الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في " المستفيد "(وهو المجتهد) و" مُقَلِّده
"
هذا آخِر أنواع أصول الفقه الثلاثة بالمعنى اللقبي، وهو "حال المستفيد"، وهو:
- إما المجتهِد، وهو المستفيد مِن أدلة الفقه.
- وإما المستفيد منه، وهُم المقلِّدون.
فالكلام فيه في أمرين: الاجتهاد، والتقليد.
ص:
979 -
"الِاجْتِهَادُ": الْبَذْلُ في تَحْصِيلِ ظَنْ
…
حُكْمٍ؛ لِوُسْعٍ مِنْ فَقِيهٍ قَدْ فَطَنْ
الشرح:
"الاجتهاد": افتعال مِن "الجُهد" بالضم وهو الطاقة، سُمي بذلك لاستفراغ القوة والطاقة في تحصيل المطلوب، فهو بذل الوسع فيما فيه كُلفة.
وهو في الاصطلاح: بذل الومح من الفقيه في تحصيل ظن بحكم شرعي.
ومعنى "بذل الوسع": استفراغ القوة بحيث تحس النفْس بالعجز عن زيادة، وهو جنس.
وكَوْن ذلك مِن الفقيه قَيْدٌ مخُرج للمقلِّد. والمراد: ذو الفقه. وقد سبق أول الكتاب تفسيره.
وقولنا: (لتحصيل ظن) احتراز مِن القَطْع، فإنه لا اجتهاد في القطعيات.
وقولنا: (بحكم شرعي) مخُرج للحسيات والعقليات ونحو ذلك. كذا قيد ابن الحاجب وغيره الحكم بالشرعي، ولم أُقيده في النَّظم تبعًا لِ "جمع الجوامع"؛ للاستغناء عنه بذكر الفقيه؛ فإنه لا يتكلم إلا في الحكم الشرعي.
نعم، أورد عليه اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسمى في العُرف "فقيهًا"؛ [لعدم]
(1)
الإذن فيه، إلا أنْ يقال: المراد بِالْحَدِّ اجتهاد الفقيه، لا مُطْلَق الاجتهاد.
وقال الماوردي: بذل المجهود في طلب المقصود.
واعلم أن ابن أبي هريرة حكى عن الشافعي أنَّ الاجتهاد هو القياس.
وليس كذلك؛ فإنه إنما قال في "الرسالة": معنى الاجتهاد معنى القياس. أي: إنَّ كُلًّا منهما موصل لحكم غير منصوص.
قلتُ: وأَحسن مِن هذا أن الشافعي رضي الله عنه إنما قصد تفسير حديث معاذ: "أجتهد رأيي"
(2)
، فإنَّ المراد بذلك القياس؛ ولهذا ينصبونه من أدلة القياس، لا أنْ يكون ذلك تفسيرًا للاجتهاد مِن حيث هو. والله أعلم.
ص:
980 -
ثُمَّ "الْفَقِيهُ": الْبَالِغُ الَّذِي لَهْ
…
عَقْلٌ، وَذَا مَلكَةٌ مَعْقُولَه
981 -
بِهَا الْعُلُومَ مُدْرِكٌ صَاحِبُهَا
…
"فَقِيهُ نَفْسٍ" فَسَّرُوهُ إذْ بَهَا
(1)
في (ق، ش): ولعدم.
(2)
سبق تخريجه.
982 -
بِأَنَّهُ [الْعَارِفُ]
(1)
بِالدَّلِيلِ
…
عَقْلِيِّهِ بِالْحَقِّ في التَّأْصِيلِ
983 -
كَذَا بِتَكْلِيفٍ بِهِ ذُو دَرَجَهْ
…
وُسْطَى بِمَا مِنَ الْعُلُومِ أُدْرِجَهْ
984 -
مِنْ لُغَةٍ وَعَرَبِيَّةٍ، كذَا
…
بَلَاغَةٌ مَعَ أُصُولٍ تُحْتَذَى
985 -
وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ
…
مِنْ آيِ قُرْآنٍ لَهُ [إحْكَامُ]
(2)
986 -
وَالسُّنَّةِ الْغَرَّا وَإنْ لَمْ يَكُنِ
…
حَافِظَ مَتْنٍ مِنْهُمَا مُبَيَّنِ
987 -
هَذَا الَّذِي لَهُ يَصِيرُ مَلَكَهْ
…
لِكَوْنِهِ مَارَسَهُ وَعَلَكَهْ
الشرح:
لما وقع في تعريف "الاجتهاد" أنه مِن فقيه وسبق أول الكتاب معنى "الفقه"، بينتُ هنا ما يُشترط في الفقيه زيادة على اتصافه بالفقه مما لا يتحقق كونه متصفًا به إلا بتلك الشروط.
فمنها: أن يكون بالغًا؛ لأنَّ الصبي ليس بكامل آلة العِلم حتى يتصف بمعرفة الفقه على وَجْهها، ولذلك كان البلوغ مناط التكليف، ومَن دُونه مرفوع عنه القلم؛ لهذا المعنى.
ومنها: أن يكون عاقلًا؛ لأنَّ مَن لا عقل له، لا يُدرك عِلمًا، لا فِقهًا ولا غيره.
ثُم استطردتُ في تعريف العقل، وإنما ذكرته هنا وإنْ سبق أول المقدمة أنَّ من شروط التكليف العقل؛ لشدة تَعلُّقه بِدرك العلوم التي يُحتاج إليها في الاجتهاد، حتى قيل: إنه نفس العلم. كما سيأتي.
فالعقل مَلكَة يدرك بها العلوم. والمراد بالملكة: هيئة راسخة في النفْس.
فقولي: (مَعْقُولَهْ) صفة لِ " مَلَكَة ". أي: مفهومة.
(1)
في (ص، ض، ت): الفارق.
(2)
كذا في (س، ش، ن 1، ن 2). لكن في (ن 5): أحكام. وفي سائر النُّسَخ: أحكام.
وقولي: (بِهَا) متعلق بِ "مُدْرك". و"الْعُلُومَ" مفعول مقدَّم، والتقدير:"مدرك صاحبها بها العلوم". وهو معنى مَن فسر العقل بأنه قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق [المعلومات]
(1)
.
وقيل: بل العقل نفس العلم. وهو قول الأشعري، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أهل الحق، وأنهم قالوا بِترادُف العِلم والعقل وإنِ اختلف الناس في العقول لكثرة العلوم وقِلَّتها.
وقيل: العقل بعض العلوم الضرورية. وهو قول القاضي أبي بكر، وبه قال جمعٌ مِن أصحابنا كابن الصباغ وسليم الرازي. فخرجت العلوم الكَسْبِيَّة؛ لأنَّ العاقل يتصف بكونه عاقلًا مع انتفاء العلوم النظرية. وإنما قالوا:(بعض العلوم الضرورية) لأنه لو كان جميعها لَوَجَب أنْ يكون الفاقد لِلعِلم بالمدركات -لِعَدم الإدراك [المعلّق]
(2)
عليها- غيرَ عاقل.
قال القاضي عبد الوهاب: فقلتُ للقاضي أبي بكر: أفتخص هذا النوع من الضرورة بوصف؟ فقال: يمكن أن يقال: ما صح معه الاستنباط.
ونقل القشيري عنه في "المرشد" أنه قال: لا أُنكر ورود العقل في اللغة بمعنى العِلم، فإنهم يقولون: عقله وعلمه بمعنى. ولكن غرضي أن أُبَيِّن العقل الذي رُبِط به التكليف.
قلت: قال الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين" بعد أن حكى أقوالًا في تعريفه -أحدها: إنه جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات، وهؤلاء اختلفوا في محله: هل هو القلب؟ أو الرأس؟ وثانيها: العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه مِن حقائق المعنى. وثالثها قول المتكلمين: هو جملة العلوم الضرورية- ما نَصه:
(1)
كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: العلوم.
(2)
في (ق): المتعلق.
(وقال آخرون وهو الصحيح: إنَّ العقل هو الِعلم بالمدْركات الضرورية)
(1)
. انتهى
والكلام فيه متسع لا نُطَوِّل به، ففيما قُلناه كفاية.
وقولي: (فَقِيهُ نَفْسٍ) إشارة إلى أن الفقيه الذي اتصف بهذه الأوصاف وبصفة الفقه حتى صار بذلك مجتهدًا ليس المراد به أن يحفظ الفقه، بل يكون فقيه النفس، أي: له قدرة على استخراج أحكام الفقه مِن أدلتها كما يُفْهم ذلك مِن تفسير "الفقه" في أول الكتاب بأنه "العِلم بالأحكام الشرعية الفرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، فَتَضمَّن ذلك أنه لا بُدَّ أن يكون عنده سجية وقوة يَقْتدِر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد، فإنَّ ذاك ملاك صنعة الفقه. فلذلك قال الأستاذ أبو إسحاق: إنَّ مَن اتصف بالبلادة والعجز عن التصرف لم يكن مِن أهل الاجتهاد.
وما أحسن قول الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها، فليس بفقيه. حكاه الهمداني في "طبقات الحنفية".
واعلم أن التعبير بِ "فقيه النفس" ربما يُفْهَم منه الإشعار بأنَّ مُنكر القياس لا يُعَد مجتهدًا ولا يُعتبر وفاقه أو خِلافُه في الإجماع. وهو ما عليه القاضي وإمام الحرمين، وقالا: إنهم في الشرح كمنكري البداية في العقول.
ولكن ظاهر كلام أصحابنا في الفروع أنهم مجتهدون ومُعْتَدٌّ بخلافهم ووفاقهم؛ ولهذا يذكر الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهم خِلافَهم في كتب الفقه، ويُحاججونهم.
وثالثها: إن أنكروا القياس الجِلي لم يُعتد بهم، وإلا اعْتُد. وهو ظاهر كلام ابن الصلاح وغيره، وهو المختار.
(1)
أدب الدنيا والدين (ص 6 - 7)، ط: دار الكتب العلمية.
وقال الأبياري في "شرح البرهان": إن كانت المسألة مما يتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي وليس للقياس فيها مجال فلا يصح أن ينعقد الإجماع دُونهم إلا على قول مَن يرى أنَّ الاجتهاد قضية واحدة لا تتجزأ. فإنْ قُلنا بالتجزيء فلا يمتنع أن يقع النظر في نوع هُم فيه محققون.
وقولي: (وفَسَّرُوهُ إذْ بَهَا) هو بفتح الباء مِن "بَها"، وهو فِعل ماضٍ من "البهاء" وهو العُلو. أي: فسروا فقيه النفس عندما يكون بهيًّا عالي المرتبة بذلك بأنه العارف بالدليل العقلي في الأحكام، وهو البراءة الأصلية كما قاله الإمام والغزالي، والعارف بأنه مكلَّف به حتى يَرِد دليل ناقل عنه مِن نَص أو إجماع أو غيرهما.
قال الهندي: (ولم يذكرا فيه القياس، فإنْ كان ذلك لِتفرُّعه عن الكتاب والسُّنة فينبغي أن لا يذكر الإجماع و [العقلي]
(1)
-وهو البراءة الأصلية- وإنْ كان لأنه ليس بمدْرَك فيشكل عليهما أنه حُجة كغيره مِن الحجج. فينبغي أن يكون المجتهد عارفًا به أيضًا وبأنواعه وأقسامه وشرائطه المعتبرة وطُرق عِليته)
(2)
.
قلت: وذلك أن الفقه لما كان معرفة الحكم الشرعي مِن دليله التفصيلي وكان ذلك الدليل التفصيلي لا يخرج عن هذين الدليلين: العقلي، وما يأتي من النقل مُزِيلًا له كما سيأتي تفصيله مِن بَعْد، اعتُبِر ذلك في فقيه النفس.
وقولي: (بِالْحَقِّ في التَّأْصِيلِ) إشارة إلى أن العقل هو ما سبق في تفسيره، فإنه هو الحق في تأصيله، [أيْ]
(3)
: جعله أصلًا من أصول الفقه لا أن المراد بالعقلي ما يُحَسِّنه العقل أو
(1)
كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: العقل.
(2)
نهاية الوصول (8/ 3828).
(3)
كذا في (ش، س)، لكن في سائر النسخ: ان.
يُقَبِّحه، فإنَّ ذلك إنما هو رأي المعتزلة. وقد سبق أنه باطل لا يعتبر في الفقه ولا في غيره عند أهل السُّنة.
وقولي: (ذُو دَرَجَهْ وُسْطَى) إلى آخره -بيان أن فقيه النفس يُعتبر فيه معرفة الأدلة الرافعة للدليل العقلي الذي بَيَّنا أنه البراءة الأصلية، وذلك ما يَرِد من الكتاب والسُّنة وغيرهما مما يتفرع عنهما وما يتوقف الاستدلال بذلك عليه.
وأشرتُ بقولي: (وُسْطَى) أنه لا يُشترط أن يكون المجتهد عالي الدرجة في هذه الأمور، فإنها أمور واسعة لا يتسلط على مِثله غالبًا إلا مِثل الخليل والأصمعي وسيبويه والكسائي. أما الاستيعاب فلا يمكن كما قال الشافعي: إنه لا يحيط بها إلا نبي. وذلك أنه كله وسيلة إلى العمل من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية كما عُلِم ذلك من تفسير "الفقه"، فيكون في الدرجة الوسطى من معرفة لغة العرب؛ لأنَّ الكتاب والسُّنة عربيان.
وقولي: (وَعَرَبِيَّةٍ) من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ العربية تشمل اللغة والنحو والتصريف ونحو ذلك.
وقولي: (كَذَا بَلَاغَةٌ) أي: كذلك عِلم البلاغة، وهو المعاني والبيان والبديع، لأنه وإن كان داخلًا في عِلم العربية إلا [أني]
(1)
أردتُ [التصريح]
(2)
به؛ لئلَّا يُظَن خروجه عنها.
وإنما اعتبر ذلك؛ لأنَّ الكتاب والسُّنة في الذروة العُليا من الاعجاز، [فلا بُدَّ]
(3)
من معرفة طُرق الاعجاز وأساليبه ومواقعه؛ ليتمكن من [الاستنباط]
(4)
. فيكفي معرفة أوضاع
(1)
كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: ان.
(2)
كذا في (ق)، لكن في (ش): التعريف. وفي سائر النسخ: النوع.
(3)
كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: فذلك.
(4)
في (ق): الاستنباط ونحو ذلك.
العرب بحيث يميِّز العبارة الصحيحة من الفاسدة والراجحة من المرجوحة، فإنه يجب حَمْل كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما هو الراجح وإنْ جاز غيره في كلام العرب.
لكن قال الأستاذ: إن الحروف التي تختلف عليها المعاني يجب فيها التبحُّر و [الكلام]
(1)
، وإنما [التوسط]
(2)
فيما عداها. قال: وأما اللغة فيجب فيها الزيادة على التوسط؛ حتى لا يشذ عنه المستعمل في الكلام في غالب اللغة.
وقولي: (مَعَ أُصُولٍ تُحْتَذَى) أي: يعتبر في فقيه النفس أيضًا أن يكون عارفًا بالأصول، والمراد: أصول الفقه. أي: الدرجة الوسطى من ذلك أيضًا؛ لأنَّ به يعرف كيفية الاستنباط.
وقولي: (وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ) أي: يعتبر في فقيه النفس معرفة نفس الأدلة التي يستخرج منها أحكام الفقه. وقد سبق أن أدلة الفقه: الكتاب والسُّنة وما تفرع عنهما. وليس المراد أن يعرف سائر آيات القرآن وأحاديث السُّنة، وإنما المراد معرفة ما يتعلق بالأحكام منهما، وقد ذكروا أن الآيات خمسمائة آية، وكأنهم أرادوا ما هو مقصود به الأحكام بدلالة المطابقة، أما بدلالة الالتزام فغالب القرآن -بل كله- لا يخلو شيء منه عن حُكم يستنبط منه.
