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة

(1)

المستصفى (ص 364).

ص: 2168

الإباحة بعينها؛ لأنه لَمَّا جاز له الفعل والترك، كان هذا معنى الإباحة، فيكون ترجيحًا لإحدى الأمارتين بعينها.

وجوابه بأن ذلك لا يقتضي الإباحة، بل هو تخيير العمل بأي الأمارتين شاء، لا عمل بأي [الفعلين]

(1)

شاء؛ بدليل أنه لو كانت إحداهما تقتضي تحريمه لا ولمال: هو مُخَيَّر بين فِعله مع كونه حرامًا وبين غيره. فإذا عمل بأحدهما، وجب عليه أن يعتقد بطلان الآخر، بخلاف الإباحة، فإنه لا يعتقد فيها فساد ما لم يُفعل. ونحوه في الشرع التخيير بين أن يصلي المسافر قصرًا أو إتمامًا؛ فإنه إذا جاز له ترك الركعتين عند اختيار القصر، لا يُقال: يلزم أنَّ فِعل الركعتين مباح.

نعم، في ذلك كله نظر لا نُطَول به.

واحتج مَن جوَّز تَعادل الأمارتين في نفس الأمر بالقياس على جواز تعادلهما في الذهن، وبأنه لا يَلزم مِن فَرْضه مُحال.

وقد أجيب عن ذلك وعن تفصيل الإِمام بما يطول ذكره.

نعم، قال ابن عبد السلام في قواعده:(لا يُتصور في الظنون تَعارض كما لا يُتصور في العلوم. إنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، فإذا تعارضت فإنْ حصل الشك، لم يحكم بشيء، فإنْ وُجد ظن في أحد الطرفين، حَكَمنا به؛ لأنَّ ذهاب مقابِلِه يدل على ضعفه. وإنْ كان كل منهما مكذبًا للآخَر، تَساقَطَا، كتعارض الخبرين والشهادتين. وإنْ لم يُكذب كل واحد منهما صاحبه، عُمِل به على حسب الإمكان، كدابَّة عليها راكبان، يُحكَم بها لهما؛ لأنَّ كُلًّا مِن اليدين لا تُكذب الأخرى)

(2)

. انتهى

(1)

كذا في (ق)، لكن في (ت): العلتين.

(2)

قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 119).

ص: 2169

وهو نفيس؛ لأنَّ الظن هو الطرف الأرجح، فلو عُورِض بِطَرف آخَر راجح، لَزِمَ أن يكون كل منهما راجحًا مرجوحًا، وهو محُال.

أما الثاني:

وهو حُكم التعادل حيث جَوَّزنا وقوعه ووقع ففيه مذاهب:

أحدها (وهو الأرجح): التخيير، وهو معنى قولي:(فَالْمُجْتَهِدُ مُخَيَّرٌ). وبه قال القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم. ومن هنا جاز للعامي أن يستفتي مَن شاء مِن المفتيين ويعمل بقوله كما سيأتي.

الثاني: أنهما يتساقطان، ويجب الرجوع إلى غيرهما، وهو البراءة الأصلية. وإليه ذهب كثير من الفقهاء، ويؤيده ما رجحه أصحابنا في مسألة تَعارض البَيِّنتين، لكن لا يَلزم منه محذور، وهذا يَلزم منه تعطيل الأحكام.

الثالث: الوقف، وذلك كتعارض البَيِّنتين (على قَولٍ).

الرابع: إنْ وقع التعادل في الواجبات فالتخيير، إذ لا يمتنع التخيير فيها في الشرع، كمن ملك مائتين من الإبل يُخيَّر بين إخراج أربع حقاق أو خمس بنات لبون. وإنْ وقع بين حُكمين متناقضين كإباحة وتحريم، فحُكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية.

نعم، في جريان قول الوقف في عمل نفسه بعيد جدًّا كما قاله الهندي؛ إذِ الوقف فيه لا إلى غاية تنتظر؛ إذْ لا يُرجَى [منه ظهور الرجحان]

(1)

، بخلاف التعادل الذهني، فإنه لا يَبعُد الوقف إلى أنْ يظهر المُرَجِّح. والله تعالى أعلم.

(1)

في (ق): فيه ظهور المرجحات.

ص: 2170

ص:

929 -

وَلَيْسَ في الْكِتَابِ تَقْدِيمٌ عَلَى

سنَّةٍ؛ اذْ كِلَاهُمَا قَدْ نُزِّلَا

930 -

إلَّا بِخَارِجٍ، [كَذِي]

(1)

آحَادِ

فَمُتَوَاتِرٌ عَلَيْهِ بَادِي

الشرح:

أي: إذا تَقرر أن الدليلين المتعارضين إذا وُجد في أحدهما مرجِّح، يجب العمل به وإلا تَعادَلَا؛ لاستوائهما، سواء أكانا من الكتاب أو السُّنة أو أحدهما من الكتاب أو من السُّنة أو غير ذلك. ولا يكون ما في الكتاب راجحًا على ما في السُّنة (على الراجح)؛ لأنَّ كُلًّا مِن الكتاب والسُّنة وَحْي مِن الله تعالى وإنِ افترقَا مِن حيث إنَّ القرآن نزل للإعجاز به كما سبق في بحث الكتاب، والسُّنة نزلت لا لقصد الإعجاز وإنْ كان فيها أسباب الإعجاز، وأما في الحقيقة فهُمَا سواء.

نعم، يقع ترجيح الكتاب على سُنة الآحاد بأمر خارج عن ذاتهما، وهو كون سند القرآن متواترًا [يقينيًّا]

(2)

، وسند الآحاد ظنيًّا، بل ولو كانت السُّنة متواترة قُدمت على الآحاد. وهو معنى قولي:(فَمُتَوَاتِرٌ عَلَيْه بَادِي)، أي: ظاهر راجح.

وقيل: يُقدم الكتاب مِن حيث هو على السُّنة؛ لحديث معاذ: "بِمَ تَقْضِي؟ قال: بكتاب الله. قال: ثم ماذا؟ قال: بِسُنة رسول الله"

(3)

.

وقيل: تُقدم السُّنة؛ لأنها بيان؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}

(1)

كذا في (ق، ش، ن). وفي سائر النُّسَخ: لذا.

(2)

كذا في (ق، س، ت)، لكن في (ص، ش): يقينا.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 2171

[النحل: 44].

وأجاب إمام الحرمين بأن الكلام ليس في السُّنة المبيِّنة، بل في السنة المعارضة.

أما المتواتران مِن السنة إذا تَعارضَا فلا خلاف في التساوي، كقوله صلى الله عليه وسلم في البحر:"الحِل ميتته"

(1)

، فإنه عام في ميتة البحر مطلقًا، سواء خنزير البحر وغيره، [وقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} ]

(2)

فإنه يقتضي تحريم كل لحم، سواء خنزير [البحر]

(3)

وغيره؛ فَتَعارض عموم الكتاب وعموم السُّنة في خنزير البحر، فقُدمت السُّنة على رأي مَن قال: حلال، والكتاب على رأي مَن قال: حرام.

ومنهم مَن قال: يُنظَر، فإنْ أَمكن الجمع ولو مِن وَجْه، جمعنا، وإلا قضينا بالتعادل، فيقال حينئذ: يُقدم الكتاب إنْ كانت السنة آحادًا. وقد سبق مباحث في "باب العموم والنسخ" لا حاجة لإعادتها هنا. وكذا سبق فيما إذا كان كل منهما أَعَم مِن الآخَر مِن وَجْه وأَخَص مِن وَجْه، فليراجَع. والله أعلم.

ص:

931 -

وَفي تَعَارُضِ مَقُولِ الْمُجْتَهِدْ

يُقْضَى بِآخِرٍ وَتَرْجِيحٍ وُجِدْ

الشرح:

أي: ما سبق في تَعارض الأمارتين بالنسبة إلى المجتهد يجري في تَعارض قولين فصاعدًا

(1)

سبق تخريجه.

(2)

من (ق) وليست في سائر النُّسخ، والكلام لا يستقيم بها ولا بدونها، والصواب عبارة الزركشي في (تشنيف المسامع، 3/ 494): (مع قوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}).

(3)

في (ق): البر.

ص: 2172

لمجتهد بالنسبة إلى المقلِّد. فإنْ كان أحد القولين أو الأقوال متأخرًا وعُلِم تَأخُّره فهو قول المجتهد الذي يُقْضَى بكونه مذهبه، ويكون الأول مرجوعًا عنه؛ ولهذا لا يُعْمل إلا يقول الشافعي الجديد الذي هو بمصر، ورواه عنه الربيع في "الأم" والبويطي والمزني وجمعٌ كثيرٌ، لا بالقديم الذي في بغداد وصنف فيه كتاب "الحجة"، ورواه عنه أحمد وأبو ثور والكرابيسي والزعفراني، فلا يُعمل به سوى مواضع فإنه يُفْتَى بها على القديم؛ لقوته وإنْ كان في غالبها نظر؛ لكونها منصوصة في الجديد أيضًا، فتُنسَب إليه. وقد أُفْرِدَت بالتصنيف، ومحل بيانها كُتب الفقه.

نعم، ذهب بعض الأصحاب إلى أن المجتهد إذا كان له قولان -قديم وجديد- لابُدَّ أنَّ ينص على الرجوع عن القديم. فإنْ لم ينص على ذلك فلا يكون رجوعًا. حكاه الرافعي في "باب صلاة الجماعة".

فإنْ لم يُعلم المتأخر فيُحكَى عنه القولان ولا يُحكم عليه بالرجوع عن أحدهما بِعَيْنه. ثم مَن كان أهلًا للترجيح من أصحابه له طلب الأرجح بما يظهر له من قواعده.

أما إذا نَص على القولين فصاعدًا في موضع واحد:

- فإما أنْ يعقب أحدهما بما يُشْعِر برجحانه، كقوله:(وهذا أَشبه)، ولو بالتفريع عليه، فيكون ذلك هو قوله.

- وإما أنْ لا يذكر ما يُشعر بترجيح، فيكون ذلك دليلًا على تَوقُّفه في المسألة؛ لعدم ترجيح أحد الحكمين.

ثم قوله مثلًا: (فيها قولان) أو: (أقوال) يحتمل أن يريد على سبيل التجويز والاحتمال، ويحتمل أن يريد فيها مذهبان لمجتهدين أو أكثر. وعلى كل حال لا يُنسب إليه شيء من القولين أو الأقوال. كذا قاله الإمام في "المحصول" وأتباعه.

ص: 2173

وقال الآمدي: (يجب اعتقاد نِسبة أحدهما إليه وإنْ كُنا لا نَعلمه)

(1)

.

فلا ننسب إليه شيئًا منها؛ لذلك.

وفي رأي ثالث نقله إمام الحرمين عن القاضي: إنَّا نتخير في العمل بأحدهما.

قال: (وهذا بناه القاضي على اعتقاده أن مذهب الشافعي تصويب المجتهدين، لكن الصحيح من مذهبه أنَّ المصيب واحد؟ فلا يمكن فيه القول بالتخيير)

(2)

.

وأيضًا: فقد يكون القولان بتحريم وإباحة ويستحيل التخيير بينهما.

واعلم أن هذين الحالين وقعَا للشافعي رحمه الله، أعني ذِكره قولين في موضعين. وذكره القولين في موضع واحد مِن غير تنبيه على ما يُشعر بقوله بأحدهما، لكن هذا الثاني قليل.

قال الشيخ أبو إسحاق: (إن القاضي أبا حامد [المروروذي]

(3)

قال: إنه ليس للشافعي مِثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعًا، ستة عشر أو سبعة عشر)

(4)

.

وهو دليل على علُو شأنه.

وأما وقوع الحالة الأُولى منه فدليل على صرف عُمره في النظر والآخِذ وأنه ولاجٌ في الدقائق وعلى دِينه؛ لإظهار الشيء يلوح له غير مُبالٍ با صدر منه أولًا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه للتناقض في المقال.

أما فائدة ذِكر القولين مِن غير ترجيح فالتنبيه على أن ما سواهما لا يؤخَذ به، وأن الجواب منحصر فيما ذكر، فيُطلَب الترجيح فيه.

(1)

الأحكام في أصول الأحكام (4/ 207).

(2)

التلخيص (3/ 418 - 419).

(3)

كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: المروزي.

(4)

شرح اللمع (2/ 1079).

ص: 2174

وقد وقع مثل ذلك لعمر رضي الله عنه في الشورى حيث قصر الخلافة على ستة. أي: فلا يكون [استحقاقها]

(1)

لغيرهم.

فإنْ قيل: فقولهم: (للشافعي قولان) لا معنى له؛ لأنَّ الغرض أنه متوقِّف غير حاكم بشيء.

قيل: هو في الحقيقة كذلك، وإنما نِسبتهما له باعتبار أنه ذكرهما أو تَردد فيهما. أشار إلى ذلك إمام الحرمين.

واعلم أن قولي: (يُقْضَى بِآخِرٍ وَتَرْجِيحٍ) معناه: أنه يقضَى بالآخِر فيما عُلم تَأخُّره، وبالترجيح فيما أشار فيه ذلك المجتهد إلى ترجيح كما بيناه. وإذا لم يكن شيء من ذلك فالوقف. وهذا مفهوم من قولي:(يُقْضَى بِآخِرٍ وَتَرْجِيحٍ)، أي: فلا يُقْضَى بغيرهما، بل يوقف.

تنبيهان

الأول: مما عُد من الترجيح في القولين للشافعي إذا لم يذكر ترجيحًا: أنْ يكون أحدهما مخالفًا لأبي حنيفة، فيكون هو الراجح كما قاله الشيخ أبو حامد؛ لأنَّ المخالفة تقتضي اطِّلاعه على دليل أقوى مما قال به أبو حنيفة.

وعَكَس القفالُ، فقال: الموافِق مُقَدَّم. وصححه النووي في "شرح المهذب" و "الروضة"، لكنه بِناء على طريقةٍ في الترجيح في المذهب بالكثرة كالرواية" ولكنها ضعيفة؛ فإنَّ الكثرة إنما يظهر تأثيرها في النقل، وأما في الاجتهاد فالمعتبَر قوة الدليل، وحينئذٍ فالراجح خِلاف القولين

(2)

معًا، وأنَّ الترجيح إنما هو بقوة النظر.

(1)

كذا في (ق، ش)، لكن في (ت): الحق فيها. وفي سائر النسخ: استحق فيها.

(2)

يعني: خلاف قول أبي حامد وقول القفال.

ص: 2175

نعم، قال بعضهم: تصوير هذا النوع يحتاج إلى نظر، فإنَّ أحد القولين فيه إما أن يكون قبل الآخَر فالعمل بالمتأخِّر؛ لأنه كالجديد بالنسبة إلى القديم، أوْ لا، كما إذا قالهما معًا أو لم يُعْلَم المتأخِّر فالتعليل بأنه ما خالف إلا لاطِّلاعه على دليل أقوى - يقتضي تقديم الموافقة.

قلتُ: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ المراد: لم يعْدل عن قوله إلا لدليل أقوى؛ فلا يُشْعِر بتقديم موافقته، وحينئذٍ فلا حاجة للنظر في البضعة عشر قولًا للشافعي هل فيها موافقة أبي حنيفة؟ أو مخالفته؟ على الرأيين السابقين. فاعْلَمه.

الثاني: قد يكون القول للمجتهد ليس بنصه عليه، بل بنصه على ذلك في نظيره، فيُسمَّى "القول المُخَرَّج"؛ لأنه لازِم قوله. ولكن الصحيح أن لازِم المذهب ليس مَذهبًا؛ فلذلك قال الشيخ أبو إسحاق: إنه لا يخرج عن تلك المسألة إلى الأخرى ويُجعل على قولين.

قال: (إلا إذا لم يحتمل، كقوله: "تثبت الشفعة في الشقص من الدار"، فيُقال قولُه في الحانوت)

(1)

.

كذلك قال الرافعي، والمعروف في المذهب خِلاف ما قاله.

لكن إذا قلنا بجواز التخريج فهل يُنسب إليه المخرج؟ وجهان، أصحهما: المنع؟ بناءً على ما سبق من كون [المُرَجح]

(2)

أنَّ لازِم المذهب ليس مذهبًا؛ لأنه ربما يذكر فرقًا ظاهرًا.

ولعل مراد الشيخ أبي إسحاق ذلك؛ فإنه جازِمٌ في ["المهذب"]

(3)

في غالب الأبواب بذكر التخريج وبيان طُرق الأصحاب فيه.

فلذلك قال الرافعي: (الأَوْلى أنْ يقال: "هذا قياس قوله"، أو:"قياس أَصْله"، ولا

(1)

انظر: شرح اللمع (2/ 1084).

(2)

كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: الترجيح.

(3)

كذا في (ق، ش)، وفي سائر النسخ: المذهب.

ص: 2176

يقال: "هو قوله")

(1)

.

ومن هذا تنشأ طُرق الأصحاب في إثبات الخلاف أوْ لا، ومن ظهور الفرق فيما فيه [التخريج]

(2)

ونحو ذلك. والله أعلم.

ص

932 -

وَأَوَّلٌ تَرْجِيحُهُ بِسَنَدِ

عَالٍ وَفِقْهِ أَوْ بِنَحْوِ الْمُسْنِدِ

933 -

أَوْ لُغَةٍ وَوَرَعٍ وَفِطْنَةِ

وَضَبْطِهِ، وَبِانْتِفَاءِ الْبِدْعَة

الشرح:

المراد بِـ "الأول": خبر الآحاد. ويقع الترجيح فيه من وجوه:

الأول: بأحوال الراوي وذلك من جهات:

إحداها: بِعلُو الإسناد، والمراد به قِلة عدد الطبقات إلى منتهاه، فيرجح على ما كان أكثر؛ لِقِفَة احتمال الخطأ بِقلة الوسائط؛ ولهذا رغب الحفاظ في علو السند ولم يزالوا يتفاخرون به.

مثاله: قول حنفي في أن الإقامة مثنى: إن عامرًا الأحول روى عن مكحول أن أبا محيريز حدَّثه عن أبي محذورة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمه الأذان وعلَّمه الإقامة" وفيه أنها: "مثنى مثنى"

(3)

.

(1)

العزيز شرح الوجيز (12/ 423).

(2)

في (ق): الترجيح.

(3)

مسند أحمد (15418، 27293) بإسناد حسن، سنن الدارمي (1196)، صحيح ابن خزيمة (377)، سنن الدارقطني (1/ 237)، سنن البيهقي الكبرى (1822)، وغيرها.

ص: 2177

فيقول الشافعي: روى أنها فرادي -بخلاف الأذان- خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس:"أُمِر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"

(1)

. فخالد وعامر متعاصران، ففي حديثنا اثنان وحديثهم ثلاثة.

وربما يدخل في العلو كثرة الرواة في الطبقة الواحدة؛ لقوة الوثوق بما توافقدا في روايته؛ فلذلك استغنيت في النَّظم بذكره.

والخلاف في المسألة نقله ابن الحاجب عن الكرخي من الحنفية، ونقله صاحب "الميزان" من الحنفية عن أكثر أصحابهم كما في الشهادة، ولأنَّ خبر الواحد يحتمل أن يكون متأخرًا، فيكون ناسخًا؛ فلا معنى للترجيح بالكثرة.

ونقل إمام الحرمين فيه الخلاف أيضًا عن بعض المعتزلة.

ولَنَا: ما سبق، وبأنَّ الفرق بينه وبين الشهادة ظاهر؛ فإنَّ الشهادة مستندة إلى توقيفات تَعبُّدية؛ ولذلك لا يُعتبر بغير لفظ الشهادة، حتى لو أتى العدد الكثير بلفظ الإخبار، لم يُقبل، ولو شهد ألف امرأة وعبد على باقة بقل، رُدُّوا.

ومثال ذلك: قول الشافعي في "الرسالة": (إن الأخذ بحديث عبادة في الربا أَولى من حديث أسامة؛ لأنَّ مع عبادة: عمر وعثمان وأبا سعيد وأبا هريرة رضي الله عنهم، والخمسة أَوْلى من واحد)

(2)

. انتهى

ومثاله أيضًا رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام من ركوع أو رَفْع منه. فروى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام ثم لا

(1)

صحيح البخاري (رقم: 578)، صحيح مسلم (رقم: 378).

(2)

الرسالة (ص 280 - 281).

ص: 2178

يعود"

(1)

وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم "كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع"

(2)

.

ورواه أيضًا كابن عمر: وائل بن حجر وأبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة. ورواه أيضًا أبو بكر وعمر وعلي وأنس وجابر وابن الزبير وأبو هريرة، وجمعٌ بلغوا ثلاثًا وأربعين صحابيًّا، وقد أفرده البخاري بالتصنيف.

الثانية: الترجيح بفقه الراوي، سواء أكانت الرواية بالمعنى أو باللفظ، خلافًا لمن قال: إذا كانت باللفظ فلا ترجيح بذلك.

لنا: أنَّ الفقيه يميز بين ما يجوز وما لا يجوز، فيبحث عّمَا لا يجوز إجراؤه على ظاهره؛ ليبين ما يزول به إشكاله.

الثالثة: بعلم النحو تصريفًا وإعرابًا؛ لأنَّ العالم بذلك يتحفظ عن مواقع الزلل، فالوثوق بروايته أقوى من غيره.

قال الإِمام: (ويمكن أن يقال: هو مرجوح؛ لأنه قد يعتمد على معرفته، فلا يبالغ في الحفظ، بخلاف الجاهل بها، فإنه يخاف؛ فيبالغ في الحفظ)

(3)

.

وهذا معنى قولي: (وَفِقْهِ أَوْ بِنَحْوِ)، وهُما بترك التنوين؛ للإضافة. و "المسنِد" بكسر النون، أي: الراوي.

(1)

شرح معاني الآثار (1/ 224) بلفظ: (كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ لا يَعُودُ).

(2)

صحيح البخاري (702)، صحيح مسلم (390).

(3)

المحصول في أصول الفقه (5/ 555).

ص: 2179

الرابعة: عِلم الراوي باللغة؛ لِمَا قُلناه في علم النحو.

الخامسة والسادسة: الورع والفطنة و [الضبط]

(1)

؛ لأنها أوصاف تُغَلِّب على الظن الصدق؛ ولذلك رجح أصحابنا رواية مالك وسفيان عن أبي حازم حديث: "زوجتكها بما معك من القرآن"

(2)

على رواية عبد العزيز بن أبي حازم وزائدة عن أبي حازم بلفظ: "ملكتكها"

(3)

؛ لأنَّ مالكًا وسفيان أعلم منهما وأوثق وأضبط.

وسواء في ذلك أيضًا أن تكون روايته باللفظ أو بالمعنى كما سبق في فقهه.

السابعة: حُسن اعتقاد الراوي بانتفاء أن يكون مبتدعًا. كذا قطعوا به.

لكن إذا كان مِن بدعته اعتقاد كون الكذب كُفرًا، يحتمل أن لا ترجيح بانتفائها؛ لأنَّ ظن صِدقه أَغلب.

مثال الأول: رواية إبراهيم بن أبي يحيى (وهو مبتدع، قال البخاري: كان يرى القدر، وكان جهميًّا) بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله"

(4)

. فيقدَّم على روايته -وإنْ كان ثقة كما قال الشافعي وابن [الأصبهاني]

(5)

وابن عقدة وابن عدي- روايةُ: "لا صام مَن صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر"

(6)

ورواية: "نهى

(1)

في (ق): الضبط لشدة يقظته.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 4741).

(3)

صحيح البخاري (رقم: 4799).

(4)

ميزان الاعتدال (1/ 186). ذكره الإِمام الذهبي بإسناده في ترجمة إبراهيم بن أبي يحيى، وقد جرحه كثيرٌ من أئمة الجرح والتعديل.

(5)

في (ض): الأصفهاني.

(6)

صحيح البخاري (رقم: 1878).

ص: 2180

عن صيام الدهر"

(1)

؛ لسلامة راويهما من البدعة. والله أعلم.