قالوا: ولا يُشترط حِفظها، بل يشترط أن يكون عارفًا بمواضعها حتى يَطلب منها الآية التي يحتاج إليها عند حدوث الواقعة.
وكذلك لا بُدَّ أن يعرف أحاديث الأحكام، أي: يعرف مواضعها وإنْ لم يكن حافظًا لمتونها كما قُلنا في آي القرآن.
(1)
كذا في جميع النسخ، وعبارة الزركشي في (تشنيف المسامع، 4/ 569): (فأما الحروف التي يختلف عليها المعاني فيجب فيه التبحر والكمال، ويُكتفَى بالتوسط فيما عداها).
(2)
في (ت): هو التوسط.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (هو مَن تكون هذه العلوم مَلَكَة له وأحاط بمعظم قواعد الشرح ومارسها بحيث اكتسب قوة يَفهم بها مقصود الشارع)
(1)
.
وهذا معنى قولي: (هَذَا الَّذِي لَهُ يَصِيرُ مَلَكَهْ) إلى آخره. والله أعلم.
ص:
988 -
أَمَّا الَّذِي يَكُونُ في إيقَاعِ
…
لِلاجْتِهَادِ لَا بِوَصْفٍ دَاعِ
989 -
فَعِلْمُهُ مَوَاقِعَ الْإجْمَاعِ
…
خَشْيَةَ أَنْ يَخْرِقَ بِالنِّزَاعِ
الشرح:
ما سبق فيما يُعتبر في المجتهد هو فيه مِن حيث هو، أما عند وقوع الاجتهاد في مسألة فَلَهُ شروط أخرى زيادة على ذلك، وهو معنى قولي:(لَا بِوَصْفٍ دَاعِ). أي: ليست صفة مشترطة في المجتهد كما في الصفات التي سبق اعتبارها فيه؛ ولذلك جعلها الغزالي متممة للاجتهاد ولم يُدْرِجها في شروطه الأصلية.
وصرح الشيخ تقي الدين السبكي بأنها شروط لإيقاع الاجتهاد واستعماله، لا صفة راجعة إليه.
فمنها: أنْ يَعْرف مواقع الإجماع؛ حتى لا يفتي بخلافه فيكون خارقًا له بمنازعته فيما أجمعوا عليه.
وينبغي أن يعرف أيضًا كلام الصحابة وفتاويهم؛ ليعتمد الأقوى، لاسيما إذا قُلنا: إنَّ قولهم حُجة مطلقًا أو حيث مَيَّز الشرح بعضهم كما سبق.
(1)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 8).
ولا يَلزمه ذلك إلا في الموضع الذي يفتي فيه، لا أنه يَعرف جميع مواقع الإجماعات في ذلك وفي غيره. والله تعالى أعلم.
ص:
990 -
كَذَاكَ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
…
وَسَبَبِ النُّزُولِ في الرُّسُوخِ
991 -
وَمُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ وَمَا
…
يَصِحُّ أَوْ يَضْعُفُ مِمَّا قُدِّمَا
992 -
وَحَالِ رَاوٍ لِحَدِيثٍ أَوْ أَثَرْ
…
وَمَا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ مِنْ سِيَرْ
993 -
نَعَمْ، بِوَقْتِنَا الرُّجُوعُ كَافِي
…
فِيهِ لِأَهْلِ فَنِّهِ الْمُوَافِي
الشرح:
أي: ومما يُعتبر أيضًا في إيقاع الاجتهاد أن يعرف الناسخ والمنسوخ فيما يستدل به على تلك الواقعة التي يفتي فيها مِن آية أو حديث؛ حتى لا يستدل به إنْ كان منسوخًا. ولا يُشترط أن يَعرف جميع الناسخ والمنسوخ في سائر المواضع كما سبق نظيره في الإجماعات.
ومنه أيضًا: أنْ يعرف أسباب النزول في الآيات وأسباب قوله صلى الله عليه وسلم الأحاديث؛ ليعرف المراد من ذلك وما يتعلق به من تخصيص أو تعميم.
ومنه: أن يعرف أيضًا شرط المتواتر والآحاد؛ ليقدِّم ما يجب تقديمه عند التعارض.
ومنه: أنْ يعرف الصحيح من الحديث والضعيف سندًا ومتنًا؛ ليطرح الضعيف حيث لا يكون في فضائل الأعمال، ويطرح الموضوع ونحوه مطلقًا.
ومنه: أن يعرف حال الرواة في القوة والضعف؛ ليعلم ما ينجبر من الضعف بطريق آخَر وما لا ينجبر.
وقولي: (نَعَمْ، بِوَقْتِنَا) إلى آخِره -الإشارة به إلى ما قاله الشيخ أبو إسحاق والغزالي
وغيرهما: إنه يكفي التعويل في هذه الأمور كلها في هذه الأزمان على كلام أئمة الحديث كأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والدارقطني ونحوهم؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم كما نأخذ بقول المقَوِّمين في القِيَم، لاسيما إذا قُلنا بقول ابن الصلاح ومَن تبعه أنَّ التصحيح في زماننا فيما يُروى في الأجزاء الحديثية ونحو ذلك لا يمكن وإنْ خالفه النووي وقال:(إنه ممكن) كما سبق في محله. والله أعلم.
ص:
994 -
وَلَيْسَ عِلْمُهُ الْكَلَامَ شَرْطَا
…
وَلَا تَفَارِيعٌ لِفِقْهٍ ضَبْطَا
995 -
وَلَا ذُكُورَةٌ وَلَا حُرِّيَّهْ
…
وَلَا عَدَالَةٌ مَعَ السَّجِيَّهْ
996 -
وَينْبَغِي الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ
…
وَعَنْ قَرِينَةٍ لِلَفْظٍ عَارِضِ
الشرح:
هذه أمور أخرى ربما يُتوهم أنها شروط في المجتهد ولكنها ليست بشرط.
منها: معرفته عِلم الكلام، أي: عِلم أصول الدِّين. كذا قاله الأصوليون، ولكن قال الرافعي:(إن الأصحاب عدوا مِن شروط الاجتهاد معرفة أصول العقائد)
(1)
.
والجمع بين الكلامين ما أشار إليه الغزالي حيث قال: (وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا يُشترط معرفتها على طريق المتكلمين وبأداتهم التي يُحررونها)
(2)
. انتهى
على أنَّ بعض المتأخرين قال: إنه لم يجد في كلام الأصحاب ذِكر اشتراط ذلك.
(1)
العزيز شرح الوجيز (12/ 417).
(2)
المستصفى (1/ 343).
ومنها: معرفة تفاريع الفقه لا يشترط؛ لأنَّ المجتهد هو الذي يُولدها ويتصرف فيها. فلو كان ذلك شرطًا فيه، لَلَزِمَ الدَّوْرُ؛ لأنها نتيجة الاجتهاد؛ فلا يكون الاجتهاد نتيجتها.
والخلاف في ذلك منقول عن الأستاذ أبي إسحاق، فَشَرَطَ في المجتهد معْرفة الفقه.
قيل: ولَعَلَّه أراد ممارسته. وإليه مال الغزالي، فقال:(إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة الفقه، فهو طريق تحصيل الدُّرْبة في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمن الصحابة ذلك)
(1)
.
ومنها: لا يُشترط في المجتهد أن يكون ذَكرًا ولا حُرًّا ولا عَدْلًا، بل يجوز أن يكون امرأةً ورقيقًا وفاسقًا.
نعم، لا يُستفتَى الفاسق ولا يُعمل بِقَوله، بخلاف المرأة والرقيق. فالعدالة شرط في المفتي، لا في المجتهد؛ لأنَّ المفتي أَخَص، فشروطه أغلظ.
أما مستور العدالة فيجوز فتواه محلى أصح الوجهين في "شرح المهذب"؛ لأنَّ العدالة الباطنة تَعْسر معرفتها محلى غير القضاة. والخلاف فيه كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين.
أما الحاكم فأَخَص في [المرتبة]
(2)
مِن المفتي، فيُشترط فيه زيادة محلى شروط المفتي: الحرية والذكورة؛ لِما تَضمنه الحكم مِن الإلزام.
و[لذلك]
(3)
يشترط أيضًا عدم الاتهام كما فُصِّل في الفقه، وأنه إنما يحكم حيث يشهد.
قال الغزالي: هي شرط في اعتماد قوله، أما هو فيجتهد لنفسه ويعمل باجتهاده.
(1)
المستصفى (ص 344).
(2)
كذا في (ق، ش)، لكن في (ت، ض): الرتبة.
(3)
في (ت): كذلك.
وقيل: يُشترط في المجتهد العدالة حتى إذا أداه اجتهاده إلى حُكم لا يأخذ به مَن علم صِدقه بقرائن. [وقد]
(1)
حكى الروياني وجهين في أنه هل تجوز مباحثة الفاسق؟ وقد سبقت المسألة في كتاب الإجماع.
وقال السمعاني: (يشترط أن لا يكون المجتهد متساهلًا في أمر الدِّين، فإنه إذا كان كذلك فهو لا يستقصي في النظر والدلائل؛ فلا يصل إلى المقصود).
قال: (فما ذكره الأصحاب مِن أنه لا يُشترط العدالة يجوز أن يكون مرادهم ما وراء ذلك)
(2)
.
وقولي: (وَينْبَغِي الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ) أي: يُشترط في المجتهد أن يبحث عن مُعارِض ذلك الحكم أو الدليل.
كذا في "المحصول" وغره هنا، وقد سبق منهم في "باب التخصيص" أنه يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصِّص، وسبق أنه يتعدى إلى كل معارِض كالبحث عن الناسخ وعن المجاز وكُل معارِض.
وجوابه: أنَّ ذاك في جواز التمسك بالظاهر المجرد عن القرائن، والكلام هنا في اشتراط معرفة المعارِض بَعد ثبوته عنده بقرينة دَلَّت عليه، فيبحث عن تحقيقه.
وفي معنى البحث عن المعارِض البحث عن اللفظ هل معه قرينة تُخرجه عن ظاهره؟ فإذا لم نجد قرينة، عُمِل بالظاهر. ولكن هذا في الحقيقة مِن البحث عن المعارِض؛ فلذلك اكتفيتُ به في النَّظم وإنْ كان في "جمع الجوامع" ذكر الأمرين معًا. والله أعلم.
(1)
في (ق، ش): بل.
(2)
قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 307).
ص:
997 -
وَدُونَ ذَا: مُجْتَهِدٌ في الْمَذْهَبِ
…
ذُو قُدْرَةِ التَّخْرِيجِ لِلْمُسْتَوْجِبِ
998 -
مِنَ الْوُجُوهِ، أَيْ: عَلَى نُصُوصِ
…
إمَامِهِ، وَدُونَ ذَا التَّنْصِيصِ
999 -
مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا الَّذِي تَبَحَّرَا
…
حَتَّى عَلَى التَّرْجِيحِ فِيهِ قَدَرَا
الشرح:
أي ما سبق من الشروط في الاجتهاد إنما ذلك في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرح، وقد انقطع الآن، وسيأتي في "باب التقليد" ما في ذلك من الخلاف.
وأما مجتهد المذهب وهو مَن ينتحل مذهب إمام من الأئمة فلا يُعتبر فيه إلا ما سنذكره، وهو أن يعرف قواعد ذلك الذهب وأصوله ونصوص صاحب المذهب بحيث لا يشذ عنه شيء من ذلك. فإذا سُئل عن حادثة فإنْ عرف نَصًّا لصاحب الذهب فيها، أجاب به، وإلا اجتهد فيها على مذهبه وخَرَّجها على أصوله.
قال ابن أبي الدم: (وهذا أيضًا منقطع في زماننا).
فهذه المرتبة دُون مرتبة الاجتهاد المطلق.
ومرتبة ثالثة دُون الثانية وهي مَرتبة مجتهد الفتيا، أي: الذي يسوغ له الفتيا على مذهب إمامه الذي هو مُقَلده، فلا يُشترط فيه ما يُشترط في مجتهد المذهب، بل يُعتبر فيه أن يكون متبحرًا في الذهب متمكِّنًا مِن ترجيح قولٍ علَى قولٍ.
وهذا أدنى المراتب، ولم يَبْقَ بعده إلا العامي ومَن في معناه. والله تعالى أعلم.
ص:
1000 -
وَجَائِزٌ تَجَزُّؤُ اجْتِهَادِ
…
بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ
الشرح:
أي: هل يجوز أنْ ينال امرؤ مَنْصب الاجتهاد في بعض المسائل دُون بعض فيحصل له [شيئًا]
(1)
هو مناط الاجتهاد فيها؟ الأكثرون على أن ذلك جائز؛ إذْ لو لم يتجزأ لَزِمَ أن يكون عالِمًا بجميع الجزئيات وهو محُال. وقد سُئل كل مِن الأئمة الأربعة عن مسائل فأجاب بأنه لا يَدري كما ذكرنا ذلك عن مالك في أول الكتاب في تعريف "الفقه".
وأجيب عن قول الأئمة ذلك بأنَّ العلم بجميع المآخِذ لا يوجِب العلم بجميع الأحكام، بل قد يجهل البعض؛ لِتَعارض الأدلة فيه، وبالعجز عن [المبالغة]
(2)
في الحال إما لمانع يُشَوِّش الفِكر أو نحو ذلك. وأما النافي لجواز التجزؤ فاستدل بأنَّ كل ما يُفْرض أن يكون قد جَهِله يجوز تَعلُّقه بما يُفرض أنه يجتهد فيه.
وأجيب: بأنَّ الفَرْض أنَّ ما يحتاج إليه في تلك المسألة كُله موجود في ظنه.
وليس في كلام ابن الحاجب ترجيح [شيء]
(3)
من الأمرين إذْ ذكر استدلال كل منهما وأجاب عنه.
واعلم أن عبارة الرافعي في المسألة: (يجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دُون باب، فالناظر في مسألة "المشتركة" يكفيه مَعرفة أصول الفرائض، ولا يضره أن لا
(1)
كذا في (ص، س، ت)، لكن في (ق، ش): ما.
(2)
كذا في جميع النسخ، وعبارة السبكي في (رفع الحاجب، 4/ 532): (المبالغة في النظر).
(3)
في (ق، ش): لشيء.
يَعرف الأخبار الواردة في تحريم المسْكِر مَثلًا)
(1)
. انتهى
وهو يُفهم أن الخلاف في المسألة فيما إذ عرف بابًا دُون باب، أما مسألة دُون مسألة فلا يتجزأ قَطْعًا؛ لشدة ارتباط مسائل الباب بعضها ببعض وتَباعُد ارتباط مسائل بابَيْن مختلفين.
وقد يقال: الظاهر أن الخلاف جارٍ مطلقًا، إلا أنه لَمَّا كان في البابين أقوى مِن الباب الواحد تَعَرَّض الرافعي لذلك فيه.
تنبيه:
قال بعض علمائنا: الاجتهاد على ثلاثة أقسام: فرض عين، وفرض كفاية، ومندوب.
الأول ضربان: اجتهاده في حَق نفسه عند نزول الحادثة به، واجتهاده فيما تَعَيَّن عليه الحكم فيه. فإنْ ضاق فرض الحادثة، كان على الفور، وإلا فَعَلَى التراخي.
والثاني ضربان أيضًا:
أحدهما: إذا نزلت نازلة والمفتون متعددون فسُئلوا عنها، فإنْ أجاب واحد، سقط الفرض عن الباقين وإلا أَثِمَ الكل.
نعم، يشْكل هنا شيء وهو أن أصحابنا حكوا وجهين فيما إذا كان هناك مُفْتٍ غير الذي سُئل الإفتاء في مسألة، هل يأثم بالرد؟ أوْ لا؟ أصحهما: لا.