ص:

934 -

وَشُهْرَةٍ بِالْعَدْلِ، وَالتَّزْكيَةِ

[بِالِاخْتِبَارِ]

(2)

، وَالَّذِي بِكَثْرَةِ

935 -

مِنَ الْمُزَكينَ، وَ [بِالتَّصْرِيحِ]

(3)

وَحِفْظِ مَرْوِيٍّ لَهُ صَحِيحِ

الشرح:

الجهة الثامنة للترجيح في الراوى: أن يكون مشهورًا بالعدالة بحيث لا يحتاج إلى تزكية، كما سبق في باب "الرواية" أن الأئمة لا يحتاجون إلى تزكية، ونحوهم مَن اشتهرت عدالته وصلاحه، فيقدَّم كلٌّ مِن هؤلاء على مَن عدالته بالتعديل.

التاسعة: كونه مُزكّى بالاختبار والممارسة، فيقدَّم على مَن عُرفت عدالته بالتزكية؛ لأنَّ الخبر ليس كالمعاينة.

العاشرة: أن يترجح بكثرة المُزكِّين له؛ ولهذا قدَّمنا حديث بسرة بنت صفوان: "مَن

(1)

تهذيب الآثار للطبري - مسند عمر بن الخطاب (ص 315، رقم: 507) السفر الأول، من طريق زمعة بن صالح، عن حبيبة بنت عمرو، عن أم كلثوم. قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب، ص 217): (زمعة بن صالح .. ضعيف). وحبيبة لم أعثر لها على ترجمة؛ فالإسناد ضعيف.

لكن في: صحيح البخاري (رقم: 1876)، صحيح مسلم (رقم: 1159) بلفظ: (لَا صَامَ من صَامَ الْأَبَدَ).

(2)

في (ص، ت، ن 1، ن 5): بالاختيار.

(3)

في (ض، ت، س، ن 2): بالصريح.

ص: 2181

مَسَّ ذكَره فليتوضأ"

(1)

على حديث طلق أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجُل يمس ذكره، قال:"لا بأس؟ إنما هو كبعض جسدك"

(2)

.

الحادية عشر: أن تكون تزكيته بالصريح من ألفاظ التزكية، فيقدَّم على مَن تزكيته بالحكم بشهادته أو العمل بروايته.

نعم، الحكم بشهادته أرجَح مِن العمل بروايته.

الثانية عشر: حفظ [المَرْوِي]

(3)

، وذلك بأنْ يحكي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، والآخَر لا يصرح بأنَّ ذلك صيغة لفظه صلى الله عليه وسلم، كحديث أبي محذورة:"لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة"

(4)

. وروى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأذان بلا ترجيع، لا يحكى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم. وفي معنى ذلك أن يكون تعويله في الرواية على حِفظه، لا على الكتابة، فإنه يَصْدُق أنه رُجح بحفظه، والله أعلم.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

صحيح ابن حبان (1121) بلفظ: (لا بأس به؛ إنه لَبَعْض جسدك). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 1118).

(3)

في (س، ت): الراوي.

(4)

مسند أحمد (27293)، سنن ابن ماجه (709)، صحيح ابن حبان (1681)، وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (التعليقات الحسان: 1679).

ص: 2182

ص:

936 -

وَ: [بِسَبَبٍ]

(1)

يُذْكَرُ، وَالسَّمَاعِ

بِلَا حِجَابٍ، وَبِصَحْبٍ رَاعِ

937 -

أَكْبَرَهُمْ، لَا ذَكَرًا وَلَوْ رَوَى

حُكْمًا لِمِثْلِهِ، وَ [حُرُّامَا]

(2)

[غَوَى]

(3)

938 -

وَمُتَأَخِّرٍ بِإسْلَامٍ، وَمَن

يَعْرَى عَنِ التَّدْلِيسِ فِيمَا قَدْ [يُظَنْ]

(4)

939 -

وَغَيْرَ ذِي اسْمَيْنِ، وَمَنْ في الْوَقْعَةِ

مُبَاشِرًا، وَصَاحِبِ الْقَضِيَّةِ

الشرح:

الثالثة عشر: الترجيح بِـ "ذِكر الراوي سبب الحديث" على "رواية مَن لم يذكر السبب فيه"؛ لأنَّ اعتناءه بذكر سببه دليلٌ على كمال ضبطه.

الرابعة عشر: يقدَّم "مَن روى بلا حجاب بينه وبين مَن روى عنه" على "مَن روى وبينهما حجاب"، كرواية القاسم عن عائشة "أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدًا"

(5)

(فيما رواه مسلم) على رواية أنه "كان حُرًّا"

(6)

وهو الأسود عن عائشة، فإن القاسم رواه عنها

(1)

هكذا تكُون "و" حرف زائد في أول البيت، وهو ما يُعْرَف بِـ "الخزم"، فتبدأ التفعيلة بعد الواو الزائدة؛ ليصح الوزن. لكن في (ن):(سبب). وبذلك يصح الوزن بدخول "و" في التفعيلة، ويحتمل أن يكون المؤلِّف أرادها هكذا:(وَبِسَبَبْ يُذْكَرُ)، وبذلك تدخل الواو في التفعيلة ويصح الوزن أيضًا.

(2)

كذا في (ق، ش، ن). لكن في (ص، ض، س): حولفا. وفي (ت): خولفا.

(3)

كذا في (ق، ش، ن). لكن في (ض، ص، ت، س): عوى.

(4)

في (ق، ن): فطن.

(5)

صحيح مسلم (رقم: 1504).

(6)

سنن أبي داود (2235)، سنن الترمذي (1155)، وغيرهما. قال الألباني: (شاذ بلفظ: "حُرًّا"، =

ص: 2183

شفاها؛ لأنه محرمها، بخلاف الأسود.

الخامسة عشر: رواية أكابر الصحابة تُقدم على رواية الأصاغر منهم؛ وذلك لقرب الأكابر من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد بالأكابر: رؤساء الصحابة، لا بالسن. وفي رواية عن أحمد أنه لا ترجيح بذلك. ولكن الصحيح أنه يُقَدم الأكبر فالأكبر، فيقدَّم الخلفاء الأربعة على غيرهم؛ فلذلك كان عِلي يُحلف الرواة ويقبل رواية الصديق مِن غير تحليف.

وهذا معنى قولي: (وَبِصَحْبٍ رَاعِ أَكْبَرَهُمْ)، أي: وفي رواية الصحابة راعِ في الترجيح الأكبر فالأكبر.

وقولي: (لَا ذَكَرًا) إشارة إلى أن بعضهم رجَّح يكون الراوي ذكرًا أو بكونه حُرًّا، وجرى عليه في "جمع الجوامع"، وهو خلاف الصواب، والصواب -كما قاله الأستاذ- أنه لا ترجيح بالذكورة.

وقال ابن السمعاني: (إنه ظاهر المذهب)

(1)

. ولم يذكر الترجيح به إلا احتمالًا له.

بل حكى إلْكِيَا الطبري الاتفاق على عدم الترجيح به؛ لأنَّ المدار على الحفظ والإتقان، سواء في الرجل أو في المرأة. وأما الشهادة في جعل الشارع شهادة الرجل بشهادة امرأتين فَلأَمر آخَر، وهو مزيد الاحتياط فيها؛ فلذلك شُرِط فيها شروط لا تجري في الرواية، كالعدد والذكورة في بعض المشهود به وهو ما لا يُقْبَل فيه إلا الرجال.

وهذا معنى قولي: "لَا ذَكَرًا" عطفًا على مفعول "رَاعِ"، أي: راعِ أكبر الصحابة في تقديمه على مَن دونه، ولا تُراعِ "الذكر مِن حيث هو" بتقديمه على الراوي "الأنثى مِن حيث هو".

=والمحفوظ: "عَبْدًا"). (صحيح الترمذي: 1155).

(1)

قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 409).

ص: 2184

وقولي: (وَلَوْ رَوَى حُكْمًا لِمِثْلِهِ) أي: لا تراعيه ولو روى حُكمًا لا يختص بالإناث، خلافًا لقولٍ مُفَصَّلٍ أنه إنْ روى حُكم الإناث، قُدِّمت الأنثى عليه. وإنْ روى حُكمًا لا يتعلق بالإناث، يُراعَى في ترجيحه على رواية الأنثى ذلك.

وقولي: (وَحُرًّا) عطف أيضًا على (ذَكَرًا)، أي: على ما هو الصواب، خلافًا لمن رجح بالحرية كما وقع في "جمع الجوامع" أيضًا؛ لأنَّ الحرية لا تأثير لها في قوة الظن.

السادسة عشر: أن يكون الراوي متأخِّر الإِسلام، فيقدَّم على رواية مَن كان إسلامه متقدِّمًا؛ لأنَّ متأخِّره يحفظ آخِر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لَمَّا روى جرير البجلي:"رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه"

(1)

، قال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأنَّ إسلامَ جرير كان بعد نزول المائدة. أخرجه "الصحيحان".

وهذا رأي الجمهور وإنْ جزم ابن الحاجب والهندي بأن رواية متقدِّم الإِسلام أَرجَح من رواية متأخِّره؛ لزيادة أصالته في الإِسلام وتَحَرُّزه فيه. على أنَّ الهندي قد ناقض هذا في الكلام على الترجيح بأمر خارج، فجزم بأن متأخِّر الإِسلام يُقدَّم مطلقًا.

واعلَم أن في معنى تَأخُّر الإِسلام تأخُّر الصحبة؛ ولذلك قدَّموا خبر أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين"

(2)

، وقدموا رواية ابن عباس في التشهد على رواية ابن مسعود.

ونقل ابن السمعاني عن الحنفية أنه لا يُقدَّم بهذا؛ لأنَّ المتقدم قد دامت صحبته إلى حالة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون للمتأخِّر ترجيح عليه.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

صحيح ابن حبان (رقم: 2249)، قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 2246).

وفي صحيح البخاري (رقم: 682) بلفظ: (انْصَرَفَ من اثْنَتَيْنِ)، وفي صحيح مسلم (رقم: 573) بلفظ: (فَسَلَّمَ في رَكْعَتَيْنِ).

ص: 2185

قال: (وما قُلناه أَوْلى؛ لأنَّ سماع المتأخر تحقق تأخُّره، وسماع المتقدم يحتمل المتقدم والتأخر. فما تأخر سماعه يَتعيَّن أن يكون أَوْلى؛ ولهذا قال ابن عباس: كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث)

(1)

. انتهى

السابعة عشر: رواية مَن لا يدلس مقدَّمة على رواية المدلس تدليسًا لا يمنع قبوله، أما [التدليس]

(2)

بما يمنع فمردود مِن الأصل.

الثامنة عشر: ترجيح رواية مَن اشتهر باسْم واحد على رواية مَن اشتهر باسْمَين؛ لاحتمال أنه مجروح بأحدهما.

التاسعة عشر: رواية مَن باشر الواقعة تُقدَّم على رواية مَن لم يباشرها؛ لأنه أَعْرَف بذلك، ولهذا قدَّم الشافعي رواية أبي رافع في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة حلالًا

(3)

على رواية ابن عباس أنه "كان مُحْرِمًا"

(4)

.

العشرون: رواية صاحب القصة مقدَّمة على رواية غيره، كرواية ميمونة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال"

(5)

. رواه مسلم، والله أعلم.

(1)

قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 406).

(2)

كذا في (ص)، لكن في (ق): المدلس.

(3)

مسند أحمد (27241)، سنن الترمذي (رقم: 841)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 841).

(4)

صحيح البخاري (رقم: 1740)، صحيح مسلم (رقم: 1410). وفي صحيح البخاري (رقم: 4011): (عن ابن عَبَّاسٍ قال: تَزَوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ، وَبَنَى بها وهو حَلَالٌ).

(5)

صحيح مسلم (رقم: 1141).

ص: 2186

ص:

940 -

وَعَدَمُ الْإنْكَارِ مِنْ شَيْخٍ، وَمَا

مِنَ الصَّحِيحَيْنِ يَكُونُ ارْتَسَمَا

941 -

فَفِي الْبُخَارِيِّ، فَمُسْلِمٍ، فَمَا

شَرْطَهُمَا حَوَى، فَمِنْ غَيْرِهِمَا

الشرح:

الحادية والعشرون: رواية "مَن لم ينكر شيخُه -الذي رواه عنه- روايتَه" مقدَّمة على رواية "مَن أنكره الشيخ"، كإنكار أبي معبد ما حدَّث به عمرو بن دينار من حديث ابن عباس أنه:"كان يعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير"

(1)

. وهذا في الجاحد للرواية.