وحكوا وجهين فيما إذا كان في الواقعة شهود يحصل الغرضُ ببعضهم، أصحهما: وجوب الإجابة عند طلب الأداء منه، فَيَتَعَيَّن الفَرْض بالطلب.
قلتُ: ولَعَلَّ الفَرق أنَّ الفتوى تحتاج إلى نظر وفِكر، والمشَوِّشات كثيرة، بخلاف الشهود، فإنه لا يُحتاج فيهم إلى ذلك، وأمر الافتاء عظيم.
(1)
العزيز شرح الوجيز (12/ 417).
قال النووي في "شرح المهذب": (روينا عن السلف وفضلاء الخلف في التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة، منها: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيَرُدها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع للأول. وفي رواية: ولا يستفتى عن شيء إلا وَدَّ أنَّ أخاه كَفاه. وعن عطاء بن السائب: أدركتُ أقوامًا يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم فيه وهو يرْعَد).
ثانيهما: إنْ تَردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر، فيكون فَرْض الاجتهاد مشتركًا بينهما. فأيهما تَفَرَّد بالحكم فيه، سقط فَرْضُه عنهما.
والثالث أيضًا ضربان: ما يجتهد فيه العالم مِن غير النوازل؛ لِيَعلم حُكمه قبل أن يقع، وما يُسأل فيه عن حُكم حادثة قبل نزولها. والله أعلم.
فروع:
1001 -
يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَا
…
وَهْوَ مُصِيبٌ، لَيْسَ يُخْطِي أَبَدَا
1052 -
وَوَاقِعٌ هَذَا كَمَا قَدْ أُثِرَا
…
وَغَيْرِهِ في عَصْرِهِ مِنْ أُمَرَا
1503 -
وَغَيْرِهِمْ في بُعْدٍ اوْ في قُرْبِ
…
وَرُوِيَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَا الضَّرْبِ
الشرح: هذه فروع مَبنية على ما سبق في معنى الاجتهاد وشروطه.
أحدها: هل كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متعبدًا بالاجتهاد؟
والكلام فيه في أمرين:
أحدهما: هل يجوز ذلك؟ أو لا؟ والثاني: هل وقع؟ أو لا؟
الأول:
فيه مذاهب:
أصحها وهو قول الجمهور وعليه الشافعي وأكثر الأصحاب وأحمد والقاضي أبو يوسف وعبد الجبار وأبو الحسين: الجواز. وهو مقتضَى كلام الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي. قال ابن الحاجب: إنه المختار.
وقال الواحدي في "البسيط": إنه مذهب الشافعي. وعداه إلى سائر الأنبياء. قال: ولا حُجة للمانع في قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [يونس: 15]؛ فإنَّ القياسَ على النصوص بالوحي اتِّباعٌ للوحي.
الثاني: وهو قول أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم: امتناع ذلك. وظاهره أنه امتناع شرعي. وشذ قوم فقالوا: يمتنع عقلًا. وحكاه القاضي كما في "التلخيص" لإمام الحرمين.
والثالث: حكاه في "المحصول": إنه يجوز فيما يتعلق بالحروب دُون غيرها.
الرابع: ونقله في "المحصول" أيضًا عن أكثر المحققين: التوقف في الأقوال الثلاثة.
دليل المرجَّح: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وهو مِن أعظم الناس بصيرة، بل هو سيد أُولي الأبصار؛ فيكون مأمورًا بالقياس.
وأيضًا: فالعمل بالاجتهاد أَشَق على النفس لأجْل بذل الوسع؛ فيكون أكثر ثوابًا، فلا يكون ذلك حاصلًا لبعض الأُمة وهو صلى الله عليه وسلم لا يحصل له.
ولا حُجة للمانع في نحو: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4 - 3]؛ لأنه إذا كان مأمورًا به، لم يكن هوى ولم يخرج عن كونه وَحيًا. وسبق عن الواحدي أنه قال: لا حُجة للمانع في: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [يونس: 15].
وأما تأخيره في الوقائع الجواب أو الحكم انتظارًا للوحي فلا دليل فيه أيضًا على المنع؛ لجواز أن يكون ذلك حتى ييأس مِن النص المغْني عن الاجتهاد لا لامتناع الاجتهاد، أو حتى يجد نضًّا يقيس عليه، أو أنَّ الأمر فيه فسحة وغيره أَهم منه، أو نحو ذلك.
الثاني: وهو الوقوع:
فيه أيضًا مذاهب:
أصحها: أنه وقع. واختاره الآمدي وابن الحاجب، وهو مقتفَى كلام الإمام الرازي وأتباعه في الاستدلال بالوقائع.
وقولي: (وَهْوَ مُصِيبٌ، لَيْسَ يُخْطِي أَبَدَا) إشارة إلى أن مَن يقول بأنه صلى الله عليه وسلم يجوز أن يتعبد بالاجتهاد قال أكثرهم: إذا اجتهد، يكون دائمًا مصيبًا، وليس كغيره في أنه تارةً يصيب في نفس الأمر وتارةً يخطئ، بل اجتهاده لا يخطئ أبدًا؛ لِعصمته.
وقال قوم: يجوز أن يخطئ ولكن لا يُقَر عليه. وإليه يشير قول ابن الحاجب: (لا يُقر على خطأ). لكن الحق الذي نعتقده أنه لا يقع خطأ ألبَتَّة، فإنَّ كَوْنه يقع خطأ يُضاد منصب النبوة أيضًا، ويكون بعض المجتهدين -وهو المصِيب- أَكْمَل في حال إصابته مِن النبي، وهو محُال.
تنبيهات
الأول: قال الغزالي: يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل فرع أجمعت الأُمَّة على إلحاقه بأصل.
قال: لأنه صار أصلًا بالنص أو بالإجماع، فلا ينظر إلى مَآخِذهم.
وقد سبق بيان ذلك أول أركان القياس.
الثاني: نبينا صلى الله عليه وسلم يتصرف بالفتيا والتبليغ والقضاء والإمامة. وزعم القرافي أن محل الخلاف السابق في الفتاوى وأنَّ القضاء يجوز الاجتهاد فيه بلا نزاع.
ومثاله في القضاء ما رواه أبو داود من حديث أبي
(1)
سلمة: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال: إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علَيَّ فيه"
(2)
.
وله صلى الله عليه وسلم أيضًا (مع منصب النبوة الذي أوتيه حين نزلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] الآية ومنصب الرسالة الذي أوتيه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 4 - 3] ومع التصرفات السابقة) منصب الإمامة العظمى التي هي الرئاسة التامة والزعامة العامة الشاملة للخاصة والعامة بتدبير مصالح الخلائق وضبطها بدرء المفاسد وجلب المصالح إلى غير ذلك.
وهذا أَعَم مِن منصب الحاكم؛ لأن الحاكم مِن حيث هو حاكم ليس له إلا فَصْل الخصومات وإنشاء الإلزام بما يَحكم به.
وأَعَم مِن منصب الفتوى؛ فإنها مجرد الإخبار عن حُكم الله تعالى، وأما الرسالة والنبوة مِن حيث هُما فلا يستلزمان ذلك؛ لأنَّ النبوة [وَحْي بخاصة المُوحَى]
(3)
إليه، والرسالة تبليغ عن الله تعالى، فهي مناصب جمعها النبي صلى الله عليه وسلم، آثارها مختلفة.
فإقامة الحدود وترتيب الجيوش وغير ذلك مِن منصب الإمامة، وليس لأحد بعده إلا لمن يكون إمامًا. والحكم والإلزام وفسخ العقود ونحو ذلك مِن منصب القضاء، وتبليغه الأحكام وغيرها من منصب الرسالة. والإخبار بأنَّ ذلك حُكم الله تعالى مِن منصب الفتيا الذي هو مِن جملة الرسالة، وما بَيْنه وبين ربه من أنواع العبادات لاسيما الخاصة به مِن
(1)
كذا في جميع النسخ، والصواب كما في كتب الحديث: أُم.
(2)
سنن أبي داود (رقم: 3585). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 3585).
(3)
كذا في (ق، ش، ض)، لكن في (ص): وحي بخاصة الوحي. وفي (س، ت): وهي بخاصة الوحي.
منصب النبوة.
فإذا تَصرف وعُلِم مِن أي المناصب هو فأمره واضح، وإنْ شك فيطلب الترجيح بدليل مِن خارج.
وقد وقع الخلاف بين الأئمة في أمور؛ لما ذكرناه مِن التردد:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أَحْيَا أَرْضًا مَيته فَهِيَ له"
(1)
. قال أبو حنيفة: هذا تَصرُّف منه بالإمامة؛ فلا يجوز لأحد أنْ يُحصي بدون إذْن الإمام.
وقال الشافعي: بالفتوى؛ لأنه الأغلب مِن تصرفاته؛ فلا يتوقف الإحياء على إذْن الإمام.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان: "خُذي مِن ماله ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف"
(2)
.
قال الشافعي: هذا تَصرف بالفتيا، فمَن ظفر بجنس حَقِّه أو بغير جنسه عند التعذر، جاز أن يستوفي منه حَقَّه.
وقال مالك: هو تَصرف بالقضاء.
وجعل بعضهم هذا أصلًا للقضاء على الغائب.
وضُعِّف بأنَّ أبا سفيان كان حاضرًا في البلد غير ممتنع مِن الحضور.
واستنبط القاضي حسين مِن كونه قضاء أنه يجوز أن يسمع لأحد الخصمين دُون الآخَر.
(1)
سنن أبي داود (رقم: 3073)، سنن الترمذي (رقم: 1378) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3073).
(2)
سبق تخريجه.
واستنبط الرافعي مِن كونه فتيا أنَّ المرأة يجوز أن تخرج لتستفتي.
وفيه نظر؛ لأنها خرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: 12]، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن قتل قتيلًا فله سلبه"
(1)
. قيل: تَصرف بالإمامة؛ فلا يختص قاتل بسلب إلا بإذْن الإمام. وقال الشافعي: تَصرف بالفتيا.
الثالث:
من أمثلة اجتهاده صلى الله عليه وسلم:
حديث جابر في مسلم: "لو أني استقبلتُ مِن أمري ما استدبرت لم أسق الهدى"
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم لما قالت أخت النضر:
ما كان ضَرك لو مَنَنْتَ وربما
…
مَنَّ الفتى وهو المغِيظُ المحنقُ
"لو سمعت ذلك قبل أنْ أقتله ما قتلتُه"
(3)
. وغير ذلك.
واستُدل له أيضًا بنحو: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية، وبقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، أي: بما أراكَه الله. أي: جعله لك رأيًا. وغير ذلك.
وقولي: (وَغَيْرهِ في عَصْرِهِ) إلى آخِره -انتقال إلى مسألة اجتهاد غَيْر النبي صلى الله عليه وسلم في عصره.
(1)
صحيح البخاري (رقم: 2973) بلفظ: (مَن قتَلَ قَتِيلًا له عليه بَيِّنة فَلَهُ سَلَبُهُ).
(2)
صحيح مسلم (رقم: 1218).
(3)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 309). ونقله السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى، 1/ 252) ثم قال: (وفي كتاب الزبير بن بكار في النسب أن بعض أهل العلم ذكر أنَّ هذه الأبيات مصنوعة).
والكلام فيها أيضًا في أمرين: في الجواز، وفي الوقوع.
أما الأول ففيه مذاهب:
أحدها: الجواز مطلقًا. وهو قول الأكثرين، منهم الإمام الرازي وأتباعه، واختاره ابن الحاجب وغيره.
الثاني: المنع مطلقًا وإنْ كان النَّص لا يُضاد الاجتهاد، إنما المضاد له القول بخلافه مِن غَيْر أنْ يُؤَوَّل بدليل.
الثالث: إنْ وَرَدَ الإذن بذلك، جاز وإلا فلا.
والربا: إنْ ورَدَ إذْن صريح أو سكوت، جاز وإلا فلا.
والخامس: يجوز للغائبين عنه صلى الله عليه وسلم (لِتَعَذُّر سؤاله) دُون الحاضرين (لإمكانه)، فهو قدرة على النص. والغائب لو أخَّر الحادثة إلى لقائه لَفاتَت المصلحة. بل حكى الأستاذ أبو منصور الإجماع على الجواز للغائب.
والسادس: إنْ كان الغائب قاضيًا كعَلي ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن، جاز له، بخلاف الحاضر والغائب إذا لم يكن قاضيًا. حكاه الغزالي والآمدي.
قال الإمام: وهذه المسألة قليلة الفائدة في الفقه.
واعترضه الشيخ صدر الدين ابن الوكيل بأن في الفقه ما ينبني عليها، كما لو شك في نجاسة أحد الإناءين ومعه طهور بيقين غيرهما، ففي جواز الاجتهاد وجهان، أصحهما: نعم. وهو قول من يُجَوِّز الاجتهاد في زمنه.
وكذلك إذا غاب عن القِبلة فإنه لا يعتمد على خبر مَن أخبره عن عِلم ولا عن اجتهاد إلا إذا لم يَقْدر على معرفة القِبلة يقينًا.
وكذلك حكى الأصحاب وجهين في المصلِّي إذا استقبل حجر الكعبة وحده، وقالوا
الأصح: المنع؛ لأنَّ كونه مِن البيت غير مقطوع به، وإنما هو مجتهد فيه، فلا يجوز العدول عن اليقين إليه.
قيل: وفي تفريع ذلك نظر.
وأما الثاني: وهو الوقوع ففيه أيضًا مذاهب:
أحدها وهو الأرجح: أنه وقع. وإليه الإشارة بقولي: (وَرُوِيَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَا الضَّرْبِ). ففي حديث معاذ أنه قال: "أجتهد رأي"
(1)
. وصَوَّبه النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم يَجُز لَمَا صَوَّبَه. هذا في الغائب.
وأيضًا فموافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلها شاهدة بذلك، و [هذه]
(2)
في الحاضرين.
ومن ذلك أيضًا قول الصديق رضي الله عنه لأبي قتادة حين قَتل رجلًا مِن المشركين فأخذ غَيْرُه سَلبَه: "لاها الله
(3)
، إذًا لا تَعْمد إلى أسَد مِن أُسْد اللهِ يقاتِل عن الله ورسوله فيعطيك سَلبَه". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صَدَق"
(4)
.
فالصديق رضي الله عنه إنما قال ذلك اجتهادًا وإلا لَأَسْنَدَه إلى النص؛ لأنه أَدْعَى إلى الانقياد، وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. فماذا جاز في الحاضر ففي الغائب أَوْلى.
ومَن منع هذا قال: هذه أخبار آحاد، والمسألة علمية.
نعم، زَعْم القاضي -ثُم إمام الحرمين ثُم الغزالي- أنَّ "حديث معاذ مشهور قَبِلَتْهُ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
كذا في (ق، ص)، لكن في (س): هذا.
(3)
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/ 37): (فَأَمَّا "لَاهَا الله" فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: "هَا" لِلتنْبِيهِ، وَقَدْ يُقْسَمُ بِهَا، يُقَالُ: "لَاهَا الله مَا فعلت كَذَا").
(4)
صحيح البخاري (رقم: 2973، 4566)، صحيح مسلم (رقم: 1751).
الأُمَّة" لا يخلو من نظر كما ذكرناه في "باب القياس"، فراجعه.
والمذهب الثاني: مَنعْ أنه وقع؛ إذ لو وقع لاشتهر.
وجوابه ما سبق.
والثالث: أنه لم يقع في الحضور.
وسبق رَدُّه.
والرابع: الوقف. واختاره البيضاوي ونَسَبَه للأكثرين.
والخامس: الوقف في حق الحاضرين، وأما الغائبون فالظاهر وقوع تَعبُّدهم به ولا قَطْع.
وبالجملة فالأدلة متعارضة في هذه المسألة، والأرجح الوقوع كما بيناه. والله أعلم.