أمَّا مَن شك فلا يظهر أنها مرجوحة؛ لاحتمال النسيان، فقد كان مَن شك يُحدِّث بَعد ذلك عمَّن روى عنه ذلك، كما فعل سهيل في حديث القضاء باليمين مع الشاهد

(2)

.

الثانية والعشرون: ما أخرجه الصحيحان مُقدَّم على الصحيح في غيرهما؛ لأنهما أصح كتاب بعد القرآن. وأما قول الشافعي مِثل ذلك في "الموطأ" فإنما قاله قَبل وجودهما؛ لأنَّ أول مَن صنَّف في الصحيح: البخاري، ثم مسلم. ويقال فيما اتفقا عليه:"متفق عليه". أي: اتفق البخاري ومسلم عليه، لا اتفاق الأُمة، إلا أنَّ اتفاق الأُمَّة لازِم له؛ لاتفاق الأُمة على تَلَقِّيهما بالقبول.

وكذا ما انفرد به أحدهما، حتى قال ابن الصلاح تبعا للأستاذ أبي إسحاق: إنَّ ما فيهما

(1)

صحيح البخاري (806) بلفظ: (كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير)، صحيح مسلم (رقم: 583) بلفظ: (كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير).

(2)

سنن أبي داود (رقم: 3610)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 20431). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3610).

ص: 2187

مقطوع بصحته.

وخالفه النووي؛ لأنَّ خبر الآحاد لا يُقْطَع بصحته، فإن المحققين والأكثرين قالوا: لا يفيد إلا الظن، ولا يَلْزَم مِن اتفاق الأُمة على العمل [بها]

(1)

إجماعُهم على أنه مقطوع بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم بَعد ما اتفقا عليه في الصحة ما انفرد به البخاري؛ لأنه شَرط ما لم يشرطه مسلم ولا غيرُه.

نعم، خالف بعض شيوخ المغرب، ففضل "صحيح مسلم" عليه، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري:(ما تحت أديم السماء أصح منه).

وأُوِّل بكونه لم يمازج ما فيه مِن الأحاديث الصحيحة بكلام صحابي ولا بحديث مُعلَّق، ونحو ذلك، وإلا فلا يمكن إطلاق ذلك.

فإنْ قيل: لِمَ لا قُدِّم على المتفق عليه في "الصحيحين" اتفاق الكتب الستة كما زعم ذلك بعضهم؟

قلتُ: لأنَّ ما اتفقا عليه يَلزم أنْ يقولوا كلهم بصحته؛ لأنَّ شرطهما لا يخالف فيه بقية الستة، فهو كالمتفق عليه مِن الكل.

ثم بعد ذلك يرجح ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما هو على شرط مسلم، كما [يفصل]

(2)

ذلك الحاكم في "مستدركه" وإنْ كان فيه تساهل وعليه انتقادات.

(1)

في (ق): بهما.

(2)

في (ت): يفعل.

ص: 2188

ثم بعد ذلك كله ما هو صحيح

(1)

لا على شرطهما ولا على شرط أحدهما، وهو معنى قولي:(فَمِنْ غَيْرهِمَا). والله تعالى أعلم.

ص:

942 -

وَالْقَوْلُ، فَالْفِعْلُ، فَأَنْ يُقَرَّرَا

وَذُو فَصَاحَةٍ، وَزَائِدًا يُرَى

943 -

أَلْغِ بِهِ التَّرْجِيحَ فِيمَا قَدْ عُنِي

وَالْقُرَشِيُّ لَفْظُهُ وَالْمَدَنِي

944 -

وَمُشْعِرٌ بِرِفْعَةِ النَّبِيِّ

صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ مِنْ صَفِيِّ

الشرح:

ما سبق من الترجيحات إنما هو بحسب الراوي، أما بحسب المتن فمِن جهات أيضًا:

إحداها: القول مُقدَّم على الفعل، فما كان مِن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أَرجح مما نُقل عن فِعله؛ لصراحة القول؛ ولهذا اتُّفِق على دلالة القول، بخلاف دلالة الفعل.

الثانية: الفعل مقدَّم على التقرير؛ لأنَّ التقرير يَطْرقه مِن الاحتمال ما ليس في الفعل الوجودي؛ ولذلك كان في دلالة التقرير على التشريع اختلاف.

الثالثة: ما كان فصيحًا مُقدَّم على ما لم يستكمل شروط الفصاحة، وهي كما ذكر البيانيون سلامة "المفرد" مِن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس.

وفي "المركب" سلامته من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها. ومعنى ذلك كله موضح في محله.

نعم، من الناس مَن قال: اللفظ المروي إذا كان فيه ركاكة، لا يقبل.

(1)

يعني: يرجح ما هو صحيح.

ص: 2189

ولكن الحق القبول إذا صح السند، ويُحمَل على أن الراوي رواه بلفظ نفْسه.

أما عند عدم صحة السند فتكون الركة علامة على أنه موضوع كما ذكره المحدِّثون.

وأما ما كان زائد الفصاحة فلا يرجح على غيره؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بالفصيح وبالأفصح، فلا فَرق في ثبوتهما عنه، والكلام فيما سوى ذلك، لا سيما إذا خاطب مَن لا يعرف غير تلك اللغة التي ليست بأفصح؛ لقصد إفهامهم.

وهذا معنى قولي: (وَزَائِدًا يُرَى ألْغِ بِهِ التَّرْجِيحَ فِيَما قَدْ عُنِي). فَـ "زائدًا" مفعول مقدم.

وإنما قلت: "وَزَائِدًا" ولم أَقُل: "أفصح" كالبيضاوي؛ لأنَّ الأفصح يكون في كلمة واحدة لُغتان إحداهما أفصح، بخلاف زائد الفصاحة، فإنه يكون في كلمات منها الفصيح والأفصح، ولكن الأفصح فيه أكثر.

وينبغي أن يجري ذلك في البليغ، فلا يرَجح على الفصيح.

و"البلاغة" كما قال البيانيون: مُطابَقة الكلام لمقتضَى الحال. وهو مشروح في محله.

الرابعة: ما كان بِلُغَة قريش مقدَّم على غير لُغتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيد قريش. وفي معناه أن يكون بلغة الحجاز، فيقدَّم على لغة غيرهم.

الخامسة: يقدَّم المدني على المكِّي؛ لتأخره عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هاجر للمدينة ومكث عشر سنين.

وقد اختُلف في معنى "المكي" و "المدني" في القرآن:

فقيل: ما بعد الهجرة مدني ولو كان في سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في الطريق أو في نفس مكة أو نحو ذلك.

وقيل: المدني ما كان بالمدينة فقط.

والأرجح: الأول؛ لِمَا قدَّمنا مِن كونه متأخِّرًا.

ص: 2190

السادسة: يقدَّم ما كان مُشْعِرًا بِرِفْعَة النبي صلى الله عليه وسلم -صَفِي الله مِن خَلْقه- وعلُوِّ شأنه؛ لإشعاره بتأخُّر ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتجدد له زيادات في علُو الشأن، فهو مُحَقَّق التأخُّر عمَّا ليس فيه ذلك؛ لكونه محتمل المتقدم والتأخر. والله تعالى أعلم.

ص:

945 -

وَمِنْ مُرَجِّحَاتِ مَتْنٍ مُطْلَقَا

مَا فِيهِ ذِكْرُ عِلَّةٍ تَحَقَّقَا

946 -

أَوْ تَكُ قُدِّمَتْ عَلَى حُكْمٍ لَهَا

أَوْ كَانْ لِلتَّهْدِيدِ أَمْرُهُ انْتَهَى

947 -

أَوْ فِيهِ تَأْكِيدٌ، وَمَا تَعْمِيمُه

مُطْلَقًا، ايْ: عَلَى الَّذِي عُمُومُه

948 -

في سَبَبٍ لِغَيْرِ ذَاكَ السَّبَبِ

وَالشَّرْطُ صَاحِبُ الْعُمُومِ أَوْجِبِ

949 -

رُجْحَانَهُ عَلَى مُنكَّرٍ نُفِي

وَذَا عَلَى [الْبَاقِي]

(1)

إذَا مَا [يَقْتَفِي]

(2)

الشرح:

أي: ومِن المرجحات في المتن مطلقًا (أيْ: في متن القرآن أو السُّنة) أمور:

أحدها: أن يذكر في الحكم تعليله، فيقدَّم على ما لم يذكر فيه العلة؛ لإشعاره بالاعتناء به والاهتمام، كحديث:"مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه"

(3)

أَشْعر بترتيب القتل على الردَّة بأنها عِلته؛ فيقدَّم على حديث النهي عن قتل النساء

(4)

الذي لم يذكر فيه عِلة النهي عن ذلك، فليكن حمله على الحربيات.

(1)

في (ت، ش): النافي.

(2)

في (ق، ن 2): ينتفي. في سائر النُّسَخ: يقتفي.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

صحيح البخاري (رقم: 2852)، صحيح مسلم (رقم: 1744).

ص: 2191

وفي معنى ذلك أن يذكر لكل منهما عِلة، لكن عِلة أحدهما أظهر في المناسبة؛ فيقدَّم.

الثاني: ما قُدِّمت فيه العلة على الحكم أَرْجح من عكسه. وقد سبق في "باب القياس" في الإيماء أن الإِمام في "المحصول" قال ذلك، وسبق بيانه موضَّحًا، فراجِعه.

الثالث: يقدَّم ما فيه تهديد على ما لا تهديد فيه، كحديث:"مَن صام يوم الشك فقد عَصَى أبا القاسم"

(1)

مقدَّم على أحاديث الترغيب في صيام النفل.

الرابع: ما فيه تأكيد مقدَّم على ما لا تأكيد فيه، كحديث:"أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وَليها فنكاحها باطل باطل باطل"

(2)

مع حديث: "والأيم أَحَق بنفسها مِن وليها"

(3)

، فإنه -ولو سُلِّم دلالته للحنفية على مطلوبهم أنها تُزوج نفسها- كان هذا مقدَّمًا عليه.

وفي معنى ذلك ما لو تأكد حُكم أحدهما بدلالة سياق؛ فيقدَّم على ما ليس كذلك.

الخامس: يقدَّم العام الذي "لم يَرِد على سبب خاص" على الذي "وَرَدَ على السبب الخاص" في غير صورة السبب؛ لأنَّ الأول أقوى في العموم، حتى قال مَن قال: إن العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ كما سبق؛ فلذلك قال إمام الحرمين: إنَّا ولو قُلنا بعمومه لكنه ضعيف.

ولذلك رجحنا "مَن بدل دينه فاقتلوه" على حديث: "نَهى عن قتل النساء"؛ لأنه وَرَد

(1)

من قول عمار بن ياسر رضي الله عنه: صحيح البخاري (2/ 674)، وفي سنن ابن ماجه (رقم: 1645)، سنن أبي داود (رقم: 2334) بلفظ: (من صَامَ هذا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ). وفي سنن الترمذي (رقم: 686) بلفظ: (من صَامَ الْيَوْمَ الذي يَشُكُّ فيه الناس فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ) وغيرها.

قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2334، صحيح الترمذي: 686).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

صحيح مسلم (رقم: 1421).

ص: 2192

على قتل نساء أهل الحرب، فاختص بذلك، لا مِن حيث إنَّ العبرة بخصوص السبب، بل للجمع بين الدليلين.

أما إذا تَعارض الدليلان في صورة السبب فيقدَّم العام في السبب؛ لأنه إما خاص به على رأيٍ أو واجب الدخول على الرأي الآخَر؛ ولذلك لا يجوز إخراجه وتخصيصه من العموم. وممن أشار إلى هذا التفصيل ابن الحاجب، وصرح به سليم الرازي في "التقريب"، وكذا غيره من أصحابنا كشارح "لمع" الشيخ أبي إسحاق. ولم يقف الهندي على النقل؛ فذكر ذلك بحثًا.