ص:
1004 -
ثُمَّ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ في الْعَقليْ
…
قَطْعًا، وَمَنْ يُخْطِئُ في ذَا الْأَصْلِ
1005 فَمُنْكِرُ الْإسْلَامِ مِنْهُمْ كَافِرُ وَغَيْرُهُ عَاصٍ إذَا يُجَاوِرُ
الشرح:
هذه المسألة من أحكام الاجتهاد في أنَّ كل مجتهد مُصِيب؟ أو المصيب واحد فقط؟ ولهما
قسمان:
أحدهما: أن يكون حُكمًا عقليًّا.
والثاني: أنْ لا يكون عقليًّا.
فأما الأول: وهو الأمور العقلية فالمصيب فيها واحد قطعًا؛ لأنه لا سبيل إلى أنَّ كُلًّا من نقيضين أو ضدين حَقٌّ، بل أحدهما فقط، والآخَر باطل. ومَن لم يصادف ذلك الواحد في
الواقع فهو ضال آثم وإنْ بالغ في النظر. وسواء أكان مدْرك ذلك [عقلًا]
(1)
محضًا (كحدث العالم ووجود الصانع) أو شرعيًّا مستندًا إلى ثبوت أمر عقلي (كعذاب القبر والصراط والميزان).
وهذا معنى قولي: (في الْعَقليْ قَطْعًا)، أي: في الأمر العقلي، ولكن خففت "ياء" النسب منه؛ لضرورة النَّظم.
وقولي: (وَمَنْ يُخْطِئُ في ذَا الْأَصْلِ) أي: في هذا الأصل الذي قررناه وهو أن المصيب واحد في العقليات، فيخطئ فيه بعدم إصابة ذلك الواحد.
فلا يخلو إما أن يكون ذلك في إنكار الإسلام (كاليهود والنصارى) إذا قال: أدَّاني اجتهادي إلى إنكاره، فهذا ضال كافر عاصٍ لله ولرسوله.
وإن كان في غير ذلك من العقائد الدينية الزائدة على أصل الاسلام فهذا عاص. ومن هذا تفرقت المبتدعة فِرَقًا مقابِلة لِطريق السُّنة، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فِرقة، فرقة ناجية والباقي في النار"
(2)
.
وجَرَى الخلاف بين العلماء في تكفير المبتدعة، والأكثر على أنه لا يكفر أحد مِن أهل القِبلة. هذا الذي قررناه هو مذهب الحق.
ونُقل عن الجاحظ والعنبري أن المخطئ في العقليات لا يأثم في خَطَئِه. ثم منهم مَن
(1)
في (س، ت): عقليا.
(2)
المعجم الكبير (18/ 51، رقم: 91) بلفظ: (كَيْفَ أَنْتَ يَا عَوْف إِذَا افْتَرَقَتْ هَذ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الجنَّةِ، وَسَائِرُهُنَّ فِي النَّارِ؟ ). وفي سنن ابن ماجه (رقم: 3992) بلفظ: (لتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي على ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ في الجْنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ في النَّارِ). وفي غيرهما بألفاظ أخرى. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3241).
أطلق النقل عنهما بما يشمل الكفار وغيرهم، ومنهم مَن قال: إنهما قالا ذلك بشرط إسلام المجتهد. وهذا هو اللائق بهما.
وفي "مختصر التقريب" للقاضي أن ذلك أشهر الروايتين عن [العنبري]
(1)
.
ونقل ابن قتيبة عنه أنه سئل عن أهل القدر وأهل الجبر فقال: إنَّ كُلًّا منهما مصيب؛ لأنَّ هؤلاء قوم عظَّموا الله، وهؤلاء قوم نَزَّهوا الله.
وقال إلْكِيَا: إنَّ العنبري كان يذهب إلى أنَّ المصيب في العقليات واحد، ولكن ما تعلق بتصديق الرسل وإثبات حدث العالم وإثبات الصانع فالمخطئ فيه غير معذور، وأما ما يتعلق بالقدر والجبر وإثبات الجهة ونفيها فالمخطئ فيه معذور وإنْ كان مبطلًا في اعتقاده بعد الموافقة في تصديق الرسل والتزام الملة. وبَنَى على ذلك أن الخلق ما كُلِّفُوا إلا اعتقاد تعظيم الله وتنزيهه مِن وجه؛ ولذلك لم تبحث الصحابة رضي الله عنهم عن معنى الألفاظ الموهمة للتشبيه؛ عِلْمًا منهم بأنَّ اعتقادها لا يَجُر حرجا.
واعْلَم أنه يلتحق بهذا القسم ما لم يكن عقليًّا ولكن دليله قاطع، فإن المصيب فيها واحد بالإجماع كما سأذكره مِن بَعد وإنْ لم أصرح بالمسألة في النَّظم؛ لاندراجها في العقلي؛ لأنَّا قد قلنا: إنَّ العقلي أَعَم مِن أنْ يكون محضًا أو شرعيًّا مستندًا إلى أصلٍ دليله [العقل]
(2)
. فغاية الذي لا يكون عقليًّا وفِيه قاطع أنْ يعود إلى شرعي مستنِد لأصلٍ ثابتٍ بالعقل.
قولي: (إذَا يُجَاوِرُ) أي: يجاور العدول عن الحق. والله أعلم.
(1)
في بعض النسخ: القشيري.
(2)
كذا في (ص، ق، ض)، لكن في (س، ت، ش): العقلي.
ص:
1556 -
وَغَيْرُ عَقليٍّ كَذَاكَ وَاحِدُ
…
وَمُخْطِئٌ لِلْإثْمِ فِيهِ فَاقِدُ
1557 -
بَلْ ذَالَهُ أَجْرٌ عَلَى نِيَّتهِ
…
مَا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا بِنَعْتِهِ
الشرح:
هذا هو القسم الثاني، أي: غير العقلي، وهي المسائل التي ليست أصلًا من أصول الشرح المجمَع عليها وليس فيها دليلٌ قاطعٌ. فهذا فيه مذاهب:
أحدها: وبه قال الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج: أنَّ كل مجتهد مصيب.
ثم اختلفوا، فقال الأشعري والقاضي: حُكم الله تاج لِظَن المجتهد، فكُل ما ظنه هو حُكم الله في حَقِّه.
وقال الثلاثة الآخرون على ما هو الأَشْهَر عن ابن سريج: إنَّ في كلِّ حادثةٍ ما لو حَكم الله لم يحكم إلا به. وربما عبَّروا عن ذلك بانَّ المجتهد في ذلك مخطئ في الانتهاء، لا في الابتداء.
الثاني: قول الجمهور وهو الراجح: المصيب واحد.
وقال ابن السمعاني في "القواطع": (إنه ظاهر مذهب الشافعي، ومَن حَكى عنه غيره فقد أخطأ)
(1)
.
ولله تعالى في كل واقعة حُكم سابق على اجتهاد المجتهدين وفِكر الناظرين.
(1)
قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 310).
ثم اختلف هؤلاء: أيجعل عليه دليل؟ أَم هو كدفين يصيبه مَن شاء الله ويخطِئه مَن شاءه؟ والصحيح أن عليه أمارة.
ثم اختلف القائلون بأنَّ عليه أمارة أنَّ المجتهد هل هو مكلَّف بإصابة الحق؟ أو لا؛ لأنَّ ذلك ليس في وسعه؟ الصحيح الأول.
ثم اختلفوا أيضًا في ما إذا أخطأ الحقَّ، هل يأثم؟
والصحيح: لا يأثم، بل له أجر على ما قال صلى الله عليه وسلم.
ثم الأجر هو على بذل الوسع (على المختار)، لا على نفس الخطأ؛ لعدم مناسبته؛ ولأنه ليس مِن صنيعه.
أما إذا أصاب فله أجران:
- أحدهما على بذله الوسع، وهذا كما في المخطئ.
- والثاني: يحتمل أن يقال: على نفس الصواب؛ لأنه وإنْ لم يكن مِن [صنيعه]
(1)
لكنه مِن آثار [صنيعه]
(2)
. ويحتمل أن ذلك لكونه سَن سنُّة حسنة يقتدي بها مَن يَتبعه مِن المقلِّدين.
ومن هنا يقال: المخطئ لا يُؤجَر على اتِّباع المقلِّدين له، بخلاف المصيب؛ لأنَّ مُقلِّد المصيب قد اهتدى به؛ لأنه صادف الهدى، وهو كما قال:"ولأنْ يهدي بك الله واحدًا خير لك مِن حمر النعم"
(3)
.
(1)
كذا في (ق، ص، ش)، لكن في (ت، س): صنعه.
(2)
كذا في (ق)، لكن في (ص، س، ت، ش): صنعه.
(3)
صحيح البخاري (1077)، صحيح مسلم (1872).
بخلاف المخطئ؛ فإنَّ مقلِّده لم يحصل على شيء، غاية الأمر سقوط الحق عنه باعتبار ظنه، أما حصول ثواب زائد ففيه نظر.
واعلم أنه مما استُدل به على أنه ليس كلُّ مجتهدٍ مصيبًا أنه إنْ كان القائل بذلك مصيبًا فقد صحت مقالته هذه؛ لمطابقة خبره مُخْبره. وإنْ كان مخطئا فقد اختلت كلية دعواه به نفسه، فليس كلُّ مجُتهدٍ مصيبًا.
تنبيهان
الأول: سبق أنه يلحق بالقسم الأول في أنَّ المصيب واحد إذا كان هناك قاطع قطعًا، وأَغْربَ مَن حَكى فيه الخلاف السابق فيما لا قاطع فيه.
نعم، إذا أخطأه، يُنْظَر: فإنْ كان لم يقصر وبذل المجهود في طَلَبه ولكن تَعذَّر عليه الوصول إليه، هل يأثم؟
فيه مذهبان:
أصحهما: المنع.
ومقابِله هو قول مَن يقول فيما لا قاطع فيه: (يأثم)، وقول بعض مَن قال هناك:(لا يأثم).
فلذلك كان القول هنا بأنه يأثم أقوى مِن القول هناك بأنه يأثم.
وقال الغزالي: (النص -قبل أنْ يبلغ المجتهد- ليس حُكمًا في حقه؛ فليس مخطئًا حقيقة؛ ولهذا لا نقول في أهل قُباء في صلاتهم لبيت المقدس قَبل أنْ يبلغهم الخبر بتحويل القبلة: إنهم مخطئون؛ إذْ ذاك ليس حُكمًا في حقهم قبل بلوغه؛ لعدم تقصيرهم).
ثم قال الغزالي: (وإذا ثبت هذا في مسألة فيها نَص، فالتي لا نَص فيها كيف يُتصور
خطأ المجتهد فيها؟ ! )
(1)
.
أما المقصِّر في اجتهاده [فآثِم]
(2)
مطلقًا، سواء فيما فيه قاطع وغيره.
وقال ابن الحاجب: آثم مخطئ.
فإنْ أرادبِ "مخطئ" الخطأ في الحكم، فلَسْنَا على يقين مِن ذلك؛ إذ يحتمل أنه أصاب. وإنْ أراد في نفس الاجتهاد، فليس الكلام فيه.
الثاني: قال ابن عبد السلام: مَن قال: "كل مجتهد مصيب" شرط فيه أن لا يكون مذهب الخصم مستندًا إلى دليل ينقض الحكم [المسند]
(3)
إليه. والله أعلم.
ص:
1558 -
فَآثِمٌ، وَالِاجْتِهَادُ يَمْتَنِعْ
…
نَقْضٌ لِحُكْمِهِ، وَلَكِنْ يَرْتَفِعْ
1059 -
إنْ خَالَفَ النَّصَّ أَوِ الْجَلِيَّا
…
مِنْ ظَاهِرٍ وَلَوْ قِيَاسًا هَيَّا
1510 -
وَنَحْوُ ذَا أَنْ يَحْكُمَ الْمُقَلِّدُ
…
بِغَيْرِ نَصِّ مَنْ لَهُ يُقَلِّدُ
الشرح:
قولي: (فآثم) من تتمة الذي قبله، وقد سبق شرحه.
وقولي: (والاجتهاد يمتنع) فالإشارة به إلى حكم الاجتهاد في نقضه والنقض به.
وحاصله أنه يمتنع نقض حكم الاجتهاد بتغيره باجتهاد آخَر، سواء أكان من المجتهد
(1)
المستصفى (1/ 353).
(2)
كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: يأثم.
(3)
في (ف، ش، ض): المستند.
الأول أو من غيره. قال ابن الحاجب: (باتفاق).
لِمَا يلزم على نقضه مِن التسلسل، إذ لو جاز النقض لجاز نقض النقض، وهكذا؛ فتفوت مصلحة نَصْب الحاكم وهي قَطْع المنازعة؛ لعدم الوثوق حينئذٍ بالحكم. وهو معنى قول الفقهاء في الفروع: لا يُنقض الاجتهاد بالاجتهاد.
نعم، إذا خالف الحكم الناشئ عن الاجتهاد قاطعًا مِن نَص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع، قال أصحابنا: أو ظنًّا محُكمًا بخبر الواحد أو القياس الجلي أو مفهوم الموافقة بالأَوْلى.
وهو معنى قولي: (مِنْ ظَاهِرٍ وَلَوْ قِيَاسًا هَيَّا) أي: هيأه المجتهد وأَحْكَم نَظْمه. فحذفت " الهمزة " من آخِره؛ للضرورة.
فإذا كان كذلك، ارتفع حُكم الاجتهاد. وبعضهم يُعبر عن ذلك بِ "نقضه" وهو مجَاز؛ لأنه قد تبيَّن أنْ لا حُكم، بل ولا ارتفاع؛ لأنه فرَعْ الثبوت، إلا أنْ يراد ارتفاع ظن الحكم.
ونحوه في الفروع أن يحكم بِبَيِّنة الخارج، فإذا أقام الداخل بَيِّنة، غيّر ذلك الحكم وحكم للداخل؛ لأنَّ الظن فيه أرجح.
نعم، في النقض به خلاف:
فمَن نفى قال: لأنَّ الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
ومَن نقض قال: لأنه راجح لو كان موجودًا [وإلا]
(1)
لَمَا كان يحكم به.
فما قدمناه من الأصل يُفرع عليه ذلك.
ومن ذلك ما وقع للصحابة رضي الله عنهم في قولهم بخلاف ما كانوا يقولون به أولًا.
فروي عن عمر أنه كان يفاضل بين الأصابع في الدية؛ لتفاوت منافعها، فنقض حُكمه
(1)
كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: اولا.
لما روي له الخبر في التسوية. وأنَّ عَلِيًّا نقض قضاء شريح بأنَّ شهادة المولى لا تقبل؛ بالقياس الجلي، وهو أن ابن العم تُقبل شهادته، وهو أقرب من المولى.
وغير ذلك، وهذا بخلاف القسم السابق الذي لا نقض فيه.
نعم، قد يتردد شيء بين القسمين، فيتردد النظر فيها: هل ينقض؟ أو لا؟ كما في القضاء بصحة نكاح امرأة المفقود، وقضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا، وذكاة الجنين، والمثقل، والمسلم بالكافر وغير ذلك من الصور المذكورة في الفقه.
وضبط الغزالي ما يُنقض به وما لا يُنقض، فقال: إذا لم ينقدح في نفسه إمكان الصواب انقداحًا له وَقْع ما، فله النقض، وذلك في النصوص لِصحة موردها وصراحة لفظها أو بُعْدها عن قبول التأويل، وفي الأقيسة لوضوحها وموافقتها للأصول. وإذا لم يكن كذلك وتَفاوَت النظران، فلا نقض. ويختلف الحال في ذلك بالمجتهدين وآحاد الأدلة.