السادس: ما كان مِن صيغ العموم متضمنًا لشرط كـ "أيّ" و "مَن" راجح على ما كان غير ذلك كالنكرة المنفية؛ لدلالة الأول على كون ذلك عِلة للحكم، وهو أدل على المقصود مما لا عِلة فيه، إذْ لو ألغينا العام الشرطي كان إلغاءً للعلة، بخلاف العام غير الشرطي لا يَلزم منه إلغاء العلة. كذا قطع بهذا المرجح ابن الحاجب وغيره، ويؤيده ما في "المحصول" مِن أنَّ عموم الأول بالوضع والثاني بالقرينة.

نعم، جزم الهندي هنا بأن النكرة المنفية مقدَّمة على غيرها مِن أنواع العموم، لكنه لم يُوَجِّهه. وكأنَّ وَجْهه أنَّ طروق التخصيص إليه بعيدٌ؛ لِبُعْد أنْ يقال في "لا رجُل في الدار": إنَّ فيها فلانًا.

نعم، إمام الحرمين قال في "البرهان": إنه لا فرق بين العموم الشرطي والنكرة المنفية في معنى العموم، وإنه يقْطَع بأنَّ العرب وضعتهما [لِذلك]

(1)

.

السابع: العام بِكَوْنه نَكرة مَنْفِيَّة مقدَّم على باقي صِيَغ العموم؛ لأنه أَقْوَى منها؛ ولهذا قيل: إنَّ دلالة العموم في النكرة المنفية بالوضع. واتفقوا على أنَّ [الباقي]

(2)

بالقرينة. والله

(1)

كذا في (س، ش، ت)، لكن في (ص، ق، ض): كذلك.

(2)

كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: الثاني.

ص: 2193

تعالى أعلم.

ص:

950 -

وَهَكَذَا الْجَمْعُ الَّذِي تَعَرَّفَا

يَرْجَحُ "مَا" وَ "مَنْ" عَلَى مَا عُرِفَا

951 -

وَرَجِّحِ الْكُلَّ

(1)

عَلَى ذِي الْجِنْسِ

إذَا احْتِمَالُ الْعَهْدِ فِيهِ يَرْسِيْ

952 -

كَذَا الَّذِي تَخْصِيصُهُ أَقلُّ

وَالِاقْتِضَاءَ حَيْثُما يَدُلُّ

الشرح:

أي: الثامن مِن المرجحات في المتن مطلقًا (وهو وما بَعده مِن الترجيح في باقي صيغ العموم) أنْ يكون العام جمعًا مُعرَّفًا بِـ "أل" أو بالإضافة مُرجَّح على العموم في "مَا" و "مَن" على ما [عُرف]

(2)

في باب العموم.

والمراد هنا بِـ "مَن" و "مَا" غير الشرطيتين، فقد سبق أن أدوات الشرط كلها العموم فيها مقدَّم على سائر صيغ العموم. وإنما رجحنا الجمع المعرَّف على "مَن" و "ما" غَيْر الشرطيتين لعدم إمكان حمل الجمع على واحد، و "مَن" و "ما" يمكن العمل فيهما على واحد.

ولا يخفَى ما في هذا الفرق مِن النظر.

التاسع: الكُل (أي: مِن الجمع المعرَّف و "مَن" و "ما") راجح على اسم الجنس المعرف بِـ "أل"؛ لأنها لا تحتمل العهد أو تحتمله على بُعد، بخلاف اسم الجنس المحلَّى بِـ "أل"، فإنه محتمل للعهد احتمالًا قريبًا.

(1)

يمكن أيضًا ضبطه هكذا: وَرَجَحَ الْكُلُّ.

(2)

كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: بان.

ص: 2194

وهو معنى قولي: (إذَا احْتِمَالُ الْعَهْدِ فِيهِ يَرْسِيْ)، أي: يوجد ويثبت. بل قال كثيرٌ: إنه لا عموم فيه. وقد سبق بيانه.

العاشر: يُقدم ما كان مِن العام قد طَرقه التخصيص أَقَل على ما عارضه مِن العام الذي طَرقه التخصيص أكثر؛ لِمَا لا يخفَى مِن ضَعْفه بالتخصيص. فكلما ازداد التخصيص ازداد الضعف.

وقد عُلم مما اقتصرتُ عليه أنَّ العام الذي لم يُخص مُقدَّم على العام الذي طَرَقه التخصيص. وإنما لم أذكر هذه الصورة صريحًا في النَّظم لأمرين:

أحدهما: أن الراجح في العام الذي خُص أنه مجَاز في الاقتصار عليه أو مطلقًا، وما لَمْ يُخَص لا خلاف أنه حقيقة وأنه يُحتج به. وقد عُلم أن الحقيقة مقدَّمة على المجاز قطعًا.

ثانيهما: أن بعضهم نازع في أرجحية ما لم يُخص على ما خُص مِن حيث إنَّ الغالب في العمومات التخصيص، فكون الشيء مِن الغالب أقوى مِن كونه على خلاف الغالب. فالنفس تطمئن إلى العام المخصَّص باعتبار عدم انتظاره تخصيصًا آخَر بَعد هذا التخصيص، بخلاف ما لم يُخص أصلًا.

وقد عَلَّله الهندي بأمر آخَر وهو أن الخاص راجح مِن حيث كونه خاصًّا بالنسبة إلى ذلك العام الذي لم يدخله التخصيص، والخاص أَولى مِن العام؛ فكان ما دخله التخصيص أَولى. والله أعلم.

وقولي: (وَالِاقْتِضَاءَ حَيْثُمَا يَدُلُّ) هو وما بعده في قولي:

ص:

953 -

رَجِّحْ عَلَى الْإيمَاءِ وَالْإشَارَهْ

هُمَا عَلَى مَفْهُومَيِ الْعِبَارَهْ

954 -

قَدِّمْ، وَمَا مَفْهُومُهُ مُوَافَقَهْ

عَلَى الَّذِي خَالَفَهُ وَشَاقَقَهْ

ص: 2195

الشرح:

إشارة إلى مرجحات أخرى من جهة دلالة الألفاظ:

الأول: ما دلالته من حيث الاقتضاء مُرجحة على ما دلالته من حيث الإيماء والإشارة. وهذه الأقسام كلها سبق بيان حقيقتها في الكلام على تقسيم دلالة الكلام على ما يقصد منه، وذلك في باب اللغات. وإنما كانت دلالة الاقتضاء مقدمة على دلالة الإشارة لترجيحها بقصد المتكلم، وعلى دلالة الإيماء لِتَوقُّف صِدق المتكلم أو صحة الملفوظ به، بخلاف الإيماء.

الثاني: دلالة الإيماء ودلالة الإشارة مقدَّمان على المفهومين: مفهوم المخالفة، لِمَا فيه من الاختلاف، ومفهوم الموافقة؛ لجواز أن لا يكون المسكوت أَوْلى أو مساويًا. وإلى ذلك أشرت بقولي:(هُمَا) إلى آخِره، فـ "هُمَا" مبتدأ، و "قَدِّمْ" فِعل أمر، والجملة خبر عن المبتدأ.

الثالث: ما دل بمفهوم الموافقة يُقدَّم على ما كان بمفهوم المخالفة؛ لأنَّ الموافقة باتفاق في دلالتها على المسكوت وإنِ اختُلف في جِهته هل هو بالمفهوم؟ أو بالقياس؟ أو مجاز بالقرينة؟ أو منقول عُرفي؛ كما سبق بيانه في المفاهيم وغيره.

نعم، اختار الهندي أن مفهوم المخالفة أَرجَح من الموافقة؛ لأنَّ فائدته تأسيس، والموافقة تأكيد. والله تعالى أعلم.

ص:

955 -

كَذَا عَلَى الْأَصْلِ يُبَدَّى النَّاقِلُ

وَمُثْبِتٌ نَافٍ لَهُ مُقَابِلُ

956 -

وَلَوْ يَكُونُ ذَاكَ في الطَّلَاقِ

وَهَكَذَا إنْ كانَ في العَتَاقِ

الشرح: هذه مُرجحات أخرى باعتبار المدلول:

ص: 2196

أحدها:

أن يكون أحدهما مُقرِّرًا لحكم الأصل والآخَر ناقلًا، فالناقل مُقدَّم عند الجمهور؛ لأنه يُفيد حُكمًا شرعيًّا ليس موجودًا في الآخَر، كحديث:"مَن مَس ذَكره فليتوضأ" مع حديث: "هل هو إلا بضعة منك؟ "

(1)

.

والمخالِف في ذلك الإِمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي، فقالوا بترجيح المقرِّر؛ لأنَّ الحمْل على ما لا يُستفاد إلا مِن الشرع أَوْلى مما يُستفاد من العقل.

قيل: والتحقيق في المسألة تفصيل، وهو أنه يرجح المقرِّر فيما إذا تَقرر حُكم الناقل مُدة في الشرع عند المجتهد وعمل بموجبه ثم نُقِل له المقرِّر وجهِل التاريخ؛ لأنه حينئذٍ عمل بالخبرين: الناقل في زمان والمقرِّر بعد ذلك.

فأما إنْ كان الثابت [بمقتضَى]

(2)

البراءة الأصلية ونُقِل الخبران فإنهما يتعارضان هنا ويرجع إلى البراءة الأصلية.

بل عبد الجبار يقول: إنَّ تقديم الناقل أو المقرِّر -على الاختلاف- ليس من باب الترجيح، بل مِن باب النَّسخ.

لكنه ضعيف؛ لأنه لا يتوقف [رَفْعُه]

(3)

على ما يُرفَع به الحكم الشرعي.

ثانيها:

يقدَّم المُثْبَت على ما يقابله مِن المَنْفِي عند الفقهاء؛ لأنَّ مع المثبِت زيادة عِلم،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

في (ق): يقتضي.

(3)

في (ص، س، ت): فيه.

ص: 2197

[لحديث]

(1)

بلال

(2)

وأسامة

(3)

في الصلاة في الكعبة.

وقال قوم: يقدَّم النافي؛ لاعتضاده بالأصل.

وقال القاضي عبد الجبار: يتساويان؛ لتقابل المرجحين.

وفي قول رابع: يفصل بين أن يكون ذلك في طلاق أو عتاق فيقدَّم فيهما النافي، لا في غيرهما فإنه يقدَّم المُثْبِت.

وقيل بالعكس، أي: إنه يقدَّم المثبِت في الطلاق والعتاق دُون غيرهما.

أشار إليهما ابن الحاجب.

وفي قول خامس يؤخَذ مِن كلام "المستصفى": إنهما لا يتعارضان؛ لامتناع التعارض بين الفعلين؛ لاحتمال وقوعهما في حالَين، فلا يكون بينهما تَعارُض.

نعم، موضوع هذه المسألة أن يكون الإثبات والنفي شرعيين، فأمَّا إذا كان النفي باعتبار الأصل فهو مسألة الناقل والمقرِّر السابقة.

قولي: (وَلَوْ يَكُونُ ذَاكَ في الطَّلَاقِ) إلى آخِره -إشارة إلى بعض الأقوال السابقة. والله أعلم.

(1)

كذا في جميع النسخ، ولعلها: كحديث.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 483)، صحيح مسلم (رقم: 1329)، ولفظ البخاري:(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَال وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ .. ، فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ - وَكَانَ البَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَةِ أَعْمِدَةٍ - ثُمَ صَلَّى).

(3)

صحيح مسلم (رقم: 1330) عن أسامة بن زيد: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا في نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ".

ص: 2198

ص:

957 -

وَالنَّهْيُ رَاجِحٌ عَلَى أَمْرٍ، وَذَا

عَلَى إبَاحَةٍ، كحَظْرٍ، فَانْبِذَا

958 -

وَخَبَرٌ عَلَى الَّذِي أَمْرًا يُرَى

[أَوْ]

(1)

نَهْيًا اللَّذَيْنِ فِيهِ ذُكِرَا

959 -

كَذَا وُجُوبٌ أَوْ كَرَاهَةٌ عَلَى

نَدْبٍ، وَهُوْ عَلَى مُبَاحٍ اعْتَلَا

960 -

وَالنَّافِ لِلْحَدِّ وَمَا قَدْ عُقِلَا

مَعْنَاهُ، وَالْوَضْعِيُّ في الْحُكْمِ عَلَى

الشرح:

ثالث المرجحات مِن جهة المدلول أنْ يكون نهيًا ومُعارِضُه أمر، فيرجح الخبر الذي فيه النهي على ما فيه الأمر؛ لأنَّ طلب الترك فيه أشد مِن طلب الفعل في الأمر؛ ولهذا قال كثيرٌ ممن قال:(الأمر لا يفيد التكرار): إنَّ النهي يفيده.

الرابع: يرجح أيضًا الأصل على الإباحة، فالأمر أَوْلى؛ لأنه أَحْوَط؛ ولأن فيه حمل كلام الشارع على الأمر التكليفي، فإنَّ المباح لا تكليف فيه.

وقيل: المُبِيح أَوْلى. ورجحه الهندي؛ لأنه لو رجح الأمر لَزِم مِن ذلك تعطيل المباح بالكُلية، وترجيح المبِيح فيه تأويل للأمر بِصَرْفِه عن ظاهره، والتأويل أَوْلى مِن التعطيل.

الخامس: ما فيه حظر راجح على الإباحة. وهو معنى قولي: (كَحَظْرٍ)، أي: رجح الأمر على الإباحة كما أن الحظر يرجح على الإباحة، فانبذ الحظر، أي: اطرحه. وإنما رجح الحظر على الإباحة للاحتياط.

وقيل عكسه؛ لأنهما حُكمان شرعيان.

(1)

في (ت، س): و.

ص: 2199

وفي ثالث: مستويان. حكاه الهندي عن أبي هاشم وابن أبيان، ورجحه الغزالي في "المستصفى".

السادس والسابع: "ما فيه خبر" راجح على "ما فيه أمر أو نهي"؛ لدلالة الخبر على الثبوت و [التحقق]

(1)

.

وأيضًا: فلو عُطِّل، لَزِمَ الخُلْف في الخبر.

وبهذا يُعْلَم أنَّ الكلام في خبر بمعناه، لا الخبر الذي بمعنى الأمر أو النهي، فإنهما كالأمرين أو كالنهيين.

الثامن: أمر الوجوب راجح على أمر الندب؛ للاحتياط في العمل به.

التاسع: ما فيه كراهة مُقدَّم على أمر الندب؛ لما ذكرناه.

العاشر: أمر الندب راجح على ما فيه إباحة. وهو معنى قولي: (اعْتَلَا)، أي: رجح على المباح. فـ "هو" مبتدأ مضموم الهاء مسكن الواو لُغة في "هو"، و"اعْتَلَا" خبره، و (عَلَى مُبَاحٍ) متعلق بـ "اعْتَلَا".

نعم، نازع الهندي في ذلك، فقال:(ويمكن أن ترجح الإباحة بكونه متأيدًا بالأصل في جانب الفعل والترك، وبكونه أعم وأسهل مِن حيث كونه مُفَوّضًا إلى خِيرة المكلَّف، ومن حيث إنه لا إجمال في الصيغة الدالة عليه، بخلاف الندب، فإنه يَثبُت بصيغة الأمر وفيها الاحتمال)

(2)

.

الحادى عشر: ما تضمن نفي الحد راجح على ما تضمن إيجابه؛ لأنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات. قال الآمدى: ولأن الخطأ في نفي العقوبة أَوْلى مِن الخطأ في تحقيقها على ما قال

(1)

في (ق): التحقيق.

(2)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3732).

ص: 2200

عليه السلام: "لأنْ تُخطِئ في العفو خير مِن أنْ تخطئ في العقوبة"

(1)

.

وقيل: هما سواء. ورجحه الغزالي؛ لأنَّ الشبهة لا تؤثر في ثبوت مشروعيته؛ بدليل أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع قيام الاحتمال.

فالحدّ [إنما تؤثِّر]

(2)

في إسقاطه الشبهة إذا كانت في نفس الفعل أو بالاختلاف في حُكمه كأنْ يبيحه قوم ويحظره آخرون، كالوطء في نكاح بلا ولي أو بلا شهود.

وليس الخلاف لفظيًّا كما قد يُتوَهَّم مِن أنَّ قول التساوي يؤول إلى تقديم النافي، فإنهما يتعارضان؛ فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما. فإنْ كان هناك دليل شرعي، حُكم به وإلا بَقي الأمر على الأصل؛ فيلزم نَفْي الحد.

بل الخلاف معنوي على الصواب؛ فإنَّ الأول ينفي الحد بالحكم الشرعي، والآخَر يقول بالنفي؛ استصحابًا للأصل.

الثاني عشر: ما تَضمن حُكمًا معقول المعنى أرجح مما تضمن حُكمًا غير معقول المعنى؛ لأنَّ انقياد المكلَّف له أكثر؛ فيكون أسرع إلى القبول وأَفْضَى إلى الوقوع؛ ولهذا كان شَرْع المعقول أَغْلب مِن غيره، حتى قيل: لا حُكم إلا وهو معقول، حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما يُظن أنه ليس بمعقول. ولأنَّ المعقول أكثر فائدة؛ لأنه يُلْحَق به بِالعِلة بطريق القياس.

الثالث عشر: ما كان مِن المخاطَب به بطريق الوضع مقدَّم على ما هو مِن الخطاب

(1)

سنن الترمذي (رقم: 1424)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 8163)، وغيرهما، بلفظ:(فإنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ في الْعَفْوِ خَيْرٌ من أَنْ يُخْطِئَ في الْعُقُوبَةِ). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 1424).

(2)

كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: المأثور.

ص: 2201

التكليفي؛ لأنَّ الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي مِن أهلية المخاطَب وفَهْمه وتَمَكُّنه مِن الفعل؛ فكان أَوْلى.

وقيل بالعكس. حكاه الهندي؛ لأنه مقصود بالذات، ولأنه الأكثر من الأحكام؛ فكان أَوْلى. والله تعالى أعلم.

ص:

961 -

مَا هُوَ تَكْلِيفِي، كذَا مُوَافِقُ

دَلِيلٍ أَوْ مُرْسَلِ مَنْ يُوَافِقُ

962 -

أَوِ الصَّحَابِيِّ أَوِ الْمَدِينَةِ

أَوْ أَكْثَرَ، وَالشَّافِعِي في فِرْقَةِ

963 -

رَجَّحَ في فَرَائِضٍ مَا وَافَقَا

زَيْدًا، وَبَعْدَ معَاذًا طَابَقَا

964 -

ثُمَّ عَلِيًّا، وَالَّذِي مِنْ غَيْرِهَا

هُوَ مُعَاذٌ، فَعَلِيٌّ انْتَهَى

الشرح:

[قولي: (مَا هُوَ تَكْلِيفِي) من تتمة ما سبق. وما بَعده فإشارة إلى مُرجِّحات أخرى تكون مِن خارج عن الدليل المعارِض لآخَر]

(1)

.

أحدها: أن يكون موافقًا لدليل آخَر من كتاب أو سُّنة أو إجماع أو قياس، فيرجح على ما لم يوافق؛ لأنَّ تقديم ما لم يوافق تَركٌ لشيئين: الدليل، وما عضده. وتقديم الموافق تَركٌ لدليل

(1)

كذا في (ق)، لكن في (ش):(مُرجِّحات أخرى تكون مِن خارج عن الدليل المعارِض لآخَر، أحدها قولي: ما هو تكليفي. من تتمة ما سبق. وما بَعده فإشارة). وفي سائر النسخ: (مُرجِّحات أخرى تكون مِن خارج عن الدليل المعارِض لآخَر، أحدها قولي: ما هو تكليفي. رسمه ما سبق. وما بَعده كإشارة).

ص: 2202

واحد. ولهذا قدَّمنا حديث عائشة في صلاة الفجر بغَلس

(1)

على حديث [نافع]

(2)

في الإسفار

(3)

؛ لموافقته قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]؛ لأنَّ من المحافظة الإتيان بالمحافَظ عليه المؤقَّت أَول وقته.

الثاني: ما وافق مرسلًا (ولو قلنا: إنَّ المرسل غير حُجة) مُرجَّح على ما لم يوافق ذلك؛ لأنَّ التعاضد أقوى في النفس، حتى إنَّ كثيرًا من العلماء قد جعله دليلًا، فهو إما دليل أو في معنى الدليل، فلا يفوت موافقته. ومن ثَم عمل الشافعي بالمرسَل إذا عضده مرسَل آخَر مِن غيْر طريقِه كما سبق. وإلى ذلك أشرت بقولي:(مُرْسَلِ مَنْ يُوَافِقُ)، أي: يوافق بمرسله ذلك الدليل.

وألحق الغزالي بذلك ما إذا عضده خبر مردود عند المستدِل لكن قد قال به بعض العلماء.

قال: فهذا مرجح، لكن بشرط أن لا يكون قاطعًا ببطلان مذهب القائلين به، بل يرى ذلك في محل الاجتهاد.

الثالث: يرجح ما وافق مِن الدليلين قول الصحابي على ما لم يوافق؛ لِمَا ذكرناه في المرسل. هذا إذا لم ينتشر ويسكت الباقون عليه وإلا فهو إجماع سكوتي يُقدَّم قطعًا.

(1)

صحيح البخاري (553)، صحيح مسلم (645)، ولفظ البخاري:(عن عائشة، قَالَتْ: "كُنَّ نِسَاءُ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ، لَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ مِنَ الغَلَسِ").

(2)

كذا في جميع النسخ، والصواب:(رافع) كما في رفع الحاجب (4/ 630)، تشنيف المسامع (3/ 532).

(3)

سنن الترمذي (154)، سنن النسائي (548)، وغيرهما، ولفظ الترمذي:(عَنْ رَافِعِ بْنِ خديج، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ").

ص: 2203

وقيل: لا ترجيح يقول الصحابي؛ لعدم حجيته. وثالثها: إنْ شهد له الشرع بمزية كما سيأتي فهو حُجة، وإلا فلا.

الرابع: يرجح ما وافق عمل أهل المدينة. وإليه أشرتُ بقولي: (أَوِ الْمَدِينَةِ) فهو على حذف مضاف؛ لأنَّ عمل أهل المدينة وإن لم يكن حجة فَمُقَوٍّ؛ لِمَا ذكرناه من التقوية أيضًا؛ ولذلك قدمنا رواية إفراد الإقامة على رواية أبي محذورة في تعلُّمه الإقامة سبع عشرة كلمة

(1)

. على أنه قد صح عن أبي محذورة وأولاده دوام إفراد الإقامة، وهو مُضَعِّف لرواية شَفْعها كما قاله البيهقي، قال:(أو يدل على أن الأمر صار إلى إفرادها).

وذكر إلْكِيَا الطبري هذا الترجيح بالنسبة إلى الرواية، فقال: حديث ينقل بمكة وآخَر ينقل بالمدينة تُقدَّم رواية المدينة مِن حيث إنَّ الهجرة تراخت وإنِ اتفقت له غزوات إلى مكة.

الخامس: يُقدَّم ما وافق عمل الأكثر لكن بشرط أن لا يكون المعارِض له يخفَى مِثله عليهم. وإنما قُدم الموافق للأكثر لأنَّ الأكثر يُوفَّق للصواب ما لا يوفَّق له الأقل. هذا قول الأكثرين.

ومنع جمعٌ -كالغزالي- الترجيح بذلك، قال: لعدم الحجية في قول الأكثر، ولو ساغ الترجيح يقول بعض المجتهدين لَانْسَدَّ باب الاجتهاد على البعض الآخَر.

قيل: والتحقيق أن مقابِل قول الأكثر إنْ كان قول شذوذ، فَيُرَجَّح به؛ لأنه إما إجماع على رأيٍ، وإما حُجة على رأيٍ آخر، وإما مُقَوٍّ وعاضد على رأي مَن قال ليس بحجة. وإنْ لم يكن مقابِلهم شذوذ فلا ترجيح به؛ لاحتمال أن الصواب مع الأقل.

قولي: (وَالشَّافِعِي في فِرْقَةٍ رَجَّحَ) إشارة إلى مواضع، كالتفصيل للقول الثالث في موافِق

(1)

سنن الترمذي (192) وغيره، ولفظ الترمذي: (عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ

كَلِمَةً، وَالإِقَامَةَ سَبع عَشْرَةَ كَلِمَةً").

ص: 2204

الصحابي، وهو إنْ مَيَّزَه الشرع، رجح بموافقته وإلا فلا، وذلك كموافقة زيد في الفرائض؛ لحديث:"أفرضكم زيد"

(1)

. وقد سبق في الكلام على مذهب الصحابي في "باب الأدلة المختلف فيها". فرجح الشافعي -في فرقة- موافق الصحابي فيها.