تنبيهان
الأول: محل كون النص يُبْطل حُكم الاجتهاد السابق ما إذا كان موجودًا قبل الاجتهاد ولكن لم يظهر إلا بَعْده. فإنْ كان النص حادثًا بعد الاجتهاد ويُتصور هذا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فالحكم بالاجتهاد السابق نافذ. قاله الماوردي في "باب التيمم" من "الحاوي".
ونحوه في الفروع: أنْ يباع مال اليتيم -مثلًا- بقيمته؛ للحاجة، ويحكَم بصحة البيع، ثم تغلو الأسعار بعد ذلك؛ فتصير قيمته أكثر، فلا اعتبار بما عرض. والأول صحيح لا يُنقض. وكذا لو أوجر الوقف بأجرة مثله ثم حصلت زيادة برغبة راغب أو نحوها.
الثاني: قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في "القواعد": (لو اجتهد ثُم بان خِلاف ظنه، فإنْ تَبين بظن يساويه أو ترجَّح عليه أدنى رجحان: فإنْ تَعلق به حُكم، لم يُنقض، وبَنَى
على اجتهاده الثاني فيما عدا الأحكام المبنية على الاجتهاد الأول. وإنْ لم يتعلق به حُكم، بَنَى على ما أدى إليه اجتهاده ثانيًا إلا أن يستوي الظنان، فيجب التوقف -على الأصح)
(1)
.
قولي: (وَنَحْوُ ذَا أَنْ يَحْكُمَ الْمُقَلِّدُ) البيت -المراد به أنَّ ما سبق في الاجتهاد يأتي نظيره في المقلِّد، فليس للمقلد أنْ يحكم بخلاف مذهب إمامه كما أن المجتهد ليس له أن يحكم بغير اجتهاده، سواء [حكم]
(2)
بخلاف ما أدى إليه اجتهاده أو لم يجتهد أصلًا.
فإذا حَكم المقلِّد بخلاف قول إمامه، انبنى على أنه هل يجوز له تقليد غيره؟ فإنْ منعنا فينقض، درإنْ جوزنا فلا. كذا قاله ابن الحاجب وغيره.
لكن قال الغزالي: إنَّا إذا منعنا مَن قَلَّد إمامًا أنْ يُقَلِّد غيره وفَعل وحَكم بقوله، فينبغي أنْ لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه في ظنه أن إمامه أرجح.
ونقله عنه الرافعي، إلا أنه حذف لفظة:"ينبغي"؛ فأَوْهَم أنه منقول، لا بحث. ثم اختصره النووي في "الروضة"، فحذف التعليل؛ فأَوْهَم أنَّ المسألة فيمن قلد غير إمامه سواء أكان لدليل ساقه بحيث ظن أنَّ الحقَّ مع غيره في تلك المسألة أوْ لا بل لمجرد صده عن إمامه. وإنما هي في الثاني؛ لأنَّ الأول لا يقال فيه: إنَّ في ظنه أن إمامه أرجح. فبحذف التعليل أَوْهَم التعليل. وجرى على ذلك في "جمع الجوامع" بزيادة التصريح بكونه غير مقلد؛ فصار واهمًا ثلاثة أوهام.
تنبيه:
إذا قلنا بنقض الاجتهاد، فالنظر فيه حينئذٍ في أمرين:
(1)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 68).
(2)
من (س، ت).
أحدهما: فيما يتعلق بنفسه.
والثاني: فيما يتعلق بغيره.
أما الأول: فإذا أدى اجتهاده إلى حُكم في حق نفسه ثم تَغير اجتهاده كما إذا أدى اجتهاده إلى صحة النكاح بلا ولي ثم تغير فرأى أنه باطل، فالمختار عند ابن الحاجب التحريم مطلقًا. وحكاه الرافعي عن الغزالي ولم ينقل غيره.
الثاني: أنه إنْ لم يتصل به حُكم، حرم، وإنِ اتصل، لم يحرم؛ لئلَّا يَلزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد. وهو ما جزم به البيضاوي والهندي.
أما لو نكحها مجتهد حنفي بغير ولي ثم زوَّجها وليها ثانيًا بشافعي، فقال القاضي أبو بكر: إن ذلك مما تمسك به القائلون بأنَّ المصيب واحد.
قال: فالمرأة مترددة بين دعواهما، وهُما مجتهدان.
قال: فيقال في جواب ذلك: إنَّ الأمر موقوف حتى يُرفع الأمر إلى القاضي، فينزلهما على اعتقاد نفسه، فيكون حُكم الله تعالى هو الوقف حتى يُرفع للقاضي.
قال: ومنهم مَن قال: تُسَلم المرأة إلى الزوج الأول؛ فإنه نكحها نكاحًا يعتقد صحته، وهو السابق به، فلا يَبْعُد أن يكون هذا هو الحكم.
قال إمام الحرمين في "التلخيص": (والذي عندنا أنه يجتهد فيها المجتهد، وما أدى إليه اجتهاده فهو حُكم الله مِن وقف أو تقديم أو غيرهما)
(1)
.
وذكر البيضاوي -تبعًا لإمامه- فيما إذا كان الزوجان مجتهدين فخاطبها الزوج بلفظة وأدَّى اجتهاده إلى أنها كناية وقال: "لم أَنْوِ"، وهي أدَّى اجتهادها إلى صراحتها، فلا حاجة
(1)
التلخيص في أصول الفقه (3/ 350).
للنية. فللزوج طلب الاستمتاع، ولها الامتناع. فطريق قطع النزاع الترافع إلى قاضٍ يحكم باجتهاده لأحدهما أو إلى حكم بينهما كذلك.
فإنْ كان النزاع فيما يمكن فيه الصلح كالحقوق المالية، فيكون له طريق آخَر وهو الصلح.
وقد تَعرَّض القاضي لهذا [الفرع]
(1)
، وأجاب فيه بما سبق في الذي قبله.
وأما الثاني (وهو ما يتعلق بغيره): فإذا أفتى المجتهدُ عاميًّا باجتهاده ثم تَغير اجتهاده، فهو كما سبق فيما يتعلق بنفسه.
وقال الهندي: (إن اتصل به حُكم قبل تَغير اجتهاده فكما سبق في المجتهد فيما يتعلق بنفسه، وإن لم يتصل به فاختلفوا، والأَولى القول بالتحريم كما في المجتهد في حق نفسه.
ومنهم مَن لم يوجبه؛ لأنه يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد.
وهو ضعيف؛ لأنَّ زوال ذلك الحكم ليس بطريق النقض، بل [لزوال]
(2)
شَرْطه وهو بقاء المحكوم عليه)
(3)
.
إذا علمتَ ذلك فيَلزم المفتي إعلام المستفتي بما يتغير فيه اجتهاده؛ ليَكُف.
قال في "الروضة": (إنْ كان ذلك قَبْل العمل أو بَعده حيث يجب النقض)
(4)
.
ونقل ابن السمعاني في "القواطع" أنه إنْ كان عمل به، لم يلزمه إعلامه، وإنْ لم يكن عمل به، فينبغى أنْ يُعَرفه إنْ تَمَكَّن منه؛ لأنَّ العامي إنما يعمل به لأنه قول المفتي، ومعلوم
(1)
كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: النوع.
(2)
في (ص): بزوال.
(3)
نهاية الوصول (8/ 3880).
(4)
روضة الطالبين (11/ 107).
أنه في تلك الحالة ليس قوله.
نعم، لا يخفَى أن ذلك إنما هو فيما إذا لم يكن ما أفتاه به على خلاف دليل قاطع، وإلا فيجب إعلامه ونقضه كما صرح به الصيمري وغيره.
فرع:
لو عمل بفتواه في إتلاف ثم بَانَ أنه أخطأ فإنْ لم يخالِف القاطع، لم يضمن؛ لأنه معذور. وإنْ خالف القاطع فيضمن.
وأما ما نقله النووي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه إنْ كان أهلًا للفتوى، ضمن وإلا فلا؛ لأنَّ المستفتي حينئذٍ مُقصِّر. ولكن لا يحتاج لهذا القيد هنا؛ لأنَّ الكلام في المجتهد.
ثم قال النووي: (ينبغي أن يتخرج على قَوْلَي الضمان بالغرور، أو يُقْطَع بعدم الضمان مطلقًا؛ إذْ لم يوجد منه إتلاف ولا ألجأ إليه بالتزام)
(1)
. انتهى
وهو ظاهر. والله أعلم.
ص:
1011 -
وَهَكَذَا التَّفْوِيضُ جَائِزٌ، كَمَا
…
يُقَالُ لِلنَّبِيِّ: في ذَاكَ احْكُمَا
1012 -
بِمَا تَشَا، فَهْوَ صَوَابٌ، وَكَذَا
…
مُجْتَهِدٌ في ذَلِكَ الْحُكْمِ خُذَا
1013 -
لَكِنْ يَصِيرُ مُدْرَكًا شرْعِيَّا
…
وَلَمْ يَقَعْ فِيمَا رَأَوْا مَرْضِيَّا
الشرح: اعْلَم أن طريق معرفة الأحكام الشرعية إما التبليغ عن الله عز وجل
(1)
روضة الطالبين (11/ 107 - 108).
بإخبار رسله عنه بها، وهو ما سبق من كتاب الله- عز وجل وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تَفرع عن ذلك من إجماع وقياس وغيرهما من الاستدلالات وطُرقها بالاجتهاد ولو من النبي كما سبق آنفًا.
وإما أن يكون طريق معرفة الحكم التفويض إلى رأْي نبي أو عالم. فيجوز أن يقال لنبي أو لمجتهد غير نبي: (احْكُم بما شئت، فهو صواب). فيصير حُكمه من جملة المدارك الشرعية. فإذا قال: (هذا حلال)، عرفنا أنَّ الله تعالى في الأزل حَكم بحله، أو حرام أو نحو ذلك، لا أنه ينشئ الحكم؛ لأنَّ ذلك من خصائص الربوبية.
ومَن يرى الحسن والقُبح العقليين فإنما يقول: إنَّ ذلك تابع لِمَا يحكم به عقله.
فهو غير التفويض.
قال ابن الحاجب في مسألة التفويض: (وتَردد الشافعي)
(1)
. أي: في جوازه كما قاله إمام الحرمين. وقال الجمهور: في وقوعه، ولكنه قاطع بجوازه.
والمنع إنما هو منقول عن جمهور المعتزلة.
وفي قول ثالث: إن ذلك يجوز في النبي دُون العالم. واختاره ابن السمعاني، قال:(وذى الشافعي في "الرسالة" ما يدل عليه)
(2)
.
ثم اختُلف في وقوعه، فقال ابن الحاجب:(المختار أنه لم يقع)
(3)
.
ونقل من أدلة القائلين بالوقوع قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]؛ لأنه لا يمكن أن يُحرم على نفسه إلا بتفويض الله تعالى الأمر إليه، لا أنه بإبلاغه
(1)
مختصر منتهى السؤل والأمل في علمى الأصول والجدل (2/ 1236).
(2)
قواطع الأدلة (2/ 338).
(3)
مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1237).
ذلك الحكم؛ لأنَّ المحرِّم يكون حينئذٍ هو الله تعالى.
قلتُ: وعلى كل حال فالمحرِّم هو الله تعالى، فالاحتمال قائم؛ فلا دليل فيه لذلك. وبنحو ذلك أجاب ابن الحاجب.
ونقل أيضًا مِن أدلتهم قول العباس: "إلا الإذخر؛ فإنه لِقِيَنهم ولبيوتهم". فأقره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عقبه: "إلا الإذخر"
(1)
.
فأجاب ابن الحاجب عنه بأنه إما بأنَّ الأذخر ليس من الخلاء في قوله: "ولا يُخْتَلى خلاه"، فدليله الاستصحاب، وصح استثناؤه تقريرًا لفهم العباس ذلك. أو ذلك من قبيل النسخ، أو نحو ذلك.
وبنحو: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"
(2)
. أو نحو ذلك، وهو كثير.
وبحديث الحج: "أَلِعَامِنا هذا؟ أَم للأبد؟ "، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قُلتُها لَوَجَبَت"
(3)
. ونحو ذلك.
وأجاب عنه وأطال.
وإنما لم يذكر ابن الحاجب وغيره المسألة إلا هنا -كما تبعتهم في ذلك- للاختلاف في أصل الجواز، وذكرها البيضاوي في "باب الأدلة المختلف فيها" بناء على الجواز، بل على الوقوع إذا قُلنا: وقع.
(1)
صحيح البخاري (112)، صحيح مسلم (1355).
(2)
صحيح البخاري (847)، صحيح مسلم (253).
(3)
في صحيح مسلم (1216) بلفظ: (فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جعشمٍ: يَا رَسُولَ الله، أَلِعَامِنَا هَذَا؟ أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: "لِأَبَدٍ"). وفي صحيح مسلم (رقم: 1337) بلفظ: (فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتُ: "نَعَمْ" لَوَجَبَتْ، وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ).
و [مما يُشْبه]
(1)
المسألة وليس مِن ذلك: تخيير الشارع بين أمرين كالكفارة المخيرة، قد يتوهم أنه مِن التفويض، وليس كذلك، بل الحكم هناك أحد المخير فيه لا بعينه، فإنَّ التردد في المحكوم به. وأما التفويض ففي إثبات الحكم. ومَن يمنع هناك يسوي بينهما. وقد سبقت المسألة. والله أعلم.
(1)
كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: ما فيه.
التقليد
1014 -
وَالرَّسْمُ [لِلتَّقْلِيدِ]
(1)
: أَخْذُ مَذْهَبِ
…
لِلْغَيْرِ دُونَ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَوْجِبِ
الشرح:
لما [فُرغ]
(2)
من "الاجتهاد" ومباحثه شرعتُ في مقابِله وهو "التقليد" وأحكامه.
وعرفت "التقليد" بأنه: أَخْذ مذهب الغير مِن غير أنْ يعلم دليله المستوجب له. أي: الذي اقتضاه وأوجب القول به.
فَ "أَخْذ" جنس، والمراد به: اعتقاد ذلك ولو لم يَعمل به لِفِسق أو لِغَيْره.
وقولنا: (مذهب) يشمل ما كان قولًا له أو فعلًا. فهو أحسن من التعبير بِ "أخذ القول"؛ لقصوره كما تَعقبه إمام الحرمين على مَن يُعبِّر بذلك، إلا أن يراد بالقول: الرأي؛ فيكون شاملًا.
ونسبة المذهب إلى "الغير" يخرج به ما كان معلومًا بالضرورة لا يختص به ذلك المجتهد، أو كان مِن أقواله وأفعاله التي ليس له فيها اجتهاد، فإنها لا تُسمى "مَذْهَبه".
وقولنا: (بدون معرفة دليله) يشمل المجتهد إذا لم يجتهد ولا عَرف الدليل وجَوَّزْنَا له التقليد، فإنه حينئذٍ كالعامي في أَخْذِه بِقَول الغير مِن غير معرفة دليله، فيخرج عنه المجتهد إذا عَرف الدليل ووافق اجتهاده اجتهاد آخَر، فلا يُسمى "تقليدًا". كما يقال: أخذ الشافعي بمذهب مالك في كذا، وأخذ أحمد بمذهب الشافعي في كذا.
(1)
كذا في (س، ش، ن 1، ن 2، ن 5). لكن في (ن 3، ن 4، ق): في التقليد. وفي سائر النُّسَخ: والتقليد.
(2)
في (ق، ش): فرغت.
وإنما خرج ذلك لأنه وإنْ صَدَق عليه أنه "أَخْذ بِقَول الغير" لكنه مع معرفة دليله حق المعرفة، فما أَخَذ حقيقةً إلا مِن الدليل، لا مِن المجتهد؛ فيكون إطلاق الأخذ بمذهبه فيه تَجَوُّز.
وعبَّر الآمدي وابن الحاجب بقولهما: (بغير حُجة). وهو يقتضي أنَّ أَخْذ القول ممن قوله حُجة لا يُسمى "تقليدًا"، فالتّلقِّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى "تقليدًا" وإنْ كان يقع إطلاق هذا اللفظ كثيرًا.