قال الشافعي فيما حكاه إمام الحرمين: (وإذا كان نَصان أحدهما أعم، أُخذ بالأخص. فالنص على أن زيدًا أفرض أخص من النص على أن معاذًا أعلم بالحلال والحرام، فيرجح قول زيد في الفرائض على قول معاذ، ومعاذ عَلَى عَلِي، وعَلِي عَلَى غيره؛ لأنه جاء:"أفرضكم زيد، وأَعْلَمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاكم علي"

(2)

. والقضاء أعم من الكل، فالشهادة لزيد أخص من الجميع، وبَعْده معاذ، وبعدهما علي، فهي ثلاث مراتب)

(3)

.

قال إمام الحرمين: (فإنِ اعتضد يقول الشيخين فهي مرتبة رابعة أعم من الشهادة لِعِلي؛ لاحتمال أن تكون الإشارة بذلك إلى الخلافة، و [بذل الطاعة]

(4)

لهما).

قال: (ثم قال الشافعي: قول علِي في القضاء يقول زيد في الفرائض)

(5)

.

والحاصل كما أشرتُ إليه في النَّظم أنه في الفرائض [مقدم]

(6)

.

وقال: (ثم معاذ، ثم علِي)

(7)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

انظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 836).

(4)

كذا في (ق، ش)، لكن في (ت، ض): يدل الظاهر.

(5)

انظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 836).

(6)

في (ق): يقدم زيد.

(7)

انظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 836).

ص: 2205

وأما غير الفرائض فيرجح معاذ، ثم عَلِي؛ عملًا بالأخص فالأخص كما سبق.

وقيل: يرجح يقول أبي بكر وعمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال: "أفرضكم"، وقال:"أقضاكم"، والخطاب شفاهي يحتمل أنْ لا يكون في المخاطَبِين حينئذٍ أبو بكر وعُمر.

وقيل: يرجح يقول أحدهما إلا أن يعارضه زيد في الفرائض أو معاذ في الحلال والحرام.

وقيل غير ذلك. والراجح ما سبق، والله تعالى أعلم.

ص:

965 -

وَالنَّصُّ الِاجْمَاعُ عَلَيْهِ قُدِّمَا

وَمِنْ صَحَابَةٍ عَلَى غَيْرٍ سَمَا

966 -

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ

ثَانِيهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ إذْ عَنَّا

967 -

وَالْكُلُّ رَاجِحٌ عَلَى مَا خَالَفَا

فِيهِ الْعَوَامُ، وَانْقِرَاضًا سَالِفَا

968 -

قَدِّمْ عَلَى غَيْرٍ، وَمَا قَدِ انْتَفَى

تَقَدُّمُ الْخِلَافِ فِيهِ مُقْتَفَى

الشرح:

لَمَّا انتهى الكلام في ترجيح المتون وهي نصوص الكتاب والسُّنة، انتقلتُ إلى الترجيح في الإجماعات. فذكرت أنَّ الإجماع دائمًا يقدَّم على النص ولو متواترًا؛ لأنَّ دلالته فيها احتمالات كثيرة، كالنسخ وغيره، ولا احتمال في الإجماع.

أما إذا نُقل إجماعان فالمعمول به منهما هو السابق، فيقدم إجماع الصحابة على إجماع التابعين. وإجماع التابعين على مَن بَعدهم، وهلُمَّ جرا، لا سيما مع أن السابق دائما أقرب إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم المشهود لهم بالخيرية في قوله:"خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم"

(1)

.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 2206

وإلى ذلك الإشارة بقولي: (وَمنْ صَحَابَةٍ عَلَى غَيْرِ)، وهي صورة يقاس عليها ما بعدها، لا الانحصار فيها. فإنْ فُرِض في عصر واحد إجماعان فالثاني باطل؛ لأنَّ كل مَن اجتهد مِن المتأخِّر فقوله باطل؛ لمخالفته الإجماع السابق.

فإنْ كان أحد الإجماعين مختلَفًا فيه والآخَر مُتفَقًا عليه فالمتفق عليه مقدَّم، وذلك في صُوَر أشرتُ إلى بعضها في النَّظم:

أحدها: إجماع الكل مِن المجتهدين والعوام يُقدَّم على ما فيه إجماع المجتهدين دُون العوام. وقد سبق الكلام في اعتبار العوام في الإجماع وعدم اعتبارهم.

وثانيها: ما انقرض فيه عصر المجمعين يقدَّم على ما لم ينقرض؛ لَما سبق مِن الخلاف في اشتراط انقراض العصر.

وثالثها: الإجماع الذي لم يسبقه اختلاف - مقدَّم على إجماع سبق فيه اختلاف ثم وقع الإجماع. وفي قول: إنَّ المسبوق بخلاف أَرْجح؛ لأنهم اطَّلعوا على المأْخَذ، واختاروا مَأْخَذ ما أجمعوا فيه؛ فكان أقوى.

وقيل: هما سواء؛ لأنَّ في كل مُرجِّحًا. وقِس على ذلك ما سبق من الإجماعات المختلَف فيها.

واعلم أن ابن الحاجب ثم الهندي قالا: إنَّ هذه المسألة لا تُتصوَّر في الإجماعين القاطعين؛ لأنه لا ترجيح بين القاطعين، ولأنه لا يُتصوَّر التعارض بينهما، وإنما يُتصوَّر في الظنيين.

وضُعِّف قولهما ذلك بأنهما إنْ أرادا تَعارُض الإجماعين في نفس الأمر فمستحيل، سواء كانا ظنيين أو قطعيين. وإنْ أرادا فيما يغلب على الظن فظن تَعارُض الإجماعين ممكن، سواء كانا ظنيين أو قطعيين. والله أعلم.

ص: 2207

ص:

969 -

وَفي الْقِيَاسِ مَا دَلِيلُ أَصْلِهِ

أَقْوَى، وَمَا بِسَنَنٍ في شَكْلِهِ

970 -

أَيْ: فَرْعُهُ مِنْ جِنْسِ أَصْلِهِ، كَذَا

قَطْعٌ بِعِلَّةٍ لَهُ إذْ يُحْتَذَى

971 -

أَوْ ظَنُّهَا الْغَالِبُ، أَوْ مَسْلَكُهَا

أَقْوَى، وَذَاتُ الْأَصْلِ في مُدْرَكهَا

(1)

972 -

عَنْ ذَاتِ أَصْلَيْنِ لَهَا نُزُولُ

كذَاكَ حُكْمِيٌّ لَهُ قَبُولُ

973 -

يُقَدَّمُ الذَّاتِيْ عَلَيْهِ، وَرَجَحْ

أَقَلُّ أَوْصَافًا، وَهَكَذَا وَضَحْ

الشرح:

لما فرغت من مرجحات المتون والإجماعات، شرعتُ في ذِكر مرجحات الأقيسة، وهو الغرض الأعظم من باب التراجيح، وفيه اتساع مجال الاجتهاد.

وعبَّر ابن الحاجب عن الأول بالمنقول وعن هذا بالمعقول، وذكر أن الترجيح في القياس يكون من أربعة أَوْجُه.

فقال: (المعقولان -أَيْ إذا تعارضَا- فَهُما إما قياسان أو استدلالان).

قال: (فالأول: أصله وفرعه ومدلوله وخارج). ثم ذكر الأربعة.

(1)

جاء في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 1/ 192": (مَدَارِكُ الشَّرْعِ: مَوَاضِعُ طَلَبِ الْأَحْكَامِ وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَلُّ بِالنُّصُوصِ وَالِاجْتِهَادُ مِنْ مَدَارِك الشَّرْعِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي الْوَاحِدِ: "مَدْرَكٌ" بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَلَيْسَ لِتَخْرِيجِهِ وَجْهٌ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى طَرْدِ الْبَابِ، فَيمالُ: "مُفْعَلٌ" بِضَمِّ الْميمِ مِنْ "فَعَلَ"، وَاسْتُثْنِيَتْ كَلِمَاتٌ مَسْمُوعَةٌ خَرَجَتْ عَن الْقِيَاسِ .. وَلَمْ يَذْكُرُوا "الْمُدْرَكَ" فِيمَا خَرَجَ عَن الْقِيَاسِ؛ فَالْوَجْهُ الْأَخْذُ بِالْأُصُولِ الْقِيَاسِيَّةِ حَتَّى يَصِحَّ سَمَاعٌ).

ص: 2208

فيما يرجع إلى الأصل: أنْ يكون دليل أصله أقوى:

وتحته صور:

أحدها: أن يكون قطعيًّا، فيقدَّم على ما دليل أَصْله ظني. كقولنا في لعان الأخرس: إنَّ ما صَحَّ مِن الناطق صح من الأخرس، كاليمين. فإنه أرجح من قياسهم على شهادته؛ تعليلًا بأنه يفتقر إلى لفظ الشهادة؛ لأنَّ اليمين تصح من الأخرس بالإجماع، والإجماع قطعي. وأما جواز شهادته ففيه خلاف بين الفقهاء.

وثانيها: بقوة دليله؛ لأنه أغلب على الظن.

وثالثها: بكونه لم يُنسخ باتفاق. فإنَّ ما قيل بأنه منسوخ وإنْ كان القول به ضعيفًا ليس كالمتفق على أنه لم يُنسخ.

ورابعها: أن يقوم دليل خاص على تعليله وجواز القياس عليه، فأنه أَبْعَد عن التعبد.

وخامسها: أن يكون دليل أحدهما منطوقًا والآخَر مفهومًا، أو يكون دليل أحدهما عامًّا لم يُخص والآخَر عام قد خُص.

الثاني: أن يترجح أحد القياسين بكونه على سَنَن القياس دُون الآخَر.

والمراد بذلك هنا: أن يكون فرعه مِن جنس أصله كما صرح بذلك القاضي أبو الطيب والماوردي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهم.

وذلك كقياس ما دُون أرش الموضحة في تَحمُّل العاقلة إياه، فهو أَوْلَى من قياسهم ذلك على غرامات الأموال في إسقاط التحمل؛ لأنَّ الموضحة من جنس ما اختُلف فيه، فكان على سَنَنه؛ إذِ الجنس بالجنس أَشْبَه، كما يقال: قياس الطهارة على الطهارة أَوْلى مِن قياسها على ستر العورة.

وإنما تعرضتُ لشرح ذلك في النَّظم لِمَا سبق أن مِن شرط حُكم الأصل في القياس أن

ص: 2209

لا يكون معدولًا به عن سَنَن القياس. وإذا لم يصح القياس فكيف يقع التعارض؟ فَبَيّنْتُ أن ذلك المشروط هناك ليس هو المراد هنا.

وقد يُراد هنا أيضًا أنْ يكون أحدهما على سَنَن القياس باتفاق، والآخَر على رأيٍ، فيرجح الذي باتفاق.

وكذا أنْ يكون أحدهما على سَنَن القياس قطعًا والآخَر ظنًّا، فيرجح ما كان قطعًا.

الثاني من مجال الترجيح:

أن يكون باعتبار العِلة، وذلك من وجوه:

أحدها: أن يكون مسلكها أقوى وقد سبق ترتيب مسالك العلة، أيْ: طُرُقها الدالة على العِلية، وهي: الإجماع، فالنص، فالظهور، إلى آخِر ما ذكرناه.

كذا نقل في "المحصول"، ثم قال: ويمكن أن يُقدَّم النص على الإجماع؛ لأنَّ الإجماع فرع عن النص يتوقف ثبوته على الأدلة القطعية، والأصل تقديم الفرع على عِلته.

وعلى ذلك جرى صاحب "الحاصل"، ثم البيضاوي.

نعم، إذا استوى النص والإجماع في القَطْع متنًا ودلالةً، كان ما دليله الإجماع راجحًا؛ لما ذكرناه. ودُونهما إذا كانا ظنيين بأنْ كان أحدهما نصًّا ظنيًّا والآخَر إجماعًا ظنيًّا، رجح أيضًا ما كان دليله الإجماع؛ لِمَا سبق من قبول النص النسخ أو التخصيص.

قال الصفي الهندي: (هذا صحيح بشرط التساوي في الدلالة، فإنِ اختلفا فالحق أنه يتبع فيه الاجتهاد، فما يكون إفادته للظن أكثر فهو أَوْلى. فإنَّ الإجماع وإن لم يَقبل النسخ والتخصيص لكن قد تَضْعُف دلالته على المطلوب بالنسبة إلى الدلالة القطعية، فقد ينجبر النقص بالزيادة، وقد لا ينجبر؛ فَيُتبع فيه الاجتهاد)

(1)

.

(1)

نهاية الوصول (8/ 3776).

ص: 2210

وثانيها: أن تكون العلة مقطوعًا بوجودها في أحد القياسين، فيرجح على ما ليس كذلك؛ لأنه أغلب على الظن بصحة القياس.

وفي معنى كون إحداهما مجُمعًا على وجودها كَوْن وجودها أَغْلَب على الظن منها في القياس الآخَر وإنْ كان الظن في الموضعين موجودًا. فالتي هي فيه أغلب أرجح. وسنذكر من ذلك طائفة قريبًا كما فعل ابن الحاجب وغيره مما تُقَرَّر به القاعدة.

وتقدم المنصوصة على المستنبطة، كما في التعليل في بيع الرطب بالتمر بأنه جنس رِبوي بيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان فيها في حال الكمال والادخار، فأَشبه الحنطة بالدقيق مع تعليلهم بوجود التماثل في الحال؛ لأنَّ عِلتنا منصوص عليها في حديث:"أينقص الرطب إذا يبس؟ "

(1)

، فقدمت على المستنبطة.

ثالثها: أن تكون العلة ذات أصل واحد، فترجح على على ذات أصلين فأكثر، خلافًا لقول مَن قال:(إنَّ ما كَثُرَت أصوله أَوْلى). كما قاله ابن السمعاني، وخلافًا لقول بعض أصحابنا: إنهما سواء.

وقال الغزالي في "المستصفى": (إن كان طريق الاستنباط مخُتلفًا فما كثرت أصوله أَوْلى، وإنْ كان متساويًا فهو ضعيف، ولا يبعد أن يقوى ظن مجتهد فيه وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر.

مثاله: إذا تنازعا في أن يد [السوم لم]

(2)

[توجب]

(3)

الضمان، فقال الشافعي: إنَّ عِلته

(1)

سبق تخريجه.

(2)

كذا في (ق، ش)، لكن في (ص، ض): السيد لم. وفي (س، ت): المستام.

(3)

كذا في (س، ت)، وفي (ص، ش): يوجب.

ص: 2211

أنه أخذ لغرض نفسه مِن غير استحقاق و [عداه]

(1)

إلى المستعير. وقال الخصم: بل عِلته أنه أخذ ليتملك.

فيشهد لِعلة الشافعي يد الغصب ويد المستعير من الغاصب، ولا يشهد لِعلة أبي حنيفة إلا يد السوم. ولا يبعد أن يغلب رجحان عِلة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخَر. وكذلك علة الربا بالطعم يشهد له الملح، وإذا عُلِّل بالقوت، لم يشهد له ذلك. فلا يبعد أن يكون مِن المرجحات)

(2)

.

فحصل في المسألة أربعة مذاهب.

والرابع من مُرجحات القياس باعتبار العلة:

أنْ يكون الوصف المعلَّل به في أحد القياسين ذاتيًّا وفي الآخَر حُكميًّا أو اعتباريًّا أو حِكمةً مجردة إنْ عَلَّلْنا بها. فيُقَدم الذاتي؛ لأنها ألزم.

وقيل: التعليل بالحكمي أرجَح. وصححه ابن السمعاني، قال: لأنَّ الحكم بالحكم أَشْبَه به؛ فيكون الدليل عليه أَوْلى.

ونحوه في "المستصفى"، وقال: (إذا كان إحدى العِلتين حُكمًا ككونه حرامًا أو نَجِسًا والآخَر حِسيًّا ككونه [قوتًا]

(3)

أو مُسْكرًا، [إن]

(4)

رَد الحكم إلى الحكم أَوْلى، حتى إنَّ تعليل الحكم بالرق والحرية أَوْلى مِن تعليله بالتمييز والعقل، وتعليله بالتكليف أَوْلى مِن تعليله

(1)

في (ت، س): عزاه.

(2)

المستصفى (1/ 381).

(3)

كذا في (س)، لكن في سائر النسخ: قويا.

(4)

كذا في جميع النُّسخ، لكن عبارة الغزالي في (المستصفى، 1/ 380): زعموا أن.

ص: 2212

بالإنسانية. وهذا مِن المرجِّحات الضعيفة)

(1)

. انتهى

الخامس: إذا كانت إحدى العلتين أقَل أوصافًا والأخرى أكثر أوصافا فالقليلة أَوْلى؛ لأنها أَسْلَم.

وقيل: الكثيرة أَوْلى؛ لأنها أكثر شبهًا بالأصل. والله أعلم.

وقولي: (وَهَكَذَا وَضَحْ) تتمته قولي بعده:

ص:

974 -

مَا بِاحْتِيَاطٍ كانَ في فَرْضٍ، وَمَا

في أَصْلِهَا الْعُمُومُ، أَوْ مَا أُبْرِمَا

975 -

إجْمَاعُ تَعْلِيلٍ، كَذَا الْمُوَافَقَهْ

[لِعِدَّةِ]

(2)

الْأُصُولِ فِيمَا وَافَقَهْ

الشرح:

وهو بيان مرجحات أخرى للقياس من جهة العلة أيضًا.

منها: أن تكون إحدى العلتين تقتضي احتياطًا في الفرض، فتكون أرجح مما لا يقتضي ذلك؛ لأنها أكثر شَبهًا بالأصل. كذا قاله ابن السمعاني في "القواطع"، لكنه عبر بِـ "الغرض" بالغين المعجمة، ونقله ابن السبكي بِـ "الفاء" وجريتُ عليه في النَّظم؛ لكونه أوضح في المقصود.

ومنها: أن تكون إحداهما تقتضي عمومًا في الحكم والأخرى تقتضي خصوصًا.

وذلك كتعليل الربا بالطعم يقتضي العموم في الكثير وفي قليل لا يكال، بخلاف التعليل

(1)

المستصفى (1/ 380).

(2)

في (ش، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): لعدد.

ص: 2213

بالكيل، فإنه مقصور على ما يمكن كيله، ولا يجري في القليل الذي لا يكال.

ومنها: أن تكون إحدى العلتين مأخوذة من أصل وقع الإجماع فيه على أن حُكمه مُعلَّل والأخرى مِن أصل مختلَف في تعليل حُكمه، فالأُولى مقدَّمة.

ومنها: أن تكون العلة في إحدى القياسين موافِقة للأصول الممهدة في الشريعة، فيكون أرجح مما ليس كذلك؛ لشهادة كل مِن تلك الأصول [لاعتبار]

(1)

تلك العلة. والله أعلم.

ص:

976 -

وَسَبَقَ التَّرْتِيبُ في الْمَسَالِكِ

وَسَائِرُ الْأنوَاعِ ذَا لِلسَّالِك

977 -

يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ

يُغْنِي تَتبُّعٌ عَنِ التَّصْرِيحِ

978 -

وَلَيْسَ في الْمُرَجِّحَاتِ حَصْرُ

[غَلَبَةُ]

(2)

الظَّنِّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ

الشرح: هذه الأبيات فيها الاعتذار عن إسقاط كثير من المرجحات التي ذكرها ابن الحاجب والبيضاوي وصاحب "جمع الجوامع" وغيرهم هنا؛ لأنه مستفاد إما من أمر كُلي مذكور هنا أو من السابق في باب الأقيسة في [تراجيحها]

(3)

أو في غير ذلك، كل شيء في بابه، فقد سبق كثير من المرجحات في أبوابها، كترتيب المفاهيم وتقديم الحقيقة الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية، وفي تَعارض ما يُخِل بالفهم، كالمجاز مقدم على الاشتراك، ونحو ذلك، و [كتعارض]

(4)

القول والفعل السابق في "كتاب السُّنة"، وكدخول "الفاء" في كلام الشارع

(1)

في (ق): باعتبار.

(2)

في (ت، س، ش): وغلبة. وبها ينكسر الوزن مع فتح اللام، ويصح الوزن هكذا: وَغَلْبَةُ.

(3)

كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: تراجعها. وفي هامش (س): تراجِمها.

(4)

كذا في (س، ت)، لكن في سائر النسخ: إلى تعارض.

ص: 2214

أو الراوي الفقيه أو غيره، وسبق في مسالك العلة، وكترتيب أنواع المناِسب السابق في فصل "المناسب"، وغير ذلك.

وإلى ذلك أشرفُ بقولي:

يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ

يُغْنِي تَتبُّعٌ عَنِ التَّصْرِيحِ

أي: يغني عن التصريح بها هنا تَتَبُّعها.

نعم، ذكر ابن الحاجب وصاحب "جمع الجوامع" منها طائفة هنا لا بأس بالتعرض لها هنا.

منها: تقديم قياس المعنى على قياس الدلالة، وهو راجع إلى تقديم المناسب على الشبه.

وتقديم غير المركَّب مِن العلل على المركب؛ للاختلاف فيه كما سبق.

والتعليل بالوصف العُرفي على الشرعي؛ لأنَّ العُرفي مناسب والشرعي أَمارة.

والوجودي على العدمي، كالطعم في الربا في السفرجل مع قولهم:(ليس بمكيل ولا موزون). هذا في العلة الوجودية للحُكم الوجودي أو العَدَميين، أما إذا كانت العلة وجودية والحكم عدمي أو بالعكس فقال الإِمام الرازي وأتباعه: إنه مرجوح بالنسبة إلى ما إذا كانا عدميين؛ للمشابهة بين العلة والمعلول.

وتقديم العلة بمعنى الباعث على العلة بمعنى الأمارة. كذا قاله ابن الحاجب.

واعتُرض عليه بأن العلة دائما إما بمعنى الباعث أو الأمارة على الرأيين فيها، أمَّا انقسامها للأمرين فلم يَقُل به أحد. وكأنَّ مراد ابن الحاجب بذلك أنَّ ذات التأثير والتخيل أرجح مِن التي لا يظهر لها [مَعْنى]

(1)

.

(1)

كذا في (ق، ش، تشنيف المسامع 3/ 549)، لكن في (س، رفع الحاجب 4/ 640) معنى فقهي. وفي =

ص: 2215

ومنهم مَن أجاب عنه بغير ذلك.

وكذلك تُقدَّم المطردة المنعكسة على التي لا تنعكس؛ لأنَّ الأُولى أغلب على الظن.

وتُقَدَّم أيضًا المطردة فقط على المنعكسة فقط؛ لأنَّ اعتبار الاطراد مُتفَق عليه.

وتقدم المتعدية على القاصرة. ومنهم مَن قال بعكسه، كالأستاذ. وقال القاضي: هما سواء. واختاره ابن السمعاني.

وحكى إمام الحرمين الأقوال الثلاثة، وهي عندنا لا تقع؛ لأنه مِن باب اجتماع علتين [لِحُكم]

(1)

، ومَن قال:(يجوز تَعَدُّد العِلَل) فلا معارضة؛ فلا ترجيح، ومَن منع هُم الذين اختلفوا.

وكذا يُقدَّم مِن العلل ما كان أكثر فروعًا، ومَن رجح المتعدية يرجح بذلك، ومَن لا فلا.

نعم، لو كانت قليلة الفروع لها نظائر فهل يرجح بذلك؟ فيه نظر، وقد عقد الإِمام لها مسألة.

أما الترتيب في التعاريف فقد سبق أول المقدمة، فيقدم التعريف بالذاتي على التعريف بالعرضي والأعرف عند السامع وغير ذلك.

وقولي: (وَلَيْسَ في الْمُرَجِّحَاتِ حَصْرُ) إشارة إلى أن باب الترجيح متسع، وليس للمرجحات حصر يطمع فيها، وإنما مدارها على غَلَبة الظن، فما يكون من الحكم فيه الظن أغلب يكون مُقدَّمًا على ما ليس كذلك. والله أعلم.

= سائر النُّسخ: معنى قياسهم.

(1)

كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: بحكم.

ص: 2216

الباب الرابع

في

" المستفيد "(وهو المجتهد) و" مُقَلِّده "

ص: 2217