وبَقي النظر في أمور، منها: رجوع القاضي إلى قول البيِّنة -أَظْهَر الاحتمالين فيه أنه لا يسمى "تقليدًا"؛ لأنه حُجة شرعية وَجَب العمل بها. وخالف في ذلك ابن القاص وشُراحه -كالقفال- فجعلوه من التقليد.
ومنها: الرجوع إلى خبر الواحد في حكاية حديث أو إجماع أو في إخبار عن نجاسة إناء أو دخول وقت أو عن القِبلة -لا يسمى "تقليدًا" كما جزم به الرافعي في "باب استقبال القبلة". ولكن صرح ابن القاص في "التلخيص" بأنه يسمى "تقليدًا"، وتبعه شُراحه على ذلك كالقفال وغيره أيضًا، وحكاهما ابن السمعاني وجهين.
ولهذا قال ابن الصلاح: (إنَّ التقليد قبول قول مَن يَجوز عليه [الاحتراز عن]
(1)
الخطأ بغير الحجة على ما قُبِل قَوْلُه فيه)
(2)
. ليخرج أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والإجماع. واحترز بالباقي
(1)
كذا في جميع النسخ، وعبارة ابن الصلاح في فتاويه (1/ 85):(حد التَّقْلِيد فِي اختيارنا وتحريرنا: قبُول قَول من يجوز عَلَيْهِ الْإِصْرَار على الْخَطَأ بِغَيْر حُجَّة على عَيْن مَا قُبِل قَوْله فِيهِ). الناشر: دار المعرفة، تحقيق: د. عبد المعطي أمين، ط: الأولى / 1406 هـ-1986 م.
(2)
أدب المفتي والمستفتي (1/ 158).
عن قبول قول القاضي [البينة]
(1)
ونحو ذلك.
ومَن تَتبَع تصرفات الفقهاء في باب القِبلة ومواقيت الصلاة عَلِم أنَّ ما قاله الرافعي هو الأرجح.
تنبيه:
هذا المذكور هنا في التقليد لا ينافي ما سبق في تقسيم العِلم أنَّ الجزم إذا كان مطابقًا [لا]
(2)
لِمُوجِب يسمى "تقليدًا" كما قاله الإمام الرازي؛ لأنه إذا لم يكن لموجِب فهو معنى قولنا هنا: (مِن غَيْر معرفة دليله)؛ لأنه حيننذٍ لم يأخذه من دليل. لكن الذي هنا أَعَم مما هناك، فإنه أعم مِن أنْ يكون مجزومًا به أوْ لا. ولا شك أنَّ الأَخَص يُسمى بِاسْم الأعم، بخلاف العكس، فَتَأَمَّله. والله أعلم.
ص:
1015 -
وَيَلْزَمُ الْفَاقِدَ لِلْأَهْلِيَّهْ
…
لِلاجْتِهَادِ في سِوَى أَصْلِيَّهْ
1016 -
وَالْأَهْلُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ
…
وَمَا تَكَرَّرْ وَاجِبُ التَّجْدِيدِ
1017 -
فِيهِ إذا دَاعِي رُجُوعِهِ وُجِدْ
…
وَمُقْتَضِى الرُّجْحَانِ لِلْمَاضِي فُقِدْ
1018 -
فَسَائِل أُفْتِيَ [لَا مِنْ]
(3)
مُجْمَعِ
…
أَوْ نَصٍّ اوْ مَيْتٍ - يُعِيدُ مَا رُعِيْ
(1)
كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: التقليد.
(2)
من (ت).
(3)
كذا في (ن 2) وفي الشرح مِن (ق)، وهو الموافق لشرح المؤلِّف، حيث قال:("لا من مجمع" أي: لا إذا كان المفتي أفتاه مِن حيث كَوْن الحكم مجمعًا عليه). لكن في سائر النُّسَخ: لأمر.
الشرح:
إذا عرفت حقيقة التقليد تَوَجَّه النظر إلى مَن يلزمه التقليد ومَن يمتنع عليه.
فما يُجتهد فيه إما من أحكام أصول الدِّين وإما من فروع الدين. فالثاني الذي ليس من أحكام أصول الدين، وهو ما أشرتُ إليه بقولي:(في سِوَى أَصْلِيَّهْ)، أي: في سوى أمور مِن الأصول الدينية إذا فقدَ فيه المكلَّف أهلية الاجتهاد بفوات شيء مما سبق اعتباره فيه، لَزِمَه أن يقلِّد؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولأنه لا يكلَّف بما لا يَقْدر عليه؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا معنى قولي:(لِلاجْتِهَادِ). وسواء فيمن يجب التقليد عليه في هذه الحالة مَن كان عاميًّا صرفًا أو عالِمَّا يَتسامى عن رتبة العوام.
والمخالِف في القسم الأول معتزلة بغداد، قالوا: يجب على العامي الوقوف على طريق الحكم، وليس له أنْ يراجع العالم إلا لتنبيهه على الطريق.
وقال الجبائي: يجوز له التقليد في المسائل الاجتهادية دون ما يكون من معلومات الدِّين، كالعبادات الخمس.
وأما القسم الثاني فيقلد فيه العالم في غير ما هو عالم فيه (على المختار).
وخالف في ذلك قوم، حتى إنَّ ابن حزم كان يدَّعِي الإجماع على منع التقليد، وحكى من كلام مالك والشافعي وغيرهما ذلك، قال: ولم يزل الشافعي ينهى عن التقليد. أي: كما نقل المزني أول "مختصره" إذ قال: مع إعلاميه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره. لكن قال الصيدلاني وغيره: إن ذلك محمول على مَن يكون مجتهدًا، فأمَّا مَن قَصُر عن رُتبة الاجتهاد فليس له إلا التقليد.
قيل: ويعارض ما قاله ابن حزم بِقَول القاضي أبي بكر: إنه ليس في الشريعة تقليد، فإنَّ
حقيقة "التقليد" قبول القول مِن غير حُجة ودليل، فكما أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم مقبول لقيام المعجزة الدالة على صِدقه فكذلك خبر الآحاد والأقيسة وأقوال المفتين [و]
(1)
الحكام مقبولة بالإجماع؛ لقيام الدليل الشرعي على وجوب العمل بها. فإذا كانت أقوال المفتين الظنية كخبر الآحاد في وجوب العمل بها بالإجماع، فأين التقليد؟ !
قلتُ: قد تَقدم في معنى "التقليد" ما يُخرج نحو ذلك (على المرجَّح)، فراجِعه، فالخلاف حينئذ راجع للفظ.
وبالجملة فالقائل بأنه لا يجوز للعالم التقليد يوجِب عليه تَعَرُّف الحكم مِن دليل؛ لأنَّ له صلاحية المعرفة، بخلاف العامي.
وفي قول ثالث: إنَّ العالم لا يَلزمه التقليد لمجتهد إلا أنْ يُبين له صحة اجتهاده.
ولا يخفَى ضَعف ذلك فإن ذلك مِن أين يَعْلَمه إذا كان عاجزًا عن الاجتهاد؟ ! فإنْ فُرِضت قدرته، حَرُم عليه التقليد كما سيأتي. وهو قولي:(وَالْأَهْلُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ).
وحاصل المسألة: أنَّ مَن بَلغ رُتبة الاجتهاد، امتنع عليه التقليد فيما عَرف فيه الحكم باجتهاده ووضح له وَجْه الصواب بمقتضَى ظنه، وهذا باتفاق.
فإنْ لم يكن قد اجتهد في تلك الجزئية ولكنه قادر على الاجتهاد فيها، فقال الجمهور: يمتنع عليه التقليد فيها مطلقًا.
وقيل: يجوز مطلقًا. وبه قال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق.
وقيل: يجوز للقاضي دُون غيره.
وقيل: يجوز إنْ كان المجتهد الذي يريد تقليده فيها أَعلَم منه دُون مَن كان دُونه أو
(1)
في (ق): من.
مساويًا له. وهو قول محمد بن الحسن.
وقيل: يجوز فيما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد فيه دُون ما لا يفوت. وبه قال ابن سريج.
وقيل: يجوز فيما يختص به دُون ما يفتِي به غيْرَه.
وحكى ابن الحاجب قولًا سابعًا وعزاه إلى الشافعي أنه لا يقلِّد إلا صحابيًّا يكون أَرجح مِن غيره من بقية الأصحاب، فإنِ استووا، تَخَيَّر. ويُعزى هذا للقديم.
قال الهندي: وقضيته أنه لا يجوز للصحابة تقليد بعضهم بعضًا.
وأما التقليد في أصول الدِّين الخارج من مفهوم قولي: (سِوَى أَصْلِيَّهْ) أي: فإنَّ الأصلية في التقليد فيها نزاع.
والمراد بقواعد أصول الدين: ما يبحث فيها عن ذات الله تعالى وما يجب له وما يمتنع، وما تضمن ذلك مِن أحوال المبدأ والمعاد. وهو المسمَّى بِ "عِلم الكلام"، إما لأنَّ مسألة الكلام أول مسألة دارت فيه أو أصعب أو غير ذلك مما قُرر في موضعه.
وقد اختُلف في التقليد فيه على أقوال:
أحدها: وبه قال الجمهور: الامتناع؛ للإجماع على وجوب المعرفة، ولقوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، فأمر بالعلم بالوحدانية، والتقليد لا يفيد العلم؛ ولهذا ذم التقليد بقوله تعالى في الإنكار عليهم قولهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وحث على السؤال بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
الثاني: الجواز. وبه قال [عبيد]
(1)
الله بن الحسين [والعَنْبَرِي]
(2)
وغيرهما، ويُعزى للحشوية؛ لإجماع السلف على قبول الشهادتين مِن غير أن يقال لقائلهما: هل نَظَرت؟
الثالث: أنه يجب التقليد، وقالوا: إن النظر فيه حرام، إما لأنَّ المطلوب فيه العِلم وهُم لا يرون أن النظر يفيد العلم، وإما لأنَّ النظر قد يُورث شُبهة، فيكون ذلك سببًا للضلال على الرأيين المشهورين.
وربما تُوُهِّم أن المنع من النظر فيه مذهب الشافعي وغيره من السلف؛ لِنَهْيهم عن علم الكلام والاشتغال به. لكنه محمول على مِن خِيفَ أنْ يَزِلَّ فيه حيث لا يكون له قدم صِدق في مسالك التحقيق؛ فيقع في شك أو ريبة، أما مَن له قوة وقدم صدق فلا؛ ولهذا قطع أصحابه بأنه من فروض الكفايات، وكيف يمنع منه وهو الموصل إلى معرفة الله عز وجل وصفاته العليَّة ومعرفة الرسل والفرق بين الصادق والمُتَنبِّئ؟ !
وقد بسط الحليمي الكلام على وجوب تعلُّمه؛ إعدادًا لأعداء الله تعالى ومناظرتهم ودحض شُبههم الباطلة، حتى قيل: إنه من فروض الأعيان. وحتى قيل: إن الأشعري قال: لا يصح إيمان المقلِّد، وإنه يقول بتكفير العوام. لكن أنكره الأستاذ ابن القشيري على مَن حكاه عنه، وقال: إنه كذب وزور من تلبيسات الكرامية على العوام؛ إذْ يقولون: "الإيمان الإقرار"، والأشعري يقول:" التصديق "، والعوام يصدقون الله تعالى في أخباره.
قال الأستاذ أبو منصور: أجمع أصحابنا على أن العوام مؤمنون عارفون بالله وأنهم حشو الجنة؛ للأخبار والإجماع فيه؛ لأنَّ فِطرهم جُبِلت على توحيد الصانع وقدَمه وحدوث الموجودات وإنْ عجزوا عن التعبير عنه على اصطلاح المتكلمين، والعِلم بالعبارة عِلم زائد
(1)
في (ق، ص): عبد.
(2)
كذا في جميع النُّسخ، وأظن الصواب:(العنبري) بدون الواو؛ فالعنبري هو عبيد الله بن الحسين.
لا يَلْزَمهم.
وكذا نقل إلْكِيَا في تعليقه إجماع الأصحاب على أنهم مؤمنون، وإنما الخلاف في أنهم عارفون بالأدلة، قَصُرت عباراتهم عن أدائها؟ أو غير عارفين بها؛ لأنَّ الله تعالى لم يوجب عليهم إلا هذا القَدْر؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع العِلم بقصورهم عن معرفة النظر والأدلة، ففي مسلم عن معاوية بن الحكم في الأَمة السوداء التي أراد عتقها وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"ائتني بها". فجاءت، فقال:"أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "مَن أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعْتِقها؛ فإنها مؤمنة"
(1)
. فهذا دليل على الاكتفاء بالشهادتين في صحة الإيمان وإنْ لم يكن عن نظر واستدلال.
قال النووي: (هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أنْ أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"
(2)
، ولم يَقُل: حتى يستدلوا أو ينظروا.
وكذلك قال الشيخ عز الدين في "قواعده" وقد ذكر ما يجب من معرفة الله: (اعتقاد ذلك واجب في حق العامة وهو قائم مقام العِلم في حق الخاصة؛ لِمَا في تكليفهم ذلك مِن المشقة الظاهرة العام)
(3)
.
وقال صاحب "الصحائف": (مَن اعتقد أركان الدين تقليدًا فإنِ اعتقد مع ذلك جواز شبهة فهو كافر، ومَن لم يعتقد ذلك فاختلفوا فيه:
فقيل: مؤمن وإنْ كان عاصيًا بترك النظر والاستدلال المؤدِّي إلى معرفة أدلة قواعد
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 201).
الدين، وهو مذهب الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وكثير من المتكلمين.
وقيل: لا يستحق اسم المؤمن إلا بعد عرفان الأدلة، وهو مذهب الأشعري). انتهى
وقال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (والتحقيق أن التقليد إنْ كان أَخْذا لقول الغير بغير حُجة مع احتمال شك أو وَهْم فلا يكفي، وإن كان جزمًا فيكفي، خلافا لأبي هاشم)
(1)
. انتهى
وهو تحقيق المناط مِن الخلاف وجمع بين الأقوال السابقة.
وذلك لأنَّ التقليد كما سبق نوعان:
- نوع فيه جزم، وهو ما سبق في تقسيم العلم.
- ونوع لا يشترط فيه جزم، بل أَعَم، وهو المذكور هنا، وهو أعم مِن الذي قَبْله كما سبق.
نعم، أبو هاشم -من المعتزلة- يخالف فيه وإنْ كان فيه جزم، وعنده أنَّ مَن لا يَعرف الله بالدليل فهو كافر.
فإنْ قيل: كيف يحصل الجزم -على قول الجمهور- مع عدم معرفة الدليل.
قيل: قد يقع ذلك لمقدمات ضرورية على تَألُّف صحيح أَوْجَبت العِلم بالنتيجة وإن لم يكن مستحضِرًا لكل مقدمة على الوجه المقرَّر في موضعه.
وعلى هذا يتضح كَوْن الصحابة لم يُنقل عنهم اعتناء بهذه القوانين مع الاتفاق على أنهم أقوى الخَلْق بعد النبيين إيمانًا.
وبالجملة فالمسألة طويلة الذيل، وفيما ذكرناه كفاية.
(1)
جمع الجوامع (ص 124).
وقولي: (وَمَا تَكَرَّرْ) إلى آخِره - إشارة إلى مسألتين مُفرَّعتين على ما سبق:
إحداهما أن الأهْل إذا كان ممنوعًا من التقليد فاجتهد ثم تَكررت الواقعة، فهل يعمل باجتهاده الأول؟ أو يجب عليه تجديد الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يُجدد، أَشْبَه اتِّباعه اجتهاده الأول التقليد وهو ممنوع منه؟
وللمسألة أحوال؛ لأنه إما أن يتجدد له ما يقتضي رجوعه عن ما ظهر له بالاجتهاد الأول أو لا. وكُل منهما إما مع كونه ذاكِرًا لدليل ذلك الماضي أو لا.
فالأول من الأربعة: أنْ يتجدد له ما يقتضي الرجوع ولكنه ذاكِر لدليل الأول، فإنْ كان راجحًا على ما يقتضي الرجوع عَمل بالأول ولا يُعيد الاجتهاد، وإلَّا أعاد.
ثانيها: أن لا يكون ذاكرًا لدليل الأول، فيجب أنْ يُعيد الاجتهاد قطعًا عند أصحابنا؛ لأنه لا ثقة ببقاء الظن وإنْ كان الأصوليون حَكوا فيه قولًا بالمنع؛ بناءً على أن الظن السابق قوي؛ فيُعمل به؛ لأنَّ الأصل عدم رجحان غَيْره عليه.
ثالثها: أن لا يتجدد له ما يقتضي رجوعه وهو ذاكِر للدليل الأول، فلا يَلزمه أنْ يُعيد الاجتهاد قَطعًا.
رابعها: أن لا يتجدد ما يقتضي الرجوع ولا هو ذاكر للدليل الأول، فهذا يَلزمه أنْ يعيد الاجتهاد ثانيًا. فإنْ وافق مقتضاه الأول فظاهر، وإنْ خالفه، عمل بالثاني.
وكُل ذلك خارج مِن النَّظم.
أما المسألة الأُولى فمِن قولي: (وَمُقْتَضِي الرُّجْحَانِ لِلْمَاضِي فُقِدْ)، فإنها جملة حالية قَيْد، [فإنَّ]
(1)
مع الرجحان لا إعادة، ومع عدمه يُعيد.
(1)
في (ق): ثان.
وأما الثانية فمِن ذلك أيضًا، لأنه إذا وُجِد المقتضِي للرجوع وليس ذاكِرًا للدليل، فلا يعرف رجحانه.
وأما الثالثة فلأنه إذا لم يتجدد ما يقتضي الرجوع فلم يفقد رجحان الأول.
وأما الرابعة فمِن مفهوم كون المقتضِي للرجحان مفقودًا، فيجب عليه إعادة الاجتهاد.
المسألة الثانية:
أن السائل المستفتي إذا أفتاه المفتي بحكم ثم تجددت له الواقعة وقلنا: إنَّ المجتهد يُعيد اجتهاده، يجب على السائل أْن يعيد السؤال، لأنه قد يتغير نَظر المفتي.
هذا أصح الوجهين عند أصحابنا، وقطع به القاضي أَبو الطيب في "تعليقه".
لكن محل الخلاف إذا عرف المستفتي أنَّ جواب المفتي مستنِد إلى الرأي - كالقياس - أو شَكَّ في ذلك والفَرْض أن المقلَّد حَي، فإنْ عرف استناد الجواب إلى نَص أو إجماع فلا حاجة إلى إعادة السؤال ثانيًا قَطْعًا كما ذكره الرافعي، قال:(وكذا لو كان المقلَّد مَيتا وجَوَّزْنا تقليد الميت)
(1)
. أي: فلا يعيد السؤال فيه أيضًا قطعًا.
ونظير المسألة إذا عُدل الشاهد ثم شهد في واقعة أخرى، قال أصحابنا: إنْ لم يَطُل الزمان، حُكِم بشهادته ولا يُطْلَب تعديله. وإنْ طال فوجهان، أصحهما: يُطلب تعديله؛ لأنَّ طول الزمان يُغَيِّر الأحوال.
وإلى أصل هذه المسألة أشرتُ بقولي: (فَسَائِلٌ أُفْتِيَ)، فعطفته بِـ "الفاء" إشارة إلى أنَّها مُرَتَبة على ما قبلها.
وبقولي: ([لَا مِنْ] مُجْمَعِ) أي: لا إذا كان المفتي أفتاه مِن حيث كَوْن الحكم مجمعًا عليه
(1)
العزيز شرح الوجيز (12/ 425).
أو مأخوذًا مِن نَص أو مأخوذًا مِن مَيت، فإنَّ السائل حينئذٍ لا يعيد، وإنَّما يعيد في غير الثلاثة ما [راعى]
(1)
مِن السؤال الذي كان سأله أولًا حتَّى أُفْتِي بذلك. والله أعلم.
ص:
1019 -
وَجَائِرٌ تَقْلِيدُ مَفْضُولٍ إذًا
…
لَمْ يَعْتَقِدْهُ هَكَذَا، فَلْيَنْبِذَا
الشرح:
أي: إذا جَوَّزنا التقليد للعامي فكان المجتهدون متعددين، جاز له أن يقلد مَن شاء إذا استووا. فإنْ كان بعضهم أفضل فهل يجوز تقليد المفضول؛ فيه أقوال:
الأرجح عند ابن الحاجب: نعم؛ للقطع بأنَّ المفضول كان يفتي مع وجود الفاضل مع الاشتهار والتكرار ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعًا على جواز استفتائه مع القدرة على الفاضل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"
(2)
، وفيهم الأفضل مِن غَيره.
وأيضا: فالعامي لا يمكنه الترجيح؛ لقصوره، ولو كُلِّف بذلك لَكان تكليفًا بضرب مِن الاجتهاد. لكن زَيَّف هذا ابن الحاجب بأنَّ ذلك يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه وغيره، ككثرة المستفتين وتقديم العلماء له ونحو ذلك.
الثاني: وبه قال أحمد وابن سريج: أن الفاضل مُتَعَيِّن. واختاره القاضي أَبو حامد المَرُّوذِي والقاضي الحسين وابن السمعاني.
والثالث: يجوز لمن يعتقده فاضلًا أو مساويًا. وهذا أرجح، وهو المختار، فلذلك جريتُ عليه في النَّظم حيث قلت:(إذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ هَكَذَا)، أي: لم يعتقده مفضولًا، وتحته أمران،
(1)
كذا في (س، ت)، وفي سائر النسخ: رعى.
(2)
سبق تخريجه.
وَوَجْهُه أنَّه إذا اعتقده مفضولا فقوله عنده مرجوح، وليس مِن القواعد أنْ يُعْدَل عن الراجح إلى المرجوح.
نعم، إذا لم يعتقده مرجوحًا واعتقده راجحًا، ففي الرافعي نقلًا عن الغزالي أنَّه لا يجوز تقليد غيره.
وإنْ قلنا: لا يجب البحث عن الأَعْلَم إذا لم يعتقد أحدهم بزيادة عِلم.
قال النووي رحمه الله: (وهذا وإنْ كان ظاهرًا ففيه نَظر؛ لِمَا ذكرناه مِن سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم)
(1)
.
فرع:
إذا رَجُح أحدهم مِن حيث العِلم والآخَر مِن حيث الورع، فالمقدَّم الراجح عِلمًا؛ لأنه لا تَعَلُّق لمسائل الاجتهاد بالورع؛ ولهذا يُقَدَّم في الإمامة في الصلاة؛ ولأنَّ الظن الحاصل بِقَوْله أكثر.
وقيل: يُقَدَّم الأورع.
قيل: ويحتمل التساوي، فيتخير المقلد.
والله أعلم.
ص:
1020 -
وَجَوَّزُوا التَّقْلِيدَ لِلْمَيْتِ وَمَنْ
…
قَدْ عُرِفَتْ أَهْلِيَّةٌ لَهُ إذَنْ
الشرح" [اشتمل البيت على مسألتين:
(1)
روضة الطالبين (11/ 104).
الأُولى:
تقليد الميت، وهو في النَّظْم]
(1)
"الميْت" بسكون الياء؛ تخفيفًا. واختُلف في المحذوف من المدغم في مثل ذلك أهو الأول؟ أو الثاني؟ فأكثر أهل اللغة على الثاني. هذا في "الميت" بمعنى الذي خرجت روحه. أما "الميت" المراد به المطلق على مَن قارب الموت أو نحو ذلك فلا يُقال إلَّا بالتشديد على الأرجح.
وقيل: مخُفف أيضًا.
وحاصل ما في تقليد الميت مذاهب:
أحدها: يجوز تقليده مطلقًا. وبه قال الجمهور، وفيه يقول الشَّافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها.
لا يجوز تقليد الميت مطلقًا. وعزاه الغزالي في "المنخول" لإجماع الأصوليين، واختاره الإمام الرازي، بل مَن يتأمل كلام "المحصول" يخرج له منه أن الإمام يمنع التقليد مطلقًا.
الثالث: التفصيل بين أن يكون ثَمَّ حَي مجتهِد أوْ لا، فيجوز تقليد الميت في الثاني دُون الأول. لكن إذا قُلنا: يُقَلَّد الميت مطلقًا وكان الحي المجتهِد دُون الميت فيحتمل أنْ يقلد الميت؛ لأرجحيته، ويحتمل أنْ يقلد الحي؛ لحياته. ويحتمل - وهو الأظهر - الاستواء؛ لِتَعارض المرجحَيْن.
الرِّابع: حكاه الهندي: التفصيل بين أن يكون الحاكي عن الميت أَهلًا للمناظرة وهو مجتهِد في مذهب الميت فيجوز، أوْ لا فلا.
(1)
كذا في (من)، وليس في (ض، ص، س، ت)، لكن في (ق) هكذا: مسألتين الأولى اشتمل البيت على تقليد الميت وهو في النظم.
فإنْ كان ذلك لتحقيق مذهب الميت وعدم تحقيقه فليس محل النزاع إلَّا فيما ثبت أنَّه مذهب الميت بالطريق الصحيح.
الثانية:
مَن عُرِفَت أهليته، جاز تقليده واستفتاؤه؛ ليعمل بفتواه.
ومعرفة أهليته إما بأنْ يكون قد شاع ذلك وذاع مِن غير نكير، وإمَّا بأنْ يَغْلب على الظن أهليته باشتهاره بذلك أو برؤيته منتصبًا للفتوى والناس مُسْتَفْتون مُعَظِّمون له.
فإذا لم يَعرف المستفتي أهلية مَن يستفتيه ولا حاله في العدالة فالمختار أنَّه لا يجوز له استفتاؤه، بل ينبغي أنْ يُقْطَع فيه بالمنع، فقد قال الهندي: إنَّ الخلاف فيه في غاية البُعد؛ لأنَّ العلماء وإنِ اختلفوا في قبول رواية المجهول وشهادته فلوجود ما يقتضي امتناع فِسْقه ظاهرًا وهو الإسلام الوازع عن الفِسْق والمعاصي، وأما مجهول الحال في الفتوى فليس فيه ما يقتضي حصول العِلم ظاهرًا، لاسيما العِلم المُنتهِي به إلى رُتبة الإفتاء.
وأيضًا: فالأصل العامِّيَّة، والعالِمِيَّة على خِلاف الأصل.
وأيضًا: فالأغلب العوام، والعلماء قليل.
وإنَّما يظهر ذلك لو وقع التردد في عدالته فقط، فيتجه حينئذ الخلاف.
قلتُ: ولهذا أوجبوا على المستفتي والمقلِّد البحث عن عِلمه بسؤال الناس.
وقيل: يكتفي بالاستفاضة بين الناس. وهو الراجح في "الروضة"، ونقله عن الأصحاب.
وأما "العدالة" ففيها احتمالان للغزالي، أَشْبَههما الاكتفاء بظاهر الحال؛ لأنَّ الغالب من حال العلماء العدالة.
قال النووي رحمه الله: (وهذان الاحتمالان وجهان ذكرهما غيره، وهُما في "المستور"، وهو الذي
ظاهِرُه العدالة ولم يُخْتبر باطِنُه)
(1)
.
ثم فَرَّع الغزالي على وجوب الاختبار احتمالين في أنَّه يفتقر إلى [عدم]
(2)
التواتر؟ أو يكفي إخبار عدل أو عدلين؟ أصحهما الثاني.
قال النووي رحمه الله رحمه الله: (والمنقول خِلافهما، فالذي قاله الأصحاب الاكتفاء باستفاضة أهليته، وقيل: لا تكفي لا الاستفاضة ولا التواتر، بل إنما يُعتمد قوله أنَّه أَهْلٌ للفتوى؛ لأنَّ الاستفاضة قد يقع فيها تلبيس، والتواتر لا بُدَّ أنْ يستند إلى محسوس. وقال الشيخ أَبو [إسحاق]
(3)
: يقبل في معرفة أهليته عدل واحد).
قال النووي رحمه الله رحمه الله: (وهذا محمول على مَن عنده معرفة يتميز بها الملتبس من غيره. ولا يُقبل في ذلك خبر آحاد العامة؛ لكثرة ما يتطرق إليه مِن التلبيس في ذلك)
(4)
.
وقولي: (إذَنْ) أي: مَن عُرفت أهليته، يجوز تقليده حينئذٍ.
فرعان:
الأول: للعامي سؤال المفتي عن مَأْخَذه استرشادًا وَيلزم العالم حينئذٍ أنْ يذكر له الدليل إنْ كان مقطوعًا به، لا الظني؛ لافتقاره إلى ما يَقْصُر فَهْم العامي عنه.
من كان أهلًا للفتوى وهو قاضٍ فهو كغيره في جواز إفتائه واستفتائه (على الصحيح).
(1)
روضة الطالبين (11/ 103).
(2)
كذا في جميع النُّسخ، والصواب: عَدَد. كما في تشنيف المسامع (4/ 613)، البحر المحيط (4/ 589)، روضة الطالبين (11/ 103).
(3)
كذا في (ق، من)، لكن في سائر النسخ: الحسن.
(4)
روضة الطالبين (11/ 104).
وقيل: إنما يفتي في العبادات ونحوها مما لا يتعلق بالأحكام، وأما الأحكام ففيها وجهان.
وقال ابن المنذر: يُكره فتواه في الأحكام، دُون غيرها. والله أعلم.
ص:
1021 -
وَجَائِزٌ إِفْتَاءُ قَادِرٍ عَلَى
…
تَفْرِيعِ فِقْهٍ مَعَ تَرْجِيحٍ عَلَا
1022 -
مِنْ مَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي اطَّلَعْ
…
عَلَى مَآخِذٍ لَهُ فِيمَا صَنَعْ
103 -
مُعْتَقِدًا، وَجَائِز أَنْ يُخْلَى
…
وَقْتٌ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ أَصْلَا
الشرح:
أي: وكما يجوز إفتاء المجتهد يجوز أن يفتي بمذهب المجتهد مَن عَرف مذهبه وقام بتفريع الفقه على أصوله وقَدر على الترجيح في مذهب ذلك المجتهد، فإنه يصير حينئذ كإفتاء المجتهد بنفسه؛ فلذلك كانت هذه المسألة كالتفريع على ما سبق. فالمجتهد [المقدَّم]
(1)
في مذهب إمامه - وهو مَن استقل بتقرير مذهبه وَيعرف مَآخِذه مِن أدلته التفصيلية بحيث لو انفرد لَقَرَّرَه كذلك - فهذا يُفتي بذلك؛ لِعِلمه بالمآخِذ. وهؤلاء أصحاب الوجوه.
ودُونهم في المرتبة أن يكون فقيه النفْس، حافظًا للمذهب، قادرًا على التفريع والترجيح. فهل له الإفتاء بذلك؟ فيه أقوال، أصحها: يجوز، والثاني: المنع، والثالث: عند عدم المجتهد.
ودُونهم مَن يحفظ وليس قادرًا على التفريع والترجيح، فقيل: يجوز له الإفتاء؛ لأنه ناقِل. وينبغي أن يكون هذا راجحًا؛ لمحل الضرورة، لاسيما في هذه الأزمان.
(1)
في (ت، س): المتقدم.
ودُونهم في المرتبة العامي إذا عَرف حُكم حادثة بدليلٍ، فهذا ليس له الفتيا به.
وقيل: يجوز.
وقيل: إنْ كان نقليًّا جاز، وإلَّا فلا.
وقيل: إنْ كان دليلها مِن الكتاب أو مِن السُّنة، جاز، وإلَّا فلا.
قولي: (وَجَائِزٌ أَنْ يُخْلَى) إلى آخِره هو بضم أول "يُخلى" مَبنيًّا للمفعول، و"وَقْتٌ" نائب الفاعل.
ووَجْه ارتباطه بما قَبْله أن رُتبة الفتوى إذا كانت في الأصل للمجتهد إما مطلقًا أو في مذهب، فكيف جاز إفتاء غيره ممن ذكرتم؟
فيقال: لأنه يجوز خلُو الزمان عن المجتهد، فلو لَمْ يُفْتِ مَن ذَكَرْنا، لَزِمَ تعطيل الأحكام.
والحاصل أن المختار عند الأكثرين أنَّه يجوز خلُو عصر مِن الأعصار عن المجتهد المطلق والمجتهد المذهبي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا يقبض العِلم انتزاعًا"
(1)
الحديث. والمخالف في ذلك بعض الحنابلة زعموا أنَّه لا يخلو زمان من المجتهد ولو مُقيَّدًا بمذهب؛ لحديث: "لا تزال طائفة مِن أمتي ظاهرين على الحقِّ حتَّى يأتي أَمْر الله"
(2)
.
وأجيب: بأنه لا يدل على نَفْي الجواز، بل إنما يدل على نَفْي الوقوع.
قيل: وقد اختار الشيخ تقى الدين ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" مذهب الحنابلة،
(1)
صحيح البخاري (رقم: 100)، صحيح مسلم (رقم: 2673).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 6881) بلفظ: (لَا تزال طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله)، صحيح مسلم (رقم: 1920) بلفظ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُم حتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله).
وكذا في أول"شرح الإلمام"، بل أشار إلى ذلك أيضًا إمام الحرمين في "باب الإجماع"[من]
(1)
"البرهان"، وكذا ابن برهان في "الأوسط".
لكن كلامهم يحتمل الحمْل على عمارة الوجود بالعلماء، لا على خصوص المجتهدين. والله أعلم.
ص:
1024 -
وَمَنْ مِنَ الْعَوَامِ كَانَ عَمِلَا
…
بِمَا لَهُ مُجْتَهِدٌ قَدْ حَصَّلَا
1025 -
لَيْسَ لَهُ عَنْهُ رُجُوعٌ، وَيَجِبْ
…
لِلْعَاجِزِ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ نُصِبْ
1526 -
مُعَيَّنًا يَعْتَقِدُ الرُّجْحَانَا
…
فِيهِ، كَذَا مُسَاوِيًا إنْ كَانَا
الشرح:
لَمَّا انتهى الكلام في الدخول في تقليد العاجز مجتهدًا، شرعتُ في أحكام الخروج عن التقليد، وختمتُ بذلك مسائل الفصل الخاتم للأرجوزة، وذلك في مسائل:
إحداها:
إذا أجاب المجتهد مَن استفتاه مِن العوام في الحادثة بجواب، فإنْ عمل به المستفتي فليس له الرجوع عنه إلى فتوى غيره في تلك الحادثة بِعَيْنها بالإجماع. نقله ابن الحاجب والهندي وغيرهما.
وإنْ لم يَعمل به فقيل: يَلْزَمه أنْ يعمل؛ لأنه في حَقه كالدليل بالنسبة إلى المجتهد.
وقيل: لا يَلزمه إلَّا بالتزامه. قاله ابن السمعاني.
(1)
في (ص، س، ت، ض): في.
قال: (ويجوز أنْ يقال: يَلْزَمه إذا أَخَذ في العمل به. وقيل: يَلزمه إذا وقع في نفسه صحته وحقيقته).
قال: (وهذا أَوْلَى الأَوْجُه)
(1)
.
قال ابن الصلاح: (ولم أجد هذا لغيره، وقد حكى هو بَعْد ذلك عن بعض الأصوليين أنَّه إذا أفتاه بما هو مختلَف فيه، خَيَّره بين أنْ يَقبل منه أو مِن غَيْره).
قال ابن الصلاح: (والذي تقتضيه القواعد أنَّه إنْ لم يجد سواه، تَعَيَّن عليه الأخذ بِفُتياه، ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى صحته. وإنْ وَجَدَ: فإنْ استبان أنَّ الذي أفتاه هو الأَعْلَم الأَوثَق، لَزِمَه؛ بِناءً على تقليد الأفضل. وإنْ لَمْ يَسْتَبِن، لَمْ يَلْزَمه)
(2)
.
وقال النووي رحمه الله في "الروضة": (المختار ما نقله الخطيب وغيره: إنْ لم يكن هناك مُفتٍ آخَر، لَزِمَه بمجرد فتواه وإنْ لم تَسْكُن نفسه. وإنْ كان هناك آخَر، لَمْ يَلْزَمه بمجرد إفتائه؛ إذْ له أن يسأل غيره، وحينئذٍ فقد يخالفه، فيجيء فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتيين)
(3)
.
وقد ذكرت في النَّظم مسألة "إذا عمل"، وفُهِم منه أنَّه إذا لم يَعمل، لا يَلْزمه التقيد بما أفتاه به إنْ كان هناك آخَر، بل يتخير. وهو ما نقلناه أنَّه المختار كما قاله النووي رحمه الله.
فأما إنْ لم يكن غيره، فَيَتَعَيَّن؛ لِمَا سبق مِن أنَّ العامي يَتَعَيَّن عليه التقليد والاستفتاء. فَاعْلَمه.
(1)
قواطع الأدلة (2/ 358).
(2)
فتاوى ابن الصلاح (1/ 90). الناشر: مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب - بيروت، ط: الأولى - 1407 هـ، المحقق: د. موفق عبد الله.
(3)
روضة الطالبين (11/ 118).
المسألة الثانية:
يجوز أنْ يقلد غيره في حادثة أخرى، ولا يتعين عليه إذا أفتاه فأخذ بقوله في مسألة أنْ يأخذ بِقَوله في كل شيء. هذا هو المختار في "مختصر ابن الحاجب" وغيره.
وقيل: ليس له أنْ يقلد غيره في غير ذلك أيضًا.
وقيل: يجوز في عصر الصحابة والتابعين، ولا يجوز في عصر غيرهم مِن الأعصار التي تَقررت فيها المذاهب.
الثالثة:
هل يجب على العامي العاجز عن الاجتهاد أن ينتحل مذهبًا معيَّنًا من المذاهب التي قد تَقررت، لا يخرج عنه في سائر الأحكام، بل يكون مقلدًا لذلك الإمام دائمًا؟
فيه وجهان، حكاهما ابن برهان:
أحدهما: لا. فَعَلَى هذا: هل له تقليد مَن شاء؟ أو يبحث عن أشد المذاهب؟ فيه وجهان كالبحث عن الأهلية.
الثاني: وبه قطع إلْكِيَا أنَّه يجب عليه. فَعَلَى هذا يَلزمه أنْ يختار مذهبًا يقلده في كل شيء، وليس له التمذهب بمجرد التشهي.
قال النووي رحمه الله: (هذا كلام الأصحاب، والذي يقتضيه الدليل أنَّه لا يَلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، لكن مِن غَيْر تَلَقُّط لِلرُّخَص، وَلَعَلَّ مَن منعه لَمْ يثق بعدم تَلَقُّطه)
(1)
.
وقال الهندي: (يجري في هذه المسألة الخلاف السابق في التي قبلها بالترتيب. فإنْ قُلنا: لا
(1)
روضة الطالبين (11/ 117).
يجب تقليده، فلا يجب هنا التزام تقليده مِن باب أَوْلى. وإنْ قُلنا هناك: يجب، فَهُنا وجهان)
(1)
.
نعم، ينبغي للمقلد أنْ يسعى في اعتقاد أنَّه أَرْجح مِن حيث [الجملة]
(2)
وإنْ لم يجب عليه البحث، وهذا معنى قولي:(يَعْتَقِدُ الرُّجْحَانَا فِيهِ، كَذَا مُسَاويًا) أي: كذا إذا اعتقده مساويًا، فَعُلِم مِن ذلك أنَّه إذا اعتقده مرجوحًا، لا يَلْزَمه تقليده دائمًا، وأما في بعض المسائل فقد سبق في مسألة استفتاء المفضول مع وجود الفاضل.
تنبيه:
العامي إذا أفتاه المفتي في حادثة بِحُكم، هل يسمَّى مقلِّدًا؟ أوْ لا؟
ذهب معظم الأصوليين إلى أنَّه مقلِّد؛ لانطباق تعريف "التقليد" عليه.
وذهب القاضي في "مختصر التقريب" إلى أن المختار أنَّه ليس بتقليد أصلًا، فإنَّ قول العالم حُجة في حق المستفتي، نَصبَه الربُّ عَلَمًا في حق العامِّي وأَوجَب عليه العمل به كما أَوْجَب على المجتهد العمل باجتهاده؛ وخرج مِن هذا أنَّه لا يُتصوَّر تقليد مباح لا في الأصول ولا في الفروع.
ثم قال القاضي: (إنه لو جاز تسمية هذا "تقليدًا" لَجاز أنْ يُسمَّى التمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل "تقليدًا").
قلتُ: وقد سبق الخلاف في ذلك، والله أعلم.
(1)
نهاية الوصول (8/ 3920).
(2)
في (ق): الحكم.
ص:
1027 -
وَلَيْسَ جَائِزًا تَتبُّعُ الرُّخَصْ
…
فَإنَّهُ كَلَعِبٍ؛ إذْ لَمْ يُخَصْ
الشرح:
هذا كالتفريع على ما قَبله، يجوز أنْ يخرج عنه إذَا لم يكن في خروجه تَتبعُ لِرُخَص المذاهب.
أما جواز خروجه فهو الأصح في الرافعي، لكن بناء على أنَّه لا يجب عليه التزام مذهب مُعَيَّن. وقد سبق أن النووي رحمه الله قال:(إنه مقتضَى الدليل وإنْ كان على خِلاف كلام الأصحاب).
وقيل: لا يجوز الخروج؛ لأنه لَمَّا التزمه صار لازمًا كما لو التزمه في جزئية.
وقيل: إنه كالعامِّي يعمل في كل مسألةٍ بِقَول [إمامٍ]
(1)
. فكل مسألةٍ عمل فيها بقول إمامٍ ليس له تقليد غيره فيها، بخلاف ما لم يعمل فيها.
وأما تَتَبُّعُّ الرخص فممتنع على كلِّ حالٍ، وهو أن يختار مِن كل مذهب أَهْوَنه عليه.
ونُقِل عن أبي إسحاق المروزي جوازه. لكن الذي في "فتاوى الحناطي" عنه أنَّه قال: مَن تَتبَع الرُّخَص، فسق. وأنَّ ابن أبي هريرة قال: لا يفسق.
وكذا حكاه الرافعي عنه في "كتاب القضاء".
قال الشيخ نجم الدين البالسي: تفسيقه مع القول بأنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب مُشْكل. فإنْ قُلنا: "المصيب واحد" ففيه نَظَر من حيث إنَّ اختياره للأَهْوَن يُشْعِر بانحلال وتَساهُل، لكنه
(1)
في (ت، س): إمامه.
مُعارَض بأنَّ العدالة ثابتة، فأَخْذه بالأَهْوَن يحتمل أنْ يكون للتساهل ولخِلافِه، والتفسيق مع الشك ممنوع.
قيلْ طرف التساهل أَرْجَح، وخِلافُه بعيد؛ لأنَّ التتبُّع يُشْعِر إشعارًا بيِّنًا بالتساهل.
[فائدة]
(1)
:
قال بعض [المحتاطين]
(2)
: مَن بُلي بوسواس أو شَكّ أو قنوط أو يأس فالأَوْلَى أَخْذه بالأَخَف والترخُّص؛ لئلَّا يزداد ما به؛ فيخرج عن الشرع. ومَن كان قليل الدِّين كثير التساهل، أَخَذ بالأَثقل والعزيمة؛ لئلَّا [يزداد]
(3)
ما به؛ فيخرج إلى الإباحة. والله تعالى أعلم.
ص:
1028 -
تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ مَا نَظَمْتُهُ
…
أَرْجُو بِهِ النَّفْعَ كَمَا قَصَدْتُهُ
1029 -
تَاسِعَ عَشْرٍ حِجَّةٍ مِنْ سَنَةِ
…
ثَمَانِ عَشْرٍ وَثَمَانِمِائَةِ
1030 -
وَإنْ عَلَى الْأَلْفِ رَبَتْ قَلِيلَا
…
فَسَمِّهَا أَلْفِيَّةً تَقْلِيلَا
1031 -
فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى التَّمَامِ
…
مَعْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
1032 -
عَلَى النَّبِيْ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ
…
وَالتَّابِعِينَ مِنْ جَمِيعِ حِزْبِه
قال المؤلف رحمه الله: فرعٌ مِن تسويد هذا الشرح مؤلفه - فقير رحمة ربه - محمد بن عبد
(1)
من (ق).
(2)
في (من): المناظرين.
(3)
في (ق): يزاد.
الدائم البرماوي، ثالث عشر شعبان المكرم، سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.
قال: ثم فُرغ مِن تحريره وقراءته بمكة المشرفة في الخامس والعشرين من ذي القعدة، سنة تسع وعشرين وثمانمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلواته على محمد خير خلقه وآله وصحبه أجمعين
(1)
.
(1)
كتب ناسخ (ق) في آخِرها: (نجِز تمام هذا الجزء المبارك من "الفوائد السنية في شرح الألفية" في أصول الفقه من تأليف سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام وجلة العلماء الأعلام، أمتع الله تعالى بوجوده الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد البرماوي الشَّافعي النعيمي العسقلاني، أحسن الله تعالى إليه ورحمه. بلغه على يد الفقير إلى الله تعالى أقل عباد الله وأحوجهم إلى رحمته وعفوه وغفرانه محمد بن أيبك بن عبد الله الشهير بالعنبري، غفر الله له ولوالديه ولإخوته ولجميع المسلمين أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ووافق الفراغ من كتابته نهار الاثنين ثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام، سنة ثلاثين وثمانمائة، أحسن الله تعالى العاقبة، ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين).
وكتب ناسخ (ت): (كتبه أحمد بن محمد بن حسين - عفا الله عنه - عام 869).
وكتب ناسخ (من): (ثم نجِز كتابته ونقله على يد فقير عفو الله تعالى عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد قاسم السبتي شهرة المالكي مذهبًا الأشعري اعتقادًا القادري طريقةً الصفدي مولدًا ومنشأ في سادس عشر جمادى الآخرة عام خمس وتسعمائة هجرية على صاحبها من الله أفضل الصلاة والسلام وهو ثاني أمشير وسابع وعشرين يَنير وكانون الثاني .. والحمد للهِ وحده وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم.
الحمد لله قُوبِل على أصله المنقول منه مسودة المُصَنِّف على قَدْر الطاقة - على يد كاتب هذه الأحرف ابن محمد السبتي غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين، فَصَحَّ ووافق بتاريخ =
أحمد بن محمد بن حسين علي عفا الله عنه: 899.
= مستهل الحرام عام خمس وتسعمائة بمدينة صفد المحروسة والناس في وَجَلٍ وخوف مما حصل فيها من نائب الصالحي قصروة
…
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، حسبنا الله ونعم الوكيل).
وكتب ناسخ (ض): (ثم فرعٌ من كتابة هذا الجزء المبارك كاتبه يوسف بن حصر البحيري عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين .. وختم له وللمسلمين بخير، آمين، في سادس شهر رجب .. سنة ست وثمانين وثمانمائة، أحسن الله عاقبته في خير وعافية
…
اللهم صَلّ على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون، والحمد لله وحده